فصل: سورة الأعراف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


سورة الأعراف

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏المص ‏(‏1‏)‏‏}‏

سبق الكلام في مثله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 3‏]‏

‏{‏كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏كِتَابٌ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هو كتاب، أو خبر ‏{‏المص‏}‏ والمراد به السورة أو القرآن‏.‏ ‏{‏أَنزَلَ إِلَيْكَ‏}‏ صفته‏.‏ ‏{‏فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ‏}‏ أي شك، فإن الشك حرج الصدر أو ضيق قلب من تبليغه مخافة أن تكذب فيه، أو تقصر في القيام بحقه، وتوجيه النهي فيه للمبالغة كقولهم‏:‏ لا أرينك ها هنا‏.‏ والفاء تحتمل العطف والجواب فكأنه قيل‏:‏ إذا أنزل إليك لتنذر به فلا يحرج صدرك‏.‏ ‏{‏لِتُنذِرَ بِهِ‏}‏ متعلق بأنزل أو بلا يكن لأنه إذا أيقن أنه من عند الله جسر على الإنذار، وكذا إذا لم يخفهم أو علم أنه موفق للقيام بتبليغه‏.‏ ‏{‏وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ يحتمل النصب بإضمار فعلها أي‏:‏ لتنذر وتذكر ذكرى فإنها بمعنى التذكير، والجر عطفاً على محل تنذر والرفع عطفاً على كِتَابٌ أو خبراً لمحذوف‏.‏

‏{‏اتبعوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ‏}‏ يعم القرآن والسنة لقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يوحى‏}‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء‏}‏ يضلونكم من الجن والإِنس‏.‏ وقيل الضمير في ‏{‏مِن دُونِهِ‏}‏ ل ‏{‏مَا أَنزَلَ الله‏}‏ أي‏:‏ ولا تتبعوا من دون دين الله دين أولياء‏.‏ وقرئ «ولا تبتغوا»‏.‏ ‏{‏قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ‏}‏ أي تذكراً قليلاً أو زماناً قليلاً تذكرون حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره، و«ما» مزيدة لتأكيد القلة وإن جعلت مصدرية لم ينتصب ‏{‏قَلِيلاً‏}‏ ب ‏{‏تَذَكَّرُونَ‏}‏‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ‏{‏تَذَكَّرُونَ‏}‏ بحذف التاء، وابن عامر «يتذكرون» على أن الخطاب بعد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَم مّن قَرْيَةٍ‏}‏ وكثيراً من القرى‏.‏ ‏{‏أهلكناها‏}‏ أردنا إهلاك أهلها، أو أهلكناها بالخذلان‏.‏ ‏{‏فَجَاءهَا‏}‏ فجاء أهلها‏.‏ ‏{‏بَأْسُنَا‏}‏ عذابنا‏.‏ ‏{‏بَيَاتًا‏}‏ بائتين كقوم لوط، مصدر وقع موقع الحال‏.‏ ‏{‏أَوْ هُمْ قَائِلُونَ‏}‏ عطف عليه أي‏:‏ قائلين نصف النهار كقوم شعيب، وإنما حذفت واو الحال استثقالاً لاجتماع حرفي العطف، فإنها واو عطف استعيرت للوصل لا اكتفاء بالضمير فإنه غير فصيح‏.‏ وفي التعبيرين مبالغة في غفلتهم وأمنهم من العذاب، ولذلك خص الوقتين ولأنهما وقت دعة واستراحة فيكون مجيء العذاب فيهما أفظع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ‏}‏ أي دعاؤهم واستغاثتهم، أو ما كانوا يدعونه من دينهم‏.‏ ‏{‏إِذْ جَاءهُم بَأْسُنَا إِلا أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظالمين‏}‏ إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وبطلانه تحسراً عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَنَسْئَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ عن قبول الرسالة وإجابتهم الرسل‏.‏ ‏{‏ولَنَسْأَلَنَّ المْرسَلِينَ‏}‏ عما أجيبوا به، والمراد عن هذا السؤال توبيخ للكفرة وتقريعهم، والمنفي في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَسْئَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون‏}‏ سؤال استعلام‏.‏ أو الأول في موقف الحساب وهذا عند حصولهم على العقوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم‏}‏ على الرسل حين يقولون ‏{‏لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب‏}‏ أو على الرسل والمرسل إليهم ما كانوا عليه‏.‏ ‏{‏بِعِلْمِ‏}‏ عالمين بظواهرهم وبواطنهم، أو بمعلومنا منهم‏.‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ‏}‏ عنهم فيخفى علينا شيء من أحوالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏والوزن‏}‏ أي القضاء، أو وزن الأعمال وهو مقابلتها بالجزاء‏.‏ والجمهور على أن صحائف الأعمال توزن بميزان له لسان وكفتان، ينظر إليه الخلائق إظهاراً للمعدلة وقطعاً للمعذرة، كما يسألهم عن أعمالهم فتعترف بها ألسنتهم وتشهد بها جوارحهم‏.‏ ويؤيده ما روي‏:‏ أن الرجل يؤتى به إلى الميزان فينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر، فيخرج له بطاقة فيها كلمتا الشهادة فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة‏.‏ وقيل توزن الأشخاص لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ «إنه ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة» ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ خبر المبتدأ الذي هو الوزن‏.‏ ‏{‏الحق‏}‏ صفته، أو خبر محذوف ومعناه العدل السوي‏.‏ ‏{‏فَمَن ثَقُلَتْ موازينه‏}‏ حسناته، أو ما يوزن به حسناته فهو جمع موزون أو ميزان وجمعه باعتبار اختلاف الموزونات وتعدد الوزن‏.‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون‏}‏ الفائزون بالنجاة والثواب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَنْ خَفَّتْ موازينه فأولئك الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم‏}‏ بتضييع الفطرة السليمة التي فطرت عليها، واقتراف ما عرضها للعذاب‏.‏ ‏{‏بِمَا كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ‏}‏ فيكذبون بدل التصديق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ مكناكم فِى الأرض‏}‏ أي مكناكم من سكناها وزرعها والتصرف فيها‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش‏}‏ أسباباً تعيشون بها، جمع معيشة‏.‏ وعن نافع أنه همزة تشبيهاً بما الياء فيه زائدة كصحائف‏.‏ ‏{‏قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ‏}‏ فيما صنعت إليكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 21‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ‏(‏11‏)‏ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ‏(‏12‏)‏ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ‏(‏13‏)‏ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏14‏)‏ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ‏(‏15‏)‏ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ‏(‏17‏)‏ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏18‏)‏ وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏19‏)‏ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ‏(‏20‏)‏ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم‏}‏ أي خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصور ثم صورناه‏.‏ نزل خلقه وتصويره منزلة خلق الكل وتصويره، أو ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا آدم ثم صورناه‏.‏ ‏{‏ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ‏}‏ وقيل ثم لتأخير الإخبار‏.‏ ‏{‏فَسَجَدُواْ إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مّنَ الساجدين‏}‏ ممن سجد لآدم‏.‏

‏{‏قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ‏}‏ أي أن تسجد ولا صلة مثلها في لئلا يعلم، مؤكدة معنى الفعل الذي دخلت عليه، ومنبهة على أن الموبخ عليه ترك السجود‏.‏ وقيل الممنوع عن الشيء مضطر إلى خلافه فكأنه قيل‏:‏ ما اضطرك إلى ألا تسجد‏.‏ ‏{‏إِذْ أَمَرْتُكَ‏}‏ دليل على أن مطلق الأمر للوجوب والفور‏.‏ ‏{‏قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ‏}‏ جواب من حيث المعنى استأنف به استبعاداً لأن يكون مثله مأموراً بالسجود لمثله كأنه قال‏:‏ المانع أني خير منه، ولا يحسن للفاضل أن يسجد للمفضول، فكيف يحسن أن يؤمر به‏.‏ فهو الذي سن التكبر وقال بالحسن والقبح العقليين أولاً‏.‏ ‏{‏خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ‏}‏ تعليل لفضله عليه، وقد غلط في ذلك بأن رأى الفضل كله باعتبار العنصر وغفل عما يكون باعتبار الفاعل كما أشار إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ‏}‏ أي بغير واسطة، وباعتبار الصورة كما نبه عليه بقوله‏:‏ ‏{‏وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ ساجدين‏}‏ وباعتبار الغاية وهو ملاكه ولذلك أمر الملائكة بسجوده لما بين لهم أنه أعلم منهم، وأن له خواص ليست لغيره، والآية دليل الكون والفساد وأن الشياطين أجسام كائنة، ولعل إضافة خلق الإنسان إلى الطين والشيطان إلى النار باعتبار الجزء الغالب‏.‏

‏{‏قَالَ فاهبط مِنْهَا‏}‏ من السماء أو الجنة‏.‏ ‏{‏فَمَا يَكُونُ لَكَ‏}‏ فما يصح‏.‏ ‏{‏أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا‏}‏ وتعصي فإنها مكان الخاشع والمطيع‏.‏ وفيه تنبيه على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة وأنه سبحانه وتعالى إنما طرده وأهبطه لتكبره لا لمجرد عِصيانه‏.‏ ‏{‏فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين‏}‏ ممن أهانه الله لتكبره، قال عليه الصلاة والسلام «من تواضع رفعه الله ومن تكبر وضعه الله» ‏{‏قَالَ أَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ أمهلني إلى يوم القيامة فلا تمتني، أو لا تعجل عقوبتي‏.‏

‏{‏قَالَ إِنَّكَ مِنَ المنظرين‏}‏ يقتضي الإجابة إلى ما سأله ظاهراً لكنه محمول على ما جاء مقيداً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى يَوْمِ الوقت المعلوم‏}‏ وهو النفخة الأولى، أو وقت يعلم الله انتهاء أجله فيه، وفي إسعافه إليه ابتلاء العباد وتعريضهم للثواب بمخالفته ‏{‏قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى‏}‏ أي بعد أن أمهلتني لاجتهدن في إغوائهم بأي طريق يمكنني بسبب إغوائك إياي بواسطتهم تسمية، أو حملاً على الغي، أو تكليفاً بما غويت لأجله والباء متعلقة بفعل القسم المحذوف لا بأقعدن فإن اللام تصد عنه فإن القسم‏:‏ ‏{‏لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ‏}‏ ترصداً بهم كما يقعد القطاع للسابلة‏.‏

‏{‏صراطك المستقيم‏}‏ طريق الإِسلام ونصبه على الظرف كقوله‏:‏

لدنٌ بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُه *** فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ

وقيل تقديره على صراطك كقولهم‏:‏ ضرب زيد الظهر والبطن‏.‏

‏{‏ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ‏}‏ أي من جميع الجهات الأربع‏.‏ مثل قصده إياهم بالتسويل والإِضلال من أي وجه يمكنه بإتيان العدو من الجهات الأربع، ولذلك لم يقل من فوقهم ومن تحت أرجلهم‏.‏ وقيل لم يقل من فوقهم لأن الرحمة تنزل منه ولم يقل من تحتهم لأن الإِتيان منه يوحش الناس‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ من بين أيديهم من قبل الآخرة، ومن خلفهم من قبل الدنيا، وعن أيمانهم وعن شمائلهم من جهة حسناتهم وسيئاتهم‏.‏ ويحتمل أن يقال من أيديهم من حيث يعلمون ويقدرون على التحرز عنه، ومن خلفهم من حيث لا يعلمون ولا يقدرون، وعن أيمانهم وعن شمائلهم من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا ولكن لم يفعلوا لعدم تيقظهم واحتياطهم‏.‏ وإنما عدى الفعل إلى الأولين بحرف الابتداء لأنه منهما موجه إليهم وإلى الأخيرين بحرف المجاوزة فإن الآتي منهما كالمنحرف عنهم المار على عرضهم، ونظيره قولهم جلست عن يمينه‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين‏}‏ مطيعين، وإنما قاله ظناً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ‏}‏ لما رأى فيهم مبدأ الشر متعدداً ومبدأ الخير واحداً، وقيل سمعه من الملائكة‏.‏

‏{‏قَالَ اخرج مِنْهَا‏}‏ مذموماً من ذأمه إذا ذمه‏.‏ وقرئ «مذموماً» كمسول في مسؤول أو كمكول في مكيل، من ذامه يذيمه ذيماً‏.‏ ‏{‏مَذْمُومًا مَّدْحُورًا‏}‏ مطروداً‏.‏ ‏{‏لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ‏}‏ اللام فيه لتوطئة القسم وجوابه‏:‏ ‏{‏لأَمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ وهو ساد مسد جواب الشرط‏.‏ وقرئ ‏{‏لِمَنْ‏}‏ بكسر اللام على أنه خبر لأملأن على معنى‏:‏ لمن تبعك هذا الوعيد، أو علة لأخرج ولأملأن جواب قسم محذوف ومعنى منكم ومنهم فغلب المخاطب‏.‏

‏{‏ويَا ءادَمَ‏}‏ أي وقلنا يا آدم‏.‏ ‏{‏اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة‏}‏ وقرئ هذي وهو الأصل لتصغيره على ذيا والهاء بدل من الياء‏.‏ ‏{‏فَتَكُونَا مِنَ الظالمين‏}‏ فتصيرا من الذين ظلموا أنفسهم، وتكونا يحتمل الجزم على العطف والنصب على الجواب‏.‏

‏{‏فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان‏}‏ أي فعل الوسوسة لأجلهما، وهي في الأصل الصوت الخفي كالهينمة والخشخشة ومنه وسوس الحلي‏.‏ وقد سئل في سورة «البقرة» كيفية وسوسته‏.‏ ‏{‏لِيُبْدِيَ لَهُمَا‏}‏ ليظهر لهما، واللام للعاقبة أو للغرض على أنه أراد أيضاً بوسوسته أن يسوءهما بانكشاف عورتيهما، ولذلك عبر عنهما بالسوأة‏.‏ وفيه دليل على أن كشف العورة في الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع‏.‏ ‏{‏مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا‏}‏ ما غطي عنهما من عوراتهما، وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر، وإنما لم تقلب الواو المضمومة همزة في المشهور كما قلبت في أو يصل تصغير واصل لأن الثانية مدة وقرئ ‏{‏سوآتهما‏}‏ بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الواو وسوأتهما بقلبها واواً وإدغام الواو الساكنة فيها‏.‏

‏{‏وَقَالَ مَا نهاكما رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلا أَن تَكُونَا‏}‏ إِلاَّ كراهة أن تكونا‏.‏ ‏{‏مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين‏}‏ الذين لا يموتون أو يخلدون في الجنة، واستدل به على فضل الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وجوابه‏:‏ أنه كان من المعلوم أن الحقائق لا تنقلب وإنما كانت رغبتهما في أن يحصل لهما أيضاً للملائكة من الكمالات الفطرية، والاستغناء عن الأطعمة والأشربة، وذلك لا يدل على فضلهم مطلقاً‏.‏

‏{‏وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين‏}‏ أي أقسم لهما على ذلك، وأخرجه على زنة المفاعلة للمبالغة‏.‏ وقيل أقسما له بالقبول‏.‏ وقيل أقسما عليه بالله أنه لمن الناصحين فأقسم لهما فجعل ذلك مقاسمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏فدلاهما‏}‏ فنزلهما إلى الأكل من الشجرة، نبه به على أنه أهبطهما بذلك من درجة عالية إلى رتبة سافلة، فإن التدلية والإِدلاء إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل‏.‏ ‏{‏بِغُرُورٍ‏}‏ بما غرهما به من القسم فإنهما ظناً أن أحداً لا يحلف بالله كاذباً، أو ملتبسين بغرور‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُما‏}‏ أي فلما وجدا طعمهما آخذين في الأكل منها أخذتهما العقوبة وشؤم المعصية، فتهافت عنهما لباسهما وظهرت لهما عوراتهما‏.‏ واختلف في أن الشجرة كانت السنبلة أو الكرم أو غيرهما، وأن اللباس كان نوراً أو حلة أو ظفراً‏.‏ ‏{‏وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ‏}‏ أخذا يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة‏.‏ ‏{‏عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة‏}‏ قيل كان ورق التين، وقرئ ‏{‏يَخْصِفَانِ‏}‏ من أخصف أي يخصفان أنفسهما ويخصفان من خصف ويخصفان وأصله يختصفان‏.‏ ‏{‏وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشيطان لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏ عتاب على مخالفة النهي، وتوبيخ على الاغترار بقول العدو‏.‏ وفيه دليل على أن مطلق النهي للتحريم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا‏}‏ أضررناها بالمعصية والتعريض للإخراج من الجنة‏.‏ ‏{‏وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين‏}‏ دليل على أن الصغائر معاقب عليها إن لم تغفر‏.‏ وقالت المعتزلة لا يجوز المعاقبة عليها مع اجتناب الكبائر ولذلك قالوا‏:‏ إنما قالا ذلك على عادة المقربين في استعظام الصغير من السيئات واستحقار العظيم من الحسنات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ اهبطوا‏}‏ الخطاب لآدم وحواء وذريتهما، أو لهما ولإِبليس‏.‏ كرر الأمر له تبعاً ليعلم أنهم قرناء أبداً وأخبر عما قال لهم متفرقاً‏.‏ ‏{‏بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ‏}‏ في موضع الحال أي متعادين‏.‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِى الأرض مُسْتَقَرٌّ‏}‏ استقرار أي موضع استقرار‏.‏ ‏{‏ومتاع‏}‏ وتمتع‏.‏ ‏{‏إلى حِينٍ‏}‏ إلى أن تقضى آجالكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ‏}‏ للجزاء وقرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان ‏{‏وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ‏}‏، وفي «الزخرف» كذلك ‏{‏تُخْرَجُونَ‏}‏ بفتح التاء وضم الراء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏يابنى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا‏}‏ أي خلقناه لكم بتدبيرات سماوية وأسباب نازلة، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الانعام‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزْلْنَا الحديد‏}‏ ‏{‏يوارى سَوْآتِكُمْ‏}‏ التي قصد الشيطان إبداءها، ويغنيكم عن خصف الورق‏.‏ روي‏:‏ أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها، فنزلت‏.‏ ولعله ذكر قصة آدم مقدمة لذلك حتى يعلم أن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإِنسان من الشيطان، وأنه أغواهم في ذلك كما أغوى أبويهم‏.‏ ‏{‏وَرِيشًا‏}‏ ولباساً تتجملون به، والريش الجمال‏.‏ وقيل مالاً ومنه تريش الرجل إذا تمول‏.‏ وقرئ «رياشاً» وهو جمع ريش كشعب وشعاب‏.‏ ‏{‏وَلِبَاسُ التقوى‏}‏ خشية الله‏.‏ وقيل الإِيمان‏.‏ وقيل السمت الحسن‏.‏ وقيل لباس الحرب ورفعه بالابتداء وخبره‏:‏ ‏{‏ذلك خَيْرٌ‏}‏ أو خبر وذلك صفته كأنه قيل‏:‏ ولباس التقوى المشار إليه خير‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر والكسائي ‏{‏وَلِبَاسُ التقوى‏}‏ بالنصب عطفاً على ‏{‏لِبَاساً‏}‏‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي إنزال اللباس‏.‏ ‏{‏مِنْ آيات الله‏}‏ الدالة على فضله ورحمته‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏ فيعرفون نعمته أو يتعظون فيتورعون عن القبائح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏يابنى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان‏}‏ لا يمتحننكم بأن يمنعكم دخول الجنة بإغوائكم‏.‏ ‏{‏كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الجنة‏}‏ كما محن أبويكم بأن أخرجهما منها، والنهي في اللفظ للشيطان، والمعنى نهيهم عن اتباعه والافتنان به‏.‏ ‏{‏يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوآتهما‏}‏ حال من ‏{‏أَبَوَيْكُم‏}‏ أو من فاعل ‏{‏أَخْرَجَ‏}‏ وإسناد النزع إليه للتسبب‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ‏}‏ تعليل للنهي وتأكيد للتحذير من فتنته، وقبيله جنوده ورؤيتهم إيانا من حيث لا نراهم في الجملة لا تقتضي امتناع رؤيتهم وتمثلهم لنا‏.‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ بما أوجدنا بينهم من التناسب، أو بإرسالهم عليهم وتمكينهم من خذلانهم وحملهم على ما سولوا لهم‏.‏ والآية مقصود القصة وفذلكة الحكاية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا فَعَلُواْ فاحشة‏}‏ فعلة متناهية في القبح كعبادة الصنم وكشف العورة في الطواف‏.‏ ‏{‏قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا والله أَمَرَنَا بِهَا‏}‏ اعتذروا واحتجوا بأمرين تقليد الآباء والافتراء على الله سبحانه وتعالى، فأعرض عن الأول لظهور فساده ورد الثاني بقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء‏}‏ لأن عادته سبحانه وتعالى جرت على الأمر بمحاسن الأفعال، أو الحث على مكارم الخصال‏.‏ ولا دلالة عليه على أن أقبح الفعل بمعنى ترتب الذم عليه آجلاً عقلي، فإن المراد بالفاحشة ما ينفر عنه الطبع السليم ويستنقصه العقل المستقيم‏.‏ وقيل هما جوابا سؤالين مترتبين كأنه قيل لهم لما فعلوها‏:‏ لم فعلتم‏؟‏ فقالوا‏:‏ وجدنا عليها آباءنا‏.‏ فقيل ومن أين أخذ آباؤكم‏؟‏ فقالوا‏:‏ الله أمرنا بها‏.‏ وعلى الوجهين يمتنع التقليد إذا قام الدليل على خلافه لا مطلقاً‏.‏ ‏{‏أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ إنكار يتضمن النهي عن الافتراء على الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَمَرَ رَبّي بالقسط‏}‏ بالعدل وهو الوسط من كل أمر المتجافي عن طرفي الإِفراط والتفريط‏.‏ ‏{‏وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ‏}‏ وتوجهوا إلى عبادته مستقيمين غير عادلين إلى غيرها، أو أقيموها نحو القبلة‏.‏ ‏{‏عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ‏}‏ في كل وقت سجود أو مكانه وهو الصلاة، أو في أي مسجد حضرتكم الصلاة ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم‏.‏ ‏{‏وادعوه‏}‏ واعبدوه‏.‏ ‏{‏مُخْلِصِينَ لَهُ الدين‏}‏ أي الطاعة فإن إليه مصيركم‏.‏ ‏{‏كَمَا بَدَأَكُمْ‏}‏ كما أنشأكم ابتداء‏.‏ ‏{‏تَعُودُونَ‏}‏ بإعادته فيجازيكم على أعمالكم فأخلصوا له العبادة، وإنما شبه الإِعادة بالإِبداء تقريراً لإِمكانها والقدرة عليها‏.‏ وقيل كما بدأكم من التراب تعودون إليه‏.‏ وقيل كما بدأكم حفاة عراة غرلاً تعودون‏.‏ وقيل كما بدأكم مؤمناً وكافراً يعيدكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏فَرِيقًا هدى‏}‏ بأن وفقهم للإِيمان‏.‏ ‏{‏وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة‏}‏ بمقتضى القضاء السابق‏.‏ وانتصابه بفعل يفسره ما بعده أي وخذل فريقاً‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَاء مِن دُونِ الله‏}‏ تعليل لخذلانهم أو تحقيق لضلالهم‏.‏ ‏{‏وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏ يدل على أن الكافر المخطئ والمعاند سواء في استحقاق الذم، وللفارق أن يحمله على المقصر في النظر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏31‏)‏ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏يابنى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ‏}‏ ثيابكم لمواراة عورتكم‏.‏ ‏{‏عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ‏}‏ لطواف أو صلاة، ومن السنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئة للصلاة، وفيه دليل على وجوب ستر العورة في الصلاة‏.‏ ‏{‏وَكُلُواْ واشربوا‏}‏ ما طاب لكم‏.‏ روي‏:‏ أن بني عامر في أيام حجهم كانوا لا يأكلون الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً يعظمون بذلك حجهم فهم المسلمون به، فنزلت‏.‏ ‏{‏وَلاَ تُسْرِفُواْ‏}‏ بتحريم الحلال، أو بالتعدي إلى الحرام، أو بإفراط الطعام والشره عليه‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة‏.‏ وقال علي ابن الحسين بن واقد‏:‏ قد جمع الله الطب في نصف آية فقال‏:‏ ‏(‏كلوا واشربوا ولا تسرفوا‏)‏‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين‏}‏ أي لا يرتضي فعلهم‏.‏

‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله‏}‏ من الثياب وسائر ما يتجمل به‏.‏ ‏{‏التى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ‏}‏ من النبات كالقطن والكتان، والحيوان كالحرير والصوف، والمعادن كالدروع‏.‏ ‏{‏والطيبات مِنَ الرزق‏}‏ المستلذات من المآكل والمشارب‏.‏ وفيه دليل على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإِباحة، لأن الاستفهام في من للإنكار‏.‏ ‏{‏قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحياة الدنيا‏}‏ بالأصالة والكفرة وإن شاركوهم فيها فتبع‏.‏ ‏{‏خَالِصَةً يَوْمَ القيامة‏}‏ لا يشاركهم فيها غيرهم، وانتصابها على الحال‏.‏ وقرأ نافع بالرفع على أنها خبر بعد خبر‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ نُفَصِلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي كتفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر الأحكام لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الفواحش‏}‏ ما تزايد قبحه، وقيل ما يتعلق بالفروج‏.‏ ‏{‏مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ‏}‏ جهرها وسرها‏.‏ ‏{‏والإثم‏}‏ وما يوجب الإثم تعميم بعد تخصيص، وقيل شرب الخمر‏.‏ ‏{‏والبغى‏}‏ الظلم، أو الكبر أفرده بالذكر للمبالغة‏.‏ ‏{‏بِغَيْرِ الحق‏}‏ متعلق بالبغي مؤكد له معنى‏.‏ ‏{‏وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا‏}‏ تهكم بالمشركين، وتنبيه على تحريم اتباع ما لم يدل عليه برهان‏.‏ ‏{‏وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ بالإِلحاد في صفاته سبحانه وتعالى، والافتراء عليه كقولهم ‏{‏الله أَمَرَنَا بِهَا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 40‏]‏

‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏34‏)‏ يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏35‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏36‏)‏ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ‏(‏37‏)‏ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏38‏)‏ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ‏}‏ مدة، أو وقت نزول العذاب بهم وهو وعيد لأهل مكة‏.‏ ‏{‏فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ‏}‏ انقرضت مدتهم، أو حان وقتهم‏.‏ ‏{‏لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ أي لا يتأخرون ولا يتقدمون أقصر وقت، أو لا يطلبون التأخر والتقدم لشدة الهول‏.‏

‏{‏يابنى آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي‏}‏ شرط ذكره بحرف الشك للتنبيه على أن إتيان الرسل أمر جائز غير واجب كما ظنه أهل التعليم، وضمت إليها ما لتأكيد معنى الشرط ولذلك أكد فعلها بالنون وجوابه‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا واستكبروا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ والمعنى فمن اتقى التكذيب وأصلح عمله منكم والذين كذبوا بآياتنا منكم، وإدخال الفاء في الخبر الأول دون الثاني للمبالغة في الوعد والمسامحة في الوعيد‏.‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بئاياته‏}‏ ممن تقول على الله ما لم يقله أو كذب ما قاله‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الكتاب‏}‏ مما كتب لهم من الأرزاق والآجال‏.‏ وقيل الكتاب اللوح المحفوظ أي مما أثبت لهم فيه‏.‏ ‏{‏حتى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ‏}‏ أي يتوفون أرواحهم، وهو حال من الرسل وحتى غاية لنيلهم وهي التي يبتدأ بعدها الكلام‏.‏ ‏{‏قَالُواْ‏}‏ جواب إذا ‏{‏أَيْنَمَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها، وما وصلت بأين في خط المصحف وحقها الفصل لأنها موصولة‏.‏ ‏{‏قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا‏}‏ غابوا عنا‏.‏ ‏{‏وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كافرين‏}‏ اعترفوا بأنهم كانوا ضالين فيما كانوا عليه‏.‏

‏{‏قَالَ ادخلوا‏}‏ أي قال الله تعالى لهم يوم القيامة، أو أحد من الملائكة‏.‏ ‏{‏فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم‏}‏ أي كائنين في جملة أمم مصاحبين لهم يوم القيامة‏.‏ ‏{‏مّنَ الجن والإنس‏}‏ يعني كفار الأمم الماضية عن النوعين‏.‏ ‏{‏فِى النار‏}‏ متعلق بادخلوا‏.‏ ‏{‏كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ‏}‏ أي في النار‏.‏ ‏{‏لَّعَنَتْ أُخْتَهَا‏}‏ التي ضلت بالاقتداء بها‏.‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعًا‏}‏ أي تداركوا وتلاحقوا واجتمعوا في النار‏.‏ ‏{‏قَالَتْ أُخْرَاهُمْ‏}‏ دخولاً أو منزلة وهم الأتباع‏.‏ ‏{‏لأولاهم‏}‏ أي لأجل أولاهم إذا الخطاب مع الله لا معهم‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا‏}‏ سنوا لنا الضلال فاقتدينا بهم ‏{‏فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ‏}‏ مضاعفاً لأنهم ضلوا وأضلوا‏.‏ ‏{‏قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ‏}‏ أما القادة فبكفرهم وتضليلهم، وأما الأتباع فبكفرهم وتقليدهم‏.‏ ‏{‏ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ‏}‏ ما لكم أو ما لكل فريق‏.‏ وقرأ عاصم بالياء على الانفصال‏.‏

‏{‏وَقَالَتْ أولاهم لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ‏}‏ عطفوا كلامهم على جواب الله سبحانه وتعالى ‏{‏لاِخْرَاهُمْ‏}‏ ورتبوه عليه أي فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا وإنا وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب‏.‏

