فصل: تفسير الآيات رقم (179- 188)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏179- 188‏]‏

‏{‏مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏179‏)‏ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏180‏)‏ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏181‏)‏ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏182‏)‏ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏183‏)‏ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏184‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ‏(‏185‏)‏ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏186‏)‏ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ‏(‏187‏)‏ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏188‏)‏‏}‏

‏{‏مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب‏}‏ الخطاب لعامة المخلصين والمنافقين في عصره، والمعنى لا يترككم مختلطين لا يعرف مخلصكم من منافقكم حتى يميز المنافق من المخلص بالوحي إلى نبيه بأحوالكم، أو بالتكاليف الشاقة التي لا يصبر عليها ولا يذعن لها إلا الخلص المخلصون منكم، كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله، ليختبر النبي به بواطنكم ويستدل به على عقائدكم‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏حتى يَمِيزَ‏}‏، هنا وفي «الأنفال» بضم الياء وفتح الميم وكسر الياء وتشديدها والباقون بفتح الياء وكسر الميم وسكون الياء‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء‏}‏ وما كان الله ليؤتي أحدكم علم الغيب فيطلع على ما في القلوب من كفر وإيمان، ولكن الله يجتبي لرسالته من يشاء فيوحي إليه ويخبره ببعض المغيبات، أو ينصب له ما يدل عليها‏.‏ ‏{‏فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ‏}‏ بصفة الإِخلاص، أو بأن تعلموه وحده مطلعاً على الغيب وتعلموهم عباداً مجتبين لا يعلمون إلا ما علمهم الله ولا يقولون إلا ما أوحي إليهم روي ‏(‏أن الكفرة قالوا‏:‏ إن كان محمد صادقاً فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر‏)‏ فنزلت‏.‏ عن السدي أنه عليه السلام قال‏:‏ ‏"‏ عرضت عليَّ أمتي وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر ‏"‏ فقال المنافقون إن يزعم أنه يعرف من يؤمن به ومن يكفر ونحن معه ولا يعرفنا فنزلت‏.‏ ‏{‏وَإِن تُؤْمِنُواْ‏}‏ حق الإِيمان‏.‏ ‏{‏وَتَتَّقُواْ‏}‏ النفاق‏.‏ ‏{‏فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ لا يقادر قدره‏.‏

‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ القراءات فيه على ما سبق‏.‏ ومن قرأ بالتاء قدر مضافاً ليتطابق مفعولاه أي ولا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيراً لهم، وكذا من قرأ بالياء إن جعل الفاعل ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من يحسب وإن جعله الموصول كان المفعول الأول محذوفاً لدلالة يبخلون عليه أي ولا يحسبن البخلاء بخلهم هو خيراً لهم‏.‏ ‏{‏بَلْ هُوَ‏}‏ أي البخل‏.‏ ‏{‏شَرٌّ لَّهُمْ‏}‏ لاستجلاب العقاب عليهم‏.‏ ‏{‏سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة‏}‏ بيان لذلك، والمعنى سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق، وعنه عليه الصلاة والسلام ‏"‏ ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعله الله شجاعاً في عنقه يوم القيامة ‏"‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض‏}‏ وله ما فيهما مما يتوارث، فما لهؤلاء يبخلون عليه بماله ولا ينفقونه في سبيله، أو أنه يرث منهم ما يمسكونه ولا ينفقونه في سبيله بهلاكهم وتبقى عليهم الحسرة والعقوبة‏.‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ من المنع والإِعطاء‏.‏ ‏{‏خَبِيرٌ‏}‏ فمجازيهم‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بالتاء على الالتفات وهو أبلغ في الوعيد‏.‏

‏{‏لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء‏}‏ قالته اليهود لما سمعوا ‏{‏مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا‏}‏ وروي ‏"‏ أنه عليه الصلاة والسلام كتب مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإِسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً فقال فنحاص بن عازوراء‏:‏ إن الله فقير حتى سأل القرض، فلطمه أبو بكر رضي الله عنه على وجهه وقال‏:‏ لولا ما بيننا من العهد لضربت عنقك، فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجحد ما قاله‏)‏ فنزلت ‏"‏‏.‏ والمعنى أنه لم يخف عليه وأنه أعد لهم العقاب عليه‏.‏ ‏{‏سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍ‏}‏ أي سنكتبه في صحائف الكتبة، أو سنحفظه في علمنا لا نهمله لأنه كلمة عظيمة إذ هو كفر بالله عز وجل واستهزاء بالقرآن والرسول، ولذلك نظمه مع قتل الأنبياء، وفيه تنبيه على أنه ليس أول جريمة ارتكبوها وأن من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد منه أمثال هذا القول‏.‏ وقرأ حمزة «سيكتب» بالياء وضمها وفتح التاء وقتلهم بالرفع ويقول بالياء‏.‏ ‏{‏وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق‏}‏ أي وننتقم منهم بأن نقول لهم ذوقوا العذاب المحرق، وفيه مبالغات في الوعيد‏.‏ والذّوْق إدراك الطعوم، وعلى الاتساع يستعمل لإِدراك سائر المحسوسات والحالات، وذكره ها هنا لأن العذاب مرتب على قولهم الناشئ عن البخل والتهالك على المال، وغالب حاجة الإِنسان إليه لتحصيل المطاعم ومعظم بخله به للخوف من فقدانه ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى العذاب‏.‏ ‏{‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ من قتل الأنبياء وقولهم هذا وسائر معاصيهم‏.‏ عبر بالأيدي عن الأنفس لأن أكثر أعمالها بهن‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ‏}‏ عطف على ما قدمت وسببيته للعذاب من حيث إن نفي الظلم يستلزم العدل المقتضي إثابة المحسن ومعاقبة المسيء‏.‏

‏{‏الذين قَالُواْ‏}‏ هم كعب بن الأشرف ومالك وحيي وفنحاص ووهب بن يهوذا‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا‏}‏ أمرنا في التوراة وأوصانا‏.‏ ‏{‏أَن لا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار‏}‏ بأن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بهذه المعجزة الخاصة التي كانت لأنبياء بني إسرائيل وهو أن يقرب بقربان فيقوم النبي فيدعو فتنزل نار سماوية فتأكله، أي تحيله إلى طبعها بالإِحراق‏.‏ وهذا من مفترياتهم وأباطيلهم لأن أكل النار القربان لم يوجب الإِيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات شرع في ذلك‏.‏ ‏{‏قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ تكذيب وإلزام بأن رسلاً جاؤهم قبله كزكريا ويحيى بمعجزات أخر موجبة للتصديق وبما اقترحوه فقتلوهم، فلو كان الموجب للتصديق هو الإِتيان به وكان توقفهم وامتناعهم عن الإِيمان لأجله فما لهم لم يؤمنوا بمن جاء به في معجزات أخر واجترؤا على قتله‏.‏

‏{‏فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ جَاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير‏}‏ تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم من تكذيب قومه واليهود، والزبر جمع زبور وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرت الشيء إذا حسبته، والكتاب في عرف القرآن ما يتضمن الشرائع والأحكام ولذلك جاء الكتاب والحكمة متعاطفين في عامة القرآن‏.‏ وقيل الزبر المواعظ والزواجر، من زبرته إذا زجرته‏.‏ وقرأ ابن عامر وبالزبر وهشام وبالكتاب بإعادة الجار للدلالة على أنها مغايرة للبينات بالذات‏.‏

‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت‏}‏ وعد ووعيد للمصدق والمكذب‏.‏ وقرئ ‏{‏ذَائِقَةُ الموت‏}‏ بالنصب مع التنوين وعدمه كقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏{‏وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ‏}‏ تعطون جزاء أعمالكم خيراً كان أو شراً تاماً وافياً‏.‏ ‏{‏يَوْمُ القيامة‏}‏ يوم قيامكم من القبور، ولفظ التوفية يشعر بأنه قد يكون قبلها بعض الأجور ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار»‏.‏ ‏{‏فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار‏}‏ بعد عنها، والزحزحة في الأصل تكرير الزح وهو الجذب بعجلة‏.‏ ‏{‏وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ‏}‏ بالنجاة ونيل المراد، والفوز الظفر بالبغية‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه» ‏{‏وَمَا الحياة الدنيا‏}‏ أي لذاتها وزخارفها‏.‏ ‏{‏إِلاَّ متاع الغرور‏}‏ شبهها بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه، وهذا لمن آثرها على الآخرة‏.‏ فأما من طلب بها الآخرة فهي له متاع بلاغ والغرور مصدر أو جمع غار‏.‏

‏{‏لَتُبْلَوُنَّ‏}‏ أي والله لتختبرن‏.‏ ‏{‏فِي أموالكم‏}‏ بتكليف الإنفاق وما يصيبها من الآفات‏.‏ ‏{‏وأَنفُسِكُمْ‏}‏ بالجهاد والقتل والأسر والجراح، وما يرد عليها من المخاوف والأمراض والمتاعب‏.‏ ‏{‏وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً‏}‏ من هجاء الرسول صلى الله عليه وسلم، والطعن في الدين وإغراء الكفرة على المسلمين‏.‏ أخبرهم بذلك قبل وقوعها ليوطنوا أنفسهم على الصبر والاحتمال، ويستعدوا للقائها حتى لا يرهقهم نزولها‏.‏ ‏{‏وَإِن تَصْبِرُواْ‏}‏ على ذلك‏.‏ ‏{‏وَتَتَّقُواْ‏}‏ مخالفة أمر الله‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ ذلك‏}‏ يعني الصبر والتقوى‏.‏ ‏{‏مِنْ عَزْمِ الأمور‏}‏ من معزومات الأمور التي يجب العزم عليها، أو مما عزم الله عليه أي أمر به وبالغ فيه‏.‏ والعزم في الأصل ثبات الرأي على الشيءَ نحو إمضائه‏.‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذَ الله‏}‏ أي اذكر وقت أخذه‏.‏ ‏{‏ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب‏}‏ يريد به العلماء‏.‏ ‏{‏لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ‏}‏ حكاية لمخاطبتهم‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عياش بالياء لأنهم غيب، واللام جواب القسم الذي ناب عنه قوله‏:‏ ‏{‏أَخَذَ الله ميثاق الذين‏}‏ والضمير للكتاب‏.‏ ‏{‏فَنَبَذُوهُ‏}‏ أي الميثاق‏.‏ ‏{‏وَرَاء ظُهُورِهِمْ‏}‏ فلم يراعوه ولم يتلفتوا إليه‏.‏

والنبذ وراء الظهر مثل في ترك الاعتداد وعدم الالتفات، ونقيضه جعله نصب عينيه وإلقاؤه بين عينيه‏.‏ ‏{‏واشتروا بِهِ‏}‏‏.‏ وأخذوا بدله‏.‏

‏{‏ثَمَناً قَلِيلاً‏}‏ من حطام الدنيا وأعراضها‏.‏ ‏{‏فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ‏}‏ يختارون لأنفسهم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار» وعن علي رضي الله تعالى عنه ‏(‏ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا‏)‏‏.‏

‏{‏لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ العذاب‏}‏ الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ضم الباء جعل الخطاب له وللمؤمنين، والمفعول الأول ‏{‏الذين يَفْرَحُونَ‏}‏ والثاني ‏{‏بِمَفَازَةٍ‏}‏، وقوله ‏{‏فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ‏}‏ تأكيد والمعنى‏:‏ لا تحسبن الذين يفرحون بما فعلوا من التدليس وكتمان الحق ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الوفاء بالميثاق وإظهار الحق والإِخبار بالصدق، بمفازة بمنجاة من العذاب أي فائزين بالنجاة منه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء وفتح الباء في الأول وضمها في الثاني على أن الذين فاعل ومفعولاً يحسبن محذوفان يدل عليهما مفعولاً مؤكده، فكأنه قيل؛ ولا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا فلا يحسبن أنفسهم بمفازة، أو المفعول الأول محذوف وقوله فلا تحسبنهم تأكيد للفعل وفاعله ومفعوله الأول‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ بكفرهم وتدليسهم‏.‏ روي أنه عليه الصلاة والسلام «سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فأخبروه بخلاف ما كان فيها وأروه أنهم قد صدقوه وفرحوا بما فعلوا» فنزلت‏.‏ وقيل؛ نزلت في قوم تخلفوا عن الغزو ثم اعتذروا بأنهم رأوا المصلحة في التخلف واستحمدوا به‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في المنافقين فإنهم يفرحون بمنافقتهم ويستحمدون إلى المسلمين بالإِيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏189- 199‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏189‏)‏ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏190‏)‏ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏191‏)‏ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏192‏)‏ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ‏(‏193‏)‏ رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏194‏)‏ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ‏(‏195‏)‏ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ‏(‏196‏)‏ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏197‏)‏ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ‏(‏198‏)‏ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏199‏)‏‏}‏

