فصل: تفسير الآية رقم (71)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ‏}‏ في مقابلة قوله المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ‏{‏يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَيُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ في سائر الأمور‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله‏}‏ لا محالة فإن السين مؤكدة للوقوع‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله عَزِيزٌ‏}‏ غالب على كل شيء لا يمتنع عليه ما يريده‏.‏ ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ يضع الأشياء مواضعها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ومساكن طَيّبَةً‏}‏ تستطيبها النفس أو يطيب فيها العيش وفي الحديث أنها قصور من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر‏.‏ ‏{‏فِى جنات عَدْنٍ‏}‏ إقامة وخلود‏.‏ وعنه عليه الصلاة والسلام عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة النبيون والصديقون والشهداء يقول الله تعالى‏:‏ طوبى لمن دخلك‏.‏ ومرجع العطف فيها يحتمل أن يكون إلى تعدد الموعود لكل واحد أو للجميع على سبيل التوزيع، أو إلى تغاير وصفه فكأنه وصفه أولاً بأنه من جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها لتميل إليه طباعهم أول ما يقرع أسماعهم، ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش معرى عن شوائب الكدورات التي لا تخلو عن شيء منها أماكن الدنيا وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار عليين لا يعتريهم فيها فناء ولا تغير، ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ورضوان مّنَ الله أَكْبَرُ‏}‏ لأنه المبدأ لكل سعادة وكرامة والمؤدي إلى نيل الوصول والفوز باللقاء، وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله تعالى يقول لأهل الجنة هل رضيتم فيقولون‏:‏ وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك فيقول‏:‏ أنا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون‏:‏ وأي شيء من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الرضوان أو جميع ما تقدم‏.‏ ‏{‏هُوَ الفوز العظيم‏}‏ الذي تستحقر دونه الدنيا وما فيها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النبى جاهد الكفار‏}‏ بالسيف‏.‏ ‏{‏والمنافقين‏}‏ بإلزام الحجة وإقامة الحدود‏.‏ ‏{‏واغلظ عَلَيْهِمْ‏}‏ في ذلك ولا تحابهم‏.‏ ‏{‏وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير‏}‏ مصيرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ‏}‏ روي أنه صلى الله عليه وسلم أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المتخلفين فقال الجلاس بن سويد‏:‏ لئن كان ما يقول محمد لإخواننا حقاً لنحن شر من الحمير، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحضره فحلف بالله ما قاله فنزلت فتاب الجلاس وحسنت توبته‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم‏}‏ وأظهروا الكفر بعد إظهار الإِسلام‏.‏ ‏{‏وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ‏}‏ من فتك الرسول، وهو أن خمسة عشر منهم توافقوا عند مرجعه من تبوك أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذ تسنم العقبة بالليل، فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح فقال إليكم إليكم يا أعداء الله فهربوا، أو إخراجه وإخراج المؤمنين من المدينة أو بأن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏وَمَا نَقَمُواْ‏}‏ وما أنكروا أو ماوجدوا ما يورث نقمتهم‏.‏ ‏{‏إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ‏}‏ فإن أكثر أهل المدينة كانوا محاويج في ضنك من العيش، فلما قدمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى‏.‏ والاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل أو العلل‏.‏ ‏{‏فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ وهو الذي حمل الجلاس على التوبة والضمير في ‏{‏يَكُ‏}‏ للتوب‏.‏ ‏{‏وَإِن يَتَوَلَّوْا‏}‏ بالإِصرار على النفاق‏.‏ ‏{‏يُعَذّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدنيا والأخرة‏}‏ بالقتل والنار‏.‏ ‏{‏وَمَا لَهُمْ فِى الأرض مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏ فينجيهم من العذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَّنْ عاهد الله لَئِنْ ءاتانا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين‏}‏ نزلت في ثعلبة بن حاطب أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ادع الله أن يرزقني مالاً فقال عليه الصلاة والسلام «يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» فراجعه وقال‏:‏ والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالاً لأعطين كل ذي حق حقه، فدعا له فاتخذ غنماً، فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة، فنزل وادياً وانقطع عن الجماعة والجمعة، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل كثر ماله حتى لا يسعه واد فقال‏:‏ يا ويح ثعلبة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقين لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ومرا بثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه الكتاب الذي فيه الفرائض فقال‏:‏ ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية فارجعا حتى أرى رأيي فنزلت، فجاء ثعلبة بالصدقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله منعني أن أقبل منك فجعل يحثو التراب على رأسه فقال هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فلم يقبلها، ثم جاء إلى عمر رضي الله تعالى عنه في خلافته فلم يقبلها وهلك في زمان عثمان رضي الله تعالى عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 82‏]‏

‏{‏فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏76‏)‏ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ‏(‏77‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏78‏)‏ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏79‏)‏ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏80‏)‏ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ‏(‏81‏)‏ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ‏}‏ منعوا حق الله منه‏.‏ ‏{‏وَتَوَلَّواْ‏}‏ عن طاعة الله‏.‏ ‏{‏وَهُم مُّعْرِضُونَ‏}‏ وهم قوم عادتهم الإِعراض عنها‏.‏

‏{‏فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ‏}‏ أي فجعل الله عاقبة فعلهم ذلك نفاقاً وسوء اعتقاد في قلوبهم، ويجوز أن يكون الضمير للبخل والمعنى فأورثهم البخل نفاقاً متمكناً في قلوبهم‏.‏ ‏{‏إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ‏}‏ يلقون الله بالموت أو يلقون عملهم أي جزاءه وهو يوم القيامة ‏{‏بِمَا أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ‏}‏ بسبب إخلافهم ما وعدوه من التصدق والصلاح‏.‏ ‏{‏وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ‏}‏ وبكونهم كاذبين فيه فإن خلف الوعد متضمن للكذب مستقبح من الوجهين أو المقال مطلقاً وقرئ ‏{‏يَكْذِبُونَ‏}‏ بالتشديد‏.‏

‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُواْ‏}‏ أي المنافقون أو من عاهد الله وقرئ بالتاء على الالتفات‏.‏ ‏{‏أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ‏}‏ ما أسروه في أنفسهم من النفاق أو العزم على الإخلاف‏.‏ ‏{‏ونجواهم‏}‏ وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن، أو تسمية الزكاة جزية‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الله علام الغيوب‏}‏ فلا يخفى عليه ذلك‏.‏

‏{‏الذين يَلْمِزُونَ‏}‏ ذم مرفوع أو منصوب أو بدل من الضمير في سرهم‏.‏ وقرئ ‏{‏يُلْمِزُونَ‏}‏ بالضم‏.‏ ‏{‏المطوعين‏}‏ المتطوعين‏.‏ ‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصدقات‏}‏ روي‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال كان لي ثمانية آلاف درهم فأقرضت ربي أربعة وأمسكت لعيالي أربعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت» فبارك الله له حتى صولحت إحدى امرأتيه عن نصف الثمن على ثمانين ألف درهم، وتصدق عاصم بن عدي بمائة وسق من تمر، وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع تمر فقال بت ليلتي أجر بالجرير على صاعين فتركت صاعاً لعيالي وجئت بصاع، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره على الصدقات فلمزهم المنافقون وقالوا‏:‏ ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء ولقد كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل ولكنه أحب أن يذكر بنفسه ليعطى من الصدقات‏.‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ‏}‏ إلا طاقتهم‏.‏ وقرئ بالفتح وهو مصدر جهد في الأمر إذا بالغ فيه‏.‏ ‏{‏فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ‏}‏ يستهزئون بهم‏.‏ ‏{‏سَخِرَ الله مِنْهُمْ‏}‏ جازاهم على سخريتهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ‏}‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ على كفرهم‏.‏

