فصل: تفسير الآيات رقم (47- 57)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 57‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ‏(‏47‏)‏ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ‏(‏48‏)‏ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ‏(‏49‏)‏ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏50‏)‏ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا ‏(‏51‏)‏ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ‏(‏52‏)‏ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ‏(‏53‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ‏(‏54‏)‏ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ‏(‏55‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏56‏)‏ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً‏}‏ شبه ظلامه باللباس في ستره‏.‏ ‏{‏والنوم سُبَاتاً‏}‏ راحة للأبدان بقطع المشاغل، وأصل السبت القطع أو موتاً كقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذي يتوفاكم باليل‏}‏ لأنه قطع الحياة ومنه المسبوت للميت‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ النهار نُشُوراً‏}‏ ذا نشور أي انتشار ينتشر فيه الناس للمعاش، أو بعث من النوم بعث الأموات فيكون إشارة إلى أن النوم واليقظة أنموذج للموت والنشور‏.‏ وعن لقمان عليه السلام يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر‏.‏

‏{‏وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح‏}‏ وقرأ ابن كثير على التوحيد إرادة للجنس‏.‏ ‏{‏نشَرًا‏}‏ ناشرات للحساب جمع نشور، وقرأ ابن عامر بالسكون على التخفيف وحمزة والكسائي به وبفتح النون على أنه مصدر وصف به وعاصم ‏{‏بُشْرًا‏}‏ تخفيف بشر جمع بشور بمعنى مبشر ‏{‏بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ‏}‏ يعني قدام المطر‏.‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً طَهُوراً‏}‏ مطهراً لقوله ‏{‏لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ‏}‏‏.‏ وهو اسم لما يتطهر به كالوضوء والوقود لما يتوضأ به ويوقد به‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ التراب طهور المؤمن ‏"‏ ‏"‏ طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسل سبعاً إحداهن بالتراب ‏"‏ وقيل بليغاً في الطهارة وفعول وإن غلب في المعنيين لكنه قد جاء للمفعول كالضبوث وللمصدر كالقبول وللاسم كالذنوب، وتوصيف الماء به إشعاراً بالنعمة فيه وتتميم للمنة فيما بعده فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما خالطه ما يزيل طهوريته، وتنبيه على أن ظواهرهم لما كانت مما ينبغي أن يطهروها فبواطنهم بذلك أولى‏.‏

‏{‏لّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً‏}‏ بالنبات وتذكير ‏{‏مَيْتًا‏}‏ لأن البلدة في معنى البلد، ولأنه غير جار على الفعل كسائر أبنية المبالغة فأجرى مجرى الجامد‏.‏ ‏{‏وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أنعاما وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً‏}‏ يعني أهل البوادي الذين يعيشون بالحيا ولذلك نكر الأنعام والأناسي، وتخصيصهم لأن أهل المدن والقرى يقيمون بقرب الأنهار، والمنافع فيهم وبما حولهم من الأنعام غنية عن سقيا السماء وسائر الحيوانات تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب غالباً مع أن مساق هذه الآيات كما هو للدلالة على عظم القدرة، فهو لتعداد أنواع النعمة والأنعام قنية الإِنسان وعامة منافعهم وعلية معايشهم منوطة بها، ولذلك قدم سقيها على سقيهم كما قدم عليها إحياء الأرض فإنه سبب لحياتها وتعيشها، وقرئ ‏{‏نسقيه‏}‏ بالفتح وسقى وأسقى لغتان، وقيل أسقاه جعل له سقياً ‏{‏وَأَنَاسِيَّ‏}‏ بحذف ياء وهو جمع إنسي أو إنسان كظرابي في ظربان على أن أصله أناسين فقلبت النون ياء‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ صرفناه بَيْنَهُمْ‏}‏ صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وسائر الكتب، أو المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصفات المتفاوتة من وابل وطل وغيرهما، وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ «ما عام أمطر من عام ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما شاء وتلا هذه الآية» أو في الأنهار والمنافع‏.‏

