فصل: سورة الممتحنة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


سورة الممتحنة

مدنية

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ‏}‏ الآية‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار، أخبرني الحسن بن محمد أنه سمع عبد الله بن أبي رافع يقول سمعت عليا رضي الله عنه يقول‏:‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال‏:‏ ‏"‏انطلقوا حتى تأتوا ‏(‏روضة خاخ‏)‏ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها‏"‏ قال‏:‏ فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة، فقلنا‏:‏ أخرجي الكتاب فقالت‏:‏ ما معي كتاب، فقلنا‏:‏ لتُخْرِجَنَّ الكتاب أو لتلقين الثياب، قال‏:‏ فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا حاطب ما هذا‏؟‏ قال‏:‏ يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرًأ ملصقًا في قريش - يقول كنت حليفًا ولم أكن من أنفسها - وكان مَنْ معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم فأحببت - إذ فاتني ذلك من النسب فيهم - أن أتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي ولم أفعله ارتدادًا عن ديني ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أما إنه قد صدقكم، فقال عمر‏:‏ يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال‏:‏ إنه قد شهد بدرًا وما يدريك لعل الله اطلع على ‏[‏من شهد بدرًا‏]‏ فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فأنزل الله تعالى هذه السورة‏:‏ ‏"‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تُلقون إليهم بالمودة‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏سواء السبيل‏"‏‏.‏

قال المفسرون‏:‏ نزلت الآية في حاطب بن أبي بلتعة كما جاء في الحديث، وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت المدينة من مكة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسلمة جئت‏؟‏ قالت‏:‏ لا قال أمهاجرة جئت‏؟‏ قالت‏:‏ لا قال‏:‏ فما جاء بك قالت‏:‏ كنتم الأصل والعشيرة والموالي وقد ذهبت مواليَّ وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني، فقال لها‏:‏ وأين أنت من شبان مكة‏؟‏ وكانت مغنية نائحة، قالت‏:‏ ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب فأعطوها نفقة وكسوها وحملوها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى، فكتب معها إلى أهل مكة، وأعطاها عشرة دنانير، وكساها بُرْدًا على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة، وكتب في الكتاب‏:‏ من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم، فخذوا حِذْركم‏.‏

فخرجت سارة، ونزل جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا وعمارًا والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مرثد فرسانًا فقال لهم‏:‏ انطلقوا حتى تأتوا ‏"‏روضة خاخ‏"‏ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فخذوا منها وخلوا سبيلها وإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها‏.‏

قال‏:‏ فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لها‏:‏ أين الكتاب‏؟‏ فحلفت بالله ما معها كتاب، فبحثوها وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتابًا فهمُّوا بالرجوع، فقال علي رضي الله عنه‏:‏ والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلَّ سيفه فقال‏:‏ أخرجي الكتاب وإلا لأجردنك ولأضربن عنقك‏.‏ فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها وكانت قد خبأته في شعرها فخلوا سبيلها ولم يتعرضوا لها ولا لما معها فرجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حاطب، فأتاه فقال‏:‏ هل تعرف الكتاب‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فما حملك على ما صنعت‏؟‏ فقال‏:‏ يا رسول الله والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته، وكنت غريبًا فيهم، وكان أهلي بين ظهرانيهم، فخشيت على أهلي، فأردت أن أتخذ عندهم يدًا، وقد علمت، أن الله ينزل بهم بأسه، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذره‏.‏

فقام عمر بن الخطاب فقال‏:‏ دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم‏:‏ اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏؟‏ فأنزل الله عز وجل في شأن حاطب‏:‏ ‏"‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء‏"‏‏.‏

‏{‏تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ‏}‏ قيل‏:‏ أي المودة، ‏"‏والباء‏"‏ زائدة، كقوله‏:‏ ‏"‏ومن يرد فيه بإلحاد بظلم‏"‏ ‏[‏الحج - 25‏]‏ وقال الزّجَّاج‏:‏ معناه تلقون إليهم أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وسِرَّه بالمودة التي بينكم وبينهم ‏{‏وَقَدْ كَفَرُوا‏}‏‏"‏الواو‏"‏ للحال، أي‏:‏ وحالهم أنهم كفروا ‏{‏بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ‏}‏ يعني القرآن ‏{‏يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ‏}‏ من مكة ‏{‏أَنْ تُؤْمِنُوا‏}‏ أي لأن آمنتم، كأنه قال‏:‏ يفعلون ذلك لإيمانكم ‏{‏بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ‏}‏ هذا شرط جوابه متقدم وهو قوله‏:‏ ‏"‏لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق إن كنتم خرجتم‏"‏ ‏{‏جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ بالنصيحة ‏{‏وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ‏}‏ من المودة للكفار ‏{‏وَمَا أَعْلَنْتُمْ‏}‏ أظهرتم بألسنتكم ‏{‏وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ‏}‏ أخطأ طريق الهدى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏إِنْ يَثْقَفُوكُمْ‏}‏ يظفروا بكم ويروكم ‏{‏يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ‏}‏ بالضرب والقتل ‏{‏وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ‏}‏ بالشتم ‏{‏وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ‏}‏ كما كفروا‏.‏ يقول‏:‏ لا تناصحوهم فإنهم لا يناصحونكم ولا يوادُّونكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3 - 4‏]‏

‏{‏لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏3‏)‏ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ‏}‏ معناه‏:‏ لا يَدْعُوَنَّكم ولا يحملَّنكم ذوو أرحامكم وقراباتكم وأولادكم الذين بمكة إلى خيانة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وترك مناصحتهم وموالاة أعدائهم فلن تنفعكم أرحامكم ‏{‏وَلا أَوْلادُكُمْ‏}‏ الذين عصيتم الله لأجلهم ‏{‏يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ‏}‏ فيدخل أهل طاعته الجنة وأهل معصيته النار‏.‏ قرأ عاصم ويعقوب ‏{‏يَفْصِلُ‏}‏ بفتح الياء وكسر الصاد مخففًا، وقرأ حمزة والكسائي بضم الياء وكسر الصاد مشددًا، ‏[‏وقرأ ابن عامر بضم الياء وفتح الصاد مشددًا‏]‏ وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الصاد مخففًا‏.‏ ‏{‏وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ‏}‏ قدوة ‏{‏حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ‏}‏ من أهل الإيمان ‏{‏إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ‏}‏ من المشركين ‏{‏إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ‏}‏ جمع بريء ‏{‏وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ‏}‏ جحدنا وأنكرنا دينكم ‏{‏وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏}‏ يأمر حاطبًا والمؤمنين بالاقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، والذين معه من المؤمنين في التبرؤ من المشركين ‏{‏إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ‏}‏ يعني‏:‏ لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره إلا في استغفاره لأبيه المشرك، فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان قد قال لأبيه‏:‏ لأستغفرن لك، ثم تبرأ منه - على ما ذكرناه في سورة التوبة - ‏{‏وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ يقول إبراهيم لأبيه‏:‏ ما أغني عنك ولا أدفع عنك عذاب الله إن عصيتَه وأشركتَ به ‏{‏رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا‏}‏ يقوله إبراهيم ومن معه من المؤمنين ‏{‏وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5 - 8‏]‏

‏{‏رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏5‏)‏ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏6‏)‏ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏7‏)‏ لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ قال الزَّجَاج‏:‏ لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على الحق

فيفتنوا وقال مجاهد‏:‏ لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولون‏:‏ لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم ذلك ‏{‏وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ‏}‏ أي في إبراهيم ومن معه ‏{‏أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ‏}‏ هذا بدل من قوله ‏"‏لكم‏"‏ وبيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة ‏{‏وَمَنْ يَتَوَلَّ‏}‏ يُعْرِض عن الإيمان ويوال الكفار ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ‏}‏ عن خلقه ‏{‏الْحَمِيدُ‏}‏ إلى أوليائه وأهل طاعته‏.‏

