فصل: تفسير الآيات رقم (84- 90)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 90‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏84‏)‏ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏85‏)‏ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏86‏)‏ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏87‏)‏ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ‏(‏88‏)‏ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ‏(‏89‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا‏}‏ وهو نبيها يشهد لهم وعليهم بالإيمان والكفر‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ في الاعتذار إذ لا عذر لهم‏.‏ وقيل في الرجوع إلى الدنيا‏.‏ و‏{‏ثُمَّ‏}‏ لزيادة ما يحيق بهم من شدة المنع عن الاعتذار لما فيه من الإقناط الكلي على ما يمنون به من شهادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ‏}‏ ولا هم يسترضون، من العتبى وهي الرضا وانتصاب يوم بمحذوف تقديره اذكر، أو خوفهم أو يحيق بهم ما يحيق وكذا قوله‏:‏

‏{‏وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب‏}‏ عذاب جهنم‏.‏ ‏{‏فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ‏}‏ أي العذاب‏.‏ ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ‏}‏ يمهلون‏.‏ ‏{‏وَإِذَا رَءا الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ‏}‏ أوثانهم التي ادعوها شركاء، أو الشياطين الذين شاركوهم في الكفر بالحمل عليه‏.‏ ‏{‏قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ‏}‏ نعبدهم أو نطيعهم، وهو اعتراف بأنهم كانوا مخطئين في ذلك، أو التماس لأن يشطر عذابهم‏.‏ ‏{‏فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لكاذبون‏}‏ أي أجابوهم بالتكذيب في أنهم شركاء الله، أو أنهم ما عبدوهم حقيقة وإنما عبدوا أهواءهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بعبادتهم‏}‏ ولا يمتنع إنطاق الله الأصنام به حينئذ، أو في أنهم حملوهم على الكفر وألزموهم إياه كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي‏}‏ ‏{‏وَأَلْقَوْاْ‏}‏ وألقى الذين ظلموا‏.‏ ‏{‏إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم‏}‏ الاستسلام لحكمه بعد الاستكبار في الدنيا‏.‏ ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُم‏}‏ وضاع عنهم وبطل‏.‏ ‏{‏مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ من أن آلهتهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين كذبوهم وتبرؤوا منهم‏.‏

‏{‏الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ بالمنع عن الإسلام والحمل على الكفر‏.‏ ‏{‏زدناهم عَذَابًا‏}‏ لصدهم‏.‏ ‏{‏فَوْقَ العذاب‏}‏ المستحق بكفرهم‏.‏ ‏{‏بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ‏}‏ بكونهم مفسدين بصدهم‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مّنْ أَنفُسِهِمْ‏}‏ يعني نبيهم فإن نبي كل أمة بعث منهم‏.‏ ‏{‏وَجِئْنَا بِكَ‏}‏ يا محمد‏.‏ ‏{‏شَهِيدًا على هَؤُلآء‏}‏ على أمتك‏.‏ ‏{‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب‏}‏ استئناف أو حال بإضمار قد‏.‏ ‏{‏تِبْيَانًا‏}‏ بياناً بليغاً‏.‏ ‏{‏لّكُلِّ شَيْءٍ‏}‏ من أمور الدين على التفصيل أو الإجمال بالإحالة إلى السنة أو القياس‏.‏ ‏{‏وَهُدًى وَرَحْمَةً‏}‏ للجميع وإنما حرمان المحروم من تفريطه‏.‏ ‏{‏وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ‏}‏ خاصة‏.‏

‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل‏}‏ بالتوسط في الأمور اعتقاداً كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك، والقول بالكسب المتوسط بين محض الجبر والقدر، وعملاً كالتعبد بأداء الواجبات المتوسط بين البطالة والترهب، وخلقاً كالجود المتوسط بين البخل والتبذير‏.‏ ‏{‏والإحسان‏}‏ إحسان الطاعات، وهو إما بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل أو بحسب الكيفية كما قال عليه الصلاة والسلام «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»

‏{‏وَإِيتَآء ذِي القربى‏}‏ وإعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه وهو تخصيص بعد تعميم للمبالغة‏.‏ ‏{‏وينهى عَنِ الفحشاء‏}‏ عن الإِفراط في متابعة القوة الشهوية كالزنا فإنه أقبح أحوال الإنسان وأشنعها‏.‏ ‏{‏والمنكر‏}‏ ما ينكر على متعاطيه في إثارة القوة الغضبية‏.‏ ‏{‏والبغي‏}‏ والاستعلاء والاستيلاء على الناس والتجبر عليهم، فإنها الشيطنة التي هي مقتضى القوة الوهمية، ولا يوجد من الإنسان شر إلا وهو مندرج في هذه الأقسام صادر بتوسط إحدى هذه القوى الثلاث، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ هي أجمع آية في القرآن للخير والشر‏.‏ وصارت سبب إسلام عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه، ولو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء وهدى ورحمة للعالمين، ولعل إيرادها عقب قوله‏:‏ ‏{‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب‏}‏ للتنبيه عليه‏.‏ ‏{‏يَعِظُكُمُ‏}‏ بالأمر والنهي والميز بين الخير والشر‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ تتعظون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله‏}‏ يعني البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله‏}‏ وقيل كل أمر يجب الوفاء به ولا يلائمه قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا عاهدتم‏}‏ وقيل النذور‏.‏ وقيل الإِيمان بالله ‏{‏وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان‏}‏ أي أيمان البيعة أو مطلق الأيمان‏.‏ ‏{‏بَعْدَ تَوْكِيدِهَا‏}‏ بعد توثيقها بذكر الله تعالى، ومنه أكد بقلب الواو همزة ‏{‏وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً‏}‏ شاهداً بتلك البيعة فإن الكفيل مراع لحال المكفول به رقيب عليه ‏{‏إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ من نقض الأيمان والعهود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا‏}‏ ما غزلته، مصدر بمعنى المفعول‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ قُوَّةٍ‏}‏ متعلق ب ‏{‏نَقَضَتْ‏}‏ أي نقضت غزلها من بعد إبرام وإحكام‏.‏ ‏{‏أنكاثا‏}‏ طاقات نكث فتلها جمع نكث، وانتصابه على الحال من ‏{‏غَزْلَهَا‏}‏ أو المفعول الثاني لنقضت فإنه بمعنى صيرت، والمراد به تشبيه الناقض بمن هذا شأنه‏.‏ وقيل هي ريطة بنت سعد بن تيم القرشية فإنها كانت خرقاء تفعل ذلك‏.‏ ‏{‏تَتَّخِذُونَ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ‏}‏، أو في الجار الواقع موقع الخبر أي لا تكونوا متشبهين بامرأة هذا شأنها، متخذي أيمانكم مفسدة ودخلاً بينكم، وأصل الدخل ما يدخل الشيء ولم يكن منه‏.‏ ‏{‏أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ‏}‏ لأن تكون جماعة أزيد عدداً وأوفر مالاً من جماعة، والمعنى لا تغدروا بقوم لكثرتكم وقلتهم أو لكثرة منابذتهم وقوتهم كقريش، فإنهم كانوا إذا رأوا شوكة في أعادي حلفائهم نقضوا عهدهم وحالفوا أعداءهم‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ‏}‏ الضمير لأنه تكون أمة لأن بمعنى المصدر أي يختبركم بكونهم أربى لينظر‏.‏ أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وبيعة رسوله أم تغترون بكثرة قريش وشوكتهم وقلة المؤمنين وضعفهم‏.‏ وقيل الضمير للرياء وقيل للأمر بالوفاء‏.‏ ‏{‏وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏ إذا جازاكم على أعمالكم بالثواب والعقاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة‏}‏ متفقة على الإِسلام‏.‏ ‏{‏ولكن يُضِلُّ مَن يَشَآء‏}‏ بالخذلان‏.‏ ‏{‏وَيَهْدِى مَن يَشَاء‏}‏ بالتوفيق‏.‏ ‏{‏وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ سؤال تبكيت ومجازاة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَتَّخِذُواْ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ‏}‏ تصريح بالنهي عنه بعد التضمين تأكيداً ومبالغة في قبح المنهي‏.‏ ‏{‏فَتَزِلَّ قَدَمٌ‏}‏ أي عن محجة الإسلام‏.‏ ‏{‏بَعْدَ ثُبُوتِهَا‏}‏ عليها والمراد أقدامهم، وإنما وحد ونكر للدلالة على أن زلل قدم واحدة عظيم فكيف بأقدام كثيرة‏.‏ ‏{‏وَتَذُوقُواْ السوء‏}‏ العذاب في الدنيا‏.‏ ‏{‏بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ بصدكم عن الوفاء أو صدكم غيركم عنه، فإن من نقض البيعة وارتد جعل ذلك سنة لغيره‏.‏ ‏{‏وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ في الآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله‏}‏ ولا تستبدلوا عهد الله وبيعة رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏ثَمَناً قَلِيلاً‏}‏ عرضاً يسيراً، وهو ما كانت قريش يعدون لضعفاء المسلمين ويشترطون لهم على الارتداد‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا عَندَ الله‏}‏ من النصر والتغنيم في الدنيا والثواب في الآخرة‏.‏ ‏{‏هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ مما يعدونكم‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ إن كنتم من أهل العلم والتمييز‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏مَا عِندَكُمْ‏}‏ من أعراض الدنيا‏.‏ ‏{‏يَنْفَدُ‏}‏ ينقضي ويفنى‏.‏ ‏{‏وَمَا عِندَ الله‏}‏ من خزائن رحمته‏.‏ ‏{‏بَاقٍ‏}‏ لا ينفد، وهو تعليل للحكم السابق ودليل على أن نعيم أهل الجنة باق‏.‏ ‏{‏وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ‏}‏ على الفاقة وأذى الكفار، أو على مشاق التكاليف‏.‏ وقرأ ابن كثير وعاصم بالنون‏.‏ ‏{‏بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ بما يرجح فعله من أعمالهم كالواجبات والمندوبات، أو بجزاء أحسن من أعمالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ صالحا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى‏}‏ بينه بالنوعين دفعاً للتخصيص‏.‏ ‏{‏وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب، وإنما المتوقع عليها تخفيف العذاب‏.‏ ‏{‏فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً‏}‏ في الدنيا يعيش عيشاً طيباً فإنه إن كان موسراً فظاهر وإن كان معسراً يطيب بالقناعة والرضا بالقسمة وتوقع الأجر العظيم في الآخرة، بخلاف الكافر فإنه إن كان معسراً فظاهر وإن كان موسراً لم يدعه الحرص وخوف الفوات أن يتهنأ بعيشه‏.‏ وقيل في الآخرة‏.‏ ‏{‏وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ من الطاعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 100‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏(‏98‏)‏ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏99‏)‏ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان‏}‏ إذا أردت قراءته كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ‏}‏ ‏{‏فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم‏}‏ فاسأل الله أن يعيذك من وساوسه لئلا يوسوسك في القراءة، والجمهور على أنه للاستحباب‏.‏ وفيه دليل على أن المصلي يستعيذ في كل ركعة لأن الحكم المترتب على شرط يتكرر بتكرره قياساً، وتعقيبه لذكر العمل الصالح والوعد عليه إيذان بأن الاستعاذة عند القراءة من هذا القبيل‏.‏ وعن ابن مسعود ‏(‏قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم فقال‏:‏ «قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريل عن القلم عن اللوح المحفوظ» ‏{‏إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ‏}‏ تسلط وولاية ‏{‏على الذين ءَامَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ على أولياء الله تعالى المؤمنين به والمتوكلين عليه فإنهم لا يطيعون أوامره ولا يقبلون وساوسه إلا فيما يحتقرون على ندور وغفلة ولذلك أمروا بالاستعاذة فذكر السلطنة بعد الأمر باستعاذة لئلا يتوهم منه أن له سلطاناً‏.‏