‏{‏لّيَذَّكَّرُواْ‏}‏ ليتفكروا ويعرفوا كمال القدرة وحق النعمة في ذلك ويقوموا بشكره، أو ليعتبروا بالصرف عنهم وإليهم‏.‏ ‏{‏فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا‏}‏ إلا كفران النعمة وقلة الاكتراث لها، أو جحودها بأن يقولوا مطرنا بنوء كذا، ومن لا يرى الأمطار إلا من الأنواء كان كافراً بخلاف من يرى أنها من خلق الله، والأنواء وسائط وأمارات بجعله تعالى‏.‏

‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً‏}‏ نبياً ينذر أهلها فيخف عليك أعباء النبوة لكن قَصَرْنَا الأمر عليك إجلالاً لك وتعظيماً لشأنك وتفضيلاً لك على سائر الرسل، فَقَابِل ذلك بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق‏.‏

‏{‏فَلاَ تُطِعِ الكافرين‏}‏ فيما يريدونك عليه، وهو تهييج له عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين‏.‏ ‏{‏وجاهدهم بِهِ‏}‏ بالقرآن أو بترك طاعتهم الذي يدل عليه فلا تطع، والمعنى أنهم يجتهدون في إبطال حقك فقابلهم بالاجتهاد في مخالفتهم وإزاحة باطلهم‏.‏ ‏{‏جِهَاداً كَبيراً‏}‏ لأن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف، أو لأن مخالفتهم ومعاداتهم فيما بين أظهرهم مع عتوهم وظهورهم، أو لأنه جهاد مع كل الكفرة لأنه مبعوث إلى كافة القرى‏.‏

‏{‏وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين‏}‏ خلاهما متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان من مرج دابته إذا خلاها‏.‏ ‏{‏هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ‏}‏ قامع للعطش من فرط عذوبته‏.‏ ‏{‏وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ‏}‏ بليغ الملوحة، وقرئ ‏{‏مِلْحٌ‏}‏ على فعل ولعل أصله مالح فخفف كبرد في بارد‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً‏}‏ حاجزاً من قدرته‏.‏ ‏{‏وَحِجْراً مَّحْجُوراً‏}‏ وتنافراً بليغاً كأن كلاً منهما يقول للآخر ما يقوله المتعوذ للمتعوذ عنه، وقيل حدا محدوداً وذلك كدجلة تدخل البحر فتشقه فتجري في خلاله فراسخ لا يتغير طعمها، وقيل المراد بالبحر العذب النهر العظيم مثل النيل وبالبحر الملح البحر الكبير وبالبرزخ ما يحول بينهما من الأرض فتكون القدرة في الفصل واختلاف الصفة مع أن مقتضى طبيعة أجزاء كل عنصر أن تضامت وتلاصقت وتشابهت في الكيفية‏.‏

‏{‏وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ الماء بَشَراً‏}‏ تعني الذي خمر به طينة آدم، أو جعله جزءاً من مادة البشر لتجتمع لتبشر وتسلس وتقبل الأشكال والهيئات بسهولة، أو النطفة‏.‏ ‏{‏فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً‏}‏ أي قسمه قسمين ذوي نسب أي ذكوراً ينسب إليهم، وذاوت صهر أي إناثاً يصاهر بهن كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى‏}‏ ‏{‏وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً‏}‏ حيث خلق من مادة واحدة بشراً ذا أعضاء مختلفة وطباع متباعدة وجعله قسمين متقابلين، وربما يخلق من نطفة واحدة توأمين ذكراً وأنثى‏.‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ‏}‏ يعني الأصنام أو كل ما عبد من دون الله إذ ما من مخلوق يستقل بالنفع والضر‏.‏

‏{‏وَكَانَ الكافر على رَبّهِ ظَهِيراً‏}‏ يظاهر الشيطان بالعداوة والشرك والمراد ب ‏{‏الكافر‏}‏ الجنس أو أبو جهل‏.‏ وقيل هيناً مهيناً لا وقع له عنده من قولهم ظهرت به إذا نبذته خلف ظهرك فيكون كقوله ‏{‏وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا‏}‏ للمؤمنين والكافرين‏.‏