‏{‏وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض‏}‏ فهو يملك أمرهم‏.‏ ‏{‏والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ‏}‏ فيقدر على عقابهم‏.‏ وقيل هو رد لقولهم إن الله فقير ‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيات لأُوْلِي الألباب‏}‏ لدلائل واضحة على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته لذوي العقول المجلوة الخالصة عن شوائب الحس والوهم كما سبق في سورة البقرة، ولعل الاقتصار على هذه الثلاثة في هذه الآية لأن مناط الاستدلال هو التغير، وهذه متعرضة لجملة أنواعه فإنه إما أن يكون في ذات الشيء كتغير الليل والنهار، أو جزئه كتغير العناصر بتبدل صورها أو الخارج عنه كتغير الأفلاك بتبدل أوضاعها‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» ‏{‏الذين يَذْكُرُونَ الله قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ‏}‏ أي يذكرونه دائماً على الحالات كلها قائمين وقاعدين ومضطجعين، وعنه عليه الصلاة والسلام «من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله»‏.‏ وقيل معناه يصلون على الهيئات الثلاث حسب طاقتهم لقوله عليه الصلاة والسلام لعمران بن حصين‏:‏ «صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب تومئ إيماء»‏.‏ فهو حجة للشافعي رضي الله عنه في أن المريض يصلي مضطجعاً على جنبه الأيمن مستقبلاً بمقاديم بدنه‏.‏ ‏{‏وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السموات والأرض‏}‏ استدلالاً واعتباراً، وهو أفضل العبادات كما قال عليه الصلاة والسلام «لا عبادة كالتفكر» لأنه المخصوص بالقلب والمقصود من الخلق، وعنه عليه الصلاة والسلام‏:‏ «بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى السماء والنجوم فقال‏:‏ أشهد أن لك رباً وخالقاً‏:‏ اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له» وهذا دليل واضح على شرف علم الأصول وفضل أهله‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا‏}‏ على إرادة القول أي يتفكرون قائلين ذلك، وهذا إشارة إلى المتفكر فيه، أي الخلق على أنه أريد به المخلوق من السموات والأرض، أو إليهما لأنهما في معنى المخلوق، والمعنى ما خلقته عبثاً ضائعاً من غير حكمة بل خلقته لحكم عظيمة من جملتها أن يكون مبدأ لوجود الإِنسان وسبباً لمعاشه ودليلاً يدله على معرفتك ويحثه على طاعتك لينال الحياة الأبدية والسعادة السرمدية في جوارك‏.‏ ‏{‏سبحانك‏}‏ تنزيهاً لك من العبث وخلق الباطل وهو اعتراض‏.‏ ‏{‏فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ‏}‏ للإِخلال بالنظر فيه، والقيام بما يقتضيه‏.‏ وفائدة الفاء هي الدلالة على أن علمهم بما لأجله خلقت السموات والأرض حملهم على الاستعاذة‏.‏

‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ‏}‏ غاية الإخزاء، وهو نظير قولهم‏:‏ من أدرك مرعى الصِّمان فقد أدرك، والمراد به تهويل المستعاذ منه تنبيهاً على شدة خوفهم وطلبهم الوقاية منه، وفيه إشعار بأن العذاب الروحاني أفظع‏.‏

‏{‏وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ‏}‏ أراد بهم المدخلين، ووضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن ظلمهم سبب لإِدخالهم النار وانقطاع النصرة عنهم في الخلاص منها، ولا يلزم من نفي النصرة نفي الشفاعة لأن النصر دفع بقهر‏.‏

‏{‏رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي للإيمان‏}‏ أوقع الفعل على المسمع وحذف المسموع لدلالة وصفه عليه، وفيه مبالغة ليست في إيقاعه على نفس المسموع وفي تنكير المنادي وإطلاقه ثم تقييده تعظيم لشأنه، والمراد به الرسول عليه الصلاة والسلام وقيل القرآن، والنداء والدعاء ونحوهما يعدى بإلى واللام لتضمنها معنى الانتهاء والاختصاص‏.‏ ‏{‏أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا‏}‏ أي بأن آمنوا فامتثلنا‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا‏}‏ كبائرنا فإنها ذات تبعة‏.‏ ‏{‏وَكَفِّرْ عَنَّا سيئاتنا‏}‏ صغائرنا فإنها مستقبحة، ولكن مكفرة عن مجتنب الكبائر‏.‏ ‏{‏وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار‏}‏ مخصوصين بصحبتهم معدودين في زمرتهم، وفيه تنبيه على أنهم محبون لقاء الله، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه‏.‏ والأبرار جمع بر أو بار كأرباب وأصحاب‏.‏

‏{‏رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ‏}‏ أي ما وعدتنا على تصديق رسلك من الثواب‏.‏ لما أظهر امتثاله لما أمر به سأل ما وعد عليه لا خوفاً من إخلاف الوعد بل مخافة أن لا يكون من الموعودين لسوء عاقبة، أو قصور في الامتثال أو تعبداً واستكانة‏.‏ ويجوز أن يعلق على بمحذوف تقديره‏:‏ ما وعدتنا منزلاً على رسلك، أو محمولاً عليهم‏.‏ وقيل معناه على ألسنة رسلك‏.‏ ‏{‏وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة‏}‏ بأن تعصمنا عما يقتضيه‏.‏ ‏{‏إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد‏}‏ بإثابة المؤمن وإجابة الداعي وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ الميعاد البعث بعد الموت‏.‏ وتكرير ربنا للمبالغة في الابتهال والدلالة على استقلال المطالب وعلو شأنها‏.‏ وفي الآثار «من حزبه أمر فقال خمس مرات ربنا أنجاه الله مما يخاف» ‏{‏فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ‏}‏ إلى طلبتهم، وهو أخص من أجاب ويعدي بنفسه وباللام‏.‏ ‏{‏أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ‏}‏ أي بأني لا أضيع‏.‏ وقرئ بالكسر على إرادة القول‏.‏ ‏{‏مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى‏}‏ بيان عامل‏.‏ ‏{‏بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ‏}‏ لأن الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر، أو لأنهما من أصل واحد، أو لفرط الاتصال والاتحاد، أو للاجتماع والاتفاق في الدين‏.‏ وهي جملة معترضة بين بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد للعمال‏.‏ روي «أن أم سلمة رضي الله عنها قالت‏:‏ يا رسول الله إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء‏)‏ فنزلت»‏.‏ ‏{‏فالذين هاجروا‏}‏ إلخ، تفصيل لأعمال العمال وما أعد لهم من الثواب على سبيل المدح والتعظيم، والمعنى فالذين هاجروا الشرك أو الأوطان والعشائر للدين‏.‏ ‏{‏وَأُخْرِجُواْ مِن ديارهم وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي‏}‏ بسبب إيمانهم بالله ومن أجله ‏{‏وَقَاتِلُواْ‏}‏ الكفار‏.‏ ‏{‏وَقُتِّلُواْ‏}‏ في الجهاد‏.‏

وقرأ حمزة والكسائي بالعكس لأن الواو لا توجب ترتيباً والثاني أفضل‏.‏ أو لأن المراد لما قتل منهم قوم قاتل الباقون ولم يضعفوا‏.‏ وشدد ابن كثير وابن عامر ‏{‏قتلوا‏}‏ للتكثير‏.‏ ‏{‏لأُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سيئاتهم‏}‏ لأمحونها‏.‏ ‏{‏وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار ثَوَاباً مّن عِندِ الله‏}‏ أي أثيبهم بذلك إثابة من عند الله تفضلاً منه، فهو مصدر مؤكد‏.‏ ‏{‏والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب‏}‏ على الطاعات قادر عليه‏.‏

‏{‏لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد‏}‏ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، أو تثبيته على ما كان عليه كقوله ‏{‏فَلاَ تُطِعِ المكذبين‏}‏ أو لكل أحد، والنهي في المعنى للمخاطب وإنما جعل للتقلب تنزيلاً للسبب منزلة المسبب للمبالغة، والمعنى لا تنظر إلى ما الكفرة عليه من السعة والحظ، ولا تغتر بظاهر ما ترى من تبسطهم في مكاسبهم ومتاجرهم ومزارعهم‏.‏ روي «أن بعض المؤمنين كانوا يرون المشركين في رخاء ولين عيش فيقولون‏:‏ إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد» فنزلت‏.‏

‏{‏متاع قَلِيلٌ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف، أي ذلك التقلب متاع قليل لقصر مدته في جنب ما أعد الله للمؤمنين‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» ‏{‏ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد‏}‏ أي ما مهدوا لأنفسهم‏.‏

‏{‏لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا نُزُلاٍ مّنْ عِندِ الله‏}‏ النزل والنزل ما يعد للنازل من طعام وشراب وصلة‏.‏ قال أبو الشعر الضبي‏:‏

وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا *** جعلنا القنا والمرهفات نزلا

وانتصابه على الحال من جنات والعامل فيها الظرف، وقيل‏:‏ إنه مصدر مؤكد والتقدير أنزلوها نزلا ‏{‏وَمَا عِندَ الله‏}‏ لكثرته ودوامه ‏{‏خَيْرٌ لّلأَبْرَارِ‏}‏ مما يتقلب فيه الفجار لقلته وسرعة زواله‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله‏}‏ نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه‏.‏ وقيل في أربعين من نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا نصارى فأسلموا‏.‏ وقيل في أصحمة النجاشي لما نعاه جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فصلى عليه فقال المنافقون انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط‏.‏ وإنما دخلت اللام على الاسم للفصل بينه وبين إن بالظرف‏.‏ ‏{‏وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ‏}‏ من القرآن‏.‏ ‏{‏وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ من الكتابين‏.‏ ‏{‏خاشعين للَّهِ‏}‏ حال من فاعل يؤمن وجمعه باعتبار المعنى ‏{‏لاَ يَشْتَرُونَ بئايات الله ثَمَناً قَلِيلاً‏}‏ كما يفعله المحرفون من أحبارهم‏.‏ ‏{‏أُوْلئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ ما خص بهم من الأجر ووعده في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ‏}‏ ‏{‏إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب‏}‏ لعمله بالأعمال وما يستوجبه من الجزاء واستغنائه عن التأمل والاحتياط، والمراد أن الأجر الموعود سريع الوصول فإن سرعة الحساب تستدعي سرعة الجزاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏200‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏200‏)‏‏}‏

‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ اصبروا‏}‏ على مشاق الطاعات وما يصيبكم من الشدائد‏.‏ ‏{‏وَصَابِرُواْ‏}‏ وغالبوا أعداء الله بالصبر على شدائد الحرب وأعدى عدوكم في الصبر على مخالفة الهوى، وتخصيصه بعد الأمر بالصبر مطلقاً لشدته‏.‏ ‏{‏وَرَابِطُواْ‏}‏ أبدانكم وخيولكم في الثغور مترصدين للغزو، وأنفسكم على الطاعة كما قال عليه الصلاة والسلام «من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة» وعنه عليه الصلاة والسلام «من رابط يوماً وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر رمضان وقيامه، لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة»‏.‏ ‏{‏واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ فاتقوه بالتبري عما سواه لكي تفلحوا غاية الفلاح، أو واتقوا القبائح لعلكم تفلحون بنيل المقامات الثلاثة، المرتبة التي هي الصبر على مضض الطاعات ومصابرة النفس في رفض العادات ومرابطة السر على جناب الحق لترصد الواردات المعبر عنها بالشريعة، والطريقة، والحقيقة‏.‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قرأ سورة آل عمران أعطي بكل آية منها أماناً على جسر جهنم» وعنه عليه الصلاة والسلام «من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى تجب الشمس» والله أعلم‏.‏