قال مقاتل‏:‏ فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين وأظهروا لهم العداوة والبراءة‏.‏ ويعلم الله شدة وجد المؤمنين بذلك فأنزل الله ‏{‏عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ‏}‏ أي من كفار مكة ‏{‏مودة‏}‏ ففعل الله ذلك بأن أسلم كثير منهم، فصاروا لهم أولياء وإخوانًا، وخالطوهم وناكحوهم ‏{‏وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ثم رخص الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم فقال‏:‏ ‏{‏لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ‏}‏ ‏{‏لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ‏}‏ أي لا ينهاكم الله عن بر الذين لم يقاتلوكم ‏{‏وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ‏}‏ تعدلوا فيهم بالإحسان والبر ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت في خزاعة كانوا قد صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدًا، فرخص الله في برهم‏.‏

وقال عبد الله بن الزبير‏:‏ نزلت في أسماء بنت أبي بكر، وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العزى قدمت عليها المدينة بهدايا، ضِبابًا وأقطًا وسمنًا، وهي مشركة، فقالت أسماء‏:‏ لا أقبل منك هدية ولا تدخلي عليَّ بيتي حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخلها منزلها وتقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا قتيبة، حدثنا حاتم عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت‏:‏ قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدتهم مع أبيها فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول الله إن أمي قدمت عليَّ وهي راغبة أفأصلها‏؟‏ قال‏:‏ صليها‏.‏

وروي عن ابن عيينة قال‏:‏ فأنزل الله فيها ‏"‏لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين‏"‏‏.‏ ثم ذكر الذين نهاهم عن صلتهم فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9 - 10‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَاولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏9‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ اجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله عز وجل ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ‏}‏ الآية‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة يخبران عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ، كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه لا يأتيك منا أحد – وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا، وخليت بيننا وبينه‏.‏ فكره المؤمنون ذلك وأبي سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فرد النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحدٌ من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلمًا، وجاءت المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ مهاجرة وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن‏:‏ ‏"‏إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن‏"‏ إلى ‏"‏ولا هم يحلون لهن‏"‏

قال عروة فأخبرتني عائشة رضي الله تعالى عنها‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحنهن بهذه الآية‏:‏ ‏"‏يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏غفور رحيم‏"‏‏.‏

قال عروة‏:‏ قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ فمن أقرت بهذا الشرط منهن قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بايعتك كلامًا يكلمها به، والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ما بايعهن إلا بقوله‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرًا حتى إذا كان بالحديبية صالحه مشركو مكة على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ومن أتى أهل مكة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردوه إليه، وكتبوا بذلك كتابًا وختموا عليه، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مُسْلِمةً بعد الفراغ من الكتاب، فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم - وقال مقاتل هو‏:‏ صيفي بن الراهب - في طلبها، وكان كافرًا، فقال‏:‏ يا محمد ردَّ علي امرأتي فإنك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طية الكتاب لم تجف بعد، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏"‏يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات‏"‏ من دار الكفر إلى دار الإسلام ‏{‏فَامْتَحِنُوهُنَّ‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ امتحانها‏:‏ أن تستحلف ما خرجت لبغض زوجها ولا عشقًا لرجل من المسلمين، ولا رغبة عن أرض إلى أرض، ولا لحدثٍ أحدثته ولا لالتماس دنيا وما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحبًا لله ولرسوله‏.‏

قال فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك فحلفت فلم يردَّها، وأعطى زوجها مهرها وما أنفق عليها؛ فتزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان يرد من جاءه من الرجال ويحبس من جاءه من النساء بعد الامتحان ويعطي أزواجهن مهورهن‏.‏

‏{‏اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ‏}‏ ‏[‏أي هذا الامتحان لكم، والله أعلم بهنَّ‏]‏ ‏{‏فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ‏}‏ ما أحل الله مؤمنة لكافر ‏{‏وَآتُوهُمْ‏}‏ يعني أزواجهن الكفار ‏{‏مَا أَنْفَقُوا‏}‏ عليهن يعني المهر الذي دفعوا إليهن ‏{‏وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏ أي مهورهن، أباح الله نكاحهن للمسلمين، وإن كان لهن أزواج في دار الكفر لأن الإسلام فرق بينهن وبين أزواجهن الكفار ‏{‏وَلا تُمْسِكُوا‏}‏ ‏[‏قرأ أبو عمرو ويعقوب‏:‏ بالتشديد، والآخرون‏:‏ بالتخفيف، من الإمساك‏]‏ ‏{‏بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ‏}‏‏"‏والعِصَم‏"‏‏:‏ جمع العصمة، وهي ما يعتصم به من العقد والنسب‏.‏ ‏"‏والكوافر‏"‏‏:‏ جمع الكافرة‏.‏

نهى الله المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات، يقول‏:‏ من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها فقد انقطعت عصمة الزوجية بينهما‏.‏

قال الزهري‏:‏ فلما نزلت هذه الآية طلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأتين كانتا له بمكة مشركتين‏:‏ قُرَيْبَة بنت أبي أمية بن المغيرة، فتزوجها بعده معاوية بن أبي سفيان، وهما على شركهما بمكة، والأخرى أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية أم ابنه عبد الله بن عمر، فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غانم، وهما على شركهما‏.‏ وكانت أروى بنت ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب تحت طلحة بن عبيد الله، فهاجر طلحة وهي بمكة على دين قومها ففرق الإسلام بينهما فتزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص بن أمية‏.‏

قال الشعبي‏:‏ وكانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع أسلمت ولحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأقام أبو العاص بمكة مشركًا، ثم أتى المدينة فأسلم، فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم

‏{‏وَاسْأَلُوا‏}‏ أيها المؤمنون ‏{‏مَا أَنْفَقْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ إن لحقت امرأة منكم بالمشركين مرتدة فاسألوا ما أنفقتم من المهر إذا منعوها ممن تزوجها منهم ‏{‏وَلْيَسْأَلُوا‏}‏ يعني‏:‏ المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم ‏{‏مَا أَنْفَقُوا‏}‏ من المهر ممن تزوجها منكم ‏{‏ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ قال الزهري‏:‏ لولا الهدنة والعهد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية لأمسك النساء ولم يرّد الصداق، وكذلك كان يصنع بمن جاءه من المسلمات قبل العهد فلما نزلت هذه الآية أقر المؤمنون بحكم الله عز وجل وأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما أمروا به من أداء نفقات المسلمين ‏[‏على نسائهم‏]‏ فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنْ فَاتَكُمْ‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنْ فَاتَكُمْ‏}‏ أيها المؤمنون ‏{‏شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ‏}‏ فلحقن بهم مرتدات ‏{‏فَعَاقَبْتُمْ‏}‏ قال المفسرون‏:‏ معناه غنمتم، أي غزوتم فأصبتم من الكفار عقبى وهي الغنيمة، وقيل‏:‏ ظهرتم وكانت العاقبة لكم، وقيل‏:‏ أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم، قرأ حميد الأعرج ‏"‏فعقَّبتم‏"‏ بالتشديد، وقرأ الزهري‏:‏ ‏"‏فعقَبتم‏"‏ خفيفة بغير ألف وقرأ مجاهد ‏"‏ فأعقبتم ‏"‏ أي صنعتم بهم كما صنعوا بكم‏.‏ وكلها لغات بمعنى واحد، يقال‏:‏ عاقب وعقَّب وعقَب، وأعَقب وتعقَّب وتعاقب واعتقب‏:‏ إذا غنم‏.‏ وقيل‏:‏ ‏"‏التعقيب‏"‏‏:‏ غزوة بعد غزوة ‏{‏فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ‏}‏ إلى الكفار منكم ‏{‏مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا‏}‏ عليهن من الغنائم التي صارت في أيديكم من أموال الكفار‏.‏ وقيل‏:‏ فعاقبتم المرتدة بالقتل‏.‏

وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال‏:‏ لحق بالمشركين من نساء المؤمنين والمهاجرين ست نسوة‏:‏ أم الحكم بنت أبي سفيان وكانت تحت عياض بن شداد الفهري، وفاطمة بنت أبي أمية ابن المغيرة أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت، وبروع بنت عقبة، كانت تحت شماس بن عثمان، وعزة بن عبد العزيز بن نضلة، وزوجها عمرو ابن عبدود، وهند بنت أبي جهل بن هشام، كانت تحت هشام بن العاص بن وائل، وأم كلثوم بنت جرول، كانت تحت عمر بن الخطاب، فكلهن رَجَعْن عن الإسلام، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجهن مهور نسائهم من الغنيمة‏.‏

‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ‏}‏ واختلف القول في أن رد مهر من أسلمت من النساء إلى أزواجهن، كان واجبًا أو مندوبًا‏؟‏‏.‏

وأصله أن الصلح هل كان وقع على ردِّ النساء‏؟‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما أنه وقع على رد الرجال والنساء جميعا لِما روينا‏:‏ أنه لا يأتيك منّا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ثم صار الحكم في رد النساء منسوخًا بقوله‏:‏ ‏"‏فلا ترجعوهن إلى الكفار‏"‏ فعلى هذه كان رد المهر واجبًا‏.‏

والقول الآخر‏:‏ أن الصلح لم يقع على رد النساء، لأنه روي عن علي‏:‏ أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وذلك لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوِّفت، وأكرهت عليها لضعف قلبها وقلة هدايتها إلى المخرج منها بإظهار كلمة الكفر مع التورية، وإضمار الإيمان ولا يخشى ذلك على الرجل لقّوته وهدايته إلى التقية، فعلى هذا كان رد المهر مندوبًا‏.‏ واختلفوا في أنه هل يجب العمل به اليوم في رد المال إذا شرط في معاقدة الكفار‏؟‏ فقال قوم‏:‏ لا يجب، وزعموا أن الآية منسوخة، وهو قول عطاء ومجاهد وقتادة‏.‏ وقال قوم‏:‏ هي غير منسوخة ويرد إليهم ما أنفقوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ‏}‏ الآية‏.‏ وذلك يوم فتح مكة لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيعة الرجال، وهو على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل منه، وهو يبايع النساء بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبلغهن عنهُ وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة متنكرة مع النساء خوفًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أبايعكن ‏"‏على أن لا تشركن بالله شيئًا‏"‏ فرفعت هند رأسها وقالت‏:‏ والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال، وبايع الرجال يومئذ على الإسلام، والجهاد فقط فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ولا يسرقن‏"‏ فقالت هند‏:‏ إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هنات، فلا أدري أيحل لي أم لا‏؟‏ فقال أبو سفيان‏:‏ ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها‏:‏ وإنك لهند بنت عتبة‏؟‏ قالت‏:‏ نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك، فقال‏:‏ ‏"‏ولا يزنين‏"‏ فقالت هند‏:‏ أو تزني الحرة‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏ولا يقتلن أولادهن‏"‏ فقالت هند‏:‏ ربيناهن صغارًا وقتلتموهم كبارًا فأنتم وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر، فضحك عمر رضي الله عنه حتى استلقى، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن‏"‏ - وهي أن تقذف ولدًا على زوجها ليس منه - قالت هند‏:‏ والله إن البهتان لقبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال‏:‏ ‏"‏ولا يعصينك في معروف‏"‏ قالت هند‏:‏ ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء‏.‏ فأقَّر النسوة بما أخذ عليهن قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ‏}‏ أراد وأد البنات الذي كان يفعله أهل الجاهلية قوله ‏{‏وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ‏}‏ ليس المراد منه نهيهن عن الزنا لأن النهي عن الزنا قد تقدم ذكره، بل المراد منه أن تلتقط مولودًا وتقول لزوجها هذا ولدي منك فهو البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن لأن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها‏.‏ قوله ‏{‏وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ‏}‏ أي في كل أمر وافق طاعة الله‏.‏ قال بكر بن عبد الله المزني‏:‏ في كل أمر فيه رشدهن‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لا تخلو المرأة بالرجال‏.‏ وقال سعيد بن المسيب والكلبي وعبد الرحمن بن زيد‏:‏ هو النهي عن النوح والدعاء بالويل وتمزيق الثوب وحلق الشعر ونتفه وخمش الوجه، ولا تحدِّث المرأة الرجال إلا ذا محرم، ولا تخلو برجل غير ذي محرم، ولا تسافر إلا مع ذي محرم‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا احمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية قالت‏:‏ بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا ‏"‏أن لا يشركن بالله شيئا‏"‏ ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأةٌ يدها فقالت‏:‏ أسعَدْتني فلانة أريد أن أجزيها فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فانطلقت ورجعت وبايعها

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري، حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق، حدثنا أبو يعلى الموصلي، حدثنا هُدْبَة بن خالد، حدثنا أبان بن يزيد، حدثنا يحيى بن أبي كثير أن زيدًا حدثه أن أبا سلام حدثه أن أبا مالك الأشعري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن‏:‏ الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم والنياحة‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب‏"‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عمرو بن حفص، حدثنا أبي أخبرنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية‏"‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَبَايِعْهُنَّ‏}‏ يعني إذا بايعنك فبايعهن ‏{‏وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثني محمود، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية‏:‏ ‏"‏لا يشركن بالله شيئا‏"‏ قالت‏:‏ وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدَ امرأة إلا امرأة يملكها

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون، أخبرنا مكي بن عبدان، حدثنا عبد الرحمن بن بشر، حدثنا سفيان بن عيينة، عن محمد ابن المنكدر، سمع أميمة بنت رقية تقول‏:‏ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة، فقال لنا‏:‏ فيما استطعتن وأطقتن، فقلت‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم بنا من أنفسنا قلت‏:‏ يا رسول الله بايعنا قال سفيان‏:‏ يعني صافحنا فقال‏:‏ ‏"‏إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة‏"‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ‏}‏ وهم اليهود، وذلك أن أناسًا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين يتوصلون إليهم بذلك فيصيبون من ثمارهم، فنهاهم الله عن ذلك ‏{‏قَدْ يَئِسُوا‏}‏ يعني هؤلاء اليهود ‏{‏مِنَ الآخِرَةِ‏}‏ بأن يكون لهم فيها ثواب وخير ‏{‏كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ‏}‏ أي‏:‏ كما يئس الكفار الذين ماتوا وصاروا في القبور من أن يكون لهم حظ وثواب في الآخرة‏.‏ قال مجاهد‏:‏ الكفار حين دخلوا قبورهم أيسوا من رحمة الله‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار الذين ماتوا فعاينوا الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ كما يئس الكفار من أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم‏.‏

سورة الصف

مدنية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 3‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ‏(‏2‏)‏ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ‏}‏ قال المفسرون‏:‏ إن المؤمنين قالوا‏:‏ لو علمنا أحب الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه، ولبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا‏.‏ فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏"‏إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا‏"‏ فابتلوا بذلك يوم أحد فولوا مدبرين، فأنزل الله تعالى ‏"‏لِمَ تقولون ما لا تفعلون‏"‏

وقال محمد بن كعب‏:‏ لما أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بثواب شهداء بدر، ‏[‏قالت الصحابة‏]‏ لئن لقينا بعده قتالا لنُفْرِغَنَّ فيه وسعنا ففروا يوم أحد فعيَّرهم الله بهذه الآية

