فصل: تفسير الآيات رقم (64- 77)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 77‏]‏

‏{‏فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏64‏)‏ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ ‏(‏65‏)‏ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ ‏(‏66‏)‏ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏68‏)‏ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ‏(‏69‏)‏ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ‏(‏70‏)‏ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ‏(‏71‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ‏(‏72‏)‏ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ‏(‏73‏)‏ وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ‏(‏74‏)‏ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏75‏)‏ وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ‏(‏76‏)‏ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏فَرَجَعُواْ إلى أَنفُسِهِمْ‏}‏ وراجعوا عقولهم‏.‏ ‏{‏فَقَالُواْ‏}‏ فقال بعضهم لبعض‏.‏ ‏{‏إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون‏}‏ بهذا السؤال أو بعبادة من لا ينطق ولا يضر ولا ينفع لا من ظلمتموه بقولكم ‏{‏إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين‏}‏‏.‏

‏{‏ثُمَّ نُكِسُواْ على رُؤُوسِهِمْ‏}‏ انقلبوا إلى المجادلة بعدما استقاموا بالمراجعة، شبه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء مستعلياً على أعلاه‏.‏ وقرئ ‏{‏نُكِّسُواْ‏}‏ بالتشديد و‏{‏نكسوا‏}‏ أي نكسوا أنفسهم‏.‏ ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلآءِ يِنْطِقُونَ‏}‏ فكيف تأمرنا بسؤالها وهو على إرادة القول‏.‏

‏{‏قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ‏}‏ إنكار لعبادتهم لها بعد اعترافهم بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر فإنه ينافي الألوهية‏.‏

‏{‏أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ تضجر منه على إصرارهم بالباطل البين، و‏{‏أُفّ‏}‏ صوت المتضجر ومعناه قبحاً ونتناً واللام لبيان المتأفف له‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ قبح صنيعكم‏.‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أخذا في المضارة لما عجزوا عن المحاجة‏.‏ ‏{‏حَرِّقُوهُ‏}‏ فإن النار أهول ما يعاقب به‏.‏ ‏{‏وانصروا ءَالِهَتَكُمْ‏}‏ بالانتقام لها‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ فاعلين‏}‏ إن كنتم ناصرين لها نصراً مؤزراً، والقائل فيهم رجل من أكراد فارس اسمه هيون خسف به الأرض وقيل نمروذ‏.‏

‏{‏قُلْنَا يَا نَارُ كُونِى بَرْداً وسلاما على إبراهيم‏}‏ ذات برد وسلام أي ابردي بردا غير ضار، وفيه مبالغات جعل النار المسخرة لقدرته مأمورة مطيعة وإقامة ‏{‏كُونِى‏}‏ ذات برد مقام أبردي، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه‏.‏ وقيل نصب ‏{‏سَلاَماً‏}‏ بفعله أي وسلمنا سلاماً عليه‏.‏ روي أنهم بنوا حظيرة بكوثى وجمعوا فيها ناراً عظيمة ثم وضعوه في المنجنيق مغلولاً فرموا به فيها فقال له جبريل‏:‏ هل لك حاجة، فقال‏:‏ أما إليك فلا فقال‏:‏ فسل ربك فقال‏:‏ حسبي من سؤالي علمه بحالي، فجعل الله تعالى ببركة قوله الحظيرة روضة ولم يحترق منه إلا وثاقه، فاطلع عليه نمرود من الصرح فقال إني مقرب إلى إلهك فذبح أربعة آلاف بقرة وكف عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام‏.‏ وكان إذ ذاك ابن ست عشرة سنة وانقلاب النار هواء طيباً ليس ببدع غير أنه هكذا على خلاف المعتاد فهو إذن من معجزاته‏.‏ وقيل كانت النار بحالها لكنه سبحانه وتعالى دفع عنه أذاها كما ترى في السمندل ويشعر به قوله على إبراهيم‏.‏

‏{‏وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً‏}‏ مكراً في إضراره‏.‏ ‏{‏فجعلناهم الأخسرين‏}‏ أخسر من كل خاسر لما عاد سعيهم برهاناً قاطعاً على أنهم على الباطل وإبراهيم على الحق وموجباً لمزيد درجته واستحقاقهم أشد العذاب‏.‏

‏{‏ونجيناه وَلُوطاً إِلَى الأرض التى بَارَكْنَا فِيهَا للعالمين‏}‏ أي من العراق إلى الشام وبركاته العامة أن أكثر الأنبياء بعثوا فيه فانتشرت في العالمين شرائعهم التي هي مبادي الكمالات والخيرات الدينية والدنيوية‏.‏

وقيل كثرة النعم والخصب الغالب‏.‏ روي أنه عليه الصلاة والسلام نزل بفلسطين ولوط عليه الصلاة والسلام بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة‏.‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً‏}‏ عطية فهي حال منهما أو ولد ولد، أو زيادة على ما سأل وهو إسحاق فتختص بيعقوب ولا بأس به للقرينة‏.‏ ‏{‏وَكُلاًّ‏}‏ يعني الأربعة‏.‏ ‏{‏جَعَلْنَا صالحين‏}‏ بأن وفقناهم للصلاح وحملناهم عليه فصاروا كاملين‏.‏

‏{‏وجعلناهم أَئِمَّةً‏}‏ يقتدى بهم‏.‏ ‏{‏يَهْدُونَ‏}‏ الناس إلى الحق‏.‏ ‏{‏بِأَمْرِنَا‏}‏ لهم بذلك وأرسلنا إياهم حتى صاروا مكملين‏.‏ ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات‏}‏ ليحثوهم عليها فيتم كمالها بانضمام العمل إلى العلم، وأصله أن تفعل الخيرات ثم فعلا الخيرات وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَاء الزكواة‏}‏ وهو من عطف الخاص على العام للتفضيل، وحذفت تاء الإِقامة المعوضة من إحدى الألفين لقيام المضاف إليه مقامها‏.‏ ‏{‏وَكَانُواْ لَنَا عابدين‏}‏ موحدين في العبادة ولذلك قدم الصلة‏.‏

‏{‏وَلُوطاً اتيناه حُكْماً‏}‏ حكمة أو نبوة أو فصلاً بين الخصوم‏.‏ ‏{‏وَعِلْماً‏}‏ بما ينبغي علمه للأنبياء‏.‏ ‏{‏ونجيناه مِنَ القرية‏}‏ قرية سدوم‏.‏ ‏{‏التى كَانَت تَعْمَلُ الخبائث‏}‏ يعني اللواطة وصفها بصفة أهلها أو أسندها إليها على حذف المضاف وإقامتها مقامه ويدل عليه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فاسقين‏}‏ فإنه كالتعليل له‏.‏

‏{‏وأدخلناه فِى رَحْمَتِنَا‏}‏ في أهل رحمتنا أو جنتنا‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ مِنَ الصالحين‏}‏ الذين سبقت لهم منا الحسنى‏.‏

‏{‏وَنُوحاً إِذْ نادى‏}‏ إذ دعا الله سبحانه على قومه بالهلاك‏.‏ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل المذكورين‏.‏ ‏{‏فاستجبنا لَهُ‏}‏ دعاءه‏.‏ ‏{‏فنجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم‏}‏ من الطوفان أو أذى قومه والكرب الغم الشديد‏.‏

‏{‏ونصرناه‏}‏ مطاوع انتصر أي جعلناه منتصراً‏.‏ ‏{‏مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فأغرقناهم أَجْمَعِينَ‏}‏ لاجتماع الأمرين تكذيب الحق والانهماك في الشر، ولعلهما لم يجتمعا في قوم إلا وأهلكهم الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏وَدَاوُودَ وسليمان إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الحرث‏}‏ في الزرع، وقيل في كرم تدلت عناقيده‏.‏ ‏{‏إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم‏}‏ رعته ليلاً‏.‏ ‏{‏وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهدين‏}‏ لحكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما عالمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏ففهمناها سليمان‏}‏ الضمير للحكومة أو للفتوى وقرئ «فأفهمناها»‏.‏ روي أن داود حكم بالغنم لصاحب الحرث فقال سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة‏:‏ غير هذا أرفق بهما فأمر بدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأشعارها والحرث إلى أرباب الغنم يقومون عليه حتى يعود إلى ما كان ثم يترادان‏.‏ ولعلهما قالا اجتهادا والأول نظير قول أبي حنيفة في العبد الجاني والثاني مثل قول الشافعي بغرم الحيلولة في العبد المغصوب إذا أبق، وحكمه في شرعنا عند الشافعي وجوب ضمان المتلف بالليل إذ المعتاد ضبط الدواب ليلاً وهكذا قضى النبي صلى الله عليه وسلم لما دخلت ناقة البراء حائطاً وأفسدته فقال ‏"‏ على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل الماشية حفظها بالليل ‏"‏ وعند أبي حنيفة لا ضمان إِلاَّ أن يكون معها حافظ لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ جرح العجماء جبار ‏"‏ ‏{‏وَكُلاًّ ءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً‏}‏ دليل على أن خطأ المجتهد لا يقدح فيه‏.‏ وقيل على أن كل مجتهد مصيب وهو مخالف لمفهوم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ففهمناها‏}‏ ولولا النقل لاحتمل توافقهما على أن قوله ففهمناها لإِظهار ما تفضل عليه في صغره‏.‏ ‏{‏وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الجبال يُسَبّحْنَ‏}‏ يقدسن الله معه إما بلسان الحال أو بصوت يتمثل له، أو بخلق الله تعالى فيها الكلام‏.‏ وقيل يسرن معه من السباحة وهو حال أو استئناف لبيان وجه التسخير و‏{‏مَّعَ‏}‏ متعلقة ب ‏{‏سَخَّرْنَا‏}‏ أو ‏{‏يُسَبِّحْنَ‏}‏ ‏{‏والطير‏}‏ عطف على ‏{‏الجبال‏}‏ أو مفعول معه‏.‏ وقرئ بالرفع على الإِبتداء أو العطف على الضمير على ضعف‏.‏ ‏{‏وَكُنَّا فاعلين‏}‏ لأمثاله فليس ببدع منا وإن كان عجباً عندكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ‏}‏ عمل الدرع وهو في الأصل اللباس قال‏:‏

