فصل: الجزء الثالث

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


الجزء الثالث

سورة يونس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏الر‏}‏ فخمها ابن كثير ونافع برواية قالون وحفص وقرأ ورش بين اللفظين، وأمالها الباقون إجراء لألف الراء مجرى المنقلبة من الياء‏.‏ ‏{‏تِلْكَ ءايات الكتاب الحكيم‏}‏ إشارة إلى ما تضمنته السورة أو القرآن من الآي والمراد من الكتاب أحدهما، ووصفه بالحكيم لاشتماله على الحكم أو لأنه كلام حكيم، أو محكم آياته لم ينسخ شيء منها‏.‏ ‏{‏أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا‏}‏ استفهام إنكار للتعجب و‏{‏عَجَبًا‏}‏ خبر كان واسمه‏:‏ ‏{‏أَنْ أَوْحَيْنَا‏}‏ وقرئ بالرفع على أن الأمر بالعكس أو على «أن كان» تامة و‏{‏أَنْ أَوْحَيْنَا‏}‏ بدل من عجب، واللام للدلالة على أنهم جعلوه أعجوبة لهم يوجهون نحوه إنكارهم واستهزاءهم‏.‏ ‏{‏إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ‏}‏ من أبناء رجالهم دون عظيم من عظمائهم‏.‏ قيل كانوا يقولون العجب أن الله تعالى لم يجد رسولاً يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب، وهو من فرط حماقتهم وقصور نظرهم على الأمور العاجلة وجهلهم بحقيقة الوحي والنبوة‏.‏ هذا وأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يقصر عن عظمائهم فيما يعتبرونه إلا في المال وخفة الحال أعون شيء في هذا الباب، ولذلك كان أكثر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله كذلك‏.‏ وقيل تعجبوا من أنه بعث بشراً رسولاً كما سبق ذكره في سورة «الأنعام»‏.‏ ‏{‏أَنْ أَنذِرِ الناس‏}‏ أن هي المفسرة أو المخففة من الثقيلة فتكون في موقع مفعول أوحينا‏.‏ ‏{‏وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ‏}‏ عمم الإنذار إذ قلما من أحد ليس فيه ما ينبغي أن ينذر منه، وخصص البشارة بالمؤمنين إذ ليس للكفار ما يصح أن يبشروا به حقيقة ‏{‏أَنَّ لَهُمْ‏}‏ بأن لهم ‏{‏قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ سابقة ومنزلة رفيعة وسميت قدما لأن السبق بها كما سميت النعمة يداً لأنها تعطى باليد، وإضافتها إلى الصدق لتحققها والتنبيه على أنهم إنما ينالونها بصدق القول والنية‏.‏ ‏{‏قَالَ الكافرون إِنَّ هذا‏}‏ يعنون الكتاب وما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏لَسِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ وقرأ ابن كثير والكوفيون «لساحر» على أن الإِشارة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه اعتراف بأنهم صادفوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أموراً خارقة للعادة معجزة إياهم عن المعارضة‏.‏ وقرئ «ما هذا إلا سحر مبين»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 4‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏3‏)‏ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خَلَقَ السموات والأرض‏}‏ التي هي أصول الممكنات‏.‏ ‏{‏فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُدَبّرُ الأمر‏}‏ يقدر أمر الكائنات على ما اقتضته حكمته وسبقت به كلمته ويهيئ بتحريكه أسبابها وينزلها منه، والتدبير النظر في أدبار الأمور لتجيء محمودة العاقبة‏.‏ ‏{‏مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ‏}‏ تقرير لعظمته وعز جلاله، ورد على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن له ‏{‏ذَلِكُمُ الله‏}‏ أي الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية‏.‏ ‏{‏رَبُّكُمْ‏}‏ لا غير إذ لا يشاركه أحد في شيء من ذلك‏.‏ ‏{‏فاعبدوه‏}‏ وحدوه بالعبادة‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏ تتفكرون أدنى تفكر فينبهكم على أنه المستحق للربوبية والعبادة لا ما تعبدونه‏.‏

‏{‏إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً‏}‏ بالموت أو النشور لا إلى غيره فاستعدوا للقائه‏.‏ ‏{‏وَعَدَ الله‏}‏ مصدر مؤكد لنفسه لأن قوله ‏{‏إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ‏}‏ وعد من الله‏.‏ ‏{‏حَقّاً‏}‏ مصدر آخر مؤكد لغيره وهو ما دل عليه ‏{‏وَعَدَ الله‏}‏ ‏{‏إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ بعد بدئه وإهلاكه‏.‏ ‏{‏لِيَجْزِيَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ‏}‏ أي بعدله أو بعدالتهم وقيامهم على العدل في أمورهم أو بإيمانهم لأنه العدل القويم كما أن الشرك ظلم عظيم وهو الأوجه لمقابلة قوله‏:‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ‏}‏ فإن معناه ليجزي الذين كفروا بشراب من حميم وعذاب أليم بسبب كفرهم، لكنه غير النظم للمبالغة في استحقاقهم للعقاب والتنبيه على أن المقصود بالذات من الإِبداء والإعادة هو الإثابة والعقاب واقع بالعرض، وأنه تعالى يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه ولذلك لم يعينه، وأما عقاب الكفرة فكأنه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وشؤم أفعالهم‏.‏ والآية كالتعليل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً‏}‏ فإنه لما كان المقصود من الإبداء والإعادة مجازاة الله المكلفين على أعمالهم كان مرجع الجميع إليه لا محالة، ويؤيده قراءة من قرأ «أَِنَّهُ يَبْدَأُ» بالفتح أي لأنه ويجوز أن يكون منصوباً أو مرفوعاً بما نصب ‏{‏وَعَدَ الله‏}‏ أو بما نصب ‏{‏حَقّاً‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 10‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏5‏)‏ إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ ‏(‏7‏)‏ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏8‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏9‏)‏ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الذى جَعَلَ الشمس ضِيَاءً‏}‏ أي ذات ضياء وهو مصدر كقيام أو جمع ضوء كسياط وسوط والياء فيه منقلبة عن الواو‏.‏ وقرأ ابن كثير برواية قنبل هنا وفي «الأنبياء» وفي «القصص» «ضئاء» بهمزتين على القلب بتقديم اللام على العين‏.‏ ‏{‏والقمر نُوراً‏}‏ أي ذا نور أو سمي نوراً للمبالغة وهو أعم من الضوء كما عرفت، وقيل ما بالذات ضوء وما بالعرض نور، وقد نبه سبحانه وتعالى بذلك على أنه خلق الشمس نيرة في ذاتها والقمر نيراً بعرض مقابلة الشمس والاكتساب منها‏.‏ ‏{‏وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ‏}‏ الضمير لكل واحد أي قدر مسير كل واحد منهما منازل، أو قدره ذا منازل أو للقمر وتخصيصه بالذكر لسرعة سيره ومعاينة منازله وإناطة أحكام الشرع به ولذلك علله بقوله‏:‏ ‏{‏لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب‏}‏ حساب الأوقات من الأشهر والأيام في معاملاتكم وتصرفاتكم‏.‏ ‏{‏مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق‏}‏ إلا ملتبساً بالحق مراعياً فيه مقتضى الحكمة البالغة‏.‏ ‏{‏يُفَصّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ فإنهم المنتفعون بالتأمل فيها وقرأ ابن كثير والبصريان وحفص «يفصل» بالياء‏.‏

‏{‏إِنَّ فِى اختلاف اليل والنهار وَمَا خَلَقَ الله فِى السموات والأرض‏}‏ من أنواع الكائنات‏.‏ ‏{‏لأَيَاتٍ‏}‏ على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته‏.‏ ‏{‏لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ‏}‏ العواقب فإنه يحملهم على التفكر والتدبر‏.‏

‏{‏إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا‏}‏ لا يتوقعونه لإنكارهم البعث وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها‏.‏ ‏{‏وَرَضُواْ بالحياة الدنيا‏}‏ من الآخرة لغفلتهم عنها‏.‏ ‏{‏واطمأنوا بِهَا‏}‏ وسكنوا إليها مقصرين هممهم على لذائذها وزخارفها، أو سكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها‏.‏ ‏{‏والذين هُمْ عَنْ ءاياتنا غافلون‏}‏ لا يتفكرون فيها لانهماكهم فيما يضادها والعطف إما لتغاير الوصفين والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأساً والانهماك في الشهوات بحيث لا تخطر الآخرة ببالهم أصلاً، وإما لتغاير الفريقين والمراد بالأولين من أنكر البعث ولم ير إلاَّ الحياة الدنيا وبالآخرين من أَلهاه حب العاجل عن التأمل في الآجل والاعداد له‏.‏

‏{‏أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النار بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ بما واظبوا عليه وتمرنوا به من المعاصي‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ‏}‏ بسبب إيمانهم إلى سلوك سبيل يؤدي إلى الجنة، أو لإدراك الحقائق كما قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم ‏"‏ أو لما يريدونه في الجنة، ومفهوم الترتيب وإن دل على أن سبب الهداية هو الإِيمان والعمل الصالح لكن دل منطوق قوله‏:‏ ‏{‏بِإِيمَانِهِمْ‏}‏ على استقلال الإِيمان بالسببية وأن العمل الصالح كالتتمة والرديف له‏.‏ ‏{‏تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار‏}‏ استئناف أو خبر ثان أو حال من الضمير المنصوب على المعنى الأخير، وقوله‏:‏ ‏{‏فِي جنات النعيم‏}‏ خبر أو حال أخرى منه، أو من ‏{‏الأنهار‏}‏ أو متعلق ب ‏{‏تَجْرِى‏}‏ أو بيهدي‏.‏

‏{‏دعواهم فِيهَا‏}‏ أي دعاؤهم‏.‏ ‏{‏سبحانك اللهم‏}‏ اللهم إنا نسبحك تسبيحاً‏.‏ ‏{‏وَتَحِيَّتُهُمْ‏}‏ ما يحيي به بعضهم بعضاً، أو تحية الملائكة إياهم‏.‏ ‏{‏فِيهَا سَلاَمٌ وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ‏}‏ وآخر دعائهم‏.‏ ‏{‏أَنِ الحمد للَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ أي أن يقولوا ذلك، ولعل المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله وكبرياءه مجدوه ونعتوه بنعوت الجلال، ثم حياهم الملائكة بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات أو الله تعالى فحمدوه وأثنوا عليه بصفات الإِكرام، و‏{‏أن‏}‏ هي المخففة من الثقيلة وقد قرئ بها وبنصب ‏{‏الحمد‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر‏}‏ ولو يسرعه إليهم‏.‏ ‏{‏استعجالهم بالخير‏}‏ وضع موضع تعجيله لهم بالخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم في الخير حتى كأن استعجالهم به تعجيل لهم أو بأن المراد شر استعجلوه كقولهم ‏{‏فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء‏}‏ وتقدير الكلام، ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله للخير حين استعجلوه استعجالاً كاستعجالهم بالخير، فحذف منه ما حذف لدلالة الباقي عليه‏.‏ ‏{‏لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ‏}‏ لأميتوا وأهلكوا وقرأ ابن عامر ويعقوب ‏"‏ لَقضى ‏"‏ على البناء للفاعل وهو الله تعالى وقرئ «لقضينا»‏.‏ ‏{‏فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ عطف على فعل محذوف دلت عليه الشرطية كأنه قيل؛ ولكن لا نعجل ولا نقضي فنذرهم إمهالاً لهم واستدراجاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا‏}‏ لإزالته مخلصاً فيه‏.‏ ‏{‏لِجَنبِهِ‏}‏ ملقى لجنبه أي مضطجعاً‏.‏ ‏{‏أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا‏}‏ وفائدة الترديد تعميم الدعاء لجميع الأحوال أو لأصناف المضار‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ‏}‏ يعني مضى على طريقته واستمر على كفره أو مر عن موقف الدعاء لا يرجع إليه‏.‏ ‏{‏كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا‏}‏ كأنه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن كما قال‏:‏