‏{‏قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ‏}‏ على تبليغ الرسالة الذي يدل عليه ‏{‏إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا‏}‏‏.‏ ‏{‏مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء‏}‏ إلا فعل من شاء‏.‏ ‏{‏أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً‏}‏ أن يتقرب إليه ويطلب الزلفى عنده بالإِيمان والطاعة، فصور ذلك بصورة الأجر من حيث إنه مقصود فعله واستثناه منه قلعاً لشبهة الطمع وإظهاراً لغاية الشفقة، حيث اعتد بإنفاعك نفسك بالتعرض للثواب والتخلص عن العقاب أجراً وافياً مرضياً به مقصوراً عليه، وإشعاراً بأن طاعتهم تعود عليه بالثواب من حيث إنها بدلالته‏.‏ وقيل الاستثناء منقطع معناه لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً فليفعل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 77‏]‏

‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ‏(‏58‏)‏ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ‏(‏59‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ‏(‏60‏)‏ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ‏(‏61‏)‏ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ‏(‏62‏)‏ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ‏(‏63‏)‏ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ‏(‏64‏)‏ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ‏(‏65‏)‏ إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ‏(‏66‏)‏ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ‏(‏67‏)‏ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ‏(‏68‏)‏ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ‏(‏69‏)‏ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏70‏)‏ وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ‏(‏71‏)‏ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ‏(‏72‏)‏ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ‏(‏73‏)‏ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ‏(‏74‏)‏ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ‏(‏75‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ‏(‏76‏)‏ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ‏}‏ في استكفاء شرورهم والإِغناء عن أجورهم، فإنه الحقيق بأن يتوكل عليه دون الأحياء الذين يموتون فإنهم إذا ماتوا ضاع من توكل عليهم‏.‏ ‏{‏وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ‏}‏ ونزهه عن صفات النقصان مثنياً عليه بأوصاف الكمال طالباً لمزيد الأنعام بالشكر على سوابغه‏.‏ ‏{‏وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ‏}‏ ما ظهر منها وما بطن‏.‏ ‏{‏خَبِيراً‏}‏ مطلعاً فلا عليك أن آمنوا أو كفروا‏.‏

‏{‏الذي خَلَقَ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش الرحمن‏}‏ قد سبق الكلام فيه، ولعل ذكره زيادة تقرير لكونه حقيقاً بأن يتوكل عليه من حيث إنه الخالق للكل والمتصرف فيه، وتحريض على الثبات والتأني في الأمر فإنه تعالى مع كمال قدرته وسرعة نفاذ أمره في كل مراد خلق الأشياء على تؤدة وتدرج، و‏{‏الرحمن‏}‏ خبر للذي إن جعلته مبتدأ ولمحذوف إن جعلته صفة للحي، أو بدل من المستكن في ‏{‏استوى‏}‏ وقرئ بالجر صفة للحي‏.‏ ‏{‏فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً‏}‏ فاسأل عما ذكر من الخلق والاستواء عالماً يخبرك بحقيقته وهو الله تعالى، أو جبريل أو من وجده في الكتب المتقدمة ليصدقك فيه، وقيل الضمير ‏{‏للرحمن‏}‏ والمعنى إن أنكروا إطلاقه على الله تعالى فاسأل عنه من يخبرك من أهل الكتاب ليعرفوا مجيء ما يرادفه في كتبهم، وعلى هذا يجوز أن يكون ‏{‏الرحمن‏}‏ مبتدأ والخبر ما بعده والسؤال كما يعدى بعن لتضمنه معنى التفتيش يعدى بالياء لتضمنه معنى الاعتناء‏.‏ وقيل إنه صلة ‏{‏خَبِيراً‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن قَالُواْ وَمَا الرحمن‏}‏ لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله، أو لأنهم ظنوا أنه أراد به غيره ولذلك قالوا‏:‏ ‏{‏أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا‏}‏ أي للذي تأمرناه يعني تأمرنا بسجوده أو لأمرك لنا من غير عرفان‏.‏ وقيل لأنه كان معرباً لم يسمعوه‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي «يأمرنا» بالياء على أنه قول بعضهم لبعض‏.‏ ‏{‏وَزَادَهُمْ‏}‏ أي الأمر بالسجود ‏{‏للرحمن‏}‏‏.‏ ‏{‏نُفُورًا‏}‏ عن الإِيمان‏.‏

