فصل: الجزء الأول

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


الجزء الأول

سورة الفاتحة

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم‏}‏ من الفاتحة، ومن كل سورة، وعليه قرّاء مكة والكوفة وفقهاؤهما وابن المبارك رحمه الله تعالى والشافعي‏.‏ وخالفهم قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها ومالك والأوزاعي، ولم ينص أبو حنيفة رحمه الله تعالى فيه بشيء فظن أنها ليست من السورة عنده‏.‏ وسئل محمد بن الحسن عنها فقال‏:‏ ما بين الدفتين كلام الله تعالى‏.‏ ولنا أحاديث كثيرة‏:‏ منها ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، أنه عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ ‏"‏ فاتحة الكتاب سبع آيات، أولاهن بسم الله الرحمن الرحيم ‏"‏ وقول أم سلمة رضي الله عنها «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتحة وعد «بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين» آية ومن أجلهما اختلف في أنها آية برأسها أم بما بعدها، والإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله سبحانه وتعالى، والوفاق على إثباتها في المصاحف مع المبالغة في تجريد القرآن حتى لم تكتب آمين‏.‏ والباء متعلقة بمحذوف تقديره‏:‏ بسم الله أقرأ لأن الذي يتلوه مقروء‏.‏ وكذلك يضمر كل فاعل ما يجعل التسمية مبدأ له، وذلك أولى من أن يضمر أبدأ لعدم ما يطابقه ويدل عليه‏.‏ أو ابتدائي لزيادة إضمار فيه، وتقديم المعمول ههنا أوقع كما في قوله‏:‏ ‏{‏بِسْمِ الله مَجْرَاهَا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏ لأنه أهم وأدل على الاختصاص، وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود فإن اسمه سبحانه وتعالى مقدم على القراءة، كيف لا وقد جعل آلة لها من حيث إن الفعل لا يتم ولا يعتد به شرعاً ما لم يصدر باسمه تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر ‏"‏ وقيل الباء للمصاحبة، والمعنى متبركاً باسم الله تعالى اقرأ، وهذه وما بعده إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ليعلموا كيف يتبرك باسمه، ويحمد على نعمه، ويُسأل من فضله، وإنما كسرت ومن حق الحروف المفردة أن تفتح، لاختصاصها باللزوم الحرفية والجر، كما كسرت لام الأمر ولام الإضافة داخلة على المظهر للفصل بينهما وبين لام الابتداء، والاسم عند أصحابنا البصريين من الأسماء التي حذفت أعجازها لكثرة الاستعمال، وبنيت أوائلها على السكون، وأدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل، لأن من دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرك ويقفوا على الساكن‏.‏ ويشهد له تصريفه على أسماء وأسامي وسمى وسميت ومجيء سمي كهدى لغة فيه قال‏:‏

والله أسماك سمىً مُباركاً *** آثرك الله بهِ إيَثَاركا

والقلب بعيد غير مطرد، واشتقاقه من السمو لأنه رفعة للمسمى وشعار له‏.‏ ومن السمة عند الكوفيين، وأصله وسم حذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل ليقل إعلاله‏.‏ ورد بأن الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره في كلامهم، ومن لغاته سم وسم قال‏:‏

بِسْمِ الذي في كُلِّ سُورةٍ سِمُهْ *** والاسم إن أريد به اللفظ فغير المسمى، لأنه يتألف من أصوات متقطعة غير قارة، ويختلف باختلاف الأمم والأعصار، ويتعدد تارة ويتحد أخرى‏.‏ والمسمى لا يكون كذلك، وإن أريد به ذات الشيء فهو المسمى لكنه لم يشتهر بهذا المعنى وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تبارك اسم رَبّكَ‏}‏ و‏{‏سَبِّحِ اسم رَبّكَ‏}‏ المراد به اللفظ لأنه كما يجب تنزيه ذاته سبحانه وتعالى وصفاته عن النقائص، يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب‏.‏ أو الاسم فيه مقحم كما في قول الشاعر‏:‏

إلى الحولِ ثُم اسمُ السلامِ عليكُما *** وإن أريد به الصفة، كما هو رأي الشيخ أبي الحسن الأشعري، انقسم انقسام الصفة عنده‏:‏ إلى ما هو نفس المسمى، وإلى ما هو غيره، وإلى ما ليس هو ولا غيره‏.‏ وإنما قال بسم الله ولم يقل بالله، لأن التبرك والاستعانة بذكر اسمه‏.‏ أو للفرق بين اليمين والتيمن‏.‏ ولم تكتب الألف على ما هو وضع الخط لكثرة الاستعمال وطولت الباء عوضاً عنها‏.‏ والله أصله إله، فحذفت الهمزة وعوض عنها الألف واللام ولذلك قيل‏:‏ يا الله، بالقطع إلا أنه مختص بالمعبود بالحق‏.‏ والإله في الأصل لكل معبود، ثم غلب على المعبود بالحق‏.‏ واشتقاقه من أله ألهة وألوهة وألوهية بمعنى عبد، ومنه تأله واستأله، وقيل من أله إذا تحير لأن العقول تتحير في معرفته‏.‏ أو من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه، لأن القلوب تطمئن بذكره، والأرواح تسكن إلى معرفته‏.‏ أو من أله إذا فزع من أمر نزل عليه، وآلهة غيره أجاره إذ العائذ يفزع إليه وهو يجيره حقيقة أو بزعمه‏.‏ أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه، إذ العباد يولعون بالتضرع إليه في الشدائد‏.‏ أو من وله إذا تحير وتخبط عقله، وكان أصله ولاه فقلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها استثقال الضمة في وجوه، فقيل إله كإعاء وإشاح، ويرده الجمع على آلهة دون أولهة‏.‏ وقيل أصله لاه مصدر لاه يليه ليها ولاها، إذا احتجب وارتفع لأنه سبحانه وتعالى محجوب عن إدراك الأبصار، ومرتفع على كل شيء وعما لا يليق به ويشهد له قول الشاعر‏:‏

كحِلفةٍ من أبي رباحٍ *** يُشهِدْهَا لاهَهْ الكِبَارُ

وقيل علم لذاته المخصوصة لأنه يوصف ولا يوصف به، ولأنه لا بد له من اسم تجري عليه صفاته ولا يصلح له مما يطلق عليه سواه، ولأنه لو كان وصفاً لم يكن قول‏:‏ لا إله إلا الله، توحيداً مثل‏:‏ لا إله إلا الرحمن، فإنه لا يمنع الشركة، والأظهر أنه وصف في أصله لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره وصار له كالعلم مثل‏:‏ الثريا والصعق أجرى مجراه في إجراء الأوصاف عليه، وامتناع الوصف به، وعدم تطرق احتمال الشركة إليه، لأن ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر آخر حقيقي أو غيره غير معقول للبشر، فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ، ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوصة لما أفاد ظاهر قوله سبحانه وتعالى‏:‏

‏{‏وَهُوَ الله فِى السموات‏}‏ معنى صحيحاً، ولأن معنى الاشتقاق هو كون أحد اللفظين مشاركاً للآخر في المعنى والتركيب، وهو حاصل بينه وبين الأصول المذكورة، وقيل أصله لاها بالسريانية فعرب بحذف الألف الأخيرة، وإدخال اللام عليه، وتفخيم لامه إذا انفتح ما قبله أو انضم سنة، وقيل مطلقاً، وحذف ألفه لحن تفسد به الصلاة، ولا ينعقد به صريح اليمين، وقد جاء لضرورة الشعر‏:‏

ألاَ لا باركَ الله في سُهيلٍ *** إذا ما الله باركَ في الرِّجالِ

و ‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏ اسمان بنيا للمبالغة من رحم، كالغضبان من غضب، والعليم من علم، والرحمة في اللغة‏:‏ رقة القلب، وانعطاف يقتضي التفضل والإحسان، ومنه الرَّحِم لانعطافها على ما فيها‏.‏ وأسماء الله تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادي التي تكون انفعالات‏.‏ و‏{‏الرحمن‏}‏ أبلغ من ‏{‏الرحيم‏}‏، لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى كما في قَطَّعَ وقَطَعَ وكَبَّار وكِبَار، وذلك إنما يؤخذ تارة باعتبار الكمية، وأخرى باعتبار الكيفية، فعلى الأول قيل‏:‏ يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر، ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن، وعلى الثاني قيل‏:‏ يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا، لأن النعم الأخروية كلها جسام، وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة، وإنما قدم والقياس يقتضي الترقي من الأدنى إلى الأعلى، لتقدم رحمة الدنيا، ولأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها، وذلك لا يصدق على غيره لأن من عداه فهو مستعيض بلطفه وإنعامه يريد به جزيل ثواب أو جميل ثناء أو مزيج رقة الجنسية أو حب المال عن القلب، ثم إنه كالواسطة في ذلك لأن ذات النعم ووجودها، والقدرة على إيصالها، والداعية الباعثة عليه، والتمكن من الانتفاع بها، والقوى التي بها يحصل الانتفاع، إلى غير ذلك من خلقه لا يقدر عليها أحد غيره‏.‏ أو لأن الرحمن لما دل على جلائل النعم وأوصلها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها، فيكون كالتتمة والرديف له‏.‏ أو للمحافظة على رؤوس الآي‏.‏

والأظهر أنه غير مصروف وإن حظر اختصاصه بالله تعالى أن يكون له مؤنث على فعلى أو فعلانة إلحاقاً له بما هو الغالب في بابه‏.‏ وإنما خص التسمية بهذه الأسماء ليعلم العارف أن المستحق لأن يستعان به في مجامع الأمور، هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها عاجلها وآجلها، جليلها وحقيرها، فيتوجه بشَرَاشِرِِهِ إلى جناب القدس، ويتمسك بحبل التوفيق، ويشغل سره بذكره والاستعداد به عن غيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏الحمد للَّهِ‏}‏ الحمد‏:‏ هو الثناء على الجميل الاختياري من نعمة أو غيرها، والمدح‏:‏ هو الثناء على الجميل مطلقاً‏.‏ تقول حمدت زيداً على علمه وكرمه، ولا تقول حمدته على حسنه، بل مدحته‏.‏ وقيل هما أخوان‏.‏ والشكر‏:‏ مقابلة النعمة قولاً وعملاً واعتقاداً قال‏:‏

أفادَتْكُمُ النُعْمَاءُ مني ثلاثَةً *** يَدي ولساني والضَّميرَ المُحجَّبا

فهو أعم منهما من وجه، وأخص من آخر ولما كان الحمد من شعب الشكر أشيع للنعمة، وأدل على مكانها لخفاء الاعتقاد، وما في آداب الجوارح من الاحتمال جعل رأس الشكر والعمدة فيه فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الحمد رأس الشكر، وما شكر الله من لم يحمده» والذم نقيض الحمد والكفران نقيض الشكر‏.‏ ورفعه بالابتداء وخبره لله وأصله النصب وقد قرئ به، وإنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته له دون تجدده وحدوثه‏.‏ وهو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة لا تكاد تستعمل معها، والتعريف فيه للجنس ومعناه‏:‏ الإشارة إلى ما يعرف كل أحد أن الحمد ما هو‏؟‏ أو للاستغراق، إذ الحمد في الحقيقة كله له، إذ ما من خير إلا وهو موليه بوسط أو بغير وسط كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله‏}‏ وفيه إشعار بأنه تعالى حي قادر مريد عالم‏.‏ إذ الحمد لا يستحقه إلا من كان هذا شأنه‏.‏ وقرئ الحمد لله بإتباع الدال اللام وبالعكس تنزيلاً لهما من حيث إنهما يستعملان معاً منزلة كلمة واحدة‏.‏

‏{‏رَبّ العالمين‏}‏ الرب في الأصل مصدر بمعنى التربية‏:‏ وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً، ثم وصف به للمبالغة كالصوم والعدل‏.‏ وقيل‏:‏ هو نعت من رَبِّه يربه فهو رب، كقولك نم ينم فهو نم، ثم سمى به المالك لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه‏.‏ ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيداً كقوله‏:‏ ‏{‏ارجع إلى رَبّكَ‏}‏ والعالم اسم لما يعلم به، كالخاتم والقالب، غلب فيما يعلم به الصانع تعالى، وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر واجب لذاته تدل على وجوده، وإنما جمعه ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة، وغلب العقلاء منهم فجمعه بالياء والنون كسائر أوصافهم‏.‏ وقيل‏:‏ اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين، وتناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع‏.‏ وقيل‏:‏ عني به الناس ههنا فإن كل واحد منهم عالم من حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يُعْلَمُ بها الصانع كما يعلم بما أبدعه في العالم الكبير، ولذلك سوى بين النظر فيهما، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ وقرئ ‏{‏رَبّ العالمين‏}‏ بالنصب على المدح‏.‏ أو النداء‏.‏ أو بالفعل الذي دل عليه الحمد، وفيه دليل على أن الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث حال حدوثها فهي مفتقرة إلى المبقي حال بقائها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏ كرره للتعليل على ما سنذكره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏مالك يَوْمِ الدين‏}‏ قراءة عاصم والكسائي ويعقوب ويعضده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ‏}‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏مَلِكِ‏}‏‏.‏ وهو المختار لأنه قراءة أهل الحرمين ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّمَنِ الملك اليوم‏}‏ ولما فيه من التعظيم‏.‏ والمالك هو المتصرف في الأعيان المملوكة كيف يشاء من الملك‏.‏ والملك هو المتصرف بالأمر والنهي في المأمورين من الملك‏.‏ وقرئ ملك بالتخفيف وملك بلفظ العمل‏.‏ ومالكا بالنصب على المدح أو الحال، ومالك بالرفع منوناً ومضافاً على أنه خبر مبتدأ محذوف، وملك مضافاً بالرفع والنصب‏.‏ ويوم الدين يوم الجزاء ومنه «كما تدين تدان» وبيت الحماسة‏:‏