وَنَحْرٌ مُشْرِقُ اللَّوْن *** كَأْن ثَدْيَاهُ حُقَّان

‏{‏إلى ضُرّ مَّسَّهُ‏}‏ إلى كشف ضر‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ مثل ذلك التزيين‏.‏ ‏{‏زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ من الانهماك في الشهوات والإِعراض عن العبادات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ يا أهل مكة‏.‏ ‏{‏لَمَّا ظَلَمُواْ‏}‏ حين ظلموا بالتكذيب واستعمال القوى والجوارح لا على ما ينبغي ‏{‏وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات‏}‏ بالحجج الدالة على صدقهم وهو حال من الواو بإضمار قد أو عطف على ظلموا‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ‏}‏ وما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادهم وخذلان الله لهم وعلمه بأنهم يموتون على كفرهم، واللام لتأكيد النفي‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ مثل ذلك الجزاء وهو إهلاكهم بسبب تكذيبهم للرسل وإصرارهم عليه بحيث تحقق أنه لا فائدة في إمهالهم ‏{‏نَجْزِي القوم المجرمين‏}‏ نجزي كل مجرم أو نجزيكم فوضع المظهر موضع الضمير للدلالة على كمال جرمهم وأنهم أعلام فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ جعلناكم خلائف فِى الأرض مِن بَعْدِهِم‏}‏ استخلفناكم فيها بعد القرون التي أهلكناها استخلاف من يختبر‏.‏ ‏{‏لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ‏}‏ أتعملون خيراً أو شراً فنعاملكم على مقتضى أعمالكم، وكيف معمول تعملون فإن معنى الاستفهام يحجب أن يعمل فيه ما قبله، وفائدته الدلالة على أن المعتبر في الجزاء جهات الأفعال وكيفياتها لا هي من حيث ذاتها ولذلك يحسن الفعل تارة ويقبح أخرى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا‏}‏ يعني المشركين‏.‏ ‏{‏ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا‏}‏ بكتاب آخر نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من البعث والثواب والعقاب بعد الموت، أو ما نكرهه من معايب آلهتنا‏.‏ ‏{‏أَوْ بَدّلْهُ‏}‏ بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى ولعلهم سألوا ذلك كي يسعفهم إليه فيلزموه‏.‏ ‏{‏قُلْ مَا يَكُونُ لِى‏}‏ ما يصح لي‏.‏ ‏{‏أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى‏}‏ من قبل نفسي وهو مصدر استعمل ظرفاً، وإنما اكتفي بالجواب عن التبديل لاستلزام امتناعه الإتيان بقرآن آخر‏.‏ ‏{‏إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ‏}‏ تعليل لما يكون فإن المتبع لغيره في أمر لا يستبد بالتصرف فيه، وجواب للنقض بنسخ بعض الآيات ببعض ورد لما عرضوا له بهذا السؤال من أن القرآن كلامه واختراعه ولذلك قيد التبديل في الجواب وسماه عصياناً فقال‏:‏ ‏{‏إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى‏}‏ أي بالتبديل‏.‏ ‏{‏عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ وفيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏قُل لَّوْ شَاء الله‏}‏ غير ذلك‏.‏ ‏{‏مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ‏}‏ ولا أعلمكم به على لساني، وعن ابن كثير «ولأدراكم» بلام التأكيد أي لو شاء الله ما تلوته عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري‏.‏ والمعنى أنه الحق الذي لا محيص عنه لو لم أرسل به لأرسل به غيري‏.‏ وقرئ «ولا أدرأكم» «ولا أدرأتكم» بالهمز فيهما على لغة من يقلب الألف المبدلة من الياء همزة، أو على أنه من الدرء بمعنى الدفع أي ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرؤنني بالجدال، والمعنى أن الأمر بمشيئة الله تعالى لا بمشيئتي حتى اجعله على نحو ما تشتهونه ثم قرر ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً‏}‏ مقداراً عمر أربعين سنة‏.‏ ‏{‏مِن قَبْلِهِ‏}‏ من قبل القرآن لا أتلوه ولا أعلمه، فإنه إشارة إلى أن القرآن معجز خارق للعادة فإن من عاش بين أظهرهم أربعين سنة لم يمارس فيها علماً ولم يشاهد عالماً ولم ينشئ قريضاً ولا خطبة، ثم قرأ عليهم كتاباً بزت فصاحته فصاحة كل منطيق وعلا عن كل منثور ومنظوم، واحتوى على قواعد علمي الأصول والفروع وأعرب عن أقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين على ما هي عليه علم أنه معلم به من الله تعالى‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ أي أفلا تستعملون عقلوكم بالتدبر والتفكر فيه لتعلموا أنه ليس إلا من الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 23‏]‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏17‏)‏ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏18‏)‏ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏19‏)‏ وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ‏(‏21‏)‏ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏22‏)‏ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا‏}‏ تفاد مما أضافوه إليه كناية، أو تظليم للمشركين بافترائهم على الله تعالى في قولهم إنه لذو شريك وذو ولد‏.‏ ‏{‏أَوْ كَذَّبَ بآيَاتِهِ‏}‏ فكفر بها‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون‏}‏ ‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ‏}‏ فإنه جماد لا يقدر على نفع ولا ضر، والمعبود ينبغي أن يكون مثيباً ومعاقباً حتى تعود عبادته بجلب نفع أو دفع ضر‏.‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ هَؤُلاء‏}‏ الأوثان‏.‏ ‏{‏شفعاؤنا عِندَ الله‏}‏ تشفع لنا فيما يهمنا من أمور الدنيا أو في الآخرة إن يكن بعث، وكأنهم كانوا شاكين فيه وهذا من فرط جهالتهم حيث تركوا عبادة الموجد الضار النافع إلى عبادة ما يعلم قطعاً أنه لا يضر ولا ينفع على توهم أنه ربما يشفع لهم عنده‏.‏ ‏{‏قُلْ أَتُنَبّئُونَ الله‏}‏ أتخبرونه‏.‏ ‏{‏بِمَا لاَ يَعْلَمُ‏}‏ وهو أن له شريكاً أو هؤلاء شفعاء عنده وما لا يعلمه العالم بجميع المعلومات لا يكون له تحقق ما وفيه تقريع وتهكم بهم‏.‏ ‏{‏فِي السموات وَلاَ فِى الأرض‏}‏ حال من العائد المحذوف مؤكدة للنفي منبهة على أن ما يعبدون من دون الله إما سماوي وإما أرضي، ولا شيء من الموجودات فيهما إلا وهو حادث مقهور مثلهم لا يليق أن يشرك به‏.‏ ‏{‏سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ عن إشراكهم أو عن الشركاء الذين يشركونهم به‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي الموضعين في أول «النحل» و«الروم» بالتاء‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ موحدين على الفطرة أو متفقين على الحق، وذلك في عهد آدم عليه السلام إلى أن قتل قابيلُ هابيلَ أو بعد الطوفان، أو على الضلال في فترة من الرسل‏.‏ ‏{‏فاختلفوا‏}‏ باتباع الهوى والأباطيل، أو ببعثه الرسل عليهم الصلاة والسلام فتبعتهم طائفة وأصرت أخرى‏.‏ ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ‏}‏ بتأخير الحكم بينهم أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة فإنه يوم الفصل والجزاء‏.‏ ‏{‏لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ‏}‏ عاجلاً‏.‏ ‏{‏فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ بإهلاك المبطل وإبقاء المحق‏.‏

‏{‏وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ‏}‏ أي من الآيات التي اقترحوها‏.‏ ‏{‏فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ‏}‏ هو المختص بعلمه فلعله يعلم في إنزال الآيات المقترحة من مفاسد تصرف عن إنزالها‏.‏ ‏{‏فانتظروا‏}‏ لنزول ما اقترحتموه‏.‏ ‏{‏إِنّى مَعَكُم مّنَ المنتظرين‏}‏ لما يفعل الله بكم بجحودكم ما نزل علي من الآيات العظام واقتراحكم غيره‏.‏

‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً‏}‏ صحة وسعة‏.‏ ‏{‏مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ‏}‏ كقحط ومرض‏.‏ ‏{‏إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِى آيَاتِنَا‏}‏ بالطعن فيها والاحتيال في دفعها‏.‏ قيل قحط أهل مكة سبع سنين حتى كادوا يهلكون ثم رحمهم الله بالحيا فطفقوا يقدحون في آيات الله ويكيدون رسوله‏.‏ ‏{‏قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْرًا‏}‏ منكم قد دبر عقابكم قبل أن تدبروا كيدهم، وإنما دل على سرعتهم المفضل عليها كلمة المفاجأة الواقعة جواباً لإذا الشرطية والمكر اخفاء الكيد، وهو من الله تعالى أما الاستدراج أو الجزاء على المكر‏.‏

‏{‏إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ‏}‏ تحقيق للانتقام وتنبيه على أن ما دبروا في إخفائه لم يخف على الحفظة فضلاً أن يخفى على الله تعالى، وعن يعقوب يمكرون بالياء ليوافق ما قبله‏.‏

‏{‏هُوَ الذى يُسَيّرُكُمْ‏}‏ يحملكم على السير ويمكنكم منه‏.‏ وقرأ ابن عامر «ينشركم» بالنون والشين من النشر‏.‏ ‏{‏فِى البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك‏}‏ في السفن، ‏{‏وَجَرَيْنَ بِهِم‏}‏ بمن فيها، عدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة كأنه تذكرة لغيرهم ليتعجب من حالهم وينكر عليهم‏.‏ ‏{‏بِرِيحٍ طَيّبَةٍ‏}‏ لينة الهبوب‏.‏ ‏{‏وَفَرِحُواْ بِهَا‏}‏ بتلك الريح‏.‏ ‏{‏جَاءتْهَا‏}‏ جواب إذا والضمير للفلك أو للريح الطيبة، بمعنى تلقتها‏.‏ ‏{‏رِيحٌ عَاصِفٌ‏}‏ ذات عصف شديدة الهبوب‏.‏ ‏{‏وَجَاءهُمُ الموج مِن كُلّ مَكَانٍ‏}‏ يجيء الموج منه‏.‏ ‏{‏وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ‏}‏ أهلكوا وسدت عليهم مسالك الخلاص كمن أحاط به العدو‏.‏ ‏{‏دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين‏}‏ من غير اشتراك لتراجع الفطرة وزوال المعارض من شدة الخوف، وهو بدل من ‏{‏ظَنُّواْ‏}‏ بدل اشتمال لأن دعاءهم من لوازم ظنهم‏.‏ ‏{‏لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين‏}‏ على إرادة القول أو مفعول ‏{‏دَّعَوَا‏}‏ لأنه من جملة القول‏.‏