‏{‏تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السماء بُرُوجاً‏}‏ يعني البروج الاثني عشر سميت به وهي القصور العالية لأنها للكواكب السيارة كالمنازل لسكانها واشتقاقه من التبرج لظهوره‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً‏}‏ يعني الشمس لقوله ‏{‏وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً‏}‏ وقرأ حمزة والكسائي «سرجاً» وهي الشمس والكواكب الكبار‏.‏ ‏{‏وَقَمَراً مُّنِيراً‏}‏ مضيئاً بالليل، وقرئ ‏{‏وَقَمَراً‏}‏ أي ذا قمر وهو جمع قمراء ويحتمل أن يكون بمعنى القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب‏.‏

‏{‏وَهُوَ الذى جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً‏}‏ أي ذوي خلفة يخلف كل منهما الآخر بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه، أو بأن يعتقبا لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واختلاف اليل والنهار‏}‏ وهي للحالة من خلف كالركبة والجلسة‏.‏ ‏{‏لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ‏}‏ بأن يتذكر آلاء الله ويتفكر في صنعه فيعلم أن لا بد له من صانع حكيم واجب الذات رحيم على العباد‏.‏

‏{‏أَوْ أَرَادَ شُكُوراً‏}‏ أن يشكر الله تعالى على ما فيه من النعم، أو ليكونا وقتين للمتذكرين الشاكرين من فاته ورده في أحدهما تداركه في الآخرة، وقرأ حمزة ‏{‏أَن يَذَّكَّرَ‏}‏ من ذكر بمعنى تذكر وكذلك ليذكروا ووافقه الكسائي فيه‏.‏

‏{‏وَعِبَادُ الرحمن‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة‏}‏ أو‏:‏ ‏{‏الذين يَمْشُونَ على الأرض‏}‏ وإضافتهم إلى ‏{‏الرحمن‏}‏ للتخصيص والتفضيل، أو لأنهم الراسخون في عبادته على أن عباد جمع عابد كتاجر وتجار‏.‏ ‏{‏هَوْناً‏}‏ هينين أو مشياً هيناً مصدر وصف به والمعنى أنهم يمشون بسكينة وتواضع ‏{‏وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً‏}‏ تسلماً منكم ومتاركة لكم لا خير بيننا ولا شر، أو سداداً من القول يسلمون فيه من الإِيذاء والإِثم، ولا ينافيه آية القتال لتنسخه فإن المراد به الإِغضاء عن السفهاء وترك مقابلتهم في الكلام‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وقياما‏}‏ في الصلاة، وتخصيص البيتوتة لأن العبادة بالليل أحمز وأبعد عن الرياء وتأخير القيام للروي وهو جمع قائم أو مصدر أجري مجراه‏.‏

‏{‏والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً‏}‏ لازماً ومنه الغريم لملازمته، وهو إيذان بأنهم مع حسن مخالطتهم مع الخلق واجتهادهم في عبادة الحق وجلون من العذاب مبتهلون إلى الله تعالى في صرفه عنهم لعدم اعتدادهم بأعمالهم ووثوقهم على استمرار أحوالهم‏.‏

‏{‏إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً‏}‏ أي بئست مستقراً، وفيها ضمير مبهم يفسره المميز والمخصوص بالذم ضمير محذوف به ترتبط الجملة باسم إن، أو أحزنت وفيها ضمير اسم أن ومستقراً حال أو تمييز والجملة تعليل للعلة الأولى أو تعليل ثان وكلاهما يحتملان الحكاية والإِبتداء من الله‏.‏

