فصل: سورة إبراهيم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


سورة إبراهيم

مكية وهي آياتها اثنتان وخمسون آية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏الر كِتَابٌ‏}‏ أي هو كتاب‏.‏ ‏{‏أنزلناه إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس‏}‏ بدعائك إياهم إلى ما تضمنه‏.‏ ‏{‏مِنَ الظلمات‏}‏ من أنواع الضلال‏.‏ ‏{‏إِلَى النور‏}‏ إلى الهدى‏.‏ ‏{‏بِإِذْنِ رَبِّهِمْ‏}‏ بتوفيقه وتسهيله مستعار من الاذن الذي هو تسهيل الحجاب، وهو صلة ‏{‏لِتُخْرِجَ‏}‏ أو حال من فاعله أو مفعوله‏.‏ ‏{‏إلى صِرَاطِ العزيز الحميد‏}‏ بدل من قوله‏:‏ ‏{‏إِلَى النور‏}‏ بتكرير العامل أو استئناف على أنه جواب لمن يسأل عنه، وإضافة الصراط إلى الله تعالى إما لأنه مقصده أو المظهر له وتخصيص الوصفين للتنبيه على أنه لا يذل سالكه ولا يخيب سابله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏الله الذى لَهُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ على قراءة نافع وابن عامر مبتدأ وخبر، أو ‏{‏الله‏}‏ خبر مبتدأ محذوف والذي صفته وعلى قراءة الباقين عطف بيان ل ‏{‏العزيز‏}‏ لأنه كالعلم لاختصاصه بالمعبود على الحق‏.‏ ‏{‏وَوَيْلٌ للكافرين مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ‏}‏ وعيد لمن كفر بالكتاب ولم يخرج به من الظلمات إلى النور، والويل نقيض الوأل وهو النجاة، وأصله النصب لأنه مصدر إلا أنه لم يشتق منه فعل لكنه رفع لافادة الثبات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الآخرة‏}‏ يختارونها عليها فإن المختار للشيء يطلب من نفسه أن يكون أحب إليها من غيره‏.‏ ‏{‏وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ بتعويق الناس عن الإِيمان‏.‏ وقرئ ‏{‏ويصدون‏}‏ من أصده وهو منقول من صد صدوداً إذا تنكب وليس فصيحاً، لأن في صده مندوحة عن تكلف التعدية بالهمزة‏.‏ ‏{‏وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا‏}‏ ويبغون لها زيغاً ونكوباً عن الحق ليقدحوا فيه، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير والموصول بصلته يحتمل الجر صفة للكافرين والنصب على الذم والرفع عليه أو على أنه مبتدأ خبره‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ فِى ضلال بَعِيدٍ‏}‏ أي ضلوا عن الحق ووقعوا عنه بمراحل، والبعد في الحقيقة للضال فوصف به فعله للمبالغة، أو للأمر الذي به الضلال فوصف به لملابسته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ‏}‏ إلا بلغة قومه الذي هو منهم وبعث فيهم‏.‏ ‏{‏لِيُبَيِّنَ لَهُمُ‏}‏ ما أمروا به فيفقهوه عنه بيسر وسرعة، ثم ينقلوه ويترجموه إلى غيرهم فإنهم أولى الناس إليه بأن يدعوهم وأحق بأن ينذرهم، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنذار عشيرته أولاً، ولو نزل على من بعث إلى أمم مختلفة كتب على ألسنتهم استقل ذلك بنوع من الاعجاز، لكن أدى إلى إختلاف الكلمة وإضاعة فضل الاجتهاد في تعلم الألفاظ ومعانيها، والعلوم المتشعبة منها وما في اتعاب القرائح وكد النفوس من القرب المقتضية لجزيل الثواب‏.‏ وقرئ «بلسن» وهو لغة فيه كريش ورياش، ولسن بضمتين وضمة وسكون على الجمع كعمد وعمد‏.‏ وقيل الضمير في قومه لمحمد صلى الله عليه وسلم وأن الله تعالى أنزل الكتب كلها بالعربية، ثم ترجمها جبريل عليه السلام أو كل نبي بلغة المنزل عليهم وذلك ليس بصحيح يرده قوله‏:‏ ‏{‏لِيُبَيِّنَ لَهُمْ‏}‏ فإنه ضمير القوم، والتوراة والإنجيل ونحوهما لم تنزل لتبين للعرب‏.‏ ‏{‏فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاءُ‏}‏ فيخذله عن الإِيمان‏.‏ ‏{‏وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ‏}‏ بالتوفيق له‏.‏ ‏{‏وَهُوَ العزيز‏}‏ فلا يغلب على مشيئته‏.‏ ‏{‏الحكيم‏}‏ الذي لا يضل ولا يهدي إلا لحكمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا‏}‏ يعني اليد والعصا وسائر معجزاته‏.‏ ‏{‏أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور‏}‏ بمعنى أي أخرج لأن في الإرسال معنى القول، أو بأن أخرج فإن صيغ الأفعال سواء في الدلالة على المصدر فيصح أن توصل بها أن الناصبة‏.‏ ‏{‏وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله‏}‏ بوقائعه التي وقعت على الأمم الدارجة وأيام العرب حروبها‏.‏ وقيل بنعمائه وبلائه‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏}‏ يصبر على بلائه ويشكر على نعمائه، فإنه إذا سمع بما أنزل على من قبل من البلاء وأفيض عليهم من النعماء اعتبر وتنبه لما يجب عليه من الصبر والشكر‏.‏ وقيل المراد لكل مؤمن وإنما عبر عنه بذلك تنبيهاً على أن الصبر والشكر عنوان المؤمن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 10‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏6‏)‏ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ‏(‏7‏)‏ وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏8‏)‏ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ‏(‏9‏)‏ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ‏}‏ أي اذكروا نعمته عليكم وقت إنجائه إياكم، ويجوز أن ينتصب ب ‏{‏عَلَيْكُمْ‏}‏ إن جعلت مستقرة غير صلة للنعمة، وذلك إذا أريد به العطية دون الأنعام، ويجوز أن يكون بدلاً من ‏{‏نِعْمَةَ اللهِ‏}‏ بدل الاشتمال‏.‏ ‏{‏يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ‏}‏ أحوال من آل فرعون، أو من ضمير المخاطبين والمراد بالعذاب ها هنا غير المراد به في سورة «البقرة» و«الأعراف» لأنه مفسر بالتذبيح والقتل ثمة ومعطوف عليه التذبيح ها هنا، وهو إما جنس العذاب أو استعبادهم أو استعمالهم بالأعمال الشاقة‏.‏ ‏{‏وَفِى ذلكم‏}‏ من حيث إنه بإقدار الله إياهم وإمهالهم فيه‏.‏ ‏{‏بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ‏}‏ ابتلاء منه، ويجوز أن تكون الإشارة إلى الانجاء والمراد بالبلاء النعمة‏.‏

‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ‏}‏ أيضاً من كلام موسى صلى الله عليه وسلم، و‏{‏تَأَذَّنَ‏}‏ بمعنى آذن كتوعد وأوعد غير أنه أبلغ لما في التفعل من معنى التكلف والمبالغة‏.‏ ‏{‏لَئِنْ شَكَرْتُمْ‏}‏ يا بني إسرائيل ما أنعمت عليكم من الانجاء وغيره بالإِيمان والعمل الصالح‏.‏ ‏{‏لأَزِيدَنَّكُمْ‏}‏ نعمة إلى نعمة‏.‏ ‏{‏وَلَئِن كَفَرْتُمْ‏}‏ ما أنعمت عليكم‏.‏ ‏{‏إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيد‏}‏ فلعلي أعذبكم على الكفران عذاباً شديداً ومن عادة أكرم الأكرمين أن يصرح بالوعد ويعرض بالوعيد، والجملة مقول قول مقدر أو مفعول ‏{‏تَأَذَّنَ‏}‏ على أنه جار مجرى «قَالَ» لأنه ضرب منه‏.‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى الأرض جَمِيعًا‏}‏ من الثقلين‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ الله لَغَنِىٌّ‏}‏ عن شكركم‏.‏ ‏{‏حَمِيدٌ‏}‏ مستحق للحمد في ذاته، محمود تحمده الملائكة وتنطق بنعمته ذرات المخلوقات، فما ضررتم بالكفر إلا أنفسكم حيث حرمتموها مزيد الأنعام وعرضتموها للعذاب الشديد‏.‏

‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ‏}‏ من كلام موسى عليه الصلاة والسلام أو كلام مبتدأ من الله‏.‏ ‏{‏والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله‏}‏ جملة وقعت اعتراضاً، أو الذين من بعدهم عطف على ما قبله ولا يعلمهم اعتراض، والمعنى أنهم لكثرتهم لا يعلم عددهم إلا الله، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه كذب النسابون‏.‏ ‏{‏جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ‏}‏ فعضوها غيظاً مما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ‏}‏ أو وضعوها عليها تعجباً منه أو استهزاء عليه كمن غلبه الضحك، أو إسكاتاً للأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأمراً لهم باطباق الأفواه، أو أشاروا بها إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا كَفَرْنَا‏}‏ تنبيهاً على أن لا جواب لهم سواه أو ردوها في أفواه الأنبياء يمنعونهم من التكلم، وعلى هذا يحتمل أن يكون تمثيلاً‏.‏

وقيل الأيدي بمعنى الأيادي أي ردوا أيادي الأنبياء التي هي مواعظهم وما أوحى إليهم من الحكم والشرائع في أفواههم، لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها فكأنهم ردوها إلى حيث جاءت منه‏.‏ ‏{‏وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ‏}‏ على زعمكم‏.‏ ‏{‏وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ‏}‏ من الإِيمان وقرئ «تدعونا» بالادغام‏.‏ ‏{‏مُرِيبٍ‏}‏ موقع في الريبة أو ذي ريبة وهي قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الشي‏.‏