‏{‏فَلَمَّا أَنجَاهُمْ‏}‏ إجابة لدعائهم‏.‏ ‏{‏إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الأرض‏}‏ فاجئوا الفساد فيها وسارعوا إلى ما كانوا عليه‏.‏ ‏{‏بِغَيْرِ الحق‏}‏ مبطلين فيه وهو احتراز عن تخريب المسلمين ديار الكفرة واحتراق زروعهم وقلع أشجارهم فإنها إفساد بحق‏.‏ ‏{‏يا أيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ‏}‏ فإن وباله عليكم أو أنه على أمثالكم أبناء جنسكم‏.‏ ‏{‏مَّتَاعَ الحياة الدنيا‏}‏ منفعة الحياة الدنيا لا تبقى ويبقى عقابها، ورفعه على أنه خبر ‏{‏بَغْيُكُمْ‏}‏ و‏{‏على أَنفُسِكُمْ‏}‏ صلته، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلك متاع الحياة الدنيا و‏{‏على أَنفُسِكُمْ‏}‏ خبر ‏{‏بَغْيُكُمْ‏}‏، ونصبه حفص عى أنه مصدر مؤكد أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا أو مفعول البغي لأنه بمعنى الطلب فيكون الجار من صلته والخبر محذوف تقديره بغيكم متاع الحياة الدنيا محذور أو ضلال، أو مفعول فعل دل عليه البغي وعلى أنفسكم خبره‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ‏}‏ في القِيامة‏.‏ ‏{‏فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ بالجزاء عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا‏}‏ حالها العجيبة في سرعة تقضيها وذهاب نعيمها بعد إقبالها واغترار الناس بها‏.‏ ‏{‏كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض‏}‏ فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضاً‏.‏ ‏{‏مِمَّا يَأْكُلُ الناس والأنعام‏}‏ من الزروع والبقول والحشيش‏.‏ ‏{‏حتى إِذَا أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا‏}‏ حسنها وبهجتها‏.‏ ‏{‏وازينت‏}‏ تزينت بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة كعروس أخذت من ألوان الثياب والزين فتزينت بها، ‏{‏وازينت‏}‏ أصله تزينت فأدغم وقد قرئ على الأصل ‏{‏وازينت‏}‏ على أفعلت من غير اعلال كاغيلت، والمعنى صارت ذات زينة «وازيانت» كابياضت‏.‏ ‏{‏وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا‏}‏ متمكنون من حصدها ورفع غلتها‏.‏ ‏{‏أَتَاهَا أَمْرُنَا‏}‏ ضرب زرعها ما يحتاجه‏.‏ ‏{‏لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا‏}‏ فجعلنا زرعها‏.‏ ‏{‏حَصِيداً‏}‏ شبيهاً بما حصد من أصله‏.‏ ‏{‏كَأَن لَّمْ تَغْنَ‏}‏ كأن لم يغن زرعها أي لم يلبث، والمضاف محذوف في الموضعين للمبالغة وقرئ بالياء على الأصل‏.‏ ‏{‏بالأمس‏}‏ فيما قبيله وهو مثل في الوقت القريب والممثل به مضمون الحكاية وهو زوال خضرة النبات فجأة وذهابه حطاماً بعدما كان غضاً والتف، وزين الأرض حتى طمع فيه أهله وظنوا أنه قد سلم من الجوائح لا الماء وإن وليه حرف التشبيه لأنه من التشبيه المركب‏.‏ ‏{‏كذلك نُفَصّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ فإنهم المنتفعون به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏والله يَدْعُو إِلَى دَارُ السلام‏}‏ دار السلام من التقضي والآفة، أو دار الله وتخصيص هذا الاسم أيضاً للتنبيه على ذلك، أو دار يسلم الله والملائكة فيها على من يدخلها والمراد الجنة‏.‏ ‏{‏وَيَهْدِى مَن يَشَاء‏}‏ بالتوفيق‏.‏ ‏{‏إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ هو طريقها وذلك الإسلام والتدرع بلباس التقوى، وفي تعميم الدعوة وتخصيص الهداية بالمشيئة دليل على أن الأمر غير الإرادة وأن المصر على الضلالة لم يرد الله رشده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 30‏]‏

‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏26‏)‏ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏27‏)‏ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ‏(‏28‏)‏ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ‏(‏29‏)‏ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى‏}‏ المثوبة الحسنى‏.‏ ‏{‏وَزِيَادَةٌ‏}‏ وما يزيد على المثوبة تفضلاً لقوله‏:‏ ‏{‏وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ‏}‏ وقيل الحسنى مثل حسناتهم والزيادة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وأكثر، وقيل الزيادة مغفرة من الله ورضوان، وقيل الحسنى الجنة والزيادة هي اللقاء‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ‏}‏ لا يغشاها‏.‏ ‏{‏قَتَرٌ‏}‏ غبرة فيها سواد‏.‏ ‏{‏وَلاَ ذِلَّةٌ‏}‏ هوان، والمعنى لا يرهقهم ما يرهق أهل النار أو لا يرهقهم ما يوجب ذلك من حزن وسوء حال‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ دائمون لا زوال فيها ولا انقراض لنعيمها بخلاف الدنيا وزخارفها‏.‏

‏{‏والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا‏}‏ عطف على قوله ‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى‏}‏ على مذهب من يجوز‏:‏ في الدار زيد والحجرة عمرو، أو ‏{‏لّلَّذِينَ‏}‏ مبتدأ والخبر ‏{‏جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا‏}‏ على تقدير‏:‏ وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، أي أن تجازى سيئة بسيئة مثلها لا يزاد عليها، وفيه تنبيه على أن الزيادة هي الفضل أو التضعيف أو ‏{‏كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ‏}‏، أو أولئك أصحاب النار وما بينهما اعتراض ف ‏{‏جَزَاء سَيّئَةٍ‏}‏ مبتدأ وخبره محذوف أي فجزاء سيئة بمثلها واقع، أو بمثلها على زيادة الباء أو تقدير مقدر بمثلها‏.‏ ‏{‏وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ‏}‏ وقرئ بالياء‏.‏ ‏{‏مَّا لَهُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ‏}‏ ما من أحد يعصمهم من سخط الله، أو من جهة الله ومن عنده كما يكون للمؤمنين‏.‏ ‏{‏كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ‏}‏ غطيت‏.‏ ‏{‏وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اليل مُظْلِماً‏}‏ لفرط سوادها وظلمتها ومظلماً حال من الليل والعامل فيه ‏{‏أُغْشِيَتْ‏}‏ لأنه العامل في ‏{‏قِطَعًا‏}‏ وهو موصوف بالجار والمجرور، والعامل في الموصوف عامل في الصفة أو معنى الفعل في ‏{‏مِّنَ اليل‏}‏‏.‏ وقرأ ابن كثير والكسائي ويعقوب «قِطَعًا» بالسكون فعلى هذا يصح أن يكون ‏{‏مُظْلِماً‏}‏ صفة له أو حالاً منه‏.‏ ‏{‏أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ مما يحتج به الوعيدية‏.‏ والجواب أن الآية في الكفار لاشتمال السيئات على الكفر والشرك ولأن الذين أحسنوا يتناول أصحاب الكبيرة من أهل القبلة فلا يتناولهم قسيمة‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً‏}‏ يعني الفريقين جميعاً‏.‏ ‏{‏ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ‏}‏ ألزموا مكانكم حتى تنظروا ما يفعل بكم‏.‏ ‏{‏أَنتُمْ‏}‏ تأكيد للضمير المنتقل إليه من عامله‏.‏ ‏{‏وَشُرَكَاؤُكُمْ‏}‏ عطف عليه وقرئ بالنصب على المفعول معه‏.‏ ‏{‏فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ‏}‏ ففرقنا بينهم وقطعنا الوصل التي كانت بينهم‏.‏ ‏{‏وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ‏}‏ مجاز عن براءة ما عبدوه من عبادتهم فإنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم لأنها الآمرة بالإِشراك لا ما أشركوا به‏.‏ وقيل ينطق الله الأصنام فتشافههم بذلك مكان الشفاعة التي يتوقعون منها‏.‏ وقيل المراد بالشركاء الملائكة والمسيح وقيل الشياطين‏.‏

‏{‏فكفى بالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ‏}‏ فإنه العالم بكنه الحال‏.‏ ‏{‏إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لغافلين‏}‏ ‏{‏إِن‏}‏ هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة‏.‏