ولم يَبْقَ سِوَى العدوا *** نِ دِناهُمْ كما دَانُوا

أضاف اسم الفاعل إلى الظرف إجراء له مجرى المفعول به على الاتساع كقولهم‏:‏ يا سارق الليلة أهل الدار، ومعناه، ملك الأمور يوم الدين على طريقة ‏{‏وَنَادَى أصحاب الجنة‏}‏ أوله الملك في هذا اليوم، على وجه الاستمرار لتكون الإضافة حقيقية معدة لوقوعه صفة للمعرفة، وقيل‏:‏ ‏{‏الدين‏}‏ الشريعة، وقيل‏:‏ الطاعة‏.‏ والمعنى يوم جزاء الدين، وتخصيص اليوم بالإضافة‏:‏ إما لتعظيمه، أو لتفرده تعالى بنفوذ الأمر فيه، وإجراء هذه الأوصاف على الله تعالى من كونه موجداً للعالمين رباً لهم منعماً عليهم بالنعم كلها ظاهرها وباطنها عاجلها وآجلها، مالكاً لأمورهم يوم الثواب والعقاب، للدلالة على أنه الحقيق بالحمد لا أحد أحق به منه بل لا يستحقه على الحقيقة سواه، فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته له، وللإشعار من طريق المفهوم على أن من لم يتصف بتلك الصفات لا يستأهل لأن يحمد فضلاً عن أن يعبد، فيكون دليلاً على ما بعده، فالوصف الأول لبيان ما هو الموجب للحمد، وهو الإيجاد والتربية‏.‏ والثاني والثالث للدلالة على أنه متفضل بذلك مختار فيه، ليس يصدر منه لإيجاب بالذات أو وجوب عليه قضية لسوابق الأعمال حتى يستحق به الحمد‏.‏ والرابع لتحقيق الاختصاص فإنه مما لا يقبل الشركة فيه بوجه ما، وتضمين الوعد للحامدين والوعيد للمعرضين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد، ووصف بصفات عظام تميز بها عن سائر الذوات وتعلق العلم بمعلوم معين خوطب بذلك، أي‏:‏ يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة، ليكون أدل على الاختصاص، وللترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود، فكأن المعلوم صار عياناً والمعقول مشاهداً والغيبة حضوراً، بنى أول الكلام على ما هو مبادي حال العارف من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه والنظر في آلائه والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه، ثم قفى بما هو منتهى أمره وهو أن يخوض لجة الوصول ويصير من أهل المشاهدة فيراه عياناً ويناجيه شفاهاً‏.‏

اللهم اجعلنا من الواصلين للعين دون السامعين للأثر‏.‏ ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تطرية له وتنشيطاً للسامع، فيعدل من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم وبالعكس، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والله الذى أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سحابا فَسُقْنَاهُ‏}‏ وقول امرئ القيس‏:‏

تطاوَلَ ليلُكَ بالإِثمدِ *** ونامَ الخليُّ ولم تَرْقُدِ

وباتَ وباتَتْ له ليلة *** كَلَيْلَةِ ذي العائرِ الأرْمَدِ

وَذَلِكَ منْ نَبَأ جاءني *** وَخبرْتهُ عَن أَبي الأَسْودِ *** وإيا ضمير منصوب من فصل، وما يلحقه من الياء والكاف والهاء حروف زيدت لبيان التكلم والخطاب والغيبة لا محل لها من الإعراب، كالتاء في أنتَ والكاف في أرأيتك‏.‏ وقال الخليل‏:‏ إيا مضاف إليها، واحتج بما حكاه عن بعض العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب، وهو شاذ لا يعتمد عليه‏.‏ وقيل‏:‏ هي الضمائر، وإيا عمدة فإنها لما فصلت عن العوامل تعذر النطق بها مفردة فضم إليها إيا لتستقل به، وقيل‏:‏ الضمير هو المجموع‏.‏ وقرئ ‏{‏إِيَّاكَ‏}‏ بفتح الهمزة و«هياك» بقلبها هاء‏.‏

والعبادة‏:‏ أقصى غاية الخضوع والتذلل ومنه طريق معبَّد أي مذلل، وثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة، ولذلك لا تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى‏.‏

والاستعانة‏:‏ طلب المعونة وهي‏:‏ إما ضرورية، أو غير ضرورية والضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوره وحصول آلة ومادة يفعل بها فيها وعند استجماعها يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل‏.‏ وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي، أو يقرب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه، وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف والمراد طلب المعونة في المهمات كلها، أو في أداء العبادات، والضمير المستكن في الفعلين للقارئ ومن معه من الحفظة، وحاضري صلاة الجماعة‏.‏ أو له ولسائر الموحدين‏.‏ أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها ويجاب إليها ولهذا شرعت الجماعة وقدم المفعول للتعظيم والاهتمام به والدلالة على الحصر ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما ‏(‏معناه نعبدك ولا نعبد غيرك‏)‏ وتقديم ما هو مقدم في الوجود والتنبيه على أن العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولاً وبالذات، ومنه إلى العبادة لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه بل من حيث إنها نسبة شريفة إليه ووصلة سنية بينه وبين الحق، فإن العارف إنما يحق وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس وغاب عما عداه، حتى إنه لا يلاحظ نفسه ولا حالا من أحوالها إلا من حيث إنها ملاحظة له ومنتسبة إليه، ولذلك فضل ما حكى الله عن حبيبه حين قال‏:‏

‏{‏لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا‏}‏ على ما حكاه عن كليمه حين قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ‏}‏ وكرر الضمير للتنصيص على أنه المستعان به لا غير، وقدمت العبادة على الاستعانة ليتوافق رؤوس الآي، ويعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة

وأقول‏:‏ لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحاً واعتداداً منه بما يصدر عنه، فعقبه بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ليدل على أن العبادة أيضاً مما لا يتم ولا يستتب له إلا بمعونة منه وتوفيق، وقيل‏:‏ الواو للحال والمعنى نعبدك مستعينين بك‏.‏ وقرئ بكسر النون فيهما وهي لغة بني تميم فإنهم يكسرون حروف المضارعة سوى الياء إذا لم ينضم ما بعدها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ بيان للمعونة المطلوبة فكأنه قال‏:‏ كيف أعينكم فقالوا ‏{‏اهدنا‏}‏‏.‏ أو إفراد لما هو المقصود الأعظم‏.‏ والهداية دلالة بلطف ولذلك تستعمل في الخير وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاهدوهم إلى صراط الجحيم‏}‏ وارد على التهكم‏.‏ ومنه الهداية وهوادي الوحش لمقدماتها، والفعل منه هدى، وأصله أن يعدى باللام، أو إلى، فعومل معاملة اختار في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واختار موسى قَوْمَهُ‏}‏ وهداية الله تعالى تتنوع أنواعاً لا يحصيها عد كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا‏}‏ ولكنها تنحصر في أجناس مترتبة‏:‏

الأول‏:‏ إفاضة القوى التي بها يتمكن المرء من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة‏.‏

الثاني‏:‏ نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد وإليه أشار حيث قال‏:‏ ‏{‏وهديناه النجدين‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم فاستحبوا العمى عَلَى الهدى‏}‏ الثالث‏:‏ الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وإياها عنى بقوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمِ‏}‏ الرابع‏:‏ أن يكشف على قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي بالوحي، أو الإلهام والمنامات الصادقة، وهذا قسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء وإياه عنى بقوله‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا‏}‏ فالمطلوب إما زيادة ما منحوه من الهدى، أو الثبات عليه، أو حصول المراتب المرتبة عليه‏.‏ فإذا قاله العارف بالله الواصل عنى به أرشدنا طريق السير فيك لتمحو عنا ظلمات أحوالنا، وتميط غواشي أبداننا، لنستضيء بنور قدسك فنراك بنورك‏.‏ والأمر والدعاء يتشاركان لفظاً ومعنى ويتفاوتان بالاستعلاء والتسفل، وقيل‏:‏ بالرتبة‏.‏

والسراط‏:‏ من سرط الطعام إذا ابتلعه فكأنه يسرط السابلة، ولذلك سمي لقماً لأنه يلتقمهم‏.‏ و‏{‏الصراط‏}‏ من قلب السين صاداً ليطابق الطاء في الإطباق، وقد يشم الصاد صوت الزاي ليكون أقرب إلى المبدل منه‏.‏ وقرأ ابن كثير برواية قنبل عنه، ورويس عن يعقوب بالأصل، وحمزة بالإشمام، والباقون بالصاد وهو لغة قريش، والثابت في الإمام وجمعه سُرُطْ ككتب وهو كالطريق في التذكير والتأنيث‏.‏

و ‏{‏المستقيم‏}‏ المستوي والمراد به طريق الحق، وقيل‏:‏ هو ملة الإسلام‏.‏

‏{‏صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏ بدل من الأول بدل الكل، وهو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة، وفائدته التوكيد والتنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة على آكد وجه وأبلغه لأنه جعل كالتفسير والبيان له فكأنه من البين الذي لا خفاء فيه أن الطريق المستقيم ما يكون طريق المؤمنين‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏ الأنبياء، وقيل‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقيل‏:‏ أصحاب موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام قبل التحريف والنسخ‏.‏ وقرئ‏:‏ ‏{‏صراط مِنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏ والإنعام‏:‏ إيصال النعمة، وهي في الأصل الحالة التي يستلذها الإنسان فأطلقت لما يستلذه من النعمة وهي اللين، ونعم الله وإن كانت لا تحصى كما قال‏:‏

‏{‏وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا‏}‏ تنحصر في جنسين‏:‏ دنيوي وأخروي‏.‏

والأول قسمان‏:‏ وهبي وكسبي والوهبي قسمان‏:‏ روحاني كنفخ الروح فيه وإشراقه بالعقل وما يتبعه من القوى كالفهم والفكر والنطق، وجسماني كتخليق البدن والقوى الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وكمال الأعضاء والكسبي تزكية النفس عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق السنية والملكات الفاضلة، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلى المستحسنة وحصول الجاه والمال‏.‏

والثاني‏:‏ أن يغفر له ما فرط منه ويرضى عنه ويبوئه في أعلى عليين مع الملائكة المقربين أبد الآبدين‏.‏ والمراد هو القسم الأخير وما يكون وصلة إلى نيله من الآخرة فإن ما عدا ذلك يشترك فيه المؤمن والكافر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين‏}‏ بدل من ‏{‏الذين‏}‏ على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال‏.‏ أو صفة له مبينة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة، وهي نعمة الإيمان، وبين السلامة من الغضب والضلال وذلك إنما يصح بأحد تأويلين، إجراء الموصول مجرى النكرة إذا لم يقصد به معهود كالمحلى في قوله‏:‏

ولَقَد أَمرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني *** وقولهم‏:‏ إني لأمر على الرجل مثلك فيكرمني‏.‏ أو جعل غير معرفة بالإضافة لأنه أضيف إلى ماله ضد واحد وهو المنعم عليهم، فيتعين تعين الحركة من غير السكون‏.‏

وعن ابن كثير نصبه على الحال من الضمير المجرور والعامل أنعمت‏.‏ أو بإضمار أعني‏.‏ أو بالاستثناء إن فسر النعم بما يعم القبيلين، والغضب‏:‏ ثوران النفس إرادة الانتقام، فإذا أسند إلى الله تعالى أريد به المنتهى والغاية على ما مر، وعليهم في محل الرفع لأنه نائب مناب الفاعل بخلاف الأول، ولا مزيدة لتأكيد ما في غير من معنى النفي، فكأنه قال‏:‏ لا المغضوب عليهم ولا الضالين، ولذلك جاز أنا زيداً غير ضارب، كما جاز أنا زيداً لا ضارب، وإن امتنع أنا زيداً مثل ضارب، وقرئ ‏{‏وَغَيْرُ الضالين‏}‏ والضلال‏:‏ العدول عن الطريق السوي عمداً أو خطأ، وله عرض عريض والتفاوت ما بين أدناه وأقصاه كثير‏.‏