سورة النساء

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏أَيُّهَا الناس‏}‏ خطاب يعم بني آدم‏.‏ ‏{‏اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة‏}‏ هي آدم‏.‏ ‏{‏وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا‏}‏ عطف على خلقكم أي خلقكم من شخص واحد وخلق منه أمكم حواء من ضلع من أضلاعه، أو محذوف تقديره من نفس واحدة خلقها وخلق منها زوجها، وهو تقرير لخلقهم من نفس واحدة‏.‏ ‏{‏وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً‏}‏ بيان لكيفية تولدهم منهما، والمعنى ونشر من تلك النفس والزوج المخلوقة منها بنين وبنات كثيرة، واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها، إذ الحكمة تقتضي أن يكن أكثر، وذكر ‏{‏كَثِيراً‏}‏ حملاً على الجمع وترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصة لما فيها من الدلالة على القدرة القاهرة التي من حقها أن تخشى، والنعمة الباهرة التي توجب طاعة موليها، أو لأن المراد به تمهيد الأمر بالتقوى فيما يتصل بحقوق أهل منزله وبني جنسه على ما دلت عليه الآيات التي بعدها‏.‏ وقرئ «وخالق» «وباث» على حذف مبتدأ تقديره وهو خالق وباث‏.‏ ‏{‏واتقوا الله الذي تَسَاءلُونَ بِهِ‏}‏ أي يسأل بعضكم بعضاً تقول أسألك بالله، وأصله تتساءلون فأدغمت التاء الثانية في السين‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بطرحها‏.‏ ‏{‏والأرحام‏}‏ بالنصب عطف على محل الجار والمجرور كقولك‏:‏ مررت بزيد وعمراً، أو على الله أي اتقوا الله واتقوا الأرحام فصلوها ولا تقطعوها‏.‏ وقرأ حمزة بالجر عطفاً على الضمير المجرور وهو ضعيف لأنه كبعض الكلمة‏.‏ وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره والأرحام كذلك، أي مما يتقى أو يتساءل به‏.‏ وقد نبه سبحانه وتعالى إذ قرن الأرحام باسمه الكريم على أن صلتها بمكان منه‏.‏ وعنه عليه الصلاة والسلام ‏"‏ الرحم معلقة بالعرش تقول ألا من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله ‏"‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً‏}‏ حافظاً مطلعاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏وَءَاتُواْ اليتامى أموالهم‏}‏ أي إذا بلغوا، واليتامى جمع يتيم وهو الذي مات أبوه، من اليتم وهو الانفراد‏.‏ ومنه الدرة اليتيمة، إما على أنه لما جرى مجرى الأسماء كفارس وصاحب جمع على يتائم، ثم قلب فقيل يتامى أو على أنه جمع على يتمي كأسرى لأنه من باب الآفات‏.‏ ثم جمع يتمى على يتامى كأسرى وأسارى، والاشتقاق يقتضي وقوعه على الصغار والكبار، لكن العرف خصصه بمن لم يبلغ‏.‏ ووروده في الآية إما للبلغ على الأصل أو الاتساع لقرب عهدهم بالصغر، حثاً على أن يدفع إليهم أموالهم أول بلوغهم قبل أن يزول عنهم هذا الاسم إن أونس منهم الرشد، ولذلك أمر بابتلائهم صغاراً أو لغير البلغ والحكم مقيد فكأنه قال؛ وآتوهم إذا بلغوا‏.‏ ويؤيد الأول ما روي‏:‏ أن رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال منه فمنعه فنزلت‏.‏ فلما سمعها العم قال‏:‏ أطعنا الله ورسوله نعوذ بالله من الحوب الكبير‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب‏}‏ ولا تستبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم، أو الأمر الخبيث وهو اختزال أموالهم بالأمر الطيب الذي هو حفظها‏.‏ وقيل ولا تأخذوا الرفيع من أموالهم وتعطوا الخسيس مكانها، وهذا تبديل وليس بتبدل‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم‏}‏ ولا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم، أي لا تنفقوهما معاً ولا تسووا بينهما، وهذا حلال وذاك حرام وهو فيما زاد على قدر أجره لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيَأْكُلْ بالمعروف‏}‏ ‏{‏إِنَّهُ‏}‏ الضمير للأكل‏.‏ ‏{‏كَانَ حُوباً كَبِيراً‏}‏ ذنباً عظيماً‏.‏ وقرئ حوباً وهو مصدر حاب ‏{‏حُوباً‏}‏ وحابا كقال قولاً وقالاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النساء‏}‏ أي إن خفتم أن لا تعدلوا في يتامى النساء إذا تزوجتم بهن، فتزوجوا ما طاب لكم من غيرهن‏.‏ إذ كان الرجل يجد يتيمة ذات مال وجمال فيتزوجها ضناً بها، فربما يجتمع عنده منهن عدد ولا يقدر على القيام بحقوقهن‏.‏ أو إن خفتم أن لا تعدلوا في حقوق اليتامى فتحرجتم منها فخافوا أيضاً أن لا تعدلوا بين النساء فانكحوا مقداراً يمكنكم الوفاء بحقه، لأن المتحرج من الذنب ينبغي أن يتحرج من الذنوب كلها على ما روي‏:‏ أنه تعالى لما عظم أمر اليتامى تحرجوا من ولايتهم وما كانوا يتحرجون من تكثير النساء وإضاعتهن فنزلت‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى ولا يتحرجون من الزنى، فقيل لهم إن خفتم أن لا تعدلوا في أمر اليتامى فخافوا الزنى، فانكحوا ما حل لكم‏.‏ وإنما عبر عنهن بما ذهاباً إلى الصفة أو إجراء لهن مجرى غير العقلاء لنقصان عقلهن، ونظيره ‏{‏أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ وقرئ ‏{‏تُقْسِطُواْ‏}‏ بفتح التاء على أن «لا» مزيدة أي إن خفتم إن تجوروا‏.‏ ‏{‏مثنى وثلاث وَرُبَاعَ‏}‏ معدولة عن أعداد مكررة وهي‏:‏ ثنتين ثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً‏.‏ وهي غير منصرفة للعدل والصفة فإنها بنيت صفات وإن كانت أصولها لم تبن لها‏.‏ وقيل لتكرير العدل فإنها معدولة باعتبار الصفة والتكرير منصوبة على الحال من فاعل طاب ومعناها‏:‏ الإِذن لكل ناكح يريد الجمع أن ينكح ما شاء من العدد المذكور متفقين فيه ومختلفين كقولك‏:‏ اقتسموا هذه البدرة درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، ولو أفردت كان المعنى تجويز الجمع بين هذه الأعداد دون التوزيع ولو ذكرت بأو لذهب تجويز الاختلاف في العدد‏.‏ ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ‏}‏ بين هذه الأعداد أيضاً‏.‏ ‏{‏فواحدة‏}‏ فاختاروا أو فانكحوا واحدة وذروا الجمع‏.‏ وقرئ بالرفع على أنه فاعل محذوف أو خبره تقديره فتكفيكم واحدة، أو فالمقنع واحدة‏.‏ ‏{‏أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ سوى بين الواحدة من الأزواج والعدد من السراري لخفة مؤنهن وعدم وجوب القسم بينهن ‏{‏ذلك‏}‏ أي التقليل منهن أو اختيار الواحدة أو التسري‏.‏ ‏{‏أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ‏}‏ أقرب من أن لا تميلوا، يقال عال الميزان إذا مال وعال الحاكم إذا جار، وعول الفريضة الميل عن حد السهام المسماة‏.‏ وفسر بأن لا تكثر عيالكم على أنه من عال الرجل عياله يعولهم إذا مانهم، فعبر عن كثرة العيال بكثرة المؤن على الكناية‏.‏ ويؤيده قراءة «أن لا تعيلوا» من أعال الرجل إذا كثر عياله، ولعل المراد بالعيال الأزواج وإن أريد الأولاد فلأن التسري مظنة قلة الولد بالإِضافة إلى التزوج لجواز العزل فيه كتزوج الواحدة بالإِضافة إلى تزوج الأربع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏وَءَاتُواْ النساء صدقاتهن‏}‏ مهورهن‏.‏ وقرئ بفتح الصاد وسكون الدال على التخفيف، وبضم الصاد وسكون الدال، جمع صدقة كغرفة، وبضمهما على التوحيد وهو تثقيل صدقة كظلمة في ظلمة‏.‏ ‏{‏نِحْلَةً‏}‏ أي عطية يقال نحله كذا نحلة ونحلاً إذا أعطاه إياه عن طيب نفس بلا توقع عوض، ومن فسرها بالفريضة ونحوها نظر إلى مفهوم الآية لا إلى موضوع اللفظ، ونصبها على المصدر لأنها في معنى الإيتاء أو الحال من الواو، أو الصدقات أي آتوهن صدقاتهن ناحلين أو منحولة‏.‏ وقيل المعنى نحلة من الله وتفضلاً منه عليهن فتكون حالاً من الصدقات‏.‏ وقيل ديانة من قولهم انتحل فلان كذا إذا دان به على أنه مفعول له، أو حال من الصدقات أي ديناً من الله تعالى شرعه، والخطاب للأزواج، وقيل للأولياء لأنهم كانوا يأخذون مهور مولياتهم‏.‏ ‏{‏فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مّنْهُ نَفْساً‏}‏ للصداق حملاً على المعنى أو جرى مجرى اسم الإِشارة كقول رؤبة‏:‏

كَأَنَّه في الجلْد *** تَوْلِيْعُ البُهَق

إذ سئل فقال‏:‏ أردت كأن ذاك‏.‏ وقيل للإِيتاء، ونفساً تمييز لبيان الجنس ولذلك وحد، والمعنى فإن وهبن لكم شيئاً من الصداق عن طيب نفس، لكن جعل العمدة طيب النفس للمبالغة وعداه بعن لتضمن معنى التجافي والتجاوز، وقال منه بعثا لهن على تقليل الموهوب ‏{‏فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً‏}‏ فخذوه وأنفقوه حلالاً بلا تبعة‏.‏ والهنيء والمريء صفتان من هنأ الطعام ومرأ إذا ساغ من غير غصص، أقيمتا مقام مصدريهما أو وصف بهما المصدر أو جعلتا حالاً من الضمير‏.‏ وقيل الهنيء ما يلذه الإِنسان، والمريء ما تحمد عاقبته‏.‏ روي‏:‏ أن ناساً كانوا يتأثمون أن يقبل أحدهم من زوجته شيئاً مما ساق إليها‏.‏ فنزلت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 11‏]‏

‏{‏وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏5‏)‏ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ‏(‏6‏)‏ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ‏(‏7‏)‏ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏8‏)‏ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ‏(‏10‏)‏ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم‏}‏ نهي للأولياء عن أن يؤتوا الذين لا رشد لهم أموالهم فيضيعوها، وإنما أضاف الأموال إلى الأولياء لأنها في تصرفهم وتحت ولايتهم، وهو الملائم للآيات المتقدمة والمتأخرة‏.‏ وقيل نهي لكل أحد أن يعمد إلى ما خوله الله تعالى من المال فيعطى امرأته وأولاده، ثم ينظر إلى أيديهم‏.‏ وإنما سماهم سفهاء استخفافاً بعقولهم واستهجاناً لجعلهم قواماً على أنفسهم وهو أوفق لقوله‏:‏ ‏{‏التي جَعَلَ الله لَكُمْ قياما‏}‏ أي تقومون بها وتنتعشون، وعلى الأول يؤول بأنها التي من جنس ما جعل الله لكم قياماً سمي ما به القيام قياماً للمبالغة‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر «قيماً» بمعناه كعوذ بمعنى عياذ‏.‏ وقرئ «قواماً» وهو ما يقام به‏.‏ ‏{‏وارزقوهم فِيهَا واكسوهم‏}‏ واجعلوها مكاناً لرزقهم وكسوتهم بأن تتجروا فيها وتحصلوا من نفعها ما يحتاجون إليه‏.‏ ‏{‏وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً‏}‏ عدة جميلة تطيب بها نفوسهم، والمعروف ما عرفه الشرع أو العقل بالحسن، والمنكر ما أنكره أحدهما لقبحه‏.‏