‏{‏هُنَالِكَ‏}‏ في ذلك المقام‏.‏ ‏{‏تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ‏}‏ تختبر ما قدمت من عمل فتعاين نفعه وضره‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي «تتلو» من التلاوة أي تقرأ ذكر ما قدمت، أو من التلو أي تتبع عملها فيقودها إلى الجنة أو إلى النار‏.‏ وقرئ «نبلو» بالنون ونصب ‏{‏كُلٌّ‏}‏ وإبدال ‏{‏مَا‏}‏ منه والمعنى نختبرها أي نفعل بها فعل المختبر لحالها المتعرف لسعادتها وشقاوتها بتعرف ما أسلفت من أعمالها، ويجوز أن يراد به نصيب بالبلاء أي بالعذاب كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشر فتكون ‏{‏مَا‏}‏ منصوبة بنزع الخافض‏.‏ ‏{‏وَرُدُّواْ إِلَى الله‏}‏ إلى جزائه إياهم بما أسلفوا‏.‏ ‏{‏مولاهم الحق‏}‏ ربهم ومتولي أمرهم على الحقيقة لا ما اتخذوه مولى، وقرئ ‏{‏الحق‏}‏ بالنصب على المدح أو المصدر المؤكد‏.‏ ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُم‏}‏ وضاع عنهم‏.‏ ‏{‏مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ من أن آلهتهم تشفع لهم، أو ما كانوا يدعون أنها آلهة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض‏}‏ أي منهما جميعاً فإن الأرزاق تحصل بأسباب سماوية ومواد أرضية أو ‏{‏مِنْ‏}‏ كل واحد منهما توسعة عليكم‏.‏ وقيل من لبيان من على حذف المضاف أي من أهل السماء والأرض‏.‏ ‏{‏أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار‏}‏ أم من يستطيع خلقهما وتسويتهما، أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالها من أدنى شيء‏.‏ ‏{‏وَمَن يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى‏}‏ ومن يحيي ويميت، أو من ينشئ الحيوان من النطفة والنطفة منه‏.‏ ‏{‏وَمَن يُدَبّرُ الأمر‏}‏ ومن يلي تدبير أمر العالم وهو تعميم بعد تخصيص‏.‏ ‏{‏فَسَيَقُولُونَ الله‏}‏ إذ لا يقدرون على المكابرة والعناد في ذلك لفرط وضوحه‏.‏ ‏{‏فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ أنفسكم عقابه بإشراككم إياه ما لا يشاركه في شيء من ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحق‏}‏ أي المتولي لهذه الأمور المستحق للعبادة هو ربكم الثابت ربوبيته لأنه الذي أنشأكم وأحياكم ورزقكم ودبر أموركم‏.‏ ‏{‏فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال‏}‏ استفهام إنكار أي ليس بعد الحق إلا الضلال فمن تخطى الحق الذي هو عبادة الله تعالى وقع في الضلال‏.‏ ‏{‏فأنى تُصْرَفُونَ‏}‏ عن الحق إلى الضلال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ‏}‏ أي كما حقت الربوبية لله أو إن الحق بعده الضلال، أو أنهم مصروفون عن الحق كذلك حقت كلمة الله وحكمه‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر «كلمات» هنا وفي آخر السورة وفي «غافر» ‏{‏عَلَى الذين فَسَقُواْ‏}‏ تمردوا في كفرهم وخرجوا عن حد الاستصلاح‏.‏ ‏{‏أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ بدل من الكلمة، أو تعليل لحقيتها والمراد بها العدة بالعذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ جعل الإعادة كالإبداء في الإلزام بها لظهور برهانها وإن لم يساعدوا عليها، ولذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينوب عنهم في الجواب فقال ‏{‏قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ لأن لجاجهم لا يدعهم أن يعترفوا بها‏.‏ ‏{‏فأنى تُؤْفَكُونَ‏}‏ تصرفون عن قصد السبيل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 40‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏35‏)‏ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏37‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏38‏)‏ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ‏(‏39‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الحق‏}‏ بنصب الحجج وإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام والتوفيق للنظر والتدبر، وهدى كما يعدى بإلى لتضمنه معنى الانتهاء يعدى باللام للدلالة على أن المنتهي غاية الهداية وأنها لم تتوجه نحوه على سبيل الاتفاق ولذلك عدى بها ما أسند إلى الله تعالى‏.‏ ‏{‏قُلِ الله يَهْدِى لِلْحَقّ أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يهدى‏}‏ أم الذي لا يهتدي إلا أن يهدى من قولهم‏:‏ أهدى بنفسه إذا اهتدى، أو لا يهدي غيره إلا أن يهديه الله وهذا حال أشراف شركائهم كالملائكة والمسيح وعزير، وقرأ ابن كثير وورش عن نافع وابن عامر «يهدِّى» بفتح الهاء وتشديد الدال‏.‏ ويعقوب وحفص بالكسر والتشديد والأصل يهتدي فأدغم وفتحت الهاء بحركة التاء أو كسرت لالتقاء الساكنين‏.‏ وروى أبو بكر «يهدي» بإتباع الياء الهاء‏.‏ وقرأ أبو عمرو بالإدغام المجرد ولم يبال بالتقاء الساكنين لأن المدغم في حكم المتحرك‏.‏ وعن نافع برواية قالون مثله وقرئ ‏{‏إِلا أَنْ يَهْدِى‏}‏ للمبالغة ‏{‏فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ بما يقتضي صريح العقل بطلانه‏.‏ ‏{‏وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ‏}‏ فيما يعتقدونه‏.‏ ‏{‏إِلاَّ ظَنَاً‏}‏ مستنداً إلى خيالات فارغة وأقيسة فاسدة كقياس الغائب على الشاهد والخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة، والمراد بالأكثر الجميع أو من ينتمي منهم إلى تمييز ونظر ولا يرضى بالتقليد الصرف‏.‏ ‏{‏إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق‏}‏ من العلم والاعتقاد الحق‏.‏ ‏{‏شَيْئاً‏}‏ من الإِغناء ويجوز أن يكون مفعولاً به و‏{‏مِنَ الحق‏}‏ حالاً منه، وفيه دليل على أن تحصيل العلم في الأصول واجب والاكتفاء بالتقليد والظن غير جائز‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ‏}‏ وعيد على اتباعهم للظن وإعراضهم عن البرهان‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ هذا القرءان أَن يفترى مِن دُونِ الله‏}‏ افتراء من الخلق‏.‏ ‏{‏ولكن تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ مطابقاً لما تقدمه من الكتب الإلهية المشهود على صدقها ولا يكون كذباً كيف وهو لكونه معجزاً دونها عيَّارٌ عليها شاهد على صحتها، ونصبه بأنه خبر لكان مقدراً أو علة لفعل محذوف تقديره‏:‏ ولكن أنزله الله تصديق الذي‏.‏ وقرئ بالرفع على تقدير ولكن هو تصديق‏.‏ ‏{‏وَتَفْصِيلَ الكتاب‏}‏ وتفصيل ما حقق وأثبت من العقائد والشرائع‏.‏ ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ منتفياً عنه الريب وهو خبر ثالث داخل في حكم الاستدراك، ويجوز أن يكون حالاً من الكتاب فإنه مفعول في المعنى وأن يكون استئنافاً‏.‏ ‏{‏مِن رَّبّ العالمين‏}‏ خبر آخر تقديره كائناً من رب العالمين أو متعلق بتصديق أو تفصيل، و‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ اعتراض أو بالفعل المعلل وبهما أن يكون حالاً من الكتاب أو من الضمير في ‏{‏فِيهِ‏}‏، ومساق الآية بعد المنع عن اتباع الظن لبيان ما يجب اتباعه والبرهان عليه‏.‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ‏}‏ بل أيقولون‏.‏ ‏{‏افتراه‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم ومعنى الهمزة فيه للإنكار‏.‏ ‏{‏قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ‏}‏ في البلاغة وحسن النظم وقوة المعنى على وجه الافتراء فإنكم مثلي في العربية والفصاحة وأشد تمرناً في النظم والعبارة‏.‏ ‏{‏وادعوا مَنِ استطعتم‏}‏ ومع ذلك فاستعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به‏.‏ ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ سوى الله تعالى فإنه وحده قادر على ذلك‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ أنه اختلقه‏.‏

‏{‏بَلْ كَذَّبُواْ‏}‏ بل سارعوا إلى التكذيب‏.‏ ‏{‏بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ‏}‏ بالقرآن أول ما سمعوه قبل أن يتدبروا آياته ويحيطوا بالعلم بشأنه، أو بما جهلوه ولم يحيطوا به علماً من ذكر البعث والجزاء وسائر ما يخالف دينهم‏.‏ ‏{‏وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ‏}‏ ولم يقفوا بعد على تأويله ولم تبلغ أذهانهم معانيه، أو ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإِخبار بالغيوب حتى يتبين لهم أنه صدق أم كذب، والمعنى أن القرآن معجز من جهة اللفظ والمعنى ثم إنهم فاجئوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه ويتفحصوا معناه ومعنى التوقع في لما أنه قد ظهر لهم بالآخرة إعجازه لما كرر عليهم التحدي فزادوا قواهم في معارضته فتضاءلت دونها، أو لما شاهدوا وقوع ما أخبر به طبقاً لأخباره مراراً فلم يقلعوا عن التكذيب تمرداً وعناداً‏.‏ ‏{‏كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ أنبياءهم‏.‏ ‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين‏}‏ فيه وعيد لهم بمثل ما عوقب به من قبلهم‏.‏

‏{‏وَمِنْهُمُ‏}‏ ومن المكذبين‏.‏ ‏{‏مَن يُؤْمِنُ بِهِ‏}‏ من يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق ولكن يعاند، أو من سيؤمن به ويتوب عن الكفر‏.‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ‏}‏ في نفسه لفرط غباوته وقلة تدبره، أو فيما يستقبل بل يموت على الكفر، ‏{‏وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين‏}‏ بالمعاندين أو المصرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن كَذَّبُوكَ‏}‏ وإن أصروا على تكذيبك بعد إلزام الحجة‏.‏ ‏{‏فَقُل لّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ‏}‏ فتبرأ منهم فقد أعذرت، والمعنى لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم حقاً كان أو باطلاً‏.‏ ‏{‏أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِئ مّمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم، ولما فيه من إيهام الإِعراض عنهم وتخلية سبيلهم قيل إنه منسوخ بآية السيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ‏}‏ إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع ولكن لا يقبلون كالأصم الذي لا يسمع أصلاً‏.‏ ‏{‏أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم‏}‏ تقدر على إسماعهم‏.‏ ‏{‏وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ ولو انضم إلى صممهم عدم تعقلهم‏.‏ وفيه تنبيه على أن حقيقة استماع الكلام فهم المعنى المقصود منه ولذلك لا توصف به البهائم، وهو لا يتأتى إلا باستعمال العقل السليم في تدبره وعقولهم لما كانت مؤفة بمعارضة الوهم ومشايعة الإلف، والتقليد تعذر إفهامهم الحكم والمعاني الدقيقة فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما ينتفع به البهائم من كلام الناعق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ‏}‏ يعاينون دلائل نبوتك ولكن لا يصدقونك‏.‏ ‏{‏أَفَأَنْتَ تَهْدِى العمى‏}‏ تقدر على هدايتهم‏.‏ ‏{‏وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ‏}‏ وإن انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة فإن المقصود من الإبصار هو الاعتبار والاستبصار والعمدة في ذلك البصيرة، ولذلك يحدس الأعمى المستبصر ويتفطن لما لا يدركه البصير الأحمق‏.‏ والآية كالتعليل للأمر بالتبري والإعراض عنهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا‏}‏ بسلب حواسهم وعقولهم‏.‏ ‏{‏ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ بإفسادها وتفويت منافعها عليهم، وفيه دليل على أن للعبد كسباً وأنه ليس بمسلوب الاختيار بالكلية كما زعمت المجبرة، ويجوز أن يكون وعيداً لهم بمعنى أن ما يحيق بهم يوم القيامة من العذاب عدل من الله لا يظلمهم به ولكنهم ظلموا أنفسهم باقتراف أسبابه‏.‏ وقرأ أبو عمرو والكسائي بالتخفيف ورفع ‏{‏الناس‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النهار‏}‏ يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا أو في القبور لهول ما يرون، والجملة التشبيهية في موضع الحال أي يحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة، أو صفة ليوم والعائد محذوف تقديره‏:‏ كأن لم يلبثوا قبله أو لمصدر محذوف، أي‏:‏ حشراً كأن لم يلبثوا قبله‏.‏ ‏{‏يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ‏}‏ يعرف بعضهم بعضاً كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلاً، وهذا أول ما نشروا ثم ينقطع التعارف لشدة الأمر عليهم وهي حال أخرى مقدرة، أو بيان لقوله‏:‏ ‏{‏كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ‏}‏ أو متعلق الظرف والتقدير يتعارفون يوم يحشرهم‏.‏ ‏{‏قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله‏}‏ استئناف للشهادة على خسرانهم والتعجب منه، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في يتعارفون على إرادة القول‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ‏}‏ لطرق استعمال ما منحوا من المعاون في تحصيل المعارف فاستكسبوا بها جهالات أدت بهم إلى الردى والعذاب الدائم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 51‏]‏

‏{‏وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ‏(‏46‏)‏ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏47‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏48‏)‏ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏49‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏50‏)‏ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ‏}‏ نبصرنك‏.‏ ‏{‏بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ‏}‏ من العذاب في حياتك كما أراه يوم بدر‏.‏ ‏{‏أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ‏}‏ قبل أن نريك‏.‏ ‏{‏فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ‏}‏ فنريكه في الآخرة وهو جواب ‏{‏نَتَوَفَّيَنَّكَ‏}‏ وجواب ‏{‏نُرِيَنَّكَ‏}‏ محذوف مثل فداك‏.‏ ‏{‏ثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ‏}‏ مجاز عليه ذكر الشهادة وأراد نتيجتها ومقتضاها ولذلك رتبها على الرجوع ب ‏{‏ثُمَّ‏}‏، أو مؤد شهادته على أفعالهم يوم القيامة‏.‏