‏{‏قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى الله شَكٌّ‏}‏ أدخلت همزة الإنكار على الظرف لأن الكلام في المشكوك فيه لا في الشك‏.‏ أي إنما ندعوكم إلى الله وهو لا يحتمل الشك لكثرة الأدلة وظهور دلالتها عليه‏.‏ وأشاروا إلى ذلك بقولهم‏:‏ ‏{‏فَاطِرِ السموات والأرض‏}‏ وهو صفة أو بدل، و‏{‏شَكٌّ‏}‏ مرتفع بالظرف‏.‏ ‏{‏يَدْعُوكُمْ‏}‏ إلى الإِيمان ببعثه إيانا‏.‏ ‏{‏لِيَغْفِرَ لَكُمْ‏}‏ أو يدعوكم إلى المغفرة كقولك‏:‏ دعوته لينصرني، على إقامة المفعول له مقام المفعول به‏.‏ ‏{‏مِّن ذُنُوبِكُمْ‏}‏ بعض ذنوبكم وهو ما بينكم وبينه تعالى، فإن الإسلام يجبه دون المظالم، وقيل جيء بمن في خطاب الكفرة دون المؤمنين في جميع القرآن تفرقة بين الخطابين، ولعل المعنى فيه أن المغفرة حيث جاءت في خطاب الكفار مرتبة على الإِيمان وحيث جاءت في خطاب المؤمنين مشفوعة بالطاعة والتجنب عن المعاصي ونحو ذلك فتتناول الخروج عن المظالم‏.‏ ‏{‏وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ إلى وقت سماه الله تعالى وجعله آخر أعماركم‏.‏ ‏{‏قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا‏}‏ لا فضل لكم علينا فلم تخصون بالنبوة دوننا ولو شاء الله أن يبعث إلى البشر رسلاً لبعث من جنس أفضل‏.‏ ‏{‏تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا‏}‏ بهذه الدعوى‏.‏ ‏{‏فَأْتُونَا بسلطان مُّبِينٍ‏}‏ يدل على فضلكم واستحقاقكم لهذه المزية، أو على صحة ادعائكم النبوة كأنهم لم يعتبروا ما جاءوا به من البينات والحجج واقترحوا عليهم آية أخرى تعنتاً ولجاجاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ سلموا مشاركتهم في الجنس وجعلوا الموجب لاختصاصهم بالنبوة فضل الله ومنه عليهم، وفيه دليل على أن النبوة عطائية وأن ترجيح بعض الجائزات على بعض بمشيئة الله تعالى‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لَنَا نَّأْتِيَكُمْ بسلطان إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏ أي ليس إلينا الإِتيان بالآيات ولا تستبد به استطاعتنا حتى نأتي بما اقترحتموه، وإنما هو أمر يتعلق بمشيئة الله تعالى فيخص كل نبي بنوع من الآيات‏.‏ ‏{‏وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون‏}‏ فلنتوكل عليه في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم، عمموا الأمر للاشعار بما يوجب التوكل وقصدوا به أنفسهم قصداً أولياً ألا ترى قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله‏}‏ أي‏:‏ أي عذر لنا في أن لا نتوكل عليه‏.‏ ‏{‏وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا‏}‏ التي بها نعرفه ونعلم أن الأمور كلها بيده‏.‏ وقرأ أبو عمرو بالتخفيف ههنا وفي «العنكبوت»‏.‏ ‏{‏وَلَنَصْبِرَنَّ على مَا آذَيْتُمُونَا‏}‏ جواب قسم محذوف أكدوا به توكلهم وعدم مبالاتهم بما يجري من الكفار عليهم‏.‏ ‏{‏وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون‏}‏ فليثبت المتوكلون على ما استحدثوه من توكلهم المسبب عن إيمانهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا‏}‏ حلفوا على أن يكون أحد الأمرين، إما إخراجهم للرسل أو عودهم إلى ملتهم، وهو بمعنى الصيرورة لأنهم لم يكونوا على ملتهم قط، ويجوز أن يكون الخطاب لكل رسول ومن آمن معه فغلبوا الجماعة على الواحد‏.‏ ‏{‏فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ‏}‏ أي إلى رسلهم‏.‏ ‏{‏لَنُهْلِكَنَّ الظالمين‏}‏ على إضمار القول، أو إجراء الايحاء مجراه لأنه نوع منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ‏}‏ أي أرضهم وديارهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الأرض ومغاربها‏}‏ وقرئ «ليهلكن» «وليسكننكم» بالياء اعتباراً لأوحى كقولك‏:‏ أقسم زيد ليخرجن‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى الموحى به وهو إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين‏.‏ ‏{‏لِمَنْ خَافَ مَقَامِى‏}‏ موقفي وهو الموقف الذي يقيم فيه العباد للحكومة يوم القيامة، أو قيامي عليه وحفظي لا عمله وقيل المقام مقحم‏.‏ ‏{‏وَخَافَ وَعِيدِ‏}‏ أي وعيدي بالعذاب أو عذابي الموعود للكفار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏واستفتحوا‏}‏ سألوا من الله الفتح على أعدائهم، أو القضاء بينهم وبين أعدائهم من الفتاحة كقولِه‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق‏}‏ وهو معطوف على ‏{‏فأوحى‏}‏ والضمير للأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏.‏ وقيل للكفرة وقيل للفريقين‏.‏ فإن كلهم سألوه أن ينصر المحق ويهلك المبطل‏.‏ وقرئ بلفظ الأمر عطفاً على «ليهلكن»‏.‏ ‏{‏وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ‏}‏ أي ففتح لهم فأفلح المؤمنون وخاب كل جبار عات متكبر على الله معاند للحق فلم يفلح، ومعنى الخيبة إذا كان الاستفتاح من الكفرة أو من القبيلين كان أوقع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ‏}‏ أي من بين يديه فإنه مرصد بها واقف على شفيرها في الدنيا مبعوث إليها في الآخرة‏.‏ وقيل من وراء حياته وحقيقته ما توارى عنك‏.‏ ‏{‏ويسقى مِن مَّاء‏}‏ عطف على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ‏{‏ويسقى مِن مَّاء‏}‏‏.‏ ‏{‏صَدِيدٍ‏}‏ عطف بيان ل ‏{‏مَاء‏}‏ وهو ما يسيل من جلود أهل النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 21‏]‏

‏{‏يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ‏(‏17‏)‏ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ‏(‏18‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏19‏)‏ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ‏(‏20‏)‏ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏يَتَجَرَّعُهُ‏}‏ يتكلف جرعه وهو صفة لماء، أو حال من الضمير في ‏{‏يسقى‏}‏ ‏{‏وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ‏}‏ ولا يقارب أن يسيغه فكيف يسيغه بل يغص به فيطول عذابه، والسوغ جواز الشراب على الحلق بسهولة وقبول نفس‏.‏ ‏{‏وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ‏}‏ أي أسبابه من الشدائد فتحيط به من جميع الجهات‏.‏ وقيل من كل مكان من جسده حتى من أصول شعره وإبهام رجله‏.‏ ‏{‏وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ‏}‏ فيستريح‏.‏ ‏{‏وَمِن وَرَائِهِ‏}‏ ومن بين يديه‏.‏ ‏{‏عَذَابٌ غَلِيظٌ‏}‏ أي يستقبل في كل وقت عذاباً أشد مما هو عليه‏.‏ وقيل هو الخلود في النار‏.‏ وقيل حبس الأنفاس‏.‏ وقيل الآية منقطعة عن قصة الرسل نازلة في أهل مكة طلبوا الفتح الذي هو المطر في سنيهم التي أرسل الله تعالى عليهم بدعوة رسوله، فخيب رجاءهم فلم يسقهم ووعد لهم أن يسقيهم في جهنم بدل سقياهم صديد أهل النار‏.‏

‏{‏مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ‏}‏ مبتدأ خبره محذوف أي فيما يتلى عليكم صفتهم التي هي مثل في الغرابة، أو قوله ‏{‏أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ‏}‏ وهو على الأول جملة مستأنفة لبيان مثلهم‏.‏ وقيل ‏{‏أعمالهم‏}‏ بدل من ال ‏{‏مَثَلُ‏}‏ والخبر ‏{‏كَرَمَادٍ‏}‏‏.‏ ‏{‏اشتدت بِهِ الريح‏}‏ حملته وأسرعت الذهاب به وقرأ نافع «الرياح»‏.‏ ‏{‏فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ‏}‏ العصف اشتداد الريح وصف به زمانه للمبالغة كقولهم‏:‏ نهاره صائم وليله قائم، شبه صنائعهم من الصدقة وصلة الرحم وإغاثة الملهوف وعتق الرقاب ونحو ذلك من مكارمهم في حبوطها وذهابها هباء منثوراً، لبنائها على غير أساس من معرفة الله تعالى والتوجه بها إليه، أو أعمالهم للأصنام برماد طيرته الريح العاصف‏.‏ ‏{‏لاَّ يَقْدِرُونَ‏}‏ يوم القيامة‏.‏ ‏{‏مِمَّا كَسَبُواْ‏}‏ من أعمالهم‏.‏ ‏{‏على شَئ‏}‏ لحبوطه فلا يرون له أثراً من الثواب وهو فذلكة التمثيل‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون‏.‏ ‏{‏هُوَ الضلال البعيد‏}‏ فإنه الغاية في البعد عن طريق الحق‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ‏}‏ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به أمته‏.‏ وقيل لكل واحد من الكفرة على التلوين‏.‏ ‏{‏أَنَّ الله خَلَقَ السموات والأرض بالحق‏}‏ والحكمة والوجه الذي يحق أن تخلق عليه، وقرأ حمزة والكسائي «خالق السموات»‏.‏ ‏{‏إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ يعدمكم ويخلق خلقاً آخر مكانكم، رتب ذلك على كونه خالقاً للسموات والأرض استدلالاً به عليه، فإن من خلق أصولهم وما يتوقف عليه تخليقهم ثم كونهم بتبديل الصور وتغيير الطبائع قدر أن يبدلهم بخلق آخر ولم يمتنع عليه ذلك كما قال‏:‏

‏{‏وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ‏}‏ بمتعذر أو متعسر فإنه قادر لذاته لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، ومن كان هذا شأنه كان حقيقاً بأن يؤمن به ويعبد رجاء لثوابه وخوفاً من عقابه يوم الجزاء‏.‏

‏{‏وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا‏}‏ أي يبرزون من قبورهم يوم القيامة لأمر الله تعالى ومحاسبته، أو ‏{‏لِلَّهِ‏}‏ على ظنهم فإنهم كانوا يخفون ارتكاب الفواحش ويظنون أنها تخفى على الله تعالى، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله تعالى عند أنفسهم، وإنما ذكر بلفظ الماضي لتحقق وقوعه‏.‏ ‏{‏فَقَالَ الضعفاء‏}‏ الأتباع جمع ضعيف يريد به ضعاف الرأي، وإنما كتبت بالواو على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو‏.‏ ‏{‏لِلَّذِينَ استكبروا‏}‏ لرؤوسائهم الذين استتبعوهم واستغووهم‏.‏ ‏{‏إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا‏}‏ في تكذيب الرسل والاعراض عن نصائحهم، وهو جمع تابع كغائب وغيب، أو مصدر نعت به للمبالغة أو على إضمار مضاف‏.‏ ‏{‏فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا‏}‏ دافعون عنا‏.‏ ‏{‏مِنْ عَذَابِ الله مِنْ شَئ‏}‏ من الأولى للبيان واقعة موقع الحال، والثانية للتبعيض واقعة موقع المفعول أي بعض الشيء الذي هو عذاب الله، ويجوز أن تكونا للتبعيض أي بعض شيء هو بعض عذاب الله، والإِعراب ما سبق ويحتمل أن تكون الأولى مفعولاً والثانية مصدراً، أي فهل أنتم مغنون بعض العذاب بعض الإِغناء‏.‏ ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي الذين استكبروا جواباً عن معاتبة الأتباع واعتذاراً عما فعلوا بهم‏.‏ ‏{‏لَوْ هَدَانَا الله‏}‏ للإيمان ووفقنا له‏.‏ ‏{‏لَهَدَيْنَاكُمْ‏}‏ ولكن ضللنا فأضللناكم أي اخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا، أو لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم وأغنيناه عنكم كما عرضناكم له، لكن سد دوننا طريق الخلاص‏.‏ ‏{‏سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا‏}‏ مستويان علينا الجزع والصبر‏.‏ ‏{‏مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ‏}‏ منجى ومهرب من العذاب، من الحيص وهو العدل على جهة الفرار، وهو يحتمل أن يكون مكاناً كالمبيت ومصدراً كالمغيب، ويجوز أن يكون قوله ‏{‏سَوَاء عَلَيْنَا‏}‏ من كلام الفريقين ويؤيده ما روي أنهم يقولون‏:‏ تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم، فيقولون تعالوا نصبر فيصبرون كذلك ثم يقولون ‏{‏سَوَاء عَلَيْنَا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِىَ الأمر‏}‏ أحكم وفرغ منه ودخل أهل الجنة الجنّة وأهل النار النار خطيباً في الأشقياء من الثقلين‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق‏}‏ وعداً من حقه أن ينجزه أو وعداً أنجزه وهو الوعد بالبعث والجزاء‏.‏ ‏{‏وَوَعَدتُّكُمْ‏}‏ وعد الباطل وهو أن ألا بعث ولا حساب وإن كانا فالأصنام تشفع لكم‏.‏ ‏{‏فَأَخْلَفْتُكُمْ‏}‏ جعل تبين خلف وعده كالاخلاف منه‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّنْ سلطان‏}‏ تسلط فألجئكم إلى الكفر والمعاصي‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ‏}‏ إلا دعائي إياكم إليها بتسويلي وهو ليس من جنس السلطان ولكنه على طريقة قولهم‏:‏