‏{‏إِنَّمَا سلطانه على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ‏}‏ يحبونه ويطيعونه‏.‏ ‏{‏والذين هُم بِهِ‏}‏ بالله أو بسبب الشيطان‏.‏ ‏{‏مُّشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ‏}‏ بالنسخ فجعلنا الآية الناسخة مكان المنسوخة لفظاً أو حكماً‏.‏ ‏{‏والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ‏}‏ من المصالح فلعل ما يكون مصلحة في وقت يصير مفسدة بعده فينسخه، وما لا يكون مصلحة حينئذ يكون مصلحة الآن فيثبته مكانه‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو«يُنَزل» بالتخفيف‏.‏ ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي الكفرة‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ‏}‏ متقول على الله تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه، وجواب ‏{‏إِذَا‏}‏ ‏{‏والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ‏}‏، اعتراض لتوبيخ الكفار على قولهم والتنبيه على فساد سندهم ويجوز أن يكون حالاً‏.‏ ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ حكمة الأحكام ولا يميزون الخطأ من الصواب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس‏}‏ يعني جبريل عليه الصلاة والسلام، وإضافة الروح إلى القدس وهو الطهر كقولهم‏:‏ حاتم الجود وقرأ ابن كثير «رُوحُ القدس» بالتخفيف وفي ‏{‏ينزل‏}‏ و‏{‏نزله‏}‏ تنبيه على أن إنزاله مدرجاً على حسب المصالح بما يقتضي التبديل‏.‏ ‏{‏مّن رَّبِّكَ بالحق‏}‏ ملتبساً بالحكمة‏.‏ ‏{‏لِيُثَبِّتَ الذين ءَامَنُواْ‏}‏ ليثبت الله الذين آمنوا على الإيمان بأنه كلامه، وأنهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية الصلاح والحكمة رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم‏.‏ ‏{‏وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ‏}‏ المنقادين لحكمه، وهما معطوفان على محل ‏{‏لِيُثَبِّتَ‏}‏ أي تثبيتاً وهداية وبشارة، وفيه تعريض بحصول أضداد ذلك لغيرهم وقرئ ‏{‏لِيُثَبّتَ‏}‏ بالتخفيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ‏}‏ يعنون جبراً الرومي غلام عامر بن الحضرمي‏.‏ وقيل جبراً ويساراً كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمر عليهما ويسمع ما يقرآنه‏.‏ وقيل عائشاً غلام حويطب بن عبد العزى قد أسلم وكان صاحب كتب‏.‏ وقيل سلمان الفارسي‏.‏ ‏{‏لّسَانُ الذى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ‏}‏ لغة الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه، مأخوذ من لحد القبر‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي يلحدون بفتح الياء والحاء، لسان أعجمي غير بين‏.‏ ‏{‏وهذا‏}‏ وهذا القرآن‏.‏ ‏{‏لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ‏}‏ ذو بيان وفصاحة، والجملتان مستأنفتان لإِبطال طعنهم، وتقريره يحتمل وجهين أحدهما‏:‏ أن ما سمعه منه كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم والقرآن عربي تفهمونه بأدنى تأمل، فكيف يكون ما تلقفه منه‏.‏ وثانيهما‏:‏ هب أنه تعلم منه المعنى باستماع كلامه لكن لم يتلقف منه اللفظ، لأن ذلك أعجمي وهذا عربي والقرآن كما هو معجز باعتبار المعنى فهو معجز من حيث اللفظ، مع أن العلوم الكثيرة التي في القرآن لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق في تلك العلوم مدة متطاولة، فكيف تعلم جميع ذلك من غلام سوقي سمع منه في بعض أوقات مروره عليه كلمات أعجمية لعلهما لم يعرفا معناها، وطعنهم في القرآن بأمثال هذه الكلمات الركيكة دليل على غاية عجزهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 110‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏104‏)‏ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏105‏)‏ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏106‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏107‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ‏(‏108‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏109‏)‏ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏110‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله‏}‏ لا يصدقون أنها من عند الله‏.‏ ‏{‏لاَ يَهْدِيهِمُ الله‏}‏ إلى الحق أو إلى سبيل النجاة‏.‏ وقيل إلى الجنة‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ في الآخرة، هددهم على كفرهم بالقرآن بعدما أماط شبهتهم ورد طعنهم فيه، ثم قلب الأمر عليهم فقال‏:‏

‏{‏إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله‏}‏ لأنهم لا يخافون عقاباً يردعهم عنه‏.‏ ‏{‏وأولئك‏}‏ إشارة إلى الذين كفروا أو إلى قريش‏.‏ ‏{‏هُمُ الكاذبون‏}‏ أي الكاذبون على الحقيقة، أو الكاملون في الكذب لأن تكذيب آيات الله والطعن فيها بهذه الخرافات أعظم الكذب، أو الذين عادتهم الكذب لا يصرفهم عنه دين ولا مروءة، أو الكاذبون في قولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ‏}‏ ‏{‏إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ‏}‏‏.‏

‏{‏مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمانه‏}‏ بدل من الذين لا يؤمنون وما بينهما اعتراض، أو من ‏{‏أولئك‏}‏ أو من ‏{‏الكاذبون‏}‏، أو مبتدأ خبره محذوف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ‏}‏ ويجوز أن ينتصب بالذم وأن تكون من شرطية محذوفة الجواب دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ‏}‏ على الافتراء أو كلمة الكفر، استثناء متصل لأن الكفر لغة يعم القول والعقد كالإِيمان‏.‏ ‏{‏وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان‏}‏ لم تتغير عقيدته، وفيه دليل على أن الإِيمان هو التصديق بالقلب‏.‏ ‏{‏ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا‏}‏ اعتقده وطاب به نفساً‏.‏ ‏{‏فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ إذ لا أعظم من جرمه‏.‏ روي «أن قريشاً أكرهوا عماراً وأبويه ياسراً وسمية على الارتداد، فربطوا سمية بين بعيرين وجيء بحربة في قبلها وقالوا‏:‏ أنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت، وقتلوا ياسراً وهما أول قتيلين في الإِسلام، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرهاً فقيل‏:‏ يا رسول الله إن عماراً كفر فقال‏:‏ كلا إن عماراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فأتى عمار‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه ويقول‏:‏ ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت»‏.‏ وهو دليل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه وإن كان الأفضل أن يتجنب عنه إعزازاً للدين كما فعله أبواه لما روي ‏(‏أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما‏:‏ ما تقول في محمد‏؟‏ قال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ فما تقول فيَّ فقال‏:‏ أنت أيضاً فخلاه، وقال للآخر ما تقول في محمد قال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ قال فما تقول في‏؟‏ قال‏:‏ أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثاً فأعاد جوابه فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏

«أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له» ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى الكفر بعد الإِيمان أو الوعيد‏.‏ ‏{‏بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا على‏}‏ بسبب أنهم آثروها عليها‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين‏}‏ أي الكافرين في علمه إلى ما يوجب ثبات الإيمان ولا يعصمهم من الزيغ‏.‏

‏{‏أُولَئِكَ الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وأبصارهم‏}‏ فأبت عن إدراك الحق والتأمل فيه‏.‏ ‏{‏وأولئك هُمُ الغافلون‏}‏ الكاملون في الغفلة إذ أغفلتهم الحالة الراهنة عن تدبر العواقب‏.‏

‏{‏لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون‏}‏ إذ ضيعوا أعمارهم وصرفوها فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلد‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ‏}‏ أي عذبوا كعمار رضي الله تعالى عنه بالولاية والنصر، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ لتباعد حال هؤلاء عن حال أولئك، وقرأ ابن عامر فتنوا بالفتح أي من بعد ما عذبوا المؤمنين كالحضرمي أكره مولاه جبراً حتى ارتد ثم أسلم وهاجر‏.‏ ‏{‏ثُمَّ جاهدوا وَصَبَرُواْ‏}‏ على الجهاد وما أصابهم من المشاق‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا‏}‏ من بعد الهجرة والجهاد والصبر‏.‏ ‏{‏لَغَفُورٌ‏}‏، لما فعلوا قبل‏.‏ ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ منعم عليهم مجازاة على ما صنعوا بعد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ‏}‏ منصوب ب ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ أو باذكر‏.‏ ‏{‏تجادل عَن نَّفْسِهَا‏}‏ تجادل عن ذاتها وتسعى في خلاصها لا يهمها شأن غيرها فتقول نفسي نفسي‏.‏ ‏{‏وتوفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ‏}‏ جزاء ما عملت‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ لا ينقصون أجورهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

‏{‏وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً‏}‏ أي جعلها مثلاً لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا، فأنزل الله بهم نقمته، أو لمكة‏.‏ ‏{‏كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً‏}‏ لا يزعج أهلها خوف‏.‏ ‏{‏يَأْتِيهَا رِزْقُهَا‏}‏ أقواتها‏.‏ ‏{‏رَغَدًا‏}‏ واسعاً‏.‏ ‏{‏مِّن كُلِّ مَكَانٍ‏}‏ من نواحيها‏.‏ ‏{‏فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله‏}‏ بنعمه جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع، أو جمع نعم كبؤس وأبؤس‏.‏ ‏{‏فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف‏}‏ استعار الذوق لإدراك أثر الضرر، واللباس لما غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف، وأوقع الإذاقة عليه بالنظر إلى المستعار له كقول كثير‏:‏

غمرُ الرِّدَاءِ إِذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكَا *** غلقَتْ لِضَحْكَتِهِ رِقَابُ المال

فإنه استعار الرداء للمعروف لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لمَّا يلقى عليه، وأضاف إليه الغمر الذي هو وصف المعروف والنوال لا وصف الرداء نظراً إلى المستعار له، وقد ينظر إلى المستعار كقوله‏:‏

يُنَازِعْني رِدَائي عَبْدُ عَمْرو *** رُوَيْدَكَ يَا أَخَا عَمْرُو بن بَكْرِ

لِي الشَّطرُ الَّذِي مَلَكت يَمِيني *** وَدُونَكَ فَاعْتَجِرْ مِنْهُ بِشَطْرٍ

استعار الرداء لسيفه ثم قال فاعتجر نظراً إلى المستعار‏.‏ ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ‏}‏ بصنيعهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مّنْهُمْ‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، والضمير لأهل مكة عاد إلى ذكرهم بعد ما ذكر مثلهم‏.‏ ‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العذاب وَهُمْ ظالمون‏}‏ أي حال التباسهم بالظلم والعذاب ما أصابهم من الجدب الشديد، أو وقعة بدر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 120‏]‏

‏{‏فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏114‏)‏ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏115‏)‏ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ‏(‏116‏)‏ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏117‏)‏ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏118‏)‏ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏119‏)‏ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏120‏)‏‏}‏

‏{‏فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلَلاً طَيّباً‏}‏ أمرهم بأكل ما أحل الله لهم وشكر ما أنعم عليهم بعدما زجرهم عن الكفر وهددهم عليه بما ذكر من التمثيل والعذاب الذي حل بهم، صداً لهم عن صنيع الجاهلية ومذاهبها الفاسدة‏.‏ ‏{‏واشكروا نِعْمَتَ الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏ تطيعون، أو إن صح زعمكم أنكم تقصدون بعبادة الآلهة عبادته‏.‏

‏{‏إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ لما أمرهم بتناول ما أحل لهم عدد عليهم محرماته ليعلم أن ما عداها حل لهم، ثم أكد ذلك بالنهي عن التحريم والتحليل بأهوائهم فقال‏:‏