‏{‏وَلِكُلّ أُمَّةٍ‏}‏ من الأمم الماضية‏.‏ ‏{‏رَّسُولٍ‏}‏ يبعث إليهم ليدعوهم إلى الحق‏.‏ ‏{‏فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ‏}‏ بالبينات فكذبوه‏.‏ ‏{‏قُضِىَ بَيْنَهُمْ‏}‏ بين الرسول ومكذبيه‏.‏ ‏{‏بالقسط‏}‏ بالعدل فأنجي الرسول وأهلك المكذبون‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ وقيل معناه لكل أمة يوم القيامة رسول تنسب إليه فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان قضى بينهم بإنجاء المؤمنين وعقاب الكفار لقوله‏:‏ ‏{‏وَجِئ بالنبيين والشهداء وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد‏}‏ استبعاداً له واستهزاء به‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ خطاب منهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين‏.‏

‏{‏قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا‏}‏ فكيف أملك لكم فأستعجل في جلب العذاب إليكم‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء الله‏}‏ أن أملكه أو ولكن ما شاء الله من ذلك كائن‏.‏ ‏{‏لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ‏}‏ مضروب لهلاكهم‏.‏ ‏{‏إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ لا يتأخرون ولا يتقدمون فلا تستعجلون فسيحين وقتكم وينجز وعدكم‏.‏

‏{‏قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ‏}‏ الذي تستعجلون به‏.‏ ‏{‏بَيَاتًا‏}‏ وقت بيات واشتغال بالنوم‏.‏ ‏{‏أَوْ نَهَارًا‏}‏ حين كنتم مشتغلين بطلب معاشكم‏.‏ ‏{‏مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون‏}‏ أي شيء من العذاب يستعجلونه، وكله مكروه لا يلائم الاستعجال وهو متعلق ب ‏{‏أَرَءيْتُمْ‏}‏ لأنه بمعنى أخبروني، والمجرمون وضع موضع الضمير للدلالة على أنهم لجرمهم ينبغي أن يفزعوا من مجيء العذاب لا أن يستعجلوه، وجواب الشرط محذوف وهو تندموا على الاستعجال، أو تعرفوا خطأه، ويجوز أن يكون الجواب ماذا كقولك إن أتيتك ماذا تعطيني وتكون الجملة متعلقة ب ‏{‏أَرَءيْتُمْ‏}‏ أو بقوله‏:‏

‏{‏أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءامَنْتُمْ بِهِ‏}‏ بمعنى إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإِيمان، وماذا يستعجل اعتراض ودخول حرف الاستفهام على «ثم» لانكار التأخير‏.‏ ‏{‏الئان‏}‏ على إرادة القول أي قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب آلآن آمنتم به‏.‏ وعن نافع ‏{‏الئان‏}‏ بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام‏.‏ ‏{‏وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ تكذيباً واستهزاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ‏}‏ عطف على قيل المقدر‏.‏ ‏{‏ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد‏}‏ المؤلم على الدوام‏.‏ ‏{‏هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ‏}‏ من الكفر والمعاصي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَسْتَنْبِئُونَكَ‏}‏ ويستخبرونك‏.‏ ‏{‏أَحَقٌّ هُوَ أحق ما تقول من الوعد أو ادعاء النبوة تقوله بجد أم باطل تهزل به قاله حيي بن أخطب لما قدم مكة، والأظهر أن الاستفهام فيه على أصله لقوله‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَنْبِئُونَكَ‏}‏ وقيل إنه للإنكار ويؤيده أنه قرئ «آلحق هو» فإن فيه تعريضاً بأنه باطل، وأحق مبتدأ والضمير مرتفع به ساد مسد الخبر أو خبر مقدم والجملة في موضع النصب ‏{‏يستنبئونك‏}‏‏.‏ ‏{‏قُلْ إِى وَرَبّى إِنَّهُ لَحَقٌّ‏}‏ إن العذاب لكائن أو ما ادعيته لثابت‏.‏ وقيل كلا الضميرين للقرآن، وإي بمعنى نعم وهو من لوازم القسم ولذلك يوصل بواوه في التصديق فيقال إي والله ولا يقال إي وحده‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ‏}‏ بفائتين العذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ‏}‏ بالشرك أو التعدي على الغير ‏{‏مَّا فِى الأرض‏}‏ من خزائنها وأموالها‏.‏ ‏{‏لاَفْتَدَتْ بِهِ‏}‏ لجعلته فدية لها من العذاب، من قولهم افتداه بمعنى فداه‏.‏ ‏{‏وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب‏}‏ لأنهم بهتوا بما عاينوا مما لم يحتسبوه من فظاعة الأمر وهوله فلم يقدروا أن ينطقوا‏.‏ وقيل ‏{‏أَسَرُّواْ الندامة‏}‏ أخلصوها لأن إخفاءها إخلاصها، أو لأنه يقال سر الشيء لخالصته من حيث إنها تخفى ويضن بها‏.‏ وقيل أظهروها من قولهم أسر الشيء وأسره إذا أظهره‏.‏ ‏{‏وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالقسط وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ ليس تكريراً لأن الأول قضاء بين الأنبياء ومكذبيهم والثاني مجازاة المشركين على الشرك أو الحكومة بين الظالمين والمظلومين، والضمير إنما يتناولهم لدلالة الظلم عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السموات والأرض‏}‏ تقرير لقدرته تعالى على الإثابة والعقاب‏.‏ ‏{‏أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ‏}‏ ما وعده من الثواب والعقاب كائن لا خلف فيه‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ لأنهم لا يعلمون لقصور عقولهم إلا ظاهراً من الحياة الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 60‏]‏

‏{‏هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏56‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏57‏)‏ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏58‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ‏(‏59‏)‏ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ‏}‏ في الدنيا فهو يقدر عليهما في العقبى لأن القادر لذاته لا تزول قدرته، والمادة القابلة بالذات للحياة والموت لهما أبداً‏.‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ بالموت أو النشور‏.‏

‏{‏يا أيها الناس قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَشِفَاء لِمَا فِى الصدور وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي قد جاءكم كتاب جامع للحكمة العملية الكاشفة عن محاسن الأعمال ومقابحها المرغبة في المحاسن والزاجرة عن المقابح، والحكمة النظرية التي هي شفاء لما في الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد وهدى إلى الحق واليقين ورحمة للمؤمنين، حيث أنزلت عليهم فنجوا بها من ظلمات الضلال إلى نور الإِيمان، وتبدلت مقاعدهم من طبقات النيران بمصاعد من درجات الجنان، والتنكير فيها للتعظيم‏.‏

‏{‏قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ‏}‏ بإنزال القرآن، والباء متعلقة بفعل يفسره قوله‏:‏ ‏{‏فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ‏}‏ فإن اسم الإشارة بمنزلة الضمير تقديره بفضل الله وبرحمته فليعتنوا أو فليفرحوا فبذلك فليفرحوا، وفائدة ذلك التكرير التأكيد والبيان بعد الإجمال وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح أو بفعل دل عليه ‏{‏قَدْ جَاءتْكُم‏}‏، وذلك إشارة إلى مصدره أي فبمجيئها فليفرحوا والفاء بمعنى الشرط كأنه قيل‏:‏ إن فرحوا بشيء فيهما فليفرحوا أو للربط بما قبلها، والدلالة على أن مجيء الكتاب الجامع بين هذه الصفات موجب للفرح وتكريرها للتأكيد كقوله‏:‏

وَإِذَا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ فَاجْزَعِي *** وعن يعقوب «فلتفرحوا» بالتاء على الأصل المرفوض، وقد روي مرفوعاً ويؤيده أنه قرئ «فافرحوا»‏.‏ ‏{‏هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏ من حطام الدنيا فإنها إلى الزوال قريب وهو ضمير ذلك‏.‏ وقرأ ابن عامر تجمعون بالتاء على معنى فبذلك فليفرح المؤمنون فهو خير مما تجمعونه أيها المخاطبون‏.‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ‏}‏ جعل الرزق منزلاً لأنه مقدر في السماء محصل بأسباب منها، وما في موضع النصب ب ‏{‏أَنَزلَ‏}‏ أو ب ‏{‏أَرَءيْتُمْ‏}‏ فإنه بمعنى أخبروني، ولكم دل على أن المراد منه ما حل ولذلك وبخ على التبعيض فقال‏:‏ ‏{‏فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً‏}‏ مثل‏:‏ ‏{‏هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ‏}‏ ‏{‏مَا فِى بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا‏}‏ ‏{‏قُلِ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ‏}‏ في التحريم والتحليل فتقولون ذلك بحكمه‏.‏ ‏{‏أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ‏}‏ في نسبة ذلك إليه ويجوز أن تكون المنفصلة متصلة ب ‏{‏أَرَءيْتُمْ‏}‏ وقل مكرر للتأكيد وأن يكون الاستفهام للإِنكار، و‏{‏أَمْ‏}‏ منقطعة ومعنى الهمزة فيها تقرير لافترائهم على الله‏.‏

‏{‏وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب‏}‏ أي شيء ظنهم‏.‏ ‏{‏يَوْمُ القيامة‏}‏ أيحسبون أن لا يجازوا عليه، وهو منصوب بالظن ويدل عليه أنه قرئ بلفظ الماضي لأنه كائن، وفي إبهام الوعيد تهديد عظيم ‏{‏إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس‏}‏ حيث أنعم عليهم بالعقل وهداهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ هذه النعمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ‏}‏ ولا تكون في أمر، وأصله الهمز من شأنت شأنه إذا قصدت قصده والضمير في ‏{‏وَمَا تَتْلُو مِنْهُ‏}‏ له لأن تلاوة القرآن معظم شأن الرسول، أو لأن القراءة تكون لشأن فيكون التقدير من أجله ومفعول تتلو ‏{‏مِن قُرْءانٍ‏}‏ على أن ‏{‏مِنْ‏}‏ تبعيضية أو مزيدة لتأكيد النفي أو لل ‏{‏قُرْءانَ‏}‏، وإضماره قبل الذكر ثم بيانه تفخيم له أو لله‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ‏}‏ تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم، ولذلك ذكر حيث خص ما فيه فخامة وذكر حيث عم ما يتناول الجليل والحقير‏.‏ ‏{‏إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا‏}‏ رقباء مطلعين عليه‏.‏ ‏{‏إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ‏}‏ تخوضون فيه وتندفعون‏.‏ ‏{‏وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ‏}‏ ولا يبعد عنه ولا يغيب عن علمه، وقرأ الكسائي بكسر الزاي هنا وفي «سبأ»‏.‏ ‏{‏مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ‏}‏ موازن نملة صغيرة أو هباء‏.‏ ‏{‏فِي الأرض وَلاَ فِى السماء‏}‏ أي في الوجود والإمكان فإن العامة لا تعرف ممكناً غيرهما ليس فيهما ولا متعلقاً بهما، وتقديم الأرض لأن الكلام في حال أهلها والمقصود منه البرهان على إحاطة علمه بها‏.‏ ‏{‏وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ‏}‏ كلام برأسه مقرر لما قبله ‏{‏وَلاَ‏}‏ نافية و‏{‏أَصْغَرَ‏}‏ اسمها ‏{‏وَفِى كِتَابٍ‏}‏ خبرها‏.‏ وقرأ حمزة ويعقوب بالرفع على الابتداء والخبر، ومن عطف على لفظ ‏{‏مِثْقَالَ ذَرَّةٍ‏}‏ وجعل الفتح بدل الكسر لامتناع الصرف أو على محله مع الجار جعل الاستثناء منقطعاً، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 65‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏62‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏63‏)‏ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏64‏)‏ وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله‏}‏ الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة‏.‏ ‏{‏لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ من لحوق مكروه‏.‏ ‏{‏وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ لفوات مأمول‏.‏ والآية كمجمل فسره قوله‏:‏