‏{‏وابتلوا اليتامى‏}‏ اختبروهم قبل البلوغ بتتبع أحوالهم في صلاح الدين، والتهدي إلى ضبط المال وحسن التصرف، بأن يكل إليه مقدمات العقد‏.‏ وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى بأن يدفع إليه ما يتصرف فيه‏.‏ ‏{‏حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ‏}‏ حتى إذا بلغوا حد البلوغ بأن يحتلم، أو يستكمل خمس عشرة سنة عندنا لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ إذا استكمل الولد خمس عشرة سنة، كتب ماله وما عليه وأقيمت عليه الحدود ‏"‏ وثماني عشرة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى‏.‏ وبلوغ النكاح كناية عن البلوغ، لأنه يصلح للنكاح عنده‏.‏ ‏{‏فَإِن آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً‏}‏ فإن أبصرتم منهم رشداً‏.‏ وقرئ أحستم بمعنى أحسستم‏.‏ ‏{‏فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم‏}‏ من غير تأخير عن حد البلوغ، ونظم الآية أن إن الشرطية جواب إذاً المتضمنة معنى الشرط، والجملة غاية الابتلاء فكأنه قيل؛ وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم، وهو دليل على أنه لا يدفع إليهم ما لم يؤنس منهم الرشد‏.‏ وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى‏:‏ إذا زادت على سن البلوغ سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير الأحوال، إذ الطفل يميز بعدها ويؤمر بالعبادة، دفع إليه المال وإن لم يؤنس منه الرشد‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ‏}‏ مسرفين ومبادرين كبرهم، أو لإِسرافكم ومبادرتكم كبرهم‏.‏ ‏{‏وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ‏}‏ من أكلها‏.‏ ‏{‏وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف‏}‏ بقدر حاجته وأجرة سعيه، ولفظ الاستعفاف والأكل بالمعروف مشعر بأن الولي له حق في مال الصبي، وعنه عليه الصلاة والسلام ‏"‏ أن رجلاً قال له إن في حجري يتيماً أفآكل من ماله‏؟‏ قال‏:‏ كل بالمعروف غير متأثل مالاً ولا واق مالك بماله ‏"‏

وإيراد هذا التقسيم بعد قوله ولا تأكلوها يدل على أنه نهي للأولياء أن يأخذوا وينفقوا على أنفسهم أموال اليتامى‏.‏ ‏{‏فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ‏}‏ بأنهم قبضوها فإنه أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة، ووجوب الضمان وظاهره يدل على أن القيم لا يصدق في دعواه إلا بالبنية وهو المختار عندنا وهو مذهب مالك خلافاً لأبي حنيفة‏.‏ ‏{‏وكفى بالله حَسِيباً‏}‏ محاسباً فلا تخالفوا ما أمرتم به ولا تتجاوزوا ما حد لكم‏.‏

‏{‏لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنّسَاءِ نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون‏}‏ يريد بهم المتوارثين بالقرابة‏.‏ ‏{‏مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ‏}‏ بدل مما ترك بإعادة العامل‏.‏ ‏{‏نَصِيباً مَّفْرُوضاً‏}‏ نصب على أنه مصدر مؤكد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَرِيضَةً مّنَ الله‏}‏ أو حال إذ المعنى‏:‏ ثبت لهم مفروضاً نصيب، أو على الاختصاص بمعنى أعني نصيباً مقطوعاً واجباً لهم، وفيه دليل على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه‏.‏ روي «أن أوس بن الصامت الأنصاري خلف زوجته أم كحة وثلاث بنات، فزوى ابنا عمه سويد وعرفطة‏.‏ أو قتادة وعرفجة ميراثه عنهن على سنة الجاهلية، فإنهم ما كانوا يورثون النساء والأطفال ويقولون‏:‏ إنما يرث‏.‏ من يحارب ويذب عن الحوزة، فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفضيخ فشكت إليه فقال‏:‏ ارجعي حتى أنظر ما يحدث الله‏.‏ فنزلت فبعث إليهما‏:‏ لا تفرقا من مال أوس شيئاً فإن الله قد جعل لهن نصيباً ولم يبين حتى يبين‏.‏ فنزلت ‏{‏يُوصِيكُمُ الله‏}‏ فأعطى أم كحة الثمن والبنات الثلثين والباقي ابن العم» وهو دليل على جواز تأخير البيان عن وقف الخطاب‏.‏

‏{‏وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى‏}‏ ممن لا يرث ‏{‏واليتامى والمساكين فارزقوهم مّنْهُ‏}‏ فاعطوهم شيئاً من المقسوم تطييباً لقلوبهم‏.‏ وتصدقاً عليهم، وهو أمر ندب للبلغ من الورثة‏.‏ وقيل أمر وجوب، ثم اختلف في نسخه والضمير لما ترك أو ما دل عليه القسمة ‏{‏وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً‏}‏ وهو أن يدعوا لهم ويستقلوا ما أعطوهم ولا يمنوا عليهم‏.‏

‏{‏وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضعافا خَافُواْ عَلَيْهِمْ‏}‏ أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى ويتقوه في أمر اليتامى فيفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم، أو للحاضرين المريض عند الإِيصاء بأن يخشوا ربهم، أو يخشوا على أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا يتركوه أن يضرَّ بهم بصرف المال عنهم، أو للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافاً مثلهم هل يجوزون حرمانهم، أو للموصين بأن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية ولو بما في حيزه، جعل صلة للذين على معنى وليخش الذين حالهم وصفتهم أنهم لو شارفوا أن يخلفوا ذرية ضعافاً خافوا عليهم الضياع، وفي ترتيب الأمر عليه إشارة إلى المقصود منه والعلة فيه، وبعث على الترحم وأن يحب لأولاد غيره ما يحب لأولاده وتهديد للمخالف بحال أولاده‏.‏

‏{‏فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً‏}‏ أمرهم بالتقوى التي هي غاية الخشية بعدما أمرهم بها مراعاة للمبدأ والمنتهى، إذ لا ينفع الأول دون الثاني، ثم أمرهم أن يقولوا لليتامى مثل ما يقولون لأولادهم بالشفقة وحسن الأدب، أو للمريض ما يصده عن الإِسراف في الوصية وتضييع الورثة، ويذكره التوبة وكلمة الشهادة، أو لحاضري القسمة عذراً جميلاً ووعداً حسناً، أو أن يقولوا في الوصية ما لا يؤدي إلى مجاوزة الثلث وتضييع الورثة‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً‏}‏ ظالمين، أو على وجه الظلم‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ‏}‏ ملء بطونهم‏.‏ ‏{‏نَارًا‏}‏ ما يجر إلى النار، ويؤول إليها‏.‏ وعن أبي بردة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يبعث الله قوماً من قبورهم تتأجج أفواههم ناراً» فقيل‏:‏ من هم‏؟‏ فقال‏:‏ «ألم تر أن الله يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً‏}‏ ‏{‏وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً‏}‏ سيدخلون ناراً وأي نار»‏.‏ وقرأ ابن عامر وابن عياش عن عاصم بضم الياء مخففاً‏.‏ وقرئ به مشدداً يقال صلى النار قاسى حرها، وصليته شويته وأصليته وصليته ألقيته فيها، والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعرت النار إذا ألهبتها‏.‏

و ‏{‏يُوصِيكُمُ الله‏}‏ يأمركم ويعهد إليكم‏.‏ ‏{‏فِي أولادكم‏}‏ في شأن ميراثهم وهو إجمال تفصيله‏.‏ ‏{‏لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين‏}‏ أي يعد كل ذكر بأنثيين حيث اجتمع الصنفان فيضعف نصيبه، وتخصيص الذكر بالتنصيص على حظه لأن القصد إلى بيان فضله، والتنبيه على أن التضعيف كاف للتفضيل فلا يحرمن بالكلية وقد اشتركا في الجهة، والمعنى للذكر منهم فحذف للعلم به‏.‏ ‏{‏فَإِن كُنَّ نِسَاء‏}‏ أي إن كان الأولاد نساء خلصاً ليس معهن ذكر، الضمير فأنث الضمير باعتبار الخبر أو على تأويل المولودات‏.‏ ‏{‏فَوْقَ اثنتين‏}‏ خبر ثان، أو صفة للنساء أي نساء زائدات على اثنتين‏.‏ ‏{‏فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ‏}‏ المتوفى منكم، ويدلَ عليه المعنى‏.‏ ‏{‏وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف‏}‏ أي وإن كانت المولودة واحدة‏.‏ وقرأ نافع بالرفع على كان التامة، واختلف في الثنتين فقال ابن عباس رضي الله عنهما حكمهما حكم الواحدة، لأنه تعالى جعل الثلثين لما فوقهما‏.‏ وقال الباقون حكمهما حكم ما فوقهما لأنه تعالى لما بين أن حظ الذكر مثل حظ الأنثيين إذا كان معه أنثى وهو الثلثان، اقتضى ذلك أن فرضهما الثلثان‏.‏ ثم لما أوهم ذلك أن يزاد النصيب بزيادة العدد رد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين‏}‏ ويؤيد ذلك أن البنت الواحدة لما استحقت الثلث مع أخيها فبالحري أن تستحقه مع أخت مثلها‏.‏