تحية بينهم ضرب وجيع *** ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً‏.‏ ‏{‏فاستجبتم لِى‏}‏ أسرعتم إجابتي‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَلُومُونِى‏}‏ بوسوستي فإن من صرح العداوة لا يلام بأمثال ذلك‏.‏ ‏{‏وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ حيث أطعتموني إذ دعوتكم ولم تطيعوا ربكم لما دعاكم، واحتجت المعتزلة بأمثال ذلك على استقلال العبد بأفعاله وليس فيها ما يدل عليه، إذ يكفي لصحتها أن يكون لقدرة العبد مدخل ما في فعله وهو الكسب الذي يقوله أصحابنا‏.‏ ‏{‏مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ‏}‏ بمغيثكم من العذاب‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ‏}‏ بمغيثي وقرأ حمزة بكسر الياء على الأصل في التقاء الساكنين، وهو أصل مرفوض في مثله لما فيه‏.‏ من اجتماع ياءين وثلاث كسرات مع أن حركة ياء الإضافة الفتح، فإذا لم تكسر وقبلها ألف فبالحري أن لا تكسر وقبلها ياء، أو على لغة من يزيد ياء على ياء الإضافة إجراء لها مجرى الهاء والكاف في‏:‏ ضربته، وأعطيتكه، وحذف الياء اكتفاء بالكسرة‏.‏ ‏{‏إِنِّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ‏}‏ «ما» إما مصدرية و‏{‏مِنْ‏}‏ متعلقة بأشركتموني أي كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم أي في الدنيا بمعنى تبرأت منه واستنكرته كقوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ‏}‏ أو موصولة بمعنى من نحو ما في قولهم‏:‏ سبحان ما سخركن لنا، و‏{‏مِنْ‏}‏ متعلقة ب ‏{‏كَفَرْتُ‏}‏ أي كفرت بالذي أشركتمونيه وهو الله تعالى بطاعتكم إياي فيما دعوتكم إليه من عبادة الأصنام وغيرها من قبل إشراككم، حين رددت أمره بالسجود لآدم عليه الصلاة والسلام وأشرك منقول من شركت زيداً للتعدية إلى مفعول ثان‏.‏ ‏{‏إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ تتمة كلامه أو ابتداء كلام من الله تعالى وفي حكاية أمثال ذلك لطف للسامعين وإيقاظ لهم حتى يحاسبوا أنفسهم ويتدبروا عواقبهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وَأُدْخِلَ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ‏}‏ بإذن الله تعالى وأمره والمدخلون هم الملائكة‏.‏ وقرئ ‏{‏وَأُدْخِلَ‏}‏ على التكلم فيكون قوله‏:‏ ‏{‏بِإِذْنِ رَبِّهِمْ‏}‏ متعلقاً بقوله‏:‏ ‏{‏تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام‏}‏ أي تحييهم الملائكة فيها بالسلام بإذن ربهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً‏}‏ كيف اعتمده ووضعه‏.‏ ‏{‏كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ‏}‏ أي جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة، وهو تفسير لقوله ‏{‏ضَرَبَ الله مَثَلاً‏}‏، ويجوز أن تكون ‏{‏كَلِمَةَ‏}‏ بدلاً من ‏{‏مَثَلاً‏}‏ و‏{‏كَشَجَرَةٍ‏}‏ صفتها أو خبر مبتدأ محذوف أي هي ‏{‏كَشَجَرَةٍ‏}‏، وأن تكون أول مفعولي ضرب إجراء له مجرى جعل وقد قرئت بالرفع على الابتداء‏.‏ ‏{‏أَصْلُهَا ثَابِتٌ‏}‏ في الأرض ضارب بعروقه فيها‏.‏ ‏{‏وَفَرْعُهَا‏}‏ وأعلاها‏.‏ ‏{‏فِى السماء‏}‏ ويجوز أن يريد وفروعها أي أفنائها على الاكتفاء بلفظ الجنس لاكتسابه الاستغراق من الإضافة‏.‏ وقرئ «ثابت أصلها» والأول على أصله ولذلك قيل إنه أقوى ولعل الثاني أبلغ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏تُؤْتِى أُكُلَهَا‏}‏ تعطي ثمرها‏.‏ ‏{‏كُلَّ حِينٍ‏}‏ وقته الله تعالى لإِثمارها‏.‏ ‏{‏بِإِذْنِ رَبِّهَا‏}‏ بإرادة خالقها وتكوينه‏.‏ ‏{‏وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏ لأن في ضربها زيادة إفهام وتذكير، فإنه تصوير للمعاني وإدناء لها من الحس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ‏(‏26‏)‏ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ‏}‏ كمثل شجرة خبيثة ‏{‏اجتثت‏}‏ استؤصلت وأخذت جثتها بالكلية‏.‏ ‏{‏مِن فَوْقِ الأرض‏}‏ لأن عروقها قريبة منه‏.‏ ‏{‏مَا لَهَا مِن قَرَارٍ‏}‏ استقرار‏.‏ واختلف في الكلمة والشجرة ففسرت الكلمة الطيبة‏:‏ بكلمة التوحيد ودعوة الإسلام والقرآن، والكلمة الخبيثة بالشرك بالله تعالى والدعاء إلى الكفر وتكذيب الحق، ولعل المراد بهما ما يعم ذلك فالكلمة الطيبة ما أعرب عن حق أو دعا إلى صلاح، والكلمة الخبيثة ما كان على خلاف ذلك وفسرت الشجرة الطيبة بالنخلة‏.‏ وروي ذلك مرفوعاً وبشجرة في الجنة، والخبيثة بالحنظلة والكشوث، ولعل المراد بهما أيضاً ما يعم ذلك‏.‏ ‏{‏يُثَبِّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت‏}‏ الذي ثبت بالحجة عندهم وتمكن في قلوبهم ‏{‏فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ فلا يزالون إذا فتنوا في دينهم كزكريا ويحيى عليهما السلام وجرجيس وشمعون والذين فتنهم أصحاب الأخدود‏.‏ ‏{‏وَفِي الأخرة‏}‏ فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم في الموقف، ولا تدهشهم أهوال يوم القيامة‏.‏ وروي ‏(‏«أنه صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال‏:‏ ثم تعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره ويقولان له‏:‏ من ربك‏؟‏ وما دينك‏؟‏ ومن نبيك‏؟‏ فيقول‏:‏ ربي الله وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي» فذلك قوله‏:‏ ‏{‏يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت‏}‏‏.‏ ‏{‏وَيُضِلُّ الله الظالمين‏}‏ الذين ظلموا أنفسهم بالاقتصار على التقليد فلا يهتدون إلى الحق ولا يثبتون في مواقف الفتن‏.‏ ‏{‏وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ‏}‏ من تثبيت بعض وإضلال آخرين من غير اعتراض عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله كُفْرًا‏}‏ أي شكر نعمته كفراً بأن وضعوه مكانه، أو بدلوا نفس النعمة كفراً، فإنهم لما كفروها سلبت منهم فصاروا تاركين لها محصلين للكفر بدلها كأهل مكة، خلقهم الله تعالى وأسكنهم حرمه وجعلهم قوام بيته ووسع عليهم أبواب رزقه وشرفهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا ذلك فقحطوا سبع سنين وأسروا وقتلوا يوم بدر وصاروا أذلاء، فبقوا مسلوبي النعمة وموصوفين بالكفر، وعن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما‏:‏ هم الأفجران من قريش بنو المغيرة وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين‏.‏ ‏{‏وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ‏}‏ الذين شايعوهم في الكفر‏.‏ ‏{‏دَارَ البوار‏}‏ دار الهلاك بحملهم على الكفر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏جَهَنَّمَ‏}‏ عطف بيان لها‏.‏ ‏{‏يَصْلَوْنَهَا‏}‏ حال منها أو من القوم، أي داخلين فيها مقاسين لحرها، أو مفسر لفعل مقدر ناصب لجهنم‏.‏ ‏{‏وَبِئْسَ القرار‏}‏ أي وبئس المقر جهنم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ‏}‏ الذي هو التوحيد‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب بفتح الياء، وليس الضلال ولا الاضلال غرضهم في اتخاذ الأنداد لكن لما كان نتيجته جعل كالغرض‏.‏ ‏{‏قُلْ تَمَتَّعُواْ‏}‏ بشهواتكم أو بعبادة الأوثان فإنها من قبيل الشهوات التي يتمتع بها، وفي التهديد بصيغة الأمر إيذان بأن المهدد عليه كالمطلوب لافضائه إلى المهدد به، وأن الأمرين كائنان لا محالة ولذلك علله بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار‏}‏ وأن المخاطب لانهماكه فيه كالمأمور به من آمر مطاع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 37‏]‏

‏{‏قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ ‏(‏31‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ ‏(‏32‏)‏ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ‏(‏33‏)‏ وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ‏(‏34‏)‏ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ‏(‏35‏)‏ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏36‏)‏ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏قُل لِّعِبَادِىَ الذين ءَامَنُواْ‏}‏ خصهم بالإضافة تنويهاً لهم وتنبيهاً على أنهم المقيمون لحقوق العبودية، ومفعول ‏{‏قُلْ‏}‏ محذوف يدل عليه جوابه‏:‏ أي قل لعبادي الذين آمنوا أقيموا الصلاة وأنفقوا‏.‏ ‏{‏يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ‏}‏ فيكون إيذاناً بأنهم لفرط مطاوعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم بحيث لا ينفك فعلهم عن أمره، وأنه كالسبب الموجب له، ويجوز أن يقدرا بلام الأمر ليصح تعلق القول بهما وإنما حسن ذلك ها هنا ولم يحسن في قوله‏:‏

مُحَمَّدٌ تفد نَفْسَكَ كُلُّ نَفْس *** إِذَا مَا خفت مِنْ أَمْرٍ تَبَالاَ

لدلالة قل عليه‏.‏ وقيل هما جواباً أقيموا وأنفقوا مقامين مقامهما، وهو ضعيف لأنه لا بد من مخالفة ما بين الشرط وجوابه ولأن أمر المواجهة لا يجاب بلفظ الغيبة إذا كان الفاعل واحداً‏.‏ ‏{‏سِرًّا وَعَلاَنِيَةً‏}‏ منتصبان على المصدر أي إنفاق سر وعلانية، أو على الحال أي ذوي سر وعلانية، أو على الظرف أي وقتي سر وعلانية، والأحب إعلان الواجب وإخفاء المتطوع به‏.‏ ‏{‏مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ‏}‏ فيبتاع المقصر ما يتدارك به تقصيره أو يفدى به نفسه‏.‏ ‏{‏وَلاَ خلال‏}‏ ولا مخالة فيشفع لك خليل، أو من قبل أن يأتي يوم لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة وإنما ينتفع فيه بالانفاق لوجه الله تعالى‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بالفتح فيهما على النفي العام‏.‏