‏{‏الذين ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ وقيل الذين آمنوا وكانوا يتقون بيان لتوليهم إياه‏.‏

‏{‏لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا‏}‏ وهو ما بشر به المتقين في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وما يريهم من الرؤيا الصالحة وما يسنح لهم من المكاشفات، وبشرى الملائكة عند النزع‏.‏ ‏{‏وَفِي الأخرة‏}‏ بتلقي الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة بيان لتوليه لهم، ومحل ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ النصب أو الرفع على المدح أو على وصف الأولياء أو على الابتداء وخبره ‏{‏لَهُمُ البشرى‏}‏‏.‏ ‏{‏لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله‏}‏ أي لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين‏.‏ ‏{‏هُوَ الفوز العظيم‏}‏ هذه الجملة والتي قبلها اعتراض لتحقيق المبشر به وتعظيم شأنه، وليس من شرطه أن يقع بعده كلام يتصل بما قبله‏.‏

‏{‏وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ‏}‏ إشراكهم وتكذيبهم وتهديدهم‏.‏ وقرأ نافع ‏{‏يَحْزُنكَ‏}‏ من أحزنه وكلاهما بمعنى‏.‏ ‏{‏إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً‏}‏ استئناف بمعنى التعليل ويدل عليه القراءة بالفتح كأنه قيل لا تحزن بقولهم ولا تبال بهم لأن الغلبة لله جميعاً لا يملك غيره شيئاً منها فهو يقهرهم وينصرك عليهم‏.‏ ‏{‏هُوَ السميع‏}‏ لأقوالهم‏.‏ ‏{‏العليم‏}‏ بعزماتهم فيكافئهم عليها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِى السموات وَمَن فِى الأرض‏}‏ من الملائكة والثقلين، وإذا كان هؤلاء الذين هم أشرف الممكنات عبيداً لا يصلح أحد منهم للربوبية فما لا يعقل منها أحق أن لا يكون له نداً أو شريكاً فهو كالدليل على قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يَتَّبِعُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله شُرَكَاء‏}‏ أي شركاء على الحقيقة وإن كان يسمونها شركاء، ويجوز أن يكون ‏{‏شُرَكَاء‏}‏ مفعول ‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏ ومفعول ‏{‏يَتَّبِعُ‏}‏ محذوف دل عليه‏.‏ ‏{‏إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن‏}‏ أي ما يتبعون يقيناً وإنما يتبعون ظنهم أنها شركاء، ويجوز أن تكون ‏{‏مَا‏}‏ استفهامية منصوبة ب ‏{‏يَتَّبِعُ‏}‏ أو موصولة معطوفة على من وقرئ «تدعون» بالتاء الخطابية والمعنى‏:‏ أي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين، أي أنهم لا يتبعون إلا الله ولا يعبدون غيره فما لكم لا تتبعونهم فيه كقوله‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة‏}‏ فيكون إلزاماً بعد برهان وما بعده مصروف عن خطابهم لبيان سندهم ومنشأ رأيهم‏.‏ ‏{‏وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ‏}‏ يكذبون فيما ينسبون إلى الله أو يحزرون ويقدرون أنها شركاء تقديراً باطلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً‏}‏ تنبيه على كمال قدرته وعظم نعمته المتوحد هو بهما ليدلهم على تفرده باستحقاق العبادة، وإنما قال ‏{‏مُبْصِراً‏}‏ ولم يقل لتبصروا فيه تفرقة بين الظرف المجرد والظرف الذي هو سبب‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ‏}‏ سماع تدبر واعتبار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا‏}‏ أي تبناه‏.‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ تنزيه له عن التبني فإنه لا يصح إلا ممن يتصور له الولد وتعجب من كلمتهم الحمقاء‏.‏ ‏{‏هُوَ الغنى‏}‏ علة لتنزيهه فإن اتخاذ الولد مسبب عن الحاجة‏.‏ ‏{‏لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ تقرير لغناه‏.‏ ‏{‏إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بهذا‏}‏ نفي لمعارض ما أقامه من البرهان مبالغة في تجهيلهم وتحقيقاً لبطلان قولهم، و‏{‏بهذا‏}‏ متعلق ب ‏{‏سلطان‏}‏ أو نعت ‏{‏لَهُ‏}‏ أو ب ‏{‏عِندَكُمْ‏}‏ كأنه قيل‏:‏ إن عندكم في هذا من سلطان‏.‏ ‏{‏أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ توبيخ وتقريع على اختلافهم وجهلهم‏.‏ وفيه دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة وأن العقائد لا بد لها من قاطع وأن التقليد فيها غير سائغ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب‏}‏ باتخاذ الولد وإضافة الشريك إليه‏.‏ ‏{‏لاَ يُفْلِحُونَ‏}‏ لا ينجون من النار ولا يفوزون بالجنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏متاع فِى الدنيا‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي افتراؤهم متاع في الدنيا يقيمون به رئاستهم في الكفر أو حياتهم أو تقلبهم، ‏{‏متاع‏}‏ مبتدأ خبره محذوف أي لهم تمتع في الدنيا‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ‏}‏ بالموت فيلقون الشقاء المؤبد‏.‏ ‏{‏ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ‏}‏ بسبب كفرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ‏}‏ خبره مع قومه‏.‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقوم إَِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ‏}‏ عظم عليكم وشق‏.‏ ‏{‏مَّقَامِى‏}‏ نفسي كقولك فعلت كذا لمكان فلان، أو كوني وإقامتي بينكم مدة مديدة أو قيامي على الدعوة‏.‏ ‏{‏وَتَذْكِيرِى‏}‏ إياكم‏.‏ ‏{‏بِآيَاتِ الله فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ‏}‏ وثقت به‏.‏ ‏{‏فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ‏}‏ فأعزموا عليه‏.‏ ‏{‏وَشُرَكَاءكُمْ‏}‏ أي مع شركائكم ويؤيده القراءة بالرفع عطفاً على الضمير المتصل، وجاز من غير أن يؤكد للفصل وقيل إنه معطوف على ‏{‏أَمَرَكُمُ‏}‏ بحذف المضاف أي وأمر شركائكم‏.‏ وقيل إنه منصوب بفعل محذوف تقديره وادعوا شركاءكم وقد قرئ به، وعن نافع ‏{‏فَأَجْمِعُواْ‏}‏ من الجمع، والمعنى أمرهم بالعزم أو الاجتماع على قصده والسعي في إهلاكه على أي وجه يمكنهم ثقة بالله وقلة مبالاة بهم‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ‏}‏ في قصدي‏.‏ ‏{‏عَلَيْكُمْ غُمَّةً‏}‏ مستوراً واجعلوه ظاهراً مكشوفاً، من غمه إذا ستره أو ثم لا يكن حالكم عليكم غماً إذا أهلكتموني وتخلصتم من ثقل مقامي وتذكيري‏.‏ ‏{‏ثُمَّ اقضوا‏}‏ أدوا‏.‏ ‏{‏إِلَىَّ‏}‏ ذلك الأمر الذي تريدون بي، وقرئ «ثم أفضوا إليَّ» بالفاء أي انتهوا إلي بشركم أو ابرزوا إلي، من أفضى إذا خرج إلى الفضاء‏.‏ ‏{‏وَلاَ تُنظِرُونَ‏}‏ ولا تمهلوني‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِن تَوَلَّيْتُمْ‏}‏ أعرضتم عن تذكيري‏.‏ ‏{‏فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ‏}‏ يوجب توليكم لثقله عليكم واتهامكم إياي لأجله، أو يفوتني لتوليكم‏.‏ ‏{‏إِنْ أَجْرِىَ‏}‏ ما ثوابي على الدعوة والتذكير‏.‏ ‏{‏إِلاَّ عَلَى الله‏}‏ لا تعلق له بكم يثيبني به آمنتم أو توليتم‏.‏ ‏{‏وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين‏}‏ المنقادين لحكمه لا أخالف أمره ولا أرجو غيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ‏}‏ فأصروا على تكذيبه بعدما ألزمهم الحجة وبين أن توليهم ليس إلا لعنادهم وتمردهم لا جرم حقت عليهم كلمة العذاب‏.‏ ‏{‏فنجيناه‏}‏ من الغرق‏.‏ ‏{‏وَمَن مَّعَهُ فِى الفلك‏}‏ وكانوا ثمانين‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ‏}‏ من الهالكين به‏.‏ ‏{‏وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا‏}‏ بالطوفان‏.‏ ‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين‏}‏ تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن كذب الرسول صلى الله عليه وسلم وتسلية له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا‏}‏ أرسلنا‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِهِ‏}‏ من بعد نوح‏.‏ ‏{‏رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ‏}‏ كل رسول إلى قومه‏.‏ ‏{‏فَجَاءوهُم بالبينات‏}‏ بالمعجزات الواضحة المثبتة لدعواهم‏.‏ ‏{‏فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ‏}‏ فما استقام لهم أن يؤمنوا لشدة شكيمتهم في الكفر وخذلان الله إياهم‏.‏ ‏{‏بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ‏}‏ أي بسبب تعودهم تكذيب الحق وتمرنهم عليه قبل بعثه الرسل عليهم الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ نَطْبَعُ على قُلوبِ المعتدين‏}‏ بخذلانهم لانهماكهم في الضلال واتباع المألوف، وفي أمثال ذلك دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة الله تعالى وكسب العبد وقد مر تحقيق ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم‏}‏ من بعد هؤلاء الرسل‏.‏ ‏{‏موسى وهارون إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بآياتنا‏}‏ بالآيات التسع‏.‏ ‏{‏فاستكبروا‏}‏ عن اتباعهما‏.‏ ‏{‏وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ‏}‏ معتادين الإجرام فلذلك تهاونوا برسالة ربهم واجترؤوا على ردها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا‏}‏ وعرفوه بتظاهر المعجزات الباهرة المزيلة للشك‏.‏ ‏{‏قَالُواْ‏}‏ من فرط تمردهم‏.‏ ‏{‏إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر أنه سحر، أو فائق في فنه واضح فيما بين إخوته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 81‏]‏

‏{‏قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ‏(‏77‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏78‏)‏ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ‏(‏79‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ‏(‏80‏)‏ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ موسى أَتقُولُونَ لِلْحَقّ لَمَّا جَاءكُمْ‏}‏ إنه لسحر فحذف المحكي المقول لدلالة ما قبله عليه، ولا يجوز أن يكون‏.‏ ‏{‏أَسِحْرٌ هذا‏}‏ لأنهم بتوا القول بل هو استئناف بإنكار ما قالوه اللهم إلا أن يكون الاستفهام فيه للتقرير والمحكي مفهوم قولهم، ويجوز أن يكون معنى ‏{‏أَتقُولُونَ لِلْحَقّ‏}‏ أتعيبونه من قولهم فلان يخاف القالة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ‏}‏ فيستغني عن المفعول‏.‏