وقال قتادة والضحاك‏:‏ نزلت في ‏[‏شأن‏]‏ القتال، كان الرجل يقول‏:‏ قاتلت ولم يقاتل وطعنت ولم يطعن، وضربت ولم يضرب، فنزلت هذه الآية قال ابن زيد‏:‏ نزلت في المنافقين كانوا يعدون النصر للمؤمنين وهم كاذبون ‏{‏كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا‏}‏ في موضع الرفع فهو كقولك‏:‏ بئس رجلا أخوك، ومعنى الآية‏:‏ أي عَظُمَ ذلك في المَقْت والبغض عند الله، أي‏:‏ إن الله يبغض بغضًا شديدًا أن تقولوا ‏{‏مَا لا تَفْعَلُونَ‏}‏ أن تعِدوا من أنفسكم شيئا ثم لم توفوا به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4 - 5‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ‏(‏4‏)‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً‏}‏ أي يصفُّون أنفسهم عند القتال صفًا ولا يزولون عن أماكنهم ‏{‏كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ‏}‏ قد رُصَّ بعضه ببعض ‏[‏أي ألزق بعضه ببعض‏]‏ وأحكم فليس فيه فرجة ولا خلل‏.‏ وقيل كالرصاص‏.‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ‏}‏ من بني إسرائيل‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي‏}‏ وذلك حين رموه بالأدرة ‏{‏وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ‏}‏ والرسول يعظم ‏[‏ويكرم‏]‏ ويحترم ‏{‏فَلَمَّا زَاغُوا‏}‏ عدلوا عن الحق ‏{‏أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏ أمالها عن الحق، يعني أنهم لما تركوا الحق بإيذاء نبيهم أمال الله قلوبهم عن الحق ‏{‏وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ قال الزجَّاج‏:‏ يعني لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6 - 12‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏6‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏8‏)‏ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ‏(‏9‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏10‏)‏ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏11‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ‏}‏ والألف فيه للمبالغة في الحمد، وله وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه مبالغة من الفاعل، أي الأنبياء كلهم حمادون لله عز وجل، وهو أكثر حمدًا لله من غيره، والثاني‏:‏ أنه مبالغة في المفعول، أي الأنبياء كلهم محمودون لما فيهم من الخصال الحميدة وهو ‏[‏أكثرهم مبالغة‏]‏ وأجمع للفضائل والمحاسن التي يحمد بها‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَتهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَن أَظلَمُ مِمَّنِ افتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُوَ يُدعَى إِلَى الإسلامِ واللَّه لا يَهِدي القَومَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفوَاهِهِم وَاللَّهُ مُتِمُ نُورِهِ وَلَوَ كَرِهَ الكَافِرُون‏}‏‏.‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ‏}‏‏.‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ‏}‏‏.‏ قرأ ابن عامر ‏"‏تُنْجيكم‏"‏ بالتشديد والآخرون بالتخفيف ‏{‏مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏‏.‏ نزل هذا حين قالوا‏:‏ لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه وجعل ذلك بمنزلة التجارة لأنهم يربحون بها رضا الله ونيل جنته والنجاة من النار‏.‏ ثم بين تلك التجارة فقال‏:‏

‏{‏تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13 - 14‏]‏

‏{‏وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏13‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا‏}‏‏.‏ أي‏:‏ ولكم خصلة أخرى في العاجل مع ثواب الآخرة تحبونها وتلك الخصلة‏:‏ ‏{‏نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ‏}‏‏.‏ قال الكلبي‏:‏ هو النصر على قريش، وفتح مكة‏.‏ وقال عطاء‏:‏ يريد فتح فارس والروم‏.‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏ يا محمد بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة‏.‏ ثم حضَّهم على نصر الدين وجهاد المخالفين فقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ‏}‏‏.‏ قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو‏:‏ ‏"‏أنصارًا‏"‏ بالتنوين ‏"‏لله‏"‏ بلام الإضافة، وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏أنصار الله‏"‏ مضافا لقوله‏:‏ ‏"‏نحن أنصار الله‏"‏‏.‏

‏{‏كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ‏}‏‏.‏ أي انصروا دين الله مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ من ينصرني مع الله‏؟‏ ‏{‏قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني في زمن عيسى عليه السلام، وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق‏:‏ فرقة قالوا‏:‏ كان الله فارتفع، وفرقة قالوا‏:‏ كان ابن الله فرفعه الله إليه، وفرقة قالوا‏:‏ كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه وهم المؤمنون، واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس، فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ‏}‏‏.‏ عالين غالبين‏.‏ وروى مغيرة عن إبراهيم قال‏:‏ فأصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم أن عيسى كلمة الله وروحه‏.‏

سورة الجمعة

مدنية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 3‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏يسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الامِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيزَكِّيهِمْ وَيعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ‏(‏2‏)‏ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏يسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الامِّيِّينَ‏}‏ يعني العرب كانت أمة أمية لا تكتب ولا تقرأ ‏{‏رَسُولا مِنْهُمْ‏}‏ يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم نسبُه نسبُهم ‏[‏ولسانه لسانهم ليكون أبلغ في إقامة الحجة عليهم‏]‏ ‏{‏يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيزَكِّيهِمْ وَيعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ‏}‏ أي ما كانوا قبل بعثة الرسول إلا في ضلال مبين يعبدون الأوثان‏.‏ ‏{‏وَآخَرِينَ مِنْهُمْ‏}‏ وفي ‏"‏آخرين‏"‏ وجهان من الإعراب‏:‏ أحدهما الخفض، على الرد إلى الأميين مجازه‏:‏ وفي آخرين‏.‏ والثاني النصب، على الرد إلى الهاء والميم في قوله ‏"‏ويعلمهم‏"‏ أي‏:‏ ويعلم آخرين منهم، أي من المؤمنين الذين يدينون بدينهم، لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم، فإن المسلمين كلهم أمة واحدة‏.‏

واختلف العلماء فيهم، فقال قوم‏:‏ هم العجم، وهو قول ابن عمر وسعيد بن جبير ورواية ليث عن مجاهد، والدليل عليه ما‏:‏ أخبرنا أبو جعفر محمد بن عبد الله بن محمد المعلم الطوسي بها حدثنا أبو الحسن محمد بن يعقوب، أخبرنا أبو النصر محمد بن محمد بن يوسف، حدثنا الحسين بن سفيان، وعلي بن طيفور، وأبو العباس الثقفي قالوا‏:‏ حدثنا قتيبة، حدثنا عبد العزيز، عن ثور، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة قال‏:‏ كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت سورة الجمعة، فلما قرأ‏:‏ ‏"‏وآخرين منهم لما يلحقوا بهم‏"‏ قال رجل‏:‏ مَنْ هؤلاء يا رسول الله‏؟‏ فلم يراجعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى سأله مرتين أو ثلاثا قال‏:‏ وفينا سليمان الفارسي قال‏:‏ فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على سلمان، ثم قال‏:‏ ‏"‏لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء‏"‏

أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أخبرنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار، أخبرنا محمد بن زكريا العذافري، أخبرنا إسحاق الدبري، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن جعفر الجزري عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لو كان الدين عند الثريا لذهب إليه رجل، أو قال‏:‏ رجال، من أبناء فارس حتى يتناولوه‏"‏ وقال عكرمة ومقاتل‏:‏ هم التابعون‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ هم جميع من دخل في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ إلى يوم القيامة وهي رواية ‏[‏ابن‏]‏ أبي نجيح عن مجاهد‏.‏ قوله ‏{‏لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ‏}‏ أي ‏[‏لم‏]‏ يدركوهم ولكنهم يكونون بعدهم‏.‏ وقيل‏:‏ ‏"‏لما يلحقوا بهم‏"‏ أي في الفضل والسابقة لأن التابعين لا يدركون شأو الصحابة‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4 - 5‏]‏

‏{‏ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏4‏)‏ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ‏}‏ يعني الإسلام والهداية‏.‏ ‏{‏وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏}‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ‏}‏ أي كُلِّفوا القيام بها والعمل بما فيها ‏{‏ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا‏}‏ لم يعملوا بما فيها ولم يؤدُّوا حقها ‏{‏كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا‏}‏ أي كتبًا من العلم، واحدها سفر، قال الفراء‏:‏ هي الكتب العظام يعني كما أن الحمار يحملها ولا يدري ما فيها ولا ينتفع بها كذلك اليهود يقرؤن التوراة ولا ينتفعون بها لأنهم خالفوا ما فيها ‏{‏بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الأنبياء عليهم السلام، يعني من سبق في علمه أنه لا يؤمن لا يهديهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6 - 9‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏6‏)‏ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَينَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ يَا أَيهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ‏}‏ من دون محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ‏{‏فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ‏}‏ فادعُوا بالموت على أنفسكم ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏، أنكم أبناء الله وأحباؤه فإن الموت هو الذي يوصلكم إليه‏.‏ ‏{‏وَلا يَتَمَنَّونَهُ أَبَدَا بِمَا قَدَّمَتْ أَيديِهم وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالظَّالِمِينَ قُلْ إِنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُم ثُمَّ تُرَدَّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيبِ والشَّهَادَةِ فَينَبِئُكُم بِمَا كُنتُم تَعْمَلُونَ‏}‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ‏}‏ أي في يوم الجمعة كقوله‏:‏ ‏"‏أروني ماذا خلقوا من الأرض أي في الأرض‏"‏ ‏[‏أي في الأرض‏]‏ وأراد بهذا النداء الأذان عند قعود الإمام على المنبر للخطبة‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا آدم، حدثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري عن السائب بن يزيد قال‏:‏ كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثاني على الزَّوراء قرأ الأعمش‏:‏ ‏"‏من يوم الجمعة‏"‏ بسكون الميم، وقرأ العامة بضمها‏.‏