البِسْ لَكُل حَالَة لَبُوسهَا *** إِمَّا نعيمها وَإِمَا بُوسها

قيل كانت صفائح فحلقها وسردها‏.‏ ‏{‏لَكُمْ‏}‏ متعلق بعلم أو صفة ‏{‏للبوس‏}‏ ‏{‏لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ‏}‏ بدل منه بدل الاشتمال بإعادة الجار، والضمير لداود عليه الصلاة والسلام أو ‏{‏للبوس‏}‏ وفي قراءة ابن عامر وحفص بالتاء للصنعة أو لل ‏{‏بوس‏}‏ على تأويل الدرع وفي قراءة أبي بكر ورويس بالنون لله عز وجل ‏{‏بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شاكرون‏}‏ ذلك أمر أخرجه في صورة الاستفهام للمبالغة والتقريع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏ولسليمان‏}‏ وسخرنا له ولعل اللام فيه دون الأول لأن الخارق فيه عائد إلى سليمان نافع له، وفي الأول أمر يظهر في الجبال والطير مع داود وبالإِضافة إليه‏.‏ ‏{‏الريح عَاصِفَةً‏}‏ شديدة الهبوب من حيث إنها تبعد بكرسيه في مدة يسيرة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ‏}‏ وكانت رخاء في نفسها طيبة‏.‏ وقيل كانت رخاء تارة وعاصفة أخرى حسب إرادته‏.‏ ‏{‏تَجْرِى بِأَمْرِهِ‏}‏ بمشيئته حال ثانية أو بدل من الأولى أو حال من ضميرها‏.‏ ‏{‏إِلَى الأرض التى بَارَكْنَا فِيهَا‏}‏ إلى الشام رواحاً بعدما سارت به منه بكرة‏.‏ ‏{‏وَكُنَّا بِكُلِّ شَئ عالمين‏}‏ فنجريه على ما تقتضيه الحكمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الشياطين مَن يَغُوصُونَ لَهُ‏}‏ في البحار ويخرجون نفائسها، ‏{‏وَمِنْ‏}‏ عطف على ‏{‏الريح‏}‏ أو مبتدأ خبره ما قبله وهي نكرة موصوفة‏.‏ ‏{‏وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك‏}‏ ويتجاوزون ذلك إلى أعمال أخر كبناء المدن والقصور واختراع الصنائع الغريبة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن محاريب وتماثيل‏}‏ ‏{‏وَكُنَّا لَهُمْ حافظين‏}‏ أن يزيغوا عن أمره أو يفسدوا على ما هو مقتضى جبلتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِىَ الضر‏}‏ بأني مسني الضر، وقرئ بالكسر على إضمار القول أو تضمين النداء معناه و‏{‏الضر‏}‏ بالفتح شائع في كل ضرر، وبالضم خاص بما في النفس كمرض وهزال‏.‏ ‏{‏وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين‏}‏ وصف ربه بغاية الرحمة بعدما ذكر نفسه بما يوجبها واكتفى بذلك عن عرض المطلوب لطفاً في السؤال، وكان رومياً من ولد عيص بن إسحاق استنبأه الله وكثر أهله وماله فابتلاه الله بهلاك أولاده بهدم بيت عليهم وذهاب أمواله، والمرض في بدنه ثماني عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة أو سبعاً وسبعة أشهر وسبع ساعات‏.‏ روي أن امرأته ماخير بنت ميشا بن يوسف، أو رحمة بنت إفراثيم بن يوسف قالت له يوماً‏:‏ لو دعوت الله فقال‏:‏ كم كانت مدة الرخاء فقالت ثمانين سنة فقال‏:‏ أستحيي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏فاستجبنا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ‏}‏ بالشفاء من مرضه‏.‏ ‏{‏وَءَاتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ‏}‏ بأن ولد له ضعف ما كان أو أحيي ولده وولد له منهم نوافل‏.‏ ‏{‏رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وذكرى للعابدين‏}‏ رحمة على أيوب وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر فيثابوا كما أثيب، أو لرحمتنا للعابدين فإنا نذكرهم بالإِحسان ولا ننساهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏وإسماعيل وَإِدْرِيسَ وَذَا الكفل‏}‏ يعني إلياس، وقيل يوشع، وقيل زكريا سمي به لأنه كان ذا حظ من الله تعالى أو تكفل أمته أو له ضعف عمل أنبياء زمانه وثوابهم، والكفل يجيء بمعنى النصيب والكفالة والضعف‏.‏ ‏{‏كُلٌّ‏}‏ كل هؤلاء‏.‏ ‏{‏مِّّنَ الصابرين‏}‏ على مشاق التكاليف وشدائد النوب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏وأدخلناهم فِى رَحْمَتِنَا‏}‏ يعني النبوة أو نعمة الآخرة‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ مِّنَ الصالحين‏}‏ الكاملين في الصلاح وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإن صلاحهم معصوم عن كدر الفساد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏وَذَا النون‏}‏ وصاحب الحوت يونس بن متى ‏{‏إِذ ذَّهَبَ مغاضبا‏}‏ لقومه لما برم بطول دعوتهم وشدة شكيمتهم وتمادي إصرارهم مهاجراً عنهم، قبل أن يؤمر وقبل وعدهم بالعذاب فلم يأتهم لميعادهم بتوبتهم ولم يعرف الحال فظن أنه كذبهم وغضب من ذلك، وهو من بناء المغالبة للمبالغة أو لأنه أغضبهم بالمهاجرة لخوفهم لحوق العذاب عندها وقرئ «مغضباً»‏.‏ ‏{‏فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ‏}‏ لن نضيق عليه أو لن نقضي عليه بالعقوبة من القدر، ويعضده أنه قرئ مثقلاً أو لن نعمل فيه قدرتنا؛ وقيل هو تمثيل لحاله بحال من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمرنا، أو خطرة شيطانية سبقت إلى وهمه فسميت ظناً للمبالغة‏.‏ وقرئ بالياء وقرأ يعقوب على البناء للمفعول وقرئ به مثقلاً‏.‏ ‏{‏فنادى فِى الظلمات‏}‏ في الظلمة الشديدة المتكاثفة أو ظلمات بطن الحوت والبحر والليل‏.‏ ‏{‏أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ‏}‏ بأنه لا إله إلا أنت‏.‏ ‏{‏سبحانك‏}‏ من أن يعجزك شيء‏.‏ ‏{‏إِنِّى كُنتُ مِنَ الظالمين‏}‏ لنفسي بالمبادرة إلى المهاجرة‏.‏ وعن النبي عليه الصلاة والسلام ‏"‏ ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له ‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏فاستجبنا لَهُ ونجيناه مِنَ الغم‏}‏ بأن قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات كان في بطنه‏.‏ وقيل ثلاثة أيام والغم غم الالتقام وقيل غم الخطيئة‏.‏ ‏{‏وكذلك نُنْجِى المؤمنين‏}‏ من غموم دعوا الله فيها بالإِخلاص وفي الإمام‏:‏ «نجي» ولذلك أخفى الجماعة النون الثانية فإنها تخفى مع حروف الغم، وقرأ ابن عامر وأبو بكر بتشديد الجيم على أن أصله ‏{‏نُنَجّى‏}‏ فحذفت النون الثانية كما حذفت التاء الثانية في ‏{‏تظاهرون‏}‏، وهي وإن كانت فاء فحذفها أوقع من حذف حرف المضارعة التي لمعنى ولا يقدح فيه اختلاف حركتي النونين فإن الداعي إلى الحذف اجتماع المثلين مع تعذر الإِدغام وامتناع الحذف تتجافى لخوف اللبس‏.‏ وقيل هو ماض مجهول أسند إلى ضمير المصدر وسكن آخره تخفيفاً ورد بأنه لا يسند إلى المصدر والمفعول مذكور والماضي لا يسكن آخره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً‏}‏ وحيداً بلا ولد يرثني‏.‏ ‏{‏وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين‏}‏ فإن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ‏}‏ أي أصلحناها للولادة بعد عقرها أو ل ‏{‏زَكَرِيَّا‏}‏ بتحسين خلقها وكانت حردة‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ‏}‏ يعني المتوالدين أو المذكورين من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الخيرات‏}‏ يبادرون إلى أبواب الخير‏.‏ ‏{‏وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً‏}‏ ذوي رغب ورهب، أو راغبين في الثواب راجين للإِجابة، أو في الطاعة وخائفين العقاب أو المعصية‏.‏ ‏{‏وَكَانُواْ لَنَا خاشعين‏}‏ مخبتين أو دائبين الوجل، والمعنى أنهم نالوا من الله ما نالوا بهذه الخصال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏والتى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا‏}‏ من الحلال والحرام يعني مريم‏.‏ ‏{‏فَنَفَخْنَا فِيهَا‏}‏ أي عيسى عليه الصلاة والسلام فيها أي أحييناه في جوفها، وقيل فعلنا النفخ فيها‏.‏ ‏{‏مِن رُّوحِنَا‏}‏ من الروح الذي هو بأمرنا وحده أو من جهة روحنا يعني جبريل عليه الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏وجعلناها وابنها‏}‏ أي قصتهما أو حالهما ولذلك وحد قوله‏:‏ ‏{‏ءَايَةً للعالمين‏}‏ فإن من تأمل حالهما تحقق كمال قدرة الصانع تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ‏}‏ أي إن ملة التوحيد والإِسلام ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها فكونوا عليها‏.‏ ‏{‏أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ غير مختلفة فيما بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا مشاركة لغيرها في صحة الاتباع‏.‏ وقرئ ‏{‏أُمَتُكُمْ‏}‏ بالنصب على البدل و‏{‏أُمَّةٌ‏}‏ بالرفع على الخبر وقرئتا بالرفع عن أنهما خبران‏.‏ ‏{‏وَأَنَاْ رَبُّكُمْ‏}‏ لا إله لكم غيري‏.‏ ‏{‏فاعبدون‏}‏ لا غير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ‏}‏ صرفه إلى الغيبة التفاتاً لينعى على الذين تفرقوا في الدين وجعلوا أمره قطعاً موزعة بقبيح فعلهم إلى غيرهم‏.‏ ‏{‏كُلٌّ‏}‏ من الفرق المتحزبة‏.‏ ‏{‏إِلَيْنَا راجعون‏}‏ فنجازيهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ بالله ورسله‏.‏ ‏{‏فَلاَ كُفْرَانَ‏}‏ فلا تضييع‏.‏ ‏{‏لِسَعْيِهِ‏}‏ استعير لمنع الثواب كما استعير الشكر لإِعطائه ونفي الجنس للمبالغة‏.‏ ‏{‏وَإِنَّا لَهُ‏}‏ لسعيه‏.‏ ‏{‏كاتبون‏}‏ مثبتون في صحيفة عمله لا يضيع بوجه ما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ‏}‏ وممتنع على أهلها غير متصور منهم‏.‏ وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي «وَحِرْمٌ» بكسر الحاء وإسكان الراء وقرئ «حرم»‏.‏ ‏{‏أهلكناها‏}‏ حكمنا بإهلاكها أو وجدناها هالكة‏.‏ ‏{‏أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ رجوعهم إلى التوبة أو الحياة ولا صلة، أو عدم رجوعهم للجزاء وهو مبتدأ خبره حرام أو فاعل له ساد مسد خبره أو دليل عليه وتقديره‏:‏ توبتهم أو حياتهم أو عدم بعثهم، أو لأنهم ‏{‏لاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ ولا ينيبون ‏{‏وَحَرَامٌ‏}‏ خبر محذوف أي وحرام عليها ذاك وهو المذكور في الآية المتقدمة ويؤيده القراءة بالكسر‏.‏ وقيل ‏{‏حَرَامٌ‏}‏ عزم وموجب عليهم ‏{‏أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ‏}‏ متعلق ب ‏{‏حَرَامٌ‏}‏ أو بمحذوف دل الكلام عليه، أو ب ‏{‏لاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ أي يستمر الامتناع أو الهلاك أو عدم الرجوع إلى قيام الساعة وظهور أماراتها‏:‏ وهو فتح سد يأجوج ومأجوج وهي حتى التي يحكى الكلام بعدها، والمحكي هي الجملة الشرطية‏.‏ وقرأ ابن عامر ويعقوب ‏{‏فُتِّحَتْ‏}‏ بالتشدد‏.‏ ‏{‏وَهُمْ‏}‏ يعني يأجوج ومأجوج أو الناس كلهم‏.‏ ‏{‏مِّنْ كُلِّ حَدْبٍ‏}‏ نشز من الأرض، وقرئ جدث وهو القبر‏.‏ ‏{‏يَنسِلُونَ‏}‏ يسرعون من نسلان الذئب وقرئ بضم السين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 104‏]‏

‏{‏وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏97‏)‏ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ‏(‏98‏)‏ لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏99‏)‏ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏100‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ‏(‏101‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ‏(‏102‏)‏ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏103‏)‏ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

‏{‏واقترب الوعد الحق‏}‏ وهو القيامة‏.‏ ‏{‏فَإِذَا هِىَ شاخصة أبصار الذين كَفَرُواْ‏}‏ جواب الشرط و«إذا» للمفاجأة تسد مسد الفاء الجزائية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ‏}‏ فإذا جاءت الفاء معها تظاهرتا على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد، والضمير للقصة أو مبهم يفسره الأبصار‏.‏ ‏{‏يَا وَيْلَنَا‏}‏ مقدر بالقول واقع موقع الحال من الموصول‏.‏ ‏{‏قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مّنْ هذا‏}‏ لم نعلم أنه حق‏.‏ ‏{‏بَلْ كُنَّا ظالمين‏}‏ لأنفسنا بالإِخلال بالنظر وعدم الاعتداد بالنذر‏.‏

‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ يحتمل الأوثان وإبليس وأعوانه لأنهم بطاعتهم لهم في حكم عبدتهم، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام لما تلا الآية على المشركين قال له ابن الزبعري‏:‏ قد خصمتك ورب الكعبة أليس اليهود عبدوا عزيراً والنصارى عبدوا المسيح وبنو مليح عبدوا الملائكة، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك ‏"‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى‏}‏ الآية‏.‏ وعلى هذا يعم الخطاب ويكون ‏{‏مَا‏}‏ مؤولاً ب ‏{‏مِنْ‏}‏ أو بما يعمه، ويدل عليه ما روي أن ابن الزبعري قال‏:‏ هذا شيء لآلهتنا خاصة أو لكل من عبد من دون الله فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ بل لكل من عبد من دون الله ‏"‏ ويكون قوله ‏{‏إِنَّ الذين‏}‏ بياناً للتجوز أو للتخصيص فأخر عن الخطاب‏.‏ ‏{‏حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏ ما يرمي به إليها وتهيج به من حصبه يحصبه إذا رماه بالحصباء وقرئ بسكون الصاد وصفاً بالمصدر‏.‏ ‏{‏أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ‏}‏ استئناف أو بدل من ‏{‏حَصَبُ جهنم‏}‏ واللام معوضة من على للاختصاص والدلالة على أن ورودهم لأجلها‏.‏

‏{‏لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ ءََالِهَةً مَّا وَرَدُوهَا‏}‏ لأن المؤاخذ بالعذاب لا يكون إلهاً‏.‏ ‏{‏وَكُلٌّ فِيهَا خالدون‏}‏ لا خلاص لهم عنها‏.‏

‏{‏لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ‏}‏ أنين وتنفس شديد وهو من إضافة فعل البعض إلى الكل للتغلب إن أريد ‏{‏مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ الأصنام‏.‏ ‏{‏وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ من الهول وشدة العذاب‏.‏ وقيل ‏{‏لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ ما يسرهم‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى‏}‏ أي الخصلة الحسنى وهي السعادة أو التوفيق بالطاعة أو البشرى بالجنة‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ‏}‏ لأنهم يرفعون إلى أعلى عليين‏.‏ روي أن علياً كرم الله وجهه خطب وقرأ هذه الآية ثم قال‏:‏ أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وابن الجراح، ثم أقيمت الصلاة فقام يجر رداءه ويقول‏:‏

‏{‏لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا‏}‏ وهو بدل من ‏{‏مُبْعَدُونَ‏}‏ أو حال من ضميره سيق للمبالغة في إبعادهم عنها، والحسيس صوت يحس به‏.‏ ‏{‏وَهُمْ فِيمَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خالدون‏}‏ دائمون في غاية التنعم وتقديم الظرف للاختصاص والاهتمام به‏.‏

‏{‏لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر‏}‏ النفخة الأخيرة لقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور فَفَزِعَ مَنْ فِى السموات وَمَن فِى الأرض‏}‏ أو الانصراف إلى النار أو حين يطبق على النار أو يذبح الموت‏.‏ ‏{‏وتتلقاهم الملئكة‏}‏ تستقبلهم مهنئين لهم‏.‏ ‏{‏هذا يَوْمُكُم‏}‏ يوم ثوابكم وهو مقدر بالقول‏.‏ ‏{‏الذى كُنتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏ في الدنيا‏.‏

‏{‏يَوْمَ نَطْوِى السماء‏}‏ مقدر باذكر أو ظرف ل ‏{‏لاَ يَحْزُنُهُمُ‏}‏، أو ‏{‏تتلقاهم‏}‏ أو حال مقدرة من العائد المحذوف من ‏{‏تُوعَدُونَ‏}‏، والمراد بالطي ضد النشر أو المحو من قولك اطو عني هذا الحديث، وذلك لأنها نشرت مظلة لبني آدم فإذا انتقلوا قوضت عنهم، وقرئ بالياء والبناء للمفعول‏.‏ ‏{‏كَطَىِّ السجل لِلْكِتَابِ‏}‏ طياً كطي الطومار لأجل الكتابة أو لما يكتب أو كتب فيه، ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي وحفص على الجمع أي للمعاني الكثيرة المكتوبة فيه‏.‏ وقيل ‏{‏السجل‏}‏ ملك يطوي كتب الأعمال إذا رفعت إليه أو كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقرئ ‏{‏السجل‏}‏ كالدلو و‏{‏السجل‏}‏ كالعتل وهما لغتان فيه‏.‏ ‏{‏كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ‏}‏ أي نعيد ما خلقناه مبتدأ إعادة مثل بدئنا إياه في كونهما إيجاداً عن العدم، أو جمعاً بين الأجزاء المتبددة والمقصود بيان صحة الإِعادة بالقياس على الإِبداء لشمول الإِمكان الذاتي المصحح للمقدورية‏.‏ وتناول القدرة القديمة لهما على السواء، و«ما» كافة أو مصدرية وأول مفعول ل ‏{‏بَدَأْنَا‏}‏ أو لفعل يفسره ‏{‏نُّعِيدُهُ‏}‏ أو موصولة والكاف متعلقة بمحذوف يفسره ‏{‏نُّعِيدُهُ‏}‏ أي نعيد مثل الذي بدأنا وأول خلق ظرف ل ‏{‏بَدَأْنَا‏}‏ أو حال من ضمير الموصول المحذوف‏.‏ ‏{‏وَعْداً‏}‏ مقدر بفعله تأكيداً ل ‏{‏نُّعِيدُهُ‏}‏ أو منتصب به لأنه عدة بالإِعادة‏.‏ ‏{‏عَلَيْنَا‏}‏ أي علينا إنجازه‏.‏ ‏{‏إِنَّا كُنَّا فاعلين‏}‏ ذلك لا محالة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزبور‏}‏ في كتاب داود عليه السلام‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ الذكر‏}‏ أي التوراة، وقيل المراد ب ‏{‏الزبور‏}‏ جنس الكتب المنزل وب ‏{‏الذكر‏}‏ اللوح المحفوظ‏.‏ ‏{‏إِنَّ الأرض‏}‏ أي أرض الجنة أو الأَرض المقدسة‏.‏ ‏{‏يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصالحون‏}‏ يعني عامة المؤمنين أو الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها، أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ‏(‏106‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ فِى هذا‏}‏ أي فيما ذكر من الأخبار والمواعظ والمواعيد ‏{‏لبلاغا‏}‏ لكفاية أو لسبب بلوغ إلى البغية‏.‏ ‏{‏لِّقَوْمٍ عابدين‏}‏ همهم العبادة دون العادة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين‏}‏ لأن ما بعثت به سبب لإسعادهم وموجب لصلاح معاشهم ومعادهم، وقيل كونه رحمة للكفار أمنهم به من الخسف والمسخ وعذاب الاستئصال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله واحد‏}‏ أي ما يوحى إلي إلا أنه لا إله لكم إلا إله واحد، وذلك لأن المقصود الأصلي من بعثته مقصور على التوحيد فالأولى لقصر الحكم على الشيء والثانية على العكس‏.‏ ‏{‏فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ‏}‏ مخلصون العبادة لله تعالى على مقتضى الوحي المصدق بالحجة، وقد عرفت أن التوحيد مما يصح إثباته بالسمع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ عن التوحيد‏.‏ ‏{‏فَقُلْ ءَاذَنتُكُمْ‏}‏ أي أعلمتكم ما أمرت به أو حربي لكم‏.‏ ‏{‏على سَوَاءٍ‏}‏ مستوين في الإِعلام به أو مستوين أنا وأنتم في العلم بما أعلمتكم به، أو في المعاداة أو إيداناً على سواء‏.‏ وقيل أعلمتكم أني على ‏{‏سَوَآء‏}‏ أي عدل واستقامة رأي بالبرهان النير‏.‏ ‏{‏وَإِنْ أَدْرِى‏}‏ وما أدري‏.‏ ‏{‏أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ‏}‏ من غلبة المسلمين أو الحشر لكنه كائن لا محالة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول‏}‏ ما تجاهرون به من الطعن في الإِسلام‏.‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ‏}‏ من الإِحن والأحقاد للمسلمين فيجازيكم عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏111‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ‏}‏ وما أدري لعل تأخير جزائكم استدراج لكم وزيادة في افتتانكم أو امتحان لينظر كيف تعملون‏.‏ ‏{‏ومتاع إلى حِينٍ‏}‏ ونتمتع إلى أجل مقدر تقتضيه مشيئته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

‏{‏قُل رَّبِّ احكم بالحق‏}‏ اقض بيننا وبين أهل مكة بالعدل المقتضى لاستعجال العذاب والتشديد عليهم، وقرأ حفص ‏{‏قَالَ‏}‏ على حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقرئ ‏{‏رَبُّ‏}‏ بالضم و«ربي» احكم على بناء التفضيل و‏{‏احكم‏}‏ من الأحكام‏.‏ ‏{‏وَرَبُّنَا الرحمن‏}‏ كثير الرحمة على خلقه‏.‏ ‏{‏المستعان‏}‏ المطلوب منه المعونة‏.‏ ‏{‏على مَا تَصِفُونَ‏}‏ من الحال بأن الشوكة تكون لهم وأن راية الإِسلام تخفق أياماً ثم تسكن، وأن الموعد به لو كان حقاً لنزل بهم فأجاب الله تعالى دعوة رسوله صلى الله عليه وسلم فخيب أمانيهم ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم عليهم، وقرئ بالياء‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ اقترب حاسبه الله حساباً يسيراً وصافحه وسلم عليه كل نبي ذكر اسمه في القرآن ‏"‏ والله تعالى أعلم‏.‏

سورة الحج

مكية إلا ست آيات من ‏{‏هذان خصمان‏}‏ إلى ‏{‏صراط الحميد‏}‏‏.‏

وآيها ثمان وسبعون آية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة‏}‏ تحريكها للأشياء على الإِسناد المجازي، أو تحريك الأشياء فيها فأضيفت إليها إضافة معنوية بتقدير في أو إضافة المصدر إلى الظرف على إجرائه مجرى المفعول به‏.‏ وقيل هي زلزلة تكون قبيل طلوع الشمس من مغربها وإضافتها إلى الساعة لأنها من أشراطها‏.‏ ‏{‏شَئ عَظِيمٌ‏}‏ هائل علل أمرهم بالتقوى بفظاعة الساعة ليتصوروها بعقولهم ويعلموا أنه لا يؤمنهم منها سوى التدرع بلباس التقوى فيبقوا على أنفسهم ويتقوها بملازمة التقوى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ‏}‏ تصوير لهولها والضمير لل ‏{‏زَلْزَلَةَ‏}‏، و‏{‏يَوْمٍ‏}‏ منصوب ب ‏{‏تَذْهَلُ‏}‏، وقرئ ‏{‏تَذْهَلُ‏}‏ و‏{‏تَذْهَلُ‏}‏ مجهولاً ومعروفاً أي تذهلها الزلزلة، والذهول الذهاب عن الأمر بدهشة، والمقصود الدلالة على أن هولها بحيث إذا دهشت التي ألقمت الرضيع ثديها نزعته من فيه وذهلت عنه، و‏{‏مَا‏}‏ موصولة أو مصدرية‏.‏ ‏{‏وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا‏}‏ جنينها‏.‏ ‏{‏وَتَرَى الناس سكارى‏}‏ كأنهم سكارى‏.‏ ‏{‏وَمَا هُم بسكارى‏}‏ على الحقيقة‏.‏ ‏{‏ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ‏}‏ فأرهقهم هوله بحيث طير عقولهم وأذهب تمييزهم، وقرئ ‏{‏تَرَى‏}‏ من أريتك قائماً أو رؤيت قائما بنصب الناس ورفعه على أنه نائب مناب الفاعل، وتأنيثه على تأويل الجماعة وإفراده بعد جمعه لأن الزلزلة يراها الجميع، وأثر السكر إنما يراه كل أحد على غيره وقرأ حمزة والكسائي «سكرى» كعطشى إجراء للسكر مجرى العلل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ نزلت في النضر بن الحارث وكان جدلاً يقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين ولا بعث بعد الموت هي تعمه وأضرابه‏.‏ ‏{‏وَيَتَّبِعْ‏}‏ في المجادلة أو في عامة أحواله‏.‏ ‏{‏كُلَّ شيطان مَّرِيدٍ‏}‏ متجرد للفساد وأصله العري‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏كُتِبَ عَلَيْهِ‏}‏ على الشيطان‏.‏ ‏{‏أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ‏}‏ تبعه والضمير للشأن‏.‏ ‏{‏فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ‏}‏ خبر لمن أو جواب له، والمعنى كتب عليه إضلال من يتولاه لأنه جبل عليه، وقرئ بالفتح على تقدير فشأنه أنه يضله لا على العطف فإنه يكون بعد تمام الكلام‏.‏ وقرئ بالكسر في الموضعين على حكاية المكتوب أو إضمار القول أو تضمين الكتب معناه‏.‏ ‏{‏وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير‏}‏ بالحمل على ما يؤدي إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ البعث‏}‏ من إمكانه وكونه مقدوراً، وقرئ ‏{‏مّنَ البعث‏}‏ بالتحريك كالجلب‏.‏ ‏{‏فَإِنَّا خلقناكم‏}‏ أي فانظروا في بدء خلقكم فإنه يزيح ريبكم فإنا خلقناكم‏.‏ ‏{‏مّن تُرَابٍ‏}‏ بخلق آدم منه، أو الأغذية التي يتكون منها المني‏.‏ ‏{‏ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ‏}‏ مني من النطف وهو الصب‏.‏ ‏{‏ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ‏}‏ قطعة من الدم جامدة‏.‏ ‏{‏ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ‏}‏ قطعة من اللحم وهي في الأصل قدر مما يمضغ‏.‏ ‏{‏مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ‏}‏ مسواة لا نقص فيها ولا عيب وغير مسواة أو تامة وساقطة أو مصورة وغير مصورة‏.‏ ‏{‏لّنُبَيّنَ لَكُمْ‏}‏ بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا وأن ما قبل التغير والفساد والتكون مرة قبلها أخرى، وأن من قدر على تغييره وتصويره أولاً قدر على ذلك ثانياً، وحذف المفعول إيماء إلى أن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وحكمته ما لا يحيط به الذكر‏.‏ ‏{‏وَنُقِرُّ فِى الأرحام مَا نَشَاء‏}‏ أن نقره‏.‏ ‏{‏إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ هو وقت الوضع وأدناه بعد ستة أشهر وأقصاه أربع سنين، وقرئ «ونقره» بالنصب وكذا قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً‏}‏ عطفاً على «نبيِّن» كأن خلقهم مدرجاً لغرضين تبيين القدرة وتقريرهم في الأرحام حتى يولدوا وينشؤوا ويبلغوا حد التكليف، وقرئا بالياء رفعاً ونصباً ويقر بالياء ‏{‏وَنُقِرُّ‏}‏ من قررت الماء إذا صببته، و‏{‏طِفْلاً‏}‏ حال أجريت على تأويل كل واحد أو للدلالة على الجنس أو لأنه في الأصل مصدر‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ‏}‏ كمالكم في القوة والعقل جمع شدة كالأنعم جمع نعمة كأنها شدة في الأمور‏.‏ ‏{‏وَمِنكُمْ مَّن يتوفى‏}‏ عند بلوغ الأشد أو قبله‏.‏ وقرئ ‏{‏يَتَوَفَّى‏}‏ أو يتوفاه الله تعالى‏.‏ ‏{‏وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر‏}‏ وهو الهرم والخرف، وقرئ بسكون الميم‏.‏ ‏{‏لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً‏}‏ ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية من سخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما عمله وينكر ما عرفه، والآية استدلال ثان على إمكان البعث بما يعتري الإِنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة، فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره‏.‏ ‏{‏وَتَرَى الأرض هَامِدَةً‏}‏ ميتة يابسة من همدت النار إذا صارت رماداً‏.‏ ‏{‏فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت‏}‏ تحركت بالنبات‏.‏ ‏{‏وَرَبَتْ‏}‏ وانتفخت، وقرئ «وربأت» أي ارتفعت‏.‏ ‏{‏وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ‏}‏ من كل صنف ‏{‏بَهِيجٍ‏}‏ حسن رائق، وهذه دلالة ثالثة كررها الله تعالى في كتابه لظهورها وكونها مشاهدة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما ذكر من خلق الإِنسان في أطوار مختلفة وتحويله على أحوال متضادة، وإحياء الأرض بعد موتها وهو مبتدأ خبره‏:‏ ‏{‏بِأَنَّ الله هُوَ الحق‏}‏ أي بسبب أنه الثابت في نفسه الذي به تتحقق الأشياء‏.‏ ‏{‏وَأَنَّهُ يُحْىِ الْمَوْتَى‏}‏ وأنه يقدر على إحيائها وإلا لما أحيا النطفة والأرض الميتة‏.‏ ‏{‏وَأَنَّهُ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ لأن قدرته لذاته الذي نسبته إلى الكل على سواء، فلما دلت المشاهدة على قدرته على إحياء بعض الأموات لزم اقتداره على إحياء كلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّ الساعة ءاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا‏}‏ فإن التغير من مقدمات الانصرام وطلائعه‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِى القبور‏}‏ بمقتضى وعده الذي لا يقبل الخلف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ تكرير للتأكيد ولما نيط به من الدلالة بقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ هُدًى وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ‏}‏ على أنه لا سند له عن استدلال أو وحي، أو الأول في المقلدين وهذا في المقلدين، والمراد بالعلم العلم الفطري ليصح عطف ال ‏{‏هُدًى‏}‏ وال ‏{‏كتاب عليه‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏ثَانِىَ عِطْفِهِ‏}‏ متكبراً وثني العطف كناية عن التكبر كليّ الجيد، أو معرضاً عن الحق استخفافاً به‏.‏ وقرئ بفتح العين أي مانع تعطفه‏.‏ ‏{‏لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ علة للجدال، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس بفتح الياء على أن إعراضه عن الهدى المتمكن منه بالإِقبال على الجدال الباطل خروج من الهدى إلى الضلال، وأنه من حيث مؤداه كالغرض له‏.‏ ‏{‏لَهُ فِى الدنيا خِزْىٌ‏}‏ وهو ما أصابه يوم بدر‏.‏ ‏{‏وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق‏}‏ المحروق وهو النار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ‏}‏ على الالتفات، أو إرادة القول أي يقال له يوم القيامة ذلك الخزي والتعذيب بسبب ما اقترفته من الكفر والمعاصي‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ‏}‏ وإنما هو مجاز لهم على أعمالهم المبالغة لكثرة العبيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ‏}‏ على طرف من الدين لاَ ثَبَاتَ له فيه كالذي يكون على طرف الجيش، فإن أحس بظفر قر وإلا فر‏.‏ ‏{‏فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ‏}‏ روي أنها نزلت في أعاريب قدموا المدينة، فكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهراً سوياً وولدت امرأته غلاماً سوياً وكثر ماله وماشيته قال‏:‏ ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيراً واطمأن، وإن كان الأمر بخلافه قال ما أصبت إلا شراً وانقلب‏.‏ وعن أبي سعيد أن يهودياً أسلم فأصابته مصائب فتشاءم بالإِسلام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أقلني فقال ‏"‏ إن الإِسلام لا يقال ‏"‏ فنزلت‏.‏ ‏{‏خَسِرَ الدنيا والأخرة‏}‏ بذهاب عصمته وحبوط عمله بالارتداد، وقرئ «خاسراً» بالنصب على الحال والرفع على الفاعلية ووضع الظاهر موضع الضمير تنصيصاً على خسرانه أو على أنه خبر محذوف‏.‏ ‏{‏ذلك هُوَ الخسران المبين‏}‏ إذ لا خسران مثله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ‏}‏ يعبد جماداً لا يضر بنفسه ولا ينفع‏.‏ ‏{‏ذلك هُوَ الضلال البعيد‏}‏ عن المقصد مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضالاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏يَدْعُواْ لَمَنْ ضَرُّهُ‏}‏ بكونه معبوداً لأنه يوجب القتل في الدنيا والعذاب في الآخرة‏.‏ ‏{‏أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ‏}‏ الذي يتوقع بعبادته وهو الشفاعة والتوسل بها إلى الله تعالى، واللام معلقة ل ‏{‏يَدْعُو‏}‏ من حيث إنه بمعنى يزعم والزعم قول من اعتقاد، أو داخلة على الجملة الواقعة مقولاً إجراء له مجرى قول‏:‏ أي يقول الكافر ذلك بدعاء وصراخ حين يرى استضراره به، أو مستأنفة على أن يدعو تكرير للأول ومن مبتدأ خبره ‏{‏لَبِئْسَ المولى‏}‏ الناصر‏.‏ ‏{‏وَلَبِئْسَ العشير‏}‏ الصاحب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ من إثابة الموحد الصالح وعقاب المشرك الطالح لا دافع له ولا مانع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِى الدنيا والأخرة‏}‏ كلام فيه اختصار والمعنى‏:‏ أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة، فمن كان يظن خلاف ذلك ويتوقعه من غيظه‏.‏ وقيل المراد بالنصر الرزق والضمير لمن‏.‏ ‏{‏فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السماء ثُمَّ لْيَقْطَعْ‏}‏ فليستقص في إزالة غيظه أو جزعه بأن يفعل كل ما يفعله الممتلئ غيظاً، أو المبالغ جزعاً حتى يمد حبلاً إلى سماء بيته فيختنق من قطع إذا اختنق، فإن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه‏.‏ وقيل فليمدد حبلاً إلى سماء الدنيا ثم ليقطع به المسافة حتى يبلغ عنانها فيجتهد في دفع نصره أو تحصيل رزقه‏.‏ وقرأ ورش وأبو عمرو وابن عامر ‏{‏لِيَقْطَعَ‏}‏ بكسر اللام‏.‏ ‏{‏فَلْيَنظُرْ‏}‏ فليتصور في نفسه‏.‏ ‏{‏هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ‏}‏ فعله ذلك وسماه على الأول كيداً لأنه منتهى ما يقدر عليه‏.‏ ‏{‏مَا يَغِيظُ‏}‏ غيظه أو الذي يغيظه من نصر الله‏.‏ وقيل نزلت في قوم مسلمين استبطأوا نصر الله لاستعجالهم وشدة غيظهم على المشركين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏وكذلك‏}‏ ومثل ذلك الإِنزال‏.‏ ‏{‏أنزلناه‏}‏ أنزلنا القرآن كله‏.‏ ‏{‏ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ‏}‏ واضحات‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الله يَهْدِى‏}‏ ولأن الله يهدي به أو يثبت على الهدى‏.‏ ‏{‏مَن يُرِيدُ‏}‏ هدايته أو إثباته أنزله كذلك مبيناً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين ءَامَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أَشْرَكُواْ إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ بالحكومة بينهم وإظهار المحق منهم على المبطل، أو الجزاء فيجازي كلا ما يليق به ويدخله المحل المعد له، وإنما أدخلت إن على كل واحد من طرفي الجملة لمزيد التأكيد‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله على كُلّ شَئ شَهِيدٌ‏}‏ عالم به مراقب لأحواله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السموات وَمَن فِى الأرض‏}‏ يتسخر لقدرته ولا يتأتى عن تدبيره، أو يدل بذلته على عظمة مدبره، ومن يجوز أن يعم أولي العقل وغيرهم على التغليب فيكون قوله‏:‏ ‏{‏والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب‏}‏ إفراداً لها بالذكر لشهرتها واستبعاد ذلك منها‏.‏ وقرئ ‏{‏والدواب‏}‏ بالتخفيف كراهة التضعيف أو الجمع بين الساكنين‏.‏ ‏{‏وَكَثِيرٌ مّنَ الناس‏}‏ عطف عليها إن جوز إعمال اللفظ الواحد في كل واحد من مفهوميه، وإسناده باعتبار أحدهما إلى أمر وباعتبار الآخر إلى آخر، فإن تخصيص الكثير يدل على خصوص المعنى المسند إليهم، أو مبتدأ خبره محذوف يدل عليه خبر قسيمه نحو حق له الثواب، أو فاعل فعل مضمر أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة‏.‏ ‏{‏وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب‏}‏ بكفره وإبائه عن الطاعة، ويجوز أن يجعل «وكثيراً» تكريراً للأول مبالغة في تكثير المحقوقين بالعذاب أن يعطف به على الساجدين بالمعنى العام موصوفاً بما بعده‏.‏ وقرئ ‏{‏حَقّ‏}‏ بالضم و«حقاً» بإضمار فعله‏.‏ ‏{‏وَمَن يُهِنِ الله‏}‏ بالشقاوة ‏{‏فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ‏}‏ يكرمه بالسعادة، وقرئ بالفتح بمعنى الإِكرام‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء‏}‏ من الإِكرام والإِهانة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏هذان خَصْمَانِ‏}‏ أي فوجان مختصمان‏.‏ ولذلك قال‏:‏ ‏{‏اختصموا‏}‏ حملاً على المعنى ولو عكس لجاز، والمراد بهما المؤمنون والكافرون‏.‏ ‏{‏فِى رَبّهِمْ‏}‏ في دينه أو في ذاته وصفاته‏.‏ وقيل تخاصمت اليهود والمؤمنون فقال اليهود‏:‏ نحن أحق بالله وأقدم منكم كتاباً ونبياً قبل نبيكم، وقال المؤمنون‏:‏ نحن أحق بالله آمنا بمحمد ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم كفرتم به حسداً فنزلت‏.‏ ‏{‏فالذين كَفَرُواْ‏}‏ فصل لخصومتهم وهو المعني بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ ‏{‏قُطّعَتْ لَهُمْ‏}‏ قدرت لهم على مقادير جثثهم، وقرئ بالتخفيف‏.‏ ‏{‏ثِيَابٌ مّن نَّارِ‏}‏ نيران تحيط بهم إحاطة الثياب‏.‏ ‏{‏يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ الحميم‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏لَهُمْ‏}‏ أو خبر ثان، والحميم الماء الحار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ والجلود‏}‏ أي يؤثر من فرط حرارته في بطونهم تأثيره في ظاهرهم فتذاب به أحشاؤهم كما تذاب به جلودهم، والجملة حال من ‏{‏الحميم‏}‏ أو من ضميرهم‏.‏ وقرئ بالتشديد للتكثير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ‏}‏ سياط منه يجلدون بها وجمع مقمعة وحقيقتها ما يقمع به أي يكف بعنف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 23‏]‏

‏{‏كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏22‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا‏}‏ من النار‏.‏ ‏{‏مِنْ غَمّ‏}‏ من عمومها بدل من الهاء بإعادة الجار‏.‏ ‏{‏أُعِيدُواْ فِيهَا‏}‏ أي فخرجوا أعيدوا لأن الإِعادة لا تكون إلا بعد الخروج، وقيل يضربهم لهيب النار فيرفعهم إلى أعلاها فيضربون بالمقامع فيهوون فيها‏.‏ ‏{‏وَذُوقُواْ‏}‏ أي وقيل لهم ذوقوا‏.‏ ‏{‏عَذَابَ الحريق‏}‏ أي النار البالغة في الإِحراق‏.‏

‏{‏إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار‏}‏ غير الأسلوب فيه وأسند الإِدخال إلى الله تعالى وأكده بإن إحماداً لحال المؤمنين وتعظيماً لشأنهم‏.‏ ‏{‏يُحَلَّوْنَ فِيهَا‏}‏ من حليت المرأة إذا ألبستها الحلى، وقرئ بالتخفيف والمعنى واحد‏.‏ ‏{‏مِنْ أَسَاوِرَ‏}‏ صفة مفعول محذوف و‏{‏أَسَاوِرَ‏}‏ جمع أسورة وهو جمع سوار‏.‏ ‏{‏مّن ذَهَبٍ‏}‏ بيان له‏.‏ ‏{‏وَلُؤْلُؤاً‏}‏ عطف عليها لا على ‏{‏ذَهَبَ‏}‏ لأنه لم يعهد السوار منه إلا أن يراد المرصعة به، ونصبه نافع وعاصم عطفاً على محلها أو إضمار الناصب مثل ويؤتون، وروى حفص بهمزتين وترك أبو بكر والسوسي عن أبي عمرو الهمزة الأولى، وقرئ «لؤلواً» بقلب الثانية واواً و«لولياً» بقلبهما، و«لوين» ثم قلب الثانية ياء و«ليليا» بقلبهما ياءين و«لول» كأدل‏.‏ ‏{‏وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ‏}‏ غير أسلوب الكلام فيه للدلالة على أن الحرير ثيابهم المعتادة، أو للمحافظة على هيئة الفواصل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُدُواْ إِلَى الطيب مِنَ القول‏}‏ وهو قولهم ‏{‏الحمد للَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ‏}‏ أو كلمة التوحيد‏.‏ ‏{‏وَهُدُواْ إلى صراط الحميد‏}‏ المحمود نفسه أو عاقبته وهو الجنة، أو الحق أو المستحق لذاته الحمد وهو الله سبحانه وتعالى وصراطه الإِسلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ لا يريد به حالاً ولا استقبالاً وإنما يريد به استمرار الصد منهم كقولهم‏:‏ فلان يعطي ويمنع، ولذلك حسن عطفه على الماضي‏.‏ وقيل هو حال من فاعل ‏{‏كَفَرُواْ‏}‏ وخبر ‏{‏إِن‏}‏ محذوف دل عليه آخر الآية أي معذبون‏.‏ ‏{‏والمسجد الحرام‏}‏ عطف على اسم الله وأَوَّلَهُ الحنفية بمكة واستشهدوا بقوله‏:‏ ‏{‏الذى جعلناه لِلنَّاسِ سَوَاء العاكف فِيهِ والباد‏}‏ أي المقيم والطارئ على عدم جواز بيع دورها وإجارتها، وهو مع ضعفه معارض بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم‏}‏ وشراء عمر رضي الله تعالى عنه دار السجن فيها من غير نكير، و‏{‏سَوَآء‏}‏ خبر مقدم والجملة مفعول ثان ل ‏{‏جعلناه‏}‏ إن جعل ‏{‏لِلنَّاسِ‏}‏ حالاً من الهاء وإلا فحال من المستكن فيه، ونصبه حفص على أنه المفعول أو الحال و‏{‏العاكف‏}‏ مرتفع به، وقرئ ‏{‏العاكف‏}‏ بالجر على أنه بدل من الناس‏.‏ ‏{‏وَمَن يُرِدْ فِيهِ‏}‏ مما ترك مفعوله ليتناول كل متناول، وقرئ بالفتح من الورود‏.‏ ‏{‏بِإِلْحَادٍ‏}‏ عدول عن القصد ‏{‏بِظُلْمٍ‏}‏ بغير حق وهما حالان مترادفان، أو الثاني بدل من الأول بإعادة الجار أو صلة له‏:‏ أي ملحداً بسبب الظلم كالإِشراك واقتراف الآثام ‏{‏نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ جواب ل ‏{‏مِنْ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت‏}‏ أي واذكر إذ عيناه وجعلناه له مباءة‏.‏ وقيل اللام زائدة ومكان ظرف أي وإذ أنزلناه فيه‏.‏ قيل رفع البيت إلى السماء وانطمس أيام الطوفان فأعلمه الله مكانه بريح أرسلها فكنست ما حوله فبناه على أسه القديم‏.‏ ‏{‏أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ والقائمين والركع السجود‏}‏ ‏{‏أَن‏}‏ مفسرة ل ‏{‏بَوَّأْنَا‏}‏ من حيث إنه تضمن معنى تعبدنا لأن التبوئة من أجل العبادة، أو مصدرية موصولة بالنهي أي‏:‏ فعلنا ذلك لئلا تشرك بعبادتي وطهر بيتي من الأوثان والأقذار لمن يطوف به ويصلي فيه، ولعله عبر عن الصلاة بأركانها للدلالة على أن كل واحد منها مستقل باقتضاء ذلك كيف وقد اجتمعت، وقرئ ‏{‏يُشْرَكَ‏}‏ بالياء وقرأ نافع وحفص وهشام ‏{‏بَيْتِىَ‏}‏ بفتح الياء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَذِّن فِى الناس‏}‏ ناد فيهم وقرئ «وَآذّن»‏.‏ ‏{‏بالحج‏}‏ بدعوة الحج والأمر به‏.‏ روي أنه عليه الصلاة والسلام صعد أبا قبيس فقال ‏"‏ يا أيها الناس حجوا بيت ربكم، فأسمعه الله من أصلاب الرجال وأرحام النساء فيما بين المشرق والمغرب من سبق في علمه أن يحج ‏"‏‏.‏ وقيل الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بذلك في حجة الوداع‏.‏ ‏{‏يَأْتُوكَ رِجَالاً‏}‏ مشاة جمع راجل كقائم وقيام، وقرئ بضم الراء مخفف الجيم ومثقله ورجالى كعجالى‏.‏ ‏{‏وعلى كُلّ ضَامِرٍ‏}‏ أي وركباناً على كل بعير مهزول أتعبه بعد السفر فهزله‏.‏ ‏{‏يَأْتِينَ‏}‏ صفة ل ‏{‏ضَامِرٍ‏}‏ محمولة على معناه، وقرئ «يأتون» صفة للرجال والركبان أو استئناف فيكون الضمير ل ‏{‏الناس‏}‏‏.‏ ‏{‏مِن كُلّ فَجٍّ‏}‏ طريق‏.‏ ‏{‏عَميِقٍ‏}‏ بعيد، وقرئ «معيق» يقال بئر بعيدة العمق والمعق بمعنى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏لّيَشْهَدُواْ‏}‏ ليحضروا‏.‏ ‏{‏منافع لَهُمْ‏}‏ دينية ودنيوية، وتنكيرها لأن المراد بها نوع من المنافع مخصوص بهذه العبادة‏.‏ ‏{‏وَيَذْكُرُواْ اسم الله‏}‏ عند إعداد الهدايا والضحايا وذبحها‏.‏ وقيل كنى بالذكر عن النحر لأن ذبح المسلمين لا ينفك عنه تنبيهاً على أنه المقصود مما يتقرب به إلى الله تعالى‏.‏ ‏{‏فِى أَيَّامٍ معلومات‏}‏ هي عشر ذي الحجة، وقيل أيام النحر‏.‏ ‏{‏على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام‏}‏ علق الفعل بالمرزوق وبينه بالبهيمة تحريضاً على التقرب وتنبيهاً على مقتضى الذكر‏.‏ ‏{‏فَكُلُواْ مِنْهَا‏}‏ من لحومها أمر بذلك إباحة وإزالة لما عليه أهل الجاهلية من التحرج فيه، أو ندباً إلى مواساة الفقراء ومساواتهم، وهذا في المتطوع به دون الواجب‏.‏ ‏{‏وَأَطْعِمُواْ البائس‏}‏ الذي أصابه بؤس أي شدة‏.‏ ‏{‏الفقير‏}‏ المحتاج، والأمر فيه للوجوب وقد قيل به في الأول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ‏}‏ ثم ليزيلوا وسخهم بقص الشارب والأظفار ونتف الإِبط والاستحداد عند الإِحلال‏.‏ ‏{‏وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ‏}‏ ما ينذرون من البر في حجهم، وقيل مواجب الحج‏.‏ وقرأ أبو بكر بفتح الواو وتشديد الفاء‏.‏ ‏{‏وَلْيَطَّوَّفُواْ‏}‏ طواف الركن الذي به تمام التحلل فإنه قرينة قضاء التفث، وقيل طواف الوداع‏.‏ وقرأ ابن عامر وحده بكسر اللام فيهما‏.‏ ‏{‏بالبيت العتيق‏}‏ القديم لأنه أول بيت وضع للناس، أو المعتق من تسلط الجبابرة فكم من جبار رسا إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى، وأما الحجاج فإنما قصد إخراج ابن الزبير منه دون التسلط عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ خبر محذوف أي الأمر ذلك وهو وأمثاله تطلق للفصل بين كلامين‏.‏ ‏{‏وَمَن يُعَظّمْ حرمات الله‏}‏ أحكامه وسائر ما لا يحل هتكه، أو الحرم وما يتعلق بالحج من التكاليف‏.‏ وقيل الكعبة والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمحرم‏.‏ ‏{‏فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ‏}‏ فالتعظيم ‏{‏خَيْرٌ لَّهُ‏}‏‏.‏ ‏{‏عِندَ رَبّهِ‏}‏ ثواباً‏.‏ ‏{‏وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ‏}‏ إلا المتلو عليكم تحريمه، وهو ما حرم منها لعارض‏:‏ كالميتة وما أهل به لغير الله فلا تخرجوا منها غير ما حرمه الله كالبحيرة والسائبة‏.‏ ‏{‏فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان‏}‏ اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان كما تجتنب الأنجاس، وهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها والتنفير عن عبادتها‏.‏ ‏{‏واجتنبوا قَوْلَ الزور‏}‏ تعميم بعد تخصيص فإن عبادة الأوثان رأس الزور، كأنه لما حث على تعظيم الحرمات أتبعه ذلك رداً لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب وتعظيم الأوثان والإِفتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك‏.‏ وقيل شهادة الزور لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال «عدلت شهادة الزور الإِشراك بالله تعالى ثلاثاً وتلا هذه الآية» و‏{‏الزور‏}‏ من الزور وهو الإِنحراف كما أن الإِفك من الأفك وهو الصرف، فإن الكذب منحرف مصروف عن الواقع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏حُنَفَاء للَّهِ‏}‏ مخلصين له‏.‏ ‏{‏غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ‏}‏ وهما حالان من الواو‏.‏ ‏{‏وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء‏}‏ لأنه سقط من أوج الإِيمان إلى حضيض الكفر‏.‏ ‏{‏فَتَخْطَفُهُ الطير‏}‏ فإن الأهواء الرديئة توزع أفكاره، وقرأ نافع وحده ‏{‏فَتَخْطَفُهُ‏}‏ بفتح الخاء وتشديد الطاء‏.‏ ‏{‏أَوْ تَهْوِى بِهِ الريح فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ‏}‏ بعيد فإن الشيطان قد طوح به في الضلالة أو للتخيير كما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ كَصَيّبٍ مِّنَ السماء‏}‏ أو للتنويع فإن المشركين من لا خلاص له أصلاً، ومنهم من يمكن خلاصه بالتوبة لكن على بعد، ويجوز أن يكون من التشبيهات المركبة فيكون المعنى‏:‏ ومن يشرك بالله فقد هلكت نفسه هلاكاً يشبه أحد الهلاكين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله‏}‏ دين الله أو فرائض الحج ومواضع نسكه، أو الهدايا لأنها من معالم الحج وهو أوفق لظاهر ما بعده، وتعظيمها أن تختارها حساناً سماناً غالية الأثمان‏.‏ روي أنه صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب، وأن عمر رضي الله تعالى عنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلثمائة دينار‏.‏ ‏{‏فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب‏}‏ فإن تعظيمها منه من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات والعائد إلى من وذكر القلوب لأنها منشأ التقوى والفجور أو الآمرة بهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏لَكُمْ فِيهَا منافع إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى البيت العتيق‏}‏ أي لكم فيها منافع درها ونسلها وصوفها وظهرها إلى أن تنحر، ثم وقت نحرها منتهية إلى البيت أي ما يليه من الحرم، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ تحتمل التراخي في الوقت والتراخي في الرتبة، أي لكم فيها منافع دنيوية إلى وقت النحر وبعده منافع دينية أعظم منها، وهو على الأولين إما متصل بحديث ‏{‏الأنعام‏}‏ والضمير فيه لها أو المراد على الأول لكم فيها منافع دينية تنتفعون بها إلى أجل مسمى هو الموت، ثم محلها منتهية إلى البيت العتيق الذي ترفع إليه الأعمال أو يكون فيها ثوابها وهو البيت المعمور أو الجنة، وعلى الثاني ‏{‏لَكُمْ فِيهَا منافع‏}‏ التجارات في الأسواق إلى وقت المراجعة ثم وقت الخروج منها منتهية إلى الكعبة بالإِحلال بطواف الزيارة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏وَلِكُلّ أُمَّةٍ‏}‏ ولكل أهل دين‏.‏ ‏{‏جَعَلْنَا مَنسَكًا‏}‏ متعبداً أو قرباناً يتقربون به إلى الله، وقرأ حمزة والكسائي بالكسر أي موضع نسك‏.‏ ‏{‏لِّيَذْكُرُواْ اسم الله‏}‏ دون غيره ويجعلوا نسيكتهم لوجهه، علل الجعل به تنبيهاً على أن المقصود من المناسك تذكر المعبود‏.‏ ‏{‏على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام‏}‏ عند ذبحها، وفيه تنبيه على أن القربان يجب أن يكون نعماً‏.‏ ‏{‏فإلهكم إله واحد فَلَهُ أَسْلِمُواْ‏}‏ أخلصوا التقرب أو الذكر ولا تشوبوه بالإِشراك‏.‏ ‏{‏وَبَشّرِ المخبتين‏}‏ المتواضعين أو المخلصين فإن الإِخبات صفتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ هيبة منه لإِشراق أشعة جلاله عليها‏.‏ ‏{‏والصابرين على مَا أَصَابَهُمْ‏}‏ من الكلف والمصائب‏.‏ ‏{‏وَالمُقيمي الصَّلاَةِ‏}‏ في أوقاتها، وقرئ «والمقيمين للصلاة» على الأصل‏.‏ ‏{‏وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ‏}‏ في وجوه الخير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏والبدن‏}‏ جمع بدنة كخشب وخشبة، وأصله الضم وقد قرئ به وإنما سميت بها الإِبل لعظم بدنها مأخوذة من بدن بدانة، ولا يلزم من مشاركة البقرة لها في أجزائها عن سبعة بقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة ‏"‏ تناول اسم البدنة لها شرعاً‏.‏