قيل‏:‏ ‏{‏المغضوب عَلَيْهِمْ‏}‏ اليهود لقوله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ‏}‏ و‏{‏الضالين‏}‏ النصارى لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً‏}‏ وقد روي مرفوعاً، ويتجه أن يقال‏:‏ المغضوب عليهم العصاة والضالين الجاهلون بالله، لأن المنعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق لذاته والخير للعمل به، وكان المقابل له من اختل إحدى قوتيه العاقلة والعاملة‏.‏ والمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه لقوله تعالى في القاتل عمداً ‏{‏وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ‏}‏ والمخل بالعقل جاهل ضال لقوله‏:‏ ‏{‏فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال‏}‏‏.‏ وقرئ‏:‏ ولا «الضألين» بالهمزة على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين‏.‏

آمين اسم الفعل الذي هو استجب‏.‏ وعن ابن عباس قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معناه فقال‏:‏ ‏"‏ افعل بني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين ‏"‏ وجاء مد ألفه وقصرها قال‏:‏

ويرحَمُ الله عبداً قالَ آمِينا *** وقال‏:‏

أمينَ فزادَ الله ما بيننا بُعدا *** وليس من القرآن وفاقا، لكن يسن ختم السورة به لقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ علمني جبريل آمين عند فراغي من قراءة الفاتحة وقال إنه كالختم على الكتاب ‏"‏‏.‏ وفي معناه قول علي رضي الله عنه‏:‏ آمين خاتم رب العالمين، ختم به دعاء عبده‏.‏ يقوله الإمام ويجهر به في الجهرية لما روي عن وائل بن حجر

«أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا قرأ ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته»‏.‏

وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه لا يقوله، والمشهور عنه أنه يخفيه كما رواه عبد الله بن مغفل وأنس، والمأموم يؤمن معه لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إذا قال الإمام ‏{‏وَلاَ الضالين‏}‏ فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه»‏.‏ وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ «ألا أخبرك بسورة لم يُنَزَّل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها»‏.‏ قال‏:‏ قلت بلى يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ «فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته»‏.‏

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ أتاه ملك فقال‏:‏ أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك‏:‏ فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفاً منهما إلا أعطيته»‏.‏ وعن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضياً فيقرأ صبي من صبيانهم في الكتاب‏:‏ ‏{‏الحمد للَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة»‏.‏

سورة البقرة

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏الم‏}‏ وسائر الألفاظ التي يتهجى بها، أسماء مسمياتها الحروف التي ركبت منها الكلم لدخولها في حد الاسم، واعتوار ما يخص به من التعريف والتنكير والجمع والتصغير ونحو ذلك عليها، وبه صرح الخليل وأبو علي‏.‏ وما روي ابن مسعود رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ ‏"‏ من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف ‏"‏ فالمراد به غير المعنى الذي اصطلح عليه، فإن تخصيصه به عرف مجدَّد بل المعنى اللغوي، ولعله سماه باسم مدلوله‏.‏

ولما كانت مسمياتها حروفاً وحداناً وهي مركبة، صدرت بها لتكون تأديتها بالمسمى أول ما يقرع السمع، واستعيرت الهمزة مكان الألف لتعذر الابتداء بها وهي ما لم تلها العوامل موقوفة خالية عن الإعراب لفقد موجبه ومقتضيه، لكنها قابلة إياه ومعرضة له إذا لم تناسب مبنى الأصل ولذلك قيل‏:‏ ‏{‏ص‏}‏ و‏{‏ق‏}‏ مجموعاً فيهما بين الساكنين ولم تعامل معاملة أين وهؤلاء‏.‏ ثم إن مسمياتها لما كانت عنصر الكلام وبسائطه التي يتركب منها‏.‏ افتتحت السورة بطائفة منها إيقاظاً لمن تحدى بالقرآن وتنبيهاً على أن أصل المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم، فلو كان من عند غير الله لما عجزوا عن آخرهم مع تظاهرهم وقوة فصاحتهم عن الإتيان بما يدانيه، وليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلاً بنوع من الإعجاز، فإن النطق بأسماء الحروف مختص بمن خط ودرس، فأما من الأمي الذي لم يخالط الكتاب فمستبعد مستغرب خارق للعادة كالكتابة والتلاوة سيما وقد راعى في ذلك ما يعجز عنه الأديب الأريب الفائق في فنه، وهو أنه أورد في هذه الفواتح أربعة عشر اسماً هي نصف أسامي حروف المعجم، إن لم يعد فيها الألف حرفاً برأسها في تسع وعشرين سورة بعددها إذا عد فيها الألف الأصلية مشتملة على أنصاف أنواعها، فذكر من المهموسة وهي ما يضعف الاعتماد على مخرجه ويجمعها ‏(‏ستشحثك خصفه‏)‏ نصفها الحاء والكاف والهاء والصاد والسين والكاف، ومن البواقي المجهورة نصفها يجمعه «لن يقطع أمر»‏.‏ ومن الشديدة الثمانية المجموعة في ‏(‏أجدت طبقك‏)‏ أربعة يجمعها ‏(‏أقطك‏)‏‏.‏ ومن البواقي الرخوة عشرة يجمعها «خمس» على نصره، ومن المطبقة التي هي الصاد والضاد والطاء والظاء نصفها، ومن البواقي المنفتحة نصفها، ومن القلقلة وهي‏:‏ حروف تضطرب عند خروجها ويجمعها ‏(‏قد طبج‏)‏ نصفها الأقل لقلتها، ومن اللينتين الياء لأنها أقل ثقلاً، ومن المستعلية وهي‏:‏ التي يتصعد الصوت بها في الحنك الأعلى، وهي سبعة القاف والصاد والطاء والخاء والغين والضاد والظاء نصفها الأقل، ومن البواقي المنخفضة نصفها، ومن حروف البدل وهي أحد عشر على ما ذكره سيبويه، واختاره ابن جني ويجمعها ‏(‏أحد طويت‏)‏ منها الستة الشائعة المشهورة التي يجمعها «أهطمين» وقد زاد بعضهم سبعة أخرى وهي اللام في ‏(‏أصيلال‏)‏ والصاد والزاي في ‏(‏صراط وزراط‏)‏ والفاء في ‏(‏أجداف‏)‏ والعين في ‏(‏أعن‏)‏ والثاء في ‏(‏ثروغ الدلو‏)‏ والباء في «باسمك» حتى صارت ثمانية عشر وقد ذكر منها تسعة الستة المذكورة واللام والصاد والعين‏.‏

ومما يدغم في مثله ولا يدغم في المقارب وهي خمسة عشر‏:‏ الهمزة والهاء والعين والصاد والطاء والميم والياء والخاء والغين والضاد والفاء والظاء والشين والزاي والواو نصفها الأقل‏.‏ ومما يدغم فيهما وهي الثلاثة عشر الباقية نصفها الأكثر‏:‏ الحاء والقاف والراء والسين واللام والنون لما في الإدغام من الخفة والفصاحة، ومن الأربعة التي لا تدغم فيما يقاربها ويدغم فيها مقاربها وهي‏:‏ الميم والزاي والسين والفاء نصفها‏.‏

ولما كانت الحروف الذلقية التي يعتمد عليها بذلق اللسان وهي ستة يجمعها ‏(‏رب منفل‏)‏ والحلقية التي هي الحاء والخاء والعين والغين والهاء والهمزة، كثيرة الوقوع في الكلام ذكر ثلثيهما‏.‏ ولما كانت أبنية المزيد لا تتجاوز عن السباعية ذكر من الزوائد العشرة التي يجمعها ‏(‏اليوم تنساه‏)‏ سبعة أحرف منها تنبيهاً على ذلك، ولو استقريت الكلم وتراكيبها وجدت الحروف المتروكة من كل جنس مكثورة بالمذكورة ثم إنه ذكرها مفردة وثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية، إيذاناً بأن المتحدى به مركب من كلماتهم التي أصولها كلمات مفردة، ومركبة من حرفين فصاعداً إلى الخمسة، وذكر ثلاث مفردات في ثلاث سور لأنها توجد في الأقسام الثلاثة‏:‏ الاسم والفعل والحرف وأربع ثنائيات لأنها تكون في الحرف بلا حذف ‏(‏كبل‏)‏، وفي الفعل بحذف ثقل كقل‏.‏ وفي الاسم بغير حذف كمن، وبه كدم في تسع سور لوقوعها في كل واحد من الأقسام الثلاثة على ثلاثة أوجه‏:‏ ففي الأسماء من وإذ وذو‏.‏ وفي الأفعال قل وبع وخف‏.‏ وفي الحروف من وإن ومذ على لغة من جربها‏.‏ وثلاث ثلاثيات لمجيئها في الأقسام الثلاثة في ثلاث عشرة سورة تنبيهاً على أن أصول الأبنية المستعملة ثلاثة عشر، عشرة منها للأسماء، وثلاثة للأفعال، ورباعيتين وخماسيتين تنبيهاً على أن لكل منهما أصلاً‏:‏ كجعفر وسفرجل، وملحقاً‏:‏ كقردد وجحنفل، ولعلها فرقت على السور ولم تعد بأجمعها في أول القرآن لهذه الفائدة مع ما فيه من إعادة التحدي وتكرير التنبيه والمبالغة فيه‏.‏

والمعنى أن هذا المتحدى به مؤلف من جنس هذه الحروف‏.‏ أو المؤلف منها، كذا وقيل‏:‏ هي أسماء للسور، وعليه إطباق الأكثر‏.‏ سميت بها إشعاراً بأنها كلمات معروفة التركيب فلو لم تكن وحياً من الله تعالى لم تتساقط مقدرتهم دون معارضتها، واستدل عليه بأنها لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل والتكلم بالزنجي مع العربي، ولم يكن القرآن بأسره بياناً وهدى‏.‏

ولما أمكن التحدي به وإن كانت مفهمة، فإما أن يراد بها السور التي هي مستهلها على أنها ألقابها، أو غير ذلك‏.‏ والثاني باطل لأنه؛ إما أن يكون المراد ما وضعت له في لغة العرب فظاهر أنه ليس كذلك، أو غيره وهو باطل لأن القرآن نزل على لغتهم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ‏}‏ فلا يحمل على ما ليس في لغتهم‏.‏

لا يقال‏:‏ لم لا يجوز أن تكون مزيدة للتنبيه‏؟‏ والدلالة على انقطاع كلام واستئناف آخر‏؟‏ كما قاله قطرب، أو إشارة إلى كلمات هي منها اقتصرت عليها اقتصار الشاعر في قوله‏:‏

قلتُ لها قفي فقالتْ قَافْ *** كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ الألف آلاء الله، واللام لفظه، والميم ملكه‏.‏ وعنه أن الر وحم ون مجموعها الرحمن‏.‏ وعنه أن الم معناه‏:‏ أنا الله أعلم ونحو ذلك في سائر الفواتح‏.‏ وعنه أن الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد أي‏:‏ القرآن منزل من الله بلسان جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام، أو إلى مدد أقوام وآجال بحساب الجمل كما قال أبو العالية متمسكاً بما روي‏:‏ «أنه عليه الصلاة والسلام لما أتاه اليهود تلا عليهم الم البقرة‏.‏ فحسبوه وقالوا‏:‏ كيف ندخل في دين مدته إحدى وسبعون سنة، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ فهل غيره، فقال‏:‏ المص والر والمر، فقالوا‏:‏ خلطت علينا فلا ندري بأيها نأخذ»‏.‏ فإن تلاوته إياها بهذا الترتيب عليهم وتقريرهم على استنباطهم دليل على ذلك، وهذه الدلالة وإن لم تكن عربية لكنها لاشتهارها فيما بين الناس حتى العرب تلحقها بالمعربات كالمشكاة والسجيل والقسطاس، أو دلالة على الحروف المبسوطة مقسماً بها لشرفها من حيث إنها بسائط أسماء الله تعالى ومادة خطابه‏.‏

