فصل: سورة الشمس

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


سورة الشمس

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 6‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ‏(‏1‏)‏ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا ‏(‏2‏)‏ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا ‏(‏3‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ‏(‏4‏)‏ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ‏(‏5‏)‏ وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا‏}‏ قال مجاهد والكلبي‏:‏ ضوءها، والضحى‏:‏ حين تطلع الشمس، فيصفو ضوءها، قال قتادة‏:‏ هو النهار كله‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ حرُّها، كقوله في طه ‏"‏ولا تضحى‏"‏، يعني لا يؤذيك الحر‏.‏ ‏{‏وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا‏}‏ تبعها، وذلك في النصف الأول من الشهر، إذا غربت الشمس تلاها القمر في الإضاءة وخلفها في النور‏.‏ وقال الزجَّاج‏:‏ وذلك حين استدار، يعني كمل ضوءه تابعًا للشمس في الإنارة وذلك في الليالي البيض‏.‏ ‏{‏وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا‏}‏ يعني إذا جلَّى الظلمة، كناية عن غير مذكور لكونه معروفًا‏.‏ ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا‏}‏ يعني يغشى الشمس حين تغيب فتظلم الآفاق‏.‏ ‏{‏وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا‏}‏ قال ‏[‏الكلبي‏]‏‏.‏ ‏:‏ ومن بناها، وخلقها كقوله‏:‏ ‏"‏فانكحوا ما طاب لكم من النساء‏"‏‏.‏ ‏(‏النساء - 3‏]‏ أي من طاب‏.‏

قال عطاء‏:‏ والذي بناها‏.‏ وقال الفَّراء والزجَّاج‏:‏ ‏"‏ما‏"‏ بمعنى المصدر، أي وبنائها كقوله‏:‏ ‏"‏بما غفر لي ربي‏"‏ ‏[‏يس - 27‏]‏‏.‏ ‏{‏وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا‏}‏ بسطها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7 - 8‏]‏

‏{‏وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ‏(‏7‏)‏ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا‏}‏ عدَّل خلقها وسوَّى أعضاءها‏.‏ قال عطاء‏:‏ يريد جميع ما خلق من الجن والإنس‏.‏ ‏{‏فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏ قال ابن عباس في رواية على بن أبي طلحة‏:‏ بيَّن لها الخير والشر‏.‏ وقال في رواية عطية‏:‏ علَّمها الطاعة والمعصية، وروى الكلبي عن أبي صالح عنه‏:‏ عرفها ما تأتي من الخير وما تتقي ‏[‏من الشر‏]‏‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ ألزمها فجورها وتقواها‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ جعل فيها ذلك، يعني بتوفيقه إياها للتقوى، وخذلانه إياها للفجور‏.‏ واختار الزجَّاج هذا، وحمل الإلهام على التوفيق والخذلان، وهذا يبين أن الله عز وجل خلق في المؤمن التقوى وفي الكافر الفجور‏.‏

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أنا ‏[‏أحمد بن‏]‏ محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين بن عبد الله، حدثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله أخبرنا عبد الله بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن إبراهيم، أخبرنا عروة بن ثابت الأنصاري، حدثنا يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر، عن الأسود الديلي قال‏:‏ قال لي عمران بن حصين‏:‏ أَرَأَيْتَ ما يعمل الناس ‏[‏ويتكادحون‏]‏ فيه أشيءٌ قُضِيَ عليهم ومضى فيهم من قَدَرٍ سبق‏؟‏ أو فيما يُسْتَقْبَلُونَ به مما آتاهم به نبيهم وأُكِّدَت عليهم الحجة‏؟‏ قلت‏:‏ بل شيء قد قُضِيَ عليهم، قال‏:‏ فهل يكون ذلك ظلمًا‏؟‏ قال‏:‏ ففزعت منه فزعًا شديدًا، وقلت‏:‏ إنه ليس شيء إلا وهو خَلْقُه ومِلْك، يدِه لا يُسْأَل عما يفعل وهم يُسْأَلون، فقال لي‏:‏ سدَّدك الله، إنما سألتك لأختبر عقلك ‏[‏إن رجلا من جهينة أو مزينة‏]‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس ويتكادحون فيه أشيءٌ قضي عليهم ومضى فيهم من قدر سبق‏؟‏ أو فيما يُسْتَقْبَلُونَ به مما أتاهم نبيهم وأُكِّدت به عليهم الحجة‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏لا بل شيء قد قضي عليهم ومضى فيهم‏"‏، قال قلت‏:‏ ففيم العمل إذًا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يهيئه الله لها، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها‏"‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، حدثنا علي بن الجعد، حدثنا زهير بن معاوية عن أبي الزبير، عن جابر قال‏:‏ جاء سُراقة بن مالك بن جُعْشُم فقال‏:‏ يا رسول الله بيّن لنا ديننا كأنا خُلقنا الآن، أرأيتَ عمرتنا هذه ألعامنا هذا أم للأبد‏؟‏ قال‏:‏ بل للأبد، قال‏:‏ يا رسول الله بين لنا ديننا كأننا خلقنا الآن فيمَ العمل، اليومَ، فيما جفَّتْ به الأقلام وجرت به المقادير‏؟‏ أو فيما يستقبل‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا بل فيما جفَّت به الأقلام وجرت به المقادير‏"‏، قال‏:‏ ففيمَ العمل‏؟‏ فقال زهير‏:‏ فقال كلمة خفيت عليَّ، فسألت عنها نسبتي بعد، فذكر أنه سمعها، فقال‏:‏ ‏"‏اعملوا فإن كُلا ميسرٌ لما خُلِقَ له‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9 - 11‏]‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ‏(‏9‏)‏ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ‏(‏10‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا‏}‏ وهذا موضع القسم، أي فازت وسعدت نفسٌ زكاها الله، أي أصلحها وطهرها من الذنوب ووفقها للطاعة‏.‏ ‏{‏وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا‏}‏ أي خابت وخسرت نفس أضلها الله فأفسدها‏.‏

وقال الحسن‏:‏ معناه قد أفلح من زكى نفسه فأصلحها وحملها على طاعة الله عز وجل، ‏"‏وقد خاب من دساها‏"‏ أهلكها وأضلها وحملها على المعصية، فجعل الفعل للنفس‏.‏

و‏"‏دساها‏"‏ أصله‏:‏ دسسها من التدسيس، وهو إخفاء الشيء، فأبدلت السين الثانية ياء‏.‏

والمعنى هاهنا‏:‏ أخملها وأخفى محلها بالكفر والمعصية‏.‏

أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني، أخبرنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم أبو بكر الجوربذي، حدثنا أحمد بن حرب، حدثنا أبو معاوية عن عاصم، عن أبي عثمان وعبد الله بن الحارث، عن زيد بن أرقم قال‏:‏ لا أقول لكم إلا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا‏:‏ ‏"‏اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والبخل والجبن والهمِّ وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن نفس لا تشبع، ومن قلب لا يخشع، ومن دعوة لا يستجاب لها‏"‏‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا‏}‏ بطغيانها وعدوانها، أي الطغيان حملهم على التكذيب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12 - 15‏]‏

‏{‏إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا ‏(‏12‏)‏ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ‏(‏13‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا ‏(‏14‏)‏ وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا‏}‏ أي قام، والإنبعاث‏:‏ هو الإسراع في الطاعة للباعث، أي‏:‏ كذبوا بالعذاب، وكذبوا صالحًا لما انبعث أشقاها وهو‏:‏ قُدَار، بن سالف، وكان أشقر أزرق ‏[‏العينين‏]‏ قصيرًا قام لعقر الناقة‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل ‏[‏أخبرنا موسى بن إسماعيل‏]‏، حدثنا وهيب، حدثنا هشام عن أبيه أنه أخبره عبد الله بن زمعة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب وذكر الناقة والذي عقرها فقال ‏[‏رسول الله صلى الله عليه وسلم‏]‏‏:‏ ‏"‏إذ انبعث أشقاها‏"‏، انبعث لها رجل عزيز ‏[‏عارم‏]‏ منيع في أهله مثل أبي زَمَعَة‏"‏‏.‏ ‏{‏فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ‏}‏ صالح عليه السلام، ‏{‏نَاقَةُ اللَّهِ‏}‏ أي احذروا عقر ناقة الله‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ منصوب على معنى‏:‏ ذروا ناقة الله، ‏{‏وَسُقْيَاهَا‏}‏ شربها، أي‏:‏ ذروا ناقة الله وذروا شربها من الماء، ‏[‏فلا تعرضوا‏]‏ للماء يوم شربها‏.‏ ‏{‏فَكَذَّبُوه‏}‏ يعني صالحًا، ‏{‏فَعَقَرُوهَا‏}‏ يعني الناقة‏.‏