‏{‏الله الذى خَلَقَ السموات والأرض‏}‏ مبتدأ وخبر ‏{‏وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَكُمْ‏}‏ تعيشون به وهو يشمل المطعوم والملبوس مفعول لأخرج و‏{‏مِنَ الثمرات‏}‏ بيان له وحال منه ويحتمل عكس ذلك ويجوز أن يراد به المصدر فينتصب بالعلة، أو المصدر لأن أخرج في معنى رزق‏.‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِىَ فِى البحر بِأَمْرِهِ‏}‏ بمشيئته إلى حيث توجهتم‏.‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُمْ الأنهار‏}‏ فجعلها معدة لانتفاعكم وتصرفكم وقيل تسخير هذه الأشياء تعليم كيفية اتخاذها‏.‏

‏{‏وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَائِبَين‏}‏ يدأبان في سيرهما وإنارتهما وإصلاح ما يصلحانه من المكونات‏.‏ ‏{‏وَسَخَّر لَكُمُ اليل والنهار‏}‏ يتعاقبان لسباتكم ومعاشكم‏.‏ ‏{‏وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ‏}‏ أي بعض جميع ما سألتموه يعني من كل شيء سألتموه شيئاً، فإن الموجود من كل صنف بعض ما في قدرة الله تعالى، ولعل المراد ب ‏{‏مَا سَأَلْتُمُوهُ‏}‏ ما كان حقيقاً بأن يسأل لاحتياج الناس إليه سئل أو لم يسأل، وما يحتمل أن تكون موصولة وموصوفة ومصدرية ويكون المصدر بمعنى المفعول‏.‏ وقرئ ‏{‏مِنْ كُلِّ‏}‏ بالتنوين أي وآتاكم من كل شيء ما احتجتم إليه وسألتموه بلسان الحال، ويجوز أن تكون «ما» نافية في موقع الحال أي وآتاكم من كل شيء غير سائليه‏.‏

‏{‏وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا‏}‏ لا تحصروها ولا تطيقوا عد أنواعها فضلاً عن أفرادها، فإنها غير متناهية‏.‏ وفيه دليل على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإِضافة‏.‏ ‏{‏إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ‏}‏ يظلم النعمة بإغفال شكرها، أو يظلم نفسه بأن يعرضها للحرمان‏.‏ ‏{‏كَفَّارٌ‏}‏ شديد الكفران‏.‏ وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع‏.‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجعل هذا البلد‏}‏ بلدة مكة‏.‏ ‏{‏آمِناً‏}‏ ذا أمن لمن فيها، والفرق بينه وبين قوله‏:‏ ‏{‏اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا‏}‏ أن المسؤول في الأول إزالة الخوف عنه وتصييره آمناً، وفي الثاني جعله من البلاد الآمنة‏.‏ ‏{‏واجنبنى وَبَنِىَّ‏}‏ بعدني وإياهم، ‏{‏أَن نَّعْبُدَ الأصنام‏}‏ واجعلنا منها في جانب وقرئ ‏{‏واجنبنى‏}‏ وهما على لغة نجد وأما أهل الحجاز فيقولون جنبني شره‏.‏ وفيه دليل على أن عصمة الأنبياء بتوفيق الله وحفظه إياهم وهو بظاهره، لا يتناول أحفاده وجميع ذريته‏.‏ وزعم ابن عيينة أن أولاد إسماعيل عليه الصلاة والسلام لم يعبدوا الصنم محتجاً به وإنما كانت لهم حجارة يدورون بها ويسمونها الدوار ويقولون البيت حجر فحيثما نصبنا حجراً فهو بمنزلته‏.‏

‏{‏رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ الناس‏}‏ فلذلك سألت منك العصمة واستعذت بك من إضلالهن، وإسناد الإِضلال إليهن باعتبار السببية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا‏}‏‏.‏ ‏{‏فَمَن تَبِعَنِى‏}‏ على ديني‏.‏ ‏{‏فَإِنَّهُ مِنِّى‏}‏ أي بعضي لا ينفك في أمر الدين‏.‏ ‏{‏وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ تقدر أن تغفر له وترحمه ابتداء، أو بعد التوفيق للتوبة‏.‏ وفيه دليل على أن كل ذنب فلِلَّهِ أن يغفره حتى الشرك إلا أن الوعيد فرق بينه وبين غيره‏.‏

‏{‏رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى‏}‏ أي بعض ذريتي أو ذرية من ذريتي فحذف المفعول وهم إسماعيل ومن ولد منه قال إسكانه متضمن لإسكانهم‏.‏ ‏{‏بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ‏}‏ يعني وادي مكة فإنها حجرية لا تنبت‏.‏ ‏{‏عِندَ بَيْتِكَ المحرم‏}‏ الذي حرمت التعرض له والتهاون به، أو لم يزل معظماً ممنعاً يهابه الجبابرة، أو منع منه الطوفان فلم يستول عليه ولذلك سمي عتيقاً أي أعتق منه‏.‏ ولو دعا بهذا الدعاء أول ما قدم فلعله قال ذلك باعتبار ما كان أو ما سيؤول إليه‏.‏ روي أن هاجر كانت لسارة رضي الله عنها فوهبتها لإبراهيم عليه السلام فولدت منه إسماعيل عليه السلام، فغارت عليهما فناشدته أن يخرجهما من عندها فأخرجهما إلى أرض مكة فأظهر الله عين زمزم، ثم إن جرهم رأوا ثم طيوراً فقالوا لا طير إلا على الماء، فقصدوه فرأوهما وعندهما عين فقالوا أشركينا في مائك نشركك في ألباننا ففعلت‏.‏ ‏{‏رَّبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ‏}‏ اللام لام كي وهي متعلقة ب ‏{‏أَسْكَنتُ‏}‏ أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع من كل مرتفق ومرتزق إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم‏.‏ وتكرير النداء وتوسيطه للاشعار بأنها المقصودة بالذات من إسكانهم ثمة، والمقصود من الدعاء توفيقهم لها‏.‏

وقيل لام الأمر والمراد هو الدعاء لهم بإقامة الصلاة كأنه طلب منهم الإِقامة وسأل من الله تعالى أن يوفقهم لها‏.‏ ‏{‏فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس‏}‏ أي أفئدة من أفئدة الناس، و‏{‏مِنْ‏}‏ للتبعيض ولذلك قيل لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليهم فارس والروم ولحجت اليهود والنصارى، أو للابتداء كقولك‏:‏ القلب مني سقيم أي أفئدة ناس‏.‏ وقرأ هشام «أفئيدة» بخلف عنه بياء بعد الهمزة‏.‏ وقرئ «آفدة» وهو يحتمل أن يكون مقلوب «أفئدة» كآدر في أدؤر وأن يكون اسم فاعل من أفدت الرحلة إذا عجلت أي جماعة يعجلون نحوهم «وأفدة» بطرح الهمزة للتخفيف، وإن كان الوجه فيه إخراجهما بين ويجوز أن يكون من أفد‏.‏ ‏{‏تَهْوِى إِلَيْهِمْ‏}‏ تسرع إليهم شوقاً ووداداً‏.‏ وقرئ ‏{‏تهوى‏}‏ على البناء للمفعول من أهوى إليه غيره و‏{‏تهوى‏}‏ من هوى يهوي إذا أحب، وتعديته بإلى لتضمنه معنى النزوع‏.‏ ‏{‏وارزقهم مِّنَ الثمرات‏}‏ مع سكناهم وادياً لا نبات فيه‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ‏}‏ تلك النعمة، فأجاب الله عز وجل دعوته فجعله حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء حتى توجد فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ‏}‏ تعلم سرنا كما تعلم علننا، والمعنى إنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا وأرحم بنا منا بأنفسنا، فلا حاجة لنا إلى الطلب لكنا ندعوك إظهاراً لعبوديتك وافتقاراً إلى رحمتك واستعجالاً لنيل ما عندك‏.‏ وقيل ما نخفي من وجد الفرقة وما نعلن من التضرع إليك والتوكل عليك، وتكرير النداء للمبالغة في التضرع واللجأ إلى الله تعالى‏.‏ ‏{‏وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَئ فَى الأرض وَلاَ فِى السماء‏}‏ لأنه العالم بعلم ذاتي يستوي نسبته إلى كل معلوم، ومن للاستغراق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏الحمد للَّهِ الذى وَهَبَ لِى عَلَى الكبر‏}‏ أي وهب لي وأنا كبير آيس من الولد، قيد الهبة بحال الكبر استعظاماً للنعمة وإظهاراً لما فيها من آلائه‏.‏ ‏{‏إسماعيل وإسحاق‏}‏‏.‏ روي أنه ولد له إسماعيل لتسع وتسعين سنة وإسحاق لمائة واثنتي عشرة سنة‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدعاء‏}‏ أي لمجيبه من قولك سمع الملك كلامي إذا اعتد به، وهو من أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل أضيف إلى مفعوله أو فاعله على إسناد السماع إلى دعاء الله تعالى على المجاز، وفيه إشعار بأنه دعا ربه وسأل منه الولد فأجابه ووهب له سؤله حين ما وقع اليأس منه ليكون من أجل النعم وأجلاها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏رَبِّ اجعلنى مُقِيمَ الصلاة‏}‏ معدلاً لها موَاظباً عليها‏.‏ ‏{‏وَمِن ذُرِّيَّتِى‏}‏ عطف على المنصوب في ‏{‏اجعلنى‏}‏، والتبعيض لعلمه بإعلام الله أو استقراء عادته في الأمم الماضية أن يكون في ذريته كفار‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء‏}‏ واستجب دعائي أو وتقبل عبادتي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏رَبَّنَا اغفر لِى وَلِوَالِدَىَّ‏}‏ وقرئ «ولأبويّ»، وقد تقدم عذر استغفاره لهما‏.‏ وقيل أراد بهما آدم وحواء‏.‏ ‏{‏وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب‏}‏ يثبت مستعار من القيام على الرجل كقولهم‏:‏ قامت الحرب على ساق، أو يقوم إليه أهله فحذف المضاف أو أسند إليه قيامهم مجازاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 47‏]‏

‏{‏وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ‏(‏42‏)‏ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ‏(‏43‏)‏ وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ‏(‏44‏)‏ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ ‏(‏45‏)‏ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ‏(‏46‏)‏ فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون‏}‏ خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد به تثبيته على ما هو عليه من أنه تعالى مطلع على أحوالهم وأفعالهم لا يخفى عليه خافية، والوعيد بأنه معاقبهم على قليله وكثيره لا محالة، أو لكل من توهم غفلته جهلاً بصفاته واغتراراً بإمهاله‏.‏ وقيل إنه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ‏}‏ يؤخر عذابهم وعن أبي عمرو بالنون‏.‏ ‏{‏لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار‏}‏ أي تشخص فيه أبصارهم فلا تقر في أماكنها من هول ما ترى‏.‏