‏{‏استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ‏}‏ يريد به التساوي بين الأمرين في عدم الإفادة لهم كما نص عليه بقوله‏:‏ ‏{‏إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ‏}‏‏.‏ روي أن عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان من المخلصين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض أبيه أن يستغفر له، ففعل عليه الصلاة والسلام فنزلت، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ لأزيدن على السبعين فنزلت‏:‏

‏{‏سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَوَ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ‏}‏ وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام فهم من السبعين العدد المخصوص لأنه الأصل فجوز أن يكون ذلك حداً يخالفه حكم ما وراءه، فبين له أن المراد به التكثير دون التحديد، وقد شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة ونحوها في التكثير، لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد فكأنّه العدد بأسره‏.‏ ‏{‏ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ‏}‏ إشارة إلى أن اليأس من المغفرة وعدم قبول استغفارك ليس لبخل منا ولا قصور فيك بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عنها‏.‏ ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين‏}‏ المتمردين في كفرهم، وهو كالدليل على الحكم السابق فإن مغفرة الكافر بالإِقلاع عن الكفر والإِرشاد إلى الحق، والمنهمك في كفره المطبوع عليه لا ينقلع ولا يهتدي، والتنبيه على عذر الرسول في استغفاره وهو عدم يأسه من إيمانهم ما لم يعلم أنهم مطبوعون على الضلالة، والممنوع هو الاستغفار بعد العلم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قربى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجَحِيم‏}‏ ‏{‏فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خلاف رَسُولِ الله‏}‏ بقعودهم عن الغزو خلفه يقال أقام خلاف الحي أي بعدهم، ويجوز أن يكون بمعنى المخالفة فيكون انتصابه على العلة أو الحال‏.‏ ‏{‏وَكَرِهُواْ أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ إيثاراً للدعة والخفض على طاعة الله، وفيه تعريض بالمؤمنين الذين آثروا عليها تحصيل رضاه ببذل الأموال والمهج‏.‏ ‏{‏وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الحر‏}‏ أي قال بعضهم لبعض أو قالوه للمؤمنين تثبيطاً‏.‏ ‏{‏قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا‏}‏ وقد آثرتموها بهذه المخالفة‏.‏ ‏{‏لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ‏}‏ أن مآبهم إليها، أو أنها كيف هي ما اختاروها بإيثار الدعة على الطاعة‏.‏

‏{‏فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ إخبار عما يؤول إليه حالهم في الدنيا والآخرة أخرجه على صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم واجب، ويجوز أن يكون الضحك والبكاء كنايتين عن السرور والغم والمراد من القلة العدم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ‏}‏ فإن ردك إلى المدينة وفيها طائفة من المتخلفين يعني منافقيهم فإن كلهم لم يكونوا منافقين، أو من بقي منهم وكان المتخلفون اثني عشر رجلاً‏.‏ ‏{‏فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ‏}‏ إلى غزوة أخرى بعد تبوك ‏{‏فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تقاتلوا مَعِىَ عَدُوّا‏}‏ إخبار في معنى النهي للمبالغة‏.‏ ‏{‏إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ تعليل له وكان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم و‏{‏أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ هي الخرجة إلى غزوة تبوك‏.‏ ‏{‏فاقعدوا مَعَ الخالفين‏}‏ أي المتخلفين لعدم لياقتهم للجهاد كالنساء والصبيان‏.‏ وقرئ مع «الخلفين» على قصر ‏{‏الخالفين‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً‏}‏ روي‏:‏ ‏(‏أن عبد الله بن أبي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه، فلما دخل عليه سأله أن يستغفر له ويكفنه في شعاره الذي يلي جسده ويصلي عليه فلما مات أرسل قميصه ليكفن فيه وذهب ليصلي عليه‏)‏ فنزلت‏.‏ وقيل صلى عليه ثم نزلت، وإنما لم ينه عن التكفين في قميصه ونهى عن الصلاة عليه لأن الضن بالقميص كان مخلاً بالكرم ولأنه كان مكافأة لإلباسه العباس قميصه حين أسر ببدر، والمراد من الصلاة الدعاء للميت والاستغفار له وهو ممنوع في حق الكافر ولذلك رتب النهي على قوله‏:‏ ‏{‏مَّاتَ أَبَداً‏}‏ يعني الموت على الكفر فإن إحياء الكافر للتعذيب دون التمتع فكأنه لم يحيَ‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ‏}‏ ولا تقف عند قبره للدفن أو الزيارة‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فاسقون‏}‏ تعليل للنهي أو لتأبيد الموت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وأولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذّبَهُمْ بِهَا فِى الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون‏}‏ تكرير للتأكيد والأمر حقيق به فإن الأبصار طامحة إلى الأموال والأولاد والنفوس مغتبطة عليها‏.‏ ويجوز أن تكون هذه في طريق غير الأول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 91‏]‏

‏{‏وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ‏(‏86‏)‏ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏87‏)‏ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏88‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏89‏)‏ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏90‏)‏ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ‏}‏ من القرآن ويجوز أن يراد بها بعضها‏.‏ ‏{‏أَن آمِنُوا بِاللهِ‏}‏ بأن آمنوا بالله ويجوز أن تكون أن المفسرة‏.‏ ‏{‏وجاهدوا مَعَ رَسُولِهِ استأذنك أُوْلُواْ الطول مِنْهُمْ‏}‏ ذوو الفضل والسعة‏.‏ ‏{‏وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين‏}‏ الذين قعدوا لعذر‏.‏

‏{‏رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف‏}‏ مع النساء جمع خالفه وقد يقال الخالفة للذي لا خير فيه‏.‏ ‏{‏وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ‏}‏ ما في الجهاد وموافقة الرسول من السعادة وما في التخلف عنه من الشقاوة‏.‏

‏{‏لكن الرسول والذين ءامَنُواْ مَعَهُ جاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ‏}‏ أي إن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا فقد جاهد من هو خير منهم‏.‏ ‏{‏وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الخيرات‏}‏ منافع الدارين النصر والغنيمة في الدنيا والجنة والكرامة في الآخرة‏.‏ وقيل الحور لقوله تعالى؛ ‏{‏فِيهِنَّ خيرات حِسَانٌ‏}‏ وهي جمع خيرة تخفيف خيرة‏.‏ ‏{‏وأولئك هُمُ المفلحون‏}‏ الفائزون بالمطالب‏.‏

