فصل: تفسير الآية رقم (17)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً‏}‏ لما جاء بحقيقة حالهم عقبها بضرب المثل زيادة في التوضيح والتقرير، فإنه أوقع في القلب وأقمع للخصم الألد، لأنه يريك المتخيل محققاً والمعقول محسوساً، ولأمر ما أكثر الله في كتبه الأمثال، وفشت في كلام الأنبياء والحكماء‏.‏ والمثل في الأصل بمعنى النظير يقال‏:‏ مَثَل ومِثْل ومَثِيل كشبه وشبه وشبيه، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده، ولا يضرب إلا ما فيه غرابة، ولذلك حوفظ عليه من التغيير، ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ المثل الأعلى‏}‏ والمعنى حالهم العجيبة الشأن كحال من استوقد ناراً، والذي‏:‏ بمعنى الذين كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ‏}‏ إن جعل مرجع الضمير في بنورهم، وإنما جاز ذلك ولم يجز وضع القائم موضع القائمين لأنه غير مقصود بالوصف، بل الجملة التي هي صلته وهو وصلة إلى وصف المعرفة بها لأنه ليس باسم تام بل هو كالجزء منه، فحقه أنه لا يجمع كما لا نجمع أخواتها، ويستوي فيه الواحد والجمع وليس الذين جمعه المصحح، بل ذو زيادة زيدت لزيادة المعنى ولذلك جاء بالياء أبداً على اللغة الفصيحة التي عليها التنزيل، ولكونه مستطالاً بصلته استحق التخفيف، ولذلك بولغ فيه فحذف ياؤه ثم كسرته ثم اقتصر على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين، أو قصد به جنس المستوقدين، أو الفوج الذي استوقد‏.‏ والاستيقاد‏:‏ طلب الوقود والسعي في تحصيله، وهو سطوع النار وارتفاع لهبها‏.‏ واشتقاق النار من‏:‏ نار ينور نوراً إذا نفر لأن فيها حركة واضطراباً‏.‏

‏{‏فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ‏}‏ أي‏:‏ النار، ما حول المستوقد إن جعلتها متعدية، وإلا أمكن أن تكون مسندة إلى ما، والتأنيث لأن ما حوله أشياء وأماكن أو إلى ضمير النار، وما‏:‏ موصولة في معنى الأمكنة، نصب على الظرف، أو مزيدة، وحوله ظرف وتأليف الحول للدوران‏.‏ وقيل للعام حول لأنه يدور‏.‏

‏{‏ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ‏}‏ جواب لما، والضمير للذي، وجمعه للحمل على المعنى، وعلى هذا إنما قال‏:‏ ‏{‏بِنُورِهِمْ‏}‏ ولم يقل‏:‏ بنارهم لأنه المراد من أيقادها‏.‏ أو استئناف أجيب به اعتراض سائل يقول‏:‏ ما بالهم شبهت حالهم بحال مستوقد انطفأت ناره‏؟‏ أو بدل من جملة التمثيل على سبيل البيان‏.‏ والضمير على الوجهين للمنافقين، والجواب محذوف كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ‏}‏ للإيجاز وأمن الالتباس‏.‏ وإسناد الذهاب إلى الله تعالى إما لأن الكل بفعله، أو لأن الإطفاء حصل بسبب خفي، أو أمر سماوي كريح أو مطر، أو للمبالغة ولذلك عدي الفعل بالباء دون الهمزة لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك، يقال‏:‏ ذهب السلطان بماله إذا أخذه، وما أخذه الله وأمسكه فلا مرسل له، ولذلك عدل عن الضوء الذي هو مقتضى اللفظ إلى النور، فإنه لو قيل‏:‏ ذهب الله بضوئهم احتمل ذهابه بما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نوراً، والغرض إزالة النور عنهم رأساً ألا ترى كيف قرر ذلك وأكده بقوله ‏{‏وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ‏}‏ فذكر الظلمة التي هي عدم النور، وانطماسه بالكلية، وجمعها ونكرها ووصفها بأنها ظلمة خالصة لا يتراءى فيها شبحان‏.‏

وترك في الأصل بمعنى طرح وخلى، وله مفعول واحد فضمن معنى صير، فجرى مجرى أفعال القلوب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات‏}‏‏.‏

وقول الشاعر‏:‏

فتركْتُه جَزْرَ السِّباع يَنُشْنَهُ *** يَقضُمْنَ حُسنَ بنانِهِ والمِعْصَمِ

والظلمة مأخوذة من قولهم‏:‏ ما ظلمك أن تفعل كذا، أي ما منعك، لأنها تسد البصر وتمنع الرؤية‏.‏ وظلماتهم‏:‏ ظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلمة يوم القيامة ‏{‏يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم‏}‏ أو ظلمة الضلال وظلمة سخط الله، وظلمة العقاب السرمدي، أو ظلمة شديدة كأنها ظلمة متراكمة، ومفعول ‏{‏لاَّ يُبْصِرُونَ‏}‏ من قبيل المطروح المتروك فكأن الفعل غير متعد‏.‏

والآية مَثَلٌ ضربه الله لمن آتاه ضرباً من الهدى فأضاعه، ولم يتوصل به إلى نعيم الأبد فبقي متحيراً متحسراً، تقريراً وتوضيحاً لما تضمنته الآية الأولى، ويدخل تحت عمومه هؤلاء المنافقون فإنهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق باستبطان الكفر، وإظهاره حين خلوا إلى شياطينهم، ومن آثر الضلالة على الهدى المجعول له بالفطرة، أو ارتد عن دينه بعدما آمن، ومن صح له أحوال الإرادة فادعى أحوال المحبة فأذهب الله عنه ما أشرق عليه من أنوار الإرادة، أو مَثَّل لإيمانهم من حيث إنه يعود عليهم يحقن الدماء، وسلامة الأموال والأولاد، ومشاركة المسلمين في المغانم‏.‏ والأحكام بالنار الموقدة للاستضاءة، ولذهاب أثره وانطماس نوره بإهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها وإذهاب نورها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ‏}‏ لما سدوا مسامعهم عن الإصاخة إلى الحق وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم ويتبصروا الآيات بأبصارهم، جُعِلُوا كأنما أيفت مشاعرهم وانتفت قواهم كقوله‏:‏

صُمُّ إذا سَمِعُوا خَيْراً ذُكِرْتُ بهِ *** وإنْ ذُكِرْتُ بسوءِ عندَهُمْ أذنوا

وكقوله‏:‏

أَصَمُّ عن الشيء الَّذي لا أُريدُهُ *** وأسمَعُ خَلْقِ الله حينَ أُريدُ

وإطلاقها عليهم على طريقة التمثيل، لا الاستعارة إذ من شرطها أن يطوي ذكر المستعار له، بحيث يمكن حمل الكلام على المستعار منه لولا القرينة كقول زهير‏:‏

لَدَى أسدٍ شاكي السِّلاحِ مُقَذَّفٍ *** لَهُ لِبَدٌ أَظفَارُه لم تُقَلْمِ

ومن ثم ترى المفلقين السحرة يضربون عن توهم التشبيه صفحاً كما قال أبو تمام الطائي‏:‏

وَيصعَدُ حتى يَظُنَّ الجَهولُ *** بأنَّ لَهُ حَاجةً في السَّماء

وههنا وإن طوى ذكره بحذف المبتدأ لكنه في حكم المنطوق به، ونظيره‏:‏

أُسَدٌ عليَّ وفي الحُرُوبِ نَعَامة *** فَتْخاءُ تنفر منْ صَفِير الصَّافرِ

هذا إذا جَعَلْتَ الضمير للمنافقين على أن الآية فذلكة التمثيل ونتيجته، وإن جعلته للمستوقدين، فهي على حقيقتها‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم لما أوقدوا ناراً فذهب الله بنورهم، وتركهم في ظلماتٍ هائلة أدهشتهم بحيث اختلت حواسهم وانتقصت قواهم‏.‏ وثلاثتها قرئت بالنصب على الحال من مفعول تركهم‏.‏ والصمم‏:‏ أصله صلابة من اكتناز الأجزاء، ومنه قيل حجر أصم وقناة صماء، وصمام القارورة، سمي به فقدان حاسة السمع لأن سببه أن يكون باطن الصماخ مكتنزاً لا تجويف فيه، فيشتمل على هواء يسمع الصوت بتموجه‏.‏ والبكم الخرس‏.‏ والعمى‏:‏ عدم البصر عما من شأنه أن يبصر وقد يقال لعدم البصيرة‏.‏

‏{‏فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ لا يعودون إلى الهدى الذي باعوه وضيعوه‏.‏ أو عن الضلالة التي اشتروها، أو فهم متحيرون لا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون، وإلى حيث ابتدؤوا منه كيف يرجعون‏.‏ والفاء للدلالة على أن اتصافهم بالأحكام السابقة سبب لتحيرهم واحتباسهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السماء‏}‏ عطف على الذي استوقد أي‏:‏ كمثل ذوي صيب لقوله‏:‏ ‏{‏يَجْعَلُونَ أصابعهم فِى ءاذَانِهِم‏}‏ و‏{‏أَوْ‏}‏ في الأصل للتساوي في الشك، ثم اتسع فيها فأطلقت للتساوي من غير شك مثل‏:‏ جالس الحسن أو ابن سيرين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً‏}‏ فإنها تفيد التساوي في حسن المجالسة ووجوب العصيان ومن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ كَصَيّبٍ‏}‏ ومعناه أن قصة المنافقين مشبهة بهاتين القصتين، وأنهما سواء في صحة التشبيه بهما، وأنت مخير في التمثيل بهما أو بأيهما شئت‏.‏ والصيب‏:‏ فيعل من الصوب، وهو النزول، يقال للمطر وللسحاب‏.‏ قال الشماخ‏:‏

وأسْحَمَ دانٍ صادقِ الرعْدِ صَيَّبٍ *** وفي الآية يحتملهما، وتنكيره لأنه أريد به نوع من المطر شديد‏.‏ وتعريف السماء للدلالة على أن الغمام مطبق آخذ بآفاق السماء كلها فإن كل أفق منها يسمى سماء كما أن كل طبقة منها سماء، وقال‏:‏

وَمِنْ بَعْدِ أرضٍ بينَنَا وسماءِ *** أمد به ما في الصيب من المبالغة من جهة الأصل والبناء والتنكير، وقيل المراد بالسماء السحاب فاللام لتعريف الماهية‏.‏

‏{‏فِيهِ ظلمات وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ‏}‏ إن أريد بالصيب المطر، فظلماته ظلمة تكاثفه بتتابع القطر، وظلمة غمامه مع ظلمة الليل وجعله مكاناً للرعد والبرق لأنهما في أعلاه ومنحدره ملتبسين به‏.‏ وإن أريد به السحاب، فظلماته سحمته وتطبيقه مع ظلمة الليل‏.‏ وارتفاعها بالظرف وفاقاً لأنه معتمد على موصوف‏.‏ والرعد‏:‏ صوت يسمع من السحاب‏.‏ والمشهور أن سببه اضطراب أجرام السحاب واصطكاكها إذا حدتها الريح من الارتعاد‏.‏ والبرق ما يلمع من السحاب، من برق الشيء بريقاً، وكلاهما مصدر في الأصل ولذلك لم يجمعا‏.‏

‏{‏يَجْعَلُونَ أصابعهم فِى ءاذَانِهِم‏}‏ الضمير لأصحاب الصيب وهو وإن حذف لفظه وأقيم الصيب مقامه لكن معناه باق، فيجوز أن يعول عليه كما عول حسان في قوله‏:‏

يَسْقُون مَنْ وَرَدَ البَريصَ عَليهم *** بَرَدَى يصفِّقُ بالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ

حيث ذكر الضمير لأن المعنى ماء بردى، والجملة استئناف فكأنه لما ذكر ما يؤذن بالشدة والهول قيل‏:‏ فكيف حالهم مع مثل ذلك‏؟‏ فأجيب بها، وإنما أطلق الأصابع موضع الأنامل للمبالغة‏.‏

‏{‏مّنَ الصواعق‏}‏ متعلق بيجعلون أي من أجلها يجعلون، كقولهم سقاه من الغيمة‏.‏ والصاعقة قصفة رعد هائل معها نار لا تمر بشيء إلا أتت عليه، من الصعق وهو شدة الصوت، وقد تطلق على كل هائل مسموع أو مشاهد، يقال صعقته الصاعقة إذا أهلكته بالإحراق أو شدة الصوت، وقرئ من «الصواقع» وهو ليس بقلب من الصواعق لاستواء كلا البناءين في التصرف يقال صقع الديك، وخطيب مصقع، وصقعته الصاقعة، وهي في الأصل إما صفة لقصفة الرعد، أو للرعد‏.‏ والتاء للمبالغة كما في الرواية أو مصدر كالعافية والكاذبة‏.‏ ‏{‏حَذَرَ الموت‏}‏ نصب على العلة كقوله‏:‏

وأغْفرُ عَوراءَ الكَريم ادِّخَارَه *** وأَصْفَحُ عنْ شتمِ اللئيمِ تَكَرُّمَا

والموت‏:‏ زوال الحياة، وقيل عرض يضادها لقوله‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الموت والحياة‏}‏ وَرُدَّ بأن الخلق بمعنى التقدير، والاعدام مقدرة‏.‏