هذا وإن القول بأنها أسماء السور يخرجها ما ليس في لغة العرب، لأن التسمية بثلاثة أسماء فصاعداً مستكره عندهم ويؤدي إلى اتحاد الاسم والمسمى، ويستدعي تأخر الجزء عن الكل من حيث إن الاسم متأخر عن المسمى بالرتبة، لأنا نقول‏:‏ إن هذه الألفاظ لم تعهد مزيدة للتنبيه والدلالة على الانقطاع والاستئناف يلزمها وغيرها من حيث إنها فواتح السور، ولا يقتضي ذلك أن لا يكون لها معنى في حيزها ولم تستعمل للاختصار من كلمات معينة في لغتهم، أما الشعر فشاذ، وأما قول ابن عباس، فتنبيه على أن هذه الحروف منبع الأسماء ومبادئ الخطاب وتمثيل بأمثلة حسنة، ألا ترى أنه عد كل حرف من كلمات متباينة لا تفسير، وتخصيص بهذه المعاني دون غيرها إذ لا مخصص لفظاً ومعنى ولا بحساب الجمل فتلحق بالمعربات، والحديث لا دليل فيه، لجواز أنه عليه الصلاة والسلام تبسم تعجباً من جهلهم، وجعلها مقسماً بها وإن كان غير ممتنع لكنه يحوج إلى إضمار أشياء لا دليل عليها، والتسمية بثلاثة أسماء إنما تمتنع إذا ركبت وجعلت اسماً واحداً على طريقة بعلبك، فأما إذا نثرت نثر أسماء العدد فلا، وناهيك بتسوية سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر وطائفة من أسماء حروف المعجم، والمسمى هو مجموع السورة والاسم جزؤها فلا اتحاد، وهو مقدم من حيث ذاته مؤخر باعتبار كونه اسماً، فلا دور لاختلاف الجهتين‏.‏

والوجه الأول أقرب إلى التحقيق وأوفق للطائف التنزيل وأسلم من لزوم النقل ووقوع الاشتراك في الأعلام من واضع واحد فإنه يعود بالنقض على ما هو مقصود بالعلمية، وقيل‏:‏ إنها أسماء القرآن ولذلك أخبر عنها بالكتاب والقرآن‏.‏

وقيل‏:‏ إنها أسماء لله تعالى ويدل عليه أن علياً كرم الله وجهه كان يقول‏:‏ يا كهيعص، ويا حمعسق، ولعله أراد يا منزلهما‏.‏

وقيل الألف‏:‏ من أقصى الحلق وهو مبدأ المخارج، واللام‏:‏ من طرف اللسان وهو أوسطها، والميم‏:‏ من الشفة وهو آخرها جمع بينها إيماء إلى أن العبد ينبغي أن يكون أول كلامه وأوسطه وآخره ذكر الله تعالى‏.‏

وقيل‏:‏ إنه سر استأثره الله بعلمه وقد روي عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة ما يقرب منه، ولعلهم أرادوا أنها أسرار بين الله تعالى ورسوله ورموز لم يقصد بها إفهام غيره إذ يبعد الخطاب بما لا يفيد‏.‏ فإن جعلتها أسماء الله تعالى، أو القرآن، أو السور كان لها حظ من الإعراب إما الرفع على الابتداء، أو الخبر، أو النصب بتقدير فعل القسم على طريقة الله لأفعلن بالنصب أو غيره كما ذكر، أو الجر على إضمار حرف القسَم، ويتأتى الإعراب لفظاً والحكاية فيما كانت مفردة أو موازنة لمفرد كحم فإنها كهابيل، والحكاية ليست إلا فيما عدا ذلك، وسيعود إليك ذكره مفصلاً إن شاء الله تعالى، وإن أبقيتها على معانيها فإن قدرت بالمؤلف من هذه الحروف كان في حيز الرفع بالابتداء أو الخبر على ما مر، وإن جعلتها مقسماً بها يكون كل كلمة منها منصوباً أو مجروراً على اللغتين في الله لأفعلن، وتكون جملة قسمية بالفعل المقدر له، وإن جعلتها أبعاض كلمات أو أصواتاً منزلة منزلة حروف التنبيه لم يكن لها محل من الإعراب كالجمل المبتدأة والمفردات المعدودة ويوقف عليها وقف التمام إذا قدرت بحيث لا تحتاج إلى ما بعدها، وليس شيء منها آية عند غير الكوفيين‏.‏ وأما عندهم ف ‏{‏الم‏}‏ في مواضعها، و‏{‏المص‏}‏ و‏{‏كهيعص‏}‏ و‏{‏طه‏}‏ و‏{‏طسم‏}‏ و‏{‏طس‏}‏ و‏{‏يس‏}‏ و‏{‏حم‏}‏ آية، و‏{‏حم‏}‏ ‏{‏عَسَق‏}‏ آيتان، والبواقي ليست بآيات وهذا توقيف لا مجال للقياس فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك الكتاب‏}‏ ذلك إشارة إلى ‏{‏الم‏}‏ إن أول بالمؤلف من هذه الحروف أو فسر بالسورة أو القرآن فإنه لما تكلم به وتقضى، أو وصل من المرسل إلى المرسل إليه صار متباعداً أشير إليه بما يشار به إلى البعيد وتذكيره، متى أريد ب ‏{‏الم‏}‏ السورة لتذكير الكتاب فإنه خبره أو صفته الذي هو هو، أو إلى الكتاب فيكون صفته والمراد به الكتاب الموعود إنزاله بنحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً‏}‏ أو في الكتب المتقدمة‏.‏ وهو مصدر سمي به المفعول للمبالغة‏.‏

وقيل فعال بمعنى المفعول كاللباس، ثم أطلق على المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنه مما يكتب‏.‏ وأصل الكتب الجمع ومنه الكتيبة‏.‏

‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ معناه أنه لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا يرتاب العاقل بعد النظر الصحيح في كونه وحياً بالغاً حد الإعجاز، لا أن أحداً لا يرتاب فيه، ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا‏}‏ الآية فإنه ما أبعد عنهم الريب بل عرفهم الطريق المُريح له، وهو أن يجتهدوا في معارضة نجم من نجومه ويبذلوا فيها غاية جهدهم حتى إذا عجزوا عنها تحقق لهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة‏.‏

وقيل‏:‏ معناه لا ريب فيه للمتقين‏.‏ وهدى حال من الضمير المجرور، والعامل فيه الظرف الواقع صفة للمنفي‏.‏ والريب في الأصل مصدر رابني الشيء إذا حصل فيك الريبة، وهي قلق النفس واضطرابها، سمي به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة‏.‏ وفي الحديث «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة، ومنه ريب الزمان لنوائبه‏.‏

‏{‏هُدًى لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ يهديهم إلى الحق، والهدى في الأصل كالسرى والتقى ومعناه الدلالة‏.‏

وقيل‏:‏ الدلالة الموصلة إلى البغية لأنه جعل مقابل الضلالة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ ولأنه لا يقال مهدي إلا لمن اهتدى إلى المطلوب‏.‏ واختصاصه بالمتقين لأنهم المهتدون به والمنتفعون بنصه، وإن كانت دلالته عامة لكل ناظر من مسلم أو كافر وبهذا الاعتبار قال تعالى‏:‏ ‏{‏هُدًى لّلنَّاسِ‏}‏ أو لأنه لا ينتفع بالتأمل فيه إلا من صقل العقل واستعمله في تدبر الآيات والنظر في المعجزات، وتعرف النبوات، لأنه كالغذاء الصالح لحفظ الصحة فإنه لا يجلب نفعاً ما لم تكن الصحة حاصلة، وإليه أشار بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُنَزّلُ مِنَ القرءان مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا‏}‏ ولا يقدح ما فيه من المجمل والمتشابه في كونه هدى لما لم ينفك عن بيان يعين المراد منه‏.‏

والمتقي اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى‏.‏ والوقاية‏:‏ فرط الصيانة‏.‏ وهو في عرف الشرع اسم لمن يقي نفسه مما يضره في الآخرة، وله ثلاث مراتب‏:‏

الأولى‏:‏ التوقي من العذاب المخلد بالتبري من الشرك وعليه قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى‏}‏ الثانية‏:‏ التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع، وهو المعنى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءامَنُواْ واتقوا‏}‏ الثالثة‏:‏ أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه بشراشره وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ وقد فسر قوله‏:‏ ‏{‏هُدًى لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ههنا على الأوجه الثلاثة‏.‏

واعلم أن الآية تحتمل أوجهاً من الإعراب‏:‏ أن يكون ‏{‏الم‏}‏ مبتدأ على أنه اسم للقرآن‏.‏ أو السورة‏.‏ أو مقدر بالمؤلف منها، وذلك خبره وإن كان أخص من المؤلف مطلقاً، والأصل أن الأخص لا يحمل على الأعم لأن المراد به المؤلف الكامل في تأليفه البالغ أقصى درجات الفصاحة ومراتب البلاغة والكتاب صفة ذلك‏.‏

وأن يكون ‏{‏الم‏}‏ خبر مبتدأ محذوف وذلك خبراً ثانياً‏.‏ أو بدلاً والكتاب صفته، و‏{‏لاَ رَيْب‏}‏ في المشهورة مبني لتضمنه معنى من منصوب المحل على أنه اسم لا النافية للجنس العاملة عمل إنَّ، لأنها تقتضيها ولازمة للأسماء لزومها‏.‏ وفي قراءة أبي الشعثاء مرفوع بلا التي بمعنى ليس وفيه خبره ولم يقدم كما قدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا فِيهَا غَوْلٌ‏}‏ لأنه لم يقصد تخصيص نفي الريب به من بين سائر الكتب كما قصد ثمة، أو صفته وللمتقين خبره‏.‏ وهدى نصب على الحال، أو الخبر محذوف كما في ‏{‏لا‏}‏، ضمير‏.‏ فلذلك وقف على ‏{‏لاَ رَيْبَ‏}‏، على أن فيه خبر هدى قدم عليه لتنكيره والتقدير‏:‏ لا ريب فيه، فيه هدى، وأن يكون ذلك مبتدأ و‏{‏الكتاب‏}‏ خبره على معنى‏:‏ أنه الكتاب الكامل الذي يستأهل أن يسمى كتاباً، أو صفته وما بعده خبره والجملة خبر ‏{‏الم‏}‏

والأولى أن يقال إنها جمل متناسقة تقرر اللاحقة منها السابقة ولذلك لم يدخل العاطف بينهما‏.‏ ف ‏{‏الم‏}‏، جملة دلت على أن المتحدى به هو المؤلف من جنس ما يركبون منه كلامهم، وذلك الكتاب جملة ثانية مقررة لجهة التحدي، و‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏، جملة ثالثة تشهد على كماله بأن الكتاب المنعوت بغاية الكمال إذ لا كمال أعلى مما للحق واليقين‏.‏ و‏{‏هُدًى لّلْمُتَّقِينَ‏}‏، بما يقدر له مبتدأ جملة رابعة تؤكد كونه حقاً لا يحوم الشك حوله بأنه ‏{‏هُدًى لّلْمُتَّقِينَ‏}‏، أو تستتبع السابقة منها اللاحقة استتباع الدليل للمدلول، وبيانه أنه لما نبه أولاً على إعجاز المتحدى به من حيث إنه من جنس كلامهم وقد عجزوا عن معارضته، استنتج منه أنه الكتاب البالغ حد الكمال واستلزم ذلك أن لا يتشبث الريب بأطرافه إذ لا أنقص مما يعتريه الشك والشبهة، وما كان كذلك كان لا محالة ‏{‏هُدًى لّلْمُتَّقِينَ‏}‏، وفي كل واحدة منها نكتة ذات جزالة ففي الأولى الحذف والرمز إلى المقصود مع التعليل، وفي الثانية فخامة التعريف، وفي الثالثة تأخير الظرف حذراً عن إيهام الباطل، وفي الرابعة الحذف والتوصيف بالمصدر للمبالغة وإيراده منكراً للتعظيم وتخصيص الهُدى بالمتقين باعتبار الغاية تسمية المشارف للتقوى متقياً إيجازاً وتفخيماً لشأنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب‏}‏ إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة مقيدة له إن فسر التقوى بترك ما لا ينبغي مترتبة عليه ترتيب التحلية على التخلية، والتصوير على التصقيل‏.‏ أو موضحة إن فسر بما يعم فعل الحسنات وترك السيئات لاشتماله على ما هو أصل الأعمال وأساس الحسنات من الإيمان والصلاة والصدقة، فإنها أمهات الأعمال النفسانية والعبادات البدنية والمالية المستتبعة لسائر الطاعات والتجنب عن المعاصي غالباً، ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ الصلاةَ تنهى عن الفحشاءِ والمُنكر‏}‏ وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الصلاة عماد الدين، والزكاة قنطرة الإسلام» أو مسوقة للمدح بما تضمنه المتقين‏.‏ وتخصيص الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر إظهار لفضلها على سائر ما يدخل تحت اسم التقوى‏.‏ أو على أنه مدح منصوب، أو مرفوع بتقدير أعني أو هم الذين‏.‏ وإما مفصول عنه مرفوع بالابتداء وخبره أولئك على هدى، فيكون الوقف على المتقين تاماً‏.‏

والإيمان في اللغة عبارة عن التصديق مأخوذ من الأمن، كأن المصدِّق أمن من المصدَّق التكذيب والمخالفة، وتعديته بالباء لتضمنه معنى الاعتراف وقد يطلق بمعنى الوثوق من حيث إن الواثق بالشيء صار ذا أمن منه، ومنه ما أمنت أن أجد صحابة وكلا الوجهين حسن في يؤمنون بالغيب‏.‏