‏{‏أَعَدَّ الله لَهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ذلك الفوز العظيم‏}‏ بيان لما لهم من الخيرات الأخروية‏.‏

‏{‏وَجَاء المعذرون مِنَ الأعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ‏}‏ يعني أسداً وغطفان استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال‏.‏ وقيل هم رهط عامر بن الطفيل قالوا إن غزونا معك أغارت طيئ على أهالينا ومواشينا‏.‏ والمعذر إما من عذر في الأمر إذا قصر فيه موهماً أن له عذراً ولا عذر له، أو من اعتذر إذا مهد العذر بادغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين، ويجوز كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها للاتباع لكن لم يقرأ بهما‏.‏ وقرأ يعقوب ‏{‏المعذرون‏}‏ من أعذر إذا اجتهد في العذر‏.‏ وقرئ ‏{‏المعذرون‏}‏ بتشديد العين والذال على أنه من تعذر بمعنى اعتذر وهو لحن إذ التاء لا تدغم في العين، وقد اختلف في أنهم كانوا معتذرين بالتصنع أو بالصحة فيكون قوله‏:‏ ‏{‏وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ في غيرهم وهم منافقو الأعراب كذبوا الله ورسوله في إدعاء الإِيمان وإن كانوا هم الأولين فكذبهم بالاعتذار‏.‏ ‏{‏سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ‏}‏ من الأعراب أو من المعذرين فإن منهم من اعتذر لكسله لا لكفره ‏{‏عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ بالقتل والنار‏.‏

‏{‏لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى‏}‏ كالهرمى والزمنى‏.‏ ‏{‏وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ‏}‏ لفقرهم كجهينة ومزينة وبني عذرة‏.‏ ‏{‏حَرَجٌ‏}‏ إثمٌ في التأخر‏.‏ ‏{‏إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ بالإِيمان والطاعة في السر والعلانية كما يفعل الموالي الناصح، أو بما قدروا عليه فعلاً أو قولاً يعود على الإِسلام والمسلمين بالصلاح ‏{‏مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ‏}‏ أي ليس عليهم جناح ولا إلى معاتبتهم سبيل وإنما وضع المحسنين موضع الضمير للدلالة على أنهم منخرطون في سلك المحسنين غير معاتبين لذلك‏.‏ ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ لهم أو للمسيء فكيف للمحسن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ‏}‏ عطف على ‏{‏الضعفاء‏}‏ أو على ‏{‏المحسنين‏}‏، وهم البكاؤون سبعة من الأنصار‏:‏ معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب وسالم بن عمير وثعلبة بن غنمة وعبد الله بن مغفل وعلية ابن زيد، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ قد نذرنا الخروج فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغز معك، فقال عليه السلام‏:‏ «لا أجد ما أحملكم» عليه فتولوا وهم يبكون‏.‏ وقيل هم بنو مقرن معقل وسويد والنعمان‏.‏ وقيل أبو موسى وأصحابه‏.‏ ‏{‏قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ‏}‏ حال من الكاف في ‏{‏أَتَوْكَ‏}‏ بإضمار قد‏.‏ ‏{‏تَوَلَّوْاْ‏}‏ جواب إذا‏.‏ ‏{‏وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ‏}‏ تسيل‏.‏ ‏{‏مِنَ الدمع‏}‏ أي دمعاً فإن من للبيان وهي مع المجرور في محل النصب على التمييز وهو أبلغ من يفيض دمعها، لأنه يدل على أن العين صارت دمعاً فياضاً‏.‏ ‏{‏حَزَناً‏}‏ نصب على العلة أو الحال أو المصدر لفعل دل عليه ما قبله‏.‏ ‏{‏أَلاَّ يَجِدُواْ‏}‏ لئلا يجدوا متعلق ب ‏{‏حَزَناً‏}‏ أو ب ‏{‏تَفِيضُ‏}‏‏.‏ ‏{‏مَا يُنْفِقُونَ‏}‏ في مغزاهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا السبيل‏}‏ بالمعاتبة‏.‏ ‏{‏عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء‏}‏ واجدون الأهبة‏.‏ ‏{‏رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف‏}‏ استئناف لبيان ما هو السبب لاستئذانهم من غير عذر وهو رضاهم بالدناءة والانتظام في جملة الخوالف إيثاراً للدعة‏.‏ ‏{‏وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ‏}‏ حتى غفلوا عن وخامة العاقبة‏.‏ ‏{‏فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ مغبته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ‏}‏ في التخلف‏.‏ ‏{‏إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ‏}‏ من هذه السفرة‏.‏ ‏{‏قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ‏}‏ بالمعاذير الكاذبة لأنه‏:‏ ‏{‏لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ‏}‏ لن نصدقكم لأنه‏:‏ ‏{‏قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ‏}‏ أعلمنا بالوحي إلى نبيه بعض أخباركم وهو ما في ضمائركم من الشر والفساد‏.‏ ‏{‏وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ‏}‏ أتتوبون عن الكفر أم تثبتون عليه فكأنه استتابة وإمهال للتوبة‏.‏ ‏{‏ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة‏}‏ أي إليه فوضع الوصف موضع الضمير للدلالة على أنه مطلع على سرهم وعلنهم لا يفوت عن علمه شيء من ضمائرهم وأعمالهم‏.‏ ‏{‏فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ بالتوبيخ والعقاب عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ‏}‏ فلا تعاتبوهم ‏{‏فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ‏}‏ ولا توبخوهم‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ رِجْسٌ‏}‏ لا ينفع فيهم التأنيب فإن المقصود منه التطهير بالحمل على الإنابة وهؤلاء أرجاس لا تقبل التطهير فهو علة الإِعراض وترك المعاتبة‏.‏ ‏{‏وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ‏}‏ من تمام التعليل وكأنه قال‏:‏ إنهم أرجاس من أهل النار لا ينفع فيهم التوبيخ في الدنيا والآخرة، أو تعليل ثان والمعنى‏:‏ أن النار كفتهم عتاباً فلا تتكلفوا عتابهم‏.‏ ‏{‏جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ يجوز أن يكون مصدراً وأن يكون علة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ‏}‏ بحلفهم فتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم‏.‏ ‏{‏فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين‏}‏ أي فإن رضاكم لا يستلزم رضا الله ورضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كانوا في سخط الله وبصدد عقابه، وإن أمكنهم أن يلبسوا عليكم لا يمكنهم أن يلبسوا على الله فلا يهتك سترهم ولا ينزل الهوان بهم، والمقصود من الآية النهي عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم بعد الأمر بالإعراض وعدم الالتفات نحوهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏الأعراب‏}‏ أهل البدو‏.‏ ‏{‏أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا‏}‏ من أهل الحضر لتوحشهم وقساوتهم وعدم مخالطتهم لأهل العلم وقلة استماعهم للكتاب والسنة‏.‏ ‏{‏وَأَجْدَرُ أَن لا يَعْلَمُواْ‏}‏ وأحق بأن لا يعلموا‏.‏ ‏{‏حُدُودَ مَا أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ‏}‏ من الشرائع فرائضها وسنتها‏.‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ بعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر‏.‏ ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم عقاباً وثواباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ‏}‏ يعْدُّ‏.‏ ‏{‏مَا يُنفِقُ‏}‏ يصرفه في سبيل الله ويتصدق به‏.‏ ‏{‏مَغْرَمًا‏}‏ غرامة وخسراناً إذ لا يحتسبه قربة عند الله ولا يرجو عليه ثواباً وإنما ينفق رياء أو تقية‏.‏ ‏{‏وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر‏}‏ دوائر الزمان ونوبه لينقلب الأمر عليكم فيتخلص من الانفاق‏.‏ ‏{‏عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء‏}‏ اعتراض بالدعاء عليهم بنحو ما يتربصون أو الإِخبار عن وقوع ما يتربصون عليهم، والدائرة في الأصل مصدر أو اسم فاعل من دار يدور وسمي به عقبة الزمان، و‏{‏السوء‏}‏ بالفتح مصدر أضيف إليه للمبالغة كقولك رجل صدق‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏السوء‏}‏ هنا‏.‏ وفي الفتح بضم السين‏.‏ ‏{‏والله سَمِيعٌ‏}‏ لما يقولون عند الانفاق‏.‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بما يضمرون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 102‏]‏