‏{‏مُهْطِعِينَ‏}‏ أي مسرعين إلى الداعي، أو مقبلين بأبصارهم لا يطرفون هيبة وخوفاً، وأصل الكلمة هو الإِقبال على الشيء‏.‏ ‏{‏مُقْنِعِى رُؤُوسِهِمْ‏}‏ رافعيها‏.‏ ‏{‏لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ‏}‏ بل تثبت عيونهم شاخصة لا تطرف، أو لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم‏.‏ ‏{‏وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ‏}‏ خلاء أي خالية عن الفهم لفرط الحيرة والدهشة، ومنه يقال للأحمق وللجبان قلبه هواء أي لا رأي فيه ولا قوة قال زهير‏:‏

من الظلمان جؤجؤه هواء *** وقيل خالية عن الخير خاوية عن الحق‏.‏ ‏{‏وَأَنذِرِ الناس‏}‏ يا محمد‏.‏ ‏{‏يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب‏}‏ يعني يوم القيامة، أو يوم الموت فإنه أول أيام عذابهم، وهو مفعول ثان ل ‏{‏أُنذر‏}‏‏.‏ ‏{‏فَيَقُولُ الذين ظَلَمُواْ‏}‏ بالشرك والتكذيب‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا أَخِّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ‏}‏ أخر العذاب عنا أو ردنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى حد من الزمان قريب، أو أخر آجالنا وأبقنا مقدار ما نؤمن بك ونجيب دعوتك‏.‏ ‏{‏نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل‏}‏ جواب للأمر ونظيره ‏{‏لَوْلا أَخَّرْتَنِى إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصالحين‏}‏ ‏{‏أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّنْ زَوَالٍ‏}‏ على إرادة القول و‏{‏مَا لَكُمْ‏}‏ جواب القسم جاء بلفظ الخطاب على المطابقة دون الحكاية، والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت، ولعلهم أقسموا بطراً وغروراً أو دل عليه حالهم حيث بنوا شديداً وأملوا بعيداً‏.‏ وقيل أقسموا أنهم لا ينتقلون إلى دار أخرى وأنهم إذا ماتوا لا يزالون على تلك الحالة إلى حالة أخرى كقوله‏:‏ ‏{‏وَأَقْسَمُواْ بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت‏}‏ ‏{‏وَسَكَنتُمْ فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ بالكفر والمعاصي كعاد وثمود، وأصل سكن أن يعدى بفي كقرَّ وغني وأقام، وقد يستعمل بمعنى التبوّء فيجري مجراه كقولك سكنت الدار‏.‏ ‏{‏وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ‏}‏ بما تشاهدونه في منازلهم من آثار ما نزل بهم وما تواتر عندكم من أخبارهم‏.‏ ‏{‏وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال‏}‏ من أحوالهم أي بينا لكم أنكم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب، أو صفات ما فعلوا وفعل بهم التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة‏.‏

‏{‏وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ‏}‏ المستفرغ فيه جهدهم إبطال الحق وتقرير الباطل‏.‏

‏{‏وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ‏}‏ ومكتوب عنده فعلهم فهو مجازيهم عليه، أو عنده ما يمكرهم به جزاء لمكرهم وإبطالاً له‏.‏ ‏{‏وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ‏}‏ في العظم والشدة‏.‏ ‏{‏لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال‏}‏ مسوى لإزالة الجبال‏.‏ وقيل إن نافية واللام مؤكدة لها كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ‏}‏ على أن الجبال مثل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه‏.‏ وقيل مخففة من الثقيلة والمعنى أنهم مكروا ليزيلوا ما هو كالجبال الراسية ثباتاً وتمكناً من آيات الله تعالى وشرائعه‏.‏ وقرأ الكسائي ‏{‏لَتَزُولَ‏}‏ بالفتح والرفع على أنها المخففة واللام هي الفاصلة، ومعناه تعظيم مكرهم‏.‏ وقرئ بالفتح والنصب على لغة من يفتح لام كي وقرئ و«إن كاد مكرهم»‏.‏

‏{‏فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ‏}‏ مثل قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا‏}‏ ‏{‏كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى‏}‏ وأصله مخلف رسله وعده فقدم المفعول الثاني إيذاناً بأنه لا يخلف الوعد أصلاً كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد‏}‏ وإذا لم يخلف وعده أحداً فكيف يخلف رسله‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله عَزِيزٌ‏}‏ غالب لا يماكر قادر لا يدافع‏.‏ ‏{‏ذُو انتقام‏}‏ لأوليائه من أعدائه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض‏}‏ بدل من ‏{‏يَوْمَ يَأْتِيهِمُ‏}‏ أو ظرف للانتقام، أو مقدر باذكر أو لا يخلف وعده‏.‏ ولا يجوز أن ينتصب بمخلف لأن ما قبل أن لا يعمل فيما بعده‏.‏ ‏{‏وَالسَّمَواتِ‏}‏ عطف على الأرض وتقديره والسموات غير السموات، والتبديل يكون في الذات كقولك‏:‏ بدلت الدراهم دنانير وعليه قوله‏:‏ ‏{‏بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا‏}‏ وفي الصفة كقولك بدلت الحلقة خاتماً إذا أذبتها وغيرت شكلها، وعليه قوله‏:‏ ‏{‏يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات‏}‏ والآية تحتملهما، فعن علي رضي الله تعالى عنه‏:‏ تبدل أرضاً من فضة وسموات من ذهب، وعن ابن مسعود وأنس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطئ عليها أحد خطيئة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ هي تلك الأرض وإنما تغير صفاتها‏.‏ ويدل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ «تبدل الأرض غير الأرض فتبسط وتمد مد الأديم العكاظي» ‏{‏لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً‏}‏ اعلم أنه لا يلزم على الوجه الأول أن يكون الحاصل بالتبديل أرضاً وسماء على الحقيقة، ولا يبعد على الثاني أن يجعل الله الأرض جهنم والسموات الجنة على ما أشعر به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّ كتاب الأبرار لَفِى عِلّيّينَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ كتاب الفجار لَفِى سِجّينٍ‏}‏ ‏{‏وَبَرَزُواْ‏}‏ من أجداثهم ‏{‏للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ‏}‏ لمحاسبته ومجازاته، وتوصيفه بالوصفين للدلالة على أن الأمر في غاية الصعوبة كقوله‏:‏ ‏{‏لمنِ الملك اليوم للهِ الواحد القهار‏}‏ فإن الأمر إذا كان لواحد غلاب لا يغالب فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَرَى المجرمين يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ‏}‏ قرن بعضهم مع بعض بحسب مشاركتهم في العقائد والأعمال كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ‏}‏ أو قرنوا مع الشياطين أو مع ما اكتسبوا من العقائد الزائغة والملكات الباطلة، أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال، وهو يحتمل أن يكون تمثيلاً لمؤاخذتهم على ما اقترفته أيديهم وأرجلهم‏.‏ ‏{‏فِى الأصفاد‏}‏ متعلق ب ‏{‏مُقْرِنِينَ‏}‏ أو حال من ضميره، والصفد القيد‏.‏ وقيل الغل قال سلامة بن جندل‏:‏

وَزَيْدُ الخَيْل قَدْ لاَقَى صِفَاداً *** يَعضُّ بِسَاعِدٍ وَبِعَظْمٍ سَاقَ

وأصله الشد

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 52‏]‏

‏{‏سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ‏(‏50‏)‏ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏51‏)‏ هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏سَرَابِيلُهُم‏}‏ قمصانهم‏.‏ ‏{‏مِّن قَطِرَانٍ‏}‏ وجاء قطران لغتين فيه، وهو ما يتحلب من الأبهل فيطبخ فتهنأ به الإِبل الجربى فيحرق الجرب بحدته، وهو أسود منتن تشتعل فيه النار بسرعة تطلى به جلود أهل النار حتى يكون طلاؤه لهم كالقمص، ليجتمع عليهم لذع القطران ووحشة لونه ونتن ريحه مع إسراع النار في جلودهم، على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين، ويحتمل أن يكون تمثيلاً لما يحيط بجوهر النفس من الملكات الرديئة والهيئات الوحشية فيجلب إليها أنواعاً من الغموم والآلام، وعن يعقوب ‏{‏قطرآن‏}‏ والقطر النحاس أو الصفر المذاب والآني المتناهي حره، والجملة حال ثانية أو حال من الضمير في ‏{‏مُقْرِنِينَ‏}‏‏.‏ ‏{‏وتغشى وُجُوهَهُمُ النار‏}‏ وتتغشاها لأنهم لم يتوجهوا بها إلى الحق ولم يستعملوا في تدبره مشاعرهم وحواسهم التي خلقت فيها لأجله، كما تطلع على أفئدتهم لأنها فارغة عن المعرفة مملوءة بالجهالات ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب يَوْمَ القيامة‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النار على وُجُوهِهِم‏}‏ ‏{‏لِيَجْزِىَ الله كُلَّ نَفْسٍ‏}‏ أي يفعل بهم ذلك ليجزي كل نفس مجرمة‏.‏ ‏{‏مَّا كَسَبَتْ‏}‏ أو كل نفس من مجرمة أو مطيعة لأنه إذا بين أن المجرمين يعاقبون لإجرامهم علم أن المطيعين يثابون لطاعتهم، ويتعين ذلك أن علق اللام ب ‏{‏بَرَزُواْ‏}‏‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب‏}‏ لأنه لا يشغله حساب عن حساب‏.‏

‏{‏هذا‏}‏ إشارة إلى القرآن أو السورة أو ما فيه العظة والتذكير أو ما وصفه من قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله‏}‏ ‏{‏بلاغ لّلنَّاسِ‏}‏ كفاية لهم في الموعظة‏.‏ ‏{‏وَلِيُنذَرُواْ بِهِ‏}‏ عطف على محذوف أي لينصحوا ولينذروا بهذا البلاغ، فتكون اللام متعلقة بالبلاغ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف تقديره‏:‏ ولينذروا به أنزل أو تلي‏.‏ وقرئ بفتح الياء من نذر به إذا علمه واستعدله‏.‏

‏{‏وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ‏}‏ بالنظر والتأمل فيما فيه من الآيات الدالة عليه أو المبهة على ما يدل عليه ‏{‏وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب‏}‏ فيرتدعوا عما يرديهم ويتدرعوا بما يحظيهم، واعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد هي الغاية والحكمة في إنزال الكتب، تكميل الرسل للناس، واستكمال القوة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد، واستصلاح القوة العملية الذي هو التدرع بلباس التقوى، جعلنا الله تعالى من الفائزين بهما‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة إبراهيم أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام وعدد من لم يعبدها»‏.‏

سورة الحجر

مكية وهي تسع وتسعون آية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏الرَ تِلْكَ ءايات الكتاب وَقُرْءانٍ مُّبِينٍ‏}‏ الإِشارة إلى آيات السورة و‏{‏الكتاب‏}‏ هو السورة، وكذا القرآن وتنكيره للتفخيم أي آيات الجامع لكونه كتاباً كاملاً وقُرآناً يبين الرشد من الغي بياناً غريباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ‏}‏ حين عاينوا حال المسلمين عند نزول النصر أو حلول الموت أو يوم القيامة‏.‏ وقرأ نافع وعاصم ‏{‏ربما‏}‏ بالتخفيف، وقرئ ‏{‏ربما‏}‏ بالفتح والتخفيف وفيه ثمان لغات ضم الراء وفتحها مع التشديد والتخفيف وبتاء التأنيث ودونها، وما كافة تكفه عن الجر فيجوز دخوله على الفعل وحقه أن يدخل الماضي لكن لما كان المترقب في أخبار الله تعالى كالماضي في تحققه أجرى مجراه‏.‏ وقيل‏:‏ ما نكرة موصوفة كقوله‏:‏