وأن البنتين أمس رحما من الأختين وقد فرض لهما الثلثين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ‏}‏‏.‏ ‏{‏وَلأَبَوَيْهِ‏}‏ ولأبوي الميت‏.‏ ‏{‏لِكُلّ واحد مّنْهُمَا‏}‏ بدل منه بتكرير العامل وفائدته التنصيص على استحقاق كل واحد منهما السدس، والتفصيل بعد الإِجمال تأكيداً‏.‏ ‏{‏السدس مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ‏}‏ أي للميت‏.‏ ‏{‏وَلَد‏}‏ ذكر أو أنثى غير أن الأب يأخذ السدس مع الأنثى بالفريضة، وما بقي من ذوي الفروض أيضاً بالعصوبة‏.‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ‏}‏ فحسب‏.‏ ‏{‏فَلأُمّهِ الثلث‏}‏ مما ترك وإنما لم يذكر حصة الأب، لأنه لما فرض أن الوارث أبواه فقط وعين نصيب الأم علم أن الباقي للأب، وكأنه قال‏:‏ فلهما ما ترك أثلاثاً، وعلى هذا ينبغي أن يكون لها حيث كان معهما أحد الزوجين ثلث ما بقي من فرضه كما قاله الجمهور، لا ثلث المال كما قاله ابن عباس، فإنه يفضي إلى تفضيل الأنثى على الذكر المساوي لها في الجهة والقرب وهو خلاف وضع الشرع‏.‏ ‏{‏فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السدس‏}‏ بإطلاقهِ يدل على أن الإِخوة يردونها من الثلث إلى السدس، وإن كانوا لا يرثون مع الأب‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم يأخذون السدس الذي حجبوا عنه الأم، والجمهور على أن المراد بالإِخوة عدد ممن له إخوة من غير اعتبار التثليث سواء كان من الإِخوة أو الأخوات، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ لا يحجب الأم من الثلث ما دون الثلاثة ولا الأخوات الخلص أخذاً بالظاهر‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏فَلأُمِّهِ‏}‏ بكسر الهمزة اتباعاً للكسرة التي قبلها‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ‏}‏ متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها أي هذه الأنصباء للورثة من بعد ما كان من وصية‏.‏ أو دين، وإنما قال بأو التي للإِباحة دون الواو للدلالة على أنهما متساويان في الوجوب مقدمان على القسمة مجموعين ومنفردين، وقدم الوصية على الدين وهي متأخرة في الحكم لأنها مشبهة بالميراث شاقة على الورثة مندوب إليها الجميع والدين إنما يكون على الندور‏.‏ وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر بفتح الصاد‏.‏ ‏{‏آبَاؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً‏}‏ أي لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم، فتحروا فيهم ما أوصاكم الله به، ولا تعمدوا إلى تفضيل بعض وحرمانه‏.‏ روي أن أحد المتوالدين إذا كان أرفع درجة من الآخر في الجنة سأل أن يرفع إليه فيرفع بشفاعته‏.‏ أو من مورثيكم منهم أو من أوصى منهم فعرضكم للثواب بإمضاء وصيته، أو من لم يوص فوفر عليكم ماله فهو اعتراض مؤكد لأمر القسمة أو تنفيذ الوصية‏.‏ ‏{‏فَرِيضَةً مّنَ الله‏}‏ مصدر مؤكد، أو مصدر يوصيكم الله لأنه في معنى يأمركم ويفرض عليكم‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً‏}‏ بالمصالح والرتب‏.‏ ‏{‏حَكِيماً‏}‏ فيما قضى وقدر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ‏}‏ أي ولد وارث من بطنها، أو من صلب بنيها، أو بني بنيها وإن سفل ذكراً كان أو أنثى منكم أو من غيركم‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَو دَيْنٍ‏}‏ فرض للرجل بحق الزواج ضعف ما للمرأة كما في النسب، وهكذا قياس كل رجل وامرأة اشتركا في الجهة والقرب، ولا يستثنى منه إلا أولاد الأم والمعتق والمعتقة، وتستوي الواحدة والعدد منهم في الربع والثمن‏.‏ ‏{‏وَإِن كَانَ رَجُلٌ‏}‏ أي الميت‏.‏ ‏{‏يُورَثُ‏}‏ أي يورث منه من ورث صفة رجل‏.‏ ‏{‏كلالة‏}‏ خبر كان أو يورث خبره، وكلالة حال من الضمير فيه وهو من لم يخلف ولداً ولا والداً‏.‏ أو مفعول له والمراد بها قرابة ليست من جهة الوالد والولد‏.‏ ويجوز أن يكون الرجل الوارث ويورث من أورث، وكلالة من ليس له بوالد ولا ولد‏.‏ وقرئ ‏{‏يُورَثُ‏}‏ على البناء للفاعل فالرجل الميت وكلالة تحتمل المعاني الثلاثة وعلى الأول خبر أو حال، وعلى الثاني مفعول له، وعلى الثالث مفعول به، وهي في الأصل مصدر بمعنى الكلال قال الأعشى‏:‏

فآلَيْتُ لاَ أرْثِي لَهَا مِنْ كَلاَلة *** وَلاَ مِنْ حَفَا حَتى أُلاَقِي مُحَمَّداً

فاستعيرت لقرابة ليست بالبعضية، لأنها كالة بالإِضافة إليها، ثم وصف بها المورث والوارث بمعنى ذي كلالة كقولك فلان من قرابتي‏.‏ ‏{‏أَو امرأة‏}‏ عطف على رجل‏.‏ ‏{‏وَلَهُ‏}‏ أي وللرجل، واكتفي بحكمه عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما فيه‏.‏ ‏{‏أَخٌ أَوْ أُخْتٌ‏}‏ أي من الأم، ويدل عليه قراءة أبي وسعد بن مالك «وله أخ أو أخت من الأم»، وأنه ذكر في آخر السورة أن للأختين الثلثين وللأخوة الكل، وهو لا يليق بأولاد الأم وأن ما قدر ههنا فرض الأم فيناسب أن يكون لأولادها‏.‏ ‏{‏فَلِكُلّ واحد مّنْهُمَا السدس فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلك فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثلث‏}‏ سوى بين الذكر والأنثى في القسمة لأن الإدلاء بمحض الأنوثة، ومفهوم الآية أنهم لا يرثون ذلك مع الأم والجدة كما لا يرثون مع البنت وبنت الابن فخص فيه بالإِجماع‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ‏}‏ أي غير مضار لورثته بالزيادة على الثلث، أو قصد المضارة بالوصية دون القربة والإِقرار بدين لا يلزمه، وهو حال من فاعل يوصى المذكور في هذه القراءة والمدلول عليه بقوله يوصى على البناء للمفعول في قراءة ابن كثير وابن عامر وابن عياش عن عاصم‏.‏ ‏{‏وَصِيَّةً مّنَ الله‏}‏ مصدر مؤكد أو منصوب بغير مضار على المفعول به، ويؤيده أنه قرئ ‏{‏غَيْرَ مُضَارّ وَصِيَّةً‏}‏ بالإِضافة أي لا يضار وصية من الله، وهو الثلث فما دونه بالزيادة، أو وصية منه بالأولاد بالإِسراف في الوصية والإِقرار الكاذب‏.‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ بالمضار وغيره‏.‏ ‏{‏حَلِيمٌ‏}‏ لا يعاجل بعقوبته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏تِلْكَ‏}‏ إشارة إلى الأحكام التي قدمت في أمر اليتامى والوصايا والمواريث‏.‏ ‏{‏حُدُودُ الله‏}‏ شرائعه التي هي كالحدود المحدودة التي لا يجوز مجاوزتها‏.‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا وذلك الفوز العظيم‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خالدا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ توحيد الضمير في يدخله، وجمع ‏{‏خالدين‏}‏ للفظ والمعنى‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر ‏{‏ندخله‏}‏ بالنون و‏{‏خالدين‏}‏ حال مقدرة كقولك‏:‏ مررت برجل معه صقر صائداً به غدا، وكذلك خالداً وليستا صفتين لجنات وناراً وإلا لوجب إبراز الضمير لأنهما جريا على غير من هما له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ‏(‏15‏)‏ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نّسَائِكُمْ‏}‏ أي يفعلنها، يقال‏:‏ أتى الفاحشة وجاءها وغشيها ورهقها إذا فعلها، والفاحشة الزنا لزيادة قبحها وشناعتها‏.‏ ‏{‏فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مّنْكُمْ‏}‏ فاطلبوا ممن قذفهن أربعة من رجال المؤمنين تشهد عليهن‏.‏ ‏{‏فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت‏}‏ فاحبسوهن في البيوت واجعلوها سجناً عليهن‏.‏ ‏{‏حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت‏}‏ يستوفي أرواحهن الموت، أو يتوفاهن ملائكة الموت‏.‏ قيل‏:‏ كان ذلك عقوبتهن في أوائل الإِسلام فنسخ بالحد، ويحتمل أن يكون المراد به التوصية بإمساكهن بعد أن يجلدن كيلا يجري عليهن ما جرى بسبب الخروج والتعرض للرجال، لم يذكر الحد استغناء بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الزانية والزاني‏}‏ ‏{‏أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً‏}‏ كتعيين الحد المخلص عن الحبس، أو النكاح المغني عن السفاح‏.‏ ‏{‏واللذان يأتيانها مِنكُمْ‏}‏ يعني الزانية والزاني‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏واللذان‏}‏ بتشديد النون وتمكين مد الألف، والباقون بالتخفيف من غير تمكين‏.‏ ‏{‏فَئَاذُوهُمَا‏}‏ بالتوبيخ والتقريع، وقيل بالتعيير والجلد‏.‏ ‏{‏فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا‏}‏ فاقطعوا عنهما الإيذاء، أو أعرضوا عنهما بالإِغماض والستر‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً‏}‏ علة الأمر بالإِعراض وترك المذمة‏.‏ قيل هذه الآية سابقة على الأولى نزولاً وكان عقوبة الزنا الأذى ثم الحبس ثم الجلد‏.‏ وقيل الأولى في السحاقات وهذه في اللواطين، والزانية والزاني في الزناة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا التوبة عَلَى الله‏}‏ أي إن قبول التوبة كالمحتوم على الله بمقتضى وعده من تاب عليه إذا قبل توبته‏.‏ ‏{‏لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السوء بجهالة‏}‏ متلبسين بها سفهاً فإن ارتكاب الذنب سفه وتجاهل، ولذلك قيل من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ‏}‏ من زمان قريب، أي قبل حضور الموت لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت‏}‏ وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر» وسماه قريباً لأن أمد الحياة قريب لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ متاع الدنيا قَلِيلٌ‏}‏ أو قبل أن يشرب في قلوبهم حبه فيطبع عليها فيتعذر عليهم الرجوع، و‏{‏مِنْ‏}‏ للتبعيض أي يتوبون في أي جزء من الزمان القريب الذي هو ما قبل أن ينزل بهم سلطان الموت، أو يزين السوء‏.‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ‏}‏ وعد بالوفاء بما وعد به وكتب على نفسه بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا التوبة عَلَى الله‏}‏ ‏{‏وَكَانَ الله عَلِيماً‏}‏ فهو يعلم بإخلاصهم في التوبة ‏{‏حَكِيماً‏}‏ والحكيم لا يعاقب التائب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّي تُبْتُ الآن وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ‏}‏ سوى بين من سوف يتوب إلى حضور الموت من الفسقة والكفار، وبين من مات على الكفر في نفي التوبة للمبالغة في عدم الاعتداد بها في تلك الحالة، وكأنه قال وتوبة هؤلاء وعدم توبة هؤلاء سواء‏.‏ وقيل المراد بالذين يعملون السوء عصاة المؤمنين، وبالذين يعملون السيئات المنافقون لتضاعف كفرهم وسوء أعمالهم، وبالذين يموتون الكفار‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ تأكيد لعدم قبول توبتهم، وبيان أن العذاب أعده لهم لا يعجزه عذابهم متى شاء، والاعتداد التهيئة من العتاد وهو العدة، وقيل أصله أعددنا فأبدلت الدال الأولى تاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً‏}‏ كان الرجل إذا مات وله عصبة ألقى ثوبه على امرأته وقال‏:‏ أنا أحق بها ثم إن شاء تزوجها بصداقها الأول، وإن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها، وإن شاء عضلها لتفتدي بما ورثت من زوجها، فنهوا عن ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ لا يحل لكم أن تأخذوهن على سبيل الإِرث فتتزوجوهن كارهات لذلك أو مكرهات عليه‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏كَرْهاً‏}‏ بالضم في مواضعه وهما لغتان‏.‏ وقيل بالضم المشقة وبالفتح ما يكره عليه‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ‏}‏ عطف على ‏{‏أَن تَرِثُواْ‏}‏، ولا لتأكيد النفي أي ولا تمنعوهن من التزويج، وأصل العضل التضييق يقال عضلت الدجاجة ببيضها‏.‏ وقيل الخطاب مع الأزواج كانوا يحبسون النساء من غير حاجة ورغبة حتى يرثوا منهن أو يختلعن بمهورهن‏.‏ وقيل تم الكلام بقوله كرهاً ثم خاطب الأزواج ونهاهم عن العضل‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ‏}‏ كالنشوز وسوء العشرة وعدم التعفف، والاستثناء من أعم عام الظرف أو المفعول له تقديره ولا تعضلوهن للافتداء إلا وقت أن يأتين بفاحشة، أو ولا تعضلوهن لعلة إلا أن يأتين بفاحشة‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو بكر ‏{‏مُّبَيّنَةٍ‏}‏ هنا وفي الأحزاب والطلاق بفتح الياء والباقون بكسرها فيهن‏.‏ ‏{‏وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف‏}‏ بالإِنصاف في الفعل والإِجمال في القول‏.‏ ‏{‏فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً‏}‏ أي فلا تفارقوهن لكراهة النفس فإنها قد تكره ما هو أصلح ديناً وأكثر خيراً، وقد تحب ما هو بخلافه‏.‏ وليكن نظركم إلى ما هو أصلح للدين وأدنى إلى الخير، وعسى في الأصل علة فأقيم مقامه‏.‏ والمعنى فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن فعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 27‏]‏