‏{‏وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏99‏)‏ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏100‏)‏ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ‏(‏101‏)‏ وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏102‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قربات عِندَ الله‏}‏ سبب ‏{‏قربات‏}‏ وهي ثاني مفعولي ‏{‏يَتَّخِذِ‏}‏، وعند الله صفتها أو ظرف ل ‏{‏يَتَّخِذِ‏}‏‏.‏ ‏{‏وصلوات الرسول‏}‏ وسبب صلواته لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمتصدقين ويستغفر لهم، ولذلك سن للمتصدق عليه أن يدعو للمصدق عند أخذ صدقته لكن ليس له أن يصلي عليه كما قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اللهم صِل على آل أبي أوفى ‏"‏ لأنه منصبه فله أن يتفضل به على غيره‏.‏ ‏{‏أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ‏}‏ شهادة من الله بصحة معتقدهم وتصديق لرجائهم على الاستئناف مع حرف التنبيه وإن المحققة للنسبة والضمير لنفقتهم وقرأ ورش ‏{‏قُرْبَةٌ‏}‏ بضم الراء‏.‏ ‏{‏سَيُدْخِلُهُمُ الله فِى رَحْمَتِهِ‏}‏ وعدلهم بإحاطة الرحمة عليهم والسين لتحقيقه وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ لتقريره‏.‏ وقيل الأولى في أسد وغطفان وبني تميم والثانية في عبد الله ذي البجادين وقومه‏.‏

‏{‏والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين‏}‏ هم الذين صلوا إلى القبلتين أو الذين شهدوا بدراً أو الذين أسلموا قبل الهجرة‏.‏ ‏{‏والانصار‏}‏ أهل بيعة العقبة الأولى‏.‏ وكانوا سبعة وأهل بيعة العقبة الثانية وكانوا سبعين والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة صعب بن عمير‏.‏ وقرئ بالرفع عطفاً على ‏{‏والسابقون‏}‏‏.‏ ‏{‏والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ‏}‏ اللاحقون بالسابقين من القبيلتين، أو من اتبعوهم بالإِيمان والطاعة إلى يوم القيامة‏.‏ ‏{‏رَّضِىَ الله عَنْهُمْ‏}‏ بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم‏.‏ ‏{‏وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ بما نالوا من نعمه الدينية والدنيوية‏.‏ ‏{‏وَأَعَدَّ لَهُمْ جنات تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار‏}‏ وقرأ ابن كثير «من تحتها الأنهار» كما في سائر المواضع‏.‏ ‏{‏خالدين فِيهَا أَبَداً ذلك الفوز العظيم‏}‏‏.‏

‏{‏وَمِمَّنْ حَوْلَكُم‏}‏ أي وممن حول بلدتكم يعني المدينة‏.‏ ‏{‏مّنَ الأعراب منافقون‏}‏ هم جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار كانوا نازلين حولها‏.‏ ‏{‏وَمِنْ أَهْلِ المدينة‏}‏ عطف على ‏{‏مِمَّنْ حَوْلَكُم‏}‏ أو خبر لمحذوف صفته‏.‏ ‏{‏مَرَدُواْ عَلَى النفاق‏}‏ ونظيره في حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه قوله‏:‏

أَنَا ابنُ جَلا *** وَطَلاَّع الثنَايَا

وعلى الأول صفة للمنافقين فصل بينها وبينه بالمعطوف على الخبر أو كلام مبتدأ لبيان تمرنهم وتمهرهم في النفاق‏.‏ ‏{‏لاَ تَعْلَمُهُمْ‏}‏ لا تعرفهم بأعيانهم وهو تقرير لمهارتهم فيه وتنوقهم في تحامي مواقع التهم إلى حد أخفى عليك حالهم مع كمال فطنتك وصدق فراستك‏.‏ ‏{‏نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ‏}‏ ونطلع على أسرارهم إن قدروا أن يلبسوا عليك لم يقدروا أن يلبسوا علينا‏.‏ ‏{‏سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ‏}‏ بالفضيحة والقتل أو بأحدهما وعذاب القبر، أو بأخذ الزكاة ونهك الأبدان‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ‏}‏ إلى عذاب النار‏.‏

‏{‏وَءاخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ‏}‏ ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة، وهم طائفة من المتخلفين أوثقوا أنفسهم على سَوَاري المسجد لما بلغهم ما نزل في المتخلفين، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد على عادته فصلى ركعتين فرآهم فسأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى تحلهم فقال‏:‏ وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم فنزلت فأطلقهم‏.‏ ‏{‏خَلَطُواْ عَمَلاً صالحا وَءاخَرَ سَيّئاً‏}‏ خلطوا الفعل الصالح الذي هو إظهار الندم والاعتراف بالذنب بآخر سيء هو التخلف وموافقة أهل النفاق، والواو إما بمعنى الباء كما في قولهم بعت الشاء شاة ودرهماً‏.‏ أو للدلالة على أن كل واحد منهما مخلوط بالآخر‏.‏ ‏{‏عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ أن يقبل توبتهم وهي مدلول عليها بقوله ‏{‏اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ‏}‏‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً‏}‏ روي‏:‏ أنهم لما أُطْلِقُوا قالوا يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا فتصدق بها وطهرنا فقال‏:‏ «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً» فنزلت‏.‏ ‏{‏تُطَهّرُهُمْ‏}‏ من الذنوب أو حب المال المؤدي بهم إلى مثله‏.‏ وقرئ ‏{‏تُطَهّرُهُمْ‏}‏ من أطهره بمعنى طهره و‏{‏تُطَهّرُهُمْ‏}‏ بالجزم جواباً للأمر‏.‏ ‏{‏وَتُزَكّيهِمْ بِهَا‏}‏ وتنمي بها حسناتهم وترفعهم إلى منازل المخلصين‏.‏ ‏{‏وَصَلّ عَلَيْهِمْ‏}‏ واعطف عليهم بالدعاء والاستغفار لهم‏.‏ ‏{‏إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ‏}‏ تسكن إليها نفوسهم وتطمئن بها قلوبهم، وجمعها لتعدد المدعو لهم وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالتوحيد‏.‏ ‏{‏والله سَمِيعٌ‏}‏ لاعترافهم‏.‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بندامتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏104‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُواْ‏}‏ الضمير إما للمتوب عليهم والمراد أن يمكن في قلوبهم قبول توبتهم والاعتداد بصدقاتهم، أو لغيرهم والمراد به التحضيض عليهما‏.‏ ‏{‏أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ‏}‏ إذا صحت وتعديته ب ‏{‏عَنْ‏}‏ لتضمنه معنى التجاوز‏.‏ ‏{‏وَيَأْخُذُ الصدقات‏}‏ يقبلها قبول من يأخذ شيئاً ليؤدي بدله‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم‏}‏ وأن من شأنه قبول توبة التائبين والتفضل عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏وَقُلِ اعملوا‏}‏ ما شئتم‏.‏ ‏{‏فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ‏}‏ فإنه لا يخفى عليه خيراً كان أو شراً‏.‏ ‏{‏وَرَسُولُهُ والمؤمنون‏}‏ فإنه تعالى لا يخفى عنهم كما رأيتم وتبين لكم‏.‏ ‏{‏وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة‏}‏ بالموت‏.‏ ‏{‏فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ بالمجازاة عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏106‏)‏‏}‏