رُبَّمَا تَكْرَهُ النُّفُوسُ مِنَ الأَمْ *** ر لَهُ فُرْجَةً كَحلِّ العِقَالِ

ومعنى التقليل فيه بالإِيذان بأنهم لو كانوا يودون الإِسلام مرة فبالحري أن يسارعوا إليه، فكيف وهم يودونه كل ساعة‏.‏ وقيل تدهشهم أهوال القيامة فإن حانت منهم إفاقة في بعض الأوقات تمنوا ذلك، والغيبة في حكاية ودادتهم كالغيبة في قولك‏:‏ حلف بالله ليفعلن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏ذَرْهُمْ‏}‏ دعهم‏.‏ ‏{‏يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ‏}‏ بدنياهم‏.‏ ‏{‏وَيُلْهِهِمُ الأمل‏}‏ ويشغلهم توقعهم لطول الأعمار واستقامة الأحوال عن الاستعداد للمعاد‏.‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه، والغرض إقناط الرسول صلى الله عليه وسلم من ارعوائهم وإيذانه بأنهم من أهل الخذلان، وإن نصحهم بعد اشتغال بما لا طائل تحته، وفيه إلزام للحجة وتحذير عن ايثار التنعم وما يؤدي إليه طول الأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كتاب مَّعْلُومٌ‏}‏ أجل مقدر كتب في اللوح المحفوظ، والمستثنى جملة واقعة صفة لقرية، والأصل أن لا تدخلها الواو كقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ‏}‏ ولكن لما شابهت صورتها الحال أدخلت تأكيداً للصوقها بالموصوف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 10‏]‏

‏{‏مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ‏(‏5‏)‏ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ‏(‏6‏)‏ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏7‏)‏ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ ‏(‏8‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏9‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأخِرُونَ‏}‏ أي وما يستأخرون عنه، وتذكير ضمير ‏{‏أُمَّةٍ‏}‏ فيه للحمل على المعنى‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ يا أَيُّهَا الذى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر‏}‏ نادوا به النبي صلى الله عليه وسلم على التهكم، ألا ترى إلى ما نادوه له وهو قولهم‏.‏ ‏{‏إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ‏}‏ ونظير ذلك قول فرعون‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ‏}‏ والمعنى إنك لتقول قول المجانين حين تدعي أن الله تعالى نزل عليك الذكر، أي القرآن‏.‏

‏{‏لَّوْ مَا تَأْتِينَا‏}‏ ركب ‏{‏لَوْ‏}‏ مع ‏{‏مَا‏}‏ كما ركبت مع لا لمعنيين امتناع الشيء لوجود غيره والتحضيض‏.‏ ‏{‏بالملئكة‏}‏ ليصدقوك ويعضدوك على الدعوة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً‏}‏ أو للعقاب على تكذيبنا لك كما أتت الأمم المكذبة قبل‏.‏ ‏{‏إِن كُنتَ مِنَ الصادقين‏}‏ في دعواك‏.‏

‏{‏مَا يُنَزِّلُ الملائكة‏}‏ بالياء ونصب ‏{‏الملائكة‏}‏ على أن الضمير لله تعالى‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالنون وأبو بكر بالتاء والبناء للمفعول ورفع ‏{‏الملائكة‏}‏‏.‏ وقرئ ‏{‏تنَزل‏}‏ بمعنى تتنزل‏.‏ ‏{‏إِلاَّ بالحق‏}‏ إلا تنزيلاً ملتبساً بالحق أي بالوجه الذي قدره واقتضته حكمته، ولا حكمة في أن تأتيكم بصور تشاهدونها فإنه لا يزيدكم إلا لبساً، ولا في معاجلتكم بالعقوبة فإن منكم ومن ذراريكم من سبقت كلمتنا له بالإِيمان‏.‏ وقيل الحق الوحي أو العذاب‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ‏}‏ ‏{‏إِذَاً‏}‏ جواب لهم وجزاء لشرط مقدر أي ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين‏.‏

‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر‏}‏ رد لإِنكارهم واستهزائهم ولذلك أكده من وجوه وقرره بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَهُ لحافظون‏}‏ أي من التحريف والزيادة والنقص بأن جعلناه معجزاً مبايناً لكلام البشر، بحيث لا يخفى تغيير نظمه على أهل اللسان، أو نفي تطرق الخلل إليه في الدوام بضمان الحفظ له كما نفى أن يطعن فيه بأنه المنزل له‏.‏ وقيل الضمير في ‏{‏لَهُ‏}‏ للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الأولين‏}‏ في فرقهم، جمع شيعة وهي الفرقة المتفقة على طريق ومذهب من شاعه إذا تبعه، وأصله الشياع وهو الحطب الصغار توقد به الكبار، والمعنى نبأنا رجالاً فيهم وجعلناهم رسلاً فيما بينهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ‏}‏ كما يفعل هؤلاء، وهو تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام و‏{‏مَا‏}‏ للحال لا يدخل إلا مضارعاً بمعنى الحال، أو ماضياً قريباً منه وهذا على حكاية الحال الماضية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ‏}‏ ندخله‏.‏ ‏{‏فِى قُلُوبِ المجرمين‏}‏ والسلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط، والرمح في المطعون والضمير للاستهزاء‏.‏ وفيه دليل على أن الله يوجد الباطل في قلوبهم‏.‏ وقيل ل ‏{‏الذكر‏}‏ فإن الضمير الآخر في قوله‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ‏}‏ له وهو خال من هذا الضمير، والمعنى مثل ذلك السلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين مكذباً غير مؤمن به، أو بيان للجملة المتضمنة له، وهذا الاحتجاج ضعيف إذ لا يلزم من تعاقب الضمائر توافقها في المرجوع إليه ولا يتعين أن تكون الجملة حالاً من المجرمين، ولا ينافي كونها مفسرة للمعنى الأول بل يقويه‏.‏ ‏{‏وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الاولين‏}‏ أي سنة الله فيهم بأن خذلهم وسلك الكفر في قلوبهم، أو بإهلاك من كذب الرسل منهم فيكون وعيداً لأهل مكة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم‏}‏ أي على هؤلاء المقترحين‏.‏ ‏{‏بَاباً مِنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ‏}‏ يصعدون إليها ويرون عجائبها طول نهارهم مستوضحين لما يرون، أو تصعد الملائكة وهم يشاهدونهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏لَقَالُواْ‏}‏ من غلوهم في العناد وتشكيكهم في الحق‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا سُكِّرَتْ أبصارنا‏}‏ سدت عن الأبصار بالسحر من السكر، ويدل عليه قراءة ابن كثير بالتخفيف، أو حيرت من السكر ويدل عليه قراءة من قرأ ‏{‏سكرت‏}‏‏.‏ ‏{‏بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ‏}‏ قد سحرنا محمد بذلك كما قالوه عند ظهور غيره من الآيات، وفي كلمتي الحصر والإضراب دلالة على البت بأن ما يرونه لا حقيقة له بل هو باطل خيل إليهم بنوع من السحر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السماء بُرُوجًا‏}‏ اثني عشر مختلفة الهيئات والخواص على ما دل عليه الرصد والتجربة مع بساطة السماء‏.‏ ‏{‏وزيناها‏}‏ بالأشكال والهيئات البهية‏.‏ ‏{‏للناظرين‏}‏ المعتبرين المستدلين بها على قدرة مبدعها وتوحيد صانعها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏وحفظناها مِن كُلِّ شيطان رَّجِيمٍ‏}‏ فلا يقدر أن يصعد إليها ويوسوس إلى أهلها ويتصرف في أمرها ويطلع على أحوالها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ مَنِ استرق السمع‏}‏ بدل من كل شيطان واستراق السمع اختلاسه سراً، شبه به خطفتهم اليسيرة من قطان السموات لما بينهم من المناسبة في الجوهر أو بالاستدلال من أوضاع الكواكب وحركاتها‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ أنهم كانوا لا يحجبون عن السموات، فلما ولد عيسى عليه الصلاة والسلام منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من كلها بالشهب‏.‏ ولا يقدح فيه تكونها قبل المولد لجواز أن يكون لها أسباب أخر‏.‏ وقيل الاستثناء منقطع أي ولكن من استرق السمع‏.‏ ‏{‏فَأَتْبَعَهُ‏}‏ فتبعه ولحقه‏.‏ ‏{‏شِهَابٌ مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر للمبصرين، والشهاب شعلة نار ساطعة، وقد يطلق للكوكب والسنان لما فيهما من البريق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏والأرض مددناها‏}‏ بسطناها‏.‏ ‏{‏وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي‏}‏ جبالاً ثوابت‏.‏ ‏{‏وَأَنبَتْنَا فِيهَا‏}‏ في الأرض أو فيها وفي الجبال‏.‏ ‏{‏مِن كُلِّ شَئ مَّوْزُونٍ‏}‏ مقدر بمقدار معين تقتضيه حكمته، أو مستحسن، مناسب من قولهم كلام موزون، أو ما يوزن ويقدر أو له وزن أبواب النعمة والمنفعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 29‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ‏(‏20‏)‏ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ‏(‏21‏)‏ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ‏(‏22‏)‏ وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ‏(‏23‏)‏ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ‏(‏24‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏25‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ‏(‏26‏)‏ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ‏(‏27‏)‏ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ‏(‏28‏)‏ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش‏}‏ تعيشون بها من المطاعم والملابس‏.‏ وقرئ «معائش» بالهمزة الى التشبيه بشمائل‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين‏}‏ عطف على ‏{‏معايش‏}‏ أو على محل ‏{‏لَكُمْ‏}‏، ويريد به العيال والخدم والمماليك وسائر ما يظنون أنهم يرزقونهم ظناً كاذباً، فإن الله يرزقهم وإياهم، وفذلكة الآية الاستدلال يجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين مختلفة الأجزاء في الوضع محدثة فيها أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة، مع جواز أن لا تكون كذلك على كمال قدرته وتناهي حكمته، والتفرد في الألوهية والامتنان على العباد بما أنعم عليهم في ذلك ليوحدوه ويعبدوه، ثم بالغ في ذلك وقال‏:‏

‏{‏وَإِن مِّن شَئ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ‏}‏ أي وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه، فضرب الخزائن مثلاً لاقتداره أو شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد‏.‏ ‏{‏وَمَا نُنَزِّلُهُ‏}‏ من بقاع القدرة‏.‏ ‏{‏إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ‏}‏ حده الحكمة وتعلقت به المشيئة، فإن تخصيص بعضها بالإِيجاد في بعض الأوقات مشتملاً على بعض الصفات والحالات لا بد له من مخصص حكيم‏.‏

‏{‏وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ‏}‏ حوامل، شبه الريح التي جاءت بخير من إنشاء سحاب ماطر بالحامل كما شبه ما لا يكون كذلك بالعقيم، أو ملقحات للشجر ونظيره الطوائح بمعنى المطيحات في قوله‏:‏

وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَوَائِحُ *** وقرئ ‏{‏وَأَرْسَلْنَا الرياح‏}‏ على تأويل الجنس‏.‏ ‏{‏فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ‏}‏ فجعلناه لكم سقيا‏.‏ ‏{‏وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بخازنين‏}‏ قادرين متمكنين من إخراجه، نفى عنهم ما أثبته لنفسه، أو حافظين في الغدران والعيون والآبار، وذلك أيضاً يدل على المدبر الحكيم كما تدل حركة الهواء في بعض الأوقات من بعض الجهات على وجه ينتفع به الناس، فإن طبيعة الماء تقتضي الغور فوقوفه دون حد لا بد له من سبب مخصص‏.‏