‏{‏وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حلال وهذا حَرَامٌ‏}‏ كما قالوا ‏{‏مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا‏}‏ الآية، ومقتضى سياق الكلام وتصدير الجملة بإنما حصر المحرمات في الأجناس الأربعة إلا ما ضم إليه دليل‏:‏ كالسباع والحمر الأهلية، وانتصاب ‏{‏الكذب‏}‏ ب ‏{‏لاَ تَقُولُواْ‏}‏ و‏{‏هذا حلال وهذا حَرَامٌ‏}‏ بدل منه أو متعلق بتصف على إرادة القول أي‏:‏ ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم فتقولوا هذا حلال وهذا حرام، أو مفعول ‏{‏لاَ تَقُولُواْ‏}‏، و‏{‏الكذب‏}‏ منتصب ب ‏{‏تَصِفُ‏}‏ وما مصدرية أي ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب أي‏:‏ لا تحرموا ولا تحللوا بمجرد قول تنطق به ألسنتكم من غير دليل، ووصف ألسنتهم الكذب مبالغة في وصف كلامهم بالكذب كأن حقيقة الكذب كانت مجهولة وألسنتكم تصفها وتعرفها بكلامهم هذا، ولذلك عد من تصحيح الكلام كقولهم‏:‏ وجهها يصف الجمال وعينها تصف السحر‏.‏ وقرئ ‏{‏الكذب‏}‏ بالجر بدلاً من «ما»، و‏{‏الكذب‏}‏ جمع كذوب أو كذاب بالرفع صفة للألسنة وبالنصب على الذم أو بمعنى الكلم الكواذب‏.‏ ‏{‏لّتَفْتَرُواْ على الله الكذب‏}‏ تعليل لا يتضمن الغرض‏.‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ‏}‏ لما كان المفتري يفتري لتحصيل مطلوب نفي عنهم الفلاح وبينه بقوله‏:‏

‏{‏متاع قَلِيلٌ‏}‏ أي ما يفترون لأجله أو ما هم فيه منفعة قليلة تنقطع عن قريب‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ في الآخرة‏.‏

‏{‏وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ‏}‏ أي في سورة «الأنعام» في قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ‏}‏ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ متعلق ب ‏{‏قَصَصْنَا‏}‏ أو ب ‏{‏حَرَّمْنَا‏}‏‏.‏ ‏{‏وَمَا ظلمناهم‏}‏ بالتحريم‏.‏ ‏{‏ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه، وفيه تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم وأنه كما يكون للمضرة يكون للعقوبة‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء بجهالة‏}‏ بسببها أو ملتبسين بها ليعم الجهل بالله وبعقابه وعدم التدبر في العواقب لغلبة الشهوة، والسوء يعم الافتراء على الله وغيره‏.‏

‏{‏ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا‏}‏ من بعد التوبة‏.‏ ‏{‏لَغَفُورٌ‏}‏ لذلك السوء‏.‏ ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ يثيب على الإنابة‏.‏

‏{‏إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً‏}‏ لكماله واستجماعه فضائل لا تكاد توجد إلا مفرقة في أشخاص كثيرة كقوله‏:‏

لَيْسَ مِنَ اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ *** أَنْ يَجْمَعَ العَالَمَ فِي وَاحِدٍ

وهو رئيس الموحدين وقدوة المحققين الذي جادل فرق المشركين، وأبطل مذاهبهم الزائغة بالحجج الدامغة، ولذلك عقب ذكره بتزييف مذاهب المشركين من الشرك والطعن في النبوة وتحريم ما أحله، أو لأنه كان وحده مؤمناً وكان سائر الناس كفاراً‏.‏ وقيل هي فعلة بمعنى مفعول كالرحلة والنخبة من أمه إذا قصده، أو اقتدى به فإن الناس كانوا يؤمونه للاستفادة ويقتدون بسيرته كقوله‏:‏ ‏{‏إِنّي جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا‏}‏ ‏{‏قانتا لِلَّهِ‏}‏ مطيعاً له قائماً بأوامره‏.‏ ‏{‏حَنِيفاً‏}‏ مائلاً عن الباطل‏.‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين‏}‏ كما زعموا فإن قريشاً كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 122‏]‏

‏{‏شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏121‏)‏ وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

‏{‏شَاكِراً لأَنْعُمِهِ‏}‏ ذكر بلفظ القلة للتنبيه على أنه كان لا يخل بشكر النعم القليلة فكيف بالكثيرة‏.‏ ‏{‏اجتباه‏}‏ للنبوة‏.‏ ‏{‏وَهَدَاهُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ في الدعوة إلى الله‏.‏ ‏{‏وءاتيناه فِي الدنيا حَسَنَةً‏}‏ يأن حببه إلى الناس حتى أن أرباب الملل يتولونه ويثنون عليه، ورزقه أولاداً طيبة وعمراً طويلاً في السعة والطاعة‏.‏ ‏{‏وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين‏}‏ لمن أهل الجنة كما سأله بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَلْحِقْنِى بالصالحين‏.‏‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ يا محمد، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ إما لتعظيمه والتنبيه على أن أَجَلَّ ما أوتي إبراهيم اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام ملته، أو لتراخي أيامه‏.‏ ‏{‏أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا‏}‏ في التوحيد والدعوة إليه بالرفق وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى والمجادلة مع كل أحد حسب فهمه ‏{‏وَمَا كَانَ مِنَ المشركين‏}‏ بل كان قدوة الموحدين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏124‏]‏

‏{‏إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا جُعِلَ السبت‏}‏ تعظيم السبت، أو التخلي فيه للعبادة‏.‏ ‏{‏على الذين اختلفوا فِيهِ‏}‏ أي على نبيهم، وهم اليهود أمرهم موسى عليه السلام أن يتفرغوا للعبادة يوم الجمعة فأبوا وقالوا‏:‏ نريد يوم السبت لأنه تعالى فرغ فيه من خلق السموات والأرض، فألزمهم الله السبت وشدد الأمر عليهم‏.‏ وقيل معناه إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه، فأحلوا الصيد فيه تارة وحرموه أخرى واحتالوا له الحيل، وذكرهم هنا لتهديد المشركين كذكر القرية التي كفرت بأنعم الله‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ بالمجازاة على الاختلاف، أو بمجازاة كل فريق بما يستحقه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

‏{‏ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏125‏)‏‏}‏

‏{‏ادع‏}‏ من بعثت إليهم‏.‏ ‏{‏إلى سَبِيلِ رَبِّكَ‏}‏ إلى الإسلام‏.‏ ‏{‏بالحكمة‏}‏ بالمقالة المحكمة، وهو الدليل الموضح للحق المزيح للشبهة‏.‏ ‏{‏والموعظة الحسنة‏}‏ الخطابات المقنعة والعبر النافعة، فالأولى لدعوة خواص الأمة الطالبين للحقائق والثانية لدعوة عوامهم‏.‏ ‏{‏وجادلهم‏}‏ وجادل معانديهم‏.‏ ‏{‏بالتي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين وإيثار الوجه الأيسر، والمقدمات التي هي أشهر فإن ذلك أنفع في تسكين لهبهم وتبيين شغبهم‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين‏}‏ أي إنما عليك البلاغ والدعوة، وأما حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما فلا إليك بل الله أعلم بالضالين والمهتدين وهو المجازي لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ‏(‏126‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ‏}‏ لما أمره بالدعوة وبين له طرقها أشار إليه وإلى من يتابعه بترك المخالفة، ومراعاة العدل مع من يناصبهم، فإن الدعوة لا تنفك عنه من حيث إنها تتضمن رفض العادات، وترك الشهوات والقدح في دين الأسلاف والحكم عليهم بالكفر والضلال‏.‏ وقيل إنه عليه الصلاة والسلام لما رأى حمزة وقد مثل به فقال‏:‏ «والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك» فنزلت‏.‏ فكفر عن يمينه، وفيه دليل على أن للمقتص أن يماثل الجاني وليس له أن يجاوزه، وحث على العفو تعريضاً بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ‏}‏ وتصريحاً على الوجه الآكد بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ‏}‏ أي الصبر‏.‏ ‏{‏خَيْرٌ للصابرين‏}‏ من الانتقام للمنتقمين، ثم صرح بالأمر به لرسوله لأنه أولى الناس به لزيادة علمه بالله ووثوقه عليه فقال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

‏{‏واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله‏}‏ إلا بتوفيقه وتثبيته‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ‏}‏ على الكافرين أو على المؤمنين وما فعل بهم‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ‏}‏ في ضيق صدر من مكرهم، وقرأ ابن كثير في ‏{‏ضَيْقٍ‏}‏ بالكسر هنا وفي «النمل» وهما لغتان كالقول والقيل، ويجوز أن يكون الضيق تخفيف ضيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ‏(‏128‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا‏}‏ المعاصي‏.‏ ‏{‏والذين هُم مُّحْسِنُونَ‏}‏ في أعمالهم بالولاية والفضل، أو مع الذين اتقوا الله بتعظيم أمره والذين هم محسنون بالشفقة على خلقه‏.‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة النحل لم يحاسبه الله بما أنعم عليه في دار الدنيا وإن مات في يوم تلاها أو ليلة كان له من الأجر كالذي مات وأحسن الوصية»

سورة الإسراء

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

وقيل إلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كادوا ليفتنونك‏}‏ إلى آخر ثمان آيات وهي مائة وإحدى عشرة آية

‏{‏سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً‏}‏ سبحان اسم بمعنى التسبيح ‏{‏الذى‏}‏ هو التنزيه يستعمل علماً له فيقطع عن الإِضافة ويمنع عن الصرف قال‏:‏