‏{‏وَءاخَرُونَ‏}‏ من المتخلفين‏.‏ ‏{‏مُرْجَونَ‏}‏ مؤخرون أي موقوف أمرهم من أرجأته إذا أخرته‏.‏ وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص ‏{‏مرجون‏}‏ بالواو وهما لغتان‏.‏ ‏{‏لأَمْرِ الله‏}‏ في شأنهم‏.‏ ‏{‏إِمَّا يُعَذّبُهُمْ‏}‏ إن أصروا على النفاق‏.‏ ‏{‏وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ‏}‏ إن تابوا والترديد للعباد، وفيه دليل على أن كلا الأمرين بإرادة الله تعالى‏.‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ بأحوالهم‏.‏ ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ فيما يفعل بهم‏.‏ وقرئ «والله غفور رحيم»، والمراد بهؤلاء كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم، فلما رأوا ذلك أخلصوا نياتهم وفوضوا أمرهم إلى الله فرحمهم الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏والذين اتخذوا مَسْجِدًا‏}‏ عطف على ‏{‏وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ‏}‏، أو مبتدأ خبره محذوف أي وفيمن وصفنا الذين اتخذوا أو منصوب على الاختصاص‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر بغير الواو ‏{‏ضِرَارًا‏}‏ مضارة للمؤمنين‏.‏ وروي‏:‏ «أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوانهم بنو غنم بن عوف، فبنوا مسجداً على قصد أن يؤمهم فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام فلما أتموه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ إنا قد بنينا مسجداً لذي الحاجة والعلة والليلة المطيرة والشاتية فصل فيه حتى نتخذه مصلى فأخذ ثوبه ليقوم معهم فنزلت، فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن والوحشي فقال لهم‏:‏ انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ففعل واتخذ مكانه كناسة» ‏{‏وَكُفْراً‏}‏ وتقوية للكفر الذي يضمرونه‏.‏ ‏{‏وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين‏}‏ يريد الذي كانوا يجتمعون للصلاة في مسجد قباء‏.‏ ‏{‏وَإِرْصَادًا‏}‏ ترقباً‏.‏ ‏{‏لّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ‏}‏ يعني الراهب فإنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد‏:‏ لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين حتى انهزم مع هوازن وهرب إلى الشام ليأتي من قيصر بجنود يحارب بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات بقنسرين وحيداً، وقيل كان يجمع الجيوش يوم الأحزاب فلما انهزموا خرج إلى الشام‏.‏ و‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ متعلق ب ‏{‏حَارَبَ‏}‏ أو ب ‏{‏اتخذوا‏}‏ أي اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف، لما روي أنه بني قبيل غزوة تبوك فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيه فقال‏:‏ أنا على جناح سفر وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه فلما قفل كرر عليه‏.‏ فنزلت ‏{‏وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى‏}‏ ما أردنا ببنائه إلا الخصلة الحسنى أو الإرادة الحسنى وهي الصلاة والذكر والتوسعة على المصلين ‏{‏والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ في حلفهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا‏}‏ للصلاة‏.‏ ‏{‏لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التقوى‏}‏ يعني مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء من الاثنين إلى الجمعة لأنه أوفق للقصة، أو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أبي سعيد رضي الله عنه‏:‏ «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال ‏"‏ هو مسجدكم هذا مسجد المدينة ‏"‏ ‏{‏مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ‏}‏ من أيام وجوده ومن يعم الزمان والمكان كقوله‏:‏