وأما في الشرع‏:‏ فالتصديق بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم كالتوحيد والنبوة والبعث والجزاء، ومجموع ثلاثة أمور‏:‏ اعتقاد الحق، والإقرار به، والعمل بمقتضاه عند جمهور المحدثين والمعتزلة والخوارج‏.‏ فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق، ومن أخل بالإقرار فكافر، ومن أخل بالعمل ففاسق وفاقاً، وكافر عند الخوارج، وخارج عن الإيمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة، والذي يدل على أنه التصديق وحده أنه سبحانه وتعالى أضاف الإيمان إلى القلب فقال‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان‏}‏ ‏{‏وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان‏}‏ ‏{‏وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ‏}‏ ‏{‏وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِى قُلُوبِكُمْ‏}‏ وعطف عليه العمل الصالح في مواضع لا تحصى وقرنه بالمعاصي فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا‏}‏ ‏{‏ا يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى‏}‏ ‏{‏الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ‏}‏ مع ما فيه من قلة التغيير فإنه أقرب إلى الأصل وهو متعين الإرادة في الآية، إذ المعدى بالباء هو التصديق وفاقاً‏.‏ ثم اختلف في أن مجرد التصديق بالقلب هل هو كاف لأنه المقصود أم لا بد من انضمام الإقرار به للمتمكن منه، ولعل الحق هو الثاني لأنه تعالى ذم المعاند أكثر من ذم الجاهل المقصر، وللمانع أن يجعل الذم للإنكار لا لعدم الإقرار للمتمكن منه‏.‏

والغيب مصدر، وصف به للمبالغة كالشهادة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عالم الغيب والشهادة‏}‏ والعرب تسمي المطمئن من الأرض والخمصة التي تلي الكلية غيباً، أو فيعل خفف كقيل، والمراد به الخفي الذي لا يدركه الحس ولا تقتضيه بديهة العقل، وهو قسمان‏:‏ قسم لا دليل عليه وهو المعني بقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ‏}‏ وقسم نصب موقع عليه دليل‏:‏ كالصانع وصفاته واليوم الآخر وأحواله وهو المراد به في هذه الآية، هذا إذا جعلته صلة للإيمان وأوقعته موقع المفعول به‏.‏ وإن جعلته حالاً على تقدير ملتبسين بالغيب كان بمعنى الغيبة والخفاء‏.‏ والمعنى أنهم يؤمنون غائبين عنكم لا كالمنافقين الذين إذا ‏{‏لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ‏}‏ أو عن المؤمن به لما روي أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ هذه الآية‏.‏ وقيل المراد بالغيب‏:‏ القلب لأنه مستور، والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم‏.‏ فالباء على الأول للتعدية‏.‏ وعلى الثاني للمصاحبة‏.‏ وعلى الثالث للآلة‏.‏

‏{‏وَيُقِيمُونَ الصلاة‏}‏ أي يعدلون أركانها ويحفظونها من أن يقع زيغ في أفعالها، من أقام العود إذا قومه أو يواظبون عليها، من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة قال‏:‏

أقَامتْ غزالةً سُوقَ الضُراب *** لأهْلِ العِرَاقينِ حَولاً قَمِيطا

فإنه إذا حوفظ عليها كانت كالنافق الذي يرغب فيه، وإذا ضيعت كانت كالكاسد المرغوب عنه، أو يتشمرون لأدائها من غير فتور ولا توان، من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جد فيه وتجلد، وضده قعد عن الأمر، وتقاعد‏.‏ أو يؤدونها‏.‏

عبر عن الأداء بالإقامة لاشتمالها على القيام، كما عبر عنها بالقنوت والركوع والسجود والتسبيح‏.‏ والأول أظهر لأنه أشهر وإلى الحقيقة أقرب، وأفيد لتضمنه التنبيه على أن الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن، وحقوقها الباطنة من الخشوع والإقبال بقلبه على الله تعالى، لا ‏{‏لّلْمُصَلّينَ الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ‏}‏، ولذلك ذكر في سياق المدح والمقيمين الصلاة، وفي معرض الذم فويل للمصلين، والصلاة فعلة من صلى إذا دعا كالزكاة من زكى، كتبتا بالواو على لفظ المفخم، وإنما سمي الفعل المخصوص بها لاشتماله على الدعاء‏.‏

وقيل‏:‏ أصل صلى حرك الصلوين لأن المصلي يفعله في ركوعه وسجوده، واشتهار هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله عنه، وإنما سمي الداعي مصلياً تشبيهاً له في تخشعه بالراكع الساجد‏.‏

‏{‏وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ‏}‏ الرزق في اللغة‏:‏ الحظ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ‏}‏ والعرف خصصه بتخصيص الشيء بالحيوان للانتفاع به وتمكينه منه‏.‏

وأما المعتزلة لما استحالوا على الله تعالى أن يمكن من الحرام لأنه منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه، قالوا‏:‏ الحرام ليس برزق، ألا ترى أنه تعالى أسند الرزق ههنا إلى نفسه إيذاناً بأنهم ينفقون الحلال المطلق‏.‏

فإن إنفاق الحرام لا يوجب المدح، وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً‏}‏ وأصحابنا جعلوا الإسناد للتعظيم والتحريض على الإنفاق، والذم لتحريم ما لم يحرم‏.‏ واختصاص ما رزقناهم بالحلال للقرينة‏.‏ وتمسكوا لشمول الرزق له بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن قرة‏:‏ «لقد رزقك الله طيباً فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله»‏.‏ وبأنه لو لم يكن رزقاً لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقاً، وليس كذلك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الارض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا‏}‏ وأنفق الشيء وأنفده أخوان، ولو استقريت الألفاظ وجدت كل ما فاؤه نون وعينه فاء دالاً على معنى الذهاب والخروج، والظاهر من هذا الإنفاق صرف المال في سبيل الخير من الفرض والنفل‏.‏ ومن فسره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه، أو خصصه بها لاقترانه بما هو شقيقها‏.‏ وتقديم المفعول للاهتمام به وللمحافظة على رؤوس الآي، وإدخال من التبعيضية عليه لمنع المكلف عن الإسراف المنهي عنه‏.‏ ويحتمل أن يراد به الإنفاق من جميع المعاون التي أتاهم الله من النعم الظاهرة والباطنة، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إن عِلماً لا يُقال به، ككنزٌ لا يُنفق منه» وإليه ذهب من قال‏:‏ ومما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏والذين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ‏}‏ هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه وأضرابه، معطوفون على ‏{‏الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب‏}‏ داخلون معهم في جملة المتقين دخول أخصين تحت أعم، إذ المراد بأولئك الذين آمنوا عن شرك وإنكار، وبهؤلاء مقابلوهم فكانت الآيتان تفصيلاً ‏{‏لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏ أو على المتقين وكأنه قال ‏{‏هُدًى لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ عن الشرك، والذين آمنوا من أهل الملل‏.‏ ويحتمل أن يراد بهم الأولون بأعيانهم، وَوُسِّط العاطف كما وسط في قوله‏:‏

إلى الملك القَرْمِ وابنِ الهمام *** وليْثِ الكتيبةِ في المزْدَحمْ

وقوله‏:‏

يا لهفَ ذؤابةَ للحارثِ الصَ *** ائحِ فالغَانمِ فالآيِبِ

على معنى أنهم الجامعون بين الإيمان بما يدركه العقل جملة والإتيان بما يصدقه من العبادات البدنية والمالية وبين الإيمان بما لا طريق إليه عبر السمع‏.‏ وكرر الموصول تنبيهاً على تغاير القبيلين وتباين السبيلين‏.‏ أو طائفة منهم وهم مؤمنو أهل الكتاب، ذكرهم مخصصين عن الجملة كذكر جبريل وميكائيل بعد الملائكة تعظيماً لشأنهم وترغيباً لأمثالهم‏.‏

والإنزال نقل الشيء من الأعلى إلى الأسفل وهو إنما يلحق المعاني بتوسط لحوقه الذوات الحاملة لها، ولعل نزول الكتب الإلهية على الرسل بأن يلتقفه الملك من الله تعالى تلقفاً روحانياً، أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به فيبلغه إلى الرسول‏.‏ والمراد ‏{‏بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ‏}‏ القرآن بأسره والشريعة عن آخرها، وإنما عبر عنه بلفظ الماضي وإن كان بعضه مترقباً تغليباً للموجود على ما لم يوجد‏.‏ أو تنزيلاً للمنتظر منزلة الواقع، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَمِعْنَا كتابا أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى‏}‏ فإن الجنَّ لم يسمعوا جميعه ولم يكن الكتاب كله مُنَزَّلاً حينئذ‏.‏ وبما ‏{‏أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ‏}‏ التوراة والإنجيل وسائر الكتب السابقة، والإيمان بها جملةً فرض عين، وبالأول دون الثاني تفصيلاً من حيث إنا متعبدون بتفاصيله فرض، ولكن على الكفاية‏.‏ لأن وجوبه على كل أحد يوجب الحرج وفساد المعاش‏.‏

‏{‏وبالأخرة هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏ أي يوقنون إيقاناً زال معه ما كانوا عليه من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هوداً أو نصارى، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة، واختلافهم في نعيم الجنة‏:‏ أهو من جنس نعيم الدنيا أو غيره‏؟‏ وفي دوامه وانقطاعه، وفي تقديم الصلة وبناء يوقنون على هم تعريض لمن عداهم من أهل الكتاب، وبأن اعتقادهم في أمر الآخرة غير مطابق ولا صادر عن إيقان‏.‏ واليقين‏:‏ إتقان العلم بنفي الشك والشبهة عنه نظراً واستدلالاً، ولذلك لا يوصف به علم البارئ، ولا العلوم الضرورية‏.‏ والآخرة تأنيث الآخر، صفة الدار بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الدار الآخرة‏}‏ فغلبت كالدنيا، وعن نافع أنه خففها بحذف الهمزة إلقاء حركتها على اللام، وقرئ يوقنون بقلب الواو همزة لضم ما قبلها إجراء لها مجرى المضمومة في وجوه ووقتت ونظيره‏:‏

لحبِّ المؤقدان إلى مؤسَى *** وجعدةَ إذ أضاءهما الوقودُ

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ‏}‏ الجملة في محل الرفع إن جعل أحد الموصولين مفصولاً عن المتقين خبر له، فكأنه لما قيل ‏{‏هُدًى لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ قيل ما بالهم خصوا بذلك‏؟‏ فأجيب بقوله‏:‏ ‏{‏الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب‏}‏ إلى آخر الآيات‏.‏ وإلا فاستئناف لا محل لها، فكأنه نتيجة الأحكام والصفات المتقدمة‏.‏ أو جواب سائل قال‏:‏ ما للموصوفين بهذه الصفات اختصوا بالهدى‏؟‏ ونظيره أحسنت إلى زيد صديقك القديم حقيق بالإحسان، فإن اسم الإشارة ههنا كإعادة الموصوف بصفاته المذكورة، وهو أبلغ من أن يستأنف بإعادة الاسم وحده لما فيه من بيان المقتضى وتلخيصه، فإن ترتب الحكم على الوصف إيذان بأنه الموجب له‏.‏ ومعنى الاستعلاء في ‏{‏على هُدًى‏}‏ تمثيل تمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه بحال من اعتلى الشيء وركبه، وقد صرحوا به في قولهم‏:‏ امتطى الجهل وغوى واقتعد غارب الهوى، وذلك إنما يحصل باستفراغ الفكر وإدامة النظر فيما نصب من الحجج والمواظبة على محاسبة النفس في العمل‏.‏ ونُكِّرَ هدىً للتعظيم‏.‏ فكأنه أريد به ضرب لا يبالغ كنهه ولا يقادر قدره، ونظيره قول الهذلي‏:‏

فلا وأبي الطيرُ المربَّةَ بالضُّحَى *** على خالدٍ لقدْ وقَعْتَ على لحم

وأُكِد تعظيمه بأن الله تعالى مَانِحُهُ والموفق له، وقد أدغمت النون في الراء بغنة وبغير غنة‏.‏

‏{‏وأولئك هُمُ المفلحون‏}‏ كرر فيه اسم الإشارة تنبيهاً على أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضي كل واحدة من الأثرتين وإن كلاً منهما كاف في تمييزهم بها عن غيرهم، ووسط العاطف لاختلاف مفهوم الجملتين ههنا بخلاف قوله ‏{‏أُوْلَئِكَ كالانعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغافلون‏}‏ فإن التسجيل بالغفلة والتشبيه بالبهائم شيء واحد فكانت الجملة الثانية مقررة للأولى فلا تناسب العطف‏.‏ وهم‏:‏ فصل يفصل الخبر عن الصفة ويؤكد النسبة، ويفيد اختصاص المسند إليه، أو مبتدأ والمفلحون خبره والجملة خبر أولئك‏.‏ والمفلح بالحاء والجيم‏:‏ الفائز بالمطلوب، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر، وهذا التركيب وما يشاركه في الفاء والعين نحو فلق وفلذ وفلي يدل على الشق‏.‏ والفتح وتعريف المفلحين للدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة‏.‏ أو الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين وخصوصياتهم‏.‏