قَدْ قُلْتُ لَمَّا جَاءَني فَخْرُهُ *** سبحان من علقمة الفاخر

وانتصابه بفعل متروك إظهاره، وتصدير الكلام به للتنزيه عن العجز عما ذكر بعد‏.‏ و‏{‏أسرى‏}‏ وسرى بمعنى، و‏{‏لَيْلاً‏}‏ نصب على الظرف‏.‏ وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإسراء، ولذلك قرئ‏:‏ من «الليل»‏.‏ أي بعضه كقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ‏}‏ ‏{‏مّنَ المسجد الحرام‏}‏ بعينه لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ ‏"‏ بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق ‏"‏ أو «من الحرم» وسماه المسجد الحرام لأنه كله مسجد أو لأنه محيط به، أو ليطابق المبدأ المنتهى‏.‏ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان نائماً في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء فأسرى به ورجع من ليلته، وقص القصة عليها وقال‏:‏ ‏"‏ مثل لي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فصليت بهم ‏"‏ ثم خرج إلى المسجد الحرام وأخبر به قريشاً فتعجبوا منه استحالة، وارتد ناس ممن آمن به، وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال‏:‏ إن كان قال لقد صدق، فقالوا‏:‏ أتصدقه على ذلك، قال‏:‏ إني لأصدقه على أبعد من ذلك فسمي الصديق، واستنعته طائفة سافروا إلى بيت المقدس فجلى له فطفق ينظر إليه وينعته لهم، فقالوا‏:‏ أما النعت فقد أصاب فقالوا أخبرنا عن عيرنا، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق، فخرجوا يشتدون إلى الثنية فصادفوا العير كما أخبر، ثم لم يؤمنوا وقالوا ما هذا إلا سحر مبين وكان ذلك قبل الهجرة بسنة‏.‏ واختلف في أنه كان في المنام أو في اليقظة بروحه أو بجسده، والأكثر على أنه أسرى بجسده إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السموات حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، ولذلك تعجب قريش واستحالوه، والاستحالة مدفوعة بما ثبت في الهندسة أن ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفاً وستين مرة، ثم إن طرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى في أقل من ثانية، وقد برهن في الكلام أن الأجسام متساوية في قبول الأعراض وأن الله قادر على كل الممكنات فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن النبي صلى الله عليه وسلم، أو فيما يحمله، والتعجب من لوازم المعجزات‏.‏ ‏{‏إلى المسجد الأقصى‏}‏ بيت المقدس لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد‏.‏ ‏{‏الذى بَارَكْنَا حَوْلَهُ‏}‏ ببركات الدين والدنيا لأنه مهبط الوحي ومتعبد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من لدن موسى عليه الصلاة والسلام، ومحفوف بالأنهار والأشجار‏.‏ ‏{‏لِنُرِيَهُ مِنْ ءاياتنا‏}‏ كذهابه في برهة من الليل مسيرة شهر ومشاهدته بيت المقدس وتمثل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام له، ووقوفه على مقاماتهم، وصرف الكلام من الغيبة إلى التكلم لتعظيم تلك البركات والآيات‏.‏ وقرئ «ليريه» بالياء‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ السميع‏}‏ لأقوال محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏البصير‏}‏ بأفعاله فيكرمه ويقربه على حسب ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏وَءاتَيْنَآ مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِى إسراءيل أَلاَّ تَتَّخِذُواْ‏}‏ على أن لا تتخذوا كقولك‏:‏ كتبت إليك أن أفعل كذا‏.‏ وقرأ أبو عمرو بالياء على «أن لا يتخذوا»‏.‏ ‏{‏مِن دُونِى وَكِيلاً‏}‏ رباً تكلون إليه أموركم غيري‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ‏}‏ نصب على الاختصاص أو النداء أن قرئ «أن لا تتخذوا» بالتاء على النهي يعني‏:‏ قلنا لهم لا تتخذوا من دوني وكيلاً، أو على أنه أحد مفعولي ‏{‏لاَ تَتَّخِذُواْ‏}‏ و‏{‏مِن دُونِى‏}‏ حال من ‏{‏وَكِيلاً‏}‏ فيكون كقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا‏}‏ وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو بدل من واو ‏{‏تَتَّخِذُواْ‏}‏، و‏{‏ذُرّيَّةِ‏}‏ بكسر الذال‏.‏ وفيه تذكير بأنعام الله تعالى عليهم في إنجاء آبائهم من الغرق بحملهم مع نوح عليه السلام في السفينة‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ‏}‏ إن نوحاً عليه السلام‏.‏ ‏{‏كَانَ عَبْدًا شَكُورًا‏}‏ يحمد الله تعالى على مجامع حالاته، وفيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره، وحث للذرية على الاقتداء به‏.‏ وقيل الضمير لموسى عليه الصلاة والسلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَضَيْنَا إلى بَنِى إسراءيل‏}‏ وأوحينا إليهم وحياً مقضياً مبتوتاً‏.‏ ‏{‏فِى الكتاب‏}‏ في التوراة‏.‏ ‏{‏لَتُفْسِدُنَّ فِى الأرض‏}‏ جواب قسم محذوف، أو قضينا على إجراء القضاء المبتوت مجرى القسم‏.‏ ‏{‏مَّرَّتَيْنِ‏}‏ إفسادتين أولاهما مخالفة أحكام التوراة وقتل شعياء وقيل أرمياء‏.‏ وثانيهما قتل زكريا ويحيى وقَصْدُ قتل عيسى عليهم السلام‏.‏ ‏{‏وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً‏}‏ ولتستكبرن عن طاعة الله تعالى أو لتظلمن الناس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا جَآء وَعْدُ أولاهما‏}‏ وعد عقاب أولاهما‏.‏ ‏{‏بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا‏}‏ بختنصر عامل لهراسف على بابل وجنوده‏.‏ وقيل جالوت الجزري‏.‏ وقيل سنحاريب من أهل نينوى‏.‏ ‏{‏أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ ذوي قوة وبطش في الحرب شديد‏.‏ ‏{‏فَجَاسُواْ‏}‏ فترددوا لطلبكم‏.‏ وقرئ بالحاء المهملة وهما أخوان‏.‏ ‏{‏خلال الديار‏}‏ وسطها للقتل والغارة فقتلوا كبارهم وسبوا صغارهم وحرقوا التوراة وخربوا المسجد‏.‏ والمعتزلة لما منعوا تسليط الله الكافر على ذلك أولوا البعث بالتخلية وعدم المنع‏.‏ ‏{‏وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً‏}‏ وكان وعد عقابهم لا بد أن يفعل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة‏}‏ أي الدولة والغلبة‏.‏ ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ على الذين بعثوا عليكم، وذلك بأن ألقى الله في قلوب بهمن بن اسفنديار لما ورث الملك من جده كشتاسف بن لهراسف شفقة عليهم، فرد أسراهم إلى الشام وملك دانيال عليهم فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر، أو بأن سلط الله داود عليه الصلاة والسلام على جالوت فقتله ‏{‏وأمددناكم بأموال وَبَنِينَ وجعلناكم أَكْثَرَ نَفِيرًا‏}‏ مما كنتم، والنفير من ينفر مع الرجل من قومه وقيل جمع نفروهم المجتمعون للذهاب إلى العدو‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ‏}‏ لأن ثوابه لها‏.‏ ‏{‏وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا‏}‏ فإن وباله عليها، وإنما ذكرها باللام ازدواجاً‏.‏ ‏{‏فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخرة‏}‏ وعد عقوبة المرة الآخرة‏.‏ ‏{‏فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ‏}‏ أي بعثناهم ‏{‏لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمْ‏}‏ أي يجعلوها بادية آثار المساءة فيها، فحذف لدلالة ذكره أولاً عليه‏.‏ وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر «ليسوء» على التوحيد، والضمير فيه للوعد أو للبعث أو لله، ويعضده قراءة الكسائي بالنون‏.‏ وقرئ «لنسوأن» بالنون والياء والنون المخففة والمثقلة، و«لنسوأن» بفتح اللام على الأوجه الأربعة على أنه جواب إذا واللام في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِيَدْخُلُواْ المسجد‏}‏ متعلق بمحذوف هو بعثناهم‏.‏ ‏{‏كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ‏}‏ ليهلكوا‏.‏ ‏{‏مَا عَلَوْاْ‏}‏ ما غلبوه واستولوا عليه أو مدة علوهم‏.‏ ‏{‏تَتْبِيرًا‏}‏ ذلك بأن سلط الله عليهم الفرس مرة أخرى فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف اسمه جودرز، وقيل حردوس قيل دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم فوجد فيه دماً يغلي فسألهم عنه فقالوا‏:‏ دم قربان لم يقبل منا فقال‏:‏ ما صدقوني فقتل عليه ألوفاً منهم فلم يهدأ الدم، ثم قال إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحداً، فقالوا‏:‏ إنه دم يحيى فقال لمثل هذا ينتقم ربكم منكم، ثم قال يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك، فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أبقي أحداً منهم فهدأ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ‏}‏ بعد المرة الآخرة‏.‏ ‏{‏وَإِنْ عُدتُّمْ‏}‏ نوبة أخرى‏.‏ ‏{‏عُدْنَا‏}‏ مرة ثالثة إلى عقوبتكم وقد عادوا بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، وقصد قتله فعاد الله تعالى بتسليطه عليهم فقتل قريظة وأجلى بني النضير، وضرب الجزية على الباقين هذا لهم في الدنيا‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ للكافرين حَصِيرًا‏}‏ محبساً لا يقدرون على الخروج منها أبد الآباد‏.‏ وقيل بساطاً كما يبسط الحصير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ‏}‏ للحالة أو الطريقة التي هي أقوم الحالات أو الطرق‏.‏ ‏{‏وَيُبَشّرُ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا‏}‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏وَيُبَشّرُ‏}‏ بالتخفيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ عطف على ‏{‏أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا‏}‏، والمعنى أنه يبشر المؤمنين ببشارتين ثوابهم وعقاب أعدائهم، أو على ‏{‏يُبَشّرُ‏}‏ بإضمار يخبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَدْعُ الإنسان بالشر‏}‏ ويدعو الله تعالى عند غضبه بالشر على نفسه وأهله وماله، أو يدعوه بما يحسبه خيراً وهو شر‏.‏ ‏{‏دُعَاءهُ بالخير‏}‏ مثل دعائه بالخير‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الإنسان عَجُولاً‏}‏ يسارع إلى كل ما يخطر بباله لا ينظر عاقبته‏.‏ وقيل المراد آدم عليه الصلاة والسلام فإنه لما انتهى الروح إلى سرته ذهب لينهض فسقط‏.‏ روي‏:‏ أنه عليه السلام دفع أسيراً إلى سودة بنت زمعة فرحمته لأنينه فأرخت كتافه، فهرب فدعا عليها بقطع اليد ثم ندم فقال عليه السلام‏:‏ اللهم إنما أنا بشر فمن دعوت عليه فاجعل دعائي رحمة له فنزلت‏.‏ ويجوز أن يريد بالإِنسان الكافر وبالدعاء استعجاله بالعذاب استهزاء كقول النضر بن الحارث‏:‏ اللهم انصر خير الحزبين، ‏{‏اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ‏}‏ الآية‏.‏ فأجيب له فضرب عنقه صبراً يوم بدر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ‏(‏12‏)‏ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَعَلْنَا اليل والنهار ءايَتَيْنِ‏}‏ تدلان على القادر الحكيم بتعاقبهما على نسق واحد بإمكان غيره‏.‏ ‏{‏فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل‏}‏ أي الآية التي هي الليل، بالإِشراق والإِضافة فيهما للتبيين كإضافة العدد إلى المعدود‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا ءَايَةَ النهار مُبْصِرَةً‏}‏ مضيئة أو مبصرة للناس من أبصره فبصر، أو مبصراً أهله كقولهم‏:‏ أجبن الرجل إذا كان أهله جبناء‏.‏ وقيل الآيتان القمر والشمس، وتقدير الكلام وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين، أو جعلنا الليل والنهار ذوي آيتين ومحو آية الليل التي هي القمر جعلها مظلمة في نفسها مطموسة النور، أو نقص نورها شيئاً فشيئاً إلى المحاق، وجعل آية النهار التي هي الشمس مبصرة جعلها ذات شعاع تبصر الأشياء بضوئها‏.‏ ‏{‏لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ‏}‏ لتطلبوا في بياض النهار أسباب معاشكم وتتوصلوا به إلى استبانة أعمالكم‏.‏ ‏{‏وَلِتَعْلَمُواْ‏}‏ باختلافهما أو بحركاتهما‏.‏ ‏{‏عَدَدَ السنين والحساب‏}‏ وجنس الحساب‏.‏ ‏{‏وَكُلَّ شئ‏}‏ تفتقرون إليه في أمر الدين والدنيا‏.‏ ‏{‏فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً‏}‏ بيناه بياناً غير ملتبس‏.‏