واختلفوا في تسمية هذا اليوم جمعة، منهم من قال‏:‏ لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم عليه السلام‏.‏ وقيل‏:‏ لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء فاجتمعت فيه المخلوقات‏.‏ وقيل‏:‏ لاجتماع الجماعات فيه‏.‏ وقيل‏:‏ لاجتماع الناس فيها للصلاة‏.‏

وقيل‏:‏ أول من سماها جمعة كعب بن لؤي قال أبو سلمة‏:‏ أول من قال ‏"‏أما بعد‏"‏ كعب بن لؤي وكان أول من سمى الجمعة جمعة، وكان يقال له يوم العروبة‏.‏

وعن ابن سيرين قال‏:‏ جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة‏.‏ وقبل أن ينزل الجمعة وهم الذين سموها الجمعة‏.‏ وقالوا‏:‏ لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى يوم، فهلم فلنجعل يومًا نجتمع فيه، فنذكر الله ونصلي فيه، فقالوا‏:‏ يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم العروبة، فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم ركعتين وذكَّرهم فسموه يوم الجمعة، ثم أنزل الله عز وجل في ذلك بعد‏.‏

وروي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب، أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة، فقلت له‏:‏ إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة‏؟‏ قال‏:‏ لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في بقيع يقال له بقيع الخضمات، قلت له‏:‏ كم كنتم يومئذ‏؟‏ قال‏:‏ أربعون وأول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه على ما ذكر أهل السير‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة مهاجرًا نزل قباء على بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين لثنتي عشرة ‏[‏ليلة‏]‏ خلت من شهر ربيع الأول حين امتد الضحى، فأقام بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء ويوم الخميس، وأسَّسَ مسجدهم، ثم خرج من بين أظهرهم يوم الجمعة عامدًا المدينة، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم، وقد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجدا، فجمَّع هناك وخطب

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ فامضوا إليه واعملوا له، وليس المراد من السعي الإسراع، إنما المراد منها العمل والفعل، كما قال‏:‏ ‏"‏وإذا تولى سعى في الأرض‏"‏ ‏[‏البقرة – 205‏]‏ وقال‏:‏ ‏"‏إن سعيكم لشتى‏"‏ ‏[‏الليل - 4‏]‏‏.‏

وكان عمر بن الخطاب يقرأ‏:‏ فامضوا إلى ذكر الله، وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أما والله ما هو بالسعي على الأقدام، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنية والخشوع

وقال قتادة في هذه الآية‏:‏ ‏"‏فاسعوا إلى ذكر الله‏"‏ قال‏:‏ فالسعي أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها وكان يتأول قوله‏:‏ ‏"‏فلما بلغ معه السعي‏"‏ ‏[‏الصافات – 102‏]‏ يقول فلما مشى معه‏.‏

أخبرنا الإمام أبو ‏[‏علي‏]‏ الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أخبرنا محمد بن أحمد بن معقل الميداني، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، ولكن ائتوها تمشون وعليكم السكينة ‏[‏والوقار‏]‏ فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموها‏"‏ قوله ‏{‏إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ أي إلى الصلاة، وقال سعيد بن المسيب‏:‏ ‏"‏فاسعوا إلى ذكر الله‏"‏ قال هو موعظة الإمام ‏{‏وَذَرُوا الْبَيْعَ‏}‏ يعني البيع والشراء لأن اسم البيع يتناولهما جميعًا‏.‏ وإنما يحرم البيع والشراء عند الأذان الثاني وقال الزهري‏:‏ عند خروج الإمام‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء ‏{‏ذلكم‏}‏ الذي ذكرت من حضور الجمعة وترك البيع، ‏{‏خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏ من المبايعة ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ مصالح أنفسكم‏.‏

واعلم أن صلاة الجمعة من فروض الأعيان، فتجب على كل من جمع العقل، والبلوغ، والحرية والذكورة والإقامة إذا لم يكن له عذر‏.‏ ومن تركها استحق الوعيد‏.‏

وأما الصبي والمجنون فلا جمعة عليهما، لأنهما ليسا من أهل أن يلزمهما فرض الأبدان لنقصان أبدانهما، ولا جمعة على النساء بالاتفاق‏:‏

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثني سلمة بن عبد الله الخطمي عن محمد بن كعب أنه سمع رجلا من بني وائل يقول‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏تجب الجمعة على كل مسلم إلا امرأةً أو صبيًا أو مملوكًا‏"‏ وذهب أكثرهم إلى أنه لا جمعة على العبيد‏.‏ وقال الحسن وقتادة والأوزاعي‏:‏ تجب على العبد المخارج، ولا تجب على المسافر عند الأكثرين‏.‏

وقال النخعي والزهري‏:‏ تجب على المسافر إذا سمع النداء، وكل من له عذر من مرض أو تعهد مريض أو خوف، جاز له ترك الجمعة، وكذلك له تركها بعذر المطر والوحل‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل ‏[‏حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل‏]‏ أخبرني عبد الحميد صاحب الزيادي، حدثنا عبد الله بن الحارث بن عمر، حدثنا محمد بن سيرين قال ابن عباس لمؤذنه في يوم مطير‏:‏ إذا قلت‏:‏ أشهد أن محمدًا رسول الله، فلا تقل‏:‏ حي على الصلاة‏.‏ قل‏:‏ صلُّوا في بيوتكم‏.‏ فكأن الناس استنكروا فقال‏:‏ فَعَلَهُ من هو خير مني إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطين والدحض‏.‏

وكل من لا يجب عليه حضور الجمعة، فإذا حضر وصلى مع الإمام ‏[‏الجمعة‏]‏ سقط عنه فرض الظهر، ولكن لا يكمل به عدد الجمعة إلا صاحب العذر، فإنه إذا حضر يكمل به العدد‏.‏

أخبرنا الإمام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي في سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، أخبرنا عيسى بن عمر بن العباس السمرقندي، حدثنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي، أخبرنا يحيى بن حسان حدثنا معاوية بن سلام، أخبرني زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول حدثني الحكم بن مينا أن ابن عمر حدثه وأبا هريرة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على أعواد منبره‏:‏ ‏"‏لينتهين أقوامٌ عن وَدْعِهم الجمعات أو ليختمنَّ الله على قلوبهم ثم ليكونُنَّ من الغافلين‏"‏

أخبرنا أبو عثمان الضبي، أخبرنا أبو محمد الجراحي، حدثنا أبو العباس المحبوبي، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا علي بن خشرم، أخبرنا عيسى بن يونس، عن محمد بن عمرو عن عبيدة بن سفيان، عن أبي الجعد يعني الضميري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاونًا بها طبع الله على قلبه‏"‏

واختلف أهل العلم في موضع إقامة الجمعة، وفي العدد الذي تنعقد به الجمعة، وفي المسافة التي يجب أن يؤتى منها‏:‏ أما الموضع‏:‏ فذهب قوم إلى أن كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلا من أهل الكمال، بأن يكونوا أحرارًا عاقلين ‏[‏بالغين‏]‏ مقيمين لا يظعنون عنها شتاء ولا صيفًا إلا ظعن حاجة، تجب عليهم إقامة الجمعة فيها‏.‏ وهو قول عبيد الله بن عبد الله، وعمر بن عبد العزيز وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق‏.‏ وقالوا‏:‏ لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلا على هذه الصفة، وشرط عمر بن عبد العزيز مع عدد الأربعين أن يكون فيهم والٍ، والوالي غير شرط عند الشافعي‏.‏ وقال علي‏:‏ لا جمعة إلا في مصر جامع وهو قول أصحاب الرأي‏.‏

ثم عند أبي حنيفة، رضي الله عنهُ تنعقد بأربعة، والوالي شرط وقال الأوزاعي وأبو يوسف‏:‏