‏{‏وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِِي‏}‏ بإيجاد الحياة في بعض الأجسام القابلة لها‏.‏ ‏{‏وَنُمِيتُ‏}‏ بإزالتها وقد أول الحياة بما يعم الحيوان والنبات وتكرير الضمير للدلالة على الحصر‏.‏ ‏{‏وَنَحْنُ الوارثون‏}‏ الباقون إذا مات الخلائق كلها‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستأخرين‏}‏ من استقدم ولادة وموتاً ومن استأخر، أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد، أو من تقدم في الإِسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة، أو تأخر لا يخفى علينا شيء من أحوالكم، وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته، فإن ما يدل على قدرته دليل على علمه‏.‏ وقيل رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف الأول فازدحموا عليه فنزلت‏.‏ وقيل إن امرأة حسناء كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم بعض القوم لئلا ينظر إليها وتأخر بعض ليبصرها فنزلت‏.‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ‏}‏ لا محالة للجزاء، وتوسيط الضمير للدلالة على أنه القادر والمتولي لحشرهم لا غير، وتصدير الجملة ب ‏{‏إِنَّ‏}‏ لتحقيق الوعد والتنبيه على أن ما سبق من الدلالة على كمال قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدل على صحة الحكم كما صرح به بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ حَكِيمٌ‏}‏ باهر الحكمة متقن في أفعاله‏.‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ وسع علمه كل شيء‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صلصال‏}‏ من طين يابس يصلصل أي يصوت إذا نقر‏.‏ وقيل هو من صلصل إذا أنتن تضعيف صل‏.‏ ‏{‏مّنْ حَمَإٍ‏}‏ طين تغير وأسود من طول مجاورة الماء، وهو صفة صلصال أي كائن ‏{‏مِّنْ حَمَإٍ‏}‏‏.‏ ‏{‏مَّسْنُونٍ‏}‏ مصور من سنه الوجه، أو منصوب لييبس ويتصور كالجواهر المذابة تصب في القوالب، من السن وهو الصب كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف، فيبس حتى إذا نقر صلصل، ثم غير ذلك طوراً بعد طور حتى سواه ونفخ فيه من روحه، أو منتن من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به، فإن ما يسيل بينهما يكون منتناً ويسمى السنين‏.‏

‏{‏والجآن‏}‏ أبا الجن‏.‏ وقيل ابليس ويجوز أن يراد به الجنس كما هو الظاهر من الإِنسان، لأن تشعب الجنس لما كان من شخص واحد خلق من مادة واحدة كان الجنس بأسره مخلوقاً منها وانتصابه بفعل يفسره‏.‏ ‏{‏خلقناه مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل خلق الإنسان‏.‏ ‏{‏مِن نَّارِ السموم‏}‏ من نار الحر الشديد النافذ في المسام، ولا يمتنع خلق الحياة في الأجرام البسيطة كما لا يمتنع خلقها في الجواهر المجردة، فضلاً عن الأجساد المؤلفة التي الغالب فيها الجزء الناري، فإنها أقبل لها من التي الغالب فيها الجزء الأرضي، وقوله‏:‏ ‏{‏مّن نَّارٍ‏}‏ باعتبار الغالب كقوله‏:‏ ‏{‏خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ‏}‏ ومساق الآية كما هو للدلالة على كمال قدرة الله تعالى وبيان بدء خلق الثقلين فهو للتنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر، وهو قبول للجمع والإِحياء‏.‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ‏}‏ واذكر وقت قوله‏:‏ ‏{‏للملائكة إِنّى خالق بَشَرًا مِّن صلصال مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ‏}‏‏.‏ ‏{‏فَإِذَا سَوَّيْتُهُ‏}‏ عدلت خلقته وهيأته لنفخ الروح فيه‏.‏ ‏{‏وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى‏}‏ حتى جرى آثاره في تجاويف أعضائه فحيي، وأصل النفخ إجراء الريح في تجويف جسم آخر، ولما كان الروح يتعلق أولاً بالبخار اللطيف المنبعث من القلب وتفيض عليه الحيوانية فيسري حاملاً لها في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن، جعل تعلقه بالبدن نفخاً وإضافة الروح إلى نفسه لما مر في «النساء»‏.‏ ‏{‏فَقَعُواْ لَهُ‏}‏ فاسقطوا له‏.‏ ‏{‏ساجدين‏}‏ أمر من وقع يقع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ‏}‏ أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم ومنع التخصيص، وقيل أكد بالكل للإِحاطة وبأجمعين للدلالة على أنهم سجدوا مجتمعين دفعة، وفيه نظر إذ لو كان الأمر كذلك كان الثاني حالاً لا تأكيداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ إِبْلِيسَ‏}‏ إن جعل منقطعاً اتصل به قوله‏:‏ ‏{‏أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين‏}‏ أي ولكن ابليس أبى وإن جعل متصلاً كان استئنافاً على أنه جواب سائل قال هلا سجد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ يَا إِبْلِيسَ مالك أَلاَّ تَكُونَ‏}‏ أي غرض لك في أن لا تكون‏.‏ ‏{‏مَعَ الساجدين‏}‏ لآدم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ‏}‏ اللام لتأكيد النفي أي لا يصح مني وينافي حالي أن أسجد‏.‏ ‏{‏لِبَشَرٍ‏}‏ جسماني كثيف وأنا ملك روحاني‏.‏ ‏{‏خَلَقْتَهُ مِن صلصال مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ‏}‏ وهو أخس العناصر وخلقتني من نار وهي أشرفها، استنقص آدم عليه السلام باعتبار النوع والأصل وقد سبق الجواب عنه في سورة «الأعراف»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 46‏]‏

‏{‏قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ‏(‏34‏)‏ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏35‏)‏ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏36‏)‏ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ‏(‏37‏)‏ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ‏(‏38‏)‏ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏39‏)‏ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏40‏)‏ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏41‏)‏ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ‏(‏42‏)‏ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏43‏)‏ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ‏(‏44‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏45‏)‏ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ فاخرج مِنْهَا‏}‏ من السماء أو الجنة أو زمر الملائكة‏.‏ ‏{‏فَإِنَّكَ رَجِيمٌ‏}‏ مطرود من الخير والكرامة، فإن من يطرد يرجم بالحجر أو شيطان يرجم بالشهب، وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته‏.‏

‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة‏}‏ هذا الطرد والإِبعاد‏.‏ ‏{‏إلى يَوْمِ الدين‏}‏ فإنه منتهى أمد اللعن، فإنه يناسب أيام التكليف ومنه زمان الجزاء وما في قوله‏:‏ ‏{‏فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين‏}‏ بمعنى آخر ينسى عنده هذه‏.‏ وقيل إنما حد اللعن به لأنه أبعد غاية يضر بها الناس، أو لأنه يعذب فيه بما ينسى اللعن معه فيصير كالزائل‏.‏

‏{‏قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى‏}‏ فأخرني، والفاء متعلقة بمحذوف دل عليه ‏{‏فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ‏}‏ ‏{‏إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ أراد أن يجد فسحة في الإِغواء أو نجاة من الموت، إذ لا موت بعد وقت البعث فأجابه إلى الأول دون الثاني‏.‏

‏{‏قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين‏}‏ ‏{‏إلى يَوْمِ الوقت المعلوم‏}‏ المسمى فيه أجلك عند الله، أو انقراض الناس كلهم وهو النفخة الأولى عند الجمهور، ويجوز أن يكون المراد بالأيام الثلاثة يوم القيامة، واختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات فعبر عنه أولاً بيوم الجزاء لما عرفته وثانياً بيوم البعث، إذ به يحصل العلم بانقطاع التكليف واليأس عن التضليل، وثالثاً بالمعلوم لوقوعه في الكلامين، ولا يلزم من ذلك أن لا يموت فلعله يموت أول اليوم ويبعث مع الخلائق في تضاعيفه، وهذه المخاطبة وإن لم تكن بواسطة لم تدل على منصب إبليس لأن خطاب الله له على سبيل الإِهانة والإِذلال‏.‏

‏{‏قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى‏}‏ الباء للقسم وما مصدرية وجوابه‏.‏ ‏{‏لأُزَيّنَنَّ لَهُمْ فِى الأرض‏}‏ والمعنى أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم المعاصي في الدنيا التي هي دار الغرور كقوله‏:‏ ‏{‏أَخْلَدَ إِلَى الأرض‏}‏ وفي انعقاد القسم بأفعال لله تعالى خلاف‏.‏ وقيل للسببية والمعتزلة أَوَلُو الاغواء بالنسبة إلى الغي، أو التسبب له بأمره إياه بالسجود لآدم عليه السلام، أو بالإِضلال عن طريق الجنة واعتذروا عن إمهال الله له، وهو سبب لزيادة غيه وتسليط له على إغواء بني آدم بأن الله تعالى علم منه وممن تبعه أنهم يموتون على الكفر ويصيرون إلى النار أمهل أو لم يمهل، وأن في إمهاله تعريضاً لمن خالفه لاستحقاق مزيد الثواب، وضعف ذلك لا يخفى على ذوي الألباب‏.‏ ‏{‏وَلأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ولأحملنهم أجمعين على الغواية‏.‏

‏{‏إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين‏}‏ الذين أخلصتهم لطاعتك وطهرتهم من الشوائب فلا يعمل فيهم كيدي‏.‏ وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بالكسر في كل القرآن أي الذين أخلصوا نفوسهم لله تعالى‏.‏

‏{‏قَالَ هَذَا صراط عَلَىَّ‏}‏ حقٌ علي أن أراعيه‏.‏ ‏{‏مُّسْتَقِيم‏}‏ لا انحراف عنه، والإِشارة إلى ما تضمنه الاستثناء وهو تخليص المخلصين من إغوائه، أو الإِخلاص على معنى أنه طريق ‏{‏عَلَىَّ‏}‏ يؤدي إِلى الوصول إليَّ من غير اعوجاج وضلال‏.‏

وقرئ ‏{‏على‏}‏ من علو الشرف‏.‏

‏{‏إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين‏}‏ تصديق لإِبليس فيما استثناه وتغيير الوضع لتعظيم ‏{‏المخلصين‏}‏، ولأن المقصود بيان عصمتهم وانقطاع مخالب الشيطان عنهم، أو تكذيب له فيما أوهم أن له سلطاناً على من ليس بمخلص من عباده، فإن منتهى تزيينه التحريض والتدليس كما قال‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى‏}‏ وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعاً، وعلى الأول يدفع قول من شرط أن يكون المستثني أقل من الباقي لإِفضائه إلى تناقض الاستثناءين‏.‏

‏{‏وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ‏}‏ لموعد الغاوين أو المتبعين‏.‏ ‏{‏أَجْمَعِينَ‏}‏ تأكيد للضمير أو حال والعامل فيها الموعد إن جعلته مصدراً على تقدير مضاف، ومعنى الإضافة إن جعلته اسم مكان فإنه لا يعمل‏.‏

