فصل: تفسير الآية رقم (35)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏وَقُلْنَا يَاءادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة‏}‏ السكنى من السكون لأنها استقرار ولبث، و‏{‏أَنتَ‏}‏ تأكيد أكد به المستكن ليصح العطف عليه، وإنما لم يخاطبهما أولاً تنبيهاً على أنه المقصود بالحكم والمعطوف عليه تبع له‏.‏ والجنة دار الثواب، لأن اللام للعهد ولا معهود غيرها‏.‏ ومن زعم أنها لم تخلق بعد قال إنه بستان كان بأرض فلسطين، أو بين فارس وكرمان خلقه الله تعالى امتحاناً لآدم، وحمل الإهباط على الانتقال منه إلى أرض الهند كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهبطوا مِصْرًا‏}‏ ‏{‏وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا‏}‏ واسعاً رافهاً، صفة مصدر محذوف‏.‏

‏{‏حَيْثُ شِئْتُمَا‏}‏ أي مكان من الجنة شئتما، وسع الأمر عليهما إزاحة للعملة، والعذر في التناول من الشجرة المنهي عنها من بين أشجارها الفائتة للحصر‏.‏

‏{‏وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين‏}‏ فيه مبالغات، تعليق النهي بالقرب الذي هو من مقدمات التناول مبالغة في تحريمه، ووجوب الاجتناب عنه، وتنبيهاً على أن القرب من الشيء يورث داعية، وميلاً يأخذ بمجامع القلب ويلهيه عما هو مقتضى العقل والشرع، كما روي «حبك الشيء يعمي ويصم» فينبغي أن لا يحوما حول ما حرم الله عليهما مخافة أن يقعا فيه، وجعله سبباً لأن يكونا من الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي، أو بنقص حظهما بالإتيان بما يخل بالكرامة والنعيم، فإن الفاء تفيد السببية سواء جعلت للعطف على النهي أو الجواب له‏.‏ والشجرة هي الحنطة، أو الكرمة، أو التينة، أو شجرة من أكل منها أحدث، والأولى أن لا تعين من غير قاطع كما لم تعين في الآية لعدم توقف ما هو المقصود عليه‏.‏ وقرئ بكسر الشين، وتقرباً بكسر التاء وهذي بالياء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا‏}‏ أصدر زلتهما عن الشجرة وحملهما على الزلة بسببها، ونظير «عن» هذه في قوله تعالى ‏{‏وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى‏}‏ أو أزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما، ويعضده قراءة حمزة فأزلهما وهما متقاربان في المعنى، غير أن أزل يقتضي عثرة مع الزوال، وإزلاله قوله‏:‏ ‏{‏هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَا نهاكما رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين‏}‏ ومقاسمته إياها بقوله‏:‏ ‏{‏إِنّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين‏}‏ واختلف في أنه تمثل لهما فقاولهما بذلك، أو ألقاه إليهما على طريق الوسوسة، وأنه كيف توصل إلى إزلالهما بعدما قيل له‏:‏ ‏{‏أَخْرَجَ مِنْهَا * فَإِنَّكَ رَجِيمٌ‏}‏ فقيل‏:‏ إنه منع من الدخول على جهة التكرمة كما كان يدخل مع الملائكة، ولم يمنع أن يدخل للوسوسة ابتلاء لآدم وحواء‏.‏ وقيل‏:‏ قام عند الباب فناداهما‏.‏ وقيل‏:‏ تمثل بصورة دابة فدخل ولم تعرفه الخزنة‏.‏ وقيل‏:‏ دخل في فم الحية حتى دخلت به‏.‏ وقيل‏:‏ أرسل بعض أتباعه فأزلهما، والعلم عند الله سبحانه وتعالى‏.‏

‏{‏فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ‏}‏ أي من الكرامة والنعيم‏.‏

‏{‏وَقُلْنَا اهبطوا‏}‏ خطاب لآدم عليه الصلاة والسلام وحواء لقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً‏}‏ وجمع الضمير لأنهما أصلا الجنس فكأنهما الإنس كلهم‏.‏ أو هما وإبليس أخرج منها ثانياً بعدما كان يدخلها للوسوسة، أو دخلها مسارقة أو من السماء‏.‏

‏{‏بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ‏}‏ حال استغني فيها عن الواو بالضمير، والمعنى متعادين يبغي بعضكم على بعض بتضليله‏.‏

‏{‏وَلَكُمْ فِى الأرض مُسْتَقَرٌّ‏}‏ موضع استقرار، أو استقرارٍ‏.‏

‏{‏ومتاع‏}‏ تمتع‏.‏ ‏{‏إلى حِينٍ‏}‏ يريد به وقت الموت أو القيامة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ‏}‏ استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها حين علمها‏.‏ وقرأ ابن كثير بنصب ‏{‏ءادَمَ‏}‏ ورفع الكلمات على أنها استقبلته وبلغته وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا‏}‏ الآية، وقيل‏:‏ سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ يا رب ألم تخلقني بيدك، قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ يا رب ألم تنفخ في الروح من روحك، قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك، قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ ألم تسكني جنتك، قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ يا رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة قال‏:‏ نعم‏.‏ وأصل الكلمة‏:‏ الكلم، وهو التأثير المدرك بإحدى الحاستين السمع والبصر كالكلام والجراحة والحركة‏.‏

‏{‏فَتَابَ عَلَيْهِ‏}‏ رجع عليه بالرحمة وقبول التوبة، وإنما رتبه بالفاء على تلقي الكلمات لتضمنه معنى التوبة‏:‏ وهو الإعتراف بالذنب والندم عليه والعزم على أن لا يعود إليه‏.‏ وأكتفي بذكر آدم لأن حواء كانت تبعاً له في الحكم ولذلك طوي ذكر النساء في أكثر القرآن والسنن‏.‏

‏{‏إِنَّهُ هُوَ التواب‏}‏ الرجاع على عباده بالمغفرة، أو الذي يكثر إعانتهم على التوبة، وأصل التوبة‏:‏ الرجوع، فإذا وصف بها العبد كان رجوعاً عن المعصية، وإذا وصف بها الباري تعالى أريد بها الرجوع عن العقوبة إلى المغفرة‏.‏

‏{‏الرحيم‏}‏ المبالغ في الرحمة، وفي الجمع بين الوصفين، وعد للتائب بالإحسان مع العفو‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا‏}‏ كرر للتأكيد، أو لاختلاف المقصود فإن الأول دل على أن هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها ولا يخلدون، والثاني أشعر بأنهم أهبطوا للتكليف، فمن اهتدى الهدى نجا ومن ضله هلك، والتنبيه على أن مخافة الإهباط المقترن بأحد هذين الأمرين وحدها كافية للحازم أن تعوقه عن مخالفة حكم الله سبحانه وتعالى، فكيف بالمقترن بهما، ولكنه نسي ولم نجد له عزماً، وأن كل واحد منهما كفى به نكالاً لمن أراد أن يذكر‏.‏ وقيل الأول من الجنة إلى السماء الدنيا، والثاني منها إلى الأرض وهو كما ترى‏.‏ و‏{‏جَمِيعاً‏}‏ حال في اللفظ تأكيد في المعنى كأنه قيل‏:‏ اهبطوا أنتم أجمعون، ولذلك لا يستدعي اجتماعهم على الهبوط في زمان واحد كقولك‏:‏ جاؤوا جميعاً ‏{‏فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ الشرط الثاني مع جوابه جواب الشرط الأول، وما مزيدة أكدت به إن ولذلك حسن تأكيد الفعل بالنون وإن لم يكن فيه معنى الطلب، والمعنى‏:‏ إن يأتينكم مني هدى بإنزال أو إرسال، فمن تبعه منكم نجا وفاز، وإنما جيء بحرف الشك، وإتيان الهدى كائن لا محالة لأنه محتمل في نفسه غير واجب عقلاً، وكرر لفظ الهدى ولم يضمر لأنه أراد بالثاني أعم من الأول، وهو ما أتى به الرسل واقتضاه العقل، أي‏:‏ فمن تبع ما أتاه مراعياً فيه ما يشهد به العقل فلا خوف عليهم فضلاً عن أن يحل بهم مكروه، ولا هم يفوت عنهم محبوب فيحزنوا عليه، فالخوف على المتوقع والحزن على الواقع نفى عنهم العقاب وأثبت لهم الثواب على آكد وجه وأبلغه‏.‏ وقرئ هدى على لغة هذيل ولا خوف بالفتح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ عطف على ‏{‏فَمَن تَبِعَ‏}‏ إلى آخره قسيم له كأنه قال‏:‏ ومن لم يتبع بل كفروا بالله، وكذبوا بآياته، أو كفروا بالآيات جناناً، وكذبوا بها لساناً فيكون الفعلان متوجهين إلى الجار والمجرور‏.‏ والآية في الاصل العلامة الظاهرة، ويقال للمصنوعات من حيث إنها تدل على وجود الصانع وعلمه وقدرته، ولكل طائفة من كلمات القرآن المتميزة عن غيرها بفصل، واشتقاقها من آي لأنها تبين آياً من أي أو من أوى إليه، وأصلها أأية أو أوية كتمرة، فأبدلت عينها ألفاً على غير قياس‏.‏ أو أيية‏.‏ أو أوية كرمكة فأعلت‏.‏ أو آئية كقائلة فحذفت الهمزة تخفيفاً‏.‏ والمراد ‏{‏بئاياتنا‏}‏ الآيات المنزلة، أو ما يعمها والمعقولة‏.‏ وقد تمسكت الحشوية بهذه القصة على عدم عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من وجوه‏:‏

الأول‏:‏ أن آدم صلوات الله عليه كان نبياً، وارتكب المنهي عنه والمرتكب له عاص‏.‏

والثاني‏:‏ أنه جعل بارتكابه من الظالمين والظالم ملعون لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين‏}‏ والثالث‏:‏ أنه تعالى أسند إليه العصيان، فقال ‏{‏وعصى ءادَمَ رَبَّهُ فغوى‏}‏ والرابع‏:‏ أنه تعالى لقنه التوبة، وهي الرجوع عن الذنب والندم عليه‏.‏

والخامس‏:‏ اعترافه بأنه خاسر لولا مغفرة الله تعالى إياه بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين‏}‏ والخاسر من يكون ذا كبيرة‏.‏

والسادس‏:‏ أنه لو لم يذنب لم يجر عليه ما جرى‏.‏ والجواب من وجوه‏.‏

الأول‏:‏ أنه لم يكن نبياً حينئذ، والمدعي مطالب بالبيان‏.‏

والثاني‏:‏ أن النهي للتنزيه، وإنما سمي ظالماً وخاسراً لأنه ظلم نفسه وخسر حظه بترك الأولى له‏.‏ وأما إسناد الغي والعصيان إليه، فسيأتي الجواب عنه في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏ وإنما أمر بالتوبة تلافياً لما فات عنه، وجرى عليه ما جرى معاتبة له على ترك الأولى، ووفاء بما قاله للملائكة قبل خلقه‏.‏

والثالث‏:‏ أنه فعله ناسياً لقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً‏}‏ ولكنه عوتب بترك التحفظ عن أسباب النسيان، ولعله وإن حط عن الأمة لم يحط عن الأنبياء لعظم قدرهم كما قال عليه الصلاة والسلام «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل»‏.‏ أو أدى فعله إلى ما جرى عليه على طريق السببية المقدرة دون المؤاخذة على تناوله، كتناول السم على الجاهل بشأنه‏.‏ لا يقال إنه باطل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا نهاكما رَبُّكُمَا‏}‏ و‏{‏قاسمهما‏}‏ الآيتين، لأنه ليس فيهما ما يدل على أن تناوله حين ما قال له إبليس، فلعل مقاله أورث فيه ميلاً طبيعياً، ثم إنه كف نفسه عنه مراعاة لحكم الله تعالى إلى أن نسي ذلك، وزال المانع فحمله الطبع عليه‏.‏

والرابع‏:‏ أنه عليه السلام أقدم عليه بسبب اجتهاد أخطأ فيه، فإنه ظن أن النهي للتنزيه، أو الإشارة إلى عين تلك الشجرة فتتناول من غيرها من نوعها وكان المراد بها الإشارة إلى النوع، كما روي أنه عليه الصلاة والسلام «أخذ حريراً وذهباً بيده وقال‏:‏

«هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها» وإنما جرى عليه ما جرى تعظيماً لشأن الخطيئة ليجتنبها أولاده‏.‏ وفيها دلالة على أن الجنة مخلوقة وأنها في جهة عالية، وأن التوبة مقبولة، وأن متبع الهدى مأمون العاقبة، وأن عذاب النار دائم، وأن الكافر فيه مخلد، وأن غيره لا يخلد فيه بمفهوم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏‏.‏

واعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، وعقبها تعداد النعم العامة تقريراً لها وتأكيداً، فإنها من حيث إنها حوادث محكمة تدل على محدث حكيم له الخلق والأمر وحده لا شريك له، ومن حيث إن الإخبار بها على ما هو مثبت في الكتب السابقة ممن لم يتعلمها، ولم يمارس شيئاً منها إخبار بالغيب معجز يدل على نبوة المخبر عنها، ومن حيث اشتمالها على خلق الإنسان وأصوله وما هو أعظم من ذلك، تدل على أنه قادر على الإعادة كما كان قادراً على الإبداء، خاطب أهل العلم والكتاب منهم، وأمرهم أن يذكروا نعم الله تعالى عليهم، ويوفوا بعهده في اتباع الحق واقتفاء الحجج ليكونوا أول من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه فقال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏يَا بَنِى إسراءيل‏}‏ أي أولاد يعقوب، والابن من البناء لأنه مبني أبيه، ولذلك ينسب المصنوع إلى صانعه فيقال‏:‏ أبو الحرب، وبنت الفكر‏.‏ وإسرائيل لقب يعقوب عليه السلام ومعناه بالعبرية‏:‏ صفوة الله، وقيل‏:‏ عبد الله، وقرئ ‏{‏إسرائل‏}‏ بحذف الياء وإسرال بحذفهما و‏{‏إسراييل‏}‏ بقلب الهمزة ياء‏.‏

‏{‏اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي بالتفكر فيها والقيام بشكرها، وتقييد النعمة بهم لأن الإنسان غيور حسود بالطبع، فإذا نظر إلى ما أنعم الله على غيره حمله الغيرة والحسد على الكفران والسخط، وإن نظر إلى ما أنعم الله به عليه حمله حب النعمة على الرضى والشكر‏.‏ وقيل أراد بها ما أنعم الله به على آبائهم من الإنجاء من فرعون والغرق، ومن العفو عن اتخاذ العجل، وعليهم من إدراك زمن محمد صلى الله عليه وسلم وقرئ ‏{‏اذكروا‏}‏ والأصل إذتكروا‏.‏ ونعمتي بإسكان الياء وقفاً وإسقاطها درجاً هو مذهب من لا يحرك الياء المكسور ما قبلها‏.‏

‏{‏وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي‏}‏ بالإيمان والطاعة‏.‏

‏{‏أُوفِ بِعَهْدِكُمْ‏}‏ بحسن الإثابة والعهد يضاف إلى المعاهِد والمعاهَد، ولعل الأول مضاف إلى الفاعل والثاني إلى المفعول، فإنه تعالى عهد إليهم بالإيمان والعمل الصالح بنصب الدلائل وإنزال الكتب، ووعد لهم بالثواب على حسناتهم، وللوفاء بهما عرض عريض فأول مراتب الوفاء منا هو الإتيان بكلمتي الشهادة، ومن الله تعالى حقن الدم والمال، وآخرها منا الاستغراق في بحر التوحيد بحيث يغفل عن نفسه فضلاً عن غيره، ومن الله تعالى الفوز باللقاء الدائم‏.‏ وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ أوفوا بعهدي في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، أوف بعهدكم في رفع الآصار والإغلال‏.‏ وعن غيره أوفوا بأداء الفرائض وترك الكبائر أوف بالمغفرة والثواب‏.‏ أو أوفوا بالاستقامة على الطريق المستقيم، أوف بالكرامة والنعيم المقيم، فبالنظر إلى الوسائط‏.‏ وقيل كلاهما مضاف إلى المفعول والمعنى‏:‏ أوفوا بما عاهدتموني من الإيمان والتزام الطاعة، أوف بما عاهدتكم من حسن الإثابة‏.‏ وتفصيل العهدين في سورة المائدة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِى إسراءيل‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار‏}‏ وقرئ أوفِّ بالتشديد للمبالغة‏.‏

‏{‏وإياي فارهبون‏}‏ فيما تأتون وتذرون وخصوصاً في نقض العهد، وهو آكد في إفادة التخصيص من إياك نعبد لما فيه مع التقديم من تكرير المفعول، والفاء الجزائية الدالة على تضمن الكلام معنى الشرط كأنه قيل‏:‏ إن كنتم راهبين شيئاً فارهبون‏.‏ والرهبة‏:‏ خوف مع تحرز‏.‏ والآية متضمنة للوعد والوعيد دالة على وجوب الشكر والوفاء بالعهد، وأن المؤمن ينبغي أن لا يخاف أحداً إلا الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ‏}‏ إفراد للإيمان بالأمر به والحث عليه لأنه المقصود والعمدة للوفاء بالعهود، وتقييد المنزل بأنه مصدق لما معهم من الكتب الإلهية من حيث إنه نازل حسبما نعت فيها، أو مطابق لها في القصص والمواعيد والدعاء إلى التوحيد والأمر بالعبادة والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش، وفيما يخالفها من جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأعصار في المصالح من حيث إن كل واحدة منها حق بالإضافة إلى زمانها، مراعى فيها صلاح من خوطب بها، حتى لو نزل المتقدم في أيام المتأخر لنزل على وفقه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي»، تنبيه على أن اتباعها لا ينافي الإيمان به، بل يوجبه ولذلك عرض بقوله‏:‏

‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ‏}‏ بأن الواجب أن يكونوا أول من آمن به، ولأنهم كانوا أهل النظر في معجزاته والعلم بشأنه والمستفتحين به والمبشرين بزمانه‏.‏ و‏{‏أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ‏}‏ وقع خبراً عن ضمير الجمع بتقدير‏:‏ أول فريق أو فوج، أو بتأويل لا يكن كل واحد منكم أول كافر به، كقولك‏:‏ كسانا حلة فإن قيل كيف نهوا عن التقدم في الكفر وقد سبقهم مشركو العرب‏؟‏ قلت المراد به التعريض لا الدلالة على ما نطق به الظاهر، كقولك‏:‏ أما أنا فلست بجاهل، أو لا تكونوا أول كافر به‏.‏ من أهل الكتاب، أو ممن كفر بما معه فإن من كفر بالقرآن فقد كفر بما يصدقه، أو مثل من كفر من مشركي مكة‏.‏ و‏{‏أَوَّلُ‏}‏‏:‏ أفعل لا فعل له، وقيل‏:‏ أصله أو أل من وأل، فأبدلت همزته واواً تخفيفاً غير قياسي أو أأول من آل فقُلِبت همزته واواً وأدغمت‏.‏

‏{‏وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي ثَمَنًا قَلِيلاً‏}‏ ولا تستبدلوا بالإيمان بها والاتباع لها حظوظ الدنيا، فإنها وإن جلت قليلة مسترذلة بالإضافة إلى ما يفوت عنكم من حظوظ الآخرة بترك الإيمان‏.‏ قيل‏:‏ كان لهم رياسة في قومهم ورسوم وهدايا منهم، فخافوا عليها لو اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختاروها عليه‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يأخذون الرشى فيحرفون الحق ويكتمونه‏.‏

‏{‏وإياى فاتقون‏}‏ بالإيمان واتباع الحق والإعراض عن الدنيا‏.‏ ولما كانت الآية السابقة مشتملة على ما هو كالمبادي لما في الآية الثانية، فصلت بالرهبة التي هي مقدمة التقوى، ولأن الخطاب بها عم العالم والمقلد‏.‏ أمرهم بالرهبة التي هي مبدأ السلوك، والخطاب بالثانية لما خص أهل العلم، أمرهم بالتقوى التي هي منتهاه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل‏}‏ عطف على ما قبله‏.‏ واللبس الخلط وقد يلزمه جعل الشيء مشتبهاً بغيره، والمعنى لا تخلطوا الحق المنزل عليكم بالباطل الذي تخترعونه وتكتمونه حتى لا يميز بينهما، أو ولا تجعلوا الحق ملتبساً بسبب خلط الباطل الذي تكتبونه في خلاله، أو تذكرونه في تأويله‏.‏

‏{‏وَتَكْتُمُواْ الحق‏}‏ جزم داخل تحت حكم النهي كأنهم أمروا بالإيمان وترك الضلال، ونهوا عن الإضلال بالتلبيس على من سمع الحق والإخفاء على من لم يسمعه، أو نصب بإضمار أن على أن الواو للجمع بمعنى مع، أي لا تجمعوا لبس الحق بالباطل وكتمانه، ويعضده أنه في مصحف ابن مسعود «وتكتمون» أي وأنتم تكتمون بمعنى كاتمين، وفيه إشعار بأن استقباح اللبس لما يصحبه من كتمان الحق‏.‏

‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ عالمين بأنكم لابسون كاتمون فإنه أقبح إذ الجاهل قد يعذر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلاَة وَآتُوا الزَّكَاة‏}‏ يعني صلاة المسلمين وزكاتهم فإن غيرهما كلا صلاة ولا زكاة‏.‏ أمرهم بفروع الإسلام بعد ما أمرهم بأصوله، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بها‏.‏ و‏{‏الزكواة‏}‏ من زكا الزرع، إذا نما، فإن إخراجها يستجلب بركة في المال ويثمر للنفس فضيلة الكرم‏.‏ أو من الزكاة بمعنى‏:‏ الطهارة، فإنها تطهر المال من الخبث والنفس من البخل‏.‏

‏{‏واركعوا مَعَ الراكعين‏}‏ أي في جماعتهم، فإن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة لما فيها من تظاهر النفوس، وعبر عن الصلاة بالركوع احترازاً عن صلاة اليهود‏.‏ وقيل الركوع‏:‏ الخضوع والانقياد لما يلزمهم الشارع، قال الأضبط السعدي‏:‏

لا تذلَّ الضَّعِيفَ عَلَّكَ أَنْ تَرْ *** كَعَ يَوْماً والدهْرُ قَدْ رَفَعهْ

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر‏}‏ تقرير مع توبيخ وتعجيب‏.‏ والبر‏:‏ التوسع في الخير، من البر وهو الفضاء الواسع يتناول كل خير، ولذلك قيل ثلاثة‏:‏ بر في عبادة الله تعالى، وبر في مراعاة الأقارب‏.‏ وبر في معاملة الأجانب‏.‏

‏{‏وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ‏}‏ وتتركونها من البر كالمنسيات، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في أحبار المدينة، كانوا يأمرون سراً من نصحوه باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولا يتبعونه‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون ‏{‏وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكتاب‏}‏ تبكيت كقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي تتلون التوراة، وفيها الوعيد على العناد وترك البر ومخالفة القول العمل‏.‏

‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ قبح صنيعكم فيصدكم عنه، أو أفلا عقل لكم يمنعكم عما تعلمون وخامة عاقبته‏.‏ والعقل في الأصل الحبس، سمي به الإدراك الإنساني لأنه يحبسه عما يقبح، ويعقله على ما يحسن، ثم القوة التي بها النفس تدرك هذا الإدراك‏.‏ والآية ناعية على من يعظ غيره ولا يتعظ بنفسه سوء صنيعه وخبث نفسه، وأن فعله فعل الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل، فإن الجامع بينهما تأبى عنه شكيمته، والمراد بها حث الواعظ على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل لتقوم فيقيم غيره، لا منع الفاسق عن الوعظ فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏ متصل بما قبله، كأنهم لما أمروا بما يشق عليهم لما فيه من الكلفة وترك الرياسة والإعراض عن المال عولجوا بذلك، والمعنى استعينوا على حوائجكم بانتظار النجح والفرج توكلاً على الله، أو بالصوم الذي هو صبر عن المفطرات لما فيه من كسر الشهوة، وتصفية النفس‏.‏ والتوسل بالصلاة والالتجاء إليها، فإنها جامعة لأنواع العبادات النفسانية والبدنية، من الطهارة وستر العورة وصرف المال فيهما، والتوجه إلى الكعبة والعكوف للعبادة، وإظهار الخشوع بالجوارح، وإخلاص النية بالقلب، ومجاهدة الشيطان، ومناجاة الحق، وقراءة القرآن، والتكلم بالشهادتين وكف النفس عن الأطيبين حتى تجابوا إلى تحصيل المآرب وجبر المصائب، روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة‏.‏ ويجوز أن يراد بها الدعاء‏:‏

‏{‏وَإِنَّهَا‏}‏‏:‏ أي وإن الاستعانة بهما أو الصلاة وتخصيصها برد الضمير إليها، لعظم شأنها واستجماعها ضروباً من الصبر‏.‏ أو جملة ما أمروا بها ونهوا عنها‏.‏

‏{‏لَكَبِيرَةٌ‏}‏ لثقيلة شاقة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ‏}‏ ‏{‏إِلاَّ عَلَى الخاشعين‏}‏ أي المخبتين، والخشوع الإخبات ومنه الخشعة للرملة المتطامنة‏.‏ والخضوع اللين والانقياد، ولذلك يقال الخشوع بالجوارح والخضوع بالقلب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجعون‏}‏ أي يتوقعون لقاء الله تعالى ونيل ما عنده، أو يتيقنون أنهم يحشرون إلى الله فيجازيهم، ويؤيده أن في مصحف ابن مسعود «يعلمون» وكأن الظن لما شابه العلم في الرجحان أطلق عليه لتضمن معنى التوقع، قال أوس بن حجر‏:‏

فأرْسَلتُهُ مُستَيْقِنَ الظلِّ أنَّه *** مُخالِطُ ما بينَ الشَّراسِيفِ جائِفُ

وإنما لم تثقل عليهم ثقلها على غيرهم فإن نفوسهم مرتاضة بأمثالها، متوقعة في مقابلتها ما يستحقر لأجله مشاقها ويستلذ بسببه متاعبها، ومن ثمة قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ وجعلت قرة عيني في الصلاة ‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ‏}‏ كرره للتأكيد وتذكير التفضيل الذي هو أجل النعم خصوصاً، وربطه بالوعيد الشديد تخويفاً لمن غفل عنها وأخل بحقوقها‏.‏

‏{‏وَأَنّي فَضَّلْتُكُمْ‏}‏ عطف على نعمتي‏.‏

‏{‏عَلَى العالمين‏}‏ أي عالمي زمانهم، يريد به تفضيل آبائهم الذين كانوا في عصر موسى عليه الصلاة والسلام وبعده، قبل ان يضروا بما منحهم الله تعالى من العلم والإيمان والعمل الصالح، وجعلهم أنبياء وملوكاً مقسطين‏.‏ واستدل به على تفضيل البشر على المَلَك وهو ضعيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏واتقوا يَوْمًا‏}‏ أي ما فيه من الحساب والعذاب‏.‏

‏{‏لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا‏}‏ لا تقضي عنها شيئاً من الحقوق، أو شيئاً من الجزاء فيكون نصبه على المصدر، وقرئ لا ‏{‏تجزئ‏}‏ من أجزأ عنه إذا أغنى وعلى هذا تعين أن يكون مصدراً، وإيراده منكراً مع تنكير النفسين للتعميم والإقناط الكلي والجملة صفة ليوماً، والعائد فيها محذوف تقديره لا تجزي فيه، ومن لم يجوز حذف العائد المجرور قال اتسع‏:‏ فيه فحذف عنه الجار وأجري مجرى المفعول به ثم حذف كما حذف من قوله‏:‏ أم مال أصابوا‏.‏

‏{‏وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شفاعة وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ‏}‏ أي من النفس الثانية العاصية، أو من الأولى، وكأنه أريد بالآية نفي أن يدفع العذاب أحد عن أحد من كل وجه محتمل، فإنه إما أن يكون قهراً أو غيره، والأول النصرة، والثاني إما أن يكون مجاناً أو غيره‏.‏ والأول أن يشفع له والثاني إما بأداء ما كان عليه وهو أن يجزي عنه، أو بغيره وهو أن يعطى عنه عدلاً‏.‏ والشفاعة من الشفع كأن المشفوع له كان فرداً فجعله الشفيع شفعاً بضم نفسه إليه، والعدل الفدية‏.‏ وقيل‏:‏ البدل وأصله التسوية سمي به الفدية لأنها سميت بالمفدى، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ولا تقبل بالتاء‏.‏

‏{‏وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ‏}‏ يمنعون من عذاب الله، والضمير لما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفس من النفوس الكثيرة، وتذكيره بمعنى العباد‏.‏ أو الأناسي والنصر أخص من المعونة لاختصاصه بدفع الضر‏.‏ وقد تمسكت المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر، وأجيب بأنها مخصوصة بالكفار للآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة، ويؤيده أن الخطاب معهم، والآية نزلت رداً لما كانت اليهود تزعم أن آباءهم تشفع لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ نجيناكم مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ‏}‏ تفصيل لما أجمله في قوله‏:‏ ‏{‏اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ‏}‏ وعطف على ‏{‏نِعْمَتِيَ‏}‏ عطف ‏{‏جبريل‏}‏ و‏{‏ميكائيل‏}‏ على ‏{‏الملائكة‏}‏، وقرئ «أنجيتكم»‏.‏ وأصل ‏{‏ءالَ‏}‏ أهل لأن تصغيره أهيل، وخص بالإضافة إلى أولي الخطر كالأنبياء والملوك‏.‏ و‏{‏فِرْعَوْنُ‏}‏ لقب لمن ملك العمالقة ككسرى وقيصر لملكي الفرس والروم‏.‏ ولعتوهم اشتق منه تفرعن الرجل إذا عتا وتجبر، وكان فرعون موسى، مصعب بن ريان، وقيل ابنه وليد من بقايا عاد‏.‏ وفرعون يوسف عليه السلام، ريان وكان بينهما أكثر من أربعمائة سنة‏.‏

‏{‏يَسُومُونَكُمْ‏}‏ يبغونكم، من سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً، وأصل السوم الذهاب في طلب الشيء‏.‏

‏{‏سُوء العذاب‏}‏ أفظعه فإنه قبيح بالإضافة إلى سائره، والسوء مصدر ساء يسوء ونصبه على المفعول ليسومونكم، والجملة حال من الضمير في نجيناكم، أو من ‏{‏آل فِرْعَوْنَ‏}‏، أو منهما جميعاً لأن فيها ضمير كل واحد منهما‏.‏

‏{‏يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ‏}‏ بيان ليسومونكم ولذلك لم يعطف، وقرئ ‏{‏يَذْبَحُونَ‏}‏ بالتخفيف‏.‏ وإنما فعلوا بهم ذلك لأن فرعون رأى في المنام، أو قال له الكهنة‏:‏ سيولد منهم من يذهب بملكه، فلم يرد اجتهادهم من قدر الله شيئاً‏.‏

‏{‏وَفِي ذلكم بَلاء‏}‏ محنة، إن أشير بذلكم إلى صنيعهم، ونعمة إن أشير به إلى الإنجاء، وأصله الاختبار لكن لما كان اختبار الله تعالى عباده تارة بالمحنة وتارة بالمنحة أطلق عليهما، ويجوز أن يشار بذلكم إلى الجملة ويراد به الامتحان الشائع بينهما‏.‏

‏{‏مّن رَّبّكُمْ‏}‏ بتسليطهم عليكم، أو ببعث موسى عليه السلام وتوفيقه لتخليصكم، أو بهما‏.‏ ‏{‏عظِيمٌ‏}‏ صفة بلاء‏.‏ وفي الآية تنبيه على أن ما يصيب العبد من خير أو شر إختبار من الله تعالى، فعليه أن يشكر على مساره ويصبر على مضاره ليكون من خير المختبرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر‏}‏ فلقناه وفصلنا بين بعضه وبعض حتى حصلت فيه مسالك بسلوككم فيه‏.‏ أو بسبب إنجائكم، أو ملتبساً بكم كقوله‏:‏

تَدُوسُ بِنَا الجَماجِم والتَّرِيبا *** وقرئ ‏{‏فَرَقْنَا‏}‏ على بناء التكثير لأن المسالك كانت اثني عشر بعدد الأسباط‏.‏

‏{‏فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ‏}‏ أراد به فرعون وقومه، واقتصر على ذكرهم للعلم بأنه كان أولى به، وقيل شخصه كما روي أن الحسن رضي الله تعالى عنه كان يقول‏:‏ اللهم صل على آل محمد‏:‏ أي شخصه واستغني بذكره عن ذكر أتباعه‏.‏

‏{‏وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ‏}‏ ذلك، أي غرقهم وإطباق البحر عليهم، أو انفلاق البحر عن طرق يابسة مذللة، أو جثثهم التي قذفها البحر إلى الساحل، أو ينظر بعضكم بعضاً‏.‏ روي أنه تعالى أمر موسى عليه السلام أن يسري ببني إسرائيل، فخرج بهم فصبحهم فرعون وجنوده، وصادفوهم على شاطئ البحر، فأوحى الله تعالى إليه أن أضرب بعصاك البحر، فضربه فظهر فيه اثنا عشر طريقاً يابساً فسلكوها فقالوا‏:‏ يا موسى نخاف أن يغرق بعضنا ولا نعلم، ففتح الله فيها كوى فتراؤوا وتسامعوا حتى عبروا البحر، ثم لما وصل إليه فرعون ورآه منفلقاً اقتحم فيه هو وجنوده فالتطم عليهم وأغرقهم أجمعين‏.‏

واعلم أن هذه الواقعة من أعظم ما أنعم الله به على بني إسرائيل، ومن الآيات الملجئة إلى العلم بوجود الصانع الحكيم وتصديق موسى عليه الصلاة والسلام، ثم إنهم بعد ذلك اتخذوا العجل وقالوا‏:‏ ‏{‏لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً‏}‏ ونحو ذلك، فهم بمعزل في الفطنة والذكاء وسلامة النفس وحسن الاتباع عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، مع أن ما تواتر من معجزاته أمور نظرية مثل‏:‏ القرآن والتحدي به والفضائل المجتمعة فيه الشاهدة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم دقيقة تدركها الأذكياء، وإخباره عليه الصلاة والسلام عنها من جملة معجزاته على ما مر تقريره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ واعدنا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً‏}‏ لما عادوا إلى مصر بعد هلاك فرعون وعد الله موسى أن يعطيه التوراة، وضرب له ميقاتاً ذا القعدة وعشر ذي الحجة وعبر عنها بالليالي لأنها غرر الشهور‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ‏{‏واعدنا‏}‏ لأنه تعالى وعده الوحي‏.‏ ووعده موسى عليه السلام المجيء للميقات إلى الطور‏.‏

‏{‏ثُمَّ اتخذتم العجل‏}‏ إلها أو معبوداً‏.‏

‏{‏مِن بَعْدِهِ‏}‏ من بعد موسى عليه السلام، أو مُضِيِّهِ‏.‏

‏{‏وَأَنتُمْ ظالمون‏}‏ بإشراككم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ‏}‏ حين تبتم، والعفو محو الجريمة، من عفا إذا درس‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ ذلك‏}‏ أي الاتخاذ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ أي لكي تشكروا عفوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان‏}‏ يعني التوراة الجامع بين كونه كتاباً منزلاً وحجة تفرق بين الحق والباطل‏.‏ وقيل أراد بالفرقان معجزاته الفارقة بين المحق والمبطل في الدعوى، أو بين الكفر والإِيمان‏.‏ وقيل الشرع الفارق بين الحلال والحرام، أو النصر الذي فرق بينه وبين عدوه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ الفرقان‏}‏ يريد به يوم بدر‏.‏

‏{‏لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ لكي تهتدوا بتدبر الكتاب والتفكر في الآيات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ باتخاذكم العجل فَتُوبُواْ إلى بَارِئِكُمْ‏}‏ فاعزموا على التوبة والرجوع إلى من خلقكم براءٍ من التفاوت، ومميزاً بعضكم عن بعض بصور وهيئات مختلفة، وأصل التركيب لخلوص الشيء عن غيره، إما على سبيل التقصي كقولهم بريء المريض من مرضه والمديون من دينه، أو الإنشاء كقولهم برأ الله آدم من الطين أو فتوبوا‏.‏

‏{‏فاقتلوا أَنفُسَكُمْ‏}‏ إتماماً لتوبتكم بالبخع، أو قطع الشهوات كما قيل من لم يعذب نفسه لم ينعمها ومن لم يقتلها لم يحيها‏.‏ وقيل أمروا أن يقتل بعضهم بعضاً‏.‏ وقيل أمر من لم يعبد العجل أن يقتل العبدة‏.‏ روي أن الرجل كان يرى بعضه وقريبه فلم يقدر على المضي لأمر الله، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون، فأخذوا يقتتلون من الغداة إلى العشي حتى دعا موسى وهارون فكشفت السحابة ونزلت التوبة، وكانت القتلى سبعين ألفاً‏.‏ والفاء الأولى للتسبب، والثانية للتعقيب‏.‏

‏{‏ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ‏}‏ من حيث إنه طهرة من الشرك، ووصلة إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية‏.‏

‏{‏فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏ متعلق بمحذوف إن جعلته من كلام موسى عليه السلام لهم تقديره‏:‏ إن فعلتم ما أمرتم به فقد تاب عليكم، أو عطف على محذوف إن جعلته خطاباً من الله تعالى لهم على طريقة الالتفات، كأنه قال‏:‏ ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم بارئكم‏.‏ وذكر البارئ وترتيب الأمر عليه إشعار بأنهم بلغوا غاية الجهالة والغباوة، حتى تركوا عبادة خالقهم الحكيم إلى عبادة البقر التي هي مثل في الغباوة، وأن من لم يعرف حق منعمه حقيق بأن لا يسترد منه، ولذلك أمروا بالقتل وفك التركيب‏.‏

‏{‏إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم‏}‏ للذي يكثر توفيق التوبة، أو قبولها من المذنبين، ويبالغ في الإنعام عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ‏}‏ أي لأجل قولك، أو لن نقر لك‏.‏

‏{‏حتى نَرَى الله جَهْرَةً‏}‏ عياناً وهي في الأصل مصدر قولك‏:‏ جهرت بالقراءة، استعيرت للمعاينة، ونصبها على المصدر لأنها نوع من الرؤية، أو الحال من الفاعل، أو المفعول‏.‏ وقرئ جهرة بالفتح على أنها مصدر كالغلبة، أو جمع جاهر كالكتبة فيكون حالاً من الفاعِل قطعاً، والقائلون هم السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام للميقات‏.‏ وقيل عشرة آلاف من قومه‏.‏ والمؤمن به‏:‏ إن الله الذي أعطاك التوراة وكلمك، أو إنك نبي‏.‏

‏{‏فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة‏}‏ لفرط العناد والنعت وطلب المستحيل، فإنهم ظنوا أنه تعالى يشبه الأجسام فطلبوا رؤيته رؤية الأجسام في الجهات والأحياز المقابلة للرائي، وهي محال، بل الممكن أن يرى رؤية منزهة عن الكيفية، وذلك للمؤمنين في الآخرة ولأفراد من الأنبياء في بعض الأحوال في الدنيا‏.‏ قيل جاءت نار من السماء فأحرقتهم‏.‏ وقيل صيحة‏.‏ وقيل جنود سمعوا بحسيسها فخروا صعقين ميتين يوماً وليلة‏.‏

‏{‏وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ‏}‏ ما أصابكم بنفسه أو أثره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ بعثناكم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ‏}‏ بسبب الصاعقة، وقيد للبعث لأنه قد يكون عن إغماء، أو نوم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بعثناهم‏}‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ نعمة البعث، أو ما كفرتموه لما رأيتم بأس الله بالصاعقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام‏}‏ سخر الله لهم السحاب يظلهم من الشمس حين كانوا في التيه‏.‏

‏{‏وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى‏}‏ الترنجبين والسماني‏.‏ قيل كان ينزل عليهم المن مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع، وتبعث الجنوب عليهم السماني، وينزل بالليل عمود نار يسيرون في ضوئه، وكانت ثيابهم لا تتسخ ولا تبلى‏.‏

‏{‏كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم‏}‏ على إرادة القول‏.‏

‏{‏وَمَا ظَلَمُونَا‏}‏ فيه اختصار، وأصله فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا‏.‏

‏{‏ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ بالكفران لأنه لا يتخطاهم ضرره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية‏}‏ يعني بيتَ المقدس، وقيل أريحا أمروا به بعد التيه‏.‏

‏{‏فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا‏}‏ واسعاً، ونصبه على المصدر، أو الحال من الواو‏.‏

‏{‏وادخلوا الباب‏}‏ أي باب القرية، أو القبة التي كانوا يصلون إليها، فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه الصلاة والسلام‏.‏

‏{‏سُجَّدًا‏}‏ متطامنين مخبتين، أو ساجدين لله شكراً على إخراجهم من التيه‏.‏

‏{‏وَقُولُواْ حِطَّةٌ‏}‏ أي مسألتنا، أو أمرك حطة وهي فعلة من الحط كالجلسة، وقرئ بالنصب على الأصل بمعنى‏:‏ حط عنا ذنوبنا حطة، أو على أنه مفعول ‏{‏قُولُواْ‏}‏ أي قولوا هذه الكلمة‏.‏ وقيل معناه أمرنا حطة أي‏:‏ أن نحط في هذه القرية ونقيم بها‏.‏

‏{‏نَّغْفِرْ لَكُمْ خطاياكم‏}‏ بسجودكم ودعائكم‏.‏ وقرأ نافع بالياء وابن عامر بالتاء على البناء للمفعول‏.‏ وخطايا أصله خطايئ كخطايع، فعند سيبويه أنه أبدلت الياء الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف، واجتمعت همزتان فأبدلت الثانية ياء ثم قلبت ألفاً، وكانت الهمزة بين الألفين فأبدلت ياء‏.‏ وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء ثم فعل بهما ما ذكر‏.‏

‏{‏وَسَنَزِيدُ المحسنين‏}‏ ثواباً، جعل الامتثال توبة للمسيء وسبب زيادة الثواب للمحسن، وأخرجه عن صورة الجواب إلى الوعد إيهاماً بأن المحسن بصدد ذلك وإن لم يفعله، فكيف إذا فعله، وأنه تعالى يفعل لا محالة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ‏}‏ بدلوا بما أمروا به من التوبة والاستغفار بطلب ما يشتهون من أعراض الدنيا‏.‏

‏{‏فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ كرره مبالغة في تقبيح أمرهم وإشعارًا بأن الإنزال عليهم لظلمهم بوضع غير المأمور به موضعه، أو على أنفسهم بأن تركوا ما يوجب نجاتها إلى ما يوجب هلاكها‏.‏

‏{‏رِجْزًا مّنَ السماء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ‏}‏ عذاباً مقدراً من السماء بسبب فسقهم، والرجز في الأصل‏:‏ ما يعاف عنه، وكذلك الرجس‏.‏ وقرئ بالضم وهو لغة فيه والمراد به الطاعون‏.‏ روي أنه مات في ساعة أربعة وعشرون ألفاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ‏}‏ لما عطشوا في التيه‏.‏

‏{‏فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر‏}‏ اللام فيه للعهد على ما روي أنه كان حجراً طورياً حمله معه، وكانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين، تسيل كل عين في جدول إلى سبط، وكانوا ستمائة ألف وسعة المعسكر اثنا عشر ميلاً، أو حجراً أهبطه آدم من الجنة، ووقع إلى شعيب عليه السلام فأعطاه لموسى مع العصا، أو الحجر الذي فر بثوبه لما وضعه عليه ليغتسل وبرأه الله به عما رموه به من الأدرة، فأشار إليه جبريل عليه السلام بحمله، أو للجنس وهذا أظهر في الحجة‏.‏ قيل لم يأمره بأن يضرب حجراً بعينه، ولكن لما قالوا‏:‏ كيف بنا لو أفضينا إلى أرض لا حجارة بها‏؟‏ حمل حجراً في مخلاته، وكان يضربه بعصاه إذا نزل فينفجر، ويضربه بها إذا ارتحل فييبس، فقالوا‏:‏ إن فقد موسى عصاه متنا عطشاً، فأوحى الله إليه لا تقرع الحجر وكلمه يطعك لعلهم يعتبرون‏.‏ وقيل كان الحجر من رخام وكان ذراعاً في ذراع، والعصا عشرة أذرع على طول موسى عليه السلام من آس الجنة ولها شعبتان تتقدان في الظلمة‏.‏

‏{‏فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا‏}‏ متعلق بمحذوف تقديره‏:‏ فإن ضربت فقد انفجرت، أو فضرب فانفجرت، كما مر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏ وقرئ عَشَرة بكسر الشين وفتحها وهما لغتان فيه‏.‏

‏{‏قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ‏}‏ كل سبط‏.‏ ‏{‏مَّشْرَبَهُمْ‏}‏ عينهم التي يشربون منها‏.‏ ‏{‏كُلُواْ واشربوا‏}‏ على تقدير القول‏:‏

‏{‏مِن رّزْقِ الله‏}‏ يريد به ما رزقهم الله من المن والسلوى وماء العيون‏.‏ وقيل الماء وحده لأنه يشرب ويؤكل مما ينبت به‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ‏}‏ لا تعتدوا حال إفسادكم، وإنما قيده لأنه وإن غلب في الفساد قد يكون منه ما ليس بفساد، كمقابلة الظالم المعتدي بفعله، ومنه ما يتضمن صلاحاً راجحاً كقتل الخضر عليه السلام الغلام وخرقه السفينة، ويقرب منه العيث غير أنه يغلب فيما يدرك حساً، ومن أنكر أمثال هذه المعجزات فلغاية جهله بالله وقلة تدبره في عجائب صنعه، فإنه لما أمكن أن يكون من الأحجار ما يحلق الشعر وينفر عن الخل ويجذب الحديد، لم يمتنع أن يخلق الله حجراً يسخره لجذب الماء من تحت الأرض، أو لجذب الهواء من الجوانب ويصيره ماء بقوة التبريد ونحو ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد‏}‏ يريدون به ما رزقوا في التيه من المن والسلوى‏.‏ وبوحدته أنه لا يختلف ولا يتبدل، كقولهم طعام مائدة الأمير واحد يريدون أنه لا تتغير ألوانه وبذلك أجمعوا أو ضرب واحد، لأنهما طعام أهل التلذذ وهم كانوا فلاحة فنزعوا إلى عكرهم واشتهوا ما ألفوه‏.‏ ‏{‏فادع لَنَا رَبَّكَ‏}‏ سله لنا بدعائك إياه ‏{‏يُخْرِجْ لَنَا‏}‏ يظهر ويوجد، وجزمه بأنه جواب فادع فإن دعوته سبب الإجابة‏.‏ ‏{‏مِمَّا تُنبِتُ الأرض‏}‏ من الإِسناد المجازي، وإقامة القابل مقام الفاعل، ومن للتبعيض‏.‏ ‏{‏مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا‏}‏ تفسير وبيان وقع موقع الحال، وقيل بدل بإعادة الجار‏.‏ والبقل ما أنبتته الأرض من الخضر والمراد به أطايبه التي تؤكل، والفوم الحنطة ويقال للخبز ومنه فوموا لنا، وقيل الثوم وقرئ قُثَّائها بالضم، وهو لغة فيه‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ أي الله، أو موسى عليه السلام‏.‏ ‏{‏أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى‏}‏ أقرب منزلة وأدون قدراً‏.‏ وأصل الدنو القرب في المكان فاستعير للخسة كما استعير البعد للشرف والرفعة، فقيل بعيد المحل بعيد الهمة، وقرئ «أدنأ» من الدناءة‏.‏ ‏{‏بالذي هُوَ خَيْرٌ‏}‏ يريد به المن والسلوى فإنه خير في اللذة والنفع وعدم الحاجة إلى السعي‏.‏ ‏{‏اهبطوا مِصْرًا‏}‏ انحدروا إليه من التيه، يقال هبط الوادي إذا نزل به، وهبط منه إذا خرج منه، وقرئ بالضم والمصر البلد العظيم وأصله الحد بين الشيئين، وقيل أراد به العلم، وإنما صرفه لسكون وسطه أو على تأويل البلد، ويؤيده أنه غير منون في مصحف ابن مسعود‏.‏ وقيل أصله مصراتم فعرب‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة‏}‏ أحيطت بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه، أو ألصقت بهم، من ضرب الطين على الحائط، مجازاة لهم على كفران النعمة‏.‏ واليهود في غالب الأمر أذلاء مساكين، إما على الحقيقة أو على التكلف مخافة أن تضاعف جزيتهم‏.‏ ‏{‏وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله‏}‏ رجعوا به، أو صاروا أحقاء بغضبه، من باء فلان بفلان إذا كان حقيقاً بأن يقتل به، وأصل البوء المساواة‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب‏.‏ ‏{‏بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيرِ الحق‏}‏ بسبب كفرهم بالمعجزات، التي من جملتها ما عد عليهم من فلق البحر، وإظلال الغمام، وإنزال المن والسلوى، وانفجار العيون من الحجر‏.‏ أو بالكتب المنزلة‏:‏ كالإنجيل، والفرقان، وآية الرجم والتي فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة، وقتلهم الأنبياء فإنهم قتلوا شعياء وزكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق عندهم، إذ لم يروا منهم ما يعتقدون به جواز قتلهم، وإنما حملهم على ذلك اتباع الهوى وحب الدنيا كما أشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ‏}‏ أي‏:‏ جرهم العصيان والتمادي والاعتداء فيه إلى الكفر بالآيات، وقتل النبيين‏.‏

فإن صغار الذنوب سبب يؤدي إلى ارتكاب كبارها، كما أن صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحري كبارها‏.‏ وقيل كرر الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم كما هو بسبب الكفر، والقتل فهو بسبب ارتكابهم المعاصي واعتدائهم حدود الله تعالى‏.‏ وقيل الإشارة إلى الكفر والقتل، والباء بمعنى مع وإنما جوزت الإشارة بالمفرد إلى شيئين فصاعداً على تأويل ما ذكر، أو تقدم للإختصار، ونظيره في الضمير قول رؤبة يصف بقرة‏:‏

فِيها خُطُوطٌ مِنْ سَوادٍ وَبَلَق *** كأنهُ في الْجِلِد تَوْلِيعُ البَهقْ

والذي حسن ذلك أن تثنية المضمرات والمبهمات وجمعها وتأنيثها ليست على الحقيقة، ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ‏}‏ بألسنتهم، يريد به المتدينين بدين محمد صلى الله عليه وسلم المخلصين منهم والمنافقين، وقيل المنافقين لانخراطهم في سلك الكفرة ‏{‏والذين هَادُواْ‏}‏ تهودوا، يقال هاد وتهود إذا دخل في اليهودية، ويهود‏:‏ إما عربي من هاد إذا تاب، سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل، وإما معرب يهوذا وكأنهم سموا باسم أكبر أولاد يعقوب عليه السلام ‏{‏والنصارى‏}‏ جمع نصران كندامى وندمان، والياء في نصراني للمبالغة كما في أحمري، سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه السلام، أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها نصران أو ناصرة فسموا باسمها، أو من اسمها‏.‏ ‏{‏والصابئين‏}‏ قوم بين النصارى والمجوس‏.‏ وقيل أصل دينهم دين نوح عليه السلام‏.‏ وقيل هم عبدة الملائكة‏.‏ وقيل عبدة الكواكب، وهو إن كان عربياً فمن صبأ إذا خرج‏.‏ وقرأ نافع وحده بالياء إما لأنه خفف الهمزة وأبدلها ياء، أو لأنه من صبأ إذا مال لأنهم مالوا عن سائر الأديان إلى دينهم، أو من الحق إلى الباطل‏.‏

‏{‏مَنْ ءامَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صالحا‏}‏ من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ مصدقاً بقلبه بالمبدأ والمعاد، عاملاً بمقتضى شرعه‏.‏ وقيل من آمن من هؤلاء الكفرة إيماناً خالصاً، ودخل في الإسلام دخولاً صادقاً‏:‏ ‏{‏فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ الذي وعد لهم على إيمانهم وعملهم‏.‏ ‏{‏وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ حين يخاف الكفار من العقاب، ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب‏.‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ‏}‏ والجملة خبر إن، أو بدل من اسم إن وخبرها ‏{‏فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ‏}‏ والفاء لتضمن المسند إليه معنى الشرط، وقد منع سيبويه دخولها في خبر إن من حيث إنها لا تدخل الشرطية، ورد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ‏.‏‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم‏}‏ باتباع موسى والعمل بالتوراة‏.‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور‏}‏ حتى أعطيتم الميثاق، روي أن موسى عليه الصلاة والسلام لما جاءهم بالتوراة فرأوا ما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم وأبوا قبولها، فأمر جبريل عليه السلام فقلع الطور فظلله فوقهم حتى قبلوا‏.‏ ‏{‏خُذُواْ‏}‏ على إرادة القول‏:‏ ‏{‏مَا ءاتيناكم‏}‏ من الكتاب ‏{‏بِقُوَّةٍ‏}‏ بجد وعزيمة‏.‏ ‏{‏واذكروا مَا فِيهِ‏}‏ ادرسوه ولا تنسوه، أو تفكروا فيه فإنه ذكر بالقلب، أو اعملوا به‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ لكي تتقوا المعاصي، أو رجاء منكم أن تكونوا متقين‏.‏ ويجوز عند المعتزلة أن يتعلق بالقول المحذوف، أي‏:‏ قلنا خذوا واذكروا إرادة أن تتقوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مّن بَعْدِ ذلك‏}‏ أعرضتم عن الوفاء بالميثاق بعد أخذه‏.‏ ‏{‏فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ‏}‏ بتوفيقكم للتوبة، أو بمحمد صلى الله عليه وسلم يدعوكم إلى الحق ويهديكم إليه‏.‏ ‏{‏لَكُنتُم مّنَ الخاسرين‏}‏ المغبونين بالانهماك في المعاصي، أو بالخبط والضلال في فترة من الرسل‏.‏ ولو في الأصل لامتناع الشيء لامتناع غيره، فإذا دخل على لا أفاد إثباتاً وهو امتناع الشيء لثبوت غيره، والاسم الواقع بعده عند سيبويه مبتدأ خبره واجب الحذف لدلالة الكلام عليه وسد الجواب مسده، وعند الكوفيين فاعل فعل محذوف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنكُمْ فِي السبت‏}‏ اللام موطئة لقسم، والسبت مصدر قولك سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت، وأصله القطع أمروا بأن يجردوه للعبادة فاعتدى فيه ناس منهم في زمن داود عليه السلام، واشتغلوا بالصيد، وذلك أنهم كانوا يسكنون قرية على ساحل يقال لها أيلة، وإذا كان يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلا حضر هناك وأخرج خرطومه، فإذا مضى تفرقت فحفروا حياضاً وشرعوا إليها الجداول وكانت الحيتان تدخلها يوم السبت فيصطادونها يوم الأحد‏.‏ ‏{‏فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين‏}‏ جامعين بين صورة القردة والخسوء‏:‏ وهو الصغار والطرد، وقال مجاهد ما مسخت صورهم ولكن قلوبهم، فمثلوا بالقردة كما مثلوا بالحمار في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كُونُواْ‏}‏ ليس بأمر إذ لا قدرة لهم عليه، وإنما المراد به سرعة التكوين، وأنهم صاروا كذلك كما أراد بهم، وقرئ قردة بفتح القاف وكسر الراء، وخاسين بغير همزة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏فَجَعَلْنَاهَا‏}‏ أي المسخة، أو العقوبة‏.‏ ‏{‏نكالا‏}‏ عبرة تنكل المعتبر بها، أي تمنعه‏.‏ ومنه النكل للقيد‏.‏ ‏{‏لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا‏}‏ لما قبلها وما بعدها من الأمم إذ ذكرت حالهم في زبر الأولين، واشتهرت قصتهم في الآخرين، أو لمعاصريهم ومن بعدهم، أو لما بحضرتها من القرى وما تباعد عنها، أو لأهل تلك القرية وما حواليها، أو لأجل ما تقدم عليها من ذنوبهم وما تأخر منها‏.‏ ‏{‏وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ من قومهم، أو لكل متق سمعها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً‏}‏ أول هذه القصة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فادرأتم فِيهَا‏}‏ وإنما فكت عنه وقدمت عليه لاستقلالها بنوع آخر من مساويهم، وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال وترك المسارعة إلى الامتثال‏.‏ وقصته‏:‏ أنه كان فيهم شيخ موسر فقتل ابنه بنو أخيه طمعاً في ميراثه، وطرحوه على باب المدينة، ثم جاؤوا يطالبون بدمه، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيا فيخبر بقاتله‏.‏ ‏{‏قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا‏}‏ أي مكان هزؤ، أو أهله ومهزوءاً بنا، أو الهزؤ نفسه لفرط الاستهزاء استبعاداً لما قاله واستخفافاً به، وقرأ حمزة وإسماعيل عن نافع بالسكون، وحفص عن عاصم بالضم وقلب الهمزة واواً‏.‏ ‏{‏قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين‏}‏ لأن الهزؤ في مثل ذلك جهل وسفه، نفى عن نفسه ما رمي به على طريقة البرهان، وأخرج ذلك في صورة الاستعاذه استفظاعاً له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِيَ‏}‏ أي ما حالها وصفتها، وكان حقهم أن يقولوا‏:‏ أي بقرة هي‏؟‏ أو كيف هي‏؟‏ لأن ‏{‏مَا‏}‏ يسأل به عن الجنس غالباً، لكنهم لما رأوا ما أمروا به على حال لم يوجد بها شيء من جنسه، أجروه مجرى ما لم يعرفوا حقيقته ولم يروا مثله‏.‏ ‏{‏قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ‏}‏ لا مسنة ولا فتية، يقال فرضت البقرة فروضاً من الفرض وهو القطع، كأنها فرضت سنها، وتركيب البكر للأولية ومن البكرة والباكورة‏.‏

‏{‏عَوَانٌ‏}‏ نصف‏.‏ قال‏:‏ نواعِمُ بينَ أبْكارٍ وَعُونُ‏.‏

‏{‏بَيْنَ ذلك‏}‏ أي بين ما ذكر من الفارض والبكر ولذلك أضيف إليه بين، فإنه لا يضاف إلا إلى متعدد، وعود هذه الكنايات وإجراء تلك الصفات على بقرة يدل على أن المراد بها معينة، ويلزمه تأخير البيان عن وقت الخطاب، ومن أنكر ذلك زعم أن المراد بها بقرة من شق البقر غير مخصوصة ثم انقلبت مخصوصة بسؤالهم، ويلزمه النسخ قبل الفعل، فإن التخصيص إبطال للتخيير الثابت بالنص والحق جوازهما، ويؤيد الرأي الثاني ظاهر اللفظ والمروي عنه عليه الصلاة والسلام «لو ذبحوا أيّ بقرة أرادوا لأجزأتهم، ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم»‏.‏ وتقريعهم بالتمادي وزجرهم على المراجعة بقوله‏:‏ ‏{‏فافعلوا مَا تُؤْمَرونَ‏}‏ أي ما تؤمرونه، بمعنى تؤمرون به من قولهم‏:‏ أمرتك الخير فافعل ما أمرت به، أو أمركم بمعنى مأموركم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا‏}‏ الفقوع نصوع الصفرة ولذلك تؤكد به، فيقال‏:‏ أصفر فاقع كما يقال أسود حالك، وفي إسناده إلى اللون وهو صفة صفراء لملابسته بها فضل تأكيد كأنه قيل‏:‏ صفراء شديدة الصفرة صفرتها، وعن الحسن سوداء شديدة السواد، وبه فسر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جمالة صُفْرٌ‏}‏‏.‏ قال الأعشى‏:‏

تِلْكَ خَيلي مِنْهُ وتلكَ رِكَابي *** هُنْ صُفُرٌ أَولادُها كالزَّبيبِ

ولعله عبر بالصفرة عن السواد لأنها من مقدماته، أو لأن سواد الإبل تعلوه صفرة وفيه نظر، لأن الصفرة بهذا المعنى لا تؤكد بالفقوع ‏{‏تَسُرُّ الناظرين‏}‏ أي تعجبهم، والسرور أصله لذة في القلب عند حصول نفع، أو توقعه من السر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِيَ‏}‏ تكرير للسؤال الأول واستكشاف زائد‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ البقر تشابه عَلَيْنَا‏}‏ اعتذار عنه، أي إن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا، وقرئ «إن الباقر» وهو اسم لجماعة البقر والأباقر والبواقر، ويتشابه وتتشابه بالياء والتاء، وتشابه ويشابه ويتشابه بطرح التاء وإدغامها في الشين على التذكير والتأنيث، وتشابهت وتشابهت مخففاً ومشدداً، وتشبه بمعنى تتشبه وتشبه بالتذكير ومتشابه ومتشابهة ومتشبه ومتشبهة‏.‏ ‏{‏وَإِنَّا إِن شَاء الله لَمُهْتَدُونَ‏}‏ إلى المراد ذبحها، أو إلى القاتل، وفي الحديث ‏"‏ لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد ‏"‏‏.‏ واحتج به أصحابنا على أن الحوادث بإرادة الله سبحانه وتعالى، وأن الأمر قد ينفك عن الإرادة وإلا لم يكن للشرط بعد الأمر معنى‏.‏ والمعتزلة والكرامية على حدوث الإرادة، وأجيب بأن التعليق باعتبار التعلق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض وَلاَ تَسْقِي الحرث‏}‏ أي لم تذلل لكراب الأرض وسقي الحرث، و‏{‏لاَّ ذَلُولٌ‏}‏ صفة لبقرة بمعنى غير ذلول، ولا الثانية مزيدة لتأكيد الأولى والفعلان صفتا ذلول كأنه قيل‏:‏ لا ذلول مثيرة وساقية، وقرئ لا ذلول بالفتح أي حيث هي، كقولك مررت برجل لا بخيل ولا جبان، أي حيث هو، وتسقي من أسقى‏.‏ ‏{‏مُّسَلَّمَةٌ‏}‏ سلمها الله تعالى من العيوب، أو أهلها من العمل، أو أخلص لونها، من سلم له كذا إذا خلص له ‏{‏وَأَنزَلْنَا فِيهَا‏}‏ لا لون فيها يخالف لون جلدها، وهي في الأصل مصدر، وشاه وشيا وشية إذا خلط بلونه لوناً آخر‏.‏ ‏{‏قَالُواْ الآن جِئْتَ بالحق‏}‏ أي بحقيقة وصف البقرة وحققتها لنا، وقرئ ‏{‏الآن‏}‏ بالمد على الاستفهام، ولان بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على السلام‏.‏ ‏{‏فَذَبَحُوهَا‏}‏ فيه اختصار، والتقدير‏:‏ فحصلوا البقرة المنعوتة فذبحوها‏.‏ ‏{‏وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ‏}‏ لتطويلهم وكثرة مراجعاتهم، أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل، أو لغلاء ثمنها‏.‏ إذ روي‏:‏ أن شيخاً صالحاً منهم كان له عِجلة، فأتى بها الغيضة وقال‏:‏ اللهم إني استودعتكها لابني حتى يكبر، فشبت وكانت وحيدة بتلك الصفات، فساوموها من اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهباً، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير‏.‏ وكاد من أفعال المقاربة وضع لدنو الخبر حصولاً، فإذا دخل عليه النفي قيل معناه الإثبات مطلقاً‏.‏ وقيل ماضياً، والصحيح أنه كسائر الأفعال ولا ينافي قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ‏}‏ قوله ‏{‏فَذَبَحُوهَا‏}‏ لاختلاف وقتيهما، إذ المعنى أنهم ما قاربوا أن يفعلوا حتى انتهت سؤالاتهم، وانقطعت تعللاتهم، ففعلوا كالمضطر الملجأ إلى الفعل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا‏}‏ خطاباً للجميع لوجود القتل فيهم ‏{‏فادرأتم فِيهَا‏}‏ اختصمتم في شأنها، إذ المتخاصمان يدفع بعضهما بعضاً، أو تدافعتم بأن طرح كل قتلها عن نفسه إلى صاحبه، وأصله تدارأتم فأدغمت التاء في الدال واجتلبت لها همزة الوصل ‏{‏والله مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏ مظهره لا محالة، وأعمل مخرج لأنه حكاية مستقبل كما أعمل ‏{‏باسط ذِرَاعَيْهِ‏}‏ لأنه حكاية حال ماضية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏فَقُلْنَا اضربوه‏}‏ عطف على ادارأتم وما بينها اعتراض، والضمير للنفس والتذكير على تأويل الشخص أو القتيل ‏{‏بِبَعْضِهَا‏}‏ أي بعض كان وقيل‏:‏ بأصغريها‏.‏ وقيل بلسانها‏.‏ وقيل بفخذها اليمنى وقيل بالأذن‏.‏ وقيل بالعُجب ‏{‏كذلك يُحْيِي الله الموتى‏}‏ يدل على ما حذف وهو فضربوه فحيي، والخطاب مع من حضر حياة القتيل، أو نزول الآية ‏{‏وَيُرِيكُمْ ءاياته‏}‏ دلائله على كمال قدرته‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ لكي يكمل عقلكم وتعلموا أن من قدر على إحياء نفس قدر على إحياء الأنفس كلها، أو تعملوا على قضيته‏.‏ ولعله تعالى إنما لم يحيه ابتداء وشرط فيه ما شرط لما فيه من التقرب وأداء الواجب، ونفع اليتيم والتنبيه على بركة التوكل والشفقة على الأولاد، وأن من حق الطالب أن يقدم قربة، والمتقرب أن يتحرى الأحسن ويغالي بثمنه، كما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ أنه ضحى بنجيبة اشتراها بثلاثمائة دينار‏.‏ وأن المؤثر في الحقيقة هو الله تعالى، والأسباب أمارات لا إثر لها، وأن من أراد أن يعرف أعدى عدوه الساعي في إماتته الموت الحقيقي، فطريقُه أن يذبح بقرة نفسه التي هي القوة الشهوية حين زال عنها شره الصبا، ولم يلحقها ضعف الكبر، وكانت معجبة رائقة المنظر غير مذللة في طلب الدنيا، مسلمة عن دنسها لا سمة بها من مقابحها بحيث يصل أثره إلى نفسه، فتحيا حياة طيبة، وتعرب عما به ينكشف الحال، ويرتفع ما بين العقل والوهم من التدارؤ والنزاع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏ القساوة عبارة عن الغلظ مع الصلابة، كما في الحجر‏.‏ وقساوة القلب مثل في نبوه عن الاعتبار، وثم الاستبعاد القسوة ‏{‏مِن بَعْدِ ذلك‏}‏ يعني إحياء القتيل، أو جميع ما عدد من الآيات فإنها مما توجب لين القلب‏.‏ ‏{‏فَهِىَ كالحجارة‏}‏ في قسوتها ‏{‏أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً‏}‏ منها، والمعنى أنها في القساوة مثل الحجارة أو أزيد عليها، أو أنها مثلها، أو مثل ما هو أشد منها قسوة كالحديد، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ويعضده قراءة الحسن بالجر عطفاً على الحجارة، وإنما لم يقل أقسى لما في أشد من المبالغة، والدلالة على اشتداد القسوتين واشتمال المفضل على زيادة و‏{‏أَوْ‏}‏ للتخيير، أو للترديد بمعنى‏:‏ أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بما هو أقسى منها‏.‏

‏{‏وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ‏}‏ تعليل للتفضيل، والمعنى‏:‏ أن الحجارة تتأثر وتنفعل فإن منها ما يتشقق فينبع منه الماء، وتنفجر منه الأنهار، ومنها ما يتردى من أعلى الجبل انقياداً لما أراد الله تعالى به‏.‏ وقلوب هؤلاء لا تتأثر ولا تنفعل عن أمره تعالى‏.‏ والتفجر التفتح بسعة وكثرة، والخشية مجاز عن الانقياد، وقرئ ‏{‏إِنَّ‏}‏ على أنها المخففة من الثقيلة وتلزمها اللام الفارقة بينها وبين إن النافية، ويهبط بالضم‏.‏

‏{‏وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ وعيد على ذلك، وقرأ ابن كثير ونافع ويعقوب وخلف وأبو بكر بالياء ضما إلى ما بعده، والباقون بالتاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ‏}‏ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ‏{‏أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ‏}‏ أن يصدقوكم، أو يؤمنوا لأجل دعوتكم‏.‏ يعني اليهود‏.‏ ‏{‏وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ‏}‏ طائفة من أسلافهم ‏{‏يَسْمَعُونَ كلام الله‏}‏ يعني التوراة‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ‏}‏ كنعت محمد صلى الله عليه وسلم، وآية الرجم‏.‏ أو تأويله فيفسرونه بما يشتهون‏.‏ وقيل هؤلاء من السبعين المختارين سمعوا كلام الله تعالى حين كلم موسى عليه السلام بالطور، ثم قالوا سمعنا الله تعالى يقول في آخره‏:‏ إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ‏}‏ أي فهموه بعقولهم ولم يبق لهم فيه ريبة‏.‏ ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ أنهم مفترون مبطلون، ومعنى الآية‏:‏ أن أحبار هؤلاء ومقدميهم كانوا على هذه الحالة، فما ظنك بسفلتهم وجهالهم، وأنهم إن كفروا وحرفوا فلهم سابقة في ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا لَقُواْ الذين ءَامَنُواْ‏}‏ يعني منافقيهم‏.‏ ‏{‏قَالُواْ ءَامَنَّا‏}‏ بأنكم على الحق، وإن رسولكم هو المبشر به في التوراة ‏{‏وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قَالُواْ‏}‏ أي الذين لم ينافقوا منهم عاتبين على من نافق‏.‏ ‏{‏أَتُحَدّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ بما بين لكم في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم، أو الذين نافقوا لأعقابهم إظهاراً للتصلب في اليهودية، ومنعاً لهم عن إبداء ما وجدوا في كتابهم، فينافقون الفريقين‏.‏ فالاستفهام على الأول تقريع وعلى الثاني إنكار ونهي ‏{‏لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبّكُمْ‏}‏ ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه، جعلوا محاجتهم بكتاب الله وحكمه محاجة عنده كما يقال عند الله كذا، ويراد به أنه جاء في كتابه وحكمه، وقيل عند ذكر ربكم، أو بين يدي رسول ربكم‏.‏ وقيل عند ربكم في القيامة وفيه نظر إذ الإخفاء لا يدفعه‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ إما من تمام كلام اللائمين وتقديره‏:‏ أفلا تعقلون أنهم يحاجونكم به فيحجونكم، أو خطاب من الله تعالى للمؤمنين متصل بقوله‏:‏ ‏{‏أفتطعمون‏}‏، والمعنى‏:‏ أفلا تعقلون حالهم وأن لا مطمع لكم في إيمانهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَلاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ يعني هؤلاء المنافقين، أو اللائمين، أو كليهما، أو إياهم والمحرفين‏.‏ ‏{‏أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ ومن جملتهما إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان، وإخفاء ما فتح الله عليهم، وإظهار غيره، وتحريف الكلم عن مواضعه ومعانيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب‏}‏ جهلة لا يعرفون الكتابة فيطالعوا التوراة، ويتحققوا ما فيها‏.‏ أو التوراة ‏{‏إِلاَّ أَمَانِيَّ‏}‏ استثناء منقطع‏.‏ والأماني‏:‏ جمع أمنية وهي في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه من منى إذا قدر، ولذلك تطلق، على الكذب وعلى ما يتمنى وما يقرأ والمعنى لكن يعتقدون أكاذيب أخذوها تقليداً من المحرفين أو مواعيد فارغة‏.‏ سمعوها منهم من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هوداً، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة‏.‏ وقيل إلا ما يقرأون قراءة عارية عن معرفة المعنى وتدبره من قوله‏:‏

تَمَنَّى كِتَابَ الله أَوَّلَ لَيْلِه *** تَمني دَاودَ الزبُورَ على رِسْلِ

وهو لا يناسب وصفهم بأنهم أميون‏.‏ ‏{‏وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ‏}‏ ما هم إلا قوم يظنون لا علم لهم، وقد يطلق الظن بإزاء العلم على كل رأي واعتقاد من غير قاطع، وإن جزم به صاحبه‏:‏ كاعتقاد المقلد والزائغ عن الحق لشبهة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏فَوَيْلٌ‏}‏ أي تحسر وهلك‏.‏ ومن قال إنه واد أو جبل في جهنم فمعناه‏:‏ أن فيها موضعاً يتبوأ فيه من جعل له الويل، ولعله سماه بذلك مجازاً‏.‏ وهو في الأصل مصدر لا فعل له وإنما ساغ الابتداء به نكرة لأنه دعاء‏.‏ ‏{‏لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب‏}‏ يعني المحرفين، ولعله أراد به ما كتبوه من التأويلات الزائغة‏.‏ ‏{‏بِأَيْدِيهِمْ‏}‏ تأكيد كقولك‏:‏ كتبته بيميني ‏{‏ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً‏}‏ كي يحصلوا به عرضاً من أعراض الدنيا، فإنه وإن جعل قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العقاب الدائم‏.‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ يعني المحرف‏.‏ ‏{‏وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ‏}‏ يريد به الرشى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار‏}‏ المس اتصال الشيء بالبشرة بحيث تتأثر الحاسة به، واللمس كالطلب له ولذلك يقال ألمسه فلا أجده‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً‏}‏ محصورة قليلة، روي أن بعضهم قالوا نعذب بعدد أيام عبادة العجل أربعين يوماً، وبعضهم قالوا مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوماً ‏{‏قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْدًا‏}‏ خبراً أو وعد بما تزعمون‏.‏ وقرأ ابن كثير وحفص بإظهار الذال‏.‏ والباقون بإدغامه ‏{‏فَلَن يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ‏}‏ جواب شرط مقدر أي‏:‏ إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده، وفيه دليل على أن الخلف في خبره محال‏.‏

‏{‏أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ أم معادلة لهمزة الاستفهام بمعنى أي الأمرين كائن، على سبيل التقرير للعلم بوقوع أحدهما، أو منقطعة بمعنى‏:‏ بل أتقولون، على التقرير والتقريع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏بلى‏}‏ إثبات لما نفوه من مساس النار لهم زماناً مديداً ودهراً طويلاً على وجه أعم، ليكون كالبرهان على بطلان قولهم، وتختص بجواب النفي ‏{‏مَن كَسَبَ سَيّئَةً‏}‏ قبيحة، والفرق بينها وبين الخطيئة أنها قد تقال فيما يقصد بالذات، والخطيئة تغلب فيما يقصد بالعرض لأنه من الخطأ، والكسب‏:‏ استجلاب النفع‏.‏ وتعليقه بالسيئة على طريق قوله‏:‏ ‏{‏فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏{‏وأحاطت بِهِ خَطِيئَتُهُ‏}‏ أي استولت عليه، وشملت جملة أحواله حتى صار كالمحاط بها لا يخلو عنها شيء من جوانبه، وهذا إنما يصح في شأن الكافر لأن غيره وإن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه فلم تحط الخطيئة به، ولذلك فسرها السلف بالكفر‏.‏ وتحقيق ذلك‏:‏ أن من أذنب ذنباً ولم يقلع عنه استجره إلى معاودة مثله والانهماك فيه وارتكاب ما هو أكبر منه، حتى تستولي عليه الذنوب وتأخذ بمجامع قلبه فيصير بطبعه مائلاً إلى المعاصي، مستحسناً إياها معتقداً أن لا لذة سواها، مبغضاً لمن يمنعه عنها مكذباً لمن ينصحه فيها، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ كَانَ عاقبة الذين أساؤوا السوء أن كذبوا بآيات الله‏}‏ وقرأ نافع ‏{‏خطيئاته‏}‏‏.‏ وقرئ «خطيته» و«خطياته» على القلب والإدغام فيهما‏.‏ ‏{‏فأولئك أصحاب النار‏}‏ ملازموها في الآخرة كما أنهم ملازمون أسبابها في الدنيا ‏{‏هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ دائمون، أو لابثون لبثاً طويلاً‏.‏ والآية كما ترى لا حجة فيها على خلود صاحب الكبيرة وكذا التي قبلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ جرت عادته سبحانه وتعالى على أن يشفع وعده بوعيده، لترجى رحمته ويخشى عذابه، وعطف العمل على ايمان يدل على خروجه عن مسماه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاق بَنِي إِسْراءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله‏}‏ إخبار في معنى النهي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ‏}‏ وهو أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام أن المنهي سارع إلى الانتهاء فهو يخبر عنه ويعضده قراءة‏:‏ «لا تعبدوا»‏.‏ وعطف ‏{‏قُولُواْ‏}‏ عليه فيكون على إرادة القول‏.‏ وقيل‏:‏ تقديره أن لا يعبدوا فلما حذف أن رفع كقوله‏:‏

> *** أَلا أَيّهذا الزاجري أَحضُرَ الوَغَى

وأَنْ أشَهدَ اللذاتِ هَلْ أنتَ مُخلِدي *** ويدل عليه قراءة‏:‏ «ألا تعبدوا»، فيكون بدلاً عن الميثاق، أو معمولاً له بحذف الجار‏.‏ وقيل إنه جواب قسم دل عليه المعنى كأنه قال‏:‏ وحلفناهم لا يعبدون‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم ويعقوب بالتاء حكاية لما خوطبوا به، والباقون بالياء لأنهم غيب ‏{‏وبالوالدين إحسانا‏}‏ تعلق بمضمر تقديره‏:‏ وتحسنون، أو أحسنوا ‏{‏وَذِي القربى واليتامى والمساكين‏}‏ عطف على الوالدين‏.‏ ‏{‏واليتامى‏}‏ جمع يتيم كنديم وندامى وهو قليل‏.‏ ومسكين مفعيل من السكون، كأن الفقر أسكنه ‏{‏وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا‏}‏ أي قولاً حسناً، وسماه ‏{‏حَسَنًا‏}‏ للمبالغة‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب حسناً بفتحتين‏.‏ وقرئ ‏{‏حَسَنًا‏}‏ بضمتين وهو لغة أهل الحجاز، وحسنى على المصدر كبشرى والمراد به ما فيه تخلق وإرشاد ‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ‏}‏ يريد بهما ما فرض عليهم في ملتهم ‏{‏ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ‏}‏ على طريقة الالتفات، ولعل الخطاب مع الموجودين منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قبلهم على التغليب، أي أعرضتم عن الميثاق ورفضتموه ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ‏}‏ يريد به من أقام اليهودية على وجهها قبل النسخ، ومن أسلم منهم ‏{‏وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ‏}‏ قوم عادتكم الإعراض عن الوفاء والطاعة‏.‏ وأصل الإعراض الذهاب عن المواجهة إلى جهة العرض‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مّن دياركم‏}‏ على نحو ما سبق والمراد به أن لا يتعرض بعضهم بعضاً بالقتل والإجلاء عن الوطن‏.‏ وإنما جعل قتل الرجل غيره قتل نفسه، لاتصاله به نسباً أو ديناً، أو لأنه يوجبه قصاصاً‏.‏ وقيل معناه‏:‏ لا ترتكبوا ما يبيح سفك دمائكم وإخراجكم من دياركم، أو لا تفعلوا ما يرديكم ويصرفكم عن الحياة الأبدية فإنه القتل في الحقيقة، ولا تقترفوا ما تمنعون به عن الجنة التي هي داركم، فإنه الجلاء الحقيقي ‏{‏ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ‏}‏ بالميثاق واعترفتم بلزومه ‏{‏وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ‏}‏ توكيد كقولك‏.‏ أقر فلان شاهداً على نفسه‏.‏ وقيل وأنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم، فيكون إسناد الإقرار إليهم مجازاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء‏}‏ استبعاد لما ارتكبوه بعد الميثاق والإقرار به والشهادة عليه‏.‏ وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره على معنى أنتم بعد ذلك هؤلاء الناقصون، كقولك أنت ذلك الرجل الذي فعل كذا، نزل تغير الصفة منزلة تغير الذات، وعدهم باعتبار ما أسند إليهم حضوراً وباعتبار ما سيحكي عنهم غيباً‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم مّن ديارهم‏}‏ إما حال والعامل فيها معنى الإشارة، أو بيان لهذه الجملة‏.‏ وقيل‏:‏ هؤلاء تأكيد، والخبر هو الجملة‏.‏ وقيل بمعنى الذين والجملة صلته والمجموع هو الخبر، وقرئ ‏{‏تَقْتُلُونَ‏}‏ على التكثير‏.‏ ‏{‏تظاهرون علَيْهِم بالإثم والعدوان‏}‏ حال من فاعل تخرجون، أو من مفعوله، أو كليهما‏.‏ والتظاهر التعاون من الظهر‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بحذف إحدى التاءين‏.‏ وقرئ بإظهارها، وتظهرون بمعنى تتظهرون ‏{‏وَإِن يَأْتُوكُمْ أسارى تفادوهم‏}‏ روي أن قريظة كانوا حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، فإذا اقتتلا عاون كل فريق حلفاءه في القتل وتخريب الديار وإجلاء أهلها، وإذا أسر أحد من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه‏.‏ وقيل معناه‏:‏ إن يأتوكم أسارى في أيدي الشياطين تتصدوا لإنقاذهم بالإرشاد والوعظ مع تضييعكم أنفسكم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ‏}‏‏.‏ وقرأ حمزة ‏{‏أسرى‏}‏ وهو جمع أسير كجريح وجرحى، وأسارى جمعه كسكرى وسكارى‏.‏ وقيل هو أيضاً جمع أسير، وكأنه شبه بالكسلان وجمع جمعه‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وابن عامر «تفدوهم» ‏{‏وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ‏}‏ متعلق بقوله ‏{‏وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم مّن ديارهم‏}‏، وما بينهما اعتراض، والضمير للشأن، أو مبهم ويفسره إخراجهم، أو راجع إلى ما دل عليه تخرجون من المصدر‏.‏ وإخراجهم بدل أو بيان ‏{‏أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب‏}‏ يعني الفداء‏.‏

‏{‏وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ‏}‏ يعني حرمة المقاتلة والإجلاء‏.‏ ‏{‏فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحياة الدنيا‏}‏ كقتل قريظة وسبيهم‏.‏ وإجلاء بني النضير، وضرب الجزية على غيرهم‏.‏ وأصل الخزي ذل يستحيا منه، ولذلك يستعمل في كل منهما‏.‏ ‏{‏وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أَشَدّ العذاب‏}‏ لأن عصيانهم أشد‏.‏ ‏{‏وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ تأكيد للوعيد، أي الله سبحانه وتعالى بالمرصاد لا يغفل عن أفعالهم‏.‏ وقرأ عاصم في رواية المفضل، «تردون» على الخطاب لقوله ‏{‏مّنكُمْ‏}‏‏.‏ وابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر، وخلف ويعقوب «يعملون» على أن الضمير لمن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏أُولَئِكَ الذين اشتروا الحياة الدنيا بالأخرة‏}‏ آثروا الحياة الدنيا على الآخرة‏.‏ ‏{‏فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب‏}‏ بنقض الجزية في الدنيا، والتعذيب في الآخرة‏.‏ ‏{‏وَلاَهُمْ يُنصَرُونَ‏}‏ بدفعهما عنهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب‏}‏ أي التوراة ‏{‏وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل‏}‏ أي‏:‏ أرسلنا على أثره الرسل، كقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى‏}‏‏.‏ يقال قفاه إذا تبعه، وقفاه به إذا أتبعه إياه من القفا، نحو ذنبه من الذنب ‏{‏وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ‏}‏ المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص، والإِخبار بالمغيبات‏.‏ أو الإنجيل، وعيسى بالعبرية أبشوع‏.‏ ومريم بمعنى الخادم، وهو بالعربية من النساء كالزير من الرجال، قال رؤبة‏:‏ قُلْتُ لِزِيْرٍ لَمْ تَصُلْهُ مَرْيمه‏.‏ ووزنه مفعل إذ لم يثبت فعيل ‏{‏وأيدناه‏}‏ وقويناه، وقرئ «آيدناه» بالمد ‏{‏بِرُوحِ القدس‏}‏ بالروح المقدسة كقولك‏:‏ حاتم الجود، ورجل صدق، وأراد به جبريل‏.‏ وقيل‏:‏ روح عيسى عليه الصلاة والسلام، ووصفها به لطهارته عن مس الشيطان، أو لكرامته على الله سبحانه وتعالى ولذلك أضافه إلى نفسه تعالى، أو لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث، أو الإنجيل، أو اسم الله الأعظم الذي كان يحيي به الموتى، وقرأ ابن كثير ‏{‏القدس‏}‏ بالإسكان في جميع القرآن ‏{‏أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم‏}‏ بما لا تحبه‏.‏ يقال هَوِيَ بالكسر هَوىً إذا أحب هُوياً بالفتح هَوىً بالضم إذا سقط‏.‏ ووسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به توبيخاً لهم على تعقيبهم ذاك بهذا وتعجيباً من شأنهم، ويحتمل أن يكون استئنافاً والفاء للعطف على مقدر، ‏{‏استكبرتم‏}‏ عن الإيمان واتباع الرسل‏.‏ ‏{‏فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ‏}‏ كموسى وعيسى عليهما السلام، والفاء للسببية أو للتفصيل ‏{‏وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ‏}‏ كزكريا ويحيى عليهما السلام، وإنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استحضاراً لها في النفوس، فإن الأمر فظيع‏.‏ أو مراعاة للفواصل، أو للدلالة على أنكم بعد فيه فإنكم تحومون حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم، لولا أني أعصمه منكم، ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏}‏ مغشاة بأغطية خلقية لا يصل إليها ما جئت به ولا تفقهه، مستعار من الأغلف الذي لم يختن وقيل‏:‏ أصله غلف جمع غلاف فخفف، والمعنى أنها أوعية للعلم لا تسمع علماً إلا وعته، ولا تعي ما تقول‏.‏ أو نحن مستغنون بما فيها عن غيره‏.‏ ‏{‏بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ‏}‏ رد لما قالوه، والمعنى أنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق، ولكن الله خذلهم بكفرهم فأبطل استعدادهم، أو أنها لم تأب قبول ما تقوله لخلل فيه، بل لأن الله تعالى خذلهم بكفرهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أبصارهم‏}‏، أو هم كفرة ملعونون، فمن أين لهم دعوى العلم والاستغناء عنك‏؟‏ ‏{‏فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ‏}‏ فإيماناً قليلاً يؤمنون، وما مزيده للمبالغة في التقليل، وهو إيمانهم ببعض الكتاب‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالقلة العدم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءهُمْ كتاب مّنْ عِندِ الله‏}‏ يعنى القرآن ‏{‏مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ‏}‏ من كتابهم، وقرئ بالنصب على الحال من كتاب لتخصصه بالوصف، وجواب لما، محذوف دل عليه جواب لما الثانية‏.‏ ‏{‏وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ‏}‏ أي يستنصرون على المشركين ويقولون‏:‏ اللهم انصرنا بنبي آخر الزمان المنعوت، في التوراة‏.‏ أو يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبياً يبعث منهم، وقد قرب زمانه، والسين للمبالغة والإشعار أن الفاعل يسأل ذلك عن نفسه ‏{‏فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ‏}‏ من الحق‏.‏ ‏{‏كَفَرُواْ بِهِ‏}‏ حسداً وخوفاً على الرياسة‏.‏ ‏{‏فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين‏}‏ أي عليهم، وأتى بالمظهر للدلالة على أنهم لعنوا لكفرهم، فتكون اللام للعهد، ويجوز أن تكون للجنس ويدخلون فيه دخولاً أولياً لأن الكلام فيهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏بِئْسَ ماشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ‏}‏ ما نكرة بمعنى شيء مميزة لفاعل بئس المستكن، واشتروا صفته ومعناه باعوا، أو اشتروا بحسب ظنهم، فإنهم ظنوا أنهم خلصوا أنفسهم من العقاب بما فعلوا‏.‏ ‏{‏أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنزَلَ الله‏}‏ هو المخصوص بالذم ‏{‏بَغِيّاً‏}‏ طلباً لما ليس لهم وحسداً، وهو علة ‏{‏أَن يَكْفُرُواْ‏}‏ دون ‏{‏اشتروا‏}‏ للفصل‏.‏ ‏{‏أَن يُنَزّلُ الله‏}‏ لأن ينزل، أي حسدوه على أن ينزل الله‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب بالتخفيف‏.‏ ‏{‏مِن فَضْلِهِ‏}‏ يعني الوحي‏.‏ ‏{‏على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ على من اختاره للرسالة ‏{‏فَبَاؤوا بِغَضَبٍ على غَضَبٍ‏}‏ للكفر والحسد على من هو أفضل الخلق‏.‏ وقيل‏:‏ لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد عيسى عليه السلام، أو بعد قولهم عزير ابنُ الله ‏{‏وللكافرين عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ يراد به إذلالهم، بخلاف عذاب العاصي فإنه طهرة لذنوبه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ‏}‏ يعم الكتب المنزلة بأسرها‏.‏ ‏{‏قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا‏}‏ أي بالتوراة ‏{‏وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ‏}‏ حال من الضمير في قالوا، ووراء في الأصل جعل ظرفاً، ويضاف إلى الفاعل فيراد به ما يتوارى به وهو خلفه، وإلى المفعول فيراد به ما يواريه وهو قدامه، ولذلك عد من الأضداد‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الحق‏}‏ الضمير لما وراءه، والمراد به القرآن ‏{‏مُصَدّقًا لّمَا مَعَهُمْ‏}‏ حال مؤكدة تتضمن رد مقالهم، فإنهم لما كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها ‏{‏قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء الله مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ اعتراض عليهم بقتل الأنبياء مع إدعاء الإيمان بالتوراة والتوراة لا تسوغه، وإنما أسنده إليهم لأنه فعل آبائهم، وأنهم راضون به عازمون عليه‏.‏ وقرأ نافع وحده أن «أنباء الله» مهموزاً في جميع القرآن‏.‏