‏{‏وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون‏}‏ من تمام كلام موسى للدلالة على أنه ليس بسحر فإنه لو كان سحراً لاضمحل ولم يبطل سحر السحرة، ولأن العالم بأنه لا يفلح الساحر لا يسحر، أو من تمام قولهم إن جعل أسحر هذا محكياً كأنهم قالوا أجئتنا بالسحر تطلب به الفلاح ولا يفلح الساحرون‏.‏

‏{‏قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا‏}‏ لتصرفنا واللفت والفتل أخوان‏.‏ ‏{‏عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا‏}‏ من عبادة الأصنام‏.‏ ‏{‏وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء فِى الأرض‏}‏ الملك فيها سمي بها لاتصاف الملوك بالكبر، أو التكبر على الناس باستتباعهم‏.‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ بمصدقين فيما جئتما به‏.‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتونى بِكُلّ ساحر‏}‏ وقرأ حمزة والكسائي «بكل سحار»‏.‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ حاذق فيه‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاء السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏فَلَمَّا أَلْقُواْ قَالَ موسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر‏}‏ أي الذي جئتم به هو السحر لا ما سماه فرعون وقومه سحراً‏.‏ وقرأ أبو عمرو ‏{‏السحر‏}‏ على أن ‏{‏مَا‏}‏ استفهامية مرفوعة بالابتداء وجئتم به خبرها و‏{‏السحر‏}‏ بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف تقديره أهو السحر، أو مبتدأ خبره محذوف أي السحر هو‏.‏ ويجوز أن ينتصب ما يفعل يفسره ما بعده وتقديره أي شيء أتيتم‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ‏}‏ سيمحقه أو سيظهر بطلانه‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين‏}‏ لا يثبته ولا يقويه وفيه دليل على أن السحر إفساد وتمويه لا حقيقة له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏وَيُحِقُّ الله الحق‏}‏ ويثبته‏.‏ ‏{‏بكلماته‏}‏ بأوامره وقضاياه وقرئ «بكلمته»‏.‏ ‏{‏وَلَوْ كَرِهَ المجرمون‏}‏ ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَا ءامَنَ لموسى‏}‏ أي في مبدأ أمره‏.‏ ‏{‏إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ‏}‏ إلا أولاد من أولاد قومه بني إسرائيل دعاهم فلم يجيبوه خوفاً من فرعون إلا طائفة من شبانهم، وقيل الضمير ل ‏{‏فِرْعَوْنُ‏}‏ والذرية طائفة من شبانهم آمنوا به، أو مؤمن آل فرعون وامرأته آسية وخازنه وزوجته وماشطته ‏{‏على خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ‏}‏ أي مع خوف منهم، والضمير ل ‏{‏فِرْعَوْنُ‏}‏ وجمعه على ما هو المعتاد في ضمير العظماء، أو على أن المراد ب ‏{‏فِرْعَوْنُ‏}‏ آله كما يقال‏:‏ ربيعة ومضر، أو للذُريةِ أو للقوم‏.‏ ‏{‏أَن يَفْتِنَهُمْ‏}‏ أن يعذبهم فرعون، وهو بدل منه أو مفعول خوف وإفراده بالضمير للدلالة على أن الخوف من الملأ كان بسببه‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض‏}‏ لغالب فيها‏.‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين‏}‏ في الكبر والعتو حتى ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى‏}‏ لما رأى تخوف المؤمنين به‏.‏ ‏{‏ياقوم إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا‏}‏ فثقوا به واعتمدوا عليه‏.‏ ‏{‏إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ‏}‏ مستسلمين لقضاء الله مخلصين له، وليس هذا من تعليق الحكم بشرطين، فإن المعلق بالإيمان وجوب التوكل فإنه المقتضي له، والمشروط بالإسلام حصوله فإنه لا يوجد مع التخليط ونظيره إن دعاك زيد فأجبه إن قدرت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا‏}‏ لأنهم كانوا مؤمنين مخلصين ولذلك أجيبت دعوتهم‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً‏}‏ موضع فتنة‏.‏ ‏{‏لّلْقَوْمِ الظالمين‏}‏ أي لا تسلطهم علينا فيفتنونا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين‏}‏ من كيدهم ومن شؤم مشاهدتهم، وفي تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على أن الداعي ينبغي له أن يتوكل أولاً لتجاب دعوته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا‏}‏ أي اتخذا مباءة‏.‏ ‏{‏لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا‏}‏ تسكنون فيها أو ترجعون إليها للعبادة‏.‏ ‏{‏واجعلوا‏}‏ أنتما وقومكما‏.‏ ‏{‏بُيُوتِكُمْ‏}‏ تلك البيوت‏.‏ ‏{‏قِبْلَةَ‏}‏ مصلى وقيل مساجد متوجهة نحو القبلة يعني الكعبة، وكان موسى صلى الله عليه وسلم يصلي إليها‏.‏ ‏{‏وَأَقِيمُواْ الصلاة‏}‏ فيها، أمروا بذلك أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم‏.‏ ‏{‏وَبَشّرِ المؤمنين‏}‏ بالنصرة في الدنيا والجنة في العقبى، وإنما ثنى الضمير أولاً لأن التبوأ للقوم واتخاذ المعابد مما يتعاطاه رؤوس القوم بتشاور، ثم جمع لأن جعل البيوت مساجد والصلاة فيها مما ينبغي أن يفعله كل أحد، ثم وحد لأن البشارة في الأصل وظيفة صاحب الشريعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 92‏]‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏88‏)‏ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏89‏)‏ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏90‏)‏ آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏91‏)‏ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ موسى رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً‏}‏ ما يتزين به من الملابس والمراكب ونحوهما‏.‏ ‏{‏وَأَمْوَالاً فِى الحياة الدنيا‏}‏ وأنواعاً من المال‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ‏}‏ دعاء عليهم بلفظ الأمر بما علم من ممارسة أحوالهم أنه لا يكون غيره كقولك‏:‏ لعن الله إبليس‏.‏ وقيل اللام للعاقبة وهي متعلقة ب ‏{‏ءاتَيْتَ‏}‏ ويحتمل أن تكون للعلة لأن إيتاء النعم على الكفر استدراج وتثبيت على الضلال، ولأنهم لما جعلوها سبباً للضلال فكأنهم أوتوها ليضلوا فيكون ‏{‏رَبَّنَا‏}‏ تكريراً للأول تأكيداً وتنبيهاً على أن المقصود عرض ضلالهم وكفرانهم تقدمة لقوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا اطمس على أموالهم‏}‏ أي أهلكها، والطمس المحق وقرئ «اطْمِس» بالضم‏.‏ ‏{‏واشدد على قُلُوبِهِمْ‏}‏ أي وأقسها عليها حتى لا تنشرح للإيمان‏.‏ ‏{‏فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم‏}‏ جواب للدعاء أو دعاء بلفظ النهي، أو عطف على ‏{‏لِيُضِلُّواْ‏}‏ وما بينهم دعاء معترض‏.‏

‏{‏قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا‏}‏ يعني موسى وهارون لأنه كان يؤمن‏.‏ ‏{‏فاستقيما‏}‏ فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة وإلزام الحجة، ولا تستعجلا فإن ما طلبتما كائن ولكن في وقته‏.‏ روي‏:‏ أنه مكث فيهم بعد الدعاء أربعين سنة‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ طريق الجهلة في الاستعجال أو عدم الوثوق والاطمئنان بوعد الله تعالى، وعن ابن عامر برواية ابن ذكوان ولا تتبعان بالنون الخفيفة وكسرها لالتقاء الساكنين، ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعَانّ‏}‏ من تبع ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعَانّ‏}‏ أيضاً‏.‏

‏{‏وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إسراءيل البحر‏}‏ أي جوزناهم في البحر حتى بلغوا الشط حافظين لهم، وقرئ «جوزنا» وهو من فعل المرادف لفاعل كضعف وضاعف‏.‏ ‏{‏فَأَتْبَعَهُمْ‏}‏ فأدركهم يقال اتبعته حتى أتبعته‏.‏ ‏{‏فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا‏}‏ باغين وعادين، أو للبغي والعدو وقرئ «وعدوا»‏.‏ ‏{‏حتى إِذَا أَدْرَكَهُ الغرق‏}‏ لحقه‏.‏ ‏{‏قَالَ ءامَنتُ أَنَّهُ‏}‏ أي بأنه‏.‏ ‏{‏لا إله إِلاَّ الذى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إسراءيل وَأَنَاْ مِنَ المسلمين‏}‏ وقرأ حمزة والكسائي أنه بالكسر على إضمار القول أو الاستئناف بدلاً وتفسيراً ل ‏{‏لآمنت‏}‏ فنكب عن الإيمان أوان القبول وبالغ فيه حين لا يقبل‏.‏

‏{‏الئان‏}‏ أتؤمن الآن وقد أيست من نفسك ولم يبق لك اختيار‏.‏ ‏{‏وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ‏}‏ قبل ذلك مدة عمرك‏.‏ ‏{‏وَكُنتَ مِنَ المفسدين‏}‏ الضالين المضلين عن الإيمان‏.‏

‏{‏فاليوم نُنَجّيكَ‏}‏ ننقذك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافياً، أو نلقيك على نجوة من الأرض ليراك بنو إسرائيل‏.‏ وقرأ يعقوب ‏{‏نُنَجّيكَ‏}‏ من أنجى، وقرأ «ننحيك» بالحاء أي نلقيك بناحية من الساحل‏.‏ ‏{‏بِبَدَنِكَ‏}‏ في موضع الحال أي ببدنك عارياً عن الروح، أو كاملاً سوياً أو عرياناً من غير لباس‏.‏ أو بدرعك وكانت له درع من ذهب يعرف بها‏.‏ وقرئ «بأبدانك» أي بأجزاء البدن كلها كقولهم هوى بإجرامه أو بدروعك كأنه كان مظاهراً بينها‏.‏ ‏{‏لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً‏}‏ لمن وراءك علامة وهم بنو إسرائيل إذ كان في نفوسهم من عظمته ما خيل إليهم أنه لا يهلك، حتى كذبوا موسى عليه السلام حين أخبرهم بفرقة إلى أن عاينوه مطرحاً على ممرهم من الساحل، أو لمن يأتي بعدك من القرون إذا سمعوا مآل أمرك ممن شاهدك عبرة ونكالاً عن الطغيان، أو حجة تدلهم على أن الإنسان على ما كان عليه من عظم الشأن وكبرياء الملك مملوك مقهور بعيد عن مظان الربوبية‏.‏