‏{‏وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَئِرَهُ‏}‏ عمله وما قدر له كأنه طير إليه من عش الغيب ووكر القدر، لما كانوا يتيمنون ويتشاءمون بسنوح الطائر وبروحه، استعير لما هو سبب الخير والشر من قدر الله تعالى وعمل العبد‏.‏ ‏{‏فِى عُنُقِهِ‏}‏ لزوم الطوق في عنقه‏.‏ ‏{‏وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا‏}‏ هي صحيفة عمله أو نفسه المنتقشة بآثار أعماله، فإن الأعمال الاختيارية تحدث في النفس أحوالاً ولذلك يفيد تكريرها لها ملكات، ونصبه بأنه مفعول أو حال من مفعول محذوف، وهو ضمير الطائر ويعضده قراءة يعقوب، و«يخرح» من خرج و«يخرج» وقرئ و«يخرج» أي الله عز وجل ‏{‏يلقاه مَنْشُوراً‏}‏ لكشف الغطاء، وهما صفتان للكتاب، أو ‏{‏يلقاه‏}‏ صفة و‏{‏مَنْشُوراً‏}‏ حال من مفعوله‏.‏ وقرأ ابن عامر«يلقاه» على البناء للمفعول من لقيته كذا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏اقرأ كتابك‏}‏ على إرادة القول‏.‏ ‏{‏كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ أي كفى نفسك، والباء مزيدة و‏{‏حَسِيباً‏}‏ تمييز وعلى صلته لأنه إما بمعنى الحاسب كالصريم بمعنى الصارم وضريب القداح بمعنى ضاربها من حسب عليه كذا أو بمعنى الكافي فوضع موضع الشهيد، لأنه يكفي المدعي ما أهمه، وتذكيره على أن الحساب والشهادة مما يتولاه الرجال أو على تأويل النفس بالشخص‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا‏}‏ لا ينجي اهتداؤه غيره ولا يردي ضلاله سواه‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى‏}‏ ولا تحمل نفس حاملة وزراً وزر نفس أخرى، بل إنما تحمل وزرها‏.‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ يبين الحجج ويمهد الشرائع فيلزمهم الحجة، وفيه دليل على أن لا وجوب قبل الشرع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً‏}‏ وإذا تعلقت إرادتنا بإهلاك قوم لإنفاذ قضائنا السابق، أو دنا وقته المقدر كقولهم‏:‏ إذا أراد المريض أن يموت ازداد مرضه شدة‏.‏ ‏{‏أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا‏}‏ متنعميها بالطاعة على لسان رسول بعثناه إليهم، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده، فإن الفسق هو الخروج عن الطاعة والتمرد في العصيان، فيدل على الطاعة من طريق المقابلة، وقيل أمرناهم بالفسق لقوله‏:‏ ‏{‏فَفَسَقُواْ فِيهَا‏}‏ كقولك أمرته فقرأ، فإنه لا يفهم منه إلا الأمر بالقراءة على أن الأمر مجاز من الحمل عليه، أو التسبب له بأن صب عليهم من النعم ما أبطرهم وأفضى بهم إلى الفسوق، ويحتمل أن لا يكون له مفعول منوي كقولهم‏:‏ أمرته فعصاني‏.‏ وقيل معناه كثرنا يقال‏:‏ أمرت الشيء وآمرته فأمر إذا كثرته، وفي الحديث ‏"‏ خير المال سكة مأبورة، ومهرة مأمورة ‏"‏ أي كثيرة النتاج‏.‏ وهو أيضاً مجاز من معنى الطلب، ويؤيده قراءة يعقوب «آمرنا» ورواية ‏{‏أَمْرُنَا‏}‏ عن أبي عمرو، ويحتمل أن يكون منقولاً من أمر بالضم أمارة أي جعلناهم أمراء، وتخصيص المترفين لأن غيرهم يتبعهم ولأنهم أسرع إلى الحماقة وأقدر على الفجور‏.‏ ‏{‏فَحَقَّ عَلَيْهَا القول‏}‏ يعني كلمة العذاب السابقة بحلوله، أو بظهور معاصيهم أو بانهماكهم في المعاصي‏.‏ ‏{‏فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا‏}‏ أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريب ديارهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا‏}‏ وكثيراً أهلكنا‏.‏ ‏{‏مّنَ القرون‏}‏ بيان لكم وتمييز له‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ نُوحٍ‏}‏ كعاد وثمود‏.‏ ‏{‏وكفى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا‏}‏ يدرك بواطنها وظواهرها فيعاقب عليها، وتقديم الخبير لتقدم متعلقه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة‏}‏ مقصوراً عليها همه‏.‏ ‏{‏عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ‏}‏ قيد المعجل والمعجل له بالمشيئة والإِرادة لأنه لا يجد كل متمن ما يتمناه، ولا كل واجد جميع ما يهواه وليعلم أن الأمر بالمشيئة والهم فضل‏.‏ ‏{‏وَلَمَنِ نُرِيدُ‏}‏ بدل من له بدل البعض‏.‏ وقرئ «ما يشاء» والضمير فيه لله تعالى حتى يطابق المشهورة‏.‏ وقيل ‏{‏لِمَنْ‏}‏ فيكون مخصوصاً بمن أراد الله تعالى به ذلك‏.‏ وقيل الآية في المنافقين كانوا يراءون المسلمين ويغزون معهم ولم يكن غرضهم إلا مساهمتهم في الغنائم ونحوها‏.‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يصلاها مَذْمُومًا مَّدْحُورًا‏}‏ مطروداً من رحمة الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 24‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ‏(‏19‏)‏ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ‏(‏20‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ‏(‏21‏)‏ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ‏(‏22‏)‏ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ‏(‏23‏)‏ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَنْ أَرَادَ الأخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا‏}‏ حقها من السعي وهو الإِتيان بما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه لا التقرب بما يخترعون بآرائهم‏.‏ وفائدة اللام اعتبار النية والإِخلاص‏.‏ ‏{‏وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ إيماناً صحيحاً لا شرك معه ولا تكذيب فإنه العمدة‏.‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ‏}‏ الجامعون للشروط الثلاثة‏.‏ ‏{‏كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا‏}‏ من الله تعالى أي مقبولاً عنده مثاباً عليه، فإن شكر الله الثواب على الطاعة‏.‏

‏{‏كُلاًّ‏}‏ كل واحد من الفريقين، والتنوين بدل من المضاف إليه‏.‏ ‏{‏نُّمِدُّ‏}‏ بالعطاء مرة بعد أخرى ونجعل آنفه مدداً لسالفه‏.‏ ‏{‏هَؤُلاء وَهَؤُلاء‏}‏ بدل من ‏{‏كُلاًّ‏}‏‏.‏ ‏{‏مِنْ عَطَاء رَبّكَ‏}‏ من معطاه متعلق ب ‏{‏نُّمِدُّ‏}‏‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ مَحْظُورًا‏}‏ ممنوعاً لا يمنعه في الدنيا من مؤمن ولا كافر تفضلاً‏.‏

‏{‏انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ‏}‏ في الرزق، وانتصاب ‏{‏كَيْفَ‏}‏ ب ‏{‏فَضَّلْنَا‏}‏ على الحال‏.‏ ‏{‏وَلَلأَخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً‏}‏ أي التفاوت في الآخرة أكبر، لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها والنار ودركاتها‏.‏

‏{‏لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها ءاخَرَ‏}‏ الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته أو لكل أحد‏.‏ ‏{‏فَتَقْعُدَ‏}‏ فتصير من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة، أو فتعجز من قولهم قعد عن الشيء إذا عجز عنه‏.‏ ‏{‏مَذْمُومًا مَّخْذُولاً‏}‏ جامعاً على نفسك الذم من الملائكة والمؤمنين والخذلان من الله تعالى، ومفهومه أن الموحد يكون ممدوحاً منصوراً‏.‏

‏{‏وقضى رَبُّكَ‏}‏ وأمر أمراً مقطوعاً به‏.‏ ‏{‏أَن لاَّ تَعْبُدُواْ‏}‏ بأن لا تعبدوا‏.‏ ‏{‏إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ لأن غاية التعظيم لا تحق إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإِنعام، وهو كالتفصيل لسعي الآخرة‏.‏ ويجوز أن تكون ‏{‏ءانٍ‏}‏ مفسرة و‏{‏لا‏}‏ ناهية‏.‏ ‏{‏وبالوالدين إحسانا‏}‏ وبأن تحسنوا، أو وأحسنوا بالوالدين إحساناً لأنهما السبب الظاهر للوجود والتعيش، ولا يجوز أن تتعلق الباء بالإِحسان لأن صلته لا تتقدم عليه‏.‏ ‏{‏إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا‏}‏ ‏{‏أَمَّا‏}‏ هي إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيداً ولذلك صح لحوق النون المؤكدة للفعل، وأحدهما فاعل ‏{‏يَبْلُغَنَّ‏}‏ ويدل على قراءة حمزة والكسائي من ألف «يبلغان» الراجع إلى «الوالدين»، وكلاهما عطف على أحدهما فاعلاً أو بدلاً ولذلك لم يجز أن يكون تأكيداً للألف، ومعنى ‏{‏عِندَكَ‏}‏ أن يكونا في كنفك وكفالتك‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ‏}‏ فلا تتضجر مما يستقذر منهما وتستثقل من مؤنتهما، وهو صوت يدل على تضجر‏.‏ وقيل هو اسم الفعل الذي هو أتضجر، وهو مبني على الكسر لالتقاء الساكنين وتنوينه في قراءة نافعٍ وحفص للتنكير‏.‏ وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب بالفتح على التخفيف‏.‏ وقرئ به منوناً وبالضم للاتباع كمنذ منوناً وغير منون، والنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الايذاء قياساً بطريق الأولى‏.‏

وقيل عرفاً كقولك‏:‏ فلان لا يملك النقير والقطمير، ولذلك منع رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة من قتل أبيه وهو في صف المشركين، نهى عما يؤذيهما بعد الأمر بالإِحسان بهما‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَنْهَرْهُمَا‏}‏ ولا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظ‏.‏ وقيل النهي والنهر والنهم أخوات‏.‏ ‏{‏وَقُل لَّهُمَا‏}‏ بدل التأفيف والنهر‏.‏ ‏{‏قَوْلاً كَرِيمًا‏}‏ جميلاً لا شراسة فيه‏.‏

‏{‏واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل‏}‏ تذلل لهما وتواضع فيهما، وجعل للذل جناحاً كما جعل لبيد في قوله‏:‏

وَغَدَاةَ رِيحٍ قَدْ كشفت وَقرة *** إِذْ أَصْبَحَتْ بِيَدِ الشَّمَالِ زِمَامُهَا

للشمال يداً أو للقرة زماماً، وأمره بخفضه مبالغة أو أراد جناحه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ وإضافته إلى الذل للبيان والمبالغة كما أضيف حاتم إلى الجود، والمعنى واخفض لهما جناحك الذليل‏.‏ وقرئ «الذل» بالكسر وهو الانقياد والنعت منه ذلول‏.‏ ‏{‏مِنَ الرحمة‏}‏ من فرط رحمتك عليهما لافتقارهما إلى من كان أفقر خلق الله تعالى إليهما بالأمس‏.‏ ‏{‏وَقُل رَّبّ ارحمهما‏}‏ وادع الله تعالى أن يرحمهما برحمته الباقية، ولا تكتف برحمتك الفانية وإن كانا كافرين لأن من الرحمة أن يهديهما‏:‏ ‏{‏كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا‏}‏ رحمة مثل رحمتهما علي وتربيتهما وإرشادهما لي في صغري وفاء بوعدك للراحمين‏.‏ روي‏:‏ أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن أبوي بلغا من الكبر أني أَلي منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما حقهما‏.‏ قال‏:‏ لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل ذلك وتريد موتهما‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ‏}‏ من قصد البر إليهما واعتقاد ما يجب لهما من التوقير، وكأنه تهديد على أن يضمر لهما كراهة واستثقالاً‏.‏ ‏{‏إِن تَكُونُواْ صالحين‏}‏ قاصدين للصلاح‏.‏ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ‏}‏ للتوابين‏.‏ ‏{‏غَفُوراً‏}‏ ما فرط منهم عند حرج الصدر من أذية أو تقصير، وفيه تشديد عظيم، ويجوز أن يكون عاماً لكل تائب، ويندرج فيه الجاني على أبويه التائب من جنايته لوروده على أثره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ‏}‏ من صلة الرحم وحسن المعاشرة والبر عليهم‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ حقهم إذا كانوا محارم فقراء أن ينفق عليهم‏.‏ وقيل المراد بذي القربى أقارب الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا‏}‏ بصرف المال فيما لا ينبغي وإنفاقه على وجه الإِسراف، وأصل التبذير التفريق‏.‏ «وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد وهو يتوضأ‏:‏ ما هذا السرف قال؛ أو في الوضوء سرف قال‏:‏ نعم وإن كنت على نهر جار»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين‏}‏ أمثالهم في الشرارة فإن التضييع والاتلاف شر، أو أصدقاءهم وأتباعهم لأنهم يطيعونهم في الإِسراف والصرف في المعاصي‏.‏ روي‏:‏ أنهم كانوا ينحرون الإِبل ويتياسرون عليها ويبذرون أموالهم في السمعة، فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بالإِنفاق في القربات‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الشيطان لِرَبّهِ كَفُورًا‏}‏ مبالغاً في الكفر به فينبغي أن لا يطاع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 39‏]‏

‏{‏وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا ‏(‏28‏)‏ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ‏(‏29‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏30‏)‏ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ‏(‏31‏)‏ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ‏(‏32‏)‏ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ‏(‏33‏)‏ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ‏(‏34‏)‏ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ‏(‏35‏)‏ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ‏(‏36‏)‏ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ‏(‏37‏)‏ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ‏(‏38‏)‏ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ‏}‏ وإن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد، ويجوز أن يراد بالإِعراض عنهم أن لا ينفعهم على سبيل الكناية‏.‏ ‏{‏ابتغاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا‏}‏ لانتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك فتعطيه، أو منتظرين له وقيل معناه لفقد رزق من ربك ترجوه أن يفتح لك فوضع الابتغاء موضعه لأنه مسبب عنه، ويجوز أن يتعلق بالجواب الذي هو قوله‏:‏ ‏{‏فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا‏}‏ أي فقل لهم قولاً ليناً ابتغاء رحمة الله برحمتك عليهم بإجمال القول لهم، والميسور من يسر الأمر مثل سَعُدَ الرَّجل ونحس، وقيل القول الميسور الدعاء لهم بالميسور وهو اليسر مثل أغناكم الله تعالى ورزقنا الله وإياكم‏.‏

‏{‏وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط‏}‏ تمثيلان لمنع الشحيح وإسراف المبذر، نهى عنهما آمراً بالاقتصاد بينهما الذي هو الكرم‏.‏ ‏{‏فَتَقْعُدَ مَلُومًا‏}‏ فتصير ملوماً عند الله وعند الناس بالإِسراف وسوء التدبير‏.‏ ‏{‏مَّحْسُوراً‏}‏ نادماً أو منقطعاً بك لا شيء عندك من حسرة السفر إذا بلغ منه‏.‏ وعن جابر ‏(‏بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس أتاه صبي فقال‏:‏ إن أمي تستكسيك درعاً، فقال صلى الله عليه وسلم من ساعة إلى ساعة فعد إلينا، فذهب إلى أمه فقالت‏:‏ قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك، فدخل صلى الله عليه وسلم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عرياناً وأذن بلال وانتظروه للصلاة فلم يخرج فأنزل الله ذلك‏)‏ ثم سلاه بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ‏}‏ يوسعه ويضيقه بمشيئته التابعة للحكمة البالغة فليس ما يرهقك من الإِضافة إلا لمصلحتك‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا‏}‏ يعلم سرهم وعلنهم فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم، ويجوز أن يراد أن البسط والقبض من أمر الله تعالى العالم بالسرائر والظواهر، فأما العباد فعليهم أن يقتصدوا، أو أنه تعالى يبسط تارة ويقبض أخرى فاستنوا بسنته ولا تقبضوا كل القبض ولا تبسطوا كل البسط، وأن يكون تمهيداً لقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إملاق‏}‏ مخافة الفاقة، وقتلهم أولادهم هو وأدهم بناتهم مخافة الفقر فنهاهم عنه وضمن لهم أرزاقهم فقال‏:‏ ‏{‏نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ حُوباً كَبِيراً‏}‏ ذنباً كبيراً لما فيه من قطع التناسل وانقطاع النوع، وال ‏{‏خطأ‏}‏ الاثم يقال خطئ خطأ كأثم إثماً، وقرأ ابن عامر «خطأ»وهو اسم من اخطأ يضاد الصواب، وقيل لغة فيه كمثل ومثل وحذر وحذر‏.‏ وقرأ ابن كثير «خطاء» بالمد والكسر وهو إما لغة فيه أو مصدر خاطأ وهو وإن لم يسمع لكنه جاء تخاطأ في قوله‏:‏

تَخَاطَأَهُ القَناصُ حَتَّى وَجَدْتُه *** وَخَرْطُومُهُ فِي مَنْقعِ المَاءِ رَاسِب

وهو مبني عليه وقرئ «خطاء» بالفتح والمد وخطا بحذف الهمزة مفتوحاً ومكسوراً‏.‏

‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَا‏}‏ بالعزم والإِتيان بالمقدمات فضلاً عن أن تباشروه‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً‏}‏ فعلة ظاهرة القبح زائدته‏.‏ ‏{‏وَسَاء سَبِيلاً‏}‏ وبئس طريقاً طريقه، وهو الغصب على الابضاع المؤدي إلى قطع الأنساب وهيج الفتن‏.‏

‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق‏}‏ إلا بإحدى ثلاث‏:‏ كفر بعد إيمان‏:‏ وزنا بعد إحصان، وقتل مؤمن معصوم عمداً‏.‏ ‏{‏وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا‏}‏ غير مستوجب للقتل‏.‏ ‏{‏فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ‏}‏ للذي يلي أمره بعد وفاته وهو الوارث‏.‏ ‏{‏سلطانا‏}‏ تسلطاً بالمؤاخذة بمقتضى القتل على من عليه، أو بالقصاص على القاتل فإن قوله تعالى ‏{‏مَظْلُومًا‏}‏ بدل على أن القتل عمد عدوان فإن الخطأ لا يسمى ظلماً‏.‏ ‏{‏فَلاَ يُسْرِف‏}‏ أي القاتل‏.‏ ‏{‏فّى القتل‏}‏ بأن يقتل من لا يستحق قتله، فإن العاقل لا يفعل ما يعود عليه بالهلاك أو الولي بالمثلة، أو قتل غير القاتل ويؤيد الأول قراءة أبي «فلا تسرفوا»‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي «فلا تسرف» على خطاب أحدهما‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا‏}‏ علة النهي على الاستئناف والضمير إما للمقتول فإنه منصور في الدنيا بثبوت القصاص بقتله وفي الآخرة بالثواب، وإما لوليه فإن الله تعالى نصره حيث أوجب القصاص له وأمر الولاة بمعونته، وإما للذي يقتله الولي إسرافاً بإيجاب القصاص أو التعزير والوزر على المسرف‏.‏

‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم‏}‏ فضلاً أن تتصرفوا فيه‏.‏ ‏{‏إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ إلا بالطريقة التي هي أحسن‏.‏ ‏{‏حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ‏}‏ غاية لجواز التصرف الذي دل عليه الاستثناء‏.‏ ‏{‏وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ‏}‏ بما عاهدكم الله من تكاليفه، أو ما عاهدتموه وغيره‏.‏ ‏{‏إِنَّ العهد كَانَ مَّسْئُولاً‏}‏ مطلوباً يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به، أو مسؤولاً عنه يسأل الناكث ويعاتب عليه لم نكثت، أو يسأل العهد تبكيتاً للناكث كما يقال للموءودة ‏{‏بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ‏}‏ فيكون تخييلاً ويجوز أن يراد أن صاحب العهد كان مسؤولاً‏.‏

‏{‏وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ‏}‏ ولا تبخسوا فيه ‏{‏وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم‏}‏ بالميزان السوي، وهو رومي عرب ولا يقدح ذلك في عربية القرآن، لأن العجمي إذا استعملته العرب وأجرته مجرى كلامهم في الإِعراب والتعريف والتنكير ونحوها صار عربياً‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص بكسر القاف هنا وفي «الشعراء»‏.‏ ‏{‏ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏}‏ وأحسن عاقبة تفعيل من آل إذا رجع‏.‏

‏{‏وَلاَ تَقْفُ‏}‏ ولا تتبع وقرئ ‏{‏وَلاَ تَقْفُ‏}‏ من قاف أثره إذا قفاه ومنه القافة‏.‏ ‏{‏مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ ما لم يتعلق به علمك تقليداً أو رجماً بالغيب، واحتج به من منع اتباع الظن وجوابه أن المراد بالعلم هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند، سواء كان قطعاً أو ظناً واستعماله بهذا المعنى سائغ وشائع‏.‏ وقيل إنه مخصوص بالعقائد‏.‏ وقيل بالرمي وشهادة الزور ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام

«من قفا مؤمناً بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج» وقول الكميت‏:‏

وَلاَ أَرْمِي البَرِيء بِغَيْرِ ذَنْب *** وَلاَ أَقْفُو الحَواصِنَ إِنْ قفينا

‏{‏إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك‏}‏ أي كل هذه الأعضاء فأجراها مجرى العقلاء لما كانت مسؤولة عن أحوالها شاهدة على صاحبها، هذا وإن أولاء وإن غلب في العقلاء لكنه من حيث إنه اسم جمع لذا وهو يعم القبيلين جاء لغيرهم كقوله‏:‏

وَالعَيْشُ بَعْدَ أُولَئِكَ الأَيَامِ *** ‏{‏كَانَ عَنْهُ مَّسْئُولاً‏}‏ في ثلاثتها ضمير كل أي كان كل واحد منها مسؤولاً عن نفسه، يعني عما فعل به صاحبه، ويجوز أن يكون الضمير في عنه لمصدر ‏{‏لا تَقْفُ‏}‏ أو لصاحب السمع والبصر‏.‏ وقيل ‏{‏مَسْؤُولاً‏}‏ مسند إلى ‏{‏عَنْهُ‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ‏}‏ والمعنى يسأل صاحبه عنه، وهو خطأ لأن الفاعل وما يقوم مقامه لا يتقدم، وفيه دليل على أن العبد مؤاخذ بعزمه على المعصية‏.‏ وقرئ ‏{‏والفؤاد‏}‏ بقلب الهمزة واواً بعد الضمة ثم إبدالها بالفتح‏.‏

‏{‏وَلاَ تَمْشِ فِى الأرض مَرَحًا‏}‏ أي ذا مرح وهو الاختيال‏.‏ وقرئ ‏{‏مَرَحاً‏}‏ وهو باعتبار الحكم أبلغ وإن كان المصدر آكد من صريح النعت‏.‏ ‏{‏إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض‏}‏ لن تجعل فيها خرقاً بشدة وطأتك‏.‏ ‏{‏وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً‏}‏ بتطاولك وهو تهكم بالمختال، وتعليل للنهي بأن الاختيال حماقة مجردة لا تعود بجدوى ليس في التذلل‏.‏