‏{‏فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ‏}‏ قال عطاء ومقاتل‏:‏ فدمر عليهم ربهم فأهلكهم‏.‏ قال المُؤرِّج‏:‏ الدمدمة إهلاك باستئصال‏.‏ ‏{‏بِذَنْبِهِمْ‏}‏ بتكذيبهم الرسول وعقرهم الناقة، ‏{‏فَسَوَّاهَا‏}‏ فسوَّى الدمدمة عليهم جميعًا، وعمهم بها فلم يَفْلِتَ منهم أحد‏.‏ وقال الفرَّاء‏:‏ سوَّى الأمة وأنزل العذاب بصغيرها وكبيرها، يعني سوَّى بينهم‏.‏ ‏{‏وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا‏}‏ قرأ أهل المدينة والشام‏:‏ ‏"‏فلا‏"‏ بالفاء وكذلك هو في مصاحفهم، وقرأ الباقون بالواو، وهكذا في مصاحفهم ‏{‏عقباها‏}‏ عاقبتها‏.‏

قال الحسن‏:‏ معناه‏:‏ لا يخاف الله من أحد تبعةً في إهلاكهم‏.‏ وهي رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

وقال الضحاك، والسدي، والكلبي‏:‏ هو راجع إلى العاقر، وفي الكلام تقديم وتأخير، وتقديره‏:‏ إذ انبعث أشقاها ولا يخاف عقباها‏.‏

سورة الليل

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 6‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ‏(‏1‏)‏ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ‏(‏2‏)‏ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى ‏(‏3‏)‏ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ‏(‏4‏)‏ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ‏(‏5‏)‏ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى‏}‏ أي يغشى النهار بظلمة فيذهب بضوئه‏.‏ ‏{‏وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى‏}‏ بان وظهر من بين الظلمة‏.‏ ‏{‏وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى‏}‏ يعني‏:‏ ومن خلق، قيل هي ‏"‏ما‏"‏ المصدرية أي‏:‏ وخلق الذكر والأنثى، قال مقاتل والكلبي‏:‏ يعني آدم وحواء‏.‏ وفي قراءة ابن مسعود، وأبي الدرداء‏:‏ والذكر والأنثى‏.‏ جواب القسم قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى‏}‏ إن أعمالكم لمختلفة، فساعٍ في فكاك نفسه، وساعٍ في عطبها‏.‏

روى أبو مالك الأشعري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كلّ، الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقُها أو مُوِبقُها‏"‏‏.‏ ‏{‏فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى‏}‏ ماله في سبيل الله، ‏{‏وَاتَّقَى‏}‏ ربه‏.‏ ‏{‏وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى‏}‏ قال أبو عبد الرحمن السلمي والضحاك‏:‏ وصدق بلا إله إلا الله، وهي رواية عطية عن ابن عباس‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ بالجنة دليله‏:‏ قوله تعالى ‏"‏للذين أحسنوا الحسنى‏"‏ يعني الجنة‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏صدق بالحسنى‏"‏‏:‏ أي بالخلف، أي أيقن أن الله تعالى سيخلفه‏.‏ وهي رواية عكرمة عن ابن عباس‏.‏

وقال قتادة ومقاتل والكلبي‏:‏ بموعود الله عز وجل الذي وعده أن يثيبه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7 - 10‏]‏

‏{‏فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ‏(‏8‏)‏ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ‏(‏9‏)‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏فَسَنُيَسِّرُه‏}‏ فسنهيئه في الدنيا، ‏{‏لِلْيُسْرَى‏}‏ أي للخَلَّة اليسرى، وهي العمل بما يرضاه الله عز وجل‏.‏ ‏{‏وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ‏}‏ بالنفقة في الخير، ‏{‏وَاسْتَغْنَى‏}‏ عن ثواب الله فلم يرغب فيه ‏{‏وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى‏}‏ سنهيئه للشر بأن نجريه على يديه حتى يعمل بما لا يرضي الله، فيستوجب به النار‏.‏ قال مقاتل‏:‏ نعسر عليه أن يأتي خيرًا‏.‏

وروينا عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ما من نفس منفوسة إلا ‏[‏كتب الله‏]‏ مكانها من الجنة أو النار‏"‏ فقال رجل‏:‏ أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا ولكن اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل الشقاء فييسرون لعمل أهل الشقاء، وأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة‏"‏، ثم تلا ‏"‏فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى‏"‏‏.‏

قيل‏:‏ نزلت في أبي بكر الصديق اشترى بلالا من أمية بن خلف ببردة وعشرة أواق، فأعتقه فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏"‏والليل إذا يغشى‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏إن سعيكم لشتى‏"‏ يعني‏:‏ سعي أبي بكر وأمية‏.‏

وروى علي بن حجر عن إسحاق عن أبي نجيح عن عطاء، قال‏:‏ كان لرجل من الأنصار نخلة وكان له جار يسقط من بلحها في دار جاره، وكان صبيانه يتناولون منه، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏بعنيها بنخلة في الجنة‏"‏ فأبى، فخرج فلقيه أبو الدحداح، فقال له‏:‏ هل لك أن تبيعها بحَشِ ‏[‏البستان‏]‏، يعني حائطا له، فقال له‏:‏ هي لك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله أتشتريها مني بنخلة في الجنة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏ قال‏:‏ هي لك، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم جار الأنصاري

فقال‏:‏ ‏"‏خذها‏"‏‏.‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏"‏والليل إذا يغشى‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏إن سعيكم لشتى‏"‏ ‏[‏سعي أبي‏]‏ الدحداح والأنصاري صاحب النخلة‏.‏

‏{‏فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى‏}‏ ‏[‏يعني أبا‏]‏ الدحداح، ‏{‏وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏الثواب‏]‏ ‏{‏فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى‏}‏ يعني الجنة، ‏{‏وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى‏}‏ يعني الأنصاري، ‏{‏وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى‏}‏ يعني الثواب، ‏{‏فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى‏}‏ يعني النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11 - 17‏]‏

‏{‏وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ‏(‏11‏)‏ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ‏(‏12‏)‏ وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأولَى ‏(‏13‏)‏ فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ‏(‏14‏)‏ لا يَصْلاهَا إِلا الأشْقَى ‏(‏15‏)‏ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏16‏)‏ وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ‏}‏ الذي بخل به، ‏{‏إِذَا تَرَدَّى‏}‏ قال مجاهد‏:‏ إذا مات‏.‏ وقال قتادة وأبو صالح‏:‏ هوى في جهنم‏.‏ ‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى‏}‏ يعني البيان‏.‏ قال الزجَّاج‏:‏ علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال، وهو قول قتادة، قال‏:‏ على الله بيان حلاله وحرامه‏.‏

قال الفراء‏:‏ يعني من سلك الهدى فعلى الله سبيله كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وعلى الله قصد السبيل‏"‏ ‏[‏النحل - 9‏]‏ يقول‏:‏ من أراد الله فهو على السبيل القاصد‏.‏

وقيل معناه‏:‏ إن علينا للهدى والإضلال كقوله‏:‏ ‏"‏بيدك الخير‏"‏ ‏[‏آل عمران - 26‏]‏ ‏[‏فاقتصر على الهدى لدلالة الكلام عليه كقوله‏:‏ ‏"‏سرابيل تقيكم الحر‏"‏ ‏[‏النحل - 81‏]‏ فاقتصر على ذكر الحر ولم يذكر البرد لأنه يدل عليه‏]‏‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأولَى‏}‏ فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق‏.‏ ‏{‏فَأَنْذَرْتُكُم‏}‏ يا أهل مكة، ‏{‏نَارًا تَلَظَّى لا يَصْلاهَا إِلا الأشْقَى‏}‏ أي‏:‏ تتلظى، يعني تتوقد وتتوهج‏.‏ ‏{‏الَّذِي كَذَّبَ‏}‏ الرسول، ‏{‏وَتَوَلَّى‏}‏ عن الإيمان‏.‏ ‏{‏وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى‏}‏ يريد بالأشقى الشقي، وبالأتقى التقي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ‏}‏ يعطي مالهُ ‏{‏يَتَزَكَّى‏}‏ يطلب أن يكون عند الله زاكيًا لا رياء ولا سمعة، يعني أبا بكر الصديق، في قول الجميع‏.‏

قال ابن الزبير‏:‏ كان أبو بكر يبتاع الضعفة فيعتقهم، فقال أبوه‏:‏ أيْ بنيَّ لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك‏؟‏ قال‏:‏ مَنْعَ ظهري أريد، فنزل‏:‏ ‏"‏وسيجنبها الأتقى‏"‏، إلى آخر السورة‏.‏

وذكر محمد بن إسحاق قال‏:‏ كان بلال لبعض بني جمح وهو بلال بن رباح واسم أمه حمامة، وكان صادق الإسلام طاهر القلب، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره ببطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له‏:‏ لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، فيقول وهو في ذلك البلاء‏:‏ أحد أحد‏.‏