وقرئ لمن «خلقك» أي لخالقك آية أي كسائر الآيات فإن إفراده إياك بالإِلقاء إلى الساحل دليل على أن تعمد منه لكشف تزويرك وإماطة الشبهة في أمرك‏.‏ وذلك دليل على كمال قدرته وعلمه وإرادته، وهذا الوجه أيضاً محتمل على المشهور‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ‏}‏ لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ بَوَّأْنَا‏}‏ أنزلنا‏.‏ ‏{‏بَنِى إسراءيل مُبَوَّأَ صِدْقٍ‏}‏ منزلاً صالحاً مرضياً وهو الشأم ومصر‏.‏ ‏{‏وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات‏}‏ من اللذائذ‏.‏ ‏{‏فَمَا اختلفوا حتى جَاءهُمُ العلم‏}‏ فما اختلفوا في أمر دينهم إلا من بعد ما قرؤوا التوراة وعلموا أحكامها، أو في أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما علموا صدقه بنعوته وتظاهر معجزاته‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ فيميز المحق من المبطل بالإِنجاء والإِهلاك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ‏}‏ من القصص على سبيل الفرض والتقدير‏.‏ ‏{‏فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ‏}‏ فإنه محقق عندهم ثابت في كتبهم على نحو ما ألقينا إليك، والمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة وأن القرآن مصدق لما فيها، أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إليه، أو تهييج الرسول صلى الله عليه وسلم وزيادة تثبيته لا إمكان وقوع الشك له ولذلك قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏لا أشك ولا أسأل‏}‏ وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته أو لكل من يسمع أي إن كنت أيها السامع في شك مما نزلنا على لسان نبينا إليك، وفيه تنبيه على أن كل من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم‏.‏ ‏{‏لَقَدْ جَاءكَ الحق مِن رَّبّكَ‏}‏ واضحاً أنه لا مدخل للمرية فيه بالآيات القاطعة‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين‏}‏ بالتزلزل عما أنت عليه من الجزم واليقين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بآيات الله فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين‏}‏ أيضاً من باب التهييج والتثبيت وقطع الأطماع عنه كقوله ‏{‏فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين‏.‏‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 105‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏96‏)‏ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏97‏)‏ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ‏(‏98‏)‏ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏99‏)‏ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏100‏)‏ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏101‏)‏ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏102‏)‏ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏104‏)‏ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ‏}‏ ثبتت عليهم‏.‏ ‏{‏كَلِمَةُ رَبِّكَ‏}‏ بأنهم يموتون على الكفر ويخلدون في العذاب‏.‏ ‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ إذ لا يكذب كلامه ولا ينتقض قضاؤه‏.‏

‏{‏وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ‏}‏ فإن السبب الأصلي لإِيمانهم وهو تعلق إرادة الله تعالى به مفقود‏.‏ ‏{‏حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم‏}‏ وحينئذ لا ينفعهم كما لا ينفع فرعون‏.‏

‏{‏فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ‏}‏ فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكناها آمنت قبل معاينة العذاب، ولم تؤخر إليها كما أخر فرعون‏.‏ ‏{‏فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا‏}‏ بأن يقبله الله منها ويكشف العذاب عنها‏.‏ ‏{‏إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ‏}‏ لكن قوم يونس عليه السلام‏.‏ ‏{‏لَمَّا ءامَنُواْ‏}‏ أول ما رأوا أمارة العذاب ولم يؤخروه إلى حلوله‏.‏ ‏{‏كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزى فِى الحياة الدنيا‏}‏ ويجوز أن تكون الجملة في معنى النفي لتضمن حرف التحضيض معناه، فيكون الاستثناء متصلاً لأن المراد من القرى أهاليها كأنه قال‏:‏ ما آمن أهل قرية من القرى العاصية فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس، ويؤيده قراءة الرفع على البدل‏.‏ ‏{‏وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ‏}‏ إلى آجالهم‏.‏ روي‏:‏ ‏(‏أن يونس عليه السلام بعث إلى أهل نينوى من الموصل، فكذبوه وأصروا عليه فوعدهم بالعذاب إلى ثلاث‏.‏ وقيل إلى ثلاثين‏.‏ وقيل إلى أربعين، فلما دنا الموعد أغامت السماء غيماً أسود ذا دخان شديد فهبط حتى غشي مدينتهم، فهابوا فطلبوا يونس فلم يجدوه فأيقنوا صدقه، فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، وفرقوا بين كل والدة وولدها فحن بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والعجيج وأخلصوا التوبة وأظهروا الإِيمان وتضرعوا إلى الله تعالى، فرحمهم وكشف عنهم وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة‏)‏‏.‏

‏{‏وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأرض كُلُّهُمْ‏}‏ بحيث لا يشد منهم أحد‏.‏ ‏{‏جَمِيعاً‏}‏ مجتمعين على الإِيمان لا يختلفون فيه، وهو دليل على القدرية في أنه تعالى لم يشأ إيمانهم أجمعين، وأن من شاء إيمانه يؤمن لا محالة، والتقييد بمشيئة الإلجاء خلاف الظاهر‏.‏ ‏{‏أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس‏}‏ بما لم يشأ منهم‏.‏ ‏{‏حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ وترتيب الإكراه على المشيئة بالفاء وإيلاؤها حرف الاستفهام للإنكار، وتقديم الضمير على الفعل للدلالة على أن خلاف المشيئة مستحيل فلا يمكن تحصيله بالإكراه عليه فضلاً عن الحث والتحريض عليه؛ إذ روي أنه كان حريصاً على إيمان قومه شديد الاهتمام به فنزلت‏.‏ ولذلك قرره بقوله‏:‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ‏}‏ بالله‏.‏ ‏{‏إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏ إلا بإرادته وألطافه وتوفيقه فلا تجهد نفسك في هداها فإنه إلى الله‏.‏ ‏{‏وَيَجْعَلُ الرجس‏}‏ العذاب أو الخذلان فإن سببه‏.‏ وقرئ بالزاي وقرأ أبو بكر «ونجعل» بالنون‏.‏ ‏{‏عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات، أو لا يعقلون دلائله وأحكامه لما على قلوبهم من الطبع ويؤيد الأول قوله‏:‏

‏{‏قُلِ انظروا‏}‏ أي تفكروا‏.‏

‏{‏مَاذَا فِى السموات والأرض‏}‏ من عجائب صنعه لتدلكم على وحدته وكمال قدرته، و‏{‏مَاذَا‏}‏ إن جعلت استفهامية علقت ‏{‏انظروا‏}‏ عن العمل‏.‏ ‏{‏وَمَا تُغْنِى الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ‏}‏ في علم الله وحكمته ‏{‏وَمَا‏}‏ نافية أو استفهامية في موضع النصب‏.‏

‏{‏فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ مثل وقائعهم ونزول بأس الله بهم إذ لا يستحقون غيره من قولهم أيام العرب لوقائعها‏.‏ ‏{‏قُلْ فانتظروا إِنَّى مَعَكُمْ مّنَ المنتظرين‏}‏ لذلك أو فانتظروا هلاكي إني معكم من المنتظرين هلاككم‏.‏

‏{‏ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا والذين ءامَنُواْ‏}‏ عطف على محذوف دل عليه ‏{‏إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ‏}‏ كأنه قيل؛ نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا ومن آمن بهم، على حكاية الحال الماضية‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ حَقّا عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين‏}‏ كذلك الإِنجاء أو إنجاء كذلك ننجي محمداً وصحبه حين نهلك المشركين، و‏{‏حَقّاً عَلَيْنَا‏}‏ اعتراض ونصبه بفعله المقدر‏.‏ وقيل بدل من كذلك‏.‏ وقرأ حفص والكسائي ‏{‏نُنَجّى‏}‏ مخففاً‏.‏

‏{‏قُلْ يا أَيُّهَا الناس‏}‏ خطاب لأهل مكة‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى‏}‏ وصحته‏.‏ ‏{‏فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله ولكن أَعْبُدُ الله الذى يَتَوَفَّاكُمْ‏}‏ فهذا خلاصة ديني اعتقاداً وعملاً فاعرضوها على العقل الصرف وانظروا فيها بعين الإِنصاف لتعلموا صحتها وهو أني لا أعبد ما تخلقونه وتعبدونه، ولكن أعبد خالقكم الذي هو يوجدكم ويتوفاكم‏.‏ وإنما خص التوفي بالذكر للتهديد‏.‏ ‏{‏وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين‏}‏ بما دل عليه العقل ونطق به الوحي، وحذف الجار من أن يجوز أن يكون من المطرد مع أن وأن يكون من غيره كقوله‏:‏

أَمَرْتُكَ الخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِه *** فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَسَبِ

‏{‏وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ‏}‏ عطف على ‏{‏أَنْ أَكُونَ‏}‏ غير ‏{‏أَن‏}‏ صلة ‏{‏أن‏}‏ محكية بصيغة الأمر، ولا فرق بينهما في الغرض لأن المقصود وصلها بما يتضمن معنى المصدر لتدل معه عليه، وصيغ الأفعال كلها كذلك سواء الخبر منها والطلب، والمعنى وأمرت بالاستقامة في الدين والاستبداد فيه بأداء الفرائض، والانتهاء عن القبائح، أو في الصلاة باستقبال القبلة‏.‏ ‏{‏حَنِيفاً‏}‏ حال من الدين أو الوجه‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏106‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ‏}‏ بنفسه إن دعوته أو خذلته‏.‏ ‏{‏فَإِن فَعَلْتَ‏}‏ فإن دعوته ‏{‏فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظالمين‏}‏ جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر عن تبعة الدعاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ‏}‏ وإن يصبك به‏.‏ ‏{‏فَلاَ كاشف لَهُ‏}‏ يرفعه‏.‏ ‏{‏إِلاَّ هُوَ‏}‏ إلا الله‏.‏ ‏{‏وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ‏}‏ فلا دافع‏.‏ ‏{‏لِفَضْلِهِ‏}‏ الذي أرادك به ولعله ذكر الإرادة مع الخير والمس مع الضر مع تلازم الأمرين للتنبيه على أن الخير مراد بالذات وأن الضر إنما مسهم لا بالقصد الأول، ووضع الفضل موضع الضمير للدلالة على أنه متفضل بما يريد بهم من الخير لا استحقاق لهم عليه، ولم يستثن لأن مراد الله لا يمكن رده‏.‏ ‏{‏يُصَيبُ بِهِ‏}‏ بالخير‏.‏ ‏{‏مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغفور الرحيم‏}‏ فتعرضوا لرحمته بالطاعة ولا تيأسوا من غفرانه بالمعصية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏108‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الناس قَدْ جَاءكُمُ الحق مِن رَّبّكُمْ‏}‏ رسوله أو القرآن ولم يبق لكم عذر‏.‏ ‏{‏فَمَنُ اهتدى‏}‏ بالإِيمان والمتابعة‏.‏ ‏{‏فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ‏}‏ لأن نفعه لها‏.‏ ‏{‏وَمَن ضَلَّ‏}‏ بالكفر بهما‏.‏ ‏{‏فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا‏}‏ لأن وبال الضلال عليها‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ‏}‏ بحفيظ موكول إلى أمركم، وإنما أنا بشير ونذير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

‏{‏واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ‏}‏ بالامتثال والتبليغ‏.‏ ‏{‏واصبر‏}‏ على دعوتهم وتحمل أذيتهم‏.‏ ‏{‏حتى يَحْكُمَ الله‏}‏ بالنصرة أو بالأمر بالقتال‏.‏ ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين‏}‏ إذ لا يمكن الخطأ في حكمه لاطلاعه على السرائر اطلاعه على الظواهر‏.‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة يونس أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بيونس وكذب به وبعدد من غرق مع فرعون»‏.‏