‏{‏لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ‏}‏ يدخلون منها لكثرتهم، أو طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في المتابعة وهي‏:‏ جهنم ثم لظى، ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية، ولعل تخصيص العدد لانحصار مجامع المهلكات في الركون إلى المحسوسات ومتابعة القوة الشهوية والغضبية، أو لأن أهلها سبع فرق‏.‏ ‏{‏لِكُلّ بَابٍ مِّنْهُمْ‏}‏ من الأتباع‏.‏ ‏{‏جُزْءٌ مَّقْسُومٌ‏}‏ أفرز له، فأعلاها للموحدين العصاة، والثاني لليهود والثالث للنصارى والرابع للصابئين والخامس للمجوس والسادس للمشركين والسابع للمنافقين، وقرأ أبو بكر ‏{‏جُزْء‏}‏ بالتثقيل‏.‏ وقرئ ‏{‏جز‏}‏ على حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الزاي، ثم الوقف عليه بالتشديد ثم إجراء الوصل مجرى الوقف، ومنهم حال منه أو من المستكن في الظرف لا في ‏{‏مَّقْسُومٌ‏}‏ لأن الصفة لا تعمل فيما تقدم موصوفها‏.‏

‏{‏إِنَّ المتقين‏}‏ من أتباعه في الكفر والفواحش فإن غيرها مكفرة‏.‏ ‏{‏فِى جنات وَعُيُونٍ‏}‏ لكل واحد جنة وعين أو لكل عدة منهما كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ‏}‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ‏}‏ الآية، وقرأ نافع وحفص وأبو عمرو وهشام ‏{‏وَعُيُونٍ‏}‏ بضم العين حيث وقع والباقون بكسر العين‏.‏ ‏{‏ادخلوها‏}‏ على إرادة القول، وقرئ بقطع الهمزة وكسر الخاء على أنه ماض فلا يكسر التنوين‏.‏ ‏{‏بِسَلامٍ‏}‏ سالمين أو مسلماً عليكم‏.‏ ‏{‏ءامِنِينَ‏}‏ من الآفة والزوال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَزَعْنَا‏}‏ في الدنيا بما ألف بين قلوبهم، أو في الجنة بتطييب نفوسهم‏.‏ ‏{‏مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ‏}‏ من حقد كان في الدنيا وعن علي رضي الله تعالى عنه‏:‏ أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم، أو من التحاسد على درجات الجنة ومراتب القرب‏.‏ ‏{‏إِخْوَانًا‏}‏ حال من الضمير في جنات، أو فاعل ادخلوها أو الضمير في آمنين أو الضمير المضاف إليه، والعامل فيها معنى الإِضافة وكذا قوله‏:‏ ‏{‏على سُرُرٍ متقابلين‏}‏ ويجوز أن يكونا صفتين لإِخواناً أو حال من ضميره لأنه بمعنى متصافين، وأن يكون متقابلين حالاً من المستقر في على سرر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ‏}‏ استئناف أو حال بعد حال، أو حال من الضمير في متقابلين‏.‏ ‏{‏وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ‏}‏ فإن تمام النعمة بالخلود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 52‏]‏

‏{‏نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏49‏)‏ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ‏(‏50‏)‏ وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ‏(‏51‏)‏ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏نَبّئ عِبَادِى أَنِّى أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ العذاب الاليم‏}‏ فذلكة ما سبق من الوعد والوعيد وتقرير له، وفي ذكر المغفرة دليل على أنه لم يرد بالمتقين من يتقي الذنوب بأسرها كبيرها وصغيرها، وفي توصيف ذاته بالغفران والرحمة دون التعذيب ترجيح الوعد وتأكيده وفي عطف‏.‏ ‏{‏وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ على ‏{‏نَبِّئ عِبَادِى‏}‏ تحقيق لهما بما يعتبرون به‏.‏

‏{‏إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا‏}‏ أي نسلم عليك سلاماً أو سلمنا سلاماً‏.‏ ‏{‏قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ‏}‏ خائفون وذلك لأنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت، ولأنهم امتنعوا من الأكل والوجل اضطراب النفس لتوقع ما تكره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ‏}‏ وقرئ «لا تأجل» من أوجله و«لا توجل» من أوجله «ولا تواجل» من واجله بمعنى أوجله‏.‏ ‏{‏إِنَّا نُبَشِّرُكَ‏}‏ استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل، فإن المبشر لا يخاف منه‏.‏ وقرأ حمزة نبشرك بفتح النون والتخفيف من البشر‏.‏ ‏{‏بغلام‏}‏ هو إسحاق عليه السلام لقوله‏:‏ ‏{‏وبشرناه بإسحاق‏}‏ ‏{‏عَلِيمٍ‏}‏ إذا بلغ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 66‏]‏

‏{‏قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ‏(‏54‏)‏ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ ‏(‏55‏)‏ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ‏(‏56‏)‏ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏57‏)‏ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ‏(‏58‏)‏ إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏59‏)‏ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏60‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏61‏)‏ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ‏(‏62‏)‏ قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ‏(‏63‏)‏ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏64‏)‏ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ‏(‏65‏)‏ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى على أَن مَّسَّنِىَ الكبر‏}‏ تعجب من أن يولد له مع مس الكبر إياه، أو إنكار لأن يبشر به في مثل هذه الحالة وكذا قوله‏:‏ ‏{‏فَبِمَ تُبَشِّرُونَ‏}‏ أي فبأي أعجوبة تبشرون، أو فبأي شيء تبشرون فإن البشارة بما لا يتصور وقوعه عادة بشارة بغير شيء، وقرأ ابن كثير بكسر النون مشددة في كل القرآن على إدغام نون الجمع في نون الوقاية وكسرها وقرأ نافع بكسرها مخففة على حذف نون الجمع استثقالاً لإِجتماع المثلين ودلالة بإبقاء نون الوقاية وكسرها على الياء‏.‏ ‏{‏قَالُواْ بشرناك بالحق‏}‏ بما يكون لا محالة، أو باليقين الذي لا لبس فيه أو بطريقة هي حق وهو قول الله تعالى وأمره‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين‏}‏ من الآيسين من ذلك فإنه تعالى قادر على أن يخلق بشراً من غير أبوين فكيف من شيخ فان وعجوز عاقر، وكان استعجاب إبراهيم عليه السلام باعتبار العادة دون القدرة ولذلك‏:‏

‏{‏قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون‏}‏ المخطئون طريق المعرفة فلا يعرفون سعة رحمة الله تعالى وكمال علمه وقدرته كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لا يَيأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلا القَوْمُ الكَافِرُونَ‏}‏ وقرأ أبو عمرو والكسائي يقنط بالكسر، وقرئ بالضم وماضيهما قنط بالفتح‏.‏

‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون‏}‏ أي فما شأنكم الذي أرسلتم لأجله سوى البشارة، ولعله علم أن كمال المقصود ليس البشارة لأنهم كانوا عدداً والبشارة لا تحتاج إلى العدد، ولذلك اكتفى بالواحد في بشارة زكريا ومريم عليهما السلام، أو لأنهم بشروه في تضاعيف الحال لإزالة الوجل ولو كانت تمام المقصود لابتدؤوا بها‏.‏

‏{‏قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ‏}‏ يعني قوم لوط‏.‏

‏{‏إِلا ءَالَ لُوطٍ‏}‏ إن كان استثناء من ‏{‏قَوْمٌ‏}‏ كان منقطعاً إذ ال ‏{‏قَوْمٌ‏}‏ مقيد بالإِجرام وإن كان استثناء من الضمير في ‏{‏مُّجْرِمِينَ‏}‏ كان متصلاً، والقوم والإِرسال شاملين للمجرمين، و‏{‏آلَ لُوطٍ‏}‏ المؤمنين به وكأن المعنى‏:‏ إنا أرسلنا إلى قوم أجرم كلهم إلا آل لوط منهم لنهلك المجرمين وننجي آل لوط منهم، ويدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ أي مما يعذب به القوم، وهو استئناف إذا اتصل الاستثناء ومتصل بآل لوط جار مجرى خبر لكن إذا انقطع وعلى هذا جاز أن يكون قوله‏:‏

‏{‏إِلاَّ امرأته‏}‏ استثناء من ‏{‏آلًَ لُوطٍ‏}‏، أو من ضميرهم، وعلى الأول لا يكون إلا من ضميرهم لاختلاف الحكمين اللهم إلا أن يجعل ‏{‏إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ‏}‏ اعتراضاً، وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏لَمُنْجُوهُمْ‏}‏ مخففاً‏.‏ ‏{‏قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين‏}‏ الباقين مع الكفرة لتهلك معهم‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم ‏{‏قََدَرْنا‏}‏ هنا وفي «النمل» بالتخفيف، وإنما علق والتعليق من خواص أفعال القلوب لتضمنه معنى العلم‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏قَدَّرْنَآ‏}‏ أجري مجرى قلنا لأن التقدير بمعنى القضاء قول، وأصله جعل الشيء على مقدار غيره وإسنادهم إياه إلى أنفسهم‏.‏ وهو فعل الله سبحانه وتعالى لما لهم من القرب والاختصاص به‏.‏

‏{‏فَلَمَّا جَآء ءالَ لُوطٍ المرسلون قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ‏}‏ تنكركم نفسي وتنفر عنكم مخافة أن تطرقوني بِشَرٍ‏.‏

‏{‏قَالُواْ بَلْ جئناك بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ‏}‏ أي ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل جئناك بما يسرك ويشفي لك من عدوك، وهو العذاب الذي توعدتهم به فيمترون فيه‏.‏

‏{‏وآتيناك بالحق‏}‏ باليقين من عذابهم‏.‏ ‏{‏وِإِنَّا لصادقون‏}‏ فيما أخبرناك به‏.‏

‏{‏فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ‏}‏ فاذهب بهم في الليل، وقرأ الحجازيان بوصل الهمزة من السرى وهما بمعنى وقرئ «فسر» من السير‏.‏ ‏{‏بِقِطْعٍ مِّنَ اليل‏}‏ في طائفة من الليل وقيل في آخره قال‏:‏

افتَحِي البَابَ وَانْظُرِي فِي النُّجُوم *** كَمْ عَلَيْنَا مِنْ قِطَعٍ لَيْلٍ بَهِيمِ

‏{‏واتبع أدبارهم‏}‏ وكن على أثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطلع على حالهم‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ‏}‏ لينظر ما وراءه فيرى من الهول ما لا يطيقه أو فيصيبه ما أصابهم أو ولا ينصرف أحدكم ولا يتخلف امرؤ لغرض فيصيبه العذاب‏.‏ وقيل نهوا عن الالتفات ليوطنوا نفوسهم على المهاجرة‏.‏ ‏{‏وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ‏}‏ إلى حيث أمركم الله بالمضي إليه، وهو الشام أو مصر فعدي ‏{‏وامضوا‏}‏ إلى «حَيْثُ تُؤْمَرُون» إلى ضميره المحذوف على الاتساع‏.‏

‏{‏تُؤْمَرُونَ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ‏}‏ أي وأوحينا إليه مقضياً، ولذلك عدي بإلى‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ الامر‏}‏ مبهم يفسره‏.‏ ‏{‏إِنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ‏}‏ ومحله النصب على البدل منه وفي ذلك تفخيم للآمر وتعظيم له‏.‏ وقرئ بالكسر على الاستئناف والمعنى‏:‏ أنهم يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد‏.‏ ‏{‏مُّصْبِحِينَ‏}‏ داخلين في الصبح وهو حال من هؤلاء، أو من الضمير في مقطوع وجمعه للحمل على المعنى‏.‏ ف ‏{‏أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء‏}‏ في معنى مدبري هؤلاء‏.‏