وقال محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه قال‏:‏ مرّ به أبو بكر يومًا وهم يصنعون به ذلك، وكانت دار أبي بكر في بني جمح، فقال لأمية ألا تتقي الله تعالى في هذا المسكين‏؟‏ قال‏:‏ أنت أفسدته فأنقذه مما ترى، قال أبو بكر‏:‏ أفعل‏!‏ عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى، على دينك، أعطيك‏؟‏ قال‏:‏ قد فعلت فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذه فأعتقه، ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر ستَّ ‏[‏رقاب‏]‏، بلال سابعهم، عامر بن فهيرة شهد بدرًا وأحدًا، وقتل يوم بئر معونة شهيدًا، وأم عميس، وزِنيِّرة فأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش‏:‏ ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى ‏[‏فقالت‏:‏ كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى‏]‏، وما تنفعان فرد الله إليها بصرها، وأعتق النهدية وابنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما تحطبان لها وهي تقول والله لا أعتقكما أبدًا‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ خلا يا أم فلان، فقالت‏:‏ خلا أنت أفسدتهما فأعتقهما، قال ‏[‏أبو بكر رضي الله عنه‏]‏ فبكم‏؟‏ قالت‏:‏ بكذا وكذا، قال‏:‏ قد أخذتهما وهما حرتان، ومر بجارية بني المؤمل وهي تعذب فابتاعها فأعتقها‏.‏

وقال سعيد بن المسيب‏:‏ بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر في بلال حين قال‏:‏ أتبيعه‏؟‏ قال‏:‏ نعم أبيعه بنسطاس عبدٍ لأبي بكر، صاحب عشرة آلاف دينار، وغلمان وجوار ومواش، وكان مشركًا حمله أبو بكر على الإسلام على أن يكون ماله له، فأبى فأبغضه أبو بكر، فلما قال له أمية أبيعه بغلامك نسطاس اغتنمه وباعه منه، فقال المشركون‏:‏ ما فعل ذلك أبو بكر ببلال إلا ليدٍ كانت لبلال عنده فأنزل الله‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19 - 21‏]‏

‏{‏وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ‏(‏19‏)‏ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى ‏(‏20‏)‏ وَلَسَوْفَ يَرْضَى ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى‏}‏ أي يجازيه ويكافئه عليها‏.‏ ‏{‏إِلا‏}‏ لكن ‏{‏ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى‏}‏ يعني‏:‏ لا يفعل ذلك مجازاة لأحد بيدٍ له عنده، ولكنه يفعله ابتغاء وجه ربه الأعلى وطلب رضاه‏.‏ ‏{‏وَلَسَوْفَ يَرْضَى‏}‏ بما يعطيه الله عز وجل في الآخرة من الجنة والكرامة جزاء على ما فعل‏.‏

سورة الضحى

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 3‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَالضُّحَى ‏(‏1‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ‏(‏2‏)‏ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ‏(‏3‏)‏‏}‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا الأسود بن قيس قال‏:‏ سمعت جندب بن سفيان قال‏:‏ اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثًا فجاءت امرأة فقالت‏:‏ يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى‏}‏‏.‏

وقيل‏:‏ إن المرأة التي قالت ذلك أم جميل امرأة أبي لهب‏.‏

وقال المفسرون سألت اليهود، رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين وأصحاب الكهف وعن الروح‏؟‏ فقال‏:‏ سأخبركم غدًا، ولم يقل‏:‏ إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي‏.‏

وقال زيد بن أسلم‏:‏ كان سبب احتباس جبريل عليه السلام عنه كون جَرْوٍ في بيته، فلما نزل عاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبطائه، فقال‏:‏ إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ‏[‏أو‏]‏ صورة‏.‏

واختلفوا في مدة احتباس الوحي عنه، فقال ابن جريج‏:‏ اثنا عشر يومًا‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ خمسة عشر يومًا‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ أربعون يومًا‏.‏

قالوا‏:‏ فقال المشركون‏:‏ إن محمدًا ودّعه ربه وقلاه، فأنزل الله تعالى هذه السورة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا جبريل ما جئت حتى اشتقت إليك‏"‏، فقال جبريل‏:‏ ‏"‏إني كنت أشدَّ شوقًا ‏[‏إليك‏]‏، وكلني عبدٌ مأمور‏"‏، فأنزل‏:‏ ‏"‏وما نتنزل إلا بأمر ربك‏"‏ ‏[‏مريم - 64‏]‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالضُّحَى‏}‏ أقسم بالضحى وأراد به النهار كله، بدليل أنه قابله بالليل ‏[‏فقال والليل‏]‏ إذا سجى، نظيره‏:‏ قوله‏:‏ ‏"‏أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى‏"‏ ‏[‏الأعراف - 98‏]‏ أي نهارًا‏.‏

وقال قتادة ومقاتل‏:‏ يعني وقت الضحى، وهي الساعة التي فيها ارتفاع الشمس، واعتدال النهار في الحر والبرد والصيف والشتاء‏.‏ ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى‏}‏ قال الحسن‏:‏ أقبل بظلامه، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، وقال الوالبي عنه‏:‏ إذا ذهب، قال عطاء والضحاك‏:‏ غطى كل شيء بالظلمة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ استوى‏.‏ وقال قتادة وابن زيد‏:‏ سكن واستقر ظلامه فلا يزداد بعد ذلك‏.‏ يقال‏:‏ ليل ساج وبحر ساج ‏[‏إذا كان ساكنًا‏]‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى‏}‏ هذا جواب القسم، أي ما تركك منذ اختارك ولا أبغضك منذ أحبك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولَى ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولَى‏}‏ حدثنا المطهر بن علي الفارسي، أخبرنا محمد بن إبراهيم ‏[‏الصالحاني‏]‏، أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر أبو الشيخ الحافظ، أخبرنا ابن أبي عاصم، أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة، أخبرنا معاوية بن هشام عن علي بن صالح عن يزيد بن زياد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5 - 6‏]‏

‏{‏وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى‏}‏ قال عطاء عن ابن عباس‏:‏ هو الشفاعة في أمته حتى يرضى، وهو قول علي والحسن‏.‏

وروينا عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله‏:‏ يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسؤءك فيهم‏"‏‏.‏

وقال حرب بن شريح سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقول‏:‏ إنكم يا معشر أهل العراق تقولون‏:‏ أرجى آية في القرآن‏:‏ ‏"‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله‏"‏، وإنا أهل البيت نقول‏:‏ أرجى آية في كتاب الله ‏"‏ولسوف يعطيك ربك فترضى‏"‏ من الثواب‏.‏ وقيل‏:‏ من النصر والتمكين وكثرة المؤمنين، ‏{‏فَتَرْضَى‏}‏

ثم أخبره الله عز وجل عن حالته التي كان عليها قبل الوحي، وذكَّره نعمه فقال جل ذكره‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى‏}‏ أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي فقال‏:‏ أنبأني عبد الله بن حامد الأصفهاني، أخبرنا محمد بن عبد الله النيسابوري، حدثنا محمد بن عيسى أنا أبو عمرو الجويني وأبو الربيع الزهراني قالا حدثنا حماد بن زيد عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏سألت ربي مسألة وودت أني لم أكن سألته، قلت‏:‏ يا رب إنك آتيت سلميان بن داود ملكًا عظيمًا، وآتيت فلانا كذا وآتيت فلانا كذا‏؟‏ قال‏:‏ يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك‏؟‏ قلت‏:‏ بلى، أيْ ربِّ ‏[‏قال‏:‏ ألم أجدك ضالا فهديتك‏؟‏ قلت‏:‏ بلى أيْ ربِّ، قال‏:‏ ألم أجدك عائلا فأغنيتك‏؟‏ قلت‏:‏ بلى أيْ ربِّ‏"‏، وزاد غيره عن حماد قال‏:‏ ألم أشرح لك صدرك ووضعتُ عنك وزرك‏؟‏ قلت‏:‏ بلى أيْ ربِّ‏]‏‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ ألم يجدك يتيمًا صغيرًا فقيرًا حين مات أبواك ولم يخلِّفا لك مالا ولا مأوى، فجعلت لك مأوىً تأوي إليه، وضمَّك إلى عمك أبي طالب حتى أحسن تربيتك وكفاك المؤنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7 - 8‏]‏

‏{‏وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى ‏(‏7‏)‏ وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَوَجَدَكَ ضَالا‏}‏ يعني ضالا عما أنت عليه ‏{‏فَهَدَى‏}‏ أي‏:‏ فهداك للتوحيد والنبوة‏.‏

قال الحسن والضحاك وابن كيسان‏:‏ ‏"‏ووجدك ضالا‏"‏ عن معالم النبوة وأحكام الشريعة غافلا عنها، فهداك إليها، ‏[‏كما قال‏]‏ ‏"‏وإن كنت من قبله لمن الغافلين‏"‏ ‏[‏يوسف - 3‏]‏ وقال‏:‏ ‏"‏ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان‏"‏ ‏[‏الشورى - 52‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ ضالا في شعاب مكة فهداك إلى جدك عبد المطلب وروى أبو الضحى عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ضل في شعاب مكة وهو صبي صغير، فرآه أبو جهل منصرفا عن أغنامه فرده إلى عبد المطلب‏.‏