‏{‏فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ‏}‏ من قول القادة أو من قول الفريقين‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا واستكبروا عَنْهَا‏}‏ أي عن الإِيمان بها‏.‏ ‏{‏لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أبواب السماء‏}‏ لأدعيتهم وأعمالهم، أو لأرواحهم كما تفتح لأعمال المؤمنين وأرواحهم لتتصل بالملائكة‏.‏ والتاء في تفتح للتأنيث الأبواب والتشديد لكثرتها، وقرأ أبو عمرو بالتخفيف وحمزة والكسائي به وبالياء، لأن التأنيث غير حقيقي والفعل مقدم‏.‏ وقرئ على البناء للفاعل ونصب الأبواب بالتاء على أن الفعل للآيات وبالياء لأن الفعل لله‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط‏}‏ أي حتى يدخل ما هو مثل في عظم الجرم وهو البعير فيما هو مثل في ضيق المسلك وهو ثقبة الإِبرة، وذلك مما لا يكون فكذا ما يتوقف عليه‏.‏ وقرئ ‏{‏الجمل‏}‏ كالقمل، والجمل كالنغر، والجمل كالقفل، والجمل كالنصب، و‏{‏الجمل‏}‏ كالحبل وهو الحبل الغليظ من القنب، وقيل حبل السفينة‏.‏ وسم بالضم والكسر وفي سم المخيط وهو والخياط ما يخاط به كالحزام والمحزم‏.‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ ومثل ذلك الجزاء الفظيع‏.‏ ‏{‏نَجْزِى المجرمين‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ‏}‏ فراش‏.‏ ‏{‏وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ‏}‏ أغطية، والتنوين فيه للبدل عن الاعلال عند سيبويه، وللصرف عند غيره، وقرئ ‏{‏غَوَاشٍ‏}‏ على إلغاء المحذوف‏.‏ ‏{‏وكذلك نَجْزِى الظالمين‏}‏ عبر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى إشعاراً بأنهم بتكذيبهم الآيات اتصفوا بهذه الأوصاف الذميمة، وذكر الجرم مع الحرمان من الجنة والظلم مع التعذيب بالنار تنبيهاً على أنه أعظم الإِجرام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ على عادته سبحانه وتعالى في أن يشفع الوعيد بالوعد، ولا نكلف نفساً إلا وسعها اعتراض بين المبتدأ وخبره للترغيب في اكتساب النعيم المقيم بما تسعه طاقتهم ويسهل عليهم‏.‏ وقرئ لا تكلف نفس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ‏}‏ أي نخرج من قلوبهم أسباب الغل، أو نطهرها منه حتى لا يكون بينهم إلا التواد‏.‏ وعن علي كرم الله وجهه‏:‏ إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم‏.‏ ‏{‏تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار‏}‏ زيادة في لذتهم وسرورهم‏.‏ ‏{‏وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا‏}‏ لما جزاؤه هذا‏.‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله‏}‏ لولا هداية الله وتوفيقه، واللام لتوكيد النفي وجواب لولا محذوف دل عليه ما قبله‏.‏ وقرأ ابن عامر «ما كنا» بغير واو على أنها مبينة للأولى‏.‏ ‏{‏لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق‏}‏ فاهتدينا بإرشادهم‏.‏ يقولون ذلك اغتباطاً وتبجحاً بأن ما علموه يقيناً في الدنيا صار لهم عين اليقين في الآخرة‏.‏ ‏{‏وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الجنة‏}‏ إذا رأوها من بعيد، أو بعد دخولها والمنادى له بالذات‏.‏ ‏{‏أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ أي أعطيتموها بسبب أعمالكم، وهو حال من الجنة والعامل فيها معنى الإِشارة، أو خبر والجنة صفة تلكم وأن في المواقع الخمسة هي المخففة أو المفسرة لأن المناداة والتأذين من القول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 50‏]‏

‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏44‏)‏ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ ‏(‏45‏)‏ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ‏(‏46‏)‏ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏47‏)‏ وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏48‏)‏ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ‏(‏49‏)‏ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا‏}‏ إنما قالوه تبجحاً بحالهم وشماتة بأصحاب النار وتحسيراً لهم، وإنما لم يقل ما وعدكم كما قال ‏{‏مَّا وَعَدَنَا‏}‏ لأن ما ساءهم من الموعود لم يكن بأسره مخصوصاً وعده بهم، كالبعث والحساب ونعيم أهل الجنة‏.‏ ‏{‏قَالُواْ نَعَمْ‏}‏ وقرأ الكسائي بكسر العين وهما لغتان‏.‏ ‏{‏فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ‏}‏ قيل هو صاحب الصور‏.‏ ‏{‏بَيْنَهُمْ‏}‏ بين الفريقين‏.‏ ‏{‏أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين‏}‏ وقرأ ابن كثير في رواية للبزي وابن عامر وحمزة والكسائي ‏{‏أَن لَّعْنَةُ الله‏}‏ بالتشديد والنصب‏.‏ قرئ ‏{‏إِن‏}‏ بالكسر على إرادة القول أو إجراء أذن مجرى قال‏.‏

‏{‏الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ صفة للظالمين مقررة، أو ذم مرفوع أو منصوب‏.‏ ‏{‏وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا‏}‏ زيغاً وميلاً عما هو عليه، والعوج بالكسر في المعاني والأعيان ما لم تكن منتصبة، وبالفتح ما كان في المنتصبة، كان في المنتصبة كالحائط والرمح‏.‏ ‏{‏وَهُم بالأخرة كافرون‏}‏‏.‏

‏{‏وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ‏}‏ أي بين الفريقين لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ‏}‏ أو بين الجنة والنار ليمنع وصول أثر إحداها إلى الأخرى‏.‏ ‏{‏وَعَلَى الأعراف‏}‏ وعلى أعراف الحجاب أي أعاليه، وهو السور المضروب بينهما جمع عرف مستعار من عرف الفرس وقيل العرف ما ارتفع من الشيء فإنه يكون لظهوره أعرف من غيره‏.‏ ‏{‏رِجَالٌ‏}‏ طائفة من الموحدين قصروا في العمل فيحبسون بين الجنة والنار حتى يقضي الله سبحانه وتعالى فيهم ما يشاء وقيل قوم علت درجاتهم كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو الشهداء رضي الله تعالى عنهم، أو خيار المؤمنين وعلمائهم، أو ملائكة يرون في صورة الرجال‏.‏ ‏{‏يَعْرِفُونَ كُلاًّ‏}‏ من أهل الجنة والنار‏.‏ ‏{‏بسيماهم‏}‏ بعلامتهم التي أعلمهم الله بها كبياض الوجه وسواده، فعل من سام إبله إذا أرسلها في المرعى معلمة، أو من وسم على القلب كالجاه من الوجه، وإنما يعرفون ذلك بالإلهام أو تعليم الملائكة‏.‏ ‏{‏وَنَادَوْاْ أصحاب الجنة أَن سلام عَلَيْكُمْ‏}‏ أي إذا نظروا إليهم سلموا عليهم‏.‏ ‏{‏لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يُطْعِمُونِ‏}‏ حال من الواو على الوجه الأول ومن أصحاب على الوجوه الباقية‏.‏

‏{‏وَإِذَا صُرِفَتْ أبصارهم تِلْقَاء أصحاب النار قَالُواْ‏}‏ نعوذ بالله‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين‏}‏ أي في النار‏.‏

‏{‏ونادى أصحاب الأعراف رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بسيماهم‏}‏ من رؤساء الكفرة‏.‏ ‏{‏قَالُواْ مَا أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ‏}‏ كثرتكم أو جمعكم المال‏.‏ ‏{‏وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ عن الحق، أو على الخلق‏.‏ وقرئ «تستكثرون» من الكثرة‏.‏

‏{‏أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ‏}‏ من تتمة قولهم للرجال، والإِشارة إلى ضعفاء أهل الجنة الذين كانت الكفرة يحتقرونهم في الدنيا ويحلفون أن الله لا يدخلهم الجنة ‏{‏ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ‏}‏ أي فالتفتوا إلى أصحاب الجنة وقالوا لهم ادخلوا وهو أوفق للوجوه الأخيرة، أو فقيل لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة بفضل الله سبحانه وتعالى بعد أن حبسوا حتى أبصروا الفريقين وعرفوهم وقالوا لهم ما قالوا‏.‏

قيل لما عيروا أصحاب النار أقسموا أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة فقال الله سبحانه وتعالى أو بعض الملائكة هؤلاء الذين أقسمتم‏.‏ وقرئ ‏{‏أَدْخِلُواْ‏}‏ و«دخلوا» على الاستئناف وتقديره دخلوا الجنة مقولاً لهم ‏{‏لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ‏}‏‏.‏

‏{‏ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الماء‏}‏ أي صبوه، وهو دليل على أن الجنة فوق النار‏.‏ ‏{‏أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله‏}‏ من سائر الأشربة ليلائم الإِفاضة، أو من الطعام كقوله‏:‏ علفتها تبناً وماء بارداً‏.‏ ‏{‏قَالُواْ إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين‏}‏ منعهما عنهم منع المحرم من المكلف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا‏}‏ كتحريم البحيرة والتصدية والمكاء حول البيت واللهو صرف الهم بما لا يحسن أن يصرف به، واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به‏.‏ ‏{‏وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم ننساهم‏}‏ نفعل بهم فعل الناسين فنتركهم في النار‏.‏ ‏{‏كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هذا‏}‏ فلم يخطروه ببالهم ولم يستعدوا له‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانُواْ بئاياتنا يَجْحَدُونَ‏}‏ وكما كانوا منكرين أنها من عند الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ جئناهم بكتاب فصلناه‏}‏ بينا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ مفصلة‏.‏ ‏{‏على عِلْمٍ‏}‏ عالمين بوجه تفصيله حتى جاء حكيماً، وفِيه دليل على أنه سبحانه وتعالى عالم بعلم، أو مشتملاً على علم فيكون حالاً من المفعول‏.‏ وقرئ «فضلناه» أي على سائر الكتب عالمين بأنه حقيق بذلك‏.‏ ‏{‏هُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ حال من الهاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏ ينتظرون‏.‏ ‏{‏إِلاَّ تَأْوِيلَهُ‏}‏ إلا ما يؤول إليه أمره من تبين صدقه بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد‏.‏ ‏{‏يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ‏}‏ تركوه ترك الناسي‏.‏ ‏{‏قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق‏}‏ أي قد تبين أنهم جاؤوا بالحق‏.‏ ‏{‏فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا‏}‏ اليوم‏.‏ ‏{‏أَوْ نُرَدُّ‏}‏ أو هل نرد إلى الدنيا‏.‏ وقرئ بالنصب عطفاً على ‏{‏فَيَشْفَعُواْ‏}‏، أو لأن ‏{‏أَوْ‏}‏ بمعنى إلى أن، فعلى الأول المسؤول أحد الأمرين الشفاعة أو ردهم إلى الدنيا، وعلى الثاني أن يكون لهم شفعاء إما لأحد الأمرين أو لأمر واحد وهو الرد‏.‏ ‏{‏فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ‏}‏ جوابِ الاستفهام الثاني وقرئ بالرفع أي فنحن نعمل‏.‏ ‏{‏قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ بصرف أعمارهم في الكفر‏.‏ ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ بطل عنهم فلم ينفعهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ‏}‏ أي في ستة أوقات كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ‏}‏ أو في مقدار ستة أيام، فإن المتعارف باليوم زمان طلوع الشمس إلى غروبها ولم يكن حينئذ، وفي خلق الأشياء مدرجاً مع القدرة على إيجادها دفعة دليل للاختيار واعتبار للنظار وحث على التأني في الأمور‏.‏ ‏{‏ثُمَّ استوى عَلَى العرش‏}‏ استوى أمره أو استولى، وعن أصحابنا أن الاستواء على العرش صفة لله بلا كيف، والمعنى‏:‏ أن له تعالى استواء على العرش على الوجه الذي عناه منزهاً عن الاستقرار والتمكن والعرش الجسم المحيط بسائر الأجسام سمي به لارتفاعه، أو للتشبيه بسرير الملك فإن الأمور والتدابير تنزل منه وقيل الملك‏.‏ ‏{‏يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَار‏}‏ يغطيه به ولم يذكر عكسه للعلم به، أو لأن اللفظ يحتملهما ولذلك قرئ ‏{‏يغشي الليل النهار‏}‏ بنصب ‏{‏اليل‏}‏ ورفع ‏{‏النهار‏}‏‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر عن عاصم بالتشديد فيه وفي «الرعد» للدلالة على التكرير‏.‏ ‏{‏يَطْلُبُهُ حَثِيثًا‏}‏ يعقبه سريعاً كالطالب له لا يفصل بينهما شيء، والحثيث فعيل من الحث وهو صفة مصدر محذوف أو حال من الفاعل بمعنى حاثاً، أو المفعول بمعنى محثوثاً‏.‏ ‏{‏والشمس والقمر والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ‏}‏ بقضائه وتصريفه ونصبها بالعطف على السموات ونصب مسخرات على الحال‏.‏ وقرأ ابن عامر كلها بالرفع على الابتداء والخبر‏.‏ ‏{‏أَلاَ لَهُ الخلق والأمر‏}‏ فإنه الموجد والمتصرف‏.‏ ‏{‏تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين‏}‏ تعالى بالوحدانية في الألوهية وتعظم بالتفرد في الربوبية‏.‏ وتحقيق الآية، والله سبحانه وتعالى أعلم، أن الكفرة كانوا متخذين أرباباً فبين لهم أن المستحق للربوبية واحد وهو الله سبحانه وتعالى، لأنه الذي له الخلق والأمر فإنه سبحانه وتعالى خلق العالم على ترتيب قويم وتدبير حكيم فأبدع الأفلاك ثم زينها بالكواكب كما أشار إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات فِى يَوْمَيْنِ‏}‏ وعمد إلى إيجاد الأجرام السفلية فخلق جسماً قابلاً للصور المتبدلة والهيئات المختلفة، ثم قسمها بصور نوعية متضادة الآثار والأفعال وأشار إليه بقوله وخلق الأرض أي ما في جهة السفل في يومين، ثم أنشأ أنواع المواليد الثلاثة بتركيب موادها أولاً وتصويرها ثانياً كما قال تعالى بعد قوله‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الأرض فِى يَوْمَيْنِ‏}‏ ‏{‏وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وبارك فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ‏}‏ أي مع اليومين الأولين لقوله تعالى في سورة السجدة ‏{‏الله الذي خَلَقَ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ‏}‏ ثم لما تم له عالم الملك عمد إلى تدبيره كالملك الجالس على عرشه لتدبير المملكة، فدبر الأمر من السماء إلى الأرض بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب وتكوير الليالي والأيام، ثم صرح بما هو فذلكة التقرير ونتيجته فقال‏:‏ ‏{‏أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين‏}‏ ثم أمرهم بأن يدعوه متذللين مخلصين فقال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً‏}‏ أي ذوي تضرع وخفية فإن الإخفاء دليل الإخلاص‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين‏}‏ المجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره، نبه به على أن الداعي ينبغي أن لا يطلب ما لا يليق به كرتبة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والصعود إلى السماء‏.‏ وقيل هو الصياح في الدعاء والاسهاب فيه‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم، «سيكون قوم يعتدون في الدعاء، وحسب المرء أن يقول‏:‏ اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين‏}‏»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 60‏]‏