‏{‏وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏20‏)‏ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏21‏)‏ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ‏(‏22‏)‏ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏23‏)‏ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏24‏)‏ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏25‏)‏ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏26‏)‏ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ‏}‏ تطليق امرأة وتزوج أخرى‏.‏ ‏{‏وَآتَيتُمْ إِحْدَاهُنَّ‏}‏ أي إحدى الزوجات، جمع الضمير لأنه أراد بالزوج الجنس‏.‏ ‏{‏قِنْطَاراً‏}‏ مالاً كثيراً‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً‏}‏ أي من قنطار‏.‏ ‏{‏أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً‏}‏ إستفهام إنكار وتوبيخ، أي أتأخذونه باهتين وآثمين، ويحتمل النصب على العلة كما في قولك‏:‏ قعدت عن الحرب جبناً، لأن الأخذ بسبب بهتانهم واقترافهم المآثم‏.‏ قيل كان الرجل منهم إذا أراد امرأة جديدة بهت التي تحته بفاحشة حتى يلجئها إلى الإفتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج الجديدة، فنهوا عن ذلك والبهتان الكذب الذي يبهت المكذوب عليه، وقد يستعمل في الفعل الباطل ولذلك فسر ههنا بالظلم‏.‏

‏{‏وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ‏}‏ إنكار لاسترداد المهر والحال أنه وصل إليها بالملامسة ودخل بها وتقرر المهر‏.‏ ‏{‏وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً‏}‏ عهداً وثيقاً، وهو حق الصحبة والممازحة، أو ما أوثق الله عليهم في شأنهن بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان‏}‏ أو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ «أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله» ‏{‏وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُمْ‏}‏ ولا تنكحوا التي نكحها آباؤكم، وإنما ذكر ما دون من لأنه أريد به الصفة، وقيل ما مصدرية على إرادة المفعول من المصدر‏.‏ ‏{‏مّنَ النساء‏}‏ بيان ما نكح على الوجهين‏.‏ ‏{‏إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏ استثناء من المعنى اللازم للنهي وكأنه قيل‏:‏ وتستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف، أو من اللفظ للمبالغة في التحريم والتعميم كقوله‏:‏

وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيرَ أَنَّ سُيُوفَهُم *** بِهِنْ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِب

والمعنى ولا تنكحوا حلائل آبائكم إلا ما قد سلف إن أمكنكم أن تنكحوهن‏.‏ وقيل الاستثناء منقطع ومعناه لكن ما قد سلف، فإنه لا مؤاخذة عليه لأنه مقرر‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ فاحشة وَمَقْتاً‏}‏ علة للنهي أي إن نكاحهن كان فاحشة عند الله ما رخص فيه لأمةٍ من الأمم، ممقوتاً عند ذوي المروءات ولذلك سمي ولد الرجل من زوجة أبيه المقتي ‏{‏وَسَاء سَبِيلاً‏}‏ سبيل من يراه ويفعله‏.‏

‏{‏حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت‏}‏ ليس المراد تحريم ذواتهن بل تحريم نكاحهن لأنه معظم ما يقصد منهن، ولأنه المتبادر إلى الفهم كتحريم الأكل من قوله‏:‏ ‏{‏حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة‏}‏ ولأن ما قبله وما بعده في النكاح، وأمهاتكم تعم من ولدتك أو ولدت من ولدك وإن علت، وبناتكم تتناول من ولدتها أو ولدت من ولدها وإن سفلت، وأخواتكم الأخوات من الأوجه الثلاثة‏.‏ وكذلك الباقيات والعمة كل أنثى ولدها من ولد ذكراً ولدك والخالة كل أنثى ولدها من ولد أنثى ولدتك قريباً أو بعيداً، وبنات الأخ وبنات الأخت تتناول القربى والبعدى‏.‏

‏{‏وأمهاتكم الْلاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مّنَ الرضاعة‏}‏ نَزَّلَ الله الرضاعة منزلة النسب حتى سمى المرضعة أماً والمُرضَّعة أختاً، وأمرها على قياس النسب باعتبار المرضعة ووالد الطفل الذي در عليه اللبن قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» واستثناء أخت ابن الرجل وأم أخيه من الرضاع من هذا الأصل ليس بصحيح فإن حرمتهما من النسب بالمصاهرة دون النسب‏.‏ ‏{‏وأمهات نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ مّن نِّسَائِكُمُ اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ‏}‏ ذكر أولاً محرمات النسب ثم محرمات الرضاعة، لأن لها لحمة كلحمة النسب، ثم محرمات المصاهرة فإن تحريمهن عارض لمصلحة الزواج، والربائب جمع ربيبة‏.‏ والربيب ولد المرأة من آخر سمي به لأنه يربه كما يرب ولده في غالب الأمر، فعيل بمعنى مفعول وإنما لحقه التاء لأنه صار اسماً ومن نسائكم متعلق بربائبكم، واللاتي بصلتها صفة لها مقيدة للفظ والحكم بالإِجماع قضية للنظم، ولا يجوز تعليقها بالأمهات أيضاً لأن من إذا علقتها بالربائب كانت ابتدائية، وإذا علقتها بالأمهات لم يجز ذلك بل وجب أن يكون بياناً لنسائكم والكلمة الواحدة لا تحمل على معنيين عند جمهور الأدباء اللهم إذا جعلتها للاتصال كقوله‏:‏

إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُورا *** فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِني

على معنى أن أمهات النساء وبناتهن متصلات بهن، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم فرق بينهما فقال في رجل تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها «إنه لا بأس أن يتزوج ابنتها ولا يحل له أن يتزوج أمها» وإليه ذهب عامة العلماء، غير أنه روي عن علي رضي الله تعالى عنه تقييد التحريم فيهما‏.‏ ولا يجوز أن يكون الموصول الثاني صفة للنساءين لأن عاملهما مختلف، وفائدة قوله ‏{‏فِي حُجُورِكُمْ‏}‏ تقوية العلة وتكميلها، والمعنى أن الربائب إذا دخلتم بأمهاتهن وهن في احتضانكم أو بصدده تقوى الشبه بينها وبين أولادكم وصارت أحقاء بأن تجروها مجراهم لا تقييد الحرمة، وإليه ذهب جمهور العلماء‏.‏ وقد روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه جعله شرطاً، والأمهات والربائب يتناولان القريبة والبعيدة، وقوله دخلتم بهن أي دخلتم معهن الستر وهي كناية عن الجماع، ويؤثر في حرمة المصاهرة ما ليس بزنا كالوطء بشبهة، أو ملك يمين‏.‏ وعند أبي حنيفة لمس المنكوحة ونحوه كالدخول‏.‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ‏}‏ تصريح بعد إشعار دفعاً للقياس‏.‏ ‏{‏وحلائل أَبْنَائِكُمُ‏}‏ زوجاتهم، سميت الزوجة حليلة لحلها أو لحلولها مع الزوج‏.‏ ‏{‏الذين مِنْ أصلابكم‏}‏ احتراز عن المتبنين لا عن أبناء الولد ‏{‏وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين‏}‏ في موضع الرفع عطفاً على المحرمات، والظاهر أن الحرمة غير مقصورة على النكاح فإن المحرمات المعدودة كما هي محرمة في النكاح فهي محرمة في ملك اليمين، ولذلك قال عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما‏:‏ حرمتهما آية وأحلتهما آية، يعنيان هذه الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ فرجح علي كرم الله وجهه التحريم، وعثمان رضي الله عنه التحليل‏.‏ وقول علي أظهر لأن آية التحليل مخصوصة في غير ذلك ولقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام ‏"‏ ‏{‏إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏ استثناء من لازم المعنى، أو منقطع معناه لكن ما قد سلف مغفور لقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏‏.‏

‏{‏والمحصنات مِنَ النساء‏}‏ ذوات الأزواج، أحصنهن التزويج أو الأزواج‏.‏ وقرأ الكسائي بكسر الصاد في جميع القرآن لأنهن أحصن فروجهن‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم‏}‏ يريد ما ملكت أيمانكم من اللاتي سبين ولهن أزواج كفار فهن حلال للسابين، والنكاح مرتفع بالسبي لقول أبي سعيد رضي الله تعالى عنه‏:‏ أصبنا سبايا يوم أوطاس ولهن أزواج كفار، فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية فاستحللناهن‏.‏ وإياه عنى الفرزدق بقوله‏:‏

وَذَات حَلِيلٍ أَنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا *** حَلاَلٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلَّقِ

وقال أبو حنيفة لو سبي الزوجان لم يرتفع النكاح ولم تحل للسابي‏.‏ وإطلاق الآية والحديث حجة عليه‏.‏ ‏{‏كتاب الله عَلَيْكُمْ‏}‏ مصدر مؤكد، أي كتب الله عليكم تحريم هؤلاء كتاباً‏.‏ وقرئ «كتب» الله بالجمع والرفع أي هذه فرائض الله عليكم «وكتب الله» بلفظ الفعل‏.‏ ‏{‏وَأُحِلَّ لَكُمْ‏}‏ عطف على الفعل المضمر الذي نصب كتاب الله وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم على البناء للمفعول عطفاً على ‏{‏حرمت‏}‏‏.‏ ‏{‏مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ‏}‏ ما سوى المحرمات الثمان المذكورة‏.‏ وخص عنه بالسنة ما في معنى المذكورات كسائر محرمات الرضاع، والجمع بين المرأة وعمتها وخالتها‏.‏ ‏{‏أَن تَبْتَغُواْ بأموالكم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين‏}‏ مفعول له والمعنى أحل لكم ما وراء ذلكم إرادة أن تبتغوا النساء بأموالكم بالصرف في مهورهن، أو أثمانهن في حال كونكم محصنين غير مسافحين، ويجوز أن لا يقدر مفعول تبتغوا وكأنه قيل إرادة أن يصرفوا أموالكم محصنين غير مسافحين أو بدل مما وراء ذلك بدل لاشتمال‏.‏ واحتج به الحنفية على أن المهر لا بد وأن يكون مالاً‏.‏ ولا حجة فيه‏.‏ والإِحصان العفة فإنها تحصين للنفس عن اللوم والعقاب، والسفاح الزنا من السفح وهو صب المني فإنه الغرض منه‏.‏ ‏{‏فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ‏}‏ فمن تمتعتم به من المنكوحات، أو فما استمتعتم به منهن من جماع أو عقد عليهن‏.‏ ‏{‏فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏ مهورهن فإن المهر في مقابلة الاستمتاع‏.‏ ‏{‏فَرِيضَةً‏}‏ حال من الأجور بمعنى مفروضة، أو صفة مصدر محذوف أي إيتاء مفروضاً أو مصدر مؤكد‏.‏ ‏{‏وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة‏}‏ فيما يزاد على المسمى أو يحط عنه بالتراضي، أو فيما تراضيا به من نفقة أو مقام أو فراق‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت الآية في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتحت مكة ثم نسخت، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام أباحها ثم أصبح يقول‏:‏ «يا أيها الناس إني كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء ألا إن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة» وهي النكاح المؤقت بوقت معلوم سمي بها إذ الغرض منه مجرد الاستمتاع بالمرأة، أو تمتيعها بما تعطي‏.‏ وجوزها ابن عباس رضي الله عنهما ثم رجع عنه‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً‏}‏ بالمصالح‏.‏ ‏{‏حَكِيماً‏}‏ فيما شرع من الأحكام‏.‏