بل الحديث يمنع ذلك وانتصابه بفعل يفسره‏.‏ ‏{‏جعلناها لَكُمْ‏}‏ ومن رفعه جعله مبتدأ‏.‏ ‏{‏مِن شَعَائِرِ الله‏}‏ من أعلام دينه التي شرعها الله تعالى‏.‏ ‏{‏لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ‏}‏ منافع دينية ودنيوية‏.‏ ‏{‏فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا‏}‏ بأن تقولوا عند ذبحها الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك‏.‏ ‏{‏صَوَافَّ‏}‏ قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن، وقرئ «صوافن» من صفن الفرس إذا قام على ثلاث‏.‏ وعلى طرف حافر الرابعة لأن البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث، وقرئ «صوافنا» بإبدال التنوين من حرف الإِطلاق عند الوقف و«صوافي» أي خوالص لوجه الله، و«صوافي» بسكون الياء على لغة من يسكن الياء مطلقاً كقولهم‏:‏ أعط القوس باريها‏.‏ ‏{‏فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا‏}‏ سقطت على الأرض وهو كناية عن الموت‏.‏ ‏{‏فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع‏}‏ الراضي بما عنده وبما يعطى من غير مسألة ويؤيده قراءة «القنع»، أو السائل من قنعت إليه قنوعاً إذا خضعت له في السؤال‏.‏ ‏{‏والمعتر‏}‏ والمعترض بالسؤال، وقرئ «والمعتري» يقال عره وعراه واعتره واعتراه‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ مثل ما وصفنا من نحرها قياماً‏.‏ ‏{‏سخرناها لَكُمْ‏}‏ مع عظمها وقوتها حتى تأخذوها منقادة فتعقلوها وتحبسوها صافة قوائمها ثم تطعنون في لبانها‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ إنعامنا عليكم بالتقرب والإِخلاص‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏لَن يَنَالَ الله‏}‏ لن يصيب رضاه ولن يقع منه موقع القبول‏.‏ ‏{‏لُحُومُهَا‏}‏ المتصدق بها‏.‏ ‏{‏وَلاَ دِمَاؤُهَا‏}‏ المهراقة بالنحر من حيث إنها لحوم ودماء‏.‏ ‏{‏ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ‏}‏ ولكن يصيبه ما يصحبه من تقوى قلوبكم التي تدعوكم إلى تعظيم أمره تعالى والتقرب إليه والإِخلاص له، وقيل كان أهل الجاهلية إذا ذبحوا القرابين لطخوا الكعبة بدمائها قربة إلى الله تعالى فهم به المسلمون فنزلت‏.‏ ‏{‏كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ‏}‏ كرره تذكيراً للنعمة وتعليلاً له بقوله‏:‏ ‏{‏لِتُكَبِّرُواْ الله‏}‏ أي لتعرفوا عظمته باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره فتوحدوه بالكبرياء‏.‏ وقيل هو التكبير عند الإِحلال أو الذبح‏.‏ ‏{‏على مَا هَدَاكُمْ‏}‏ أرشدكم إلى طريق تسخيرها وكيفية التقرب بها، و‏{‏مَا‏}‏ تحتمل المصدرية والخبرية و‏{‏على‏}‏ متعلقة ب ‏{‏لِتُكَبِّرُواْ‏}‏ لتضمنه معنى الشكر‏.‏ ‏{‏وَبَشِّرِ المحسنين‏}‏ المخلصين فيما يأتونه ويذرونه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين ءَامَنُواْ‏}‏ غائلة المشركين، وقرأ نافع وابن عامر والكوفيون ‏{‏يُدَافِعُ‏}‏ أي يبالغ في الدفع مبالغة من يغالب فيه‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ‏}‏ في أمانة الله‏.‏ ‏{‏كَفُورٍ‏}‏ لنعمته كمن يتقرب إلى الأصنام بذبيحته فلا يرتضي فعلهم ولا ينصرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏أُذِنَ‏}‏ رخص، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي على البناء للفاعل وهو الله‏.‏ ‏{‏لِلَّذِينَ يقاتلون‏}‏ المشركين والمأذون فيه محذوف لدلالته عليه، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح التاء أي الذين يقاتلهم المشركون‏.‏ ‏{‏بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ‏}‏ بسبب أنهم ظلموا وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان المشركون يؤذونهم وكانوا يأتونه من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم‏:‏ اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزلت‏.‏ وهي أول آية نزلت في القتال بعدما نهي عنه في نيف وسبعين آية‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ‏}‏ وعد لهم بالنصر كما وعد بدفع أذى الكفار عنهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 50‏]‏

‏{‏الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏40‏)‏ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏(‏41‏)‏ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ‏(‏42‏)‏ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ‏(‏43‏)‏ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏44‏)‏ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ‏(‏45‏)‏ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ‏(‏46‏)‏ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ‏(‏47‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ‏(‏48‏)‏ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏49‏)‏ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم‏}‏ يعني مكة‏.‏ ‏{‏بِغَيْرِ حَقٍّ‏}‏ بغير موجب استحقوه به‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله‏}‏ على طريقة قول النابغة‏:‏

وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُم *** بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ

وقيل منقطع‏.‏ ‏{‏وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ‏}‏ بتسليط المؤمنين منهم على الكافرين‏.‏ ‏{‏لَّهُدّمَتْ‏}‏ لخربت باستيلاء المشركين على أهل الملل، وقرأ نافع ‏{‏دفاع‏}‏ وقرأ نافع وابن كثير ‏{‏لَّهُدّمَتْ‏}‏ بالتخفيف‏.‏ ‏{‏صوامع‏}‏ صوامع الرهبانية‏.‏ ‏{‏وَبِيَعٌ‏}‏ بيع النصارى‏.‏ ‏{‏وصلوات‏}‏ كنائس اليهود، سميت بها لأنها يصلى فيها، وقيل أصلها صلوتا بالعبرانية فعربت‏.‏ ‏{‏ومساجد‏}‏ مساجد المسلمين‏.‏ ‏{‏يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً‏}‏ صفة للأربع أو لمساجد خصت بها تفضيلاً‏.‏ ‏{‏وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ‏}‏ من ينصر دينه، وقد أنجز وعده بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم وأورثهم أرضهم وديارهم‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله لَقَوِىٌّ‏}‏ على نصرهم‏.‏ ‏{‏عَزِيزٌ‏}‏ لا يمانعه شيء‏.‏

‏{‏الذين إِنْ مكناهم فِى الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر‏}‏ وصف للذين أخرجوا وهو ثناء قبل بلاء، وفيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين إذ لم يستجمع ذلك غيرهم من المهاجرين‏.‏ وقيل بدل ممن ينصره‏.‏ ‏{‏وَلِلَّهِ عاقبة الأمور‏}‏ فإن مرجعها إلى حكمه، وفيه تأكيد لما وعده‏.‏

‏{‏وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إبراهيم وَقَوْمُ لُوطٍ وأصحاب مَدْيَنَ‏}‏ تسلية له صلى الله عليه وسلم بأن قومه إن كذبوه فهو ليس بأحودي في التكذيب، فإن هؤلاء قد كذبوا رسلهم قبل قومه‏.‏ ‏{‏وَكُذِّبَ موسى‏}‏ غير فيه النظم وبنى الفعل للمفعول لأن قومه بنو إسرائيل، ولم يكذبوه وإنما كذبه القبط ولأن تكذيبه كان أشنع وآياته كانت أعظم وأشيع‏.‏ ‏{‏فَأمْلَيْتُ للكافرين‏}‏ فأمهلتهم حتى انصرمت آجالهم المقدرة‏.‏ ‏{‏ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏ أي إنكاري عليهم بتغيير النعمة محنة والحياة هلاكاً والعمارة خراباً‏.‏

‏{‏فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أهلكناها‏}‏ بإهلاك أهلها، وقرأ البصريان بغير لفظ التعظيم‏.‏ ‏{‏وَهِىَ ظالمة‏}‏ أي أهلها‏.‏ ‏{‏فَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا‏}‏ ساقطة حيطانها على سقوفها بأن تعطل بنيانها فخرت سقوفها ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف، أو خالية مع بقاء عروشها وسلامتها فيكون الجار متعلقاً ب ‏{‏خَاوِيَةٌ‏}‏، ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر أي هي خالية وهي على عروشها أي‏:‏ مطلة عليها بأن سقطت وبقيت الحيطان مائلة مشرفة عليها، والجملة معطوفة على ‏{‏أهلكناها‏}‏ لا على ‏{‏وَهِىَ ظالمة‏}‏ فإنها حال والإِهلاك ليس حال خوائها فلا محل لها إن نصبت كأي بمقدر يفسره ‏{‏أهلكناها‏}‏ وإن رفعته بالإِبتداء فمحلها الرفع‏.‏ ‏{‏وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ‏}‏ عطف على ‏{‏قَرْيَةٍ‏}‏ أي وكم بئر عامرة في البوادي تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها، وقرئ بالتخفيف من أعطله بمعنى عطله‏.‏

‏{‏وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ‏}‏ مرفوع أو مجصص أخليناه عن ساكنيه، وذلك يقوي أن معنى ‏{‏خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا‏}‏ خالية مع بقاء عروشها، وقيل المراد ب ‏{‏بئر‏}‏ بئر في سفح جبل بحضرموت وبقصر قصر مشرف على قلته كانا لقوم حنظلة بن صفوان من قوم صالح فلما قتلوه أهلكهم الله تعالى وعطلهما‏.‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض‏}‏ حث لهم على أن يسافروا ليروا مصارع المهلكين فيعتبروا، وهم وإن كانوا قد سافروا فلم يسافروا لذلك‏.‏ ‏{‏فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا‏}‏ ما يجب أن يعقل من التوحيد بما حصل لهم من الاستبصار والاستدلال‏.‏ ‏{‏أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا‏}‏ ما يجب أن يسمع من الوحي والتذكير بحال من شاهدوا آثارهم‏.‏ ‏{‏فَإِنَّهَا‏}‏ الضمير للقصة أو مبهم يفسره الأبصار‏.‏ وفي ‏{‏تَعْمَى‏}‏ راجع إليه والظاهر أقيم مقامه‏.‏ ‏{‏لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور‏}‏ عن الاعتبار أي ليس الخلل في مشاعرهم وإنما أيفت عقولهم باتباع الهوى والانهماك في التقليد، وذكر ‏{‏الصدور‏}‏ للتأكيد ونفي التجوز وفضل التنبيه على أن العمى الحقيقي ليس المتعارف الذي يخص البصر‏.‏ قيل لما نزل ‏{‏وَمَن كَانَ فِى هذه أعمى‏}‏ قال ابن أم مكتوم يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى فنزلت ‏{‏فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار‏}‏ ‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب‏}‏ المتوعد به‏.‏ ‏{‏وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ‏}‏ لامتناع الخلف في خبره فيصيبهم ما أوعدهم به ولو بعد حين لكنه صبور لا يعجل بالعقوبة‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ بيان لتناهي صبره وتأنيه حتى استقصر المدد الطوال، أو لتمادي عذابه وطول أيامه حقيقة، أو من حيث إن أيام الشدائد مستطالة، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء‏.‏