تنبيه‏:‏ تأمل كيف نبه سبحانه وتعالى على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله كل أحد من وجوه شتى، وبناء الكلام على اسم الإشارة للتعليل مع الإيجاز وتكريره وتعريف الخبر وتوسيط الفصل، لإظهار قدرهم والترغيب في اقتفاء أثرهم، وقد تشبث به الوعيدية في خلود الفساق من أهل القبلة في العذاب، ورد بأن المراد بالمفلحين الكاملون في الفلاح، ويلزمه عدم كمال الفلاح لمن ليس على صفتهم، لا عدم الفلاح له رأساً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ لما ذكر خاصة عباده، وخلاصة أوليائه بصفاتهم التي أهلتهم للهدى والفلاح، عقبهم بأضدادهم العتاة المردة، الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا تغني عنهم الآيات والنذر، ولم يعطف قصتهم على قصة المؤمنين كما عطف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الابرار لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ‏}‏ لتباينهما في الغرض، فإن الأولى سيقت لذكر الكتاب وبيان شأنه والأخرى مسوقة لشرح تمردهم، وانهماكهم في الضلال، و‏(‏إن‏)‏ من الحروف التي تشابه الفعل في عدد الحروف والبناء على الفتح ولزوم الأسماء وإعطاء معانيه، والمتعدي خاصة في دخولها على اسمين‏.‏ ولذلك أعملت عمله الفرعي وهو نصب الجزء الأول ورفع الثاني إيذاناً بأنه فرع في العمل دخيل فيه‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ الخبر قبل دخولها كان مرفوعاً بالخبرية، وهي بعد باقية مقتضية للرفع قضية للاستصحاب فلا يرفعه الحرف‏.‏ وأجيب بأن اقتضاء الخبرية الرفع مشروط بالتجرد لتخلفه عنها في خبر كان، وقد زال بدخولها فتعين إعمال الحرف‏.‏ وفائدتها تأكيد النسبة وتحقيقها، ولذلك يُتَلَقَّى بها القَسَم ويصدر بها الأجوبة، وتذكر في معرض الشك مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض‏}‏، ‏{‏وَقَالَ موسى يافرعون إِنّى رَسُولٌ مِن رَّبّ العالمين‏}‏ قال المبرد‏:‏ «قولك‏:‏ عبد الله قائم، إخبار عن قيامه، وإن عبد الله قائم، جواب سائل عن قيامه، وإن عبد الله لقائم، جواب منكر لقيامه»‏.‏ وتعريف الموصول‏:‏ إما للعهد، والمراد به ناس بأعيانهم كأبي لهب، وأبي جهل، والوليد بن المغيرة، وأحبار اليهود‏.‏ أو للجنس، متناولاً من صمم على الكفر، وغيرهم‏.‏ فخص منهم غير المصرين بما أسند إليه‏.‏ والكفر لغة‏:‏ ستر النعمة، وأصله الكَفْر بالفتح وهو الستر، ومنه قيل للزارع ولليل كافر، ولكمام الثمرة كافور‏.‏ وفي الشرع‏:‏ إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم به، وإنما عُدَّ لبس الغيار وشد الزنار ونحوهما كفراً لأنها تدل على التكذيب، فإن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجترئ عليها ظاهراً لا أنها كفر في أنفسها‏.‏

واحتجت المعتزلة بما جاء في القرآن بلفظ الماضي على حدوثه لاستدعائه سابقة المخبر عنه، وأجيب بأنه مقتضى التعلق وحدوثه لا يستلزم حدوث الكلام كما في العلم‏.‏

‏{‏سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ‏}‏ خبر إن وسواء اسم بمعنى الاستواء، نعت به كما نعت بالمصادر قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ‏}‏ رفع بأنه خبر إن وما بعده مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل‏:‏ إن الذين كفروا مستوٍ عليهم إنذارك وعدمه، أو بأنه خبر لما بعده بمعنى‏:‏ إنذارك وعدمه سيان عليهم، والفعل إنما يمتنع الإخبار عنه إذا أريد به تمام ما وضع له، أما لو أطلق وأريد به اللفظ، أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمناً على الاتساع فهو كالاسم في الإضافة، والإسناد إليه كقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ‏}‏ وقولهم‏:‏ تَسْمَعُ بِالْمِعيديِّ خَيرٌ مِنْ أَنْ تَراَه‏.‏

وإنما عدل ههنا عن المصدر إلى الفعل لما فيه من إيهام التجدد وحسن دخول الهمزة، وأم عليه لتقرير معنى الاستواء وتأكيده، فإنهما جردتا عن معنى الاستفهام لمجرد الاستواء، كما جردت حروف النداء عن الطلب لمجرد التخصيص في قولهم‏:‏ اللهم اغفر لنا أيتها العصابة‏.‏

والإنذار‏:‏ التخويف أريد به التخويف من عذاب الله، وإنما اقتصر عليه دون البشارة لأنه أوقع في القلب وأشد تأثيراً في النفس، من حيث إن دفع الضر أهم من جلب النفع، فإذا لم ينفع فيهم كانت البشارة بعدم النفع أولى، وقرئ ‏{‏ءَأَنذَرْتَهُمْ‏}‏ بتحقيق الهمزتين وتخفيف الثانية بين بين، وقلبها ألفاً وهو لحن لأن المتحركة لا تقلب، ولأنه يؤدي إلى جمع الساكنين على غير حده، وبتوسيط ألف بينهما محققتين، وبتوسيطها والثانية بين بين وبحذف الاستفهامية، وبحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها‏.‏

‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ جملة مفسرة لإجمال ما قبلها فيما فيه الاستواء فلا محل لها أو حال مؤكدة‏.‏ أو بدل عنه‏.‏ أو خبر إن والجملة قبلها اعتراض بما هو علة الحكم‏.‏

والآية مما احتج به من جوز تكليف ما لا يطاق، فإنه سبحانه وتعالى أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان، فلو آمنوا انقلب خبره كذباً‏.‏ وشمل إيمانهم الإيمان بأنهم لا يؤمنون فيجتمع الضدان، والحق أن التكليف بالممتنع لذاته وإن جاز عقلاً من حيث إن الأحكام لا تستدعي غرضاً سيما الامتثال، لكنه غير واقع للاستقراء، والإخبار بوقوع الشيء أو عدمه لا ينفي القدرة عليه كإخباره تعالى عما يفعله هو أو العبد باختياره، وفائدة الإنذار بعد العلم بأنه لا ينجح إلزام الحجة، وحيازة الرسول فضل الإبلاغ، ولذلك قال ‏{‏سَوَاء عَلَيْهِمْ‏}‏ ولم يقل سواء عليك‏.‏ كما قال لعبدة الأصنام ‏{‏سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون‏}‏‏.‏ وفي الآية إخبار بالغيب على ما هو به إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم غشاوة‏}‏ تعليل للحكمِ السابق وبيان لما يقتضيه‏.‏ والختم الكتم، سمي به الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه لأنه كتم له والبلوغ آخره نظراً إلى أنه آخر فعل يفعل في إحرازه‏.‏ والغشاوة‏:‏ فعالة من غشاه إذا غطاه، بنيت لما يشتمل على الشيء، كالعصابة والعمامة ولا ختم ولا تغشية على الحقيقة، وإنما المراد بهما أن يحدث في نفوسهم هيئة تمرنهم على استحباب الكفر والمعاصي، واستقباح الإيمان والطاعات بسبب غيهم، وانهماكهم في التقليد، وإعراضهم عن النظر الصحيح، فتجعل قلوبهم بحيث لا ينفذ فيها الحق، وأسماعهم تعاف استماعه فتصير كأنها مستوثق منها بالختم، وأبصارهم لا تجتلي الآيات المنصوبة لهم في الأنفس والآفاق كما تجتليها أعين المستبصرين، فتصير كأنها غُطي عليها‏.‏ وحيل بينها وبين الإبصار، وسماه على الاستعارة ختماً وتغشية‏.‏ أو مثل قلوبهم ومشاعرهم المؤوفة بها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها ختماً وتغطية، وقد عبر عن إحداث هذه الهيئة بالطبع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وأبصارهم‏}‏ وبالاغفال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا‏}‏ وبالاقساء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً‏}‏ وهي من حيث إن الممكنات بأسرها مستندة إلى الله تعالى واقعة بقدرته أسندت إليه ومن حيث إنها مسببة مما اقترفوه بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ‏}‏ وردت الآية ناعية عليهم شناعة صفتهم ووخامة عاقبتهم‏.‏ واضطربت المعتزلة فيه فذكروا وجوهاً من التأويل‏:‏

الأول‏:‏ أن القوم لما أعرضوا عن الحق وتمكن ذلك في قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم، شبه بالوصف الخلقي المجبول عليه‏.‏

الثاني‏:‏ أن المراد به تمثيل حال قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله تعالى خالية عن الفطن‏.‏ أو قلوب مقدر ختم الله عليها، ونظيره‏:‏ سال به الوادي إذا هلك‏.‏ وطارت به العنقاء إذا طالت غيبته‏.‏

الثالث‏:‏ أن ذلك في الحقيقة فعل الشيطان أو الكافر، لكن لما كان صدوره عنه بإقداره تعالى إياه أسند إليه إسناد الفعل إلى المسبب‏.‏

الرابع‏:‏ أن أعراقهم لما رسخت في الكفر واستحكمت بحيث لم يبق طريق إلى تحصيل إيمانهم سوى الإلجاء والقسر، ثم لم يقسرهم إبقاء على غرض التكليف، عبر عن تركه بالختم فإنه سد لإيمانهم‏.‏ وفيه إشعار على تمادي أمرهم في الغي وتناهي انهماكهم في الضلال والبغي‏.‏

الخامس‏:‏ أن يكون حكاية لما كان الكفرة يقولون مثل‏:‏ ‏{‏قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ‏}‏ تهكماً واستهزاءً بهم ‏[‏و‏]‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين‏}‏ الآية‏.‏

السادس‏:‏ أن ذلك في الآخرة، وإنما أخبر عنه بالماضي لتحققه وتيقن وقوعه ويشهد له قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا‏}‏ السابع‏:‏ أن المراد بالختم وَسْمُ قُلوبهم بسمة تعرفها الملائكة، فيبغضونهم وينفرون عنهم، وعلى هذا المنهاج كلامنا وكلامهم فيما يضاف إلى الله تعالى من طبع وإضلال ونحوهما‏.‏

و ‏{‏على سَمْعُهُمْ‏}‏ معطوف على قلوبهم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ‏}‏ وللوفاق على الوقف عليه، ولأنهما لما اشتركا في الإدراك من جميع الجوانب جعل ما يمنعهما من خاص فعلهما الختم الذي يمنع من جميع الجهات، وإدراك الأبصار لما اختص بجهة المقابلة جعل المانع لها عن فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة، وكرر الجار ليكون أدل على شدة الختم في الموضعين واستقلال كل منهما بالحكم‏.‏ ووحد السمع للأمن من اللبس واعتبار الأصل، فإنه مصدر في أصله والمصادر لا تجمع‏.‏ أو على تقدير مضاف مثل وعلى حواس سمعهم‏.‏

والأبصار جمع بصر وهو‏:‏ إدراك العين، وقد يطلق مجازاً على القوة الباصرة، وعلى العضو وكذا السمع، ولعل المراد بهما في الآية العضو لأنه أشد مناسبة للختم والتغطية، وبالقلب ما هو محل العلم وقد يطلق ويراد به العقل والمعرفة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ‏}‏ وإنما جاز إمالتها مع الصاد لأن الراء المكسورة تغلب المستعلية لما فيها من التكرير‏.‏ وغشاوة رفع بالابتداء عند سيبويه، وبالجار والمجرور عند الأخفش، ويؤيده العطف على الجملة الفعلية‏.‏ وقرئ بالنصب على تقدير، وجعل على أبصارهم غشاوة، أو على حذف الجار وإيصال الختم بنفسه إليه والمعنى‏:‏ وختم على أبصارهم بغشاوة، وقرئ بالضم والرفع، وبالفتح والنصب وهما لغتان فيها‏.‏ وغشوة بالكسر مرفوعة، وبالفتح مرفوعة ومنصوبة وعشاوة بالعين الغير المعجمة‏.‏

‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ‏}‏ وعيد وبيان لما يستحقونه‏.‏ والعذاب كالنكال بناءً، ومعنى تقول‏:‏ عذب عن الشيء ونكل عنه إذا أمسك، ومنه الماء العذب لأنه يقمع العطش ويردعه ولذلك سمي نقاخاً وفراتاً، ثم اتسع فأطلق على كل ألم قادح وإن لم يكن نكالاً، أي‏:‏ عقاباً يردع الجاني عن المعاودة فهو أعم منهما‏.‏ وقيل اشتقاقه من التعذيب الذي هو إزالة العذب كالتقذية والتمريض‏.‏ والعظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، فكما أن الحقير دون الصغير، فالعظيم فوق الكبير، ومعنى التوصيف به أنه إذا قيس بسائر ما يجانسه قصر عنه جميعه وحقر بالإضافة إليه ومعنى التنكير في الآية أن على أبصارهم نوع غشاوة ليس مما يتعارفه الناس، وهو التعامي عن الآيات، ولهم من الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بالله وباليوم الأخر‏}‏ لما افتتح سبحانه وتعالى بشرح حال الكتاب وساق لبيانه، ذكر المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله تعالى وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم، وثنى بأضدادهم الذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً ولم يلتفتوا لفتة رأساً، ثلث بالقسم الثالث المذبذب بين القسمين، وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلاً للقسم، وهم أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله لأنهم موهوا الكفر وخلطوا به خداعاً واستهزاءً، ولذلك طول في بيان خبثهم وجهلهم واستهزأ بهم، وتهكم بأفعالهم وسجل على عمههم وطغيانهم، وضرب لهم الأمثال وأنزل فيهم ‏{‏إِنَّ المنافقين فِى الدرك الأسفل مِنَ النار‏}‏ وقصتهم عن آخرها معطوفة على قصة المُصِّرِّينَ‏.‏

والناس أصله أناس لقولهم‏:‏ إنسان وأنس وأناسي فحذفت الهمزة حذفها في لوقة وعوض عنها حرف التعريف ولذلك لا يكاد يُجْمَع بينهما‏.‏ وقوله‏:‏

إنَّ المنايا يَطَّلِعْنَ على الإِناس الآمنِينَا *** شاذ‏.‏ وهو اسم جمع كرجال، إذ لم يثبت فعال في أبنية الجمع‏.‏ مأخوذ من أنس لأنهم يستأنسون بأمثالهم‏.‏ أو آنس لأنهم ظاهرون مبصرون، ولذلك سموا بشراً كما سمي الجن جناً لاجتنانهم‏.‏ واللام فيه للجنس، ومن موصوفة إذ لا عهد فكأنه قال‏:‏ ومن الناس ناسٌ يقولون‏.‏ أو للعهد والمعهود‏:‏ هم الذين كفروا، ومن موصولة مراد بها ابن أبي وأصحابه ونظراؤه، فإنهم من حيث إنهم صمموا على النفاق دخلوا في عداد الكفار المختوم على قلوبهم، واختصاصهم بزيادات زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس، فإن الأجناس إنما تتنوع بزيادات يختلف فيها أبعاضها فعلى هذا تكون الآية تقسيماً للقسم الثاني‏.‏

واختصاص الإيمان بالله وباليوم الآخر بالذكر، تخصيص لما هو المقصود الأعظم من الإيمان وادعاء بأنهم احتازوا الإيمان من جانبيه وأحاطوا بقطريه، وإيذان بأنهم منافقون فيما يظنون أنهم مخلصون فيه، فكيف بما يقصدون به النفاق، لأن القوم كانوا يهوداً وكانوا يؤمنون بالله وباليوم الآخر إيماناً كلا إيمان، لاعتقادهم التشبيه واتخاذ الولد، وإن الجنة لا يدخلها غيرهم، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة وغيرها، ويرون المؤمنين أنهم آمنوا مثل إيمانهم‏.‏ وبيان لتضاعف خبثهم وإفراطهم في كفرهم، لأن ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم عقيدتهم لم يكن إيماناً، فكيف وقد قالوه تمويهاً على المسلمين وتهكماً بهم‏.‏ وفي تكرار الباء ادعاء الإيمان بكل واحد على الأصالة والاستحكام‏.‏

والقول هو التلفظ بما يفيد، ويقال بمعنى المقول، وللمعنى المتصور في النفس المعبر عنه باللفظ وللرأي والمذهب مجازاً‏.‏ والمراد باليوم الآخر من وقت الحشر إلى ما لا ينتهي‏.‏ أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار لأنه آخر الأوقات المحدودة‏.‏

‏{‏وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ إنكار ما ادعوه ونفي ما انتحلوا إثباته، وكان أصله وما آمنوا ليطابق قولهم في التصريح بشأن الفعل دون الفاعل لكنه عكس تأكيداً‏.‏ أو مبالغة في التكذيب، لأن إخراج ذواتهم من عداد المؤمنين أبلغ من نفي الإيمان عنهم في ماضي الزمان، ولذلك أكد النفي بالباء وأطلق الإيمان على معنى أنهم ليسوا من الإيمان في شيء، ويحتمل أن يقيد بما قيدوا به لأنه جوابه‏.‏

والآية تدل على أن من ادعى الإيمان وخالف قلبه لسانه بالاعتقاد لم يكن مؤمناً، لأن من تفوه بالشهادتين فارغ القلب عما يوافقه أو ينافيه لم يكن مؤمناً‏.‏ والخلاف مع الكرامية في الثاني فلا ينهض حجة عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏يخادعون الله والذين ءامَنُوا‏}‏ الخدع أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه لتنزله عما هو فيه، وعما هو بصدده من قولهم‏:‏ خدع الضب‏.‏ إذ توارى في جحره، وضب خادع وخدع إذا أوهم الحارس إقباله عليه، ثم خرج من باب آخر وأصله الإخفاء ومنه المخدع للخزانة، والأخدعان لعرقين خفيين في العنق، والمخادعة تكون بين اثنين‏.‏ وخداعهم مع الله ليس على ظاهره لأنه لا تُخْفَى عليه خافية، ولأنهم لم يقصدوا خديعته‏.‏ بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف، أو على أن معاملة الرسول معاملة الله من حيث إنه خليفته كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله‏}‏ ‏{‏إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله‏}‏ وإما أن صورة صنيعهم مع الله تعالى من إظهار الإيمان واستبطان الكفر، وصنع الله معهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم، وهم عنده أخبث الكفار وأهل الدرك الأسفل من النار، استدراجاً وامتثال الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أمر الله في إخفاء حالهم، وإجراء حكم الإسلام عليهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المتخادعين‏.‏ ويحتمل أن يراد ب ‏{‏يخادعون‏}‏ يخدعون لأنه بيان ليقول، أو مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المخادعين‏.‏ ويحتمل أن يراد ب ‏{‏يخادعون‏}‏ يخدعون لأنه بيان ليقول، أو استئناف بذكر ما هو الغرض منه، إلا أنه أخرج في زنة فَاعَلَ للمبالغة، فإن الزنة لما كانت للمبالغة والفعل متى غولب فيه، كان أبلغ منه إذا جاء بلا مقابلة معارض ومبار استصحبت ذلك، ويعضده قراءة من قرأ ‏{‏يَخَدِعُونَ‏}‏‏.‏ وكان غرضهم في ذلك أن يدفعوا عن أنفسهم ما يطرق به من سواهم من الكفرة، وأن يفعل بهم ما يفعل بالمؤمنين من الإكرام والإعطاء، وأن يختلطوا بالمسلمين فيطلعوا على أسرارهم ويذيعوها إلى منابذيهم إلى غير ذلك من الأغراض والمقاصد‏.‏

‏{‏وَمَا يُخَادَِعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ‏}‏ قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو‏.‏ والمعنى‏:‏ أن دائرة الخداع راجعة إليهم وضررها يحيق بهم‏.‏ أو أنهم في ذلك خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك‏.‏ وخدعتهم أنفسهم حيث حدثتهم بالأماني الفارغة وحملتهم على مخادعة من لا تخفى عليه خافية‏.‏

وقرأ الباقون ‏{‏وَمَا‏}‏، لأن المخادعة لا تتصور إلا بين اثنين وقرئ و‏{‏يَخَدِعُونَ‏}‏ من خدع و‏{‏يَخَدِعُونَ‏}‏ بمعنى يختدعون و‏{‏يَخَدِعُونَ‏}‏ و‏{‏يخادعون‏}‏ على البناء للمفعول، ونصب أنفسهم بنزع الخافض، والنفس ذات الشيء وحقيقته، ثم قيل للروح لأن نفس الحي به، وللقلب لأنه محل الروح أو متعلقه، وللدم لأن قوامها به، وللماء لفرط حاجتها إليه، وللرأي في قولهم فلان يؤامر نفسه لأنه ينبعث عنها أو يشبه ذاتاً تأمره وتشير عليه‏.‏ والمراد بالأنفس ههنا ذواتهم ويحتمل حملها على أرواحهم وآرائهم‏.‏

‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ لا يحسون لذلك لتمادي غفلتهم‏.‏ جعل لحوق وبال الخداع ورجوع ضرره إليهم في الظهور كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على مؤوف الحواس‏.‏ والشعور‏:‏ الإحساس، ومشاعر الإنسان حواسه، وأصله الشعر ومنه الشعار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا‏}‏ المرض حقيقة فيما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاص به ويوجب الخلل في أفعاله‏.‏ ومجاز في الأعراض النفسانية التي تخل بكمالها كالجهل وسوء العقيدة والحسد والضغينة وحب المعاصي، لأنها مانعة من نيل الفضائل، أو مؤدية إلى زوال الحياة الحقيقية الأبدية‏.‏ والآية الكريمة تحتلهما فإن قلوبهم كانت متألمة تحرقاً على ما فات عنهم من الرياسة، وحسداً على ما يرون من ثبات أمر الرسول صلى الله عليه وسلم واستعلاء شأنه يوماً فيوماً، وزاد الله غمهم بما زاد في إعلاء أمره وإشادة ذكره، ونفوسهم كانت موصوفة بالكفر وسوء الاعتقاد ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم ونحوها، فزاد الله سبحانه وتعالى ذلك بالطبع‏.‏ أو بازدياد التكاليف وتكرير الوحي وتضاعف النصر، وكان إسناد الزيادة إلى الله تعالى من حيث إنه مسبب من فعله وإسنادها إلى السورة في قوله تعالى ‏{‏فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا‏}‏ لكونها سبباً‏.‏

ويحتمل أن يراد بالمرض ما تداخل قلوبهم من الجبن والخور حين شاهدوا شوكة المسلمين وإمداد الله تعالى لهم بالملائكة، وقذف الرعب في قلوبهم وبزيادته تضعيفه بما زاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم نصرة على الأعداء وتبسطاً في البلاد‏.‏

‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ مؤلم يقال‏:‏ ألم فهو أليم كوجع فهو وجيع، وصف به العذاب للمبالغة كقوله‏:‏

تحيةُ بينِهمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ *** على طريقة قولهم‏:‏ جد جده‏.‏

‏{‏بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ‏}‏ قرأها عاصم وحمزة والكسائي، والمعنى بسبب كذبهم، أو ببدله جزاء لهم وهو قولهم آمنا‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏يُكَذِّبُونَ‏}‏، من كذبه لأنهم كانوا يكذبون الرسول عليه الصلاة والسلام بقلوبهم، وإذا خلوا إلى شياطينهم‏.‏ أو من كذَّب الذي هو للمبالغة أو للتكثير مثل بين الشيء وموتت البهائم‏.‏ أو من كذب الوحشي إذا جرى شوطاً وقف لينظر ما وراءه فإن المنافق متحير متردد‏.‏ والكذب‏:‏ هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به‏.‏ وهو حرام كله لأنه علل به استحقاق العذاب حيث رتب عليه‏.‏ وما روي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كذب ثلاث كذبات، فالمراد التعريض‏.‏ ولكن لما شابه الكذب في صورته سمي به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض‏}‏ عطف على ‏{‏يَكْذِبُونَ‏}‏ أو ‏{‏يِقُولُ‏}‏‏.‏ وما روي عن سلمان رضي الله عنه أن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد فلعله أراد به أن أهلها ليس الذين كانوا فقط، بل وسيكون من بعد من حاله حالهم لأن الآية متصلة بما قبلها بالضمير الذي فيها‏.‏ والفساد‏:‏ خروج الشيء عن الاعتدال‏.‏ والصلاح ضده وكلاهما يعمان كل ضار ونافع‏.‏

وكان من فسادهم في الأرض هَيْجُ الحُروب والفتن بمخادعة المسلمين، وممالأة الكفار عليهم بإفشاء الأسرار إليهم، فإن ذلك يؤدي إلى فساد ما في الأرض من الناس والدواب والحرث‏.‏

ومنه إظهار المعاصي والإهانة بالدين فإن الإخلال بالشرائع والإعراض عنها مما يوجب الهرج والمرج ويخل بنظام العالم‏.‏ والقائل هو الله تعالى، أو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بعض المؤمنين‏.‏ وقرأ الكسائي وهشام ‏(‏قُيْل‏)‏ بإشمام الضم الأول‏.‏