‏{‏والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ‏}‏ لم يجاوزوا حد الكرم‏.‏ ‏{‏وَلَمْ يَقْتُرُواْ‏}‏ ولم يضيقوا تضييق الشحيح‏.‏ وقيل الإِسراف هو الإِنفاق في المحارم والتقتير منع الواجب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء وكسر التاء ونافع وابن عامر والكوفيون بضم الياء وكسر التاء من أقتر، وقرئ بالتشديد والكل واحد‏.‏ ‏{‏وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً‏}‏ وسطاً عدلاً سمي به لاستقامة الطرفين كما سمي سواء لاستوائهما، وقرئ بالكسر وهو ما يقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص وهو خبر ثان أو حال مؤكدة، ويجوز أن يكون الخبر بين ذلك لغواً، وقيل إنه اسم ‏{‏كَانَ‏}‏ لكنه مبني لإِضافته إلى غير متمكن وهو ضعيف لأنه بمعنى القوام فيكون كالإِخبار بالشيء عن نفسه‏.‏

‏{‏والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التى حَرَّمَ الله‏}‏ أي حرمها بمعنى حرم قتلها‏.‏ ‏{‏إِلاَّ بالحق‏}‏ متعلق بالقتل المحذوف، أو بلا يقتلون ‏{‏وَلاَ يَزْنُونَ‏}‏ نفى عنهم أمهات المعاصي بعدما أثبت لهم أصول الطاعات إظهاراً لكمال إيمانهم وإشعاراً بأن الأجر المذكور موعود للجامع بين ذلك، وتعريضاً للكفرة بأضداده ولذلك عقبه بالوعيد تهديداً لهم فقال‏:‏ ‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً‏}‏ جزاء إثم أو إثماً بإضمار الجزاء، وقرئ «أياماً» أي شدائد يقال يوم ذو أيام أي صعب‏.‏

‏{‏يضاعف لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة‏}‏ بدل من ‏{‏يَلْقَ‏}‏ لأنه في معناه كقوله‏:‏

مَتَى تَأَتِنَا تُلمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا *** تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا

وقرأ أبو بكر بالرفع على الاستئناف أو الحال وكذلك‏:‏ ‏{‏وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً‏}‏ وابن كثير ويعقوب يضعف بالجزم وابن عامر بالرفع فيهما مع التشديد وحذف الأَلف في «يضعف»، وقرئ ‏{‏وَيَخْلُدْ‏}‏ على بناء المفعول مخففاً، وقرئ مثقلاً وتضعيف العذاب مضاعفته لانضمام المعصية إلى الكفر ويدل عليه قوله‏:‏

‏{‏إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالحا فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حسنات‏}‏ بأن يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة ويثبت مكانها لواحق طاعتهم، أو يبدل ملكة المعصية في النفس بملكة الطاعة‏.‏ وقيل بأن يوفقه لأضداد ما سلف منه، أو بأن يثبت له بدل كل عقاب ثواباً‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ فلذلك يعفو عن السيئات ويثيب على الحسنات‏.‏

‏{‏وَمَن تَابَ‏}‏ عن المعاصي بتركها والندم عليها‏.‏ ‏{‏وَعَمِلَ صالحا‏}‏ يتلافى به ما فرط، أو خرج عن المعاصي ودخل في الطاعة‏.‏ ‏{‏فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله‏}‏ يرجع إلى الله بذلك‏.‏ ‏{‏مَتاباً‏}‏ مرضياً عند الله ماحياً للعقاب محصلاً للثواب، أو يتوب متاباً إلى الله الذي يحب التائبين ويصطنع بهم؛ أو فإنه يرجع إلى الله وإلى ثوابه مرجعاً حسناً وهو تعميم بعد تخصيص‏.‏