لِمَنِ الدِّيَارُ بِقُنةِ الحَجَر *** أَقَوَيْنَ مِنْ حجَجِ وَمِنْ دَهرٍ

‏{‏أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ‏}‏ أولى بأن تصلي فيه‏.‏ ‏{‏فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ‏}‏ من المعاصي والخصال المذمومة طلباً لمرضاة الله سبحانه وتعالى، وقيل من الجنابة فلا ينامون عليها‏.‏ ‏{‏والله يُحِبُّ المطهرين‏}‏ يرضى عنهم ويدنيهم من جنابه تعالى إدناء المحب حبيبه‏.‏ قيل لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ أمؤمنون أنتم ‏"‏ فسكتوا‏.‏‏.‏ فأعادها فقال عمر‏:‏ إنهم مؤمنون وأنا معهم، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ أترضون بالقضاء ‏"‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ أتصبرون على البلاء ‏"‏ قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏"‏ أتشكرون في الرخاء ‏"‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أنتم مؤمنون ورب الكعبة ‏"‏ فجلس ثم قال‏:‏ ‏"‏ يا معشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط ‏"‏ فقالوا‏:‏ يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا النبي‏:‏ ‏{‏فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ‏}‏ ‏{‏أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ‏}‏ بنيان دينه‏.‏ ‏{‏على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ‏}‏ على قاعدة محكمة هو التقوى من الله وطلب مرضاته بالطاعة‏.‏ ‏{‏أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ‏}‏ على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها‏.‏ ‏{‏فانهار بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ‏}‏ فأدى به لخوره وقلة استمساكه إلى السقوط في النار، وإنما وضع شفا الجرف وهو ما جرفه الوادي الهائر في مقابلة التقوى تمثيلاً لما بنوا عليه أمر دينهم في البطلان وسرعة الانطماس، ثم رشحه بانهياره به في النار ووضعه في مقابلة الرضوان تنبيهاً على أن تأسيس ذلك على أمر يحفظه من النار ويوصله إلى رضوان الله ومقتضياته التي الجنة أدناها، وتأسيس هذا على ما هم بسببه على صدد الوقوع في النار ساعة فساعة ثم إن مصيرهم إلى النار لا محالة‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر ‏{‏أَسَّسَ‏}‏ على البناء للمفعول‏.‏ وقرئ «أساس بنيانه» و‏{‏أَسَّسَ بُنْيَانَهُ‏}‏ على الإِضافة و‏{‏أَسَّسَ‏}‏ و«آساس» بالفتح والمد و«إساس» بالكسر وثلاثتها جمع أس، و‏{‏تَقْوَى‏}‏ بالتنوين على أن الألف للإِلحاق لا للتأنيث كتترى، وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر ‏{‏جُرُفٍ‏}‏ بالتخفيف‏.‏ ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ إلى ما فيه صلاحهم ونجاحهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 112‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏109‏)‏ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏110‏)‏ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏111‏)‏ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذى بَنَوْاْ‏}‏ بناؤهم الذي بنوه مصدر أريد به المفعول وليس بجمع ولذلك قد تدخله التاء ووصف بالمفرد وأخبر عنه بقوله‏:‏ ‏{‏رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ‏}‏ أي شكا ونفاقاً، والمعنى أن بناءهم هذا لا يزال سبب شكهم وتزايد نفاقهم فإنه حملهم على ذلك ثم لما هدمه الرسول صلى الله عليه وسلم رسخ ذلك في قلوبهم وازداد بحيث لا يزول وسمه عن قلوبهم‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ‏}‏ قطعاً بحيث لا يبقى لها قابلية الإِدراك وهو في غاية المبالغة والاستثناء‏.‏ من أعم الأزمنة‏.‏ وقيل المراد بالتقطع ما هو كائن بالقتل أو في القبر أو في النار‏.‏ وقيل التقطع بالتوبة ندماً وأسفاً‏.‏ وقرأ يعقوب «إلى» بحرف الانتهاء و‏{‏تُقَطَّعَ‏}‏ بمعنى تتقطع وهو قراءة ابن عامر وحمزة وحفص‏.‏ وقرئ «يقطع» بالياء و‏{‏تُقَطَّعَ‏}‏ بالتخفيف و‏{‏تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ‏}‏ على خطاب الرسول، أو كل مخاطب ولو قطعت على البناء للفاعل والمفعول‏.‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ بنياتهم‏.‏ ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ فيما أمر بهدم بنيانهم‏.‏

‏{‏إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة‏}‏ تمثيل لإثابة الله إياهم الجنة على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيله‏.‏ ‏{‏يقاتلون فِى سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ‏}‏ استئناف ببيان ما لأجله الشراء‏.‏ وقيل ‏{‏يقاتلون‏}‏ في معنى الأمر‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول وقد عرفت أن الواو لا توجب الترتيب وأن فعل البعض قد يسند إلى الكل‏.‏ ‏{‏وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا‏}‏ مصدر مؤكد لما دل عليه الشراء فإنه في معنى الوعد‏.‏ ‏{‏فِي التوراة والإنجيل والقرءان‏}‏ مذكوراً فيهما كما أثبت في القرآن‏.‏ ‏{‏وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله‏}‏ مبالغة في الإِنجاز وتقرير لكونه حقاً‏.‏ ‏{‏فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذى بَايَعْتُمْ بِهِ‏}‏ فافرحوا به غاية الفرح فإنه أوجب لكم عظائم المطالب كما قال‏:‏ ‏{‏وذلك هُوَ الفوز العظيم‏}‏‏.‏

‏{‏التائبون‏}‏ رفع على المدح أي هم التائبون، والمراد بهم المؤمنون المذكورون ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره التائبون من أهل الجنة وإن لم يجاهدوا لقوله‏:‏ ‏{‏وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى‏}‏ أو خبره ما بعده أي التائبون عن الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال‏.‏ وقرئ بالياء نصباً على المدح أو جراً صفة للمؤمنين‏.‏ ‏{‏العابدون‏}‏ الذين عبدوا الله مخلصين له الدين‏.‏ ‏{‏الحامدون‏}‏ لنعمائه أو لما نابهم من السراء والضراء‏.‏ ‏{‏السائحون‏}‏ الصائمون لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ سياحة أمتي الصوم ‏"‏ شبه بها لأنه يعوق عن الشهوات أو لأنه رياضة نفسانية يتوصل بها إلى الاطلاع على خفايا الملك والملكوت، أو السائحون للجهاد أو لطلب العلم‏.‏ ‏{‏الركعون الساجدون‏}‏ في الصلاة‏.‏ ‏{‏الآمرون بالمعروف‏}‏ بالإِيمان والطاعة‏.‏ ‏{‏والناهون عَنِ المنكر‏}‏ عن الشرك والمعاصي، والعاطف فيه للدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة كأنه قال‏:‏ الجامعون بين الوصفين، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والحافظون لِحُدُودِ الله‏}‏ أي فيما بينه وعينه من الحقائق والشرائع للتنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل وهذا مجملها‏.‏ وقيل إنه للايذان بأن التعداد قد تم بالسابع من حيث أن السبعة هو العدد التام والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه ولذلك سمي واو الثمانية‏.‏ ‏{‏وَبَشّرِ المؤمنين‏}‏ يعني به هؤلاء الموصوفين بتلك الفضائل، ووضع ‏{‏المؤمنين‏}‏ موضع ضميرهم للتنبيه على أن إيمانهم دعاهم إلى ذلك، وأن المؤمن الكامل من كان كذلك وحذف المبشر به للتعظيم كأنه قيل‏:‏ وبشرهم بما يجل عن إحاطة الأفهام وتعبير الكلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 115‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏113‏)‏ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ‏(‏114‏)‏ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏115‏)‏‏}‏

‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ‏}‏ روي‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب لما حضرته الوفاة‏:‏ ‏"‏ قل كلمة أحاج لك بها عند الله ‏"‏ فأبى فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ لا أزال استغفر لك ما لم أنه عنه ‏"‏ فنزلت وقيل لما افتتح مكة خرج إلى الأبواء فزار قبر أمه ثم قام مستعبراً فقال‏:‏ ‏"‏ إني استأذنت رب في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي وأنزل علي الآيتين ‏"‏ ‏{‏وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قربى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم‏}‏ بأن ماتوا على الكفر، وفيه دليل على جواز الاستغفار لاحيائهم فإنه طلب توفيقهم للإِيمان وبه دفع النقيض باستغفار إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأَبيه الكفار فقال‏:‏