‏{‏قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ‏}‏ جواب ل ‏{‏إِذَا‏}‏ رد للناصح على سبيل المبالغة، والمعنى أنه لا يصح مخاطبتنا بذلك، فإن شأننا ليس إلا الإصلاح، وإن حالنا متمحضة عن شوائب الفساد، لأن إنما تفيد قصر ما دخلت عليه على ما بعده‏.‏ مثل‏:‏ إنما زيد منطلق، وإنما ينطلق زيد، وإنما قالوا ذلك‏:‏ لأنهم تصوروا الفساد بصورة الصلاح لما في قلوبهم من المرض كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً‏.‏‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ‏}‏ رد لما ادعوه أبلغَ رد للاستئناف به وتصديره بحرفي التأكيد‏:‏ ‏(‏ألا‏)‏ المنبهة على تحقيق ما بعدها، فإن همزة الاستفهام التي للإنكار إذا دخلت على النفي أفادت تحقيقاً، ونظيره ‏{‏أليس ذلك بقادر‏}‏، ولذلك لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يلتقي به القسم، وأختها أما التي هي من طلائع القسم‏:‏ وإن المقررة للنسبة، وتعريف الخبر وتوسيط الفصل لرد ما في قولهم ‏(‏إنما نحن مصلحون‏)‏ من التعريض للمؤمنين، والاستدراك ب ‏{‏لاَّ يَشْعُرُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ‏}‏ من تمام النصح والإرشاد فإن كمال الإيمان بمجموع الأمرين‏:‏ الإعراض عما لا ينبغي وهو المقصود بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تُفْسِدُواْ‏}‏، والإتيان بما ينبغي وهو المطلوب بقوله‏:‏ ‏{‏ءامَنُواْ‏}‏ ‏{‏كَمَا ءامَنَ الناس‏}‏ في حيز النصب على المصدر، وما مصدرية أو كافة مثلها في ربما، واللام في الناس للجنس والمراد به الكاملون في الإنسانية العاملون بقضية العقل، فإن اسم الجنس كما يستعمل لمسماه مطلقاً يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به والمقصودة منه، ولذلك يسلب عن غيره فيقال‏:‏ زيد ليس بإنسان، ومن هذا الباب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ‏}‏ ونحوه وقد جمعهما الشاعر في قوله‏:‏

إذ الناسُ ناسٌ والزمانُ زمان *** أو للعهد، والمراد به الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه‏.‏ أو من آمن من أهل جلدتهم كابن سلام وأصحابه، والمعنى آمنوا إيماناً مقروناً بالإخلاص متمحضاً عن شوائب النفاق مماثلاً لإيمانهم، واستدل به على قبول توبة الزنديق وأن الإقرار باللسان إيمان وإن لم يفد التقييد‏.‏ ‏{‏قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء‏}‏ الهمزة فيه للإنكار، واللام مشار بها إلى الناس، أو الجنس بأسره وهم مندرجون فيه على زعمهم، وإنما سَفَّهُوهُم لاعتقادهم فساد رأيهم، أو لتحقير شأنهم، فإن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي‏:‏ كصهيب وبلال، أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم إن فسر الناس بعبد الله بن سلام وأشياعه‏.‏ والسفه‏:‏ خفة وسخافة رأي يقتضيهما نقصان العقل، والحلم يقابله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء‏}‏ الهمزة فيه للإنكار، واللام مشار بها إلى الناس، أو الجنس بأسره وهم مندرجون فيه على زعمهم، وإنما سَفَّهُوهُم لاعتقادهم فساد رأيهم، أو لتحقير شأنهم، فإن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي‏:‏ كصهيب وبلال، أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم إن فسر الناس بعبد الله بن سلام وأشياعه‏.‏ والسفه‏:‏ خفة وسخافة رأي يقتضيهما نقصان العقل، والحلم يقابله‏.‏

‏{‏أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ رد ومبالغة في تجهيلهم، فإن الجاهل بجهله الجازم على خلاف ما هو الواقع أعظم ضلالة وأتم جهالة من المتوقف المعترف بجهله، فإنه ربما يعذر وتنفعه الآيات والنذر، وإنما فصلت الآية ب ‏{‏لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ والتي قبلها ب ‏{‏لاَّ يَشْعُرُونَ‏}‏ لأنه أكثر طباقاً لذكر السفه، ولأن الوقوف على أمر الدين والتمييز بين الحق والباطل مما يفتقر إلى نظر وفكر‏.‏ وأما النفاق وما فيه من الفتن والفساد فإنما يدرك بأدنى تفطن وتأمل فيما يُشَاهد من أقوالهم وأفعالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا‏}‏ بيان لمعاملتهم المؤمنين والكفار، وما صدرت به القصة فمساقه لبيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم فليس بتكرير‏.‏ روي أن ابن أبيّ وأصحابه استقبلهم نفر من الصحابة، فقال لقومه‏:‏ انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه فقال‏:‏ مرحباً بالصديق سيد بني تيم، وشيخ الإسلام وثاني رسول الله في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بيد عمر رضي الله عنه فقال‏:‏ مرحباً بسيد بني عدي الفاروق القوي في دينه، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بيد علي رضي الله عنه فقال‏:‏ مرحباً بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه سيد بني هاشم، ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فنزلت‏.‏ واللقاء المصادفة يقال؛ لقيته ولاقيته، إذا صادفته واستقبلته، ومنه ألقيته إذا طرحته فإنك بطرحه جعلته بحيث يلقى‏.‏

‏{‏وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم‏}‏ من خلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه‏.‏ أو من خلاك ذَمٌّ أي عداك ومضى عنك، ومنه القرون الخالية‏.‏ أو من خلوت به إذا سخرت منه، وعدي بإلى لتضمن معنى الإنهاء، والمراد بشياطينهم الذين ماثلوا الشيطان في تمردهم، وهم المظهرون كفرهم، وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر‏.‏ أو كبار المنافقين والقائلون صغارهم‏.‏ وجعل سيبويه نونه تارة أصلية على أنه من شطن إذا بعد فإنه بعيد عن الصلاح، ويشهد له قولهم‏:‏ تشيطن‏.‏ وأخرى زائدة على أنه من شاط إذا بطل، ومن أسمائه الباطل‏.‏

‏{‏قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ‏}‏ أي في الدين والاعتقاد، خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية، والشياطين بالجملة الإسمية المؤكدة بإن لأنهم قصدوا بالأولى دعوى إحداث الإيمان، وبالثانية تحقيق ثباتهم على ما كانوا عليه، ولأنه لم يكن لهم باعث من عقيدة وصدق رغبة فيما خاطبوا به المؤمنين، ولا توقع رواج ادعاء الكمال في الإيمان على المؤمنين من المهاجرين والأنصار بخلاف ما قالوه مع الكفار‏.‏

‏{‏إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ‏}‏ تأكيد لما قبله، لأن المستهزئ بالشيء المستخف به مُصِرٌّ على خلافه‏.‏ أو بدل منه لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر‏.‏ أو استئناف فكأن الشياطين قالوا لهم لما ‏(‏قالوا إنا معكم‏)‏ إن صح ذلك فما بالكم توافقون المؤمنين وتدعون الإيمان فأجابوا بذلك‏.‏ والاستهزاء السخرية والاستخفاف يقال‏:‏ هزئت واستهزأت بمعنى كأجبت واستجبت، وأصله الخفة من الهزء وهو القتل السريع يقال‏:‏ هزأ فلان إذا مات على مكانه، وناقته تهزأ به أي تسرع وتخف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ‏}‏ يجازيهم على استهزائهم، سمي جزاء الاستهزاء باسمه كما سمي جزاء السيئة سيئة، إما لمقابلة اللفظ باللفظ، أو لكونه مماثلاً له في القدر، أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزئ بهم، أو ينزل بهم الحقارة والهوان الذي هو لازم الاستهزاء، أو الغرض منه، أو يعاملهم معاملة المستهزئ‏:‏ أما في الدنيا فبإجراء أحكام المسلمين عليهم، واستدراجهم بالإمهال والزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان، وأما في الآخرة‏:‏ فبأن يفتح لهم وهم في النار باباً إلى الجنة فيسرعون نحوه، فإذا صاروا إليه سد عليهم الباب، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاليوم الذين ءامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ‏}‏ وإنما استؤنف به ولم يعطف ليدل على أن الله تعالى تولى مجازاتهم، ولم يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم، وأنَّ استهزاءهم لا يؤبه به في مقابلة ما يفعل الله تعالى بهم ولعله لم يقل‏:‏ الله مستهزئ بهم ليطابق قولهم، إيماء بأن الاستهزاء يحدث حالاً فحالاً ويتجدد حيناً بعد حين، وهكذا كانت نكايات الله فيهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ‏}‏ ‏{‏وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ‏}‏ من مد الجيش وأمده إذا زاده وقواه، ومنه مددت السراج والأرض إذا استصلحتهما بالزيت والسماد، لا من المد في العمر فإنه يعدى باللام كأملى له‏.‏ ويدل عليه قراءة ابن كثير ‏(‏ويمدهم‏)‏‏.‏ والمعتزلة لما تعذر عليهم إجراء الكلام على ظاهره قالوا‏:‏ لما منعهم الله تعالى ألطافة التي يمنحها المؤمنين وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم، وسدهم طرق التوفيق على أنفسهم فتزايدت بسببه قلوبهم ريناً وظلمة، تزايد قلوب المؤمنين انشراحاً ونوراً، وأمكن الشيطان من إغوائهم فزادهم طغياناً، أُسْنِدَ ذلك إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى المسبب مجازاً، وأضاف الطغيان إليهم لئلا يتوهم أن إسناد الفعل إليه على الحقيقة، ومصداق ذلك أنه لما أسند المد إلى الشياطين أطلق الغي وقال ‏{‏وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى‏}‏ أو أصله يمد لهم بمعنى يملي لهم ويمد في أعمارهم كي يتنبهوا ويطيعوا، فما زادوا إلا طغياناً وعمهاً، فحذفت اللام وعدى الفعل بنفسه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واختار موسى قَوْمَهُ‏}‏ أو التقدير يمدهم استصلاحاً، وهم مع ذلك يعمهون في طغيانهم‏.‏ والطغيان بالضم والكسر كلقيان، والطغيان‏:‏ تجاوز الحد في العتو، والغلو في الكفر، وأصله تجاوز الشيء عن مكانه قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمَّا طغى الماء حملناكم‏}‏ والعمه في البصيرة كالعمى في البصر، وهو‏:‏ التحير في الأمر يقال رجل عامه وعمه، وأرض عمهاء لا منار بها، قال‏:‏

أَعْمَى الهُدَى بالجاهِلين العمهْ‏.‏‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏ اختاروها عليه واستبدلوها به، وأصله بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأعيان، فإن كان أحد العوضين ناضاً تعين من حيث إنه لا يطلب لعينه أن يكون ثمناً وبذله اشتراء، وإلا فأي العوضين تصورته بصورة الثمن فباذله مشترٍ وآخذه بائع، ولذلك عدت الكلمتان من الأضداد، ثم استعير للإعراض عما في يده محصلاً به غيره، سواء كان من المعاني أو الأعيان، ومنه قول الشاعر‏:‏

أخذْتُ بالجُمْلةِ رأساً أَزْعَرا *** وبالثَّنايَا الواضِحَاتِ الدّرَرا

وبالطَّويل العُمرِ عمراً جيذرا *** كما اشْتَرَى المُسْلمُ إذ تَنَصَّرا

ثم اتسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشيء طمعاً في غيره، والمعنى أنهم أخلوا بالهدى الذي جعله الله لهم بالفطرة التي فُطِرَ الناسُ عليها محصلين الضلالة التي ذهبوا إليها‏.‏ أو اختاروا الضلالة واستحبوها على الهدى‏.‏

‏{‏فَمَا رَبِحَت تجارتهم‏}‏‏.‏ ترشيح للمجاز، لَمَّا استعمل الاشتراء في معاملتهم أتبعه ما يشاكله تمثيلاً لخسارتهم، ونحوه‏:‏

وَلَّما رأيتُ النسرَ عزَّ بنَ دأية *** وعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جَاشَ لَهُ صَدْري

والتجارة‏:‏ طلب الربح بالبيع والشراء‏.‏ والربح‏:‏ الفضل على رأس المال، ولذلك سمي شفا، وإسناده إلى التجارة وهو لأربابها على الاتساع لتلبسها بالفاعل، أو لمشابهتها إياه من حيث إنها سبب الربح والخسران‏.‏

‏{‏وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ‏}‏ لطرق التجارة، فإن المقصود منها سلامة رأس المال والربح، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين لأن رأس مَالِهم كان الفطرة السليمة، والعقل الصرف، فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم، واختل عقلهم ولم يبقَ لهم رأس مال يتوسلون به إلى درك الحق، ونيل الكمال، فبقوا خاسرين آيسين من الربح فاقدين للأصل‏.‏