تنعقد بثلاثة إذا كان فيهم وال‏.‏ وقال الحسن وأبو ثور‏:‏ تنعقد باثنين كسائر الصلوات‏.‏ وقال ربيعة‏:‏ تنعقد باثني عشر رجلا‏.‏ والدليل على جواز إقامتها في القرى ما‏:‏ أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن المثنى، أخبرنا أبو عامر العقدي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي حمزة الضبعي عن ابن عباس قال‏:‏ إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجواثَي من البحرين وإذا كان الرجل مقيمًا في قرية لا تقام فيها الجمعة، أو كان مقيمًا في برية، فذهب قوم إلى أنه إن كان يبلغهم النداء من موضع الجمعة يلزمهم حضور الجمعة، وإن كان لا يبلغهم النداء فلا جمعة عليهم‏.‏ وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق‏.‏ والشرط أن يبلغهم نداء مؤذنٍ جهوري الصوت يؤذن في وقت تكون الأصوات فيه هادئه والرياح ساكنة، وكل قرية تكون في موضع الجمعة في القرب على هذا القدر يجب على أهلها حضور الجمعة‏.‏

وقال سعيد بن المسيب‏:‏ تجب على كل من آواه المبيت‏.‏ وقال الزهري‏:‏ تجب على من كان على ستة أميال‏.‏ وقال ربيعة‏:‏ على أربعة أميال‏.‏ وقال مالك والليث‏:‏ على ثلاثة أميال‏.‏ وقال أبو حنيفة رضي الله عنه‏:‏ لا جمعة على أهل السواد قريبة كانت القرية أو بعيدة‏.‏

وكل من تلزمه صلاة الجمعة لا يجوز له أن يسافر يوم الجمعة بعد الزوال قبل أن يصلي الجمعة، وجوَّز أصحاب الرأي أن يسافر بعد الزوال إذا كان يفارق البلد قبل خروج الوقت‏.‏

أما إذا سافر قبل الزوال بعد طلوع الفجر فيجوز، غير أنه يكره إلا أن يكون سفره سفر طاعة من حج أو غزو، وذهب بعضهم إلى أنه إذا أصبح يوم الجمعة مقيمًا فلا يسافر حتى يصلي الجمعة، والدليل على جوازه ما‏:‏ أخبرنا أبو عثمان الضبي، أخبرنا أبو محمد الجراحي، أخبرنا أبو العباس المحبوبي، أخبرنا أبو عيسى، حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا أبو معاوية عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال‏:‏ بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة، فغدا أصحابه، وقال‏:‏ أتخلف فأصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ألحقهم، فلما صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رآه فقال‏:‏ ما منعك أن تغدو مع أصحابك‏؟‏ قال‏:‏ أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم، فقال‏:‏ ‏"‏لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أدركت فضل غدوتهم‏"‏ وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع رجلا عليه هيئة السفر يقول‏:‏ لولا أن اليوم يوم الجمعة لخرجت، فقال عمر‏:‏ اخرجْ فإن الجمعة لا تحبس عن سفر وقد ورد أخبار في سنن يوم الجمعة وفضله منها‏:‏ ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد الفقيه، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أنه قال‏:‏ خرجت إلى ‏[‏الطور‏]‏ فلقيت كعب الأحبار، فجلست معه فحدثني عن التوراة، وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فيما حدثته أن قلت له‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه أهبط وفيه تيب عليه، وفيه مات وفيه تقوم الساعة وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حين تطلع الشمس شفقًا من الساعة إلا الجن والإنس وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه‏"‏ قال كعب‏:‏ ذلك في كل سنة يوم، فقلت‏:‏ بل في كل جمعة، قال‏:‏ فقرأ كعب التوراة فقال‏:‏ صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال أبو هريرة‏:‏ ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته في يوم الجمعة، فقال عبد الله بن سلام‏:‏ قد علمت أية ساعة هي هي آخر ساعة في يوم الجمعة، قال أبو هريرة‏:‏ وكيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة‏!‏ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي‏"‏ وتلك ساعة لا يصلي فيها‏؟‏ فقال عبد الله بن سلام‏:‏ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصليها‏؟‏ قال أبو هريرة‏:‏ بلى، قال‏:‏ فهو ذاك‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل‏"‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، حدثنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، حدثنا آدم، حدثنا ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، أخبرني أبي عن عبد الله بن وديعة عن سلمان الفارسي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدَّهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرّق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا أحمد بن خالد، حدثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعن أبي أمامة يعني سهل بن حنيف حدثاه عن أبي سعيد وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من اغتسل يوم الجمعة واستن ومس من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج حتى يأتي المسجد، فلم يتخط رقاب الناس ثم ركع ما شاء الله أن يركع، وأنصت إذا خرج الإمام كانت كفارة ما بينها وبين الجمعة التي كانت قبلها‏"‏ قال أبو هريرة‏:‏ وزيادة ثلاثة أيام لأن الله تعالى يقول‏:‏ ‏"‏من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها‏"‏ ‏[‏الأنعام – 160‏]‏‏.‏

أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني، أخبرنا أبو القاسم بن جعفر الهاشمي، أخبرنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمر اللؤلؤي، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، حدثنا محمد بن حاتم الجرجرائي، حدثنا ابن المبارك عن الأوزاعي، حدثني حسان بن عطية، حدثني أبو الأشعث الصنعاني، حدثني أوس بن أوس الثقفي قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من غسَّل يوم الجمعة واغتسل ثم بكر وابتكر ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع، ولم يلْغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها‏"‏

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان، عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس على منازلهم الأول فالأول فإذا خرج الإمام طويت الصحف واستمعوا الخطبة والمهجِّر إلى الصلاة كالمهدي بدنة، ثم الذي يليه كالمهدي بقرة، ثم الذي يليه كالمهدي شاة ثم الذي يليه كالمهدي كبشًا حتى ذكر الدجاجة والبيضة‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10 - 11‏]‏

‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله عز وجل ‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ‏}‏ أي إذا فرغ من الصلاة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم ‏{‏وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ‏}‏ يعني الرزق وهذا أمر إباحة، كقوله‏:‏ ‏"‏وإذا حللتم فاصطادوا‏"‏ ‏[‏المائدة - 2‏]‏ قال ابن عباس‏:‏ إن شئت فاخرج وإن شئت فاقعد وإن شئت فصلِّ إلى العصر، وقيل‏:‏ فانتشروا في الأرض ليس لطلب الدنيا ولكن لعيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله‏.‏ وقال الحسن وسعيد بن جبير ومكحول‏:‏ ‏"‏وابتغوا من فضل الله‏"‏ هو طلب العلم‏.‏

‏{‏وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ قوله عز وجل ‏{‏وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا‏}‏ الآية، أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا حفص بن عمر، حدثنا خالد بن عبد الله ‏[‏أخبرنا حصين‏]‏ عن سالم بن أبي الجعد وعن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم فثار الناس إلا اثني عشر رجلا فأنزل الله‏:‏ ‏"‏وإذا رأوا تجارةً أو لهوًا انفضوا إليها‏"‏‏.‏

ويحتج بهذا الحديث من يرى ‏[‏إقامة‏]‏ الجمعة باثني عشر رجلا‏.‏ وليس فيه بيان أنه أقام بهم الجمعة حتى يكون حجة لاشتراط هذا العدد‏.‏ وقال ابن عباس في رواية الكلبي‏:‏ لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط‏.‏

وقال الحسن وأبو مالك‏:‏ أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم دحية بن خليفة الكلبي بتجارة زيت من الشام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشوا أن يسبقوا إليه، فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا رهط منهم أبو بكر وعمر فنزلت هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏والذي نفس محمد بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد لسال بكم الوادي نارًا‏"‏

وقال مقاتل‏:‏ بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بالتجارة، وكان إذا قدم لم تبق بالمدينة عاتق إلا أتته، وكان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق وبُرِّ وغيره، فينزل عند أحجار الزيت، وهو مكان في سوق المدينة، ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليبتاعوا منه فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلا وامرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كم بقي في المسجد‏؟‏ فقالوا‏:‏ اثنا عشر رجلا وامرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لولا هؤلاء لسوّمت لهم الحجارة من السماء‏"‏ فأنزل الله هذه الآية وأراد باللهو الطبل‏.‏