‏{‏وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ‏}‏ وعدها إبراهيم أباه بقوله‏:‏ ‏"‏ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ‏"‏ أي لأطلبن مغفرتك بالتوفيق للإيمان فإنه يجب ما قبله، ويدل عليه قراءة من قرأ «أباه»، أو «وعدها إبراهيم أبوه» وهي الوعد بالإِيمان ‏{‏فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ‏}‏ بأن مات على الكفر، أو أوحي إليه بأنه لن يؤمن ‏{‏تَبَرَّأَ مِنْهُ‏}‏ قطع استغفاره‏.‏ ‏{‏إِنَّ إبراهيم لأَوَّاهٌ‏}‏ لكثير التأوه وهو كناية عن فرط ترحمه ورقة قلبه‏.‏ ‏{‏حَلِيمٌ‏}‏ صبور على الأذى، والجملة لبيان ما حمله على الاستغفار له مع شكاسته عليه‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً‏}‏ أي ليسميهم ضُلاَّلاً ويؤاخذهم مؤاخذتهم ‏{‏بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ‏}‏ للإِسلام‏.‏ ‏{‏حتى يُبَيّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ‏}‏ حتى يبين لهم خطر ما يجب اتقاؤه، وكأنه بيان عذر الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله لعمه أو لمن استغفر لأسلافه المشركين قبل المنع‏.‏ وقيل إنه في قوم مضوا على الأمر الأول في القبلة والخمر ونحو ذلك، وفي الجملة دليل على أن الغافل غير مكلف‏.‏ ‏{‏إَِنَّ الله بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ فيعلم أمرهم في الحالين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏116‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والأرض يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏ لما منعهم عن الاستغفارللمشركين وإن كانوا أولي قربى وتضمن ذلك وجوب التبرؤ عنهم رأساً، بين لهم أن الله مالك كل موجود ومتولي أمره والغالب عليه ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصرة إلا منه، ليتوجهوا بشراشرهم إليه ويتبرؤوا مما عداه حتى لا يبقى لهم مقصود فيما يأتون ويذرون سواه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏117‏)‏‏}‏

‏{‏لَقَدْ تَابَ الله على النبى والمهاجرين والأنصار‏}‏ من إذن المنافقين في التخلف أو برأهم عن علقة الذنوب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ وقيل‏:‏ هو بعث على التوبة والمعنى‏:‏ ما من أحد إلا وهو محتاج إلى التوبة حتى النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتُوبُواْ إِلَى الله جَمِيعاً‏}‏ إذ ما من أحد إلا وله مقام يستنقص دونه ما هو فيه والترقي إليه توبة من تلك النقيصة وإظهار لفضلها بأنها مقام الأنبياء والصالحين من عباده‏.‏ ‏{‏الذين اتبعوه فِى سَاعَةِ العسرة‏}‏ في وقتها هي حالهم في غزوة تبوك كانوا في عسرة الظهر يعتقب العشرة على بعير واحد والزاد حتى قيل إن الرجلين كانا يقتسمان تمرة والماء حتى شربوا القيظ‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ‏}‏ عن الثبات على الإيمان أو اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام وفي ‏{‏كَادَ‏}‏ ضمير الشأن أو ضمير القوم والعائد إليه الضمير في ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏‏.‏ وقرأ حمزة وحفص ‏{‏يَزِيغُ‏}‏ بالياء لأن تأنيث القلوب غير حقيقي‏.‏ وقرئ «من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم» يعني المتخلفين‏.‏ ‏{‏ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ‏}‏ تكرير للتأكيد وتنبيه على أنه تاب عليهم من أجل ما كابدوا من العسرة، أو المراد أنه تاب عليهم لكيدودتهم‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏118‏)‏‏}‏

‏{‏وَعَلَى الثلاثة‏}‏ وتاب على الثلاثة كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع‏.‏ ‏{‏الذين خُلّفُواْ‏}‏ تخلفوا عن الغزو أو خلف أمرهم فإنهم المرجئون‏.‏ ‏{‏حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ‏}‏ أي برحبها لإِعراض الناس عنهم بالكلية وهو مثل لشدة الحيرة‏.‏ ‏{‏وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ‏}‏ قلوبهم من فرط الوحشة والغم بحيث لا يسعها أنس ولا سرور‏.‏ ‏{‏وَظَنُّواْ‏}‏ وعلموا‏.‏ ‏{‏أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله‏}‏ من سخطه‏.‏ ‏{‏إِلاَّ إِلَيْهِ‏}‏ إلا إلى استغفاره‏.‏ ‏{‏ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ‏}‏ بالتوفيق للتوبة‏.‏ ‏{‏لِيَتُوبُواْ‏}‏ أو أنزل قبول توبتهم ليعدوا من جملة التائبين، أو رجع عليهم بالقبول والرحمة مرة بعد أخرى ليستقيموا على توبتهم‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله هُوَ التواب‏}‏ لمن تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة‏.‏ ‏{‏الرحيم‏}‏ المتفضل عليهم بالنعم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ‏(‏119‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله‏}‏ فيما لا يرضاه ‏{‏وَكُونُواْ مَعَ الصادقين‏}‏ في إيمانهم وعهودهم، أو في دين الله نية وقولاً وعملاً‏.‏ وقرئ «من الصادقين» أي في توبتهم وإنابتهم فيكون المراد به هؤلاء الثلاثة وأضرابهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏120‏)‏‏}‏

‏{‏مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله‏}‏ نهي عبر به بصيغة النفي للمبالغة‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ‏}‏ ولا يصونوا أنفسهم عما لم يصن نفسه عنه ويكابدوا معه ما يكابده من الأهوال‏.‏ روي‏:‏ ‏(‏أن أبا خيثمة بلغ بستانه، وكانت له زوجة حسناء فرشت له في الظل وبسطت له الحصير وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال‏:‏ ظل ظليل، ورطب يانع وماء بارد وامرأة حسناء ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح ما هذا بخير، فقام فرحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومر كالريح، فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السراب فقال‏:‏ كن أبا خيثمة فكانه ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفر له‏)‏ وفي ‏{‏لا يَرْغَبُواْ‏}‏ يجوز النصب والجزم‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما دل عليه قوله ما كان من النهي عن التخلف أو وجوب المشايعة‏.‏ ‏{‏بِأَنَّهُمْ‏}‏ بسبب أنهم‏.‏ ‏{‏لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ‏}‏ شيء من العطش‏.‏ ‏{‏وَلاَ نَصَبٌ‏}‏ تعب‏.‏ ‏{‏وَلاَ مَخْمَصَةٌ‏}‏ مجاعة‏.‏ ‏{‏فِى سَبِيلِ الله وَلاَ يَطَئُونَ‏}‏ ولا يدوسون‏.‏ ‏{‏مَوْطِئًا‏}‏ مكاناً‏.‏ ‏{‏يَغِيظُ الكفار‏}‏ يغضبهم وطؤه‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً‏}‏ كالقتل والأسر والنهب‏.‏ ‏{‏إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ‏}‏ إلا استوجبوا به الثواب وذلك مما يوجب المشايعة‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين‏}‏ على إحسانهم، وهو تعليل ل ‏{‏كتاب‏}‏ وتنبيه على أن الجهاد إحسان، أما في حق الكفار فلأنه سعى في تكميلهم بأقصى ما يمكن كضرب المداوي للمجنون، وأما في حق المؤمنين فلأنه صيانة لهم عن سطوة الكفار واستيلائهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 121‏]‏