وقال سعيد بن المسيب‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة فبينما هو راكب ذات ليلة ظلماء ناقةً إذ جاء إبليس فأخذ بزمام الناقة فعدل به عن الطريق، فجاء جبريل فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الحبشة، ورده إلى القافلة فمنَّ الله عليه بذلك‏.‏ وقيل‏:‏ وجدك ضالا ‏[‏ضال‏]‏ نفسك لا تدري من أنت، فعرفك نفسك وحالك‏.‏ ‏{‏وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى‏}‏ أي فقيرًا فأغناك بمال خديجة ثم بالغنائم‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ ‏[‏فأرضاك‏]‏ بما أعطاك من الرزق‏.‏ واختاره الفراء‏.‏ وقال‏:‏ لم يكن غنيًا عن كثرة المال ولكن الله ‏[‏أرضاه‏]‏ بما آتاه وذلك حقيقة الغنى‏.‏

أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي أنبأنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، حدثنا أحمد بن يوسف السلمي، حدثنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه أنه قال أخبرنا أبو هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ليس الغنى عن كثرة العرضَ، ولكن الغنى غنى النفس‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسين الزغرتاني‏.‏ أخبرنا أحمد بن سعيد أخبرنا أبو يحيى محمد بن عبد الله، حدثنا أبي، حدثني شرحبيل بن شريك عن أبي عبد الرحمن الحُبلَي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏قد أفلح من أسلم ورُزق كفافًا وقنّعه الله بما آتاه‏"‏‏.‏

ثم أوصاه باليتامى والفقراء فقال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ لا تحقر اليتيم فقد كنت يتيمًا‏.‏ وقال الفراء والزجاج‏:‏ لا تقهره على ماله فتذهب بحقه لضعفه، وكذا كانت العرب تفعل في أمر اليتامى، تأخذ أموالهم وتظلمهم حقوقهم‏.‏

أخبرنا أبو بكر محمد عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا ‏[‏عبد الله‏]‏ بن محمود، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك عن سعيد بن أبي أيوب عن يحيى ‏[‏بن‏]‏ سليمان عن يزيد بن أبي عتاب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏خَيْر بيتٍ في المسلمين بيتٍ فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيتٌ فيه يتيم يُساء إليه‏"‏، ثم قال بأصبعيه‏:‏ ‏"‏أنا وكافل اليتيم ‏[‏في الجنة‏]‏ هكذا ‏[‏وهو يشير‏]‏ بأصبعيه ‏[‏السبابة والوسطى‏]‏ ‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10 - 11‏]‏

‏{‏وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ‏(‏10‏)‏ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ‏}‏ قال المفسرون‏:‏ يريد السائل على الباب، يقول‏:‏ لا تنهره لا تزجره إذا سألك، فقد كنت فقيرًا فإما أن تطعمه وإما أن ترده ردًا لينًا، يقال‏:‏ نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره‏.‏

وقال قتادة‏:‏ رُدّ السائل برحمة ولين‏.‏ قال إبراهيم بن أدهم‏:‏ نعم القوم السُؤَّال يحملون زادنا إلى الآخرة‏.‏

وقال إبراهيم‏:‏ السائل يريد الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول‏:‏ هل توجهون إلى أهليكم بشيء‏؟‏

وروي عن الحسن في قوله‏:‏ ‏"‏أما السائل فلا تنهر‏"‏، قال‏:‏ طالب العلم‏.‏ ‏{‏وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ‏}‏ قال مجاهد يعني النبوة، روى عنه أبو بشر واختاره الزجاج وقال‏:‏ أي بلغ ما أرسلت به، وحدث بالنبوة التي آتاك ‏[‏الله‏]‏‏.‏

وقال الليث عن مجاهد‏:‏ يعني القرآن وهو قول الكلبي، أمره أن ‏[‏يقرأ به‏]‏‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ اشكر لما ذكر من النعمة عليك في هذه السورة من جبر اليتيم والهدى بعد الضلالة والإغناء بعد العيلة، والتحدث بنعمة الله شكرًا‏.‏

أخبرنا أبو سعيد بكر بن محمد بن محمد بن محمي البسطامي، حدثنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى بن سختويه، أخبرنا عبد الله بن محمد بن الحسين النصر أبادي، ‏[‏حدثنا علي بن سعيد النسوي‏]‏ أخبرنا سعيد بن عفير، حدثنا يحيى بن أيوب عن عمارة بن غزية عن شرحبيل مولى الأنصاري، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من صُنع إليه معروف فليجز به، فإن لم يجد ما يُجزي به فليثن عليهِ فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره، وإن كتمه فقد كفره، ومن تحلى بما لم يعطَ كان كلابس ثوبين من زور‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين، حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق، حدثنا أبو القاسم بن منيع، حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا وكيع عن أبي عبد الرحمن يعني القاسم بن الوليد، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر‏:‏ ‏"‏من لم يشكرِ القليلَ لم يشكر الكثيرَ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله تعالى، التحدث بنعمة الله شكر، وتركه كفر، والجماعة رحمة والفرقة عذاب‏"‏‏.‏

والسنة - في قراءة أهل مكة - أن يكبر من أول سورة ‏"‏والضحى‏"‏ على رأس كل سورة حتى يختم القرآن؛ فيقول‏:‏ الله أكبر‏.‏

قال الشيخ الإمام الأجل محيي السنة ناصر الحديث قدوة الأئمة ناشر الدين ركن الإسلام إمام الأئمة مفتي الشرق أبو محمد الحسين بن مسعود رحمه الله‏:‏ كذلك قرأته على الإمام المقرئ أبي نصر محمد بن أحمد بن علي الحامدي بمرو، قال‏:‏ قرأت على أبي القاسم طاهر بن علي الصيرفي، قال‏:‏ قرأت على أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران، قال‏:‏ قرأت على أبي علي محمد بن أحمد بن حامد الصفار المقرئ، قال‏:‏ قرأت على أبي بكر محمد بن موسى الهاشمي، قال‏:‏ قرأت على أبي ربيعة والحسين بن محمد الحداد، وهما قرءا على أبي الحسين بن أبي بزة وأخبرهما ‏[‏ابن أبي بزة‏]‏ أنه قرأ على عكرمة بن سليمان بن كثير المكي، وأخبره عكرمة أنه قرأ على شبل بن عباد وإسماعيل بن قسطنطين، وأخبراه أنهما قرأا على عبد الله بن كثير، وأخبرهما عبد الله ‏[‏بن كثير - رضي الله عنهم أجمعين‏]‏ أنه قرأ على مجاهد، وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس، وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب‏.‏

وأخبرنا الإمام المقرئ أبو نصر محمد بن أحمد بن علي وقرأت عليه بمرو، وقال‏:‏ أنا الشريف أبو القاسم علي بن محمد الزيدي بالتكبير، وقرأت عليه بثغر حران، قال‏:‏ حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن زياد الموصلي المعروف بالنقاش، وقرأت عليه بمدينة السلام، حدثنا أبو ربيعة محمد بن إسحاق الربعي، وقرأت عليه بمكة قال‏:‏ حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي ‏[‏بزة‏]‏، وقرأت عليه قال لي‏:‏ قرأته على عكرمة بن سليمان، وأخبرني أنه قرأ على إسماعيل بن قسطنطين وشبل بن عباد قال فلما بلغت ‏"‏والضحى‏"‏ قالا لي‏:‏ كبر حتى تختم، مع خاتمة كل سورة، فإنا قرأنا على ابن كثير فأمرنا بذلك، وأخبرنا أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس ‏[‏فأمره بذلك‏]‏، وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب فأمره بذلك وأخبره أبي أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بذلك‏.‏

وكان سبب التكبير أن الوحي لما احتبس قال المشركون هجره شيطانه، وودعه، فاغتم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، فلما نزل ‏"‏والضحى‏"‏ كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحا بنزول الوحي، فاتخذوه سنة‏.‏

سورة الشرح

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 4‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ‏(‏1‏)‏ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ‏(‏2‏)‏ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ‏(‏3‏)‏ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ‏}‏ ألم نفتح ونوسع ونليِّن لك قلبك بالإيمان والنبوة والعلم والحكمة‏.‏ ‏{‏وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ‏}‏ قال الحسن، ومجاهد وقتادة، والضحاك‏:‏ وحططنا عنك الذي سلف منك في الجاهلية، وهو كقوله‏:‏ ‏"‏ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏"‏ ‏[‏الفتح - 2‏]‏‏.‏