‏{‏والله مُحِيطٌ بالكافرين‏}‏ لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط، لا يخلصهم الخداع والحيل، والجملة اعتراضية لا محل لها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم‏}‏ استئناف ثان كأنه جواب لمن يقول‏:‏ ما حالهم مع تلك الصواعق‏؟‏ وكاد من أفعال المقاربة، وضعت لمقاربة الخبر من الوجود لعروض سببه لكنه لم يوجد، إما لفقد شرط، أو لوجود مانع وعسى موضوعة لرجائه، فهي خبر محض ولذلك جاءت متصرفة بخلاف عسى، وخبرها مشروط فيه أن يكون فعلاً مضارعاً تنبيهاً على أنه المقصود بالقرب من غير أن، لتوكيد القرب بالدلالة على الحال، وقد تدخل عليه حملاً لها على عسى، كما تحمل عليها بالحذف من خبرها لمشاركتهما في أصل معنى المقاربة‏.‏ والخطف الأخذ بسرعة وقرئ ‏(‏يَخْطِف‏)‏ بكسر الطاء ويخطف على أنه يختطف، فنقلت فتحة التاء إلى الخاء ثم ادغمت في الطاء، ويخطف بكسر الخاء لالتقاء الساكنين وإتباع الياء لها، ويخطف ويتخطف‏.‏

‏{‏كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ‏}‏ استئناف ثالث كأنه قيل‏:‏ ما يفعلون في تارتي خفوق البرق، وخفيته‏؟‏ فأجيب بذلك‏.‏ وأضاء إما متعد والمفعول محذوف بمعنى كلما نور لهم ممشى أخذوه، أو لازم بمعنى، كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره، وكذلك أظلم فإنه جاء متعدياً منقولاً من ظلم الليل، ويشهد له قراءة أظلم على البناء للمفعول، وقول أبي تمام‏:‏

هُمَا أظلَما حالي ثَمَّةَ أجْلَيا *** ظلامَيْهِما عن وَجْهِ أَمْرَدَ أشيبِ

فإنه وإن كان من المحدَثين لكنه من علماء العربية، فلا يبعد أن يجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه‏.‏ وإنما قال مع الإضاءة ‏{‏كُلَّمَا‏}‏ ومع الإظلام ‏{‏إِذَا‏}‏ لأنهم حراص على المشي، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها ولا كذلك التوقف‏.‏ ومعنى ‏(‏قاموا‏)‏ وقفوا، ومنه قامت السوق إذا ركدت، وقام الماء إذا جمد‏.‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبصارهم‏}‏ أي ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق لذهب بهما فحذف المفعول لدلالة الجواب عليه، ولقد تكاثر حذفه في شاء وأراد حتى لا يكاد يذكر إلا في الشيء المستغرب كقوله‏:‏

فَلَوْ شِئتُ أن أَبكي دَمَاً لَبَكَيْتُه *** ‏(‏ولو‏)‏ من حروف الشرط، وظاهرها الدلالة على انتفاء الأول لانتفاء الثاني، ضرورة انتفاء الملزوم عند انتفاء لازمه، وقرئ‏:‏ لأذهب بأسماعهم، بزيادة الباء كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة‏}‏ وفائدة هذه الشرطية إبداء المانع لذهاب سمعهم وأبصارهم مع قيام ما يقتضيه، والتنبيه على أن تأثير الأسباب في مسبباتها مشروط بمشيئة الله تعالى، وأن وجودها مرتبط بأسبابها واقع بقدرته وقوله

‏{‏إِنَّ الله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ كالتصريح به والتقرير له‏.‏ والشيء يختص بالموجود، لأنه في الأصل مصدر شاء أطلق بمعنى شاء تارة، وحينئذ يتناول البارئ تعالى كما قال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَىُّ شَئ أَكْبَرُ شهادة قُلِ الله شَهِيدٌ‏}‏ وبمعنى مشيء أخرى، أي مشيء وجوده وما شاء الله وجوده فهو موجود في الجملة وعليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

‏{‏الله خالق كُلّ شَئ‏}‏ فهما على عمومهما بلا مثنوية‏.‏ والمعتزلة لما قالوا الشيء ما يصح أن يوجد وهو يعم الواجب والممكن، أو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فيعم الممتنع أيضاً، لزمهم التخصيص بالممكن في الموضعين بدليل العقل‏.‏

والقدرة‏:‏ هو التمكن من إيجاد الشيء‏.‏ وقيل صفة تقتضي التمكن، وقيل قدرة الإنسان، هيئة بها يتمكن من الفعل وقدرة الله تعالى‏:‏ عبارة عن نفي العجز عنه، والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، والقدير الفعال لما يشاء على ما يشاء ولذلك قلما يوصف به غير الباري تعالى، واشتقاق القدرة من القدر لأن القادر يوقع الفعل على مقدار قوته، أو على مقدار ما تقتضيه مشيئته‏.‏ وفيه دليل على أن الحادث حال حدوثه والممكن حال بقائه مقدوران وأن مقدور العبد مقدور لله تعالى، لأنه شيء وكل شيء مقدور لله تعالى‏.‏ والظاهر أن التمثيلين من جملة التمثيلات المؤلفة، وهو أن يشبه كيفية منتزعة من مجموع تضامت أجزاؤه وتلاصقت حتى صارت شيئاً واحداً بأخرى مثلها، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا‏}‏ الآية، فإنه تشبيه حال اليهود في جهلهم بما معهم من التوراة، بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة‏.‏ والغرض منهما تمثيل حال المنافقين من الحيرة والشدة، بما يكابد من انطفأت ناره بعد إيقادها في ظلمة، أو بحال من أخذته السماء في ليلة مظلمة مع رعد قاصف وبرق خاطف وخوف من الصواعق‏.‏ ويمكن جعلهما من قبيل التمثيل المفرد، وهو أن تأخذ أشياء فرادى فتشبهها بأمثالها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَسْتَوِى الأعمى والبصير وَلاَ الظلمات وَلاَ النور وَلاَ الظل وَلاَ الحرور‏}‏ وقول امرئ القيس‏:‏

كأنَّ قلوبَ الطير رَطْباً ويابِسا *** لَدَى وكرِها العنَّابُ والحشفُ البالي

بأن يشبه في الأول‏:‏ ذوات المنافقين بالمستوقدين، وإظهارهم الإيمان باستيقاد النار وما انتفعوا به من حقن الدماء وسلامة الأموال والأولاد وغير ذلك بإضاءة النار ما حول المستوقدين، وزوال ذلك عنهم على القرب بإهلاكهم وبإفشاء حالهم وإبقائهم في الخسار الدائم، والعذاب السرمد بإطفاء نارهم والذهاب بنورها‏.‏ وفي الثاني‏:‏ أنفسهم بأصحاب الصيب وإيمانهم المخالط بالكفر والخداع بصيب فيه ظلمات ورعد وبرق، من حيث إنه وإن كان نافعاً في نفسه لكنه لما وجد في هذه الصورة عاد نفعه ضراً ونفاقهم حذراً عن نكايات المؤمنين، وما يطرقون به من سواهم من الكفرة بجعل الأصابع في الآذان من الصواعق حذر الموت، من حيث إنه لا يرد من قدر الله تعالى شيئاً، ولا يخلص مما يريد بهم من المضار وتحيرهم لشدة الأمر وجهلهم بما يأتون، ويذرون بأنهم كلما صادفوا من البرق خفقة انتهزوها فرصة مع خوف أن تخطف أبصارهم فخطوا خطاً يسيرة، ثم إذا خفي وفتر لَمَعانُهُ بقوا متقيدين لا حراك بهم‏.‏

وقيل‏:‏ شبه الإيمان والقرآن وسائر ما أوتي الإنسان من المعارف التي هي سبب الحياة الأبدية بالصَيِّب الذي به حياة الأرض‏.‏ وما ارتكبت بها من الشبه المبطلة، واعترضت دونها من الاعتراضات المشككة بالظلمات‏.‏ وشبه ما فيها من الوعد والوعيد بالرعد، وما فيها من الآيات الباهرة بالبرق، وتصامهم عما يسمعون من الوعيد بحال من يهوله الرعد فيخاف صواعقه فيسد أذنيه عنها مع أنه لا خلاص لهم منها وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله مُحِيطٌ بالكافرين‏}‏ واهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه، أو رفد تطمح إليه أبصارهم بمشيهم في مطرح ضوء البرق كلما أضاء لهم، وتحيرهم وتوقفهم في الأمر حين تعرض لهم شبهة، أو تعن لهم مصيبة بتوقفهم إذا أظلم عليهم‏.‏

ونبه سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبصارهم‏}‏ على أنه تعالى جعل لهم السمع والأبصار ليتوسلوا بها إلى الهدى والفلاح، ثم إنهم صرفوها إلى الحظوظ العاجلة، وسدوها عن الفوائد الآجلة، ولو شاء الله لجعلهم بالحالة التي يجعلونها لأنفسهم، فإنه على ما يشاء قدير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ‏}‏ لما عدد فرق المكلفين وذكر خواصهم ومصارف أمورهم، أقبل عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات هَزّاً للسامع وتنشيطاً له واهتماماً بأمر العبادة، وتفخيماً لشأنها، وجبراً لكلفة العبادة بلذة المخاطبة‏.‏ و‏(‏يا‏)‏ حرف وضع لنداء البعيد، وقد ينادي به القريب تنزيلاً له منزلة البعيد‏.‏ إما لعظمته كقول الداعي‏:‏ يا رب، ويا الله، هو أقرب إليه من حبل الوريد‏.‏ أو لغفلته وسوء فهمه‏.‏ أو للاعتناء بالمدعو له وزيادة الحث عليه‏.‏ وهو مع المنادى جملة مفيدة، لأنه نائب مناب فعل‏.‏ وأي‏:‏ جعل وصلة إلى نداء المعرف باللام، فإن إدخال «يا» عليه متعذر لتعذر الجمع بين حرفي التعريف فإنهما كمثلين وأعطي حكم المنادى وأجري عليه المقصود بالنداء وصفاً موضحاً له، والتزام رفعه إشعاراً بأنه المقصود، وأقحمت بينهما هاء التنبيه تأكيداً وتعويضاً عما يستحقه، أي من المضاف إليه، وإنما كثر النداء على هذه الطريقة في القرآن لاستقلاله بأوجه من التأكيد، وكل ما نادى الله له عباده من حيث إنها أمور عظام، من حقها أن يتفطنوا إليها، ويقبلوا بقلوبهم عليها، وأكثرهم عنها غافلون، حقيق بأن ينادي له بالآكد الأبلغ والجموع وأسماؤها المحلاة باللام للعموم حيث لا عهد، ويدل عليه صحة الاستثناء منها‏.‏ أو التأكيد بما يفيد العموم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ‏}‏ واستدلال الصحابة بعمومها شائعاً وذائعاً، فالناس يعم الموجودين وقت النزول لفظاً ومن سيوجد، لما تواتر من دينه عليه الصلاة والسلام أن مقتضى خطابه وأحكامه شامل للقبيلين، ثابت إلى قيام الساعة إلا ما خصه الدليل، وما روي عن علقمة والحسن أن كل شيء نزل فيه ‏{‏يَا أَيُّهَا الناس‏}‏ فمكي ‏{‏وَيَا أَيُّهَا الذين آمنوا‏}‏ فمدني، إن صح رفعه فلا يوجب تخصيصه بالكفار، ولا أمرهم بالعبادة، فإن المأمور به هو القدر المشترك بين بدء العبادة، والزيادة فيها، والمواظبة عليها، فالمطلوب من الكفار هو الشروع فيها بعد الإتيان بما يجب تقديمه من المعرفة والإقرار بالصانع، فإن من لوازم وجوب الشيء وجوب ما لا يتم إلا به، وكما أن الحدث لا يمنع وجوب الصلاة، فالكفر لا يمنع وجوب العبادة، بل يجب رفعه والاشتغال بها عقيبه‏.‏ ومن المؤمنين ازديادهم وثباتهم عليها وإنما قال‏:‏ ‏{‏رَبُّكُمْ‏}‏ تنبيهاً على أن الموجب للعبادة هي الربوبية‏.‏

‏{‏الذي خَلَقَكُمْ‏}‏ صفة جَرَتْ عليه تعالى للتعظيم والتعليل، ويحتمل التقييد والتوضيح إن خص الخطاب بالمشركين، وأريد بالرَّب أعم من الرب الحقيقي، والآلهة التي يسمونها أرباباً‏.‏ والخلق إيجاد الشيء على تقدير واستواء، وأصله التقدير يقال‏:‏ خلق النعل إذا قدرها وسواها بالمقياس‏.‏

‏{‏والذين مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ متناول كل ما يتقدم الإنسان بالذات أو بالزمان‏.‏ منصوب معطوف على الضمير المنصوب في ‏{‏خَلَقَكُمْ‏}‏‏.‏

والجملة أُخْرِجَتْ مَخْرَجَ المقرر عندهم، إما لاعترافهم به كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله‏}‏ أو لتمكنهم من العلم به بأدنى نظر‏!‏ وقرئ ‏{‏مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ على إقحام الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيداً، كما أقحم جرير في قوله‏:‏