وقيل‏:‏ كانت العير إذا قدمت المدينة استقبلوها بالطبل والتصفيق‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏انفضوا إليها‏"‏ رد الكناية إلى التجارة لأنها أهم‏.‏ وقال علقمة‏:‏ سئل عبد الله بن عمر‏:‏ أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائمًا أو قاعدًا‏؟‏ قال‏:‏ أما تقرأ ‏"‏وتركوك قائمًا‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا إبراهيم بن محمد، أخبرني جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة خطبتين قائمًا يفصل بينهما بجلوس‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، أخبرنا أبو الأحوص، عن سماك عن جابر بن سمرة قال‏:‏ كان للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكِّر الناس‏.‏ وبهذا الإسناد عن جابر بن سمرة قال‏:‏ كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فكانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا والخطبة فريضة في صلاة الجمعة، ويجب أن يخطب قائمًا خطبتين، وأقل ما يقع عليه اسم الخطبة‏:‏ أن يحمد الله، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويوصي بتقوى الله، هذه الثلاثة فرض في الخطبتين جميعًا ويجب أن يقرأ في الأولى آية من القرآن، ويدعو للمؤمنين في الثانية، فلو ترك واحدة من هذه الخمس لا تصح جمعته عند الشافعي وذهب أبو حنيفة رضي الله عنه إلى أنه لو أتى بتسبيحة أو تحميدة أو تكبيرة أجزأه‏.‏ وهذا القدر لا يقع عليه اسم الخطبة، وهو مأمور بالخطبة‏.‏

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا عبد الله بن يوسف بن محمد بن مامويه، أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد البصري بمكة، حدثنا الحسن بن الصباح الزعفراني، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع أن مروان استخلف أبا هريرة على المدينة، فصلَّى بهم أبو هريرة الجمعة فقرأ سورة الجمعة في الركعة الأولى وفي الثانية‏:‏ ‏"‏إذا جاءك المنافقون‏"‏ ‏[‏المنافقون - 1‏]‏ فقال عبيد الله‏:‏ فلما انصرفنا مشيت إلى جنبه فقلت له‏:‏ لقد قرأت بسورتين سمعت علي بن أبي طالب يقرأ بهما في الصلاة‏؟‏ فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن ضمرة بن سعيد المازني عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير ماذا كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على أثر سورة الجمعة‏؟‏ فقال‏:‏ كان يقرأ بـ ‏"‏هل أتاك حديث الغاشية‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو عثمان الضبي، أخبرنا أبو محمد الجراحي، حدثنا أبو العباس المحبوبي، حدثنا أبو عيسى حدثنا قتيبة، حدثنا أبو عوانة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ ‏"‏سبح اسم ربك الأعلى‏"‏ و‏"‏هل أتاك حديث الغاشية‏"‏ وربما اجتمع في يوم واحد فيقرأ بهما‏.‏

ولجواز الجمعة خمس شرائط‏:‏ الوقت وهو‏:‏ وقت الظهر ما بين زوال الشمس إلى دخول وقت العصر، والعدد والإمام والخطبة ودار الإقامة فإذا فقد شرط من هذه الخمسة يجب أن يصلوها ظهرا‏.‏

ولا يجوز للإمام أن يبتدئ الخطبة قبل اجتماع العدد، وهو عدد الأربعين عند الشافعي فلو اجتمعوا وخطب بهم ثم انفضوا قبل افتتاح الصلاة أو انتقص واحد من العدد لا يجوز أن يصلي بهم الجمعة، بل يصلي الظهر، ولو افتتح بهم الصلاة ثم انفضُّوا فأصح أقوال الشافعي أن بقاء الأربعين شرط إلى آخر الصلاة، ‏[‏كما أن بقاء الوقت شرط إلى آخر الصلاة‏]‏ فلو انتقص واحد منهم قبل أن يسلِّم الإمام يجب على الباقين أن يصلُّوها أربعًا‏.‏ وفيه قول آخر‏:‏ إن بقي معه اثنان أتمها جمعة‏.‏ وقيل‏:‏ إن بقي معه واحد أتمها جمعة، وعند المزني إذا نقصوا بعد ما صلى الإمام بهم ركعة أتمها جمعة، وإن بقي وحده فإن كان في الركعة الأولى يتمها أربعًا وإن انتقص من العدد واحد، وبه قال أبو حنيفة في العدد الذي شرطه كالمسبوق إذا أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة فإذا سلم الإمام أتمها جمعة وإن أدرك أقل من ركعة أتمها أربعًا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ‏}‏ أي ما عند الله من الثواب على الصلاة والثبات مع النبي صلى الله عليه وسلم خير من اللهو ومن التجارة ‏{‏وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ‏}‏ لأنه موجد الأرزاق فإياه فاسئلوا ومنه فاطلبوا‏.‏

سورة المنافقون

مدنية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 4‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ‏(‏1‏)‏ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏2‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ‏(‏3‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يؤْفَكُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ‏}‏ يعني عبدَ الله بن أبي بن سلول وأصحابَه، ‏{‏قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ‏}‏ لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروا‏.‏ ‏{‏اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً‏}‏ سترة، ‏{‏فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ منعوا الناس عن الجهاد والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا‏}‏ أقروا باللسان إذا رأوا المؤمنين، ‏{‏ثُمَّ كَفَرُوا‏}‏ إذا خلوا إلى المشركين، ‏{‏فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ‏}‏ بالكفر، ‏{‏فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ‏}‏ الإيمان‏.‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ‏}‏ يعني أن لهم أجسامًا ومناظر، ‏{‏وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ‏}‏ فتحسب أنه صدق، قال عبد الله بن عباس‏:‏ كان عبد الله بن أبي جسيمًا فصيحًا ذلق اللسان، فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله‏.‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ‏}‏ أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام‏.‏ قرأ أبو عمرو والكسائي‏:‏ ‏"‏خُشْب‏"‏ بسكون الشين، وقرأ الباقون بضمها‏.‏

‏{‏مُسَنَّدَةٌ‏}‏ ممالة إلى جدار، من قولهم‏:‏ أسندت الشيء، إذا أَمَلْتُه، والتثقيل للتكثير، وأراد أنها ليست بأشجار تثمر، ولكنها خشب مسندة إلى حائط، ‏{‏يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي لا يسمعون صوتًا في العسكر بأن نادى منادٍ أو انفلتت دابة وأنشدت ضالة، إلا ظنوا - من جبنهم وسوء ظنهم - أنهم يرادون بذلك، وظنوا أنهم قد اتوا، لما في قلوبهم من الرعب‏.‏

وقيل‏:‏ ذلك لكونهم على وجل من أن ينزل الله فيهم أمرا يهتك أستارهم ويبيح دماءهم ثم قال‏:‏ ‏{‏هُمُ الْعَدُوُّ‏}‏ وهذا ابتداء وخبره، ‏{‏فَاحْذَرْهُمْ‏}‏ ولا تأمنهم، ‏{‏قَاتَلَهُمُ اللَّهُ‏}‏ لعنهم الله ‏{‏أَنَّى يؤْفَكُونَ‏}‏ يصرفون عن الحق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5 - 6‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ‏(‏5‏)‏ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ‏}‏ أي عطفوا وأعرضُوا بوجوههم رغبة عن الاستغفار‏.‏ قرأ نافع ويعقوب ‏"‏لَووَا‏"‏ بالتخفيف، وقرأ الآخرون بالتشديد، لأنهم فعلوه مرة بعد مرة‏.‏