‏{‏وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏56‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏57‏)‏ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ‏(‏58‏)‏ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏59‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض‏}‏ بالكفر والمعاصي‏.‏ ‏{‏بَعْدَ إصلاحها‏}‏ ببعث الأنبياء وشرع الأحكام‏.‏ ‏{‏وادعوه خَوْفًا وَطَمَعًا‏}‏ ذوي خوف من الرد لقصور أَعمالكم وعدم استحقاقكم، وطمع في إجابته تفضلاً وإحساناً لفرط رحمته ‏{‏إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مّنَ المحسنين‏}‏ ترجيح للطمع وتنبيه على ما يتوسل به للإِجابة، وتذكير قريب لأن الرحمة بمعنى الرحم، أو لأنه صفة محذوف أي أمر قريب، أو على تشبيهه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول، أو الذي هو مصدر كالنقيض، أو الفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره‏.‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ‏}‏ وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «الريح» على الوحدة‏.‏ ‏{‏نُشْراً‏}‏ جمع نشور بمعنى ناشر، وقرأ ابن عامر «نشراً» بالتخفيف حيث وقع وحمزة والكسائي «نشراً» بفتح النون حيث وقع على أنه مصدر في موقع الحال بمعنى ناشرات، أو مفعول مطلق فإن الإِرسال والنشر متقاربان‏.‏ وعاصم ‏{‏بشراً‏}‏ وهو تخفيف بشر جمع بشير وقد قرئ به و‏{‏بشراً‏}‏ بفتح الباء مصدر بشره بمعنى باشرات، أو للبشارة وبشرى‏.‏ ‏{‏بَيْنَ يَدَي رَحْمَتِهِ‏}‏ قدام رحمته، يعني المطر فإن الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه‏.‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ‏}‏ أي حملت، واشتقاقه من القلة فإن المقل للشيء يستقله‏.‏ ‏{‏سَحَاباً ثِقَالاً‏}‏ بالماء جمعه لأن السحاب جمع بمعنى السحائب‏.‏ ‏{‏سُقْنَاهُ‏}‏ أي السحاب وإفراد الضمير باعتبار اللفظ‏.‏ ‏{‏لِبَلَدٍ مَيِّتٍ‏}‏ لأجله أو لإحيائه أو لسقيه‏.‏ وقرئ ‏{‏ميت‏}‏‏.‏ ‏{‏فَأَنْزَلْنَا بِهِ الماءُ‏}‏ بالبلد أو بالسحاب أو بالسوق أو بالريح وكذلك‏.‏ ‏{‏فَأَخْرَجْنَا بِهِ‏}‏ ويحتمل فيه عود الضمير إلى ‏{‏الماء‏}‏، وإذا كان ل ‏{‏لبلد‏}‏ فالباء للإلصاق في الأول وللظرفية في الثاني، وإذا كان لغيره فهي للسببية فيهما‏.‏ ‏{‏مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏}‏ من كل أنواعها‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى‏}‏ الإشارة فيه إلى إخراج الثمرات، أو إلى إحياء البلد الميت أي كما نحييه بإحداث القوة النامية فيه وتطريتها بأنواع النبات والثمرات، نخرج الموتى من الأجداث ونحييها برد النفوس إلى مواد أبدانها بعد جمعها وتطريتها بالقوى والحواس‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ فتعلمون أن من قدر على ذلك قدر على هذا‏.‏

‏{‏وَالبَلَدُ الطَّيِّبُ‏}‏ الأرض الكريمة التربة‏.‏ ‏{‏يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ‏}‏ بمشيئته وتيسيره، عبر به عن كثرة النبات وحسنه وغزارة نفعه لأنه أوقعه في مقابلة‏.‏ ‏{‏وَالَّذِي خَبُثَ‏}‏ أي كالحرة والسبخة‏.‏ ‏{‏لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً‏}‏ قليلاً عديم النفع، ونصبه على الحال وتقدير الكلام، والبلد الذي خبث لا يخرج نباته إلا نكداً فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فصار مرفوعاً مستتراً وقرئ ‏{‏يخرج‏}‏ أي يخرجه البلد فيكون ‏{‏إلا نكداً‏}‏ مفعولاً و‏{‏نكداً‏}‏ على المصدر أي ذا نكد و‏{‏نكداً‏}‏ بالإِسكان للتخفيف‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ‏}‏ نرددها ونكررها‏.‏ ‏{‏لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ‏}‏ نعمة الله فيتفكرون فيها ويعتبرون بها، والآية مثل لمن تدبر الآيات وانتفع بها، ولمن لم يرفع إليها رأساً ولم يتأثر بها‏.‏

‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ‏}‏ جواب قسم محذوف، ولا تكاد تطلق هذه اللام إلا مع قد لأنها مظنة التوقع، فإن المخاطب إذا سمعها توقع وقوع ما صدر بها‏.‏ ونوح بن لمك بن متوشلح بن إدريس أول نبي بعده، بعث وهو ابن خمسين سنة أو أربعين‏.‏ ‏{‏فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله‏}‏ أي اعبدوه وحده لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ‏}‏ وقرأ الكسائي غيره بالكسر نعتاً أو بدلاً على اللفظ حيث وقع إذا كان قبل إله من التي تخفض‏.‏ وقرئ بالنصب على الاستثناء‏.‏ ‏{‏إني أخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ إن لم تؤمنوا، وهو وعيد وبيان للداعي إلى عبادته‏.‏ واليوم يوم القيامة، أو يوم نزول الطوفان‏.‏

‏{‏قَالَ الملأُ مِنْ قَوْمِهِ‏}‏ أي الأَشراف فإنهم يملؤون العيون رواء‏.‏ ‏{‏إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلاَلٍ‏}‏ زوال عن الحق‏.‏ ‏{‏مُبِينٍ‏}‏ بين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمٍ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ‏}‏ أي شيء من الضلال، بالغ في النفي كما بالغوا في الإِثبات وعرض لهم به‏.‏ ‏{‏وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ‏}‏ استدراك باعتبار ما يلزمه، وهو كونه على هدى كأنه قال‏:‏ ولكني على هدى في الغاية لأني رسول من الله سبحانه وتعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏أَبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعَلَم مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ صفات لرسول أو استئناف، ومساقها على الوجهين لبيان كونه رسولاً‏.‏ وقرأ أبو عمرو ‏{‏أبلغكم‏}‏ بالتخفيف وجمع الرسالات لاختلاف أوقاتها أو لتنوع معانيها كالعقائد والمواعظ والأحكام، أو لأن المراد بها ما أوحي إليه وإلى الأنبياء قبله، كصحف شيث وإدريس وزيادة اللام في لكم للدلالة على إمحاض النصح لهم، وفي أعلم من الله تقريراً لما أوعدهم به فإن معناه أعلم من قدرته وشدة بطشه، أو من جهته بالوحي أشياء لا علم لكم بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَ عَجِبْتُمْ‏}‏ الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف أي أكذبتم وعجبتم‏.‏ ‏{‏أَنْ جَاءَكُمْ‏}‏ من أن جاءكم‏.‏ ‏{‏ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ رسالة أو موعظة‏.‏ ‏{‏عَلَى رَجُلٍ‏}‏ على لسان رجل‏.‏ ‏{‏مِنْكُمْ‏}‏ من جملتكم أو من جنسكم، فإنهم كانوا يتعجبون من إرسال البشر ويقولون ‏{‏لو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آباءنا الأولين‏}‏‏.‏ ‏{‏لِيُنْذِرَكُمْ‏}‏ عاقبة الكفر والمعاصي‏.‏ ‏{‏وَلِتَتْقُوا‏}‏ منهما بسبب الإنذار‏.‏ ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ بالتقوى، وفائدة حرف الترجي التنبيه على أن التقوى غير موجب والترحم من الله سبحانه وتعالى تفضل، وأن المتقي ينبغي أن لا يعتمد على تقواه ولا يأمن من عذاب الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ‏}‏ وهم من آمن به وكانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة‏.‏ وقيل تسعة بنوه سام وحام ويافث وستة ممن آمن به‏.‏ ‏{‏فِي الفُلْكِ‏}‏ متعلق بمعه أو بأنجيناه، أو حال من الموصول أو من الضمير في معه‏.‏ ‏{‏وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا‏}‏ بالطوفان‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ‏}‏ عمي القلوب غير مستبصرين، وأصله عميين فخفف وقرئ «عامين» والأول أبلغ لدلالته على الثبات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ‏}‏ عطف على نوحاً إلى قومه‏.‏ ‏{‏هُوداً‏}‏ عطف بيان لأخاهم والمراد به الواحد منهم، كقولهم يا أخا العرب للواحد منهم، فإنه هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح‏.‏ وقيل‏:‏ هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وقيل هود بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح، ابن عم أبي عاد، وإنما جعل منهم لأنهم أفهم لقوله وأعرف بحاله وأرغب في اقتفائه‏.‏ ‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏}‏ استأنف به ولم يعطف كأنه جواب سائل قال‏:‏ فما قال لهم حين أرسل‏؟‏ وكذلك جوابهم‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ عذاب الله، وكأن قومه كانوا أقرب من قوم نوح عليه الصلاة والسلام ولذلك قال أفلا تتقون ‏{‏قَال المَلأَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ‏}‏ إذ كان من أشرافهم من آمن به كمرثد بن سعد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 73‏]‏