‏{‏وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏121‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً‏}‏ ولو علاَّقة‏.‏ ‏{‏وَلاَ كَبِيرَةً‏}‏ مثل ما أنفق عثمان رضي الله تعالى عنه في جيش العسرة‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا‏}‏ في مسيرهم وهو كل منعرج ينفذ فيه السيل اسم فاعل من ودي إذا سال فشاع بمعنى الأرض‏.‏ ‏{‏إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ‏}‏ أثبت لهم ذلك‏.‏ ‏{‏لِيَجْزِيَهُمُ الله‏}‏ بذلك‏.‏ ‏{‏أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ جزاء أحسن أعمالهم أو أحسن جزاء أعمالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً‏}‏ وما استقام لهم أن ينفروا جميعاً لنحو غزو أو طلب علم كما لا يستقيم لهم أن يتثبطوا جميعاً فإنه يخل بأمر المعاش‏.‏ ‏{‏فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ‏}‏ فهلا نفر من كل جماعة كثيرة كقبيلة وأهل بلدة جماعة قليلة‏.‏ ‏{‏لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدين‏}‏ ليتكلفوا الفقاهة فيه ويتجشموا مشاق تحصيلها‏.‏ ‏{‏وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ‏}‏ وليجعلوا غاية سعيهم ومعظم غرضهم من الفقاهة إرشاد القوم وإنذارهم، وتخصيصه بالذكر لأنه أهم وفيه دليل على أن التفقه والتذكير من فروض الكفاية وأنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم فيه أن يستقيم ويقيم لا الترفع على الناس والتبسط في البلاد‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ‏}‏ إرادة أن يحذروا عما ينذرون منه، واستدل به على أن أخبار الآحاد حجة لأن عموم كل فرقة يقتضي أن ينفر من كل ثلاثة تفردوا بقرية طائفة إلى التفقه لتنذر فرقتها كي يتذكروا ويحذروا، فلو لم يعتبر الأخبار ما لم يتواتر لم يفد ذلك، وقد أشبعت القول فيه تقريراً واعتراضاً في كتابي ‏(‏المرصاد‏)‏‏.‏ وقد قيل للآية معنى آخر وهو أنه لما نزل في المتخلفين ما نزل سبق المؤمنون إلى النفير وانقطعوا عن التفقه، فأمروا أن ينفر من كل فرقة طائفة إلى الجهاد ويبقى أعقابهم يتفقهون حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر، لأن الجدال بالحجة هو الأصل والمقصود من البعثة فيكون الضمير في ليتفقهوا ولينذروا لبواقي الفرق بعد الطوائف النافرة للغزو، وفي رجعوا للطوائف أي ولينذروا لبواقي قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا أيام غيبتهم من العلوم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الذين ءامَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مّنَ الكفار‏}‏ أمروا بقتال الأقرب منهم فالأقرب كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً بإنذار عشيرته الأقربين، فإن الأقرب أحق بالشفقة والاستصلاح‏.‏ وقيل هم يهود حوالي المدينة كقريظة والنضير وخيبر‏.‏ وقيل الروم فإنهم كانوا يسكنون الشأم وهو قريب من المدينة‏.‏ ‏{‏وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً‏}‏ شدة وصبراً على القتال‏.‏ وقرئ بفتح الغين وضمها وهما لغتان فيها‏.‏ ‏{‏واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين‏}‏ بالحراسة والاعانة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏124‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ‏}‏ فمن المنافقين‏.‏ ‏{‏مَن يِقُولُ‏}‏ انكار واستهزاء‏.‏ ‏{‏أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه‏}‏ السورة‏.‏ ‏{‏إيمانا‏}‏ وقرئ ‏{‏أَيُّكُمْ‏}‏ بالنصب على إضمار فعل يفسره ‏{‏زَادَتْهُ‏}‏‏.‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً‏}‏ بزيادة العلم الحاصل من تدبر السورة وانضمام الإِيمان بها وبما فيها إلى إيمانهم‏.‏ ‏{‏وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ بنزولها لأنه سبب لزيادة كمالهم وارتفاع درجاتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏125‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَمَّا الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ كفر‏.‏ ‏{‏فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ‏}‏ كفراً بها مضموماً إلى الكفر بغيرها‏.‏ ‏{‏وَمَاتُواْ وَهُمْ كافرون‏}‏ واستحكم ذلك فيهم حتى ماتوا عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

‏{‏أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏126‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ لاَ يَرَوْنَ‏}‏ يعني المنافقين وقرئ بالتاء‏.‏ ‏{‏أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ‏}‏ يبتلون بأصناف البليات، أو بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعاينون ما يظهر عليه من الآيات‏.‏ ‏{‏فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ‏}‏ لا ينتهون ولا يتوبون من نفاقهم‏.‏ ‏{‏وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏ ولا يعتبرون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ‏}‏ تغامزوا بالعيون إنكاراً لها وسخرية، أو غيظاً لما فيها من عيوبهم‏.‏ ‏{‏هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ‏}‏ أي يقولون هل يراكم أحد إن قمتم من حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن لم يرهم أحد قاموا وإن يرهم أحد أقاموا‏.‏ ‏{‏ثُمَّ انصرفوا‏}‏ عن حضرته مخافة الفضيحة‏.‏ ‏{‏صَرَفَ الله قُلُوبَهُم‏}‏ عن الإِيمان وهو يحتمل الإخبار والدعاء‏.‏ ‏{‏بِأَنَّهُمْ‏}‏ بسبب أنهم‏.‏ ‏{‏قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ‏}‏ لسوء فهمهم أو لعدم تدبرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

‏{‏لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏128‏)‏‏}‏

‏{‏لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ‏}‏ من جنسكم عربي مثلكم‏.‏ وقرئ من أَنفُسِكُمْ «أي من أشرفكم‏.‏ ‏{‏عَزِيزٌ عَلَيْهِ‏}‏ شديد شاق‏.‏ ‏{‏مَا عَنِتُّمْ‏}‏ عنتكم ولقاؤكم المكروه‏.‏ ‏{‏حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي على إيمانكم وصلاح شأنكم‏.‏ ‏{‏بالمؤمنين‏}‏ منكم ومن غيركم‏.‏ ‏{‏رَءوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ قدم الأبلغ منهما وهو الرؤوف لأن الرأفة شدة الرحمة محافظة على الفواصل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏129‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏129‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ عن الإِيمان بك‏.‏ ‏{‏فَقُلْ حَسْبِىَ الله‏}‏ فإنه يكفيك معرتهم ويعينك عليهم‏.‏ ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ كالدليل عليه‏.‏ ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ‏}‏ فلا أرجو ولا أخاف إلا منه‏.‏ ‏{‏وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم‏}‏ الملك العظيم، أو الجسم العظيم المحيط الذي تنزل منه الأحكام والمقادير‏.‏ وقرئ ‏{‏العظيم‏}‏ بالرفع‏.‏ وعن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه‏:‏ أن آخر ما نزل هاتان الآيتان وعن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما نزل القرآن علي إلا آية آية وحرفاً حرفاً ما خلا سورة براءة وقل هو الله أحد، فإنهما أنزلتا علي ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة» والله أعلم‏.‏