‏{‏وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ‏}‏ يعرضون عما دُعُوا إليه، ‏{‏وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ‏}‏ متكبرون عن استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم‏.‏ ‏{‏سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُم‏}‏ يا محمد، ‏{‏أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ذكر محمد بن إسحاق وغيره عن جماعة، من أصحاب السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَلَغُه‏:‏ أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو ‏[‏جويرة‏]‏ زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المُرَيْسيع من ناحية قُدَيْد إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا فهزم الله بني المصطلق، وقتل من قتل منهم، ونقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءها ‏[‏عليهم‏]‏ فبينما الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار، يقال له جهجاه بن سعيد الغفاري يقود له فرسه فازدحم جهجاه وسنان بن وبرة الجهني، حليف بني عوف بن الخزرج، على ‏[‏ذلك‏]‏ الماء فاقتتلا فصرخ الجهني‏:‏ يا معشر الأنصار‏!‏ وصرخ الغفاري‏:‏ يا معشر المهاجرين‏!‏ وأعان جهجاهًا الغفاريَّ رجلٌ من المهاجرين يقال له جُعال، وكان فقيرًا، فغضب عبدُ الله بن أبيٍّ ابنُ سلولَ وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم، غلام حديث السن، فقال ابن أُبيّ‏:‏ أفعَلوها‏؟‏ فقد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما مَثَلُنا ومثلُهم إلا كما قال القائل‏:‏ سِّمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُّ منها الأذَّل‏.‏ يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم أقبل على من حضره من قومه فقال‏:‏ هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، ولتحولوا إلى غير بلادكم، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضُّوا من حول محمد، فقال زيد بن أرقم‏:‏ أنت - والله - الذليل القليل المبغض في قومك، محمد صلى الله عليه وسلم في عزّ من الرحمن ومودة من المسلمين، فقال عبد الله بن أبي‏:‏ اسكت، فإنما كنت ألعب‏.‏ قال‏:‏ فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏[‏وذلك‏]‏ بعد فراغه من الغدو، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال‏:‏ دعني أضرب عنقه يا رسول الله قال‏:‏ كيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه‏؟‏ ولكن أذّن بالرحيل وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها فارتحل الناس‏.‏

وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبيٍّ فأتاه فقال‏:‏ أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني‏؟‏ فقال عبد الله‏:‏ والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئًا من ذلك، وإن زيدًا لكاذبٌ، وكان عبد الله في قومه شريفًا عظيمًا، فقال من حضر من الأنصار من أصحابه‏:‏ يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قاله‏.‏ فَعَذَره النبي صلى الله عليه وسلم وفَشَتِ المَلامةُ في الأنصار لزيد، وكذَّبوه، وقال له عمه ‏[‏وكان زيد معه‏]‏ ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناسُ مَقَتُوك، وكان زيد يساير النبي صلى الله عليه وسلم فاستحيا بعد ذلك أن يدنو من النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

فلما استقلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، ثم قال‏:‏ يا رسول الله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها‏.‏

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أوما بلغك ما قال صاحبكم عبد الله بن أبي‏؟‏ قال‏:‏ وما قال‏؟‏ قال‏:‏ زعم إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل‏.‏ فقال أسيد‏:‏ فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم قال‏:‏ يا رسول الله ارفق به فوالله لقد جاء الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكًا‏.‏

وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي، لما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فَمُرْني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمتِ الخزرج ما كان بها رجلٌ أبرَّ بوالديه مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر، فأدخل النار‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا‏.‏

قالوا‏:‏ وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ‏[‏ثم نزل بالناس‏]‏ فلم يكن إلا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نيامًا‏.‏ وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبي‏.‏ ثم راح بالناس حتى نزل ‏[‏على ماء بِـ‏]‏ الحجاز فُوَيْقَ النَّقِيع، يقال له نقعًا فهاجت ريح شديدة آذتهم وتخوَّفوها وضلت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك ليلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تخافوا فإنما هبَّتْ لموت عظيم من عظماء الكفار توفي بالمدينة، قيل‏:‏ من هو، قال‏:‏ رفاعة بن زيد بن التابوت، فقال رجل من المنافقين‏:‏ كيف يزعم أنه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته‏؟‏ ألا يخبره الذي يأتيه بالوحي‏!‏ فأتاه جبريل فأخبره بقول المنافق وبمكان الناقة، وأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وقال‏:‏ ما أزعم أني أعلم الغيب وما أعلمه، ولكن الله أخبرني بقول المنافق وبمكان ناقتي، هي في الشِّعب قد تعلق زمامها بشجرة فخرجوا يسعَوْن قِبَل الشعب فإذا هي كما قال، فجاءوا بها وآمن ذلك المنافق‏.‏

فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت قد مات ذلك اليوم، وكان من عظماء اليهود وكهفًا للمنافقين، فلما وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قال زيد بن أرقم‏:‏ جلست في البيت لما بي من الهمِّ والحياء، فأنزل الله تعالى سورة المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله‏.‏ فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد وقال‏:‏ ‏"‏يا زيد إن الله صدقك وأوفى بأذنك‏"‏‏.‏

وكان عبد الله بن أُبيّ بقرب المدينة، فلما أراد أن يدخلها جاءه ابنه عبد الله بن عبد الله حتى أناخ على مجامع طرق المدينة، فلما جاء عبد الله بن أبي قال‏:‏ ‏[‏وراءك، قال‏:‏‏]‏ مالك ويلك‏؟‏ قال‏:‏ لا والله لا تدخلها أبدًا إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتعلمن اليوم من الأعز من الأذل، فشكا عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع ابنه، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خلِّ عنه حتى يدخل، فقال‏:‏ أما إذا جاء أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنعم، فدخل فلم يلبث إلا أيامًا قلائل حتى اشتكى ومات‏.‏

قالوا‏:‏ فلما نزلت الآية وبان كذب عبد الله بن أبي قيل له‏:‏ يا أبا حباب إنه قد نزل فيك أي شداد فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك، فلوى رأسه ثم قال‏:‏ أمرتموني أن أؤمن فآمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت فما بقي إلا أن أسجد لمحمد فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏"‏وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم‏"‏ الآية‏.‏ ونزل‏:‏ ‏{‏هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7 - 8‏]‏

‏{‏هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ ‏(‏7‏)‏ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا‏}‏ يتفرقوا، ‏{‏وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ‏}‏ فلا يعطي أحد أحدًا شيئًا إلا بإذنه ولا يمنعه إلا بمشيئته، ‏{‏وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ‏}‏ أن أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون‏.‏ ‏{‏يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ‏}‏ من غزوة بني المصطلق، ‏{‏لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ فعزة الله‏:‏ قهره من دونه، وعزة رسوله‏:‏ إظهار دينه على الأديان كلها، وعزة المؤمنين‏:‏ نصر الله إياهم على أعدائهم‏.‏ ‏{‏وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ‏}‏، ذلك ولو علموا ما قالوا هذه المقالة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9 - 10‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏9‏)‏ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ‏}‏، لا تشغلكم ‏{‏أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏، قال المفسرون يعني الصلوات الخمس، نظيره قوله‏:‏ ‏"‏لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله‏"‏ ‏[‏النور - 37‏]‏ ‏{‏وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ‏}‏، أي من شغله ماله وولده عن ذكر الله ‏{‏فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏‏.‏ ‏{‏وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُم‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ يريد زكاة الأموال، ‏{‏مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ‏}‏، فيسأل الرجعة، ‏{‏فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي‏}‏، هلا أخرتني أمهلتني‏.‏ وقيل‏:‏ ‏"‏لا‏"‏ صلة، فيكون الكلام بمعنى التَّمني، أي‏:‏ لو أخرتني، ‏{‏إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ‏}‏، فأتصدق وأزكي مالي، ‏{‏وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏، أي من المؤمنين‏.‏

نظيره قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ومن صلح من آبائهم‏"‏ ‏[‏الرعد – 23‏]‏ ‏[‏غافر – 8‏]‏، هذا قول مقاتل وجماعة‏.‏ وقالوا‏:‏ نزلت الآية في المنافقين‏.‏ وقيل‏:‏ ‏[‏نزلت‏]‏ الآية في المؤمنين‏.‏

والمراد بالصلاح هنا‏:‏ الحج‏.‏ وروى الضحاك، وعطية عن ابن عباس قال‏:‏ ما من أحد يموت وكان له مال لم يؤد زكاته وأطاق الحج فلم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت‏.‏ وقرأ هذه الآية وقال‏:‏ ‏"‏وأكن من الصالحين‏"‏ قرأ أبو عمرو ‏"‏وأكونَ‏"‏ بالواو ونصب النون على جواب التمني وعلى لفظ فأصدق، قال‏:‏ إنما حذفت الواو من المصحف اختصارا‏.‏

وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏وأكنْ‏"‏ بالجزم عطفًا على قوله ‏"‏فأصدَّق‏"‏ لو لم يكن فيه الفاء، لأنه لو لم يكن فيه فاء كان جزمًا‏.‏ يعني‏:‏ إن أخرتني أصدق وأكن، ولأنه مكتوب في المصحف بحذف الواو‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ قرأ أبو بكر‏:‏ ‏"‏يعملون‏"‏ بالياء وقرأ الآخرون بالتاء‏.‏