يا تيم تيمَ عُدَيٍّ لا أبا لَكمُو *** تيماً، الثاني بين الأول وما أضيف إليه‏.‏

‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏اعبدوا‏}‏ كأنه قال‏:‏ اعبدوا ربكم راجين أن تنخرطوا في سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح، المستوجبين جوار الله تعالى‏.‏ نبه به على أن التقوى منتهى درجات السالكين وهو التبري من كل شيء سوى الله تعالى إلى الله، وأن العابد ينبغي أن لا يغتر بعبادته، ويكون ذا خوف ورجاء قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً‏}‏ ‏{‏يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويخافون عَذَابَهُ‏}‏ أو من مفعول ‏{‏خَلَقَكُمْ‏}‏ والمعطوف عليه على معنى أنه خلقكم ومن قبلكم في صورة من يرجى منه التقوى لترجح أمره باجتماع أسبابه، وكثرة الدواعي إليه‏.‏ وغلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ، والمعنى على إرادتهم جميعاً‏.‏ وقيل تعليل للخلق أي خلقكم لكي تتقوا كما قال‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ وهو ضعيف إذ لم يثبت في اللغة مثله‏.‏

والآية تدل على أن الطريق إلى معرفة الله تعالى والعلم بوحدانيته واستحقاقه للعبادة، النظر في صنعه والاستدلال بأفعاله، وأن العبد لا يستحق بعبادته عليه ثواباً، فإنها لما وجبت عليه شكراً لما عدده عليه من النعم السابقة فهو كأجير أخذ الأجر قبل العمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً‏}‏ صفة ثانية، أو مدح منصوب، أو مرفوع، أو مبتدأ خبره فلا تجعلوا وجعل من الأفعال العامة يجيء على ثلاثة أوجه‏:‏ بمعنى صار، وطفق فلا يتعدى كقوله‏:‏

فَقَدْ جعلتُ قلوصَ بني سُهَيل *** مِنْ الأَكْوارِ مرتعُها قَريبُ

وبمعنى أوجد فيتعدّى إلى مفعول واحد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ الظلمات والنور‏}‏ وبمعنى صير، ويتعدى إلى مفعولين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً‏}‏ والتصيير يكون بالفعل تارة، وبالقول أو العقد أخرى‏.‏ ومعنى جعلها فراشاً أن جعل بعض جوانبها بارزاً ظاهراً عن الماء، مع ما في طبعه من الإحاطة بها، وصيرها متوسطة بين الصلابة واللطافة حتى صارت مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط، وذلك لا يستدعي كونها مسطحة، لأن كروية شكلها مع عظم حجمها‏.‏ واتساع جرمها لا تأبى الافتراش عليها‏.‏

‏{‏والسماء بِنَاءً‏}‏ قبة مضروبة عليكم‏.‏ والسماء اسم جنس يقع على الواحد والمتعدد كالدينار والدرهم، وقيل‏:‏ جمع سماءة‏.‏ والبناء مصدر، سمي به المبنى بيتاً كان أو قبة أو خباء، ومنه بني على امرأته، لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا عليها خباءً جديداً‏.‏

‏{‏وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ‏}‏ عطف على ‏(‏جعل‏)‏، وخروج الثمار بقدرة الله تعالى ومشيئته، ولكن جعل الماء الممزوج بالتراب سبباً في إخراجها ومادة لها كالنطفة للحيوان، بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفياتها على المادة الممتزجة منهما، أو أودع في الماء قوة فاعلة وفي الأرض قوة قابلة يتولد من اجتماعهما أنواع الثمار، وهو قادر على أن يوجد الأشياء كلها بلا أسباب ومواد كما أبدع نفوس الأسباب والمواد، ولكن له في إنشائها مدرجاً من حال إلى حال، صنائع وحكم يجدد فيها لأُولي الأبصار عبراً، وسكوناً إلى عظيم قدرته ليس في إيجادها دفعة، و‏{‏مِنْ‏}‏ الأولى للابتداء سواء أريد بالسماء السحاب فإن ما علاك سماء، أو الفلك فإن المطر يبتدئ من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض على ما دلت عليه الظواهر‏.‏ أو من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جو الهواء فتنعقد سحاباً ماطراً‏.‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ الثانية للتبعيض بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ‏}‏ واكتناف المنكرين له أعني ماء ورزقاً كأنه قال‏:‏ وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم، وهكذا الواقع إذ لم ينزل من السماء الماء كله، ولا أخرج بالمطر كل الثمرات، ولا جعل كل المرزوق ثماراً‏.‏ أو للتبيين، ورزقاً مفعول بمعنى المرزوق كقولك أنفقت من الدراهم ألفاً‏.‏ وإنما ساغ الثمرات والموضع موضع الكثرة، لأنه أراد بالثمرات جماعة الثمرة التي في قولك أدركت ثمرة بستانه، ويؤيده قراءة من قرأ‏:‏ «من الثمرة» على التوحيد‏.‏

أو لأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمْ تَرَكُواْ مِن جنات وَعُيُونٍ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثلاثة قُرُوء‏}‏ أو لأنها لما كانت محلاة باللام خرجت عن حد القلة‏.‏ و‏{‏لَكُمْ‏}‏ صفة رزقاً إن أريد به المرزوق ومفعوله إن أريد به المصدر كأنه قال‏:‏ رزقاً إياكم‏.‏

‏{‏فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً‏}‏ متعلق باعبدوا على أنه نهي معطوف عليه‏.‏ أو نفي منصوب بإضمار أن جواب له‏.‏ أو بلعل على أن نصب تجعلوا نصب فاطلع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّعَلّى أَبْلُغُ الاسباب أسباب السموات فَأَطَّلِعَ‏}‏ إلحاقاً لها بالأشياء الستة لاشتراكها في أنها غير موجبة، والمعنى‏:‏ إن تتقوا لا تجعلوا لله أنداداً، أو بالذي جعل، إن استأنفت به على أنه نهي وقع خبراً على تأويل مقول فيه‏:‏ لا تجعلوا، والفاء للسببية أدخلت عليه لتضمن المبتدأ معنى الشرط والمعنى‏:‏ أن من خصكم بهذه النعم الجسام والآيات العظام ينبغي أن لا يُشْرَكَ به‏.‏ والند‏:‏ المثل المناوئ، قال جرير‏:‏

أَتيماً تَجْعلونَ إليَّ ندَّا *** وما تيمٌ لِذي حَسَبٍ نَدِيدُ

من ند يند ندوداً‏:‏ إذا نفر، وناددت الرَجُلَ خالفته، خص بالمخالف المماثل في الذات كما خص المساوي بالمماثل في القدر، وتسمية ما يعبده المشركون من دون الله ‏(‏أنداداً‏)‏، وما زعموا أنها تساويه في ذاته وصفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله لأنهم لما تركوا عبادته إلى عبادتها، وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات، قادرة على أن تدفع عنهم بأس الله، وتمنحهم ما لم يرد الله بهم من خير، فتهكم بهم وشنع عليهم بأن جعلوا أنداداً لمن يمتنع أن يكون له ند‏.‏ ولهذا قال موحد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل‏:‏

أَرَبّاً واحِداً أَمْ أَلفُ رَب *** أَدِينُ إِذا تقسَّمتِ الأمورُ

تركْت اللاتَ والعزَّى جميعاً *** كذلكَ يَفْعَلُ الرجُلُ البصِيرُ

‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ حال من ضمير فلا تجعلوا، ومفعول تعلمون مطروح، أي‏:‏ وحالكم أنكم من أهل العلم والنظر وإصابة الرأي، فلو تأملتم أدنى تأمل اضطر عقلكم إلى إثبات موجد للمكنات منفرد بوجوب الذات، متعال عن مشابهة المخلوقات‏.‏ أو منوي وهو أنها لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله كقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَئ‏}‏ وعلى هذا فالمقصود منه التوبيخ والتثريب، لا تقييد الحكم وقصره عليه، فإن العالم والجاهل المتمكن من العلم سواء في التكليف‏.‏

واعلم إن مضمون الآيتين هو الأمر بعبادة الله سبحانه وتعالى، والنهي عن الإشراك به تعالى، والإشارة إلى ما هو العلة والمقتضى‏.‏ وبيانه أنه رتب الأمر بالعبادة على صفة الربوبية إشعاراً بأنها العلة لوجوبها، ثم بين ربوبيته بأنه تعالى خالقهم وخالق أصولهم وما يحتاجون إليه في معاشهم من المقلة والمظلة والمطاعم والملابس، فإن الثمرة أعم من المطعوم، والرزق أعم من المأكول والمشروب‏.‏ ثم لما كانت هذه الأمور التي لا يقدر عليها غيره شاهدة على وحدانيته تعالى، رتب تعالى عليها النهي عن الإشراك به، ولعله سبحانه أراد من الآية الأخيرة مع ما دل عليه الظاهر وسيق فيه الكلام، الإشارة إلى تفصيل خلق الإنسان وما أفاض عليه من المعاني والصفات على طريقة التمثيل، فمثل البدن بالأرض، والنفس بالسماء، والعقل بالماء، وما أفاض عليه من الفضائل العملية والنظرية المحصلة بواسطة استعمال العقل للحواس، وازدواج القوى النفسانية والبدنية، بالثمرات المتولدة من ازدواج القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بقدرة الفاعل المختار، فإن لكل آية ظهراً وبطناً ولكل حد مطلعاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ‏}‏ لما قرر وحدانيته تعالى وبين الطريق الموصل إلى العلم بها، ذكر عقيبه ما هو الحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن المعجز بفصاحته التي بذت فصاحة كل منطق وإفحامه، من طولب بمعارضته من مصاقع الخطباء من العرب العرباء مع كثرتهم وإفراطهم في المضادة والمضارة، وتهالكهم على المعازة والمعارة، وعرف ما يتعرف به إعجازه ويتيقن أنه من عند الله كما يدعيه‏.‏ وإنما قال‏:‏ ‏{‏مّمَّا نَزَّلْنَا‏}‏ لأن نزوله نجماً منجماً بحسب الوقائع على ما ترى عليه أهل الشعر والخطابة مما يريبهم، كما حكى الله عنهم فقال ‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً واحدة‏}‏ فكان الواجب تحديهم على هذا الوجه إزاحة للشبهة وإلزاماً للحجة، وأضاف العبد إلى نفسه تعالى تنويهاً بذكره، وتنبيهاً على أنه مختص به منقاد لحكمه تعالى، وقرئ «عبادنا» يريد محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته‏.‏ والسورة الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث آيات، وهي إن جعلت واوها أصلية منقولة من سور المدينة لأنها محيطة بطائفة من القرآن مفرزة محوزة على حيالها، أو محتوية على أنواع من العلم احتواء سور المدينة على ما فيها، أو من السورة التي هي الرتبة، قال النابغة‏:‏

وَلرهْطِ حرابٍ وَقدٍّ سُورةٌ *** في المجْدِ ليسَ غرابُها بمطَارِ

لأن السُورَ كالمنازل والمراتب يترقى فيها القارئ، أولها مراتب في الطول والقصر والفضل والشرف وثواب القراءة‏.‏ وإن جعلت مبدلة من الهمزة فمن السورة التي هي البقية والقطعة من الشيء‏.‏ والحكمة في تقطيع القرآن سوراً‏:‏ إفراد الأنواع، وتلاحق الأشكال، وتجاوب النظم، وتنشيط القارئ، وتسهيل الحفظ، والترغيب فيه‏.‏ فإنه إذا ختم سورة نَفَّسَ ذلك عنه، كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلاً أو طوى بريداً، والحافظ متى حذفها اعتقد أنه أخذ من القرآن حظاً تاماً، وفاز بطائفة محدودة مستقلة بنفسها، فعظم ذلك عنده وابتهج به إلى غير ذلك من الفوائد‏.‏

‏{‏مّن مّثْلِهِ‏}‏ صفة سورة أي‏:‏ بسورة كائنة من مثله، والضمير لما نزلنا، و‏(‏من‏)‏ للتبعيض أو للتبيين‏.‏ وزائدة عند الأخفش أي بسورةِ مماثلة للقرآن العظيم في البلاغة وحسن النظم‏.‏ أو لعبدنا، و‏(‏من‏)‏ للابتداء أي‏:‏ بسورة كائنة ممن هو على حاله عليه الصلاة والسلام من كونه بشراً أمياً لم يقرأ الكتب ولم يتعلم العلوم‏.‏ أو صلة ‏{‏فأتوا‏}‏، والضمير للعبد صلى الله عليه وسلم، والرد إلى المنزل أوجه لأنه المطابق لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ‏}‏ ولسائر آيات التحدي، ولأن الكلام فيه لا في المنزل عليه فَحَقه أن لا ينفكَ عنه ليتسق الترتيب والنظم، ولأن مخاطبة الجم الغفير بأن يأتوا بمثل ما أتى به واحد من أبناء جلدتهم أبلغ في التحدي من أن يقال لهم‏:‏ ليأت بنحو ما أوتي به هذا آخر مثله، ولأنه معجز في نفسه لا بالنسبة إليه لقوله تعالى‏:‏

‏{‏قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ‏}‏ ولأن رده إلى عبدنا يوهم إمكان صدوره ممن لم يكن على صفته، ولا يلائمه قوله تعالى‏.‏