وقال الحسين بن الفضل‏:‏ يعني الخطأ والسهو‏.‏ وقيل‏:‏ ذنوب أمتك ‏[‏فأضافه‏]‏ إليه لاشتغال قلبه بهم، وقال عبد العزيز بن يحيى وأبو عبيدة‏:‏ يعني خففنا عنك أعباء النبوة والقيام بأمرها‏.‏ ‏{‏الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ‏}‏ أثقل ظهرك فأوهنه حتى سُمِعَ له نقيض، أي صوت‏.‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ‏}‏ أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرنا أبو القاسم عبد الخالق بن علي المؤذن، حدثنا أبو بكر بن حبيب، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل، حدثنا صفوان يعني ابن صالح عبد الملك، حدثنا الوليد يعني بن مسلم، حدثني عبد الله بن لهيعة عن درَّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عليه السلام عن هذه الآية ‏"‏ورفعنا لك ذكرك‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏إذا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ معي‏"‏‏.‏

وعن الحسن قال‏:‏ ‏"‏ورفعنا لك ذكرك‏"‏ إذا ذكرت، ذكرتَ ‏[‏معي‏]‏ وقال عطاء عن ابن عباس‏:‏ يريد الأذان والإقامة والتشهد والخطبة على المنابر، ولو أن عبدا عبد الله وصدّقه في كل شيء ولم يشهد أن محمدًا رسول الله لم ينتفع بشيء، وكان كافرًا‏.‏

وقال قتادة‏:‏ رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ لا تقبل صلاة ‏[‏إلا به‏]‏ ولا تجوز خطبة إلا به‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏[‏ورفعنا لك ذكرك‏]‏ يعني بالتأذين‏.‏

وفيه يقول حسان بن ثابت‏:‏

ألم تر أن الله أرسلَ عبدَه *** ببرهانه، والله أَعْلى وأمجد

أَغَرُّ عليه للنبوة خاتمٌ *** من الله مشهودٌ يَلوُحُ ويشهَدُ

وضمَّ الإلهُ اسم النبي مع اسمه *** إذا قال في الخمس المؤذنُ‏:‏ أشهدُ

وشقٌ له من اسمه لِيُجِلّه *** فذو العَرْشِ محمودٌ وهذا محمدُ‏.‏

وقيل‏:‏ رفع الله ذكره بأخذ ميثاقه على النبيين وإلزامهم الإيمان به والإقرار بفضله‏.‏

ثم وعده اليسر والرخاء بعد الشدة، وذلك أنه كان بمكة في شدة، فقال الله عز وجل‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5 - 6‏]‏

‏{‏فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا‏}‏ أي مع الشدة التي أنت فيها من جهاد المشركين يسرًا ورخاءً بأن يظهرك عليهم حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به، ‏"‏إن مع العسر يسرا‏"‏ كرره لتأكيد الوعد وتعظيم الرجاء‏.‏

وقال الحسن لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أبشروا، قد جاءكم اليسر، لن يغلب عسر يسرين‏"‏‏.‏

قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه‏:‏ لو كان العسر في حجر لطلبه اليسر حتى يدخل، إنه لن يغلب عسر يسرين‏.‏

قال المفسرون‏:‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏"‏لن يغلب عسر يسرين‏"‏ أن الله تعالى كررّ العُسرَ بلفظ المعرفة واليُسْر بلفظ النكرة، ومن عادة العرب إذا ذكرت اسمًا معرفًا، ثم أعادته كان الثاني هو الأول، وإذا ذكرت نكرة ثم أعادته مثله صار اثنين، وإذا أعادته معرفة فالثاني هو الأول، كقولك‏:‏ إذا كسبت، درهمًا أنفقت، درهمًا، فالثاني غير الأول، وإذا قلت‏:‏ إذا كسبتَ درهمًا فأنفق الدرهم، فالثاني هو الأول، فالعسر في الآية مكرر بلفظ التعريف، فكان عسرًا واحدًا، واليسر مكرر بلفظ ‏[‏التنكير‏]‏، فكانا يسرين، فكأنه قال‏:‏ فإن مع العسر يسرا، إن مع ذلك العسر يسرا آخر‏.‏

وقال أبو علي ‏[‏الحسن‏]‏ بن يحيى بن نصر الجرجاني صاحب ‏"‏النظم‏"‏ تكلم الناس في قوله‏:‏ ‏"‏لن يغلب عسر يسرين‏"‏، فلم يحصل منه غير قولهم‏:‏ إن العسر معرفة واليسر نكرة، فوجب أن يكون عسر واحد ويسران، وهذا قول مدخول، إذا قال الرجل‏:‏ إن مع الفارس سيفا ‏[‏إن مع الفارس سيفًا‏]‏، فهذا لا يوجب أن يكون الفارس واحدً والسيف اثنين، فمجاز قوله‏:‏ ‏"‏لن يغلب عسر يسرين‏"‏ أن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم وهو مُقِلّ مخفّ، فكانت قريش تعيره بذلك، حتى قالوا‏:‏ إن كان بك طلب الغنى جمعنا لك مالا حتى تكون كأيسر أهل مكة، فاغتَّم النبي لذلك، فظن أن قومه إنما يكذبونه لفقره، فعدد الله نعمه عليه في هذه السورة، ووعده الغنى، ليسليه بذلك عما خامره من الغم، فقال‏:‏ ‏"‏فإن مع العسر يسرا‏"‏، مجازه‏:‏ لا يحزنك ما يقولون فإن مع العسر يسرًا في الدنيا عاجلا ثم أَنْجَزَه مَا وَعَدَهْ، وفتح عليه القرى العربية ووسع عليه ذات يده، حتى كان يعطي المئين من الإبل، ويهب الهبات السَّنِيَّة، ثم ابتدأ فضلا آخر من أمر الآخرة، فقال‏:‏ إن مع العسر يسرًا، والدليل على ابتدائه‏:‏ تعريه من الفاء والواو، وهذا وعد لجميع المؤمنين، ومجازه‏:‏ إن مع العسر

يسرا، أي‏:‏ إن مع العسر في الدنيا للمؤمن يسرًا في الآخرة، فربما اجتمع له اليسران يسر الدنيا وهو ما ذكره في الآية الأولى ويسر الآخرة وهو ما ذكره في الآية الثانية، فقوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏لن يغلب عسر يسرين‏"‏ أي‏:‏ لن يغلب عسر، الدنيا اليسرَ الذي وعده للمؤمنين في الدنيا واليسر الذي وعدهم في الآخرة، وإنما يغلب أحدهما، هو يسر الدنيا، وأما يسر الآخرة فدائم غير زائل، أي لا يجمعهما في الغلبة، كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏شهرا عيد لا ينقصان‏"‏ أي لا يجتمعان في النقصان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ‏}‏ أي فاتعب، والنَّصبَ‏:‏ التعب، قال ابن عباس، وقتادة، والضحاك، ومقاتل، والكلبي‏:‏ فإذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء وارغب إليه في المسألة يُعْطِكَ‏.‏

‏[‏وروى عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه قال‏:‏ إذا صليت فاجتهد في الدعاء والمسألة‏]‏‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل‏.‏

وقال الشعبي‏:‏ إذا فرغت من التشهد فادع، لدنياك وآخرتك‏.‏

وقال الحسن وزيد بن أسلم‏:‏ إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب في عبادة ربك‏.‏

وقال منصور عن مجاهد‏:‏ إذا فرغت من أمر الدنيا فانصب في عبادة ربك وصَلِّ‏.‏

وقال حيان عن الكلبي‏:‏ إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب، أي‏:‏ استغفر لذنبك وللمؤمنين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏ قال عطاء‏:‏ تضرع إليه راهبًا من النار راغبًا في الجنة‏.‏ وقيل‏:‏ فارغب إليه في جميع أحوالك‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أي اجعل رغبتك إلى الله وحده‏.‏

سورة التين

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 3‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ‏(‏1‏)‏ وَطُورِ سِينِينَ ‏(‏2‏)‏ وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ ‏(‏3‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ‏}‏ قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وإبراهيم، وعطاء بن أبي رباح، ومقاتل، والكلبي‏:‏ هو تينكم ‏[‏هذا‏]‏ الذي تأكلونه، وزيتونكم هذا الذي تعصرون منه الزيت‏.‏

قيل‏:‏ خص التين بالقسم لأنها فاكهة مخلصة لا عجم لها، شبيهة بفواكه الجنة‏.‏ وخص الزيتون لكثرة منافعه، ولأنه شجرة مباركة جاء بها الحديث، وهو ثمر ودهن يصلح للاصطباغ والاصطباح‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ هما جبلان‏.‏ قال قتادة‏:‏ ‏"‏التين‏"‏‏:‏ الجبل الذي عليه دمشق، و ‏"‏الزيتون‏"‏‏:‏ الجبل الذي عليه بيت المقدس، لأنهما ينبتان التين والزيتون‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ هما مسجدان بالشام‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ ‏"‏التين‏"‏‏:‏ مسجد دمشق، و‏"‏الزيتون‏"‏‏:‏ مسجد بيت المقدس‏.‏ وقال محمد بن كعب‏:‏ ‏"‏التين‏"‏ مسجد أصحاب الكهف، و‏"‏الزيتون‏"‏‏:‏ مسجد إيليا‏.‏ ‏{‏وَطُورِ سِينِينَ‏}‏ يعني الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، وذكرنا معناه عند قوله‏:‏ ‏"‏وشجرة تخرج من طور سيناء‏"‏ ‏[‏المؤمنون - 20‏]‏‏.‏ ‏{‏وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ‏}‏ أي الآمن، يعني‏:‏ مكة، يأمن فيه الناس في الجاهلية والإسلام، هذه كلها أقسام، والمقسم عليه قوله‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4 - 6‏]‏

‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ‏(‏4‏)‏ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ‏(‏5‏)‏ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ أعدل قامة وأحسن صورة، وذلك أنه خلق كل حيوان منكبًا على وجهه إلا الإنسان خلقه مديد القامة، يتناول مأكوله بيده، مُزَينَّا بالعقل والتمييز‏.‏ ‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ‏}‏ يريد إلى الهرم وأرذل العمر، فينقص عقله ويضعف بدنه، والسافلون‏:‏ هم الضعفاء والزَّمْنَى والأطفال، فالشيخ الكبير ‏[‏أسفل‏]‏ من هؤلاء جميعا، ‏"‏وأسفل سافلين‏"‏ نكرة تعم الجنس، كما تقول‏:‏ فلان أكرم قائم فإذا عرَّفت قلت‏:‏ أكرم القائمين‏.‏ وفي مصحف عبد الله ‏"‏أسفل السافلين‏"‏‏.‏

وقال الحسن، وقتادة، ومجاهد‏:‏ يعني ثم رددناه إلى النار، يعني إلى أسفل السافلين، لأن جهنم بعضها أسفل من بعض‏.‏

قال أبو العالية‏:‏ يعني إلى النار في شر صورة، في صورة خنزير‏.‏ ثم استثنى فقال‏:‏ ‏{‏إِلا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏[‏فإنهم لا يردون إلى النار‏.‏ ومن قال بالقول الأول قال‏:‏ رددناه أسفل سافلين، فزالت عقولهم وانقطعت أعمالهم، فلا يكتب لهم حسنة إلا الذين آمنوا‏]‏‏.‏ ‏{‏وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ فإنه يكتب لهم بعد الهرم، والخرف، مثل الذي كانوا يعملون في حال الشباب والصحة‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ هم نفرٌ رُدوا إلى أرذل العمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى عذرهم‏.‏ وأخبر أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم‏.‏

قال عكرمة‏:‏ لم يضر هذا الشيخ ‏[‏كبره‏]‏ إذ ختم الله له بأحسن ما كان يعمل‏.‏

وروى عاصم الأحول عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏"‏

قال‏:‏ ‏"‏إلا الذين ‏[‏آمنوا‏]‏‏"‏ قرؤا القرآن، وقال‏:‏ من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر ‏{‏فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ غير مقطوع، لأنه يكتب له كصالح ما كان يعمل‏.‏ قال الضحاك‏:‏ أجر بغير عمل، ثم قال‏:‏ إلزامًا للحجة‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7 - 8‏]‏

‏{‏فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْد بِالدِّينِ ‏(‏7‏)‏ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَا يُكَذِّبُكَ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ أمن يكذبك‏.‏ وقيل‏:‏ أي شيء يكذبك‏؟‏ أي يحملك على الكذب، وقيل على التكذيب‏]‏ أيها الإنسان، ‏{‏بَعْد‏}‏ أي بعد هذه الحجة والبرهان، ‏{‏بِالدِّينِ‏}‏ بالحساب والجزاء، والمعنى‏:‏ ألا تتفكر في صورتك وشبابك وهرمك فتعتبر، وتقول‏:‏ إن الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني ويحاسبني، فما الذي يكذبك بالمجازاة بعد هذه الحجج‏؟‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ‏}‏ بأقضى القاضين، قال مقاتل‏:‏ ‏[‏أليس الله‏]‏ يحكم بينك وبين أهل التكذيب ‏[‏بك‏]‏ يا محمد‏.‏

وروينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من قرأ والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها‏:‏ ‏"‏أليس الله بأحكم الحاكمين‏"‏ فليقل‏:‏ بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا أبو الوليد، حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت الأنصاري قال‏:‏ سمعت البراء بن عازب قال‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فقرأ في العشاء في إحدى الركعتين بالتين والزيتون‏.‏

سورة العلق

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 3‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ‏(‏1‏)‏ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ‏(‏2‏)‏ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏ أكثر المفسرين‏:‏ على أن هذه السورة أول سورة نزلت من القرآن، وأول ما نزل خمس آيات من أولها إلى قوله‏:‏ ‏"‏ما لم يعلم‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا يحيى بن بُكَيْر، حدثنا الليث عن عُقَيْل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت‏:‏ أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَقِ الصُّبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه - وهو التعبُّد - الليالي ذوات العدد قبل أن يَنزع إلى أهله، ويتزوَّد لذلك ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال‏:‏ اقرأ فقال‏:‏ ما أنا بقارئ، قال‏:‏ فأخذني فغطَّني حتى بلغ مني الجَهْد ثُم أرسلني، فقال‏:‏ اقرأ فقلت‏:‏ ما أنا بقارئ، ‏[‏قال‏:‏ فأخذني‏]‏ فغطني الثانية حتى بلغ مني الجَهْدُ، ثم أرسلني، فقال‏:‏ اقرأ، فقلت‏:‏ ما أنا بقارئ، فأخذني فغطَّني الثالثة ‏[‏حتى بلغ مني الجهد‏]‏، ثم أرسلني، فقال‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ‏}‏ فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يَرْجُف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال‏:‏ زمِّلُوني زمِّلُوني فزمَّلوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة‏:‏ ما لَي‏؟‏ وأخبرها الخبر، وقال‏:‏ لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة‏:‏ كلا والله ما يُخْزِيك الله أبدا، إنك لتصل الرَّحِم، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقةَ بن نوفلَ بن أسد بن عبد العزى - ابن عم خديجة - وكان امرأ تنصَّر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربي، فيكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة‏:‏ يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك ما يقول، فقال له ورقة‏:‏ يا ابن أخي ماذا ترى‏؟‏ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة‏:‏ هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعًا، ليتني أكون حيًا إذْ يُخْرِجُك قومُك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَوَ مُخْرِجيَّ ‏[‏هم‏]‏‏؟‏ قال‏:‏ نعم لم يأت ‏[‏أحد بمثل ما‏]‏ جئتَ به إلا عُودِيَ، وإن يُدْرِكْنِي يومُكَ أَنْصُرْكَ نَصرًا مؤزَّرَا، ثم لم يمكث ورقة أن تُوفِّيَ، وفَتر الوحي‏.‏

وروى محمد بن إسماعيل هذا الحديث في موضع آخر من كتابه، عن يحيى بن بُكَيْر بهذا الإسناد، وقال‏:‏ حدثني عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر قال الزهري، فأخبرني عروة عن عائشة وذكر الحديث، قال‏:‏ ‏"‏اقرأ باسم ربك الذي خلق‏"‏ حتى بلغ ‏"‏ما لم يعلم‏"‏ وزاد في آخره فقال‏:‏ وَفَتَر الوحي فَتْرَةً حتى حَزِنَ النبيّ، صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنًا غدا منه مرارًا حتى يتردَّى من رءوس شواهقِ الجبال، فكلما أوفى بِذرْوة جبلٍ لكي يُلقيَ نفسه منه، تبدَّى له جبريل فقال‏:‏ يا محمد، إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشهُ، وتقرُّ نفسهُ، فيرجعُ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بِذرْوة جبلٍ تبدىَّ له جبريل، فقال له مثل ذلك‏"‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرنا عبد الله بن حامد الوراق أخبرنا مكي بن عبدان، أخبرنا عبد الرحمن بن بشر، حدثنا سفيان عن محمد بن إسحاق، عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت‏:‏ أول سورة نزلت قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏اقرأ باسم ربك‏"‏‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ مجازه‏:‏ اقرأ اسم ربك، يعني أن الباء زائدة، والمعنى‏:‏ اذكر اسمه، أُمِرَ أن يبتدئ القراءة باسم الله ‏[‏تأديبا‏]‏‏.‏

‏{‏الَّذِي خَلَقَ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ يعني الخلائق، ثم فسره فقال‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الإنْسَانَ‏}‏ يعني ‏[‏خلق‏]‏ ابن آدم، ‏{‏مِنْ عَلَقٍ‏}‏ جمع علقة‏.‏ ‏{‏اقْرَأ‏}‏ كرره تأكيدا، ثم استأنف فقال‏:‏ ‏{‏وَرَبُّكَ الأكْرَمُ‏}‏ فقال الكلبي‏:‏ الحليم عن جهل العباد لا يعجل عليهم بالعقوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4 - 10‏]‏