‏{‏قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏66‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏67‏)‏ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ‏(‏68‏)‏ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏70‏)‏ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏71‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏72‏)‏ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ‏}‏ متمكناً في خفة عقل راسخاً فيها حيث فارقت دين قومك‏.‏ ‏{‏وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بي سَفَاهَة وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ‏}‏‏.‏

‏{‏أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِركُمْ‏}‏ سبق تفسيره‏.‏ وفي إجابة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الكفرة عن كلماتهم الحمقاء بما أجابوا والإِعراض عن مقابلتهم كمال النصح والشفقة وهضم النفس وحسن المجادلة، وهكذا ينبغي لكل ناصح، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وأنا لكم ناصح أمين‏}‏ تنبيه على أنهم عرفوه بالأمرين‏.‏ وقرأ أبو عمرو ‏{‏أبلغكم‏}‏ في الموضعين في هذه السورة وفي «الأحقاف» مخففاً‏.‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ‏}‏ أي في مساكنهم، أو في الأرض بأن جعلكم ملوكاً فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض من رمل عالج إلى شجر عمان‏.‏ خوفهم من عقاب الله ثم ذكرهم بإنعامه‏.‏ ‏{‏وَزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَسْطَةً‏}‏ قامة وقوة‏.‏ ‏{‏فَاذْكُروا آلاءَ اللَّهِ‏}‏ تعميم بعد تخصيص‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ لكي يفضي بكم ذكر النعم إلى شكرها المؤدي إلى الفلاح‏.‏

‏{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ وَنَذَر مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا‏}‏ استبعدوا اختصاص الله بالعبادة والأعراض عما أشرك به آباؤهم انهماكاً في التقليد وحباً لما ألفوه، ومعنى المجيء في ‏{‏أجئتنا‏}‏ إما المجيء من مكان اعتزل به عن قومه أو من السماء على التهكم، أو القصد على المجاز كقولهم ذهب يسبني‏.‏ ‏{‏فَائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا‏}‏ من العذاب المدلول عليه بقوله ‏{‏أفلا تتقون‏}‏‏.‏ ‏{‏إنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقينَ‏}‏ فيه‏.‏

‏{‏قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ‏}‏ قد وجب وحق عليكم، أو نزل عليكم على أن المتوقع كالواقع‏.‏ ‏{‏مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ‏}‏ عذاب من الارتجاس وهو الاضطراب‏.‏ ‏{‏وَغَضَبٌ‏}‏ إرادة انتقام‏.‏ ‏{‏أَتُجَادِلُونَني فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ الله بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ‏}‏ أي في أشياء سميتموها آلهة وليس فيها معنى الإِلهية، لأن المستحق للعبادة بالذات هو الموجد للكل، وأنها لو استحقت كان استحقاقها بجعله تعالى إما بإنزال آية أو بنصب حجة، بين أن منتهى حجتهم وسندهم أن الأصنام تسمى آلهة من غير دليل يدل على تحقق المسمى، وإسناد الاطلاق إلى من لا يؤبه بقوله إظهاراً لغاية جهالتهم وفرط غباوتهم، واستدل به على أن الاسم هو المسمى وأن اللغات توقيفية إذ لو لم يكن كذلك لم يتوجه الذم والإِبطال بأنها أسماء مخترعة لم ينزل الله بها سلطاناً وضعفهما ظاهر‏.‏ ‏{‏فَانْتَظِرُوا‏}‏ لما وضح الحق وأنتم مصرون على العناد نزول العذاب بكم‏.‏ ‏{‏إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ المُنْتَظِرِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏فَأَنّجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ‏}‏ في الدين‏.‏ ‏{‏بِرَحْمَةٍ مِنَّا‏}‏ عليهم‏.‏ ‏{‏وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بَآيَاتِنَا‏}‏ أي استأصلناهم‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانُوا مُؤْمِنينَ‏}‏ تعريض بمن آمن منهم، وتنبيه على أن الفارق بين من نجا وبين من هلك هو الإِيمان‏.‏

روي أنهم كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم هوداً فكذبوه، وازدادوا عتواً فأمسك الله القطر عنهم ثلاث سنين حتى جهدهم، وكان الناس حينئذ مسلمهم ومشركهم إذا نزل بهم بلاء توجهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من الله الفرج، فجهزوا إليه قيل بن عثر ومرثد بن سعد في سبعين من أعيانهم، وكان إذ ذاك بمكة العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام وسيدهم معاوية بن بكر، فلما قدموا عليه وهو بظاهر مكة أنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وأصهاره، فلبثوا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان له، فلما رأى ذهولهم باللهو عما بعثوا له أهمه ذلك واستحيا أن يكلمهم فيه مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم فعلم القينتين‏:‏

أَلاَ يَا قِيلُ وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنِم *** لَعَلَّ الله يُسْقِينَا الغَمَامَا

فَيُسْقِي أَرْضَ عَادٍ إن عَادا *** قَد امْسوا مَا يُبينُونَ الكَلاَما

حتى غنتا به، فأزعجهم ذلك فقال مرثد‏:‏ والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله سبحانه وتعالى سقيتم، فقالوا لمعاوية‏:‏ احبسه عنا لا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا، ثم دخلوا مكة فقال قيل‏:‏ اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيهم، فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه مناد من السماء يا قيل‏:‏ اختر لنفسك ولقومك‏.‏ فقال اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء، فخرجت على عاد من وادي المغيث فاستبشروا بها وقالوا‏:‏ ‏{‏هذا عارض ممطرنا‏}‏ فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه، فأتوا مكة وعبدوا الله سبحانه وتعالى فيها حتى ماتوا‏.‏

‏{‏وَإِلَى ثَمودَ‏}‏ قبيلة أخرى من العرب سموا باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح‏.‏ وقيل سموا به لقلة مائهم من الثمد وهو الماء القليل‏.‏ وقرئ مصروفاً بتأويل الحي أو باعتبار الأصل، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى‏.‏ ‏{‏أَخَاهُمْ صَالِحاً‏}‏ صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود‏.‏ ‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ معجزة ظاهرة الدلالة على صحة نبوتي وقوله‏:‏ ‏{‏هذِهِ نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً‏}‏ استئناف لبيانها، وآية نصب على الحال والعامل فيها معنى الإشارة، ولكم بيان لمن هي له آية، ويجوز أن تكون ‏{‏ناقة الله‏}‏ بدلاً أو عطف بيان ولكم خبراً عاملاً في ‏{‏آية‏}‏، وإضافة الناقة إلى الله لتعظيمها ولأنها جاءت من عنده بلا وسائط وأسباب معهودة ولذلك كانت آية‏.‏ ‏{‏فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ الله‏}‏ العشب‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ‏}‏ نهى عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالسوء الجامع لأنواع الأذى مبالغة في الأمر وإزاحة للعذر‏.‏ ‏{‏فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ جواب للنهي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏وَاذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ في الأَرْضِ‏}‏ أرض الحجر‏.‏ ‏{‏تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصوراً‏}‏ أي تبنون في سهولها، أو من سهولة الأرض بما تعملون منها كاللبن والآجر‏.‏ ‏{‏وَتَنْحِتْونَ الجِبَالَ بُيُوتاً‏}‏ وقرئ ‏{‏تنحتون‏}‏ بالفتح وتنحاتون بالإِشباع، وانتصاب ‏{‏بيوتاً‏}‏ على الحال المقدرة أو المفعول على أن التقدير بيوتاً من الجبال، أو تنحتون بمعنى تتخذون ‏{‏فَاذْكُرُوا آلاءَ الله وَلاَ تَعثَوا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ المَلأَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمهِ‏}‏ أي عن الإِيمان‏.‏ ‏{‏لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا‏}‏ أي للذين استضعفوهم واستذلوهم‏.‏ ‏{‏لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ‏}‏ بدل من الذين استضعفوا بدل الكل إن كان الضمير لقومه وبدل البعض إن كان للذين‏.‏ وقرأ ابن عامر وقال الملأ بالواو‏.‏ ‏{‏أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ‏}‏ قالوه على الاستهزاء‏.‏ ‏{‏قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤمِنُونَ‏}‏ عدلوا به عن الجواب السوي الذي هو نعم تنبيهاً على أن إرساله أظهر من أن يشك فيه عاقل ويخفى على ذوي رأي، وإنما الكلام فيمن آمن به ومن كفر فلذلك قال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ‏}‏ على وجه المقابلة، ووضعوا ‏{‏آمنتم به‏}‏ موضع ‏{‏أرسل به‏}‏ رداً لما جعلوه معلوماً مسلماً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏فَعَقَرُوا النَّاقَةَ‏}‏ فنحروها‏.‏ أسند إلى جميعهم فعل بعضهم للملابسة، أو لأنه كان برضاهم‏.‏ ‏{‏وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ‏}‏ واستكبروا عن امتثاله، وهو ما بلغهم صالح عليه الصلاة والسلام بقوله‏:‏ ‏{‏فذروها‏}‏‏.‏ ‏{‏وَقَالُوا يَا صَالِح ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إنْ كُنْتَ مِنَ المُرْسَلِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَخَذْتْهُمُ الرَّجْفَةُ‏}‏ الزلزلة‏.‏ ‏{‏فَأَصْبِحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمينَ‏}‏ خامدين ميتين‏.‏ روي‏:‏ أنهم بعد عاد عمروا بلادهم وخلفوهم وكثروا، وعمروا أعماراً طوالاً لا تفي بها الأبنية، فنحتوا البيوت من الجبال، وكانوا في خصب وسعة فعتوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم صالحاً من أشرافهم فأنذرهم، فسألوه آية فقال أية آية تريدون قالوا‏:‏ اخرج معنا إلى عيدنا فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فمن استجيب له اتبع، فخرج معهم فدعوا أصنامهم فلم تجبهم، ثم أشار سيدهم جندع بن عمرو إلى صخرة منفردة يقال لها الكاثبة وقال‏:‏ له أخرج من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء إن فعلت صدقناك، فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت ذلك لتؤمنن فقالوا‏:‏ نعم، فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها، فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا وهم ينظرون، ثم نتجت ولداً مثلها في العظم فآمن به جندع في جماعة، ومنع الباقين من الإِيمان ذؤاب بن عمرو والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صغر كاهنهم، فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وترد الماء غباً فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ما فيها، ثم تتفحج فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلئ أوانيهم، فيشربون ويدخرون وكانت تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه، وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره، فشق ذلك عليهم وزينت عقرها لهم عنيزة أم غنم وصدقة بنت المختار، فعقروها واقتسموا لحمها، فرقي سقبها جبلاً اسمه قارة فرغا ثلاثاً فقال صالح لهم ادركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه إذ انفجرت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح‏:‏ تصبح وجوهكم غداً مصفرة وبعد غد محمرة واليوم الثالث مسودة، ثم يصبحكم العذاب، فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه فأنجاه الله إلى أرض فلسطين، ولما كان ضحوة اليوم الرابع تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمٍ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ‏}‏ ظاهره أن توليه عنهم كان بعد أن أبصرهم جاثمين، ولعله خاطبهم به بعد هلاكهم كما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر وقال‏:‏ «إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً»‏.‏ أو ذكر ذلك على سبيل التحسر عليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 86‏]‏

‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏80‏)‏ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ‏(‏81‏)‏ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ‏(‏82‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏83‏)‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏84‏)‏ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏85‏)‏ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏وَلُوطاً‏}‏ أي وأرسلنا لوطاً‏.‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ‏}‏ وقت قوله لهم أو واذكر لوطاً وإذ بدل منه‏.‏ ‏{‏أَتَأَتُونَ الفَاحِشَةَ‏}‏ توبيخ وتقريع على تلك الفعلة المتمادية في القبح‏.‏ ‏{‏مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ العَالَمِينَ‏}‏ ما فعلها قبلكم أحد قط‏.‏ والباء للتعدية ومن الأولى لتأكيد النفي والاستغراق، والثانية للتبعيض‏.‏ والجملة استئناف مقرر للإِنكار كأنه وبخهم أولاً بإتيان الفاحشة ثم باختراعها فإنه أسوأ‏.‏

‏{‏أَنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ‏}‏ بيان لقوله‏:‏ ‏{‏أَتَأتون الفاحشة‏}‏ وهو أبلغ في الإِنكار والتوبيخ، وقرأ نافع وحفص «إنكم» على الإِخبار المستأنف، وشهوة مفعول له أو مصدر في موقع الحال وفي التقييد بها وصفهم بالبهيمية الصرفة، وتنبيه على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النوع، لا قضاء الوطر‏.‏ ‏{‏بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ‏}‏ إضراب عن الإِنكار إلى الإِخبار عن حالهم التي أدت بهم إلى ارتكاب أمثالها وهي اعتياد الإِسراف في كل شيء، أو عن الإِنكار عليها إلى الذم على جميع معايبهم، أو عن محذوف مثل لا عذر لكم فيه بل أنتم قوم عادتكم الإِسراف‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ جَوَابُ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتكُمْ‏}‏ أي ما جاؤوا بما يكون جواباً عن كلامه، ولكنهم قابلوا نصحه بالأمر بإخراجه فيمن معه من المؤمنين من قريتهم والاستهزاء بهم فقالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَّهِرُونَ‏}‏ أي من الفواحش‏.‏

‏{‏فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ‏}‏ أي من آمن به‏.‏ ‏{‏إلاَّ امْرَأتَهُ‏}‏ استثناء من أهله فإنها كانت تسر الكفر‏.‏ ‏{‏كَانَتْ مِنَ الغَابِرِينَ‏}‏ من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا والتذكير لتغليب الذكور‏.‏

‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا‏}‏ أي نوعاً من المطر عجيباً وهو مبين بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ‏}‏ ‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين‏}‏ روي‏:‏ أن لوط بن هاران بن تارح لما هاجر مع عمه إبراهيم عليه السلام إلى الشام نزل بالأردن، فأرسله الله إلى أهل سدوم ليدعوهم إلى الله وينهاهم عما اخترعوه من الفاحشة، فلم ينتهوا عنها فأمطر الله عليهم الحجارة فهلكوا‏.‏ وقيل خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم‏.‏

‏{‏وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً‏}‏ أي وأرسلنا إليهم، وهم أولاد مدين بن إبراهيم خليل الله شعيب بن ميكائيل بن بسجر بن مدين، وكان يقال له خطيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لحسن مراجعته قومه‏.‏ ‏{‏قَالَ يَا قَوْمٌ اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ يريد المعجزة التي كانت له وليس في القرآن أنها ما هي، وما روي من محاربة عصا موسى عليه الصلاة والسلام التنين وولادة الغنم التي دفعها إليه الدرع خاصة وكانت الموعودة له من أولادها، ووقوع عصا آدم على يده في المرات السبع متأخرة عن هذه المقاولة، ويحتمل أن تكون كرامة لموسى عليه السلام أو إرهاصاً لنبوته‏.‏

‏{‏فَأَوْفُواْ الكيل‏}‏ أي آلة الكيل على الإِضمار، أو إطلاق الكيل على المكيال كالعيش على المعاش لقوله‏:‏ ‏{‏والميزان‏}‏ كما قال في سورة «هود» ‏{‏أَوْفُواْ المكيال والميزان‏}‏ أو الكيل ووزن الميزان، ويجوز أن يكون الميزان مصدراً كالميعاد‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ‏}‏ ولا تنقصوهم حقوقهم، وإنما قال أشياءهم للتعميم تنبيهاً على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير‏.‏ وقيل كانوا مكاسين لا يدعون شيئاً إلا مكسوه‏.‏ ‏{‏وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض‏}‏ بالكفر والحيف‏.‏ ‏{‏بَعْدَ إصلاحها‏}‏ بعدما أصلح أمرها أو أهلها الأنبياء وأتباعهم بالشرائع، أو أصلحوا فيها والإِضافة إليها كالإِضافة في ‏{‏بَلْ مَكْرُ اليل والنهار‏}‏‏.‏ ‏{‏ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ إشارة إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه، ومعنى الخيرية إما الزيادة مطلقاً أو في الإِنسانية وحسن الأحدوثة وجمع المال‏.‏