‏{‏وادعوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ الله‏}‏ فإنه أمر بأن يستعينوا بكل من ينصرهم ويعينهم‏.‏ والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر، أو القائم بالشهادة، أو الناصر، أو الإمام‏.‏ وكأنه سمي به لأنه يحضر النوادي وتبرم بمحضره الأمور، إذ التركيب للحضور، إما بالذات أو بالتصور، ومنه قيل‏:‏ للمقتول في سبيل الله شهيد لأنه حضر ما كان يرجوه، أو الملائكة حضروه‏.‏ ومعنى ‏{‏دُونِ‏}‏ أدنى مكان من الشيء ومنه تدوين الكتب، لأنه إدناء البعض من البعض، ودونك هذا أي‏:‏ خذه من أدنى مكان منك، ثم استعير للرُتَب فقيل‏:‏ زيد دون عمرو أي‏:‏ في الشرف، ومنه الشيء الدون، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد وتخطي أمر إلى آخر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين‏}‏ أي لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين‏.‏ قال أمية‏:‏

يا نفسُ مَا لَكِ دونَ اللَّهِ منْ واق *** أي إذا تجاوزت وقاية الله فلا يقيك غيره، و‏{‏مِنْ‏}‏ متعلقة ب ‏{‏ادعوا‏}‏‏.‏ والمعنى ‏{‏وادعوا‏}‏ للمعارضة من حضركم، أو رجوتم معونته من إنسكم وجنكم وآلهتكم غير الله سبحانه وتعالى، فإنه لا يقدر على أن يأتي بمثله إلا الله‏.‏ أو‏:‏ ‏{‏وادعوا‏}‏ من دون الله شهداء يشهدون لكم بأن ما أتيتم به مثله، ولا تستشهدوا بالله فإنه من ديدن المبهوت العاجز عن إقامة الحجة‏.‏ أو ب ‏{‏شهدائكم‏}‏ أي الذين اتخذتموهم من دون الله أولياء وآلهة، وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة‏.‏ أو الذين يشهدون لكم بين يدي الله تعالى على زعمكم من قول الأعشى‏:‏

تُرِيكَ القَذَى مِنْ دونِها وهي دُونَهُ *** ليعينوكم وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد في معارضة القرآن العزيز غاية التبكيت والتهكم بهم‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ أي من دون أوليائه، يعني فصحاء العرب ووجوه المشاهد ليشهدوا لكم أن ما أتيتم به مثله، فإن العاقل لا يرضى لنفسه أن يشهد بصحة ما اتضح فساده وبان اختلاله‏.‏

‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ أنه من كلام البشر، وجوابه محذوف دل عليه ما قبله‏.‏ والصدق‏:‏ الإخبار المطابق، وقيل‏:‏ مع اعتقاد المخبر أنه كذلك عن دلالة أو أمارة، لأنه تعالى كذب المنافقين في قولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَرَسُولُ الله‏}‏ لما لم يعتقدوا مطابقته، ورد بصرف التكذيب إلى قولهم ‏{‏نَشْهَدُ‏}‏، لأن الشهادة إخبار عما علمه وهم ما كانوا عالمين به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التى وَقُودُهَا الناس والحجارة‏}‏ لما بين لهم ما يتعرفون به أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وميز لهم الحق عن الباطل، رتب عليه ما هو كالفذلكة له، وهو أنكم إذا اجتهدتم في معارضته وعجزتم جميعاً عن الإتيان بما يساويه أو يدانيه، ظهر أنه معجز والتصديق به واجب، فآمنوا به واتقوا العذاب المعد لمن كذب، فعبر عن الإتيان المكيف بالفعل الذي يعم الإتيان وغيره إيجازاً، ونزل لازم الجزاء منزلته على سبيل الكناية تقريراً للمكنى عنه، وتهويلاً لشأن العناد، وتصريحاً بالوعيد مع الإيجاز، وصدر الشرطية بإن التي للشك والحال يقتضي إذا الذي للوجوب، فإن القائل سبحانه وتعالى لم يكن شاكاً في عجزهم، ولذلك نفى إتيانهم معترضاً بين الشرط والجزاء تهكماً بهم وخطاباً معهم على حسب ظنهم، فإن العجز قبل التأمل لم يكن محققاً عندهم‏.‏ و‏{‏تَفْعَلُواْ‏}‏ جزم ب ‏{‏لَمْ‏}‏ لأنها واجبة الإعمال مختصة بالمضارع متصلة بالمعمول، ولأنها لما صيرته ماضياً صارت كالجزء منه، وحرف الشرط كالداخل على المجموع فكأنه قال‏:‏ فإن تركتم الفعل، ولذلك ساغ اجتماعهما‏.‏ ‏{‏وَلَنْ‏}‏ كلا في نفي المستقبل غير أنه أبلغ وهو حرف مقتضب عند سيبويه والخليل في إحدى الروايتين عنه، وفي الرواية الأخرى أصله لا أن، وعند الفراء لا فأبدلت ألفها نوناً‏.‏ والوَقود بالفتح ما توقد به النار، وبالضم المصدر وقد جاء المصدر بالفتح قال سيبويه‏:‏ وسمعنا من يقول وقدت النار وَقوداً عالياً، واسم بالضم ولعله مصدر سمي به كما قيل‏:‏ فلان فخر قومه وزين بلده، وقد قرئ به والظاهر أن المراد به الاسم، وإن أريد به المصدر فعلى حذف مضاف أي‏:‏ وقودها احتراق الناس، والحجارة‏:‏ وهي جمع حجر‏.‏ كجمالة جمع جمل وهو قليل غير منقاس، والمراد بها الأصنام التي نحتوها وقرنوا بها أنفسهم وعبدوها طمعاً في شفاعتها والانتفاع بها واستدفاع المضار لمكانتهم، ويدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏ عذبوا بما هو منشأ جرمهم كما عذب الكافرون بما كنزوه‏.‏ أو بنقيض ما كانوا يتوقعون زيادة في تحسرهم‏.‏ وقيل‏:‏ الذهب والفضة التي كانوا يكنزونها ويغترون بها، وعلى هذا لم يكن لتخصيص إعداد هذا النوع من العذاب بالكفار وجه، وقيل‏:‏ حجارة الكبريت وهو تخصيص بغير دليل وإبطال للمقصود، إذ الغرض تهويل شأنها وتفاقم لهبها بحيث تتقد بما لا يتقد به غيرها، والكبريت تتقد به كل نار وإن ضعفت، فإن صح هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فلعله عني به أن الأحجار كلها لتلك النار كحجارة الكبريت لسائر النيران‏.‏ ولما كانت الآية مدنية نزلت بعد ما نزل بمكة قوله تعالى في سورة التحريم

‏{‏نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة‏}‏ وسمعوه صح تعريف النار‏.‏ ووقوع الجملة صلة «بإزائها» فإنها يجب أن تكون قصة معلومة‏.‏

‏{‏أُعِدَّتْ للكافرين‏}‏ هيئت لهم وجعلت عدة لعذابهم‏.‏ وقرئ‏:‏ «أعتدت» من العتاد بمعنى العدة، والجملة استئناف، أو حال بإضمار قد من النار لا الضمير الذي في وقودها، وإن جعلته مصدراً للفصل بينهما بالخبر‏.‏ وفي الآيتين ما يدل على النبوة من وجوه‏:‏

الأول‏:‏ ما فيهما من التحدي والتحريض على الجد وبذل الوسع في المعارضة بالتقريع والتهديد، وتعليق الوعيد على عدم الإتيان بما يعارض أقصر سورة من سور القرآن، ثم إنهم مع كثرتهم واشتهارهم بالفصاحة وتهالكهم على المضادة لم يتصدوا لمعارضته، التجؤوا إلى جلاء الوطن وبذل المهج‏.‏

الثاني‏:‏ أنهما يتضمنان الإخبار عن الغيب على ما هو به، فإنهم لو عارضوه بشيء لامتنع خفاؤه عادة سيما والطاعنون فيه أكثر من الذابين عنه في كل عصر‏.‏

الثالث‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم لو شك في أمره لما دعاهم إلى المعارضة بهذه المبالغة، مخافة أن يعارض فتدحض حجته‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُعِدَّتْ للكافرين‏}‏ دل على أن النار مخلوقة معدة الآن لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أَنَّ لَهُمْ جنات‏}‏ عطف على الجملة السابقة، والمقصود عطف حال من آمن بالقرآن العظيم ووصف ثوابه، على حال من كفر به، وكيفية عقابه على ما جرت به العادة الإلهية من أن يشفع الترغيب بالترهيب، تنشيطاً لاكتساب ما ينجي، وتثبيطاً عن اقتراف ما يردي، لا عطف الفعل نفسه حتى يجب أن يطلب له ما يشاكله من أمر أو نهي فيعطف عليه أو على فاتقوا، لأنهم إذا لم يأتوا بما يعارضه بعد التحدي ظهر إعجازه، وإذا ظهر ذلك فمن كفر به استوجب العقاب، ومن آمن به استحق الثواب، وذلك يستدعي أن يخوف هؤلاء ويبشر هؤلاء، وإنما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، أو عالم كل عصر، أو كل أحد يقدر على البشارة بأن يبشرهم‏.‏ ولم يخاطبهم بالبشارة كما خاطب الكفرة، تفخيماً لشأنهم وإيذاناً بأنهم أحقاء بأن يبشروا ويهنأوا بما أعد لهم‏.‏

وقرئ ‏{‏وَبَشّرِ‏}‏ على البناء للمفعول عطفاً على أعدت فيكون استئنافاً‏.‏ والبشارة‏:‏ الخبر السار فإنه يظهر أثر السرور في البَشْرة، ولذلك قال الفقهاء البشارة‏:‏ هي الخبر الأول، حتى لو قال الرجل لعبيده‏:‏ من بشرني بقدوم ولدي فهو حر، فأخبروه فرادى عتق أَوَلُهُم، ولو قال‏:‏ من أخبرني، عتقوا جميعاً، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ فعلى التهكم أو على طريقة قوله‏:‏ تحِيَّةُ بَيْنِهمْ ضَرْبٌ وَجيْعُ‏.‏

و ‏{‏الصالحات‏}‏ جمع صالحة وهي من الصفات الغالبة التي تجري مجرى الأسماء كالحسنة، قال الحطيئة‏:‏

كَيْفَ الهِجَاءُ وما تَنْفَكُّ صالحة *** من آل لامٍ بظُهْرِ الغَيْبِ تَأْتِيني

وهي من الأعمال ما سوغه الشرع وحسنه، وتأنيثها على تأويل الخصلة، أو الخلة، واللام فيها للجنس، وعطف العمل على الإيمان مرتباً للحكم عليهما إشعاراً بأن السبب في استحقاق هذه البشارة مجموع الأمرين والجمع بين الوصفين، فإن الإيمان الذي هو عبارة عن التحقيق والتصديق أَسٌّ، والعمل الصالح كالبناء عليه، ولا غناءَ بأْسٍ لا بناء عليه، ولذلك قلما ذكرا منفردين‏.‏ وفيه دليل على أنها خارجة عن مسمى الإيمان، إذ الأصل أن الشيء لا يعطفُ على نفسه ولا على ما هو داخل فيه‏.‏

‏{‏أَنَّ لَهُمْ‏}‏ منصوب بنزع الخافض وإفضاء الفعل إليه، أو مجرور بإضماره مثل‏:‏ الله لأفعلن‏.‏ والجنة‏:‏ المرة من الجن وهو مصدر جنة إذا ستره، ومدار التركيب على الستر، سمي بها الشجر المظلل لالتفاف أغصانه للمبالغة كأنه يستر ما تحته سترة واحدة قال زهير‏:‏

كأنَّ عَيني في غَربي مقتلَة *** من النواضِحِ تَسْقي جَنَّةً سُحُقا

أي نخلاً طوالاً، ثم البستان، لما فيه من الأشجار المتكاثفة المظللة، ثم دار الثواب لما فيها من الجنان، وقيل‏:‏ سميت بذلك لأنه ستر في الدنيا ما أعد فيها للبشر من أفنان النعم كما قال سبحانه وتعالى‏:‏

‏{‏فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ‏}‏ وجمعها وتنكيرها لأن الجنان على ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما سبع‏:‏ جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، ودار الخلد، وجنة المأوى، ودار السلام، وعِلِّيُون، وفي كل واحدة منها مراتب ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال‏.‏ واللام في ‏{‏لَهُمْ‏}‏ تدل على استحقاقهم إياها، لأجل ما ترتب عليه من الإيمان والعمل الصالح، لا لذاته فإنه لا يكافئ النعم السابقة، فضلاً عن أن يقتضي ثواباً وجزاء فيما يستقبل بل بجعل الشارع، ومقتضى وعده تعالى لا على الإطلاق، بل بشرط أن يستمر عليه حتى يموت وهو مؤمن لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم‏}‏ وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ‏{‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏}‏ وأشباه ذلك، ولعله سبحانه وتعالى لم يقيد ههنا استغناء بها‏.‏

‏{‏تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار‏}‏ أي من تحت أشجارها، كما تراها جارية تحت الأشجار النابتة على شواطئها‏.‏ وعن مسروق أنهار الجنة تجري في غير أخدود‏:‏ واللام في ‏{‏الأنهار‏}‏ للجنس، كما في قولك لفلان‏:‏ بستان في الماء الجاري، أو للعهد، والمعهود‏:‏ هي الأنهار المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءَاسِنٍ‏}‏ الآية‏.‏ والنهر بالفتح والسكون‏:‏ المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر، كالنيل والفرات، والتركيب للسعة، والمراد بها ماؤها على الإضمار، أو المجاز، أو المجاري أنفسها‏.‏ وإسناد الجري إليها مجاز كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا‏}‏ الآية‏.‏

‏{‏كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا‏}‏ صفة ثانية لجنات، أو خبر مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة‏.‏ كأنه لما قيل‏:‏ إن لهم جنات، وقع في خلد السامع أثمارها مثل ثمار الدنيا، أو أجناس أخر فأزيح بذلك، و‏{‏كُلَّمَا‏}‏ نصب على الظرف، و‏{‏رِزْقاً‏}‏ مفعول به، ومن الأولى والثانية للابتداء واقعتان موقع الحال، وأصل الكلام ومعناه‏:‏ كل حين رزقوا مرزوقاً مبتدأ من الجنات مبتدأ من ثمرة، قيد الرزق بكونه مبتدأ من الجنات، وابتداؤه منها بابتدائه من ثمرة فصاحب الحال الأولى رزقاً وصاحب الحال الثانية ضميره المستكن في الحال، ويحتمل أن يكون من ثمره، بياناً تقدم كما في قولك‏:‏ رأيت منك أسداً، وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا كقولك مشيراً إلى نهر جار‏:‏ هذا الماء لا ينقطع، فإنك لا تعني به العين المشاهدة منه، بل النوع المعلوم المستمر بتعاقب جريانه وإن كانت الإشارة إلى عينه، فالمعنى هذا مثل رزقنا ولكن لما استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته كقولك‏:‏ أبو يوسف أبو حنيفة‏.‏

‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ من قبل هذا في الدنيا، جعل ثمر الجنة من جنس ثمر الدنيا لتميل النفس إليه أول ما يرى، فإنه الطباع مائلة إلى المألوف متنفرة عن غيره، ويتبين لها مزيته وكنه النعمة فيه، إذ لو كان جنساً لم يعهد ظن أنه لا يكون إلا كذلك، أو في الجنة لأن طعامها متشابه في الصورة، كما حكى ابن كثير عن الحسن رضي الله عنهما‏:‏ ‏(‏أن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك، فيقول الملك‏:‏ كل فاللون واحد والطعم مختلف‏)‏‏.‏

أو كما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ ‏"‏ والذي نفس محمد بيده، إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه، حتى يبدل الله تعالى مكانها مثلها ‏"‏ فلعلهم إذ رأوها على الهيئة الأولى قالوا ذلك، والأول أظهر لمحافظته على عموم ‏{‏كُلَّمَا‏}‏ فإنه يدل على ترديدهم هذا القول كل مرة رزقوا، والداعي لهم إلى ذلك فرط استغرابهم وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللذة والتشابه البليغ في الصورة‏.‏

‏{‏وَأُتُواْ بِهِ متشابها‏}‏ اعتراض يقرر ذلك، والضمير على الأول راجع إلى ما رزقوا في الدارين فإنه مدلول عليه بقوله عز من قائل ‏{‏هذا الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ‏}‏ ونظيره قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا‏}‏ أي بجنسي الغني والفقير، وعلى الثاني إلى الرزق‏.‏ فإن قيل‏:‏ التشابه هو التماثل في الصفة، وهو مفقود بين ثمرات الدنيا والآخرة كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ ليس في الجنة من أطعمة إلا الأسماء‏.‏ قلت‏:‏ التشابه بينهما حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم دون المقدار والطعم، وهو كاف في إطلاق التشابه‏.‏ هذا‏:‏ وإن للآية الكريمة محملاً آخر، وهو أن مستلذات أهل الجنة في مقابلة ما رزقوا في الدنيا من المعارف والطاعات، متفاوتة في اللذة بحسب تفاوتها، فيحتمل أن يكون المراد من ‏{‏هذا الذى رُزِقْنَا‏}‏ أنه ثوابه، ومن تشابههما تماثلهما في الشرف والمزية وعلو الطبقة، فيكون هذا في الوعد نظير قوله‏:‏ ‏{‏ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ في الوعيد‏.‏

‏{‏وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ‏}‏ مما يستقذر من النساء ويذم من أحوالهن، كالحيض والدرن ودنس الطبع وسوء الخلق، فإن التطهير يستعمل في الأجسام والأخلاق والأفعال‏.‏ وقرئ‏:‏ «مطهرات» وهما لغتان فصيحتان يقال النساء فعلت وفعلن، وهن فاعلة وفواعل، قال‏:‏

وإذَا العَذَارى بالدّخَانِ تَقَنَّعَت *** واسْتَعَجلتْ نَصْبَ القُدورِ فملَّت

فالجمع على اللفظ، والإِفراد على تأويل الجماعة، ومطهرة بتشديد الطاء وكسر الهاء بمعنى متطهرة، ومطهرة أبلغ من طاهرة ومطهرة للإشعار بأن مطهراً طهرهن وليس هو إلا الله عز وجل‏.‏ والزوج يقال للذكر والأنثى، وهو في الأصل لما له قرين من جنسه كزوج الخف، فإن قيل‏:‏ فائدة المطعوم هو التغذي ودفع ضرر الجوع، وفائدة المنكوح التوالد وحفظ النوع، وهي مستغنى عنها في الجنة‏.‏ قلت‏:‏ مطاعم الجنة ومناكحها وسائر أحوالها إنما تشارك نظائرها الدنيوية في بعض الصفات والاعتبارات، وتسمى بأسمائها على سبيل الاستعارة والتمثيل، ولا تشاركها في تمام حقيقتها حتى تستلزم جميع ما يلزمها وتفيد عين فائدها‏.‏

‏{‏وَهُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ دائمون‏.‏ والخلد والخلود في الأصل الثبات المديد دام أم لم يدم، ولذلك قيل للأثافي والأحجار خوالد، وللجزء الذي يبقى من الإنسان على حاله ما دام حياً خلد، ولو كان وضعه للدوام كان التقييد بالتأبيد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خالدين فِيهَا أَبَداً‏}‏ لغوا واستعماله حيث لا دوام، كقولهم وقف مخلد، يوجب اشتراكاً، أو مجازاً‏.‏ والأصل ينفيهما بخلاف ما لو وضع للأعم منه فاستعمل فيه بذلك الاعتبار، كإطلاق الجسم على الإنسان مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد‏}‏ لكن المراد به ههنا الدوام عند الجمهور لما يشهد له من الآيات والسنن‏.‏

فإن قيل‏:‏ الأبدان مركبة من أجزاء متضادة الكيفية، معرضة للاستحلالات المؤدية إلى الانفكاك والانحلال فكيف يعقل خلودها في الجنان‏.‏ قلت‏:‏ إنه تعالى يعيدها بحيث لا يعتورها الاستحالة بأن يجعل أجزاءها مثلاً متقاومة في الكيفية، متساوية في القوة لا يقوي شيء منها على إحالة الآخر، متعانقة متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض كما يشاهد في بعض المعادن‏.‏

هذا وإن قياس ذلك العالم وأحواله على ما نجده ونشاهده من نقص العقل وضعف البصيرة‏.‏ واعلم أنه لما كان معظم اللذات الحسية مقصوراً على‏:‏ المساكن والمطاعم، والمناكح، على ما دل عليه الاستقراء كان ملاك ذلك كله الدوام والثبات، فإن كل نعمة جليلة إذا قارنها خوف الزوال كانت منغصة غير صافية من شوائب الألم، بشر المؤمنين بها ومثل ما أعد لهم في الآخرة بأبهى ما يستلذ به منها، وأزال عنهم خوف الفوات بوعد الخلود ليدل على كمالهم في التنعم والسرور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً‏}‏ لما كانت الآيات السابقة متضمنة لأنواع من التمثيل، عقب ذلك ببيان حسنه، وما هو الحق له والشرط فيه، وهو أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي تعلق بها التمثيل في العظم والصغر والخسة والشرف دون الممثل، فإن التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس، ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه فإن المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم، لأن من طبعه الميل إلى الحس وحب المحاكاة، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء، وإشارات الحكماء، فيمثل الحقير بالحقير كما يمثل العظيم بالعظيم، وإن كان المثل أعظم من كل عظيم، كما مثل في الإنجيل غل الصدور، بالنخالة‏.‏ والقلوب القاسية، بالحصاة‏.‏ ومخاطبة السفهاء، بإثارة الزنابير‏.‏ وجاء في كلام العرب‏:‏ أسمع من قراد وأطيش من فراشه، وأعز من مخ البعوض‏.‏ لا ما قالت الجهلة من الكفار‏:‏ لِمَا مثل الله حال المنافقين بحال المستوقدين‏؟‏ وأصحاب الصيب وعبادة الأصنام في الوهن والضعف ببيت العنكبوت‏؟‏ وجعلها أقل من الذباب وأخس قدراً منه‏؟‏ الله سبحانه وتعالى أعلى وأجل من أن يضرب الأمثال ويذكر الذباب والعنكبوت‏.‏ وأيضاً، لِمَا أرشدهم إلى ما يدل على أن المتحدي به وحي منزل‏؟‏ ورتب عليه وعيد من كفر به ووعد من آمن به بعد ظهور أمره‏؟‏ شَرَعَ في جواب ما طعنوا به فيه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ * يَسْتَحْىِ‏}‏ أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يمثل بها لحقارتها‏.‏ والحياء‏:‏ انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم، وهو الوسط بين الوقاحة‏:‏ التي هي الجراءة على القبائح وعدم المبالاة بها، والخجل‏:‏ الذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقاً‏.‏ واشتقاقه من الحياة فإنه انكسار يعتري القوة الحيوانية فيردها عن أفعالها فقيل‏:‏ حيي الرجل كما يقال نسي وحشي، إذا اعتلت نساه وحشاه‏.‏ وإذا وصف به الباري تعالى كما جاء في الحديث «إن الله يستحيي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه»‏.‏ «إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً» فالمراد به الترك اللازم للانقباض، كما أن المراد من رحمته وغضبه إصابة المعروف والمكروه اللازمين لمعنييهما، ونظيره قول من يصف إيلاً‏:‏

إذا ما اسْتَحينَ الماءَ يعْرضُ نَفْسَه *** كَرَعْنَ بسَبْتٍ في إناءٍ من الوَرْدِ

وإنما عدل به عن الترك، لما فيه من التمثيل والمبالغة، وتحتمل الآية خاصة أن يكون مجيئه على المقابلة لما وقع في كلام الكفرة‏.‏ وضرب المثل اعتماله من ضرب الخاتم، وأصله وقع شيء على آخر، وأَنْ بصلتها مخفوض المحل عند الخليل بإضمار من، منصوب بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها عند سيبويه‏.‏

وما إبهامية تزيد النكرة إبهاماً وشياعاً وتسد عنها طرق التقييد، كقولك أعطني كتاباً ما، أي‏:‏ أي كتاب كان‏.‏ أو مزيدة للتأكيد كالتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله‏}‏ ولا نعني بالمزيد اللغو الضائع، فإن القرآن كله هدى وبيان، بل ما لم يوضع لمعنى يراد منه، وإنما وضعت لأن تذكر مع غيرها فتفيد له وثاقةً وقوةً وهو زيادة في الهدى غير قادح فيه‏.‏ وبعوضة عطف بيان لمثلاً‏.‏ أو مفعول ليضرب، ومثلاً حال تقدمت عليه لأنه نكرة‏.‏ أو هما مفعولاه لتضمنه معنى الجعل‏.‏ وقرئت بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وعلى هذا يحتمل ‏{‏مَا‏}‏ وجوهاً أخر‏:‏ أن تكون موصولة حذف صدر صلتها، كما حذف في قوله‏:‏ ‏{‏تَمَامًا عَلَى الذى أَحْسَنَ‏}‏ وموصوفة بصفة كذلك، ومحلها النصب بالبدلية على الوجهين‏.‏ واستفهامية هي المبتدأ، كأنه لما رد استبعادهم ضرب الله الأمثال، قال بعده‏:‏ ما البعوضة فما فوقها حتى لا يضرب به المثل، بل له أن يمثل بما هو أحقر من ذلك‏.‏ ونظيره فلان لا يبالي مما يهب ما دينار وديناران‏.‏ والبعوض‏:‏ فعول من البعض، وهو القطع كالبضع والعضب، غلب على هذا النوع كالخموش‏.‏

‏{‏فَمَا فَوْقَهَا‏}‏ عطف على بعوضة، أو ما إن جعل اسماً، ومعناه ما زاد عليها في الجثة كالذباب والعنكبوت، كأنه قصد به رد ما استنكروه‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه لا يستحيي ضرب المثل بالبعوض فضلاً عما هو أكبر منه، أو في المعنى الذي جعلت فيه مثلاً، وهو الصغر والحقارة كجناحها فإنه عليه الصلاة والسلام ضربه مثلاً للدنيا، ونظيره في الاحتمالين ما روي أن رجلاً بمنى خَرَّ على طنب فسطاط فقالت عائشة رضي الله عنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها، إلا كتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة» فإنه يحتمل ما تجاوز الشوكة في الألم كالخرور وما زاد عليها في القلة كنخبة النملة، لقوله عليه الصلاة والسلام «ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة» ‏{‏فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق نظشتظء رَبِّهِم‏}‏ أما حرف تفصيل يفصل ما أجمل ويؤكد ما به صدر ويتضمن معنى الشرط، ولذلك يجاب بالفاء‏.‏ قال سيبويه‏:‏ أما زيد فذاهب معناه، مهما يكن من شيء فزيد ذاهب، أي هو ذاهب لا محالة وأنه منه عزيمة، وكان الأصل دخول الفاء على الجملة لأنها الجزاء، لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوها على الخبر، وعوضوا المبتدأ عن الشرط لفظاً، وفي تصديره الجملتين به إخماد لأمر المؤمنين واعتداد بعلمهم، وذم بليغ للكافرين على قولهم، والضمير في ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ للمثل، أو لأن يضرب‏.‏

و ‏{‏الحق‏}‏ الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، يعم الأعيان الثابتة والأفعال الصائبة والأقوال الصادقة، من قولهم حق الأمر، إذا ثبت ومنه‏:‏ ثوب محقق أي‏:‏ محكم النسج‏.‏

‏{‏وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ‏}‏ كان من حقه‏:‏ وأما الذين كفروا فلا يعلمون، ليطابق قرينه ويقابل قسيمه، لكن لما كان قولهم هذا دليلاً واضحاً على كمال جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية ليكون كالبرهان عليه‏.‏

‏{‏مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏ أن تكون «ما» استفهامية و«ذا» بمعنى الذي وما بعده صلته، والمجموع خبر ما‏.‏ وأن تكون «ما» مع «ذا» اسماً واحداً بمعنى‏:‏ أي شيء، منصوب المحل على المفعولية مثل ما أراد الله، والأحسن في جوابه الرفع على الأول، والنصب على الثاني، ليطَابق الجواب السؤال‏.‏ والإرادة‏:‏ نزوع النفس وميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه، وتقال للقوة التي هي مبدأ النزوع، والأول مع الفعل والثاني قبله، وكلا المعنيين غير متصور اتصاف الباري تعالى به، ولذلك اختلف في معنى إرادته فقيل‏:‏ إرادته لأفعاله أنه غير ساه ولا مكره، ولأفعال غيره أمره بها‏.‏ فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته، وقيل‏:‏ علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل، والوجه الأصلح فإنه يدعو القادر إلى تحصيله، والحق‏:‏ أنه ترجيح أحد مقدوريه على الآخر وتخصيصه بوجه دون وجه، أو معنى يوجب هذا الترجيح، وهي أعم من الاختيار فإنه ميل مع تفضيل وفي هذا استحقار واسترذال‏.‏ و‏{‏مَثَلاً‏}‏ نصب على التمييز، أو الحال كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً‏}‏ ‏{‏يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا‏}‏ جواب ماذا، أي‏:‏ إضلال كثير وإهداء كثير، وضع الفعل موضع المصدر للإشعار بالحدوث والتجدد، أو بيان للجملتين المصدرتين بإما، وتسجيل بأن العلم بكونه حقاً هدى وبيان، وأن الجهل بوجه إيراده والإنكار لحسن مورده ضلال وفسوق، وكثرة كل واحد من القبيلتين بالنظر إلى أنفسهم لا بالقياس إلى مقابليهم، فإن المهديين قليلون بالإضافة إلى أهل الضلال كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ‏}‏ ‏{‏وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور‏}‏ ويحتمل أن يكون كثرة الضالين من حيث العدد، وكثرة المهديين باعتبار الفضل والشرف كما قال‏:‏

قَليلُ إذا عُدُّوا كَثيرٌ إِذا شَدُّوا *** وقال‏:‏

إنَّ الكِرامَ كثيرٌ في البلادِ وإِن *** قَلُّوا كما غيرَهُم قلٌّ وإنْ كَثُرُوا

‏{‏وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين‏}‏ أي الخارجين عن حد الإيمان، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ المنافقين هُمُ الفاسقون‏}‏ من قولهم‏:‏ فسقت الرُطَبة عن قشرها إذا خرجت‏.‏ وأصل الفسق‏:‏ الخروج عن القصد قال رؤبة‏:‏

فواسِقاً عَنْ قَصْدِهَا جَوائراً *** والفاسق في الشرع‏:‏ الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة، وله درجات ثلاث‏:‏

الأولى‏:‏ التغابي وهو أن يرتكبها أحياناً مستقبحاً إياها‏.‏

الثانية‏:‏ الانهماك وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها‏.‏

الثالثة‏:‏ الجحود وهو أن يرتكبها مستصوباً إياها، فإذا شارف هذا المقام وتخطى خططه خلع ربقة الإيمان من عنقه، ولابس الكفر‏.‏ وما دام هو في درجة التغابي أو الانهماك فلا يسلب عنه اسم المؤمن لاتصافه بالتصديق الذي هو مسمى الإيمان، ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا‏}‏ والمعتزلة لما قالوا‏:‏ الإيمان‏:‏ عبارة عن مجموع التصديق والإقرار والعمل، والكفر تكذيب الحق وجحوده‏.‏ جعلوه قسماً ثالثاً نازلاً بين منزلتي المؤمن والكافر لمشاركته كل واحد منهما في بعض الأحكام، وتخصيص الإضلال بهم مرتباً على صفة الفسق يدل على أنه الذي أعدهم للإضلال، وأدى بهم إلى الضلال‏.‏ وذلك لأن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم بالباطل صرفت وجوه أفكارهم عن حكمة المثل إلى حقارة الممثل به، حتى رسخت به جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروه واستهزؤوا به‏.‏ وقرئ ‏(‏يضل‏)‏ بالبناء للمفعول و«الفاسقون» بالرفع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله‏}‏ صفة للفاسقين للذم وتقرير الفسق‏.‏ والنقض‏:‏ فسخ التركيب، وأصله في طاقات الحبل، واستعماله في إبطال العهد من حيث إن العهد يستعار له الحبل لما فيه من ربط أحد المتعاهدين بالآخر، فإن أطلق مع لفظ الحبل كان ترشيحاً للمجاز، وإن ذكر مع العهد كان رمزاً إلى ما هو من روادفه وهو أن العهد حبل في شجاعته بحر بالنظر إلى إفادته‏.‏ والعهد‏:‏ الموثق ووضعه لما من شأنه أن يراعي ويتعهد كالوصية واليمين، ويقال للدار، من حيث إنها تراعي بالرجوع إليها‏.‏ والتاريخ لأنه يحفظ، وهذا العهد‏:‏ إما العهد المأخوذ بالعقل، وهو الحجة القائمة على عباده الدالة على توحيده ووجوب وجوده وصدق رسوله، وعليه أُوِّلَ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ‏}‏ أو‏:‏ المأخوذ بالرسل على الأمم، بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدق بالمعجزات صدقوه واتبعوه، ولم يكتموا أمره ولم يخالفوا حكمه، وإليه أشار بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب‏}‏ ونظائره‏.‏ وقيل‏:‏ عهود الله تعالى ثلاثة‏:‏ عهد أخذه على جميع ذرية آدم بأن يقروا بربوبيته، وعهد أخذه على النبيين بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه، وعهد أخذه على العلماء بأن يبينوا الحق ولا يكتموه‏.‏

‏{‏مِن بَعْدِ ميثاقه‏}‏ الضمير للعهد والميثاق‏:‏ اسم لما يقع به الوثاقة وهي الاستحكام، والمراد به ما وَثَقَ الله به عهده من الآيات والكتب، أو ما وثقوه به من الالتزام والقبول، ويحتمل أن يكون بمعنى المصدر‏.‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ للابتداء فإن ابتداء النقض بعد الميثاق‏.‏

‏{‏وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ‏}‏ يحتمل كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى، كقطع الرحم، والإعراض عن موالاة المؤمنين، والتفرقة بين الأنبياء عليهم السلام، والكتب في التصديق، وترك الجماعات المفروضة، وسائر ما فيه رفض خير‏.‏ أو تعاطي شر فإنه يقطع الوصلة بين الله وبين العبد المقصودة بالذات من كل وصل وفصل، والأمر هو للقول الطالب للفعل، وقيل‏:‏ مع العلو، وقيل‏:‏ مع الاستعلاء، وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور تسمية للمفعول به بالمصدر، فإنه مما يؤمر به كما قيل‏:‏ له شأن وهو الطلب‏.‏ والقصد يقال‏:‏ شأنت شأنه، إذا قصدت قصده‏.‏ و‏{‏أَن يُوصَلَ‏}‏ يحتمل النصب والخفض على أنه بدل من ما، أو ضميره‏.‏ والثاني أحسن لفظاً ومعنى‏.‏

‏{‏وَيُفْسِدُونَ فِى الارض‏}‏ بالمنع عن الإيمان والاستهزاء بالحق، وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصلاحه‏.‏

‏{‏أولئك هُمُ الخاسرون‏}‏ الذين خسروا بإهمال العقل عن النظر واقتناص ما يفيدهم الحياة الأبدية، واستبدال الإنكار والطعن في الآيات بالإيمان بها، والنظر في حقائقها والاقتباس من أنوارها، واشتراء النقض بالوفاء، والفساد بالصلاح، والعقاب بالثواب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله‏}‏ استخبار فيه إنكار، وتَعجيب لكفرهم بإنكار الحال التي يقع عليها على الطريق البرهاني، فإن صدوره لا ينفك عن حال وصفة فإذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها استلزم ذلك إنكار وجوده، فهو أبلغ وأقوى في إنكار الكفر، من ‏(‏أتكفرون‏)‏ وأوفق لما بعده من الحال، والخطاب مع الذين كفروا لما وصفهم بالكفر وسوء المقال وخبث الفعال، خاطبهم على طريقة الالتفات، ووبخهم على كفرهم مع علمهم بحالهم المقتضية خلاف ذلك، والمعنى أخبروني على أي حال تكفرون‏.‏

‏{‏وَكُنتُمْ أمواتا‏}‏ أي أجساماً لا حياة لها، عناصر وأغذية، وأخلاطاً ونطفاً، ومضغاً مخلفة وغير مخلفة‏.‏

‏{‏فأحياكم‏}‏ بخلق الأرواح ونفخها فيكم، وإنما عطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه غير متراخ عنه بخلاف البواقي‏.‏

‏{‏ثُمَّ يُمِيتُكُمْ‏}‏ عندما تقضي آجالكم‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏}‏ بالنشور يوم ينفخ في الصور أو للسؤال في القبور ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ بعد الحشر فيجازيكم بأعمالكم‏.‏ أو تنشرون إليه من قبوركم للحساب، فما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه‏.‏ فإن قيل‏:‏ إن علموا أنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم يميتهم، لم يعلموا أنه يحييهم ثم إليه يرجعون‏.‏ قلت‏:‏ تمكنهم من العلم بهما لما نصب لهم من الدلائل منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر،‏.‏ سيما وفي الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما وهو‏:‏ أنه تعالى لما قدر على إحيائهم أولاً قدر على أن يحييهم ثانياً، فإن بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته‏.‏ أو الخطاب مع القبيلين فإنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد والنبوة، ووعدهم على الإيمان، وأوعدهم على الكفر، أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامة والخاصة، واستقبح صدور الكفر منهم واستبعده عنهم مع تلك النعم الجليلة، فإن عظم النعم يوجب عظم معصية النعم، فإن قيل‏:‏ كيف تعد الإماتة من النعم المقتضية للشكر‏؟‏ قلت‏:‏ لما كانت وصلة إلى الحياة الثانية التي هي الحياة الحقيقية كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الدار الاخرة لَهِىَ الحيوان‏}‏ كانت من النعم العظيمة مع أن المعدود عليهم نعمة هو المعنى المنتزع من القصة بأسرها، كما أن الواقع حالا هو العلم بها لا كل واحدة من الجمل، فإن بعضها ماض وبعضها مستقبل وكلاهما لا يصح أن يقع حالا‏.‏ أو مع المؤمنين خاصة لتقرير المنة عليهم، وتبعيد الكفر عنهم على معنى، كيف يتصور منكم الكفر وكنتم أمواتاً جهالاً، فأحياكم بما أفادكم من العلم والإيمان، ثم يميتكم الموت المعروف، ثم يحييكم الحياة الحقيقية، ثم إليه ترجعون، فيثيبكم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر‏.‏ والحياة حقيقة في القوة الحساسة، أو ما يقتضيها وبها سمي الحيوان حيواناً مجازاً في القوة النامية، لأنها من طلائعها ومقدماتها، وفيما يخص الإنسان من الفضائل، كالعقل والعلم والإيمان من حيث إنها كمالها وغايتها، والموت بإزائها يقال على ما يقابلها في كل مرتبة قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏اعلموا أَنَّ الله يُحْيِيِ الارض بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى الناس‏}‏ وإذا وصف به الباري تعالى أريد بها صحة اتصافه بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوة فينا، أو معنى قائم بذاته يقتضي ذلك على الاستعارة‏.‏ وقرأ يعقوب تَرْجعون بفتح التاء في جميع القرآن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض جَمِيعاً‏}‏ بيان نعمة أخرى مرتبة على الأولى، فإنها خلقهم أحياء قادرين مرة بعد أخرى، وهذه خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم وتم به معاشهم‏.‏ ومعنى ‏{‏لَكُمْ‏}‏ لأجلكم وانتفاعكم في دنياكم باستنفاعكم بها في مصالح أبدانكم بوسط أو بغير وسط، ودينكم بالاستدلال والاعتبار والتعرف لما يلائمها من لذات الآخرة وآلامها، لا على وجه الغرض، فإن الفاعل لغرض مستكمل به، بل على أنه كالغرض من حيث إنه عاقبة الفعل ومؤداه وهو يقتضي إباحة الأشياء النافعة، ولا يمنع اختصاص بعضها ببعض لأسباب عارضة، فإنه يدل على أن الكل للكل لا أن كل واحد لكل واحد‏.‏ وما يعم كل ما في الأرض، إلا إذا أريد بها جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو‏.‏ وجميعاً‏:‏ حال من الموصول الثاني‏.‏

‏{‏ثُمَّ استوى إِلَى السماء‏}‏ قصد إليها بإرادته، من قولهم استوى إليه كالسهم المرسل، إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء‏.‏ وأصل الاستواء طلب السواء، وإطلاقه على الاعتدال لما فيه من تسوية وضع الأجزاء، ولا يمكن حمله عليه لأنه من خواص الأجسام وقيل استوى أي‏:‏ استولى ومَلَكَ، قال‏:‏

قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ على العِرَاق *** مِنْ غَير سَيْفٍ ودَمٍ مُهْرَاقِ

والأول أوفق للأصل والصلة المعدى بها والتسوية المترتبة عليه بالفاء، والمراد بالسماء هذه الأجرام العلوية، أو جهات العلو، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ لعله لتفاوت ما بين الخلقين وفضل خلق السماء على خلق الأرض كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ‏}‏ لا للتراخي في الوقت، فإنه يخالف ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها‏}‏ فإنه يدل على تأخر دحو الأرض المتقدم على خلق ما فيها عن خلق السماء وتسويتها، إلا أن تستأنف بدحاها مقدراً لنصب الأرض فعلاً آخر دل عليه ‏{‏أَاَنتم أَشَدُّ خَلْقاً‏}‏ مثل تعرف الأرض وتدبر أمرها بعد ذلك لكنه خلاف الظاهر‏.‏

‏{‏فَسَوَّاهُنَّ‏}‏ عدلهن وخلقهن مصونة من العوج والفطور‏.‏ و‏{‏هُنَّ‏}‏ ضمير السماء إن فسرت بالأجرام لأنه جمع‏.‏ أو هو في معنى الجمع، وإلا فمبهم يفسره ما بعده كقولهم‏:‏ ربه رجلاً‏.‏

‏{‏سَبْعَ سموات‏}‏ بدل أو تفسير‏.‏ فإن قيل‏:‏ أليس إن أصحاب الأرصاد أثبتوا تسعة أفلاك‏؟‏ قلت‏:‏ فيما ذكروه شكوك، وإن صح فليس في الآية نفي الزائد مع أنه إن ضم إليها العرش والكرسي لم يبق خلاف‏.‏

‏{‏وَهُوَ بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ‏}‏ فيه تعليل كأنه قال‏:‏ ولكونه عالماً بكنه الأشياء كلها، خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع، واستدلال بأن من كان فعله على هذا النسق العجيب، والترتيب الأنيق كان عليماً، فإن إتقان الأفعال وإحكامها وتخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع، لا يتصور إلا من عالم حكيم رحيم، وإزاحة لما يختلج في صدورهم من أن الأبدان بعدما تبددت، وتفتتت أجزاؤها، واتصلت بما يشاكلها، كيف تجمع أجزاء كل بدن مرة ثانية بحيث لا يشذ شيء منها، ولا ينضم إليها ما لم يكن معها فيعاد منها كما كان، ونظيره قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ‏}‏ وعلم أن صحة الحشر مبنية على ثلاث مقدمات، وقد برهن عليها في هاتين الآيتين‏:‏ أما الأولى فهي‏:‏ أن مواد الأبدان قابلة للجمع والحياة وأشار إلى البرهان عليها بقوله‏:‏ ‏{‏وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ‏}‏ فإن تعاقب الافتراق والاجتماع والموت والحياة عليها يدل على أنها قابلة لها بذاتها، وما بالذات يأبى أن يزول ويتغير‏.‏ وأما الثانية والثالثة‏:‏ فإنه عز وجل عالم بها وبمواقعها، قادر على جمعها وإحيائها، وأشار إلى وجه إثباتهما بأنه تعالى قادر على إبدائها وإبداء ما هو أعظم خلقاً وأعجب صنعاً فكان أقدر على إعادتهم وإحيائهم، وأنه تعالى خلق ما خلق خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت واختلال مراعٍ فيه مصالحهم وسد حاجاتهم‏.‏ وذلك دليل على تناهي علمه وكمال حكمته جلت قدرته ودقت حكمته‏.‏ وقد سَكَّنَ نافع وأبو عمرو والكسائي‏:‏ الهاء من نحو فهو وهو تشبيهاً له بعضد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً‏}‏ تعداد لنعمة ثالثة تعم الناس كلهم، فإن خلق آدم وإكرامه وتفضيله على ملائكته بأن أمرهم بالسجود له، إنعام يعم ذريته‏.‏ وإذا‏:‏ ظرف وضع لزمان نسبة ماضية وقع فيه أخرى، كما وضع إذ الزمان نسبة مستقبلة يقع فيه أخرى، ولذلك يجب إضافتهما إلى الجمل كحيث في المكان، وبنيتا تشبيهاً لهما بالموصولات، واستعملتا للتعليل والمجازاة، ومحلهما النصب أبداً بالظرفية فإنهما من الظروف الغير المتصرفة لما ذكرناه، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف‏}‏ ونحوه، فعلى تأويل‏:‏ اذكر الحادث إذا كان كذا، فحذف الحادث وأقيم الظرف مقامه، وعامله في الآية قالوا، أو أذكر على التأويل المذكور لأنه جاء معمولاً له صريحاً في القرآن كثيراً، أو مضمر دل عليه مضمون الآية المتقدمة، مثل وبدأ خلقكم إذ قال، وعلى هذا فالجملة معطوفة على خلق لكم داخلة في حكم الصلة‏.‏ وعن معمر أنه مزيد‏.‏ والملائكة جمع ملأك على الأصل كالشمائل جمع شمأل، والتاء لتأنيث الجمع، وهو مقلوب مألك من الألوكة وهي‏:‏ الرسالة، لأنهم وسائط بين الله تعالى، وبين الناس، فهم رسل الله‏.‏ أو كالرسل إليهم‏.‏ واختلف العقلاء في حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة قائمة بأنفسها‏.‏ فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، مستدلين بأن الرسل كانوا يرونهم كذلك‏.‏ وقالت طائفة من النصارى‏:‏ هي النفوس الفاضلة البشرية المفارقة للأبدان‏.‏ وزعم الحكماء أنهم جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة، منقسمة إلى قسمين‏:‏ قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق جل جلاله والتنزه عن الاشتغال بغيره، كما وصفهم في محكم تنزيله فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يُسَبّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ‏}‏ وهم العليون والملائكة المقربون‏.‏ وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم الإلهي ‏{‏لاَ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ وهم المدبرات أمراً، فمنهم سماوية، ومنهم أرضية، على تفصيل أثبته في كتاب الطوالع‏.‏

والمقول لهم‏:‏ الملائكة كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص، وقيل ملائكة الأرض، وقيل إبليس ومن كان معه في محاربة الجن، فإنه تعالى أسكنهم في الأرض أولاً فأفسدوا فيها، فبعث إليهم إبليس في جند من الملائكة فدمرهم وفرقهم في الجزائر والجبال‏.‏ وجاعل‏:‏ من جعل الذي له مفعولان وهما في ‏{‏الأرض خَلِيفَةً‏}‏ أعمل فيهما، لأنه بمعنى المستقبل ومعتمد على مسند إليه‏.‏ ويجوز أن يكون بمعنى خالق‏.‏ والخليفة من يخلف غيره وينوب منابه، والهاء فيه للمبالغة، والمراد به آدم عليه الصلاة والسلام لأنه كان خليفة الله في أرضه، وكذلك كل نبي استخلفهم الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم، لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه، بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه، وتلقي أمره بغير وسط، ولذلك لم يستنبئ ملكاً كما قال الله تعالى‏:‏

‏{‏وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً‏}‏ ألا ترى أن الأنبياء لما فاقت قوتهم، واشتعلت قريحتهم بحيث يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، أرسل إليهم الملائكة ومن كان منهم أعلى رتبة كلمه بلا واسطة، كما كلم موسى عليه السلام في الميقات، ومحمداً صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، ونظير ذلك في الطبيعة أن العظم لما عجز عن قبول الغذاء من اللحم لما بينهما من التباعد، جعل الباري تعالى بحكمته بينهما الغضروف المناسب لهما ليأخذ من هذا ويعطي ذلك‏.‏ أو خليفة من سكن الأرض قبله، أو هو وذريته لأنهم يخلفون من قبلهم، أو يخلف بعضهم بعضاً‏.‏ وإفراد اللفظ‏:‏ إما للاستغناء بذكره عن ذكر بنيه كما استغني بذكر أبي القبيلة في قولهم‏:‏ مضر وهاشم‏.‏ أو على تأويل من يخلفكم، أو خلفاً يخلفكم‏.‏ وفائدة قوله تعالى هذا للملائكة، تعليم المشاورة، وتعظيم شأن المجعول، بأن بَشَّرَ عز وجل بوجود سكان ملكوته، ولقبه بالخليفة قبل خلقه، وإظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم، وجوابه وبيان أن الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره، فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير إلى غير ذلك‏.‏

‏{‏قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء‏}‏ تَعَجُبٌ من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها، أو يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية، واستكشاف عما خفي عليهم من الحكمة التي بهرت تلك المفاسد وألغتها، واستخبار عما يرشدهم ويزيح شبهتهم كسؤال المتعلم معلمه عما يختلج في صدره، وليس باعتراض على الله تعالى جلت قدرته، ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة، فإنهم أعلى من أن يظن بهم ذلك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ‏}‏ وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى، أو تلق من اللوح، أو استنباط عما ركز في عقولهم أن العصمة من خواصهم، أو قياس لأحد الثقلين على الآخر‏.‏ والسُفْكُ والسَّبْكُ والسَّفْحُ والشَّنُّ أنواع من الصب، فالسفك يقال في الدم والدمع، والسبك في الجواهر المذابة، والسفح في الصب من أعلى، والشن في الصب من فم القربة ونحوها، وكذلك السن، وقرئ ‏{‏يُسْفِكُ‏}‏ على البناء للمفعول، فيكون الراجع إلى ‏{‏مَنْ‏}‏، سواء جعل موصولاً أو موصوفًا محذوفاً، أي‏:‏ يسفك الدماء فيهم‏.‏

‏{‏وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ‏}‏ حال مقررة لجهة الإشكال كقولك‏:‏ أتحسن إلى أعدائك وأنا الصديق المحتاج القديم‏.‏ والمعنى‏:‏ أتستخلف عصاة ونحن معصومون أحقاء بذلك، والمقصود منه، الاستفسار عما رجحهم مع ما هو متوقع منهم على الملائكة المعصومين في الاستخلاف، لا العجب والتفاخر‏.‏ وكأنهم علموا أن المجعول خليفة ذو ثلاث قوى عليها مدار أمره‏:‏ شهوية وغضبية تؤديان به إلى الفساد وسفك الدماء، وعقلية تدعوه إلى المعرفة والطاعة‏.‏

ونظروا إليها مفردة وقالوا‏:‏ ما الحكمة في استخلافه، وهو باعتبار تينك القوتين لا تقتضي الحكمة إيجاده فضلاً عن استخلافه، وأما باعتبار القوة العقلية فنحن نقيم ما يتوقع منها سليماً عن معارضة تلك المفاسد‏.‏ وغفلوا عن فضيلة كل واحدة من القوتين إذا صارت مهذبة مطواعة للعقل، متمرنة على الخير كالعفة والشجاعة ومجاهدة الهوى والإنصاف‏.‏ ولم يعلموا أن التركيب يفيد ما يقصر عنه الآحاد، كالإحاطة بالجزئيات واستنباط الصناعات واستخراج منافع الكائنات من القوة إلى الفعل الذي هو المقصود من الاستخلاف، وإليه أشار تعالى إجمالاً بقوله

‏{‏قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ والتسبيح تبعيد الله تعالى عن السوء وكذلك التقديس، من سَبَح في الأرض والماء، وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد، ويقال قَدُسَ إذا طهر لأن مطهر الشيء مبعد له عن الأقذار‏.‏ و‏{‏بِحَمْدِكَ‏}‏ في موضع الحال، أي‏:‏ متلبسين بحمدك على ما ألهمتنا معرفتك ووفقتنا لتسبيحك، تداركوا به ما أوهم إسناد التسبيح إلى أنفسهم، ونقدس لك نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك، كأنهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك عند قوم بالتسبيح، وسفك الدماء الذي هو أعظم الأفعال الذميمة بتطهير النفوس عن الآثام وقيل‏:‏ نقدسك واللام مزيدة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏وَعَلَّمَ ءادَمَ الأسماء كُلَّهَا‏}‏ إما بخلق علم ضروري بها فيه، أو إلقاء في روعه، ولا يفتقر إلى سابقة اصطلاح ليتسلسل‏.‏ والتعليم فعل يترتب عليه العلم غالباً، ولذلك يقال علمته فلم يتعلم‏.‏ و‏{‏ءادَمَ‏}‏ اسم أعجمي كآزر وشالخ، واشتقاقه من الأُدْمة أو الأَدْمة بالفتح بمعنى الأسوة، أو من أديم الأرض لما روي عنه عليه الصلاة والسلام «أنه تعالى قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها فخلق منها آدم» فلذلك يأتي بنوه أخيافاً، أو من الأدم أو الأدمة بمعنى الألفة، تعسف كاشتقاق إدريس من الدرس، ويعقوب من العقب، وإبليس من الإبلاس‏.‏ والاسم باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشيء ودليلاً يرفعه إلى الذهن مع الألفاظ والصفات والأفعال، واستعماله عرفاً في اللفظ الموضوع لمعنى سواء كان مركباً أو مفرداً مخبراً عنه أو خبراً أو رابطة بينهما‏.‏ واصطلاحاً‏:‏ في المفرد الدال على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة‏.‏ والمراد في الآية إما الأول أو الثاني وهو يستلزم الأول، لأن العلم بألفاظ من حيث الدلالة متوقف على العلم بالمعاني، والمعنى أنه تعالى خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباينة، مستعداً لإدراك أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات، والمتخيلات والموهومات‏.‏ وألهمه معرفة ذوات الأشياء وخواصها وأسمائها وأصول العلوم وقوانين الصناعات وكيفية آلاتها‏.‏

‏{‏ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة‏}‏ الضمير فيه للمسميات المدلول عليها ضمناً إذ التقدير أسماء المسميات، فحذف المضاف إليه لدلالة المضاف عليه وعوض عنه اللام كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واشتعل الرأس شَيْباً‏}‏ لأن العرض للسؤال عن أسماء المعروضات فلا يكون المعروض نفس الأشياء سيما إن أريد به الألفاظ، والمراد به ذوات الأشياء، أو مدلولات الألفاظ، وتذكيره ليغلب ما اشتمل عليه من العقلاء، وقرئ عرضهن وعرضها على معنى عرض مسمياتهن أو مسمياتها‏.‏

‏{‏فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء‏}‏ تبكيت لهم وتنبيه على عجزهم عن أمر الخلافة، فإن التصرف والتدبير إقامة المعدلة قبل تحقق المعرفة، والوقوف على مراتب الاستعدادات وقدر الحقوق محال، وليس بتكليف ليكون من باب التكليف بالمحال، والإنباء‏:‏ إخبار فيه إعلام، ولذلك يجري مجرى كل واحد منهما‏.‏

‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ في زعمكم أَنكُم أَحقاء بالخلافة لعصمتكم، أو أن خلقهم واستخلافهم وهذه صفتهم لا يليق بالحكيم، وهو وإن لم يصرحوا به لكنه لازم مقالهم‏.‏ والتصديق كما يتطرق إلى الكلام باعتبار منطوقه قد يتطرق إليه بفرض ما يلزم مدلوله من الأخبار، وبهذا الاعتبار يعتري الإنشاءات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 33‏]‏

‏{‏قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏32‏)‏ قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ سبحانك لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا‏}‏ اعتراف بالعجز والقصور، وإشعار بأن سؤالهم كان استفساراً ولم يكن اعتراضاً، وأنه قد بان لهم ما خفي عليهم من فضل الإنسان والحكمة في خلقه، وإظهار لشكر نعمته بما عرفهم وكشف لهم ما اعتقل عليهم، ومراعاة للأدب بتفويض العلم كله إليه‏.‏ وسبحان‏:‏ مصدر كغفران ولا يكاد يستعمل إلا مضافاً منصوباً بإضمار فعله، كمعاذ الله‏.‏ وقد أُجْرِيَ علماً للتسبيح بمعنى التنزيه على الشذوذ في قوله‏:‏ سبحان من علقمة الفاخر‏.‏ وتصدير الكلام به اعتذار عن الاستفسار والجهل بحقيقة الحال، ولذلك جعل مفتاح التوبة فقال موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏سبحانك تُبْتُ إِلَيْكَ‏}‏ وقال يونس‏:‏ ‏{‏سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين‏}‏ ‏{‏إِنَّكَ أَنتَ العليم‏}‏ الذي لا يخفي عليه خافية‏.‏ ‏{‏الحكيم‏}‏ المحكم لمبدعاته الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة‏.‏ وأنت فصل، وقيل‏:‏ تأكيد للكاف كما في قولك‏:‏ مررت بك أنت، وإن لم يجز‏:‏ مررت بأنت، إذ التابع يسوغ فيه ما لا يسوغ في المتبوع، ولذلك جاز‏:‏ يا هذا الرجل، ولم يجز‏:‏ يا الرجل، وقيل‏:‏ مبتدأ خبره ما بعده والجملة خبر إن‏.‏

‏{‏قَالَ يَاءادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ أعلمهم، وقرئ بقلب الهمزة ياء وحذفها بكسر الهاء فيهما‏.‏

‏{‏فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرض وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏ استحضار لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ لكنه جاء به على وجه أبسط ليكون كالحجة عليه، فإنه تعالى لما علم ما خفي عليهم من أمور السماوات والأرض، وما ظهر لهم من أحوالهم الظاهرة والباطنة علم ما لا يعلمون، وفيه تعريض بمعاتبتهم على ترك الأولى، وهو أن يتوقفوا مترصدين لأن يبين لهم، وقيل‏:‏ ‏{‏مَا تُبْدُونَ‏}‏ قولهم‏:‏ أتجعل فيها من يفسد فيها‏.‏ وما ‏{‏تَكْتُمُونَ‏}‏ استبطانهم أنهم أحقاء بالخلافة، وأنه تعالى لا يخلق خلقاً أفضل منهم‏.‏ وقيل‏:‏ ما أظهروا من الطاعة، وأسر إبليس منهم من المعصية، والهمزة للإنكار دخلت حرف الجحد فأفادت الإثبات والتقرير‏.‏

واعلم أن هذه الآيات تدل على شرف الإنسان، ومزية العلم وفضله على العبادة، وأنه شرط في الخلافة بل العمدة فيها، وأن التعليم يصح إسناده إلى الله تعالى، وإن لم يصح إطلاق المعلم عليه لاختصاصه بمن يحترف به، وأن اللغات توقيفية، فإن الأسماء تدل على الألفاظ بخصوص أو عموم، وتعليمها ظاهر في إلقائها على المتعلم مبيناً له معانيها، وذلك يستدعي سابقة وضع، والأصل ينفي أن يكون ذلك الوضع ممن كان قبل آدم فيكون من الله سبحانه وتعالى، وأن مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم وإلا لتكرر قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ أَنتَ العليم الحكيم‏}‏ وأن علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة، والحكماء منعوا ذلك في الطبقة العليا منهم، وحملوا عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ‏}‏ وأن آدم أفضل من هؤلاء الملائكة لأنه أعلم منهم، والأعلم أفضل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ وأنه تعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ‏}‏ لما أنبأهم بأسمائهم وعلمهم ما لم يعلموا أمرهم بالسجود له، اعترافاً بفضله، وأداء لحقه واعتذاراً عما قالوا فيه، وقيل‏:‏ أمرهم به قبل أن يسوي خلقه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ ساجدين‏}‏ امتحاناً لهم وإظهاراً لفضله‏.‏ والعاطف عطف الظرف على الظرف السابق إن نصبته بمضمر، وإلا عطفه بما يقدر عاملاً فيه على الجملة المتقدمة، بل القصة بأسرها على القصة الأخرى، وهي نعمة رابعة عدها عليهم‏.‏ والسجود في الأصل تذلل مع تطامن قال الشاعر‏:‏

تَرَى الأَكمَ فيها سُجَّداً للحَوافِر *** وقال آخر‏:‏

وَقُلْنَ لَه اسْجُدْ لِلَيلى فَاسْجَدَا *** يعني البعير إذا طأطأ رأسه‏.‏ وفي الشرع‏:‏ وضع الجبهة على قصد العبادة، والمأمور به إما المعنى الشرعي فالمسجود له بالحقيقة هو الله تعالى، وجعل آدم قبلة لسجودهم تفخيماً لشأنه، أو سبباً لوجوبه فكأنه تعالى لما خلقه بحيث يكون نموذجاً للمبدعات كلها بل الموجودات بأسرها، ونسخة لما في العالم الروحاني والجسماني وذريعة للملائكة إلى استيفاء ما قدر لهم من الكمالات، ووصلة إلى ظهور ما تباينوا فيه من المراتب والدرجات، أمرهم بالسجود تذللاً لما رأوا فيه من عظيم قدرته وباهر آياته، وشكراً لما أنعم عليهم بواسطته، فاللام فيه كاللام في قول حسان رضي الله تعالى عنه‏:‏

أَليْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لقبلتِكُمْ *** وأَعْرَفَ الناسِ بالقرآنِ والسُّنَنِ

أو في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس‏}‏ وأما المعنى اللغوي وهو التواضع لآدم تحية وتعظيماً له، كسجود إخوة يوسف له، أو التذلل والإنقياد بالسعي في تحصيل ما ينوط به معاشهم ويتم به كمالهم‏.‏ والكلام في أن المأمورين بالسجود، الملائكة كلهم، أو طائفة منهم ما سبق‏.‏

‏{‏فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر‏}‏ امتنع عما أمر به، استكباراً من أن يتخذه وصلة في عبادة ربه، أو يعظمه ويتلقاه بالتحية، أو يخدمه ويسعى فيما فيه خيره وصلاحه‏.‏ والإباء‏:‏ امتناع باختيار‏.‏ والتكبر‏:‏ أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره‏.‏ والاستكبار طلب ذلك بالتشبع‏.‏

‏{‏وَكَانَ مِنَ الكافرين‏}‏ أي في علم الله تعالى، أو صار منهم باستقباحه أمر الله تعالى إياه بالسجود لآدم اعتقاداً بأنه أفضل منه، والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالتخضع للمفضول والتوسل به كما أشعر به قوله‏:‏ ‏{‏أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ‏}‏ جواباً لقوله‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين‏}‏ لا بترك الواجب وحده‏.‏ والآية تدل على أن آدم عليه السلام أفضل من الملائكة المأمورين بالسجود له، ولو من وجه، وأن إبليس كان من الملائكة وإلا لم يتناوله أمرهم ولا يصح استثناؤه منهم، ولا يرد على ذلك قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن‏}‏ لجواز أن يقال إنه كان من الجن فعلاً ومن الملائكة نوعاً، ولأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما روي‏:‏ أن من الملائكة ضرباً يتوالدون يقال لهم الجن ومنهم إبليس‏.‏

ولمن زعم أنه لم يكن من الملائكة أن يقول‏:‏ إنه كان جنياً نشأ بين أظهر الملائكة، وكان مغموراً بالألوف منهم فغلبوا عليه، أو الجن أيضاً كانوا مأمورين مع الملائكة لكنه استغنى بذكر الملائكة عن ذكرهم، فإنه إذا علم أن الأكابر مأمورون بالتذلل لأحد والتوسل به، علم أن الأصاغر أيضاً مأمورون به‏.‏ والضمير في فسجدوا راجع إلى القبيلين كأنه، قال فسجد المأمورون بالسجود إلا إبليس، وأن من الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم العصمة، كما أن من الإنس معصومين والغالب فيهم عدم العصمة، ولعل ضرباً من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات، وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات كالبررة والفسقة من الإنس والجن يشملهما‏.‏ وكان إبليس من هذا الصنف كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فلذلك صح عليه التغير عن حاله والهبوط من محله، كما أشار إليه بقوله عز وعلا‏:‏ ‏{‏إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ‏}‏ لا يقال‏:‏ كيف يصح ذلك والملائكة خلقت من نور والجن من نار‏؟‏ لما روت عائشة رضي الله تعالى عنها أنه عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ «خلقت الملائكة من النور، وخلق الجن من مارج من نار» لأنه كالتمثيل لما ذكرنا فإن المراد بالنور الجوهر المضيء والنار كذلك، غير أن ضوءها مكدر مغمور بالدخان محذور عنه بسبب ما يصحبه من فرط الحرارة والإحراق، فإذا صارت مهذبة مصفاة كانت محض نور، ومتى نكصت عادت الحالة الأولى جذعة ولا تزال تتزايد حتى ينطفئ نورها ويبقى الدخان الصرف، وهذا أشبه بالصواب وأوفق للجمع بين النصوص، والعلم عند الله سبحانه وتعالى‏.‏

ومن فوائد الآية استقباح الاستكبار وأنه قد يفضي بصاحبه إلى الكفر، والحث على الائتمار لأمره وترك الخوض في سره، وأن الأمر للوجوب، وأن الذي علم الله تعالى من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة، إذ العبرة بالخواتم وإن كان بحكم الحال مؤمناً وهو الموافاة المنسوبة إلى شيخنا أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى‏.‏