‏{‏وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً‏}‏ غنى واعتلاء وأصله الفضل والزيادة‏.‏ ‏{‏أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات‏}‏ في موضع النصب بطولاً‏.‏ أو بفعل مقدر صفة له أي ومن لم يستطع منكم أن يعتلي نكاح المحصنات، أو من لم يستطع منكم غنى يبلغ به نكاح المحصنات يعني الحرائر لقوله‏:‏ ‏{‏فمن مَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن فتياتكم المؤمنات‏}‏ يعني الإِماء المؤمنات، فظاهر الآية حجة للشافعي رضي الله تعالى عنه في تحريم نكاح الأمة على من ملك ما يجعله صداق حرة، ومنع نكاح الأمة الكتابية مطلقاً‏.‏ وأول أبو حنيفة رحمه الله تعالى طول المحصنات بأن يملك فراشهن، على أن النكاح هو الوطء وحمل قوله‏:‏ ‏{‏مّن فتياتكم المؤمنات‏}‏ على الأفضل‏.‏ كما حمل عليه في قوله‏:‏ ‏{‏المحصنات المؤمنات‏}‏ ومن أصحابنا من حمله أيضاً على التقييد وجوز نكاح الأمة لمن قدر على الحرة الكتابية دون المؤمنة حذراً عن مخالطة الكفار وموالاتهم، والمحذور في نكاح الأمة رق الولد، وما فيه من المهانة ونقصان حق الزوج‏.‏ ‏{‏والله أَعْلَمُ بإيمانكم‏}‏ فاكتفوا بظاهر الإِيمان فإنه العالم بالسرائر وبتفاضل ما بينكم في الإِيمان، فرب أمة تفضل الحرة فيه، ومن حقكم أن تعتبروا فضل الإِيمان لا فضل النسب، والمراد تأنيسهم بنكاح الإِماء ومنعهم عن الاستنكاف منه ويؤيده‏.‏ ‏{‏بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ‏}‏ أنتم وأرقاؤكم متناسبون نسبكم من آدم ودينكم الإِسلام‏.‏ ‏{‏فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ‏}‏ يريد أربابهن واعتبار إذنهم مطلقاً لا إشعار له، على أن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهم حتى يحتج به الحنفية‏.‏ ‏{‏وآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏ أي أدوا إليهن مهورهن بإذن أهلهن فحذف ذلك لتقدم ذكره، أو إلى مواليهن فحذف المضاف للعلم بأن المهر للسيد لأنه عوض حقه فيجب أن يؤدى إليه، وقال مالك رضي الله عنه‏:‏ المهر للأمة ذهاباً إلى الظاهر ‏{‏بالمعروف‏}‏ بغير مطل وإضرار ونقصان‏.‏ ‏{‏محصنات‏}‏ عفائف‏.‏ ‏{‏غَيْرَ مسافحات‏}‏ غير مجاهرات بالسفاح‏.‏ ‏{‏وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ‏}‏ أخلاء في السر ‏{‏فَإِذَا أُحْصِنَّ‏}‏ بالتزويج‏.‏ قرأ أبو بكر وحمزة بفتح الهمزة والصاد والباقون بضم الهمزة وكسر الصاد‏.‏ ‏{‏فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة‏}‏ زنى‏.‏ ‏{‏فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات‏}‏ يعني الحرائر‏.‏ ‏{‏مّنَ العذاب‏}‏ من الحد لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ المؤمنين‏}‏ وهو يدل على أن حد العبد نصف حد الحر، وأنه لا يرجم لأن الرجم لا ينتصف‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي نكاح الإِماء‏.‏ ‏{‏لِمَنْ خَشِيَ العنت مِنْكُمْ‏}‏ لمن خاف الوقوع في الزنى، وهو في الأصل انكسار العظم بعد الجبر، مستعار لكل مشقة وضرر ولا ضرر أعظم من مواقعة الإِثم بأفحش القبائح‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به الحد وهذا شرط آخر لنكاح الإِماء‏.‏ ‏{‏وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ أي وصبركم عن نكاح الإِماء متعففين خير لكم‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام «الحرائر صلاح البيت والإِماء هلاكه»‏.‏ ‏{‏والله غَفُورٌ‏}‏ لمن لم يصبر‏.‏ ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ بأن رخص له‏.‏

‏{‏يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ‏}‏ ما تعبدكم به من الحلال والحرام، أو ما خفي عنكم من مصالحكم ومحاسن أعمالكم، وليبين مفعول يريد واللام زيدت لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإِرادة كما في قول قيس بن سعد‏:‏

أَرَدْتُ لِكَيْمَا يَعْلَم النَّاس أَنَّه *** سَرَاويلُ قَيْسٍ وَالوُفُودُ شُهُودُ

وقيل المفعول محذوف، وليبين مفعول له أي يريد الحق لأجله‏.‏ ‏{‏وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ مناهج من تقدمكم من أهل الرشد لتسلكوا طرقهم‏.‏ ‏{‏وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ويغفر لكم ذنوبكم، أو يرشدكم إلى ما يمنعكم عن المعاصي ويحثكم على التوبة، أو إلى ما يكون كفارة لسيئاتكم‏.‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ بها ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ في وضعها‏.‏

‏{‏والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ‏}‏ كرره للتأكيد والمبالغة‏.‏ ‏{‏وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات‏}‏ يعني الفجرة فإن اتباع الشهوات الائتمار لها، وأما المتعاطي لما سوغه الشرع منها دون غيره فهو متبع له في الحقيقة لا لها‏.‏ وقيل‏:‏ المجوس‏.‏ وقيل‏:‏ اليهود فإنهم يحلون الأخوات من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت‏.‏ ‏{‏أَن تَمِيلُواْ‏}‏ عن الحق بموافقتهم على اتباع الشهوات واستحلال المحرمات‏.‏ ‏{‏مَيْلاً عَظِيماً‏}‏ بالإِضافة إلى ميل من اقترف خطيئة على ندور غير مستحل لها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ‏}‏ فلذلك شرع لكم الشرعة الحنيفية السمحة السهلة، ورخص لكم في المضايق كإحلال نكاح الأمة‏.‏ ‏{‏وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً‏}‏ لا يصبر عن الشهوات ولا يتحمل مشاق الطاعات‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ ثمان آيات في سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت هذه الثلاث‏:‏ ‏{‏إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ‏}‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ‏}‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ‏}‏ ‏{‏وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ‏}‏ ‏{‏وَمَا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ‏.‏‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل‏}‏ بما لم يبحه الشرع كالغصب والربا والقمار‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ‏}‏ استثناء منقطع أي، ولكن كون تجارة عن تراض غير منهي عنه، أو اقصدوا كون تجارة‏.‏ وعن تراض صفة لتجارة أي تجارة صادرة عن تراضي المتعاقدين، وتخصيص التجارة من الوجوه التي بها يحل تناول مال الغير، لأنها أغلب وأرفق لذوي المروءات، ويجوز أن يراد بها الانتقال مطلقاً‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله‏.‏ وبالتجارة صرفه فيما يرضاه‏.‏ وقرأ الكوفيون ‏{‏تجارة‏}‏ بالنصب على كان الناقصة وإضمار الإسم أي إلا أن تكون التجارة أو الجهة تجارة‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ بالبخع كما تفعله جهلة الهند، أو بإلقاء النفس إلى التهلكة‏.‏ ويؤيده ما روي‏:‏ أن عمرو بن العاص تأوله التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم أو بارتكاب ما يؤدي إلى قتلها‏.‏ أو باقتراف ما يذلها ويرديها فإنه القتل الحقيقي للنفس‏.‏ وقيل المراد بالأنفس من كان من أهل دينهم، فإن المؤمنين كنفس واحدة‏.‏ جمع في التوصية بين حفظ النفس والمال الذي هو شقيقها من حيث إنه سبب قوامها استبقاء لهم ريثما تستكمل النفوس، وتستوفي فضائلها رأفة بهم ورحمة كمال أشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً‏}‏ أي أمر ما أمر ونهى عما نهى لفرط رحمته عليكم‏.‏ وقيل‏:‏ معناه إنه كان بكم يا أمة محمد رحيماً لما أمر بني إسرائيل بقتل الأنفس ونهاكم عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذلك‏}‏ إشارة إلى القتل، أو ما سبق من المحرمات‏.‏ ‏{‏عدوانا وَظُلْماً‏}‏ إفراطاً في التجاوز عن الحق وإتياناً بما لا يستحقه‏.‏ وقيل أراد بالعدوان التعدي على الغير، وبالظلم ظلم النفس بتعريضها للعقاب‏.‏ ‏{‏فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً‏}‏ ندخله إياها‏.‏ وقرئ بالتشديد من صلى، وبفتح النون من صلاه يصليه‏.‏ ومنه شاة مصلية، ويصليه بالياء والضمير لله تعالى أو لذلك من حيث إنه سبب الصلي‏.‏ ‏{‏وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً‏}‏ لا عسر فيه ولا صارف عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ‏}‏ كبائر الذنوب التي نهاكم الله ورسوله عنها، وقرئ كبير على إرادة الجنس‏.‏ ‏{‏نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم‏}‏ نغفر لكم صغائركم ونمحها عنكم‏.‏

واختلف في الكبائر، والأقرب أن الكبير كل ذنب رتب الشارع عليه حداً أو صرح بالوعيد فيه‏.‏ وقيل ما علم حرمته بقاطع‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم «أنها سبع‏:‏ الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، والربا، والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين»‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ ‏(‏الكبائر إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع‏)‏‏.‏ وقيل أراد به ههنا أنواع الشرك لقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ وقيل صغر الذنوب وكبرها بالإِضافة إلى ما فوقها وما تحتها، فأكبر الكبائر الشرك وأصغر الصغائر حديث النفس وبينهما وسائط يصدق عليها الأمران، فمن عن له أمران منها ودعت نفسه إليها بحيث لا يتمالك فكفها عن أكبرها كفر عنه ما ارتكبه لما استحق من الثواب على اجتناب الأكبر‏.‏ ولعل هذا مما يتفاوت باعتبار الأشخاص والأحوال، ألا ترى أنه تعالى عاتب نبيه عليه الصلاة والسلام في كثير من خطواته التي لم تعد على غيره خطيئة فضلاً عن أن يؤاخذه عليها‏.‏ ‏{‏وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً‏}‏ الجنة وما وعد من الثواب، أو إدخالاً مع كرامة‏.‏ وقرأ نافع هنا وفي الحج بفتح الميم وهو أيضاً يحتمل المكان والمصدر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ‏}‏ من الأمور الدنيوية كالجاه والمال، فلعل عدمه خير والمقتضي للمنع كونه ذريعة إلى التحاسد والتعادي، معربة عن عدم الرضا بما قسم الله له، وأنه تشه لحصول الشيء له من غير طلب وهو مذموم، لأن تمني ما لم يقدر له معارضة لحكمة القدر، وتمني ما قدر له بكسب بطالة وتضييع حظ، وتمني ما قدر له بغير كسب ضائع ومحال‏.‏ ‏{‏لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبوا وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبن‏}‏ بيان لذلك أي لكل من الرجال والنساء فضل ونصيب بسبب ما اكتسب ومن أجله، فاطلبوا الفضل من الله تعالى بالعمل لا بالحسد، والتمني كما قال عليه الصلاة والسلام «ليس الإِيمان بالتمني» وقيل المراد نصيب الميراث وتفضيل الورثة بعضهم على بعض فيه، وجعل ما قسم لكل منهم على حسب ما عرف من حاله الموجبة للزيادة والنقص كالمكتسب له‏.‏ ‏{‏واسألوا الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ أي لا تتمنوا ما للناس واسألوا الله مثله من خزائنه التي لا تنفذ‏.‏ وهو يدل على أن المنهي عنه هو الحسد، أو لا تتمنوا واسألوا الله من فضله بما يقربه ويسوقه إليكم‏.‏ وقرأ ابن كثير والكسائي ‏{‏واسألوا الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ وسلهم فسل الذين وشبهه إذا كان أمراً مواجهاً به، وقبل السين واو أو فاء بغير همز وحمزة في الوقف على أصله والباقون بالهمز‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً‏}‏ فهو يعلم ما يستحقه كل إنسان فيفضل عن علم وتبيان‏.‏ روي ‏(‏أن أم سلمة قالت‏:‏ يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو وإنما لنا نصف الميراث ليتنا كنا رجالاً‏)‏ فنزلت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 37‏]‏

‏{‏وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ‏(‏33‏)‏ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ‏(‏34‏)‏ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ‏(‏35‏)‏ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ‏(‏36‏)‏ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون‏}‏ أي ولكل تركة جعلنا وراثاً يلونها ويحرزونها، ومما ترك بيان لكل مع الفصل بالعامل‏.‏ أو لكل ميت جعلنا وراثاً مما ترك على أن من صلة موالي‏.‏ لأنه في معنى الوارث، وفي ترك ضمير كل والوالدان والأقربون استئناف مفسر للموالي، وفيه خروج الأولاد فإن الأقربون لا يتناولهم كما لا يتناول الوالدين، أو لكل قوم جعلناهم موالي حظ مما ترك الوالدان والأقربون، على إن جعلنا موالي صفة كل والراجع إليه محذوف على هذا فالجملة من مبتدأ وخبر‏.‏ ‏{‏والذين عَقَدَتْ أيمانكم‏}‏ موالى الموالاة، كان الحليف يورث السدس من مال حليفه فنسخ بقوله‏:‏ ‏{‏وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ‏}‏ وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى‏:‏ لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقد على أن يتعاقلا ويتوارثا صح وورث‏.‏ أو الأزواج على أن العقد عقد النكاح وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط وخبره‏.‏ ‏{‏فَآتُوهُم نَصِيبَهُمْ‏}‏ أو منصوب بمضمر يفسره ما بعده كقولك‏:‏ زيداً فاضربه، أو معطوف على الوالدان، وقوله فآتوهم جملة مسببة عن الجملة المتقدمة مؤكدة لها، والضمير للموالي‏.‏ وقرأ الكوفيون ‏{‏عَقَدَتْ‏}‏ بمعنى عقدت عهودهم إيمانكم فحذف العهود وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه ثم حذف كما حذف في القراءة الأخرى‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَيْءٍ شَهِيداً‏}‏ تهديد على منع نصيبهم‏.‏

‏{‏الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء‏}‏ يقومون عليهن قيام الولاة على الرعية، وعلل ذلك بأمرين وهبي وكسبي فقال‏:‏ ‏{‏بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ‏}‏ بسبب تفضيله تعالى الرجال على النساء بكمال العقل وحسن التدبير، ومزيد القوة في الأعمال والطاعات، ولذلك خصوا بالنبوة والإِمامة والولاية وإقامة الشعائر، والشهادة في مجامع القضايا، ووجوب الجهاد والجمعة ونحوها، والتعصيب وزيادة السهم في الميراث والاستبداد بالفراق‏.‏ ‏{‏وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أموالهم‏}‏ في نكاحهن كالمهر والنفقة‏.‏ روي «‏(‏أن سعد بن الربيع أحد نقباء الأنصار نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير، فلطمها فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لتقتص منه، فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ أردنا أمراً وأراد الله أمراً والذي أراد الله خير» ‏{‏فالصالحات قانتات‏}‏ مطيعات لله قائمات بحقوق الأزواج‏.‏ ‏{‏حافظات لّلْغَيْبِ‏}‏ لمواجب الغيب أي يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في النفس والمال، وعنه عليه الصلاة والسلام‏:‏ «خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك، وإن أمرتها أطاعتك، وإن غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها» وتلا الآية‏.‏ وقيل لأسرارهم‏.‏ ‏{‏بِمَا حَفِظَ الله‏}‏ بحفظ الله إياهن بالأمر على حفظ الغيب والحث عليه بالوعد والوعيد والتوفيق له، أو بالذي حفظه الله لهن عليهم من المهر والنفقة والقيام بحفظهن والذب عنهن‏.‏

وقرئ ‏{‏بِمَا حَفِظَ الله‏}‏ بالنصب على أن ما موصولة فإنها لو كانت مصدرية لم يكن لحفظ فاعل، والمعنى بالأمر الذي حفظ حق الله وطاعته وهو التعفف والشفقة على الرجال‏.‏ ‏{‏واللاتى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ‏}‏ عصيانهن وترفعهن عن مطاوعة الأزواج من النشز‏.‏ ‏{‏فَعِظُوهُنَّ واهجروهن فِي المضاجع‏}‏ في المراقد فلا تدخلوهن تحت اللحف، أو لا تباشروهن فيكون كناية عن الجماع‏.‏ وقيل المضاجع المبايت أي لا تباينوهن ‏{‏واضربوهن‏}‏ يعني ضرباً غير مبرح ولا شائن، والأمور الثلاثة مرتبة ينبغي أن يتدرج فيها‏.‏ ‏{‏فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً‏}‏ بالتوبيخ والإِيذاء، والمعنى فأزيلوا عنهن التعرض واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً‏}‏ فاحذروه فإنه أقدر عليكم منكم على من تحت أيديكم، أو أنه على علو شأنه يتجاوز عن سيئاتكم ويتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو عن أزواجكم، أو أنه يتعالى ويتكبر أن يظلم أحداً أو ينقص حقه‏.‏

‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا‏}‏ خلافاً بين المرأة وزوجها، أضمرها وإن لم يجر ذكرهما لجرى ما يدل عليهما وإضافة الشقاق إلى الظرف إما لإجرائه مجرى المفعول به كقوله‏:‏ يَا سَارِقَ اللَّيْلَةَ أَهْلَ الدَّارِ أو لفاعل كقولهم نهارك صائم‏.‏ ‏{‏فابعثوا حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا‏}‏ فابعثوا أيها الحكام متى اشتبه عليكم حالهما لتبيين الأمر أو إصلاح ذات البين، رجلاً وسطاً يصلح للحكومة والإِصلاح من أهله وآخر من أهلها، فإن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح، وهذا على وجه الاستحباب فلو نصبا من الأجانب جاز‏.‏ وقيل الخطاب للأزواج والزوجات، واستدل به على جواز التحكيم، والأظهر أن النصب لإصلاح ذات البين أو لتبيين الأمر ولا يليان الجمع والتفريق إلا بإذن الزوجين، وقال مالك لهما أن يتخالعا إن وجدا الصلاح فيه‏.‏ ‏{‏إِن يُرِيدَا إصلاحا يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا‏}‏ الضمير الأول للحكمين والثاني للزوجين، أي إن قصدا الإِصلاح أوقع الله بحسن سعيهما الموافقة بين الزوجين‏.‏ وقيل كلاهما للحكمين أي إن قصدا الإِصلاح يوفق الله بينهما لتتفق كلمتهما ويحصل مقصودهما‏.‏ وقيل للزوجين أي إن أرادا الإصلاح وزوال الشقاق أوقع الله بينهما الألفة والوفاق، وفيه تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتحراه أصلح الله مبتغاه‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً‏}‏ بالظواهر والبواطن، فيعلم كيف يرفع الشقاق ويوقع الوفاق‏.‏

‏{‏واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً‏}‏ صنماً أو غيره، أو شيئاً من الإِشراك جلياً أو خفياً ‏{‏وبالوالدين إحسانا‏}‏ وأحسنوا بهما إحساناً‏.‏ ‏{‏وَبِذِي القربى‏}‏ وبصاحب القرابة‏.‏ ‏{‏واليتامى والمساكين والجار ذِي القربى‏}‏ أي الذي قرب جواره‏.‏ وقيل الذي له الجوار قرب واتصال بنسب أو دين‏.‏ وقرئ بالنصب على الاختصاص تعظيماً لحقه‏.‏ ‏{‏والجار الجنب‏}‏ البعيد، أو الذي لا قرابة له‏.‏ وعنه عليه الصلاة والسلام‏:‏

‏"‏ الجيران ثلاثة‏.‏ فجار له ثلاثة حقوق‏:‏ حق الجوار، وحق القرابة، وحق الإِسلام‏.‏ وجار له حقان‏:‏ حق الجوار وحق الإِسلام، وجار له حق واحد‏:‏ حق الجوار وهو المشرك من أهل الكتاب ‏"‏ ‏{‏والصاحب بالجنب‏}‏ الرفيق في أمر حسن كتعلم وتصرف وصناعة وسفر، فإنه صحبك وحصل بجنبك‏.‏ وقيل المرأة‏.‏ ‏{‏وابن السبيل‏}‏ المسافر أو الضعيف‏.‏ ‏{‏وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ العبيد والإِماء‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً‏}‏ متكبراً يأنف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه ولا يلتفت إليهم‏.‏ ‏{‏فَخُوراً‏}‏ يتفاخر عليهم‏.‏

‏{‏الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل‏}‏ بدل من قوله من كان، أو نصب على الذم أو رفع عليه أي هم الذين، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره الذين يبخلون بما منحوا به ويأمرون الناس بالبخل به‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ههنا وفي «الحديد» ‏{‏بالبخل‏}‏ بفتح الحرفين وهي لغة‏.‏ ‏{‏وَيَكْتُمُونَ مَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ الغنى والعلم فهم أحقاء بكل ملامة‏.‏ ‏{‏وَأَعْتَدْنَا للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً‏}‏ وضع الظاهر فيه موضع المضمر إشعاراً بأن من هذا شأنه فهو كافر لنعمة الله، وما كان كافراً لنعمة الله فله عذاب يهينه كما أهان النعمة بالبخل والإِخفاء‏.‏ والآية نزلت في طائفة من اليهود كانوا يقولون للأنصار تنصيحاً‏:‏ لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر‏.‏ وقيل في الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏والذين يُنْفِقُونَ أموالهم رِئَاء الناس‏}‏ عطف على الذين يبخلون، أو الكافرين‏.‏ وإنما شاركهم في الذم والوعيد لأن البخل والسرف الذي هو الإِنفاق لا على من ينبغي من حيث إنهما طرفا إفراط وتفريط سواء في القبح واستجلاب الذم، أو مبتدأ خبره محذوف مدلول عليه بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً‏}‏‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر‏}‏ ليتحروا بالإِنفاق مراضيه وثوابه وهم مشركو مكة‏.‏ وقيل هم المنافقون‏.‏ ‏{‏وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قِرِيناً‏}‏ تنبيه على أن الشيطان قرنهم فحملهم على ذلك وزينة لهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين‏}‏ والمراد إبليس وأعوانه الداخلة والخارجة، ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأن يقرن بهم الشيطان في النار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءامَنُواْ بالله واليوم الآخر وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ الله‏}‏ أي وما الذي عليهم، أو أي تبعة تحيق بهم بسبب الإِيمان والإِنفاق في سبيل الله، وهو توبيخ لهم على الجهل بمكان المنفعة والاعتقاد في الشيء على خلاف ما هو عليه، وتحريض على الفكر لطلب الجواب لعله يؤدي بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلة، والعوائد الجميلة‏.‏ وتنبيه على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب إليه احتياطاً، فكيف إذا تضمن المنافع‏.‏ وإنما قدم الإِيمان ها هنا وأخره في الآية لأخرى لأن القصد بذكره إلى التخصيص ها هنا والتعليل ثم ‏{‏وَكَانَ الله بِهِم عَلِيماً‏}‏ وعيد لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ‏}‏ لا ينقص من الأجر ولا يزيد في العقاب أصغر شيء كالذرة، وهي النملة الصغيرة‏.‏ ويقال لكل جزء من أجزاء الهباء، والمثقال مفعال من الثقل، وفي ذكره إيماء إلى أنه وإن صغر قدره عظم جزاؤه‏.‏ ‏{‏وَإِن تَكُ حَسَنَةً‏}‏ وإن يكن مثقال الذرة حسنة وأنت الضمير لتأنيث الخبر، أو لإضافة المثقال إلى مؤنث‏.‏ وحذف النون من غير قياس تشبيهاً بحروف العلة‏.‏ وقرأ بن كثير ونافع ‏{‏حَسَنَةٌ‏}‏ بالرفع على كان التامة‏.‏ ‏{‏يضاعفها‏}‏ يضاعف ثوابها وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب يضعفها وكلاهما بمعنى‏.‏ ‏{‏وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ‏}‏ ويعط صاحبها من عنده على سبيل التفضل زائداً على ما وعد في مقابلة العمل ‏{‏أَجْراً عَظِيماً‏}‏ عطاء جزيلاً، وإنما سماه أجراً لأنه تابع للأجر مزيد عليه‏.‏