‏{‏والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ‏}‏ لا يقيمون الشهادة الباطلة، أو لا يحضرون محاضر الكذب فإن مشاهدة الباطل شركة فيه‏.‏ ‏{‏وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ‏}‏ ما يجب أن يلقى ويطرح‏.‏ ‏{‏مَرُّواْ كِراماً‏}‏ معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه والخوض فيه، ومن ذلك الإِغضاء عن الفواحش والصفح عن الذنوب والكناية عما يستهجن التصريح به‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بئايات رَبّهِمْ‏}‏ بالوعظ أو القراءة‏.‏ ‏{‏لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً‏}‏ لم يقيموا عليها غير واعين لها ولا متبصرين بما فيها كمن لاَ يسمع ولا يبصر، بل أكبوا عليها سامعين بآذان واعية مبصرين بعيون راعية، فالمراد من النفي نفي الحال دون الفعل كقولك‏:‏ لا يلقاني زيد مسلماً‏.‏ وقيل الهاء للمعاصي المدلول عليها ‏{‏باللغو‏}‏‏.‏

‏{‏والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أزواجنا وذرياتنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ‏}‏ بتوفيقهم للطاعة وحيازة الفضائل، فإن المؤمن إذا شاركه أهله في طاعة الله سر بهم قلبه وقرت بهم عينه لما يرى من مساعدتهم له في الدين وتوقع لحوقهم به في الجنة، و‏{‏مِنْ‏}‏ إبتدائية أو بيانية كقولك‏:‏ رأيت منك أسداً، وقرأ حمزة وأبو عمرو والكسائي وأبو بكر «وذريتنا» وقرأ ابن عامر والحرميان وحفص ويعقوب ‏{‏وذرياتنا‏}‏ بالألف، وتنكير ال ‏{‏أَعْيُنٍ‏}‏ لإِرادة تنكير ال ‏{‏قُرَّةَ‏}‏ تعظيماً وتقليلها لأن المراد أعين المتقين وهي قليلة بالإِضافة إلى عيون غيرهم‏.‏

سورة الشعراء

مكية إلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالشُّعَراءُ يَتَبِعُهُمُ الغَاوُونَ‏}‏ إلى آخرها وهي مائتان وست أو سبع وعشرون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 15‏]‏

‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏

‏{‏طسم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ‏(‏4‏)‏ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ‏(‏5‏)‏ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏6‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ‏(‏7‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏9‏)‏ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏10‏)‏ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ ‏(‏11‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ‏(‏12‏)‏ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ‏(‏13‏)‏ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ‏(‏14‏)‏ قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏طسم‏}‏ قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بالإِمالة، ونافع بين كراهة للعود إلى الياء المهروب منها، وأظهر نونه حمزة لأنه في الأصل منفصل عما بعده‏.‏

‏{‏تِلْكَ ءَايَاتُ الكتاب المبين‏}‏ الظاهر إعجازه وصحته، والإِشارة إلى السورة أو القرآن على ما قرر في أول «البقرة»‏.‏

‏{‏لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ‏}‏ قاتل نفسك، وأصل البخع أن يبلغ بالذبح النخاع وهو عرق مستبطن الفقار وذلك أقصى حد الذبح، وقرئ ‏{‏باخع نَّفْسَكَ‏}‏ بالإِضافة، ولعل للإِشفاق أي أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة‏.‏ ‏{‏أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ لئلا يؤمنوا أو خيفة أن لا يؤمنوا‏.‏

‏{‏إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السماء ءَايَةً‏}‏ دلالة ملجئة إلى الإِيمان أو بلية قاسرة عليه‏.‏ ‏{‏فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين‏}‏ منقادين وأصله فظلوا لها خاضعين فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع وترك الخبر على أصله‏.‏ وقيل لما وصفت الأعناق بصفات العقلاء أجريت مجراهم‏.‏ وقيل المراد بها الرؤساء أو الجماعات من قولهم‏:‏ جاءنا عنق من الناس لفوج منهم، وقرئ ‏{‏خاضعة‏}‏ و‏{‏ظَلْتَ‏}‏ عطف على ‏{‏نُنَزّلُ‏}‏ عطف وأكن على فأصدق لأنه لو قيل أنزلنا بدله لصح‏.‏