‏{‏وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ‏}‏ وكم من أهل قرية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الإِعراب، ورجع للضمائر والأحكام مبالغة في التعميم والتهويل وإنما عطف الأولى بالفاء وهذه بالواو، لأن الأولى بدل من قوله ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏ وهذه في حكم ما تقدمها من الجملتين لبيان أن المتوعد به يحيق بهم لا محالة وأن تأخيره لعادته تعالى‏.‏ ‏{‏أَمْلَيْتُ لَهَا‏}‏ كما أمهلتكم‏.‏ ‏{‏وَهِىَ ظالمة‏}‏ مثلكم‏.‏ ‏{‏ثُمَّ أَخَذْتُهَا‏}‏ بالعذاب‏.‏ ‏{‏وَإِلَىَّ المصير‏}‏ وإلى حكمي مرجع الجميع‏.‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الناس إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏ أوضح لكم ما أنذركم به، والاقتصار على الإِنذار مع عموم الخطاب وذكر الفريقين لأن صدر الكلام ومساقه للمشركين، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم زيادة في غيظهم‏.‏

‏{‏فالذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ‏}‏ لما بدر منهم‏.‏ ‏{‏وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ هي الجنة وال ‏{‏كَرِيمٌ‏}‏ من كل نوع ما يجمع فضائله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏والذين سَعَوْاْ فِى ءاياتنا‏}‏ بالرد والإِبطال‏.‏ ‏{‏معاجزين‏}‏ مسابقين مشاقين للساعين فيها بالقبول والتحقيق، من عاجزه فأعجزه وعجزه إذا سابقه فسبقه لأن كلا من المتسابقين يطلب إعجاز الآخر عن اللحوق به، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏معاجزين‏}‏ على أنه حال مقدرة‏.‏ ‏{‏أولئك أصحاب الجحيم‏}‏ النار الموقدة، وقيل اسم دركة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىٍّ‏}‏ الرسول من بعثه الله بشريعة مجددة يدعو الناس إليها، والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام، ولذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم علماء أمته بهم، فالنبي أعم من الرسول ويدل عليه أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الأنبياء فقال‏:‏ ‏"‏ مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، قيل فكم الرسل منهم قال‏:‏ ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً ‏"‏ وقيل الرسول من جمع إلى المعجزة كتاباً منزلاً عليه، والنبي غير الرسول من لا كتاب له‏.‏ وقيل الرسول من يأتيه الملك بالوحي، والنبي يقال له ولمن يوحى إليه في المنام‏.‏ ‏{‏إِلاَّ إِذَا تمنى‏}‏ زور في نفسه ما يهواه‏.‏ ‏{‏أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ‏}‏ في تشهيه ما يوجب اشتغاله بالدنيا كما قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ وإنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة ‏"‏ ‏{‏فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان‏}‏ فيبطله ويذهب به بعصمته عن الركون إليه والإِرشاد إلى ما يزيحه‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته‏}‏ ثم يثبت آياته الداعية إلى الاستغراق في أمر الآخرة‏.‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ بأحوال الناس‏.‏ ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ فيما يفعله بهم، قيل حدث نفسه بزوال المسكنة فنزلت‏.‏ وقيل تمنى لحرصه على إيمان قومه أن ينزل عليه ما يقربهم إليه واستمر به ذلك حتى كان في ناديهم فنزلت عليه سورة «والنجم» فأخذ يقرؤها فلما بلغ ‏{‏ومناة الثالثة الأخرى‏}‏ وسوس إليه الشيطان حتى سبق لسانه سهواً إلى أن قال‏:‏ تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، ففرح به المشركون حتى شايعوه بالسجود لمَّا سجد في آخرها، بحيث لم يبق في المسجد مؤمن ولا مشرك إلا سجد، ثم نبهه جبريل عليه السلام فاغتم لذلك فعزاه الله بهذه الآية‏.‏ وهو مردود عند المحققين وإن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإِيمان عن المتزلزل فيه، وقيل تمنى قرأ كقوله‏:‏

تَمَنَّى كِتَابَ الله أَوَّلَ لَيْلَة *** تَمَنِّيَ دَاوُدُ الزَّبُورَ عَلَى رسلِ

وأمنيته قراءته وإلقاء الشيطان فيها أن تكلم بذلك رافعاً صوته بحيث ظن السامعون أنه من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد رد أيضاً بأنه يخل بالوثوق على القرآن ولا يندفع بقوله ‏{‏فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته‏}‏ لأنه أيضاً يحتمله، والآية تدل على جواز السهو على الأنبياء وتطرق الوسوسة إليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان‏}‏ علة لتمكين الشيطان منه، وذلك يدل على أن الملقى أمر ظاهر عرفه المحق والمبطل‏.‏ ‏{‏فِتْنَةً لّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ شك ونفاق‏.‏ ‏{‏والقاسية قُلُوبُهُمْ‏}‏ المشركين‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ الظالمين‏}‏ يعني الفريقين فوضع الظاهر موضع ضميرهم قضاء عليهم بالظلم‏.‏ ‏{‏لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ‏}‏ عن الحق أو عن الرسول والمؤمنين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ‏}‏ أن القرآن هو الحق النازل من عند الله، أو تمكين الشيطان من الإِلقاء هو الحق الصادر من الله لأنه مما جرت به عادته في الإِنس من لدن آدم‏.‏ ‏{‏فَيُؤْمِنُواْ بِهِ‏}‏ بالقرآن أو بالله‏.‏ ‏{‏فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ‏}‏ بالإِنقياد والخشية‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللهَ لَهَادِي الَّذِينَ ءَامَنُواْ‏}‏ فيما أشكل‏.‏ ‏{‏إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ هو نظر صحيح يوصلهم إلى ما هو الحق فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ‏}‏ في شك‏.‏ ‏{‏مِنْهُ‏}‏ من القرآن أو الرسول، أو مما ألقى الشيطان في أمنيته يقولون ما باله ذكرها بخير ثم ارتد عنها‏.‏ ‏{‏حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة‏}‏ القيامة أو أشراطها أو الموت‏.‏ ‏{‏بَغْتَةً‏}‏ فجأة‏.‏ ‏{‏أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ‏}‏ يوم حرب يقتلون فيه كيوم بدر، سمي به لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كالعقم، أو لأن المقاتلين أبناء الحرب فإذا قتلوا صارت عقيماً، فوصف اليوم بوصفها اتساعاً أو لأنه لا خير لهم فيه، ومنه الريح العقيم لما لم تنشئ مطراً ولم تلقح شجراً، أو لأنه لا مثل له لقتال الملائكة فيه، أو يوم القيامة على أن المراد ب ‏{‏الساعة‏}‏ غيره أو على وضعه، موضع ضميرها للتهويل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ‏}‏ التنوين فيه ينوب عن الجملة التي دلت عليها الغاية أي‏:‏ يوم تزول مريتهم‏.‏ ‏{‏يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ‏}‏ بالمجازاة، والضمير يعم المؤمنين والكافرين لتفصيله بقوله‏:‏ ‏{‏فالذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي جنات النعيم‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏والذين كَفَرُواْ بئاياتنا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ وإدخال الفاء في خبر الثاني دون الأول تنبيه على أن إثابة المؤمنين بالجنات تفضل من الله تعالى، وأن عقاب الكافرين مسبب عن أعمالهم فلذلك قال ‏{‏لَهُمْ عَذَابَ‏}‏ ولم يقل‏:‏ هم في عذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏والذين هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ الله ثُمَّ قُتِلُواْ‏}‏ في الجهاد‏.‏ ‏{‏أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً‏}‏ الجنة ونعيمها، وإنما سوى بين من قتل في الجهاد ومن مات حتف أنفه في الوعد لاستوائهما في القصد وأصل العمل‏.‏ روي أن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا‏:‏ يا نبي الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا فنزلت‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين‏}‏ فإنه يرزق بغير حساب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ‏}‏ هو الجنة فيها ما يحبونه‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ‏}‏ بأحوالهم وأحوال معادهم‏.‏ ‏{‏حَلِيمٌ‏}‏ لا يعاجل في العقوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر ذلك‏.‏ ‏{‏وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ‏}‏ ولم يزد في الاقتصاص، وإنما سمي الإِبتداء بالعقاب الذي هو الجزاء للازدواج أو لأنه سببه‏.‏ ‏{‏ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ‏}‏ بالمعاودة إلى العقوبة‏.‏ ‏{‏لَيَنصُرَنَّهُ الله‏}‏ لا محالة‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ‏}‏ للمنتصر حيث اتبع هواه في الانتقام وأعرض عما ندب الله إليه بقوله ولَمن صبر وغفران ذلك لَمِنْ عزمِ الأُمُورِ وفيه تعريض بالحث على العفو والمغفرة، فإنه تعالى مع كمال قدرته وتعالى شأنه لما كان يعفو ويغفر فغيره بذلك أولى، وتنبيه على أنه تعالى قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي ذلك النصر‏.‏ ‏{‏ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ اليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الَّيْلِ‏}‏ بسبب أن الله تعالى قادر على تغليب الأمور بعضها على بعض، جار عادته على المداولة بين الأشياء المتعاندة ومن ذلك إيلاج أحد المَلَوَيْنِ في الآخر، بأن يزيد فيه ما ينقص منه، أو بتحصيل ظلمة الليل في مكان ضوء النهار بتغييب الشمس وعكس ذلك باطلاعها‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ يسمع قول المعاقب والمعاقب‏.‏ ‏{‏بَصِيرٌ‏}‏ يرى أفعالهما فلا يهملهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ الوصف بكمال القدرة والعلم‏.‏ ‏{‏بِأَنَّ الله هُوَ الحق‏}‏ الثابت في نفسه الواجب لذاته وحده، فإن وجوب وجوده ووحدته يقتضيان أن يكون مبدأ لكل ما يوجد سواه عالماً بذاته وبما عداه، أو الثابت الإِلهية ولا يصلح لها إلا من كان قادراً عالماً‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ‏}‏ إلهاً، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو بكر بالتاء على مخاطبة المشركين، وقرأ بالبناء للمفعول فتكون الواو لما فإنه في معنى الآلهة‏.‏ ‏{‏هُوَ الباطل‏}‏ المعدوم في حد ذاته، أو باطل الألوهية‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الله هُوَ العلي‏}‏ على الأشياء‏.‏ ‏{‏الكبير‏}‏ على أن يكون له شريك لا شيء أعلى منه شأناً وأكبر منه سلطاناً‏.‏