‏{‏الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ‏(‏4‏)‏ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ‏(‏5‏)‏ كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى ‏(‏6‏)‏ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ‏(‏7‏)‏ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ‏(‏8‏)‏ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ‏(‏9‏)‏ عَبْدًا إِذَا صَلَّى ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ‏}‏ يعني الخط والكتابة‏.‏ ‏{‏عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ من أنواع الهدى والبيان‏.‏ وقيل‏:‏ علم آدم الأسماء كلها‏.‏ وقيل‏:‏ الإنسان هاهنا محمد صلى الله عليه وسلم بيانه‏:‏ ‏"‏وعلمك ما لم تكن تعلم‏"‏ ‏[‏النساء - 113‏)‏‏.‏ ‏{‏كَلا‏}‏ حقًا ‏{‏إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى‏}‏ ليتجاوز حده ويستكبر على ربه‏.‏ ‏{‏إِنّ‏}‏ لأن ‏{‏رَآهُ اسْتَغْنَى‏}‏ أن رأى نفسه غنيا‏.‏ قال الكلبي‏:‏ يرتفع عن منزلة إلى منزلة في اللباس والطعام وغيرهما‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ نزلت في أبي جهل، كان إذا أصاب مالا زاد في ثيابه ومركبه وطعامه، فذلك طغيانه‏.‏ ‏{‏إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى‏}‏ أي المرجع في الآخرة، ‏"‏الرجعى‏"‏‏:‏ مصدر على وزن فُعلْىَ‏]‏‏.‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى‏}‏ نزلت في أبي جهل، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا عبد الله بن معاذ ومحمد بن عبد الأعلى القيسي، قالا حدثنا المعتمر عن أبيه، حدثني نعيم بن أبي هند، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال أبو جهل‏:‏ هل يعفِّر محمد وجهه بين أظهركم‏؟‏ فقيل‏:‏ نعم، فقال‏:‏ ‏[‏واللات‏]‏

والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته، ولأعفِّرَن وجهه في التراب، قال‏:‏ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ‏[‏عزم‏]‏ ليطأ على رقبته، فما فَجَأَهُمْ منه إلا وهو ينكُص، على عقبيه، ويتَّقي بيديه، قال فقيل له‏:‏ ما لك يا أبا الحكم‏؟‏ قال‏:‏ إن بيني وبينه لخندقًا من نار، وهولا وأجنحة‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا، قال‏:‏ فأنزل الله - لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه -‏:‏ ‏"‏كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعي أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى‏"‏ الآيات‏.‏

ومعنى ‏"‏أرأيت‏"‏ هاهنا تعجيب للمخاطب‏.‏ وكرر هذه اللفظة للتأكيد‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11 - 16‏]‏

‏{‏أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى ‏(‏11‏)‏ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ‏(‏12‏)‏ أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏13‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ‏(‏14‏)‏ كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ ‏(‏15‏)‏ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ‏(‏16‏)‏‏}‏

أرأيت إن كان إلى الهدى يعني العبد المنهي وهو محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى‏}‏ يعني بالإخلاص والتوحيد‏.‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ‏}‏ يعني أبا جهل، ‏{‏وَتَوَلَّى‏}‏ عن الإيمان‏.‏

وتقدير نظم الآية‏:‏ أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى ‏[‏والمنهي‏]‏ على الهدى، آمِرٌ بالتقوى، والناهي مكذِّبٌ مُتَوَلِّ عن الإيمان، فما أعجب من هذا‏!‏ ‏{‏أَلَمْ يَعْلَمْ‏}‏ يعني أبا جهل، ‏{‏بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى‏}‏ ذلك فيجازيه به‏.‏ ‏{‏كَلا‏}‏ لا يعلم ذلك، ‏{‏لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ‏}‏ عن إيذاء ‏[‏نبيه‏]‏ صلى الله عليه وسلم وتكذيبه، ‏{‏لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَة‏}‏ لنأخذن بناصيته فلنجرنه إلى النار، كما قال ‏"‏فيؤخذ بالنواصي والأقدام‏"‏ ‏[‏الرحمن - 41‏]‏ يقال‏:‏ سفعت، بالشيء، إذا أخذته وجذبته جذبا شديدا، و ‏"‏الناصية‏"‏‏:‏ شعر مقدم الرأس‏.‏ ثم قال على البدل‏:‏ ‏{‏نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ‏}‏ أي صاحبها كاذب خاطئ، قال ابن عباس‏:‏ لما نهى أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة انتهره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل أتنهرني ‏[‏يا محمد لقد علمت ما بها أكثر ناديًا مني‏؟‏ ثم قال‏]‏‏:‏ فوالله لأمَلأن عليك هذا الوادي إن شئت خيلا جردًا ورجالا مردًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17 - 19‏]‏

‏{‏فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ‏(‏17‏)‏ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ‏(‏18‏)‏ كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ‏}‏ أي قومه وعشيرته، أي فليستنصر بهم‏.‏ ‏{‏سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ‏}‏ جمع زِبْنيِّ مأخوذ من الزِّبْن وهو الدفع، قال ابن عباس‏:‏ يريد زبانية جهنم سموا بها لأنهم يدفعون أهل النار إليها، قال الزجاج‏:‏ هم الملائكة الغلاظ الشداد، قال ابن عباس‏:‏ لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله ثم قال‏:‏ ‏{‏كَلا‏}‏ ليس الأمر على ما عليه أبو جهل، ‏{‏لا تُطِعْهُ‏}‏ في ترك الصلاة، ‏{‏وَاسْجُد‏}‏ صل لله ‏{‏وَاقْتَرِبْ‏}‏ من الله‏.‏

أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني، أخبرنا أبو عمر القاسم بن جعفر الهاشمي، حدثنا أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث، حدثنا أحمد بن صالح وأحمد بن عمرو بن السراج ومحمد بن سلمة قالوا‏:‏ أخبرنا وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن عمارة بن غُزَيَّة عن سُمَيّ مولى أبي بكر أنه سمع أبا صالح ذكوان يُحدث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أقرب ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء ‏[‏فيها‏]‏ ‏"‏‏.‏

سورة القدر

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 2‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ‏(‏1‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ‏}‏ يعني القرآن، كناية عن غير مذكور، أنزله جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، فوضعه في بيت العزة، ثم كان ينزل به جبريل عليه السلام نجومًا في عشرين سنة‏.‏ ثم عجَّب نبيه فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ‏}‏ سُميت ليلة القدر لأنها ليلة تقدير الأمور والأحكام، يقدر الله فيها أمر السنة في عباده وبلاده إلى السنة المقبلة، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏فيها يفرق كل أمر حكيم‏"‏ ‏[‏الدخان - 4‏]‏ وهو مصدر قولهم‏:‏ قَدَر الله الشيء بالتخفيف، قَدْرًا وَقَدرًا، كالنَّهَر والنَّهَر والشَّعْر والشَّعَر، وقدّره - بالتشديد - تقديرًا ‏[‏وقَدَر بالتخفيف قدرًا‏]‏ بمعنى واحد‏.‏

قيل للحسين بن الفضل‏:‏ أليس قد قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏بلى‏]‏، قيل‏:‏ فما معنى ليلة القدر‏؟‏ قال‏:‏ سَوْق المقادير إلى المواقيت، وتنفيذ القضاء المقدر‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ ‏"‏ليلة القدر‏"‏‏:‏ أي ليلة العظمة والشرف من قول الناس‏:‏ لفلان عند الأمير قدر، أي جاه ومنزلة، ويقال‏:‏ قَدَرْت، فلانًا أي عظمته‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏وما قدروا الله حق قدره‏"‏ ‏[‏الأنعام - 91‏]‏ ‏(‏الزمر - 67‏]‏ أي ما عظموه حق تعظيمه‏.‏

وقيل‏:‏ لأن العمل الصالح يكون فيها ذا قدر عند الله لكونه مقبولا‏.‏

واختلفوا في وقتها؛ فقال بعضهم‏:‏ إنها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رفعت، وعامة الصحابة والعلماء على أنها باقية إلى يوم القيامة‏.‏ وروي عن عبد الله بن مكانس مولى معاوية قال‏:‏ قلت لأبي هريرة‏:‏ زعموا أن ليلة القدر قد رَفعتْ‏؟‏ قال‏:‏ كذب من قال ذلك، قلت‏:‏ هي في كل شهر أستقبله‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هي ليلة من ليالي السنة حتى لو علقَّ رجل طلاق امرأته وعتق عبده بليلة القدر، لا يقع ما لم تمض سنة من حين حلف‏.‏ يروى ذلك عن ابن مسعود، قال‏:‏ من يقم الحول يُصِبْهَا، فبلغ ذلك عبد الله بن عمر فقال‏:‏ يرحم الله أبا عبد الرحمن أما إنه علم أنها في شهر رمضان، ولكن أراد أن لا يتكل الناس‏.‏

والجمهور من أهل العلم على أنها في شهر رمضان‏.‏

واختلفوا في تلك الليلة؛ قال أبو رزين العقيلي‏:‏ هي أول ليلة من شهر رمضان‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ليلة سبع عشرة، وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر‏.‏