‏{‏وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ‏}‏ موعظة أو طائفة من القرآن‏.‏ ‏{‏مّنَ الرحمن‏}‏ يوحيه إلى نبيه‏.‏ ‏{‏مُّحْدَثٍ‏}‏ مجدد إنزاله لتكرير التذكير وتنويع التقرير‏.‏ ‏{‏إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ‏}‏ إلا جددوا إعراضاً عنه وإصراراً على ما كانوا عليه‏.‏

‏{‏فَقَدْ كَذَّبُواْ‏}‏ أي بالذكر بعد إعراضهم وأمعنوا في تكذيبه بحيث أدى بهم إلى الاستهزاء به المخبر به عنهم ضمناً في قوله‏:‏ ‏{‏فَسَيَأْتِيهِمْ‏}‏ أي إذا مسهم عذاب الله يوم بدر أو يوم القيامة‏.‏ ‏{‏أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ‏}‏ من أنه كان حقاً أم باطلاً، وكان حقيقاً بأن يصدق ويعظم قدره أو يكذب فيستخف أمره‏.‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض‏}‏ أو لم ينظروا إلى عجائبها‏.‏ ‏{‏كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ‏}‏ صنف‏.‏ ‏{‏كَرِيمٌ‏}‏ محمود كثير المنفعة، وهو صفة لكل ما يحمد ويرضى، وههنا يحتمل أن تكون مقيدة لما يتضمن الدلالة على القدرة، وأن تكون مبينة منبهة على أنه ما من نبت إلا وله فائدة إما وحده أو مع غيره، و‏{‏كُلٌّ‏}‏ لإِحاطة الأزواج ‏{‏وَكَمْ‏}‏ لكثرتها‏.‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ‏}‏ إن في إنبات تلك الأصناف أو في كل واحد‏.‏ ‏{‏لآيَةً‏}‏ على أن منبتها تام القدرة والحكمة، سابغ النعمة والرحمة‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ في علم الله وقضائه فلذلك لا ينفعهم أمثال هذه الآيات العظام‏.‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز‏}‏ الغالب القادر على الانتقام من الكفرة‏.‏ ‏{‏الرحيم‏}‏ حيث أمهلهم أو العزيز في انتقامه ممن كفر الرحيم لمن تاب وآمن‏.‏

‏{‏وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى‏}‏ مقدر باذكر أو ظرف لما بعده‏.‏ ‏{‏أَنِ ائت‏}‏ أي ‏{‏ائت‏}‏ أو بأن ‏{‏ائت‏}‏‏.‏ ‏{‏القوم الظالمين‏}‏ بالكفر واستعباد بني إسرائيل‏.‏ وذبح أولادهم‏.‏

‏{‏قَوْمِ فِرْعَونَ‏}‏ بدل من الأول أو عطف بيان له، ولعل الإِقتصار على القوم للعلم بأن فرعون كان أولى بذلك‏.‏ ‏{‏أَلا يَتَّقُونَ‏}‏ استئناف أتبعه إرساله إليهم للإِنذار تعجيباً له من إفراطهم في الظلم واجترائهم عليه، وقرئ بالتاء على الالتفات إليهم زجراً لهم وغضباً عليهم، وهم وإن كان غيباً حينئذ أجروا مجرى الحاضرين في كلام المرسل إليهم من حيث إنه مبلغه إليهم وإسماعه مبدأ إسماعهم، مع ما فيه من مزيد الحث على التقوى لمن تدبره وتأمل مورده، وقرئ بكسر النون اكتفاء بها عن ياء الإِضافة، ويحتمل أن يكون بمعنى ألا يا ناس اتقون كقوله‏:‏ أَلا يا اسجدوا‏.‏