‏{‏كُلُّ ذلك‏}‏ إشارة إلى الخصال الخمس والعشرين المذكورة‏.‏ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها ءاخَرَ‏}‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ أنها المكتوبة في ألواح موسى عليه السلام‏.‏ ‏{‏كَانَ سَيّئُهُ‏}‏ يعني المنهي عنه فإن المذكورات مأمورات ومناه‏.‏ وقرأ الحجازيان والبصريان ‏{‏سَيّئُهُ‏}‏ على أنها خبر ‏{‏كَانَ‏}‏ والاسم ضمير ‏{‏كُلٌّ‏}‏، و‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما نهى عنه خاصة وعلى هذا قوله‏:‏ ‏{‏عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا‏}‏ بدل من ‏{‏سَيّئُهُ‏}‏ أو صفة لها محمولة على المعنى، فإنه بمعنى سيئاً وقد قرئ به، ويجوز أن ينتصب مكروهاً على الحال من المستكن في ‏{‏كَانَ‏}‏ أو في الظرف على أنه صفة ‏{‏سَيّئُهُ‏}‏، والمراد به المبغوض المقابل للمرضى لا ما يقابل المراد لقيام القاطع على أن الحوادث كلها واقعة بإرادته تعالى‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى الأحكام المتقدمة‏.‏ ‏{‏مِمَّا أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة‏}‏ التي هي معرفة الحق لذاته والخير للعمل به‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ‏}‏ كرره للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه، فإن من لا قصد له بطل عمله ومن قصد يفعله أو تركه غيره ضاع سعيه، وأنه رأس الحكمة وملاكها، ورتب عليه أولاً ما هو عائده الشرك في الدنيا وثانياً ما هو نتيجته في العقبى فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فتلقى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا‏}‏ تلوم نفسك‏.‏ ‏{‏مَّدْحُورًا‏}‏ مبعدًا من رحمة الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏أفأصفاكم رَبُّكُم بالبنين‏}‏ خطاب لمن قالوا الملائكة بنات الله، والهمزة للإنكار والمعنى‏:‏ أفخصكم ربكم بأفضل الأولاد وهم البنون‏.‏ ‏{‏واتخذ مِنَ الملئكة إِنَاثًا‏}‏ بنات لنفسه وهذا خلاف ما عليه عقولكم وعادتكم‏.‏ ‏{‏إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا‏}‏ بإضافة الأولاد إليه، وهي خاصة بعض الأجسام لسرعة زوالها، ثم بتفضيل أنفسكم عليه حيث تجعلون له ما تكرهون ثم يجعل الملائكة الذين هم من أشرف خلق الله أدونهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا ‏(‏41‏)‏ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا‏}‏ كررنا هذا المعنى بوجوه من التقرير‏.‏ ‏{‏فِي هَذَا الْقُرْءَانِ‏}‏ في مواضع منه، ويجوز أن يراد بهذا القرآن إبطال إضافة البنات إليه على تقدير‏:‏ ولقد صرفنا هذا القول في هذا المعنى أو أوقعنا التصريف فيه، وقرئ ‏{‏صَرَفْنَا‏}‏ بالتخفيف‏.‏ ‏{‏لّيَذْكُرُواْ‏}‏ ليتذكروا وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي الفرقان ‏{‏لّيَذْكُرُواْ‏}‏ من الذكر الذي هو بمعنى التذكر‏.‏ ‏{‏وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا‏}‏ عن الحق وقلة طمأنينة إليه‏.‏ ‏{‏قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءالِهَةٌ كَمَا تَقُولُونَ‏}‏ أيها المشركون، وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم بالياء فيه وفيما بعده على أن الكلام مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ووافقهما نافع وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر ويعقوب في الثانية على أن الأولى مما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يخاطب به المشركين، والثانية مما نزه به نفسه عن مقالتهم‏.‏ ‏{‏إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِى العرش سَبِيلاً‏}‏ جواب عن قولهم وجزاء للو والمعنى‏:‏ لطلبوا إلى من هو مالك الملك سبيلاً بالمعازة كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض، أو بالتقرب إليه والطاعة لعلمهم بقدرته وعجزهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏سبحانه‏}‏ ينزه تنزيهاً‏.‏ ‏{‏وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّا‏}‏ تعالياً‏.‏ ‏{‏كَبِيراً‏}‏ متباعداً غاية البعد عما يقولون، فإنه في أعلى مراتب الوجود وهو كونه واجب الوجود والبقاء لذاته، واتخاذ الولد من أدنى مراتبه فإنه من خواص ما يمتنع بقاؤه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏تُسَبّحُ لَهُ السموات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ‏}‏ ينزهه عما هو من لوازم الإِمكان وتوابع الحدوث بلسان الحال حيث تدل بإمكانها وحدوثها على الصانع القديم الواجب لذاته‏.‏ ‏{‏ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ‏}‏ أيها المشركون لإِخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم تسبيحهم، ويجوز أن يحمل التسبيح على المشترك بين اللفظ والدلالة لإسناده إلى ما يتصور منه اللفظ وإلى ما لا يتصور منه وعليهما عند من جوز إطلاق اللفظ على معنييه‏.‏ وقرأ ابن كثير وابن عامر ونافع وأبو بكر «يسبح» بالياء‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا‏}‏ حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وشرككم‏.‏ ‏{‏غَفُوراً‏}‏ لمن تاب منكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَابًا‏}‏ يحجبهم عن فهم ما تقرؤه عليهم‏.‏ ‏{‏مَّسْتُورًا‏}‏ ذا ستر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعْدُهُ مَأْتِيّا‏}‏ وقولهم سيل مفعم، أو مستوراً عن الحس، أو بحجاب آخر لا يفهمون ولا يفهمون أنهم لا يفهمون نفى عنهم أن يفهموا ما أنزل عليهم من الآيات بعدما نفي عنهم التفقه للدلالات المنصوبة في الأنفس والآفاق تقريراً له وبياناً لكونهم مطبوعين على الضلالة كما صرح به بقوله‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً‏}‏ تكنها وتحول دونها عن إدراك الحق وقبوله‏.‏ ‏{‏أَن يَفْقَهُوهُ‏}‏ كراهة أن يفقهوه، ويجوز أن يكون مفعولاً لما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً‏}‏ أي منعناهم أن يفقهوه‏.‏ ‏{‏وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا‏}‏ يمنعهم عن استماعه‏.‏ ولما كان القرآن معجزاً من حيث اللفظ والمعنى أثبت لمنكريه ما يمنع عن فهم المعنى وإدراك اللفظ‏.‏ ‏{‏وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ‏}‏ واحداً غير مشفوع به آلهتهم، مصدر وقع موقع الحال وأصله يحد وحده بمعنى واحداً وحده‏.‏ ‏{‏وَلَّوْاْ على أدبارهم نُفُوراً‏}‏ هرباً من استماع التوحيد ونفرة أو تولية، ويجوز أن يكون جمع نافر كقاعد وقعود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ‏}‏ بسببه ولأجله من الهزء بك وبالقرآن‏.‏ ‏{‏إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ‏}‏ ظرف ل ‏{‏أَعْلَمُ‏}‏ وكذا‏.‏ ‏{‏وَإِذْ هُمْ نجوى‏}‏ أي نحن أعلم بغرضهم من الاستماع حين هم مستمعون إليك مضمرون له وحين هم ذوو نجوى يتناجون به، و‏{‏نجوى‏}‏ مصدر ويحتمل أن يكون جمع نجى‏.‏ ‏{‏إِذْ يَقُولُ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا‏}‏ مقدر باذكر، أو بدل من ‏{‏إِذْ هُمْ نجوى‏}‏ على وضع ‏{‏الظالمون‏}‏ موضع الضمير للدلالة على أن تناجيهم بقولهم هذا من باب الظلم، والمسحور هو الذي سُحِرَ فزال عقله‏.‏ وقيل الذي له سحر وهو الرئة أي إلا رجلاً يتنفس ويأكل ويشرب مثلكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 55‏]‏

‏{‏انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ‏(‏48‏)‏ وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ‏(‏49‏)‏ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ‏(‏50‏)‏ أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ‏(‏51‏)‏ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏52‏)‏ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏53‏)‏ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏54‏)‏ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال‏}‏ مثلوك بالشاعر والساحر والكاهن والمجنون‏.‏ ‏{‏فُضّلُواْ‏}‏ عن الحق في جميع ذلك‏.‏ ‏{‏فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً‏}‏ إلى طعن موجه فيتهافتون ويخبطون كالمتحير في أمره لا يدري ما يصنع أو إلى الرشاد‏.‏ ‏{‏وَقَالُواْ أَءذَا كُنَّا عظاما ورفاتا‏}‏ حطاماً‏.‏ ‏{‏أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً‏}‏ على الإِنكار والاستبعاد لما بين غضاضة الحي ويبوسة الرميم، من المباعدة والمنافاة، والعامل في إذا ما دل عليه مبعوثون لا نفسه لأن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها و‏{‏خَلْقاً‏}‏ مصدر أو حال‏.‏

‏{‏قُلْ‏}‏ جواباً لهم‏.‏ ‏{‏كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً‏}‏‏.‏

‏{‏أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ‏}‏ أي مما يكبر عندكم عن قبول الحياة لكونه أبعد شيء منها، فإن قدرته تعالى لا تقصر عن إحيائكم لاشتراك الأجسام في قبول الأعراض، فكيف إذا كنتم عظاماً مرفوتة وقد كانت غضة موصوفة بالحياة قبل والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد‏.‏ ‏{‏فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الذى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ وَكُنتم تراباً وما هو أبعد منه من الحياة‏.‏ ‏{‏فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ‏}‏ فسيحركونها نحوك تعجباً واستهزاء‏.‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ متى هُوَ قُلْ عسى أَن يَكُونَ قَرِيبًا‏}‏ فإن كل ما هو آت قريب، وانتصابه على الخبر أو الظرف أي يكون في زمان قريب، و‏{‏أَن يَكُونَ‏}‏ اسم ‏{‏عَسَى‏}‏ أو خبره والاسم مضمر‏.‏

‏{‏يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ‏}‏ أي يوم يبعثكم فتنبعثون، استعار لهما الدعاء والاستجابة للتنبيه على سرعتهما وتيسر أمرهما، وأن المقصود منهما الإحضار للمحاسبة والجزاء‏.‏ ‏{‏بِحَمْدِهِ‏}‏ حال منهم أي حامدين الله تعالى على كمال قدرته كما قيل إنهم ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون‏:‏ سبحانك اللهم وبحمدك، أو منقادين لبعثه انقياد الحامدين عليه‏.‏ ‏{‏وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ وتستقصرون مدة لبثكم في القبور كالذي مر على قرية، أو مدة حياتكم لما ترون من الهول‏.‏

‏{‏وَقُل لِّعِبَادِى‏}‏ يعني المؤمنين‏.‏ ‏{‏يَقُولُواْ التى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ الكلمة التي هي أحسن ولا يخاشنوا المشركين‏.‏ ‏{‏إِنَّ الشيطان يَنزِعُ بَيْنَهُمْ‏}‏ يهيج بينهم المراء والشر فلعل المخاشنة بهم تفضي إلى العناد وازدياد الفساد‏.‏ ‏{‏إِنَّ الشيطان كَانَ للإنسان عَدُوّا مُّبِينًا‏}‏ ظاهر العداوة‏.‏

‏{‏رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ‏}‏ تفسير ل ‏{‏التى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ وما بينهما اعتراض أي قولوا لهم هذه الكلمة ونحوها ولا تصرحوا بأنهم من أهل النار، فإنه يهيجهم على الشر مع أن ختام أمرهم غيب لا يعلمه إلا الله‏.‏ ‏{‏وَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ وَكِيلاً‏}‏ موكولاً إليك أمرهم تقسرهم على الإِيمان وإنما أرسلناك مبشراً ونذيراً فدارهم ومر أصحابك بالاحتمال منهم‏.‏ وروي أن المشركين أفرطوا في إيذائهم فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت‏.‏

وقيل شتم عمر رضي الله تعالى عنه رجل منهم فهم به فأمره الله بالعفو‏.‏

‏{‏وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السموات والأرض‏}‏ وبأحوالهم فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء، وهو رد لاستبعاد قريش أن يكون يتيم أبي طالب نبياً، وأن يكون العراة الجوع أصحابه‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ‏}‏ بالفضائل النفسانية والتبري عن العلائق الجسمانية، لا بكثرة الأموال والأتباع حتى داود عليه الصلاة والسلام فإن شرفه بما أوحى إليه من الكتاب لا بما أوتيه من الملك‏.‏ قيل هو إشارة إلى تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله‏:‏ ‏{‏وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً‏}‏ تنبيه على وجه تفضيله وهو أنه خاتم الأنبياء وأمته خير الأمم المدلول عليه بما كتب في الزبور من أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، وتنكيره ها هنا وتعريفه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزبور‏}‏ لأنه في الأصل فعول للمفعول كالحلوب، أو المصدر كالقبول ويؤيده قراءة حمزة بالضم وهو كالعباس أو الفضل، أو لأن المراد وآتينا داود بعض الزبر، أو بعضاً من الزبور فيه ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم‏}‏ أنها آلهة‏.‏ ‏{‏مِن دُونِهِ‏}‏ كالملائكة والمسيح وعزير‏.‏ ‏{‏فَلاَ يَمْلِكُونَ‏}‏ فلا يستطيعون‏.‏ ‏{‏كَشَفَ الضر عَنْكُمْ‏}‏ كالمرض والفقر والقحط‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَحْوِيلاً‏}‏ ولا تحويل ذلك منكم إلى غيركم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة‏}‏ هؤلاء الآلهة يبتغون إلى الله القرابة بالطاعة‏.‏ ‏{‏أَيُّهُمْ أَقْرَبُ‏}‏ بدل من واو ‏{‏يَبْتَغُونَ‏}‏ أي يبتغي من هو أقرب منهم إلى الله الوسيلة فكيف بغير الأقرب‏.‏ ‏{‏وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويخافون عَذَابَهُ‏}‏ كسائر العباد فكيف تزعمون أنهم آلهة‏.‏ ‏{‏إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا‏}‏ حقيقاً بأن يحذره كل أحد حتى الرسل والملائكة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن مّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة‏}‏ بالموت والاستئصال‏.‏ ‏{‏أَوْ مُعَذّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ بالقتل وأنواع البلية‏.‏ ‏{‏كَانَ ذلك فِى الكتاب‏}‏ في اللوح المحفوظ‏.‏ ‏{‏مَسْطُورًا‏}‏ مكتوباً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 64‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ‏(‏59‏)‏ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا ‏(‏60‏)‏ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ‏(‏61‏)‏ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏62‏)‏ قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ‏(‏63‏)‏ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالآيات‏}‏ ما صرفنا عن إرسال الآيات التي اقترحها قريش‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون‏}‏ إلا تكذيب الأولين الذين هم أمثالهم في الطبع كعاد وثمود، وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك، واستوجبوا الاستئصال على ما مضت به سنتنا وقد قضينا أن لا نستأصلهم، لأن منهم من يؤمن أو يلد من يؤمن‏.‏ ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة فقال‏:‏

‏{‏وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ‏}‏ بسؤالهم‏.‏ ‏{‏مُبْصِرَةً‏}‏ بينة ذات أبصار أو بصائر، أو جاعلتهم ذوي بصائر وقرئ بالفتح‏.‏ ‏{‏فَظَلَمُواْ بِهَا‏}‏ فكفروا بها، أو فظلموا أنفسهم بسبب عقرها‏.‏ ‏{‏وَمَا نُرْسِلُ بالآيات‏}‏ أي بالآيات المقترحة‏.‏ ‏{‏إِلاَّ تَخْوِيفًا‏}‏ من نزول العذاب المستأصل، فإن لم يخافوا نزل أو بغير المقترحة كالمعجزات وآيات القرآن إلا تخويفاً بعذاب الآخرة، فإن أمر من بعثت إليهم مؤخر إلى يوم القيامة، والباء مزيدة أو في موقع الحال والمفعول محذوف‏.‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لَكَ‏}‏ واذكر إذ أوحينا إليك‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس‏}‏ فهم في قبضة قدرته، أو أحاط بقريش بمعنى أهلكهم من أحاط بهم العدو، فهي بشارة بوقعة بدر والتعبير بلفظ الماضي لتحقق وقوعه‏.‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التى أريناك‏}‏ ليلة المعراج وتعلق به من قال إنه كان في المنام، ومن قال إنه كان في اليقظة فسر الرؤيا بالرؤية‏.‏ أو عام الحديبية حين رأى أنه دخل مكة‏.‏ وفيه أن الآية مكية إلا أن يقال رآها بمكة وحكاها حينئذ، ولعله رؤيا رآها في وقعة بدر لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً‏}‏ ولما روي ‏"‏ أنه لما ورد ماءه قال لكأني أنظر إلى مصارع القوم هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان، فتسامعت به قريش واستسخروا منه ‏"‏ وقيل رأى قوماً من بني أمية يرقون منبره وينزون عليه نزو القردة فقال‏:‏ «هذا حظهم من الدنيا يعطونه بإسلامهم»، وعلى هذا كان المراد بقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ‏}‏ ما حدث في أيامهم‏.‏ ‏{‏والشجرة الملعونة فِى القرءان‏}‏ عطف على ‏{‏الرءيا‏}‏ وهي شجرة الزقوم، لما سمع المشركون ذكرها قالوا إن محمداً يزعم أن الجحيم تحرق الحجارة ثم يقول ينبت فيها الشجر، ولم يعلموا أن من قدر أن يحمي وبر السَمَنْدَل من أن تأكله النار، وأحشاء النعامة من أذى الجمر وقطع الحديد المحماة الحمر التي تبتلعها، قدر أن يخلق في النار شجرة لا تحرقها‏.‏ ولعنها في القرآن لعن طاعميها وصفت به على المجاز للمبالغة، أو وصفها بأنها في أصل الجحيم فإنه أبعد مكان من الرحمة، أو بأنها مكروهة مؤذية من قولهم طعام ملعون لما كان ضاراً، وقد أولت بالشيطان وأبي جهل والحكم بن أبي العاصي، وقرأت بالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي والشجرة الملعونة في القرآن كذلك‏.‏

‏{‏وَنُخَوّفُهُمْ‏}‏ بأنواع التخويف‏.‏ ‏{‏فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا‏}‏ إلا عتواً متجاوز الحد‏.‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَءسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا‏}‏ لمن خلقته من طين، فنصب بنزع الخافض، ويجوز أن يكون حالاً من الراجع إلى الموصول أي خلقته وهو طين، أو منه أي أأسجد له وأصله طين‏.‏ وفيه على الوجوه الثلاثة إيماء بعلة الإنكار‏.‏

‏{‏قَالَ أَرَءيْتَكَ هذا الذى كَرَّمْتَ عَلَيَّ‏}‏ الكاف لتأكيد الخطاب لا محل له من الإِعراب، وهذا مفعول أول والذي صفته والمفعول الثاني محذوف للدلالة صلته عليه، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته علي بأمري بالسجود له لم كرمته علي‏.‏ ‏{‏لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ كلام مبتدأ واللام موطئة للقسم وجوابه‏:‏ ‏{‏لأَحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً‏}‏ أي لأستأصلنهم بالاغواء إلا قليلاً لا أقدر أن أقاوم شكيمتهم، من أحتنك الجراد الأرض إذا جرد ما عليها أكلاً، مأخوذ من الحنك وإنما علم أن ذلك يتسهل له إما استنباطاً من قول الملائكة ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا‏}‏ مع التقرير، أو تفرساً من خلقه ذا وهم وشهوة وغضب‏.‏

‏{‏قَالَ اذهب‏}‏ امض لما قصدته وهو طرد وتخلية بينه وبين ما سولت له نفسه‏.‏ ‏{‏فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ‏}‏ جزاؤك وجزاؤهم فغلب المخاطب على الغائب، ويجوز أن يكون الخطاب للتابعين على الالتفات‏.‏ ‏{‏جَزَاء مَّوفُورًا‏}‏ مكملاً من قولهم فر لصاحبك عرضه، وانتصاب جزاء على المصدر بإضمار فعله أو بما في ‏{‏جَزَاؤُكُمْ‏}‏ من معنى تجازون، أو حال موطئة لقوله ‏{‏مَّوفُورًا‏}‏‏.‏

‏{‏واستفزز‏}‏ واستخفف‏.‏ ‏{‏مَنِ استطعت مِنْهُمْ‏}‏ أن تستفزه والفز الخفيف‏.‏ ‏{‏بِصَوْتِكَ‏}‏ بدعائك إلى الفساد‏.‏ ‏{‏وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم‏}‏ وصح عليهم من الجلبة وهي الصياح‏.‏ ‏{‏بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ‏}‏ بأعوانك من راكب وراجل، والخيل الخيالة ومنه قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ يا خيل الله اركبي ‏"‏ والرجل اسم جمع للراجل كالصحب والركب، ويجوز أن يكون تمثيلاً لتسلطه على من يغويه بمغوار صوت على قوم فاستفزهم من أماكنهم وأجلب عليهم بجنده حتى استأصلهم‏.‏ وقرأ حفص ‏{‏وَرَجِلِكَ‏}‏ بالكسر وغيره بالضم وهما لغتان كندس وندس ومعناه‏:‏ وجمعك الرجل‏.‏ وقرئ و«رجالك» و«رجالك»‏.‏ ‏{‏وَشَارِكْهُمْ فِى الأموال‏}‏ بحملهم على كسبها وجمعها من الحرام والتصرف فيها على ما لا ينبغي‏.‏ ‏{‏والأولاد‏}‏ بالحث على التوصل إلى الولد بالسبب المحرم، والإِشراك فيه بتسميته عبد العزى، والتضليل بالحمل على الأديان الزائغة والحرف الذميمة والأفعال القبيحة‏.‏ ‏{‏وَعِدْهُمْ‏}‏ المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة والاتكال على كرامة الآباء وتأخير التوبة لطول الأمل‏.‏ ‏{‏وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً‏}‏ اعتراض لبيان مواعيده الباطلة، والغرور تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ عِبَادِى‏}‏ يعني المخلصين، وتعظيم الإِضافة والتقييد في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين‏}‏ يخصصهم ‏{‏لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان‏}‏ أي على إغوائهم قدرة‏.‏ ‏{‏وكفى بِرَبّكَ وَكِيلاً‏}‏ يتوكلون عليه في الاستعاذة منك على الحقيقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏رَّبُّكُمُ الذى يُزْجِى‏}‏ هو الذي يجري‏.‏ ‏{‏لَكُمُ الفلك فِى البحر لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ‏}‏ الريح وأنواع الأمتعة التي لا تكون عندكم‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا‏}‏ حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه وسهل عليكم ما تعسر من أسبابه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِى البحر‏}‏ خوف الغرق‏.‏ ‏{‏ضَلَّ مَن تَدْعُونَ‏}‏ ذهب عن خواطركم كل من تدعونه في حوادثكم‏.‏ ‏{‏إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ وحده فإنكم حينئذ لا يخطر ببالكم سواه فلا تدعون لكشفه إلا إياه، أو ضل كل من تعبدونه عن إغاثتكم إلا الله‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا نجاكم‏}‏ من الغرق‏.‏ ‏{‏إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ‏}‏ عن التوحيد‏.‏ وقيل اتسعتم في كفران النعمة كقول ذي الرمة‏:‏

عَطَاء فَتَى تَمَكَّنَ فِي المَعَالي *** فَأَعْرَضَ فِي المَكَارِمِ وَاسْتَطَالاَ

‏{‏وَكَانَ الإنسان كَفُورًا‏}‏ كالتعليل للإعراض‏.‏