والصحيح والذي عليه الأكثرون‏:‏ أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان‏.‏

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، حدثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان، ويقول‏:‏ ‏"‏تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو عثمان الضبي، أخبرنا أبو محمد الجراحي، حدثنا أبو العباس المحبوبي، حدثنا أبو عيسى، حدثنا قتيبة، حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ‏[‏ما‏]‏ لا يجتهد في غيرها‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن أبي يعقوب، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر ‏[‏الأواخر‏]‏ من رمضان شد مئزره وأحيا ليله، وأيقظ أهله‏.‏

واختلفوا في أنها في أي ليلة من العشر‏؟‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر، حدثنا أبو سهل بن مالك، عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏تحَّروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان‏"‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا عبد الله بن حامد الوازن، أخبرنا مكي بن عبدان، حدثنا عبد الله بن ‏[‏هاشم‏]‏ بن حيان، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا عيينة بن عبد الرحمن، حدثني أبي قال‏:‏ ذكرت ليلة القدر عند أبي بكرة، فقال‏:‏ ما أنا بطالبها بعد شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في العشر الأواخر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏التمسوها في العشر الأواخر من تسع بَقِينَ أو سبع بقين أو خمس بقين أو ثلاث بقين أو آخر ليلة‏"‏، فكان أبو بكرة إذا دخل رمضان يصلي كما يصلي في سائر السنة، فإذا دخل العشر ‏[‏الأخير‏]‏ اجتهد‏.‏

وأخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن المثنى، حدثني خالد بن الحارث، حدثنا حميد، حدثنا أنس بن مالك عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر فتَلاحى رجلان من المسلمين، فقال‏:‏ ‏"‏خرجت، لأخبركم بليلة القدر فتَلاحى فلان وفلان فرُفعتْ، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك، عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ‏[‏أروا‏]‏ ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر من رمضان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إني أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر‏"‏‏.‏ وروي عن أبي سعيد الخدري‏:‏ أنها ليلة إحدى وعشرين‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري أنه قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الوسطى من رمضان، واعتكف عامًا حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج صبحها من اعتكافه، قال‏:‏ من ‏[‏كان سيعتكف‏]‏ معي فليعتكف العشر الأواخر، وقد رأيت هذه الليلة ثم أُنْسِيتُها، وقد رَأَيْتُنيِ أسجد في صبيحتها في ماء وطين، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر‏.‏

قال أبو سعيد الخدري‏:‏ فمطرت السماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش فَوَكَفَ المسجد‏.‏

قال أبو سعيد‏:‏ فأَبْصَرَت عينايَ رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف وعلى جبهته وأنفه أَثَر، الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هي ليلة ثلاث وعشرين‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، حدثنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا أحمد بن خالد الحمصي، حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم، حدثني عبد الله بن أنيس عن أبيه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني أكون بباديةٍ يقال لها الوَطْأَة وإني بحمد الله أُصلِّي بهم، فمُرْني بليلةٍ من هذا الشهر أنزلُها إلى المسجد فأصليها فيه، فقال‏:‏ ‏"‏انزل ليلة ثلاث وعشرين فصلِّها فيه، وإن أحببت أن تَسْتَتّم آخر الشهر فافعل، وإن أحببت فكف‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فكان إذا صلى العصر دخل المسجد فلم يخرج إلا من حاجة حتى يصلي الصبح، فإذا صلى الصبح كانت دابته بباب المسجد‏.‏

وأخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، حدثنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال‏:‏ تذاكرنا ليلة القدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كم مضى من الشهر‏؟‏ فقلنا‏:‏ ثنتان ‏[‏وعشرون‏]‏ وبقي سبع، ‏[‏فقال‏:‏ ‏"‏مضى اثنتان وعشرون وبقي سبعُ‏]‏ اطلبوها الليلةَ، الشهر تسع وعشرون‏"‏‏.‏

وقال قوم‏:‏ هي ليلة سبع وعشرين، وهو قول علي وأُبَيٍّ وعائشة‏:‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، حدثنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا سفيان عن عاصم عن زر بن حبيش قال‏:‏ قلت لأبي ابن كعب‏:‏ يا أبا المنذر أخبرنا عن ليلةِ القدرِ، فإن ابنَ أمِّ عبدٍ يقول‏:‏ من يَقُمِ الحولَ يُصِبْهَا، فقال‏:‏

رحم الله أبا عبد الرحمن، أما إنه قد علم أنها في رمضان، ولكن كره أن يُخبركم فَتَتَّكِلوا هي - والذي أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم - ليلة، سبع وعشرين، فقلنا‏:‏ يا أبا المنذر أنىَّ علمت هذا‏؟‏ قال‏:‏ بالآية التي أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم فحفظنا ‏[‏ووعينا‏]‏، هي والله ‏[‏لا تنسى‏]‏، قال قلنا لِزرٍّ‏:‏ وما الآية‏؟‏ قال‏:‏ تطلع الشمس كأنها طاسٌ ليس لها شعاع‏.‏

ومن علاماتها‏:‏ ما روي عن الحسن رَفَعه‏:‏ أنها ليلة ‏[‏بَلْجَةٌ‏]‏ سَمْحَةٌ لا حارَّةٌ ولا باردة، تطلع الشمس صبيحتها لا شعاع لها‏.‏

وفي الجملة‏:‏ أبهم الله هذه الليلة على هذه الأمة ليجتهدوا في العبادة ليالي رمضان طمعًا في إدراكها، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة، وأخفى الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس، واسمه الأعظم في الأسماء، ورضاه في الطاعات ليرغبوا في جميعها، وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جميعها، وأخفى قيام الساعة ليجتهدوا في الطاعات حذرًا من قيامها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ‏}‏ قال عطاء عن ابن عباس‏:‏ ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر، فعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك وتمنى ذلك لأمته، فقال‏:‏ يا رب جعلت أمتي أقصر الأمم أعمارًا وأقلها أعمالا‏؟‏ فأعطاه الله ليلة القدر، فقال‏:‏ ‏{‏لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ‏}‏ التي حمل فيها الإسرائيلي السلاح في سبيل الله، لك ولأمتك إلى يوم القيامة‏.‏

قال المفسرون‏:‏ ‏"‏ليلة القدر خير من ألف شهر‏"‏ معناه‏:‏ عمل صالح في ليلة القدر خير من عَمِل ألف شهر ليس فيها ليلة القدر‏.‏

حدثنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، املاءً، حدثنا أبو نعيم الإسفرايني، أخبرنا أبو عوانة، حدثنا أبو إسماعيل، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، أخبرني أبو سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه‏"‏‏.‏

قال سعيد بن المسيب‏:‏ من شهد المغرب والعشاء في جماعة فقد أخذ بحظه من ليلة القدر‏.‏

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو بكر بن عبدوس المزكي، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا الحسن بن مكرم، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا كهمس عن عبد الله بن بريدة أن عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن وافيت ليلة القدر فما أقول‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏قولي‏:‏ اللهم إنك عفو تحب العفوَ فاعف عني‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4 - 5‏]‏

‏{‏تَنزلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ‏(‏4‏)‏ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏تَنزلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ‏}‏ يعني جبريل عليه السلام معهم، ‏{‏فيها‏}‏ أي في ليلة القدر، ‏{‏بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ‏}‏ أي بكل أمر من الخير والبركة، كقوله‏:‏ ‏"‏يحفظونه من أمر الله‏"‏ ‏[‏الرعد - 11‏]‏ أي بأمر الله‏.‏ ‏{‏سَلامٌ‏}‏ قال عطاء‏:‏ يريد‏:‏ سلامٌ على أولياء الله وأهل طاعته‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ هو تسليم الملائكة ليلة القدر على أهل المساجد من حيث تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ الملائكة ينزلون فيه كلما لقوا مؤمنًا أو مؤمنة سلَّموا عليه من ربه حتى يطلع الفجر‏.‏

وقيل‏:‏ تَمَّ الكلام عند قوله‏:‏ ‏"‏بإذن ربهم من كل أمر‏"‏ ثم ابتدأ فقال‏:‏ ‏"‏سلام هي‏"‏، أي‏:‏ ليلة القدر سلام وخير كلها، ليس فيها شر‏.‏

قال الضحاك‏:‏ لا يقدر الله في تلك الليلة ولا يقضي إلا السلامة‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ يعني أن ليلة القدر ‏[‏سالمة‏]‏ لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا ولا أن يحدث فيها أذى‏.‏

‏{‏حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ‏}‏ أي‏:‏ إلى مطلع الفجر، قرأ الكسائي ‏"‏مَطِلْع‏"‏ بكسر اللام، والآخرون بفتحها، وهو الاختيار، بمعنى الطلوع، على المصدر، يقال‏:‏ طلع الفجر طُلوعا ومطلعًا، والكسر موضع الطلوع‏.‏