‏{‏وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ‏}‏ بكل طريق من طرق الدين كالشيطان، وصراط الحق وإن كان واحداً لكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام، وكانوا إذا رأوا أحداً يسعى فى شيء منها منعوه‏.‏ وقيل كانوا يجلسون على المراصد فيقولون لمن يريد شعيباً إنه كذاب فلا يفتنك عن دينك ويوعدون لمن آمن به‏.‏ وقيل كانوا يقطعون الطريق‏.‏ ‏{‏وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ يعني الذي قعدوا عليه فوضع الظاهر موضع المضمر بياناً لكل صراط، ودلالة على عظم ما يصدون عنه وتقبيحاً لما كانوا عليه أو الإِيمان بالله‏.‏ ‏{‏مَنْ ءامَنَ بِهِ‏}‏ أي بالله، أو بكل صراط على الأول، ومن مفعول تصدون على إعمال الأقرب ولو كان مفعول توعدون لقال وتصدونهم وتوعدون بما عطف عليه في موقع الحال من الضمير في تقعدوا‏.‏ ‏{‏وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا‏}‏ وتطلبون لسبيل الله عوجاً بإلقاء الشبه، أو وصفها للناس بأنها معوجة‏.‏ ‏{‏واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً‏}‏ عَدَدَكُمْ أو عُدَدَكُمْ‏.‏ ‏{‏فَكَثَّرَكُمْ‏}‏ بالبركة في النسل أو المال‏.‏ ‏{‏وانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين‏}‏ من الأمم قبلكم فاعتبروا بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ ءامَنُواْ بالذى أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فاصبروا‏}‏ فتربصوا‏.‏ ‏{‏حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا‏}‏ أي بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين، فهو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين‏.‏ ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين‏}‏ إذ لا معقب لحكمه ولا حيف فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا‏}‏ أي ليكونن أحد الأمرين إما إخراجكم من القرية أو عودكم في الكفر، وشعيب عليه الصلاة والسلام لم يكن في ملتهم قط لأن الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر مطلقاً، لكن غلبوا الجماعة على الواحد فخوطب هو وقومه بخطابهم، وعلى ذلك أجرى الجواب في قوله‏.‏ ‏{‏قَالَ أُوَلَوْ كُنَّا كارهين‏}‏ أي كيف نعود فيها ونحن كارهون لها، أو أتعيدوننا في حال كراهتنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا‏}‏ قد اختلفنا عليه‏.‏ ‏{‏إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا‏}‏ شرط جوابه محذوف دليله‏:‏ ‏{‏قَدِ افترينا‏}‏ وهو بمعنى المستقبل لأنه لم يقع لكنه جعل كالواقع للمبالغة، وأدخل عليه قد لتقريبه من الحال أي قد افتربنا الآن إن هممنا بالعود بعد الخلاص منها حيث نزعم أن لله تعالى نداً، وأنه قد تبين لنا أن ما كنا عليه باطل وما أنتم عليه حق‏.‏ وقيل إنه جواب قسم وتقديره‏:‏ والله لقد افترينا‏.‏ ‏{‏وَمَا يَكُونُ لَنَا‏}‏ وما يصح لنا‏.‏ ‏{‏أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء الله رَبُّنَا‏}‏ خذلاننا وارتدادنا، وفيه دليل على أن الكفر بمشيئة الله‏.‏ وقيل أراد به حسم طمعهم في العود بالتعليق على ما لا يكون‏.‏ ‏{‏وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا‏}‏ أي أحاط علمه بكل شيء مما كان وما يكون منا ومنكم‏.‏ ‏{‏عَلَى الله تَوَكَّلْنَا‏}‏ في أن يثبتنا على الإِيمان ويخلصنا من الأشرار‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق‏}‏ احكم بيننا وبينهم، والفتاح القاضي، والفتاحة الحكومة‏.‏ أو أظهر أمرنا حتى ينكشف ما بيننا وبينهم ويتميز المحق من المبطل من فتح المشكل إذا بينه‏.‏ ‏{‏وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين‏}‏ على المعنيين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتبعتم شُعَيْبًا‏}‏ وتركتم دينكم‏.‏ ‏{‏إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون‏}‏ لاستبدالكم ضلالته بهداكم، أو لفوات ما يحصل لكم بالبخس والتطفيف وهو ساد مسد جواب الشرط والقسم الموطأ باللام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة‏}‏ الزلزلة وفي سورة «الحجر» ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة‏}‏ ولعلها كانت من مباديها‏.‏ ‏{‏فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين‏}‏ أي في مدينتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا‏}‏ أي استؤصلوا كأن لم يقيموا بها والمغنى المنزل‏.‏ ‏{‏الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الخاسرين‏}‏ ديناً ودنيا لا الذين صدقوه واتبعوه كما زعموا، فإنهم الرابحون في الدارين‏.‏ وللتنبيه على هذا والمبالغة فيه كرر الموصول واستأنف بالجملتين وأتى بهما اسميتين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ‏}‏ قال تأسفاً بهم لشدة حزنه عليهم ثم أنكر على نفسه فقال ‏{‏فكيف آسَى عَلَى قَومٍ كَافِرِينَ‏}‏ ليسوا أهل حزن لاستحقاقهم ما نزل عليهم بكفرهم، أو قاله اعتذاراً عن عدم شدة حزنه عليهم‏.‏ والمعنى لقد بالغت في الإبلاغ والإِنذار وبذلت وسعي في النصح والإِشفاق فلم تصدقوا قولي، فكيف آسى عليكم‏.‏ وقرئ «فكيف أيسي» بإمالتين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأساء والضراء‏}‏ بالبؤس والضر‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ‏}‏ حتى يتضرعوا ويتذللوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة‏}‏ أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والشدة السلامة والسعة ابتلاء لهم بالأمرين‏.‏ ‏{‏حتى عَفَواْ‏}‏ كثروا عَدَداً وعُدَداً يقال عفا النبات إذا كثر ومنه إعفاء اللحى‏.‏ ‏{‏وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضراء والسراء‏}‏ كفراناً لنعمة الله ونسياناً لذكره واعتقاداً بأنه من عادة الدهر يعاقب في الناس بين الضراء والسراء وقد مس آباءنا منه مثل ما مسنا‏.‏ ‏{‏فأخذناهم بَغْتَةً‏}‏ فجأة‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ بنزول العذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى‏}‏ يعني القرى المدلول عليها بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ‏}‏ وقيل مكة وما حولها‏.‏ ‏{‏آمَنُوا وَاتَّقَوا‏}‏ مكان كفرهم وعصيانهم‏.‏ ‏{‏لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والأرض‏}‏ لوسعنا عليهم الخير ويسرناه لهم من كل جانب وقيل المراد المطر والنبات‏.‏ وقرأ ابن عامر «لَفَتَّحْنَّا» بالتشديد‏.‏ ‏{‏ولكن كَذَّبُواْ‏}‏ الرسل‏.‏ ‏{‏فأخذناهم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ من الكفر والمعاصي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏فأخذناهم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ وما بينهما اعتراض والمعنى‏:‏ أبعد ذلك أمن أهل القرى‏.‏ ‏{‏أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بياتا‏}‏ تبييتاً أو وقت بيات أو مبيتاً أو مبيتين، وهو في الأصل مصدر بمعنى البيتوتة ويجيء بمعنى التبييت كالسلام بمعنى التسليم‏.‏ ‏{‏وَهُمْ نَائِمُونَ‏}‏ حال من ضميرهم البارز أو المستتر في بياتاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى‏}‏ وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر أو بالسكون على الترديد‏.‏ ‏{‏أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى‏}‏ ضحوة النهار، وهو في الأصل ضوء الشمس إذا ارتفعت‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَلْعَبُونَ‏}‏ يلهون من فرط الغفلة، أو يشتغلون بما لا ينفعهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 106‏]‏

‏{‏أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏99‏)‏ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏100‏)‏ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ‏(‏101‏)‏ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ‏(‏102‏)‏ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏103‏)‏ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏104‏)‏ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏105‏)‏ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏106‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله‏}‏ تكرير لقوله‏:‏ ‏{‏أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى‏}‏ و‏{‏مَكْرَ الله‏}‏ استعارة لاستدراج العبد وأخذه من حيث لا يحتسب‏.‏ ‏{‏فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون‏}‏ الذين خسروا بالكفر وترك النظر والاعتبار‏.‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا‏}‏ أي يخلفون من خلا قبلهم ويرثون ديارهم، وإنما عدي يهد باللام لأنه بمعنى يبين‏.‏ ‏{‏أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم بِذُنُوبِهِمْ‏}‏ أن الشأن لو نشاء أصبناهم بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم، وهو فاعل يهد ومن قرأه بالنون جعله مفعولاً‏.‏ ‏{‏وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ‏}‏ عطف على ما دل عليه، أو لم يهد أي يغفلون عن الهداية أو منقطع عنه بمعنى ونحن نطبع، ولا يجوز عطفه على أصبناهم على أنه بمعنى وطبعنا لأنه في سياقه جواب لولا فضائه إلى نفي الطبع عنهم ‏{‏فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ سماع تفهم واعتبار‏.‏

‏{‏تِلْكَ القرى‏}‏ يعني قرى الأمم المار ذكرهم‏.‏ ‏{‏نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا‏}‏ حال إن جعل ‏{‏القرى‏}‏ خبراً وتكون إفادته بالتقييد بها، وخبر إن جعلت صفة ويجوز أن يكونا خبرين و‏{‏مِنْ‏}‏ للتبعيض أي نقص بعض أنبائها، ولها أنباء غيرها لا نقصها‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات‏}‏ بالمعجزات‏.‏ ‏{‏فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ‏}‏ عند مجيئهم بها‏.‏ ‏{‏بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ‏}‏ بما كذبوه من قبل الرسل بل كانوا مستمرين على التكذيب، أو فما كانوا ليؤمنوا مدة عمرهم بما كذبوا به أولاً حين جاءتهم الرسل، ولم تؤثر فيهم قط دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة، واللام لتأكيد النفي والدلالة على أنهم ما صلحوا للإِيمان لمنافاته لحالهم في التصميم على الكفر والطبع على قلوبهم‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين‏}‏ فلا تلين شكيمتهم بالآيات والنذر‏.‏ ‏{‏وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم‏}‏ لأكثر الناس، والآية اعتراض أو لأكثر الأمم المذكورين‏.‏ ‏{‏مِّنْ عَهْدٍ‏}‏ من وفاء عهد، فإن أكثرهم نقضوا ما عهد الله إليهم في الإِيمان والتقوى بإنزال الآيات ونصب الحجج، أو ما عاهدوا إليه حين كانوا في ضرر مخافة مثل ‏{‏لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين‏}‏ ‏{‏وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ‏}‏ أي علمناهم‏.‏ ‏{‏لفاسقين‏}‏ من وجدت زيداً إذا لحافظ لدخول أن المخففة واللام الفارقة، وذلك لا يسوغ إلا في المبتدأ والخبر والأفعال الداخلة عليهما، وعند الكوفيين إن للنفي واللام بمعنى إلا‏.‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى‏}‏ الضمير للرسل في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم‏}‏ أو للأمم‏.‏ ‏{‏بئاياتنا‏}‏ يعني المعجزات‏.‏ ‏{‏إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا‏}‏ بأن كفروا بها مكان الإِيمان الذي هو من حقها لوضوحها، ولهذا المعنى وضع ظلموا موضع كفروا‏.‏ وفرعون لقب لمن ملك مصر ككسرى لمن ملك فارس وكان اسمه قابوس‏.‏ وقيل الوليد بن مصعب بن الريان‏.‏ ‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين‏}‏‏.‏

‏{‏وَقَالَ موسى يافرعون إِنّى رَسُولٌ مِن رَّبّ العالمين‏}‏ إليك، وقوله‏:‏

‏{‏حَقِيقٌ عَلَي أَن لا أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق‏}‏ لعله جواب لتكذيبه إياه في دعوى الرسالة، وإنما لم يذكر لدلالة قوله ‏{‏فَظَلَمُواْ بِهَا‏}‏ عليه وكان أصله ‏{‏حَقِيقٌ عَلَيَّ أَنْ لا أَقُولَ‏}‏ كما قرأ نافع فقلب لأمن الإِلباس كقوله‏:‏ وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر‏.‏

أو لأن ما لزمك فقد لزمته، أو للإغراق في الوصف بالصدق، والمعنى أنه حق واجب على القول الحق أن أكون أنا قائله لا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به، أو ضمن حقيق معنى حريص، أو وضع على مكان الباء لإفادة التمكن كقولهم‏:‏ رميت على القوس وجئت على حال حسنة، ويؤيده قراءة أبي بالباء‏.‏ وقرئ «حقيق أن لا أقول» بدون ‏{‏على‏}‏‏.‏ ‏{‏قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ مّن رَّبّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إسراءيل‏}‏ فخلهم حتى يرجعوا معي إلى الأرض المقدسة التي هي وطن آبائهم، وكان قد استعبدهم واستخدمهم في الأعمال‏.‏ ‏{‏قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَةٍ‏}‏ من عند من أرسلك‏.‏ ‏{‏فَائْتِ بِهَا‏}‏ فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك‏.‏ ‏{‏إِن كُنتَ مِنَ الصادقين‏}‏ في الدعوى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر أمره لا يشك في أنه ثعبان وهو الحية العظيمة‏.‏ روي‏:‏ أنه لما ألقاها صارت ثعباناً أشعر فاغراً فاه بين لحييه ثمانون ذراعاً، وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر‏.‏ ثم توجه نحو فرعون فهرب منه وأحدث، وانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً، وصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك خذه وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذه فعاد عصا‏.‏