‏{‏قَالَ رَبّ إِنّي أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إلى هارون‏}‏ رتب استدعاء ضم أخيه إليه وإشراكه له في الأمر على الأمور الثلاثة‏:‏ خوف التكذيب، وضيق القلب انفعالاً عنه، وازدياد الحبسة في اللسان بانقباض الروح إلى باطن القلب عند ضيقه بحيث لا ينطلق، لأنها إذا اجتمعت مست الحاجة إلى معين يقوي قلبه وينوب منابه متى تعتريه حبسة حتى لا تختل دعوته ولا تنبتر حجته، وليس ذلك تعللاً منه وتوقفاً في تلقي الأمر، بل طلباً لما يكون معونة على امتثاله وتمهيد عذره فيه، وقرأ يعقوب ‏{‏وَيَضِيقُ‏}‏ ‏{‏وَلاَ يَنطَلِقُ‏}‏ بالنصب عطفاً على ‏{‏يَكْذِبُونَ‏}‏ فيكونان من جملة ما خاف منه‏.‏

‏{‏وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ‏}‏ أي تبعة ذنب فحذف المضاف أو سمي باسمه، والمراد قتل القبطي وإنما سماه ذنباً على زعمهم، وهذا اختصار قصته المبسوطة في مواضع‏.‏ ‏{‏فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ‏}‏ به قبل أداء الرسالة، وهو أيضاً ليس تعللاً وإنما هو استدفاع للبلية المتوقعة، كما إن ذاك استمداد واستظهار في أمر الدعوة وقوله‏:‏

‏{‏قَالَ كَلاَّ فاذهبا بئاياتنا‏}‏ إجابة له إلى الطلبتين بوعده بدفع بلائهم اللازم ردعه عن الخوف، وضم أخيه إليه في الإِرسال، والخطاب في ‏{‏فاذهبا‏}‏ على تغليب الحاضر لأنه معطوف على الفعل الذي يدل عليه ‏{‏كَلاَّ‏}‏ كأنه قيل‏:‏ ارتدع يا موسى عما تظن فاذهب أنت والذي طلبته‏.‏ ‏{‏إِنَّا مَعَكُمْ‏}‏ يعني موسى وهرون وفرعون‏.‏ ‏{‏مُّسْتَمِعُونَ‏}‏ سامعون لما يجري بينكما وبينه فأظهركما عليه، مثل نفسه تعالى بمن حضر مجادلة قوم استماعاً لما يجري بينهم وترقباً لإِمداد أوليائه منهم، مبالغة في الوعد بالإِعانة، ولذلك تجوز بالاستماع الذي هو بمعنى الإِصغاء للسمع الذي هو مطلق إدراك الحروف والأصوات، وهو خبر ثان أو الخبر وحده ‏{‏ومعكم‏}‏ لغو‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 42‏]‏

‏{‏فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏17‏)‏ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ‏(‏18‏)‏ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏19‏)‏ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ‏(‏20‏)‏ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏21‏)‏ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏22‏)‏ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏23‏)‏ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ‏(‏24‏)‏ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ‏(‏25‏)‏ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏26‏)‏ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ‏(‏27‏)‏ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏28‏)‏ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ‏(‏29‏)‏ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ‏(‏30‏)‏ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏31‏)‏ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ‏(‏32‏)‏ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏33‏)‏ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ‏(‏34‏)‏ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ‏(‏35‏)‏ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏36‏)‏ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ‏(‏37‏)‏ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ‏(‏38‏)‏ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ‏(‏39‏)‏ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ‏(‏40‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ‏(‏41‏)‏ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين‏}‏ أفرد الرسول لأنه مصدر وصف به فإنه مشترك بين المرسل والرسالة، قال الشاعر‏:‏

لَقَدْ كَذبَ الوَاشُونَ مَا فُهْتُ عِنْدَهُم *** بِسِرٍ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ

ولذلك ثنى تارة وأفرد أخرى، أو لاتحادهما للأخوة أو لوحدة المرسل والمرسل به، أو لأنه أراد أن كل واحد منا‏.‏

‏{‏أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسراءيل‏}‏ أي أرسل لتضمن الرسول معنى الإِرسال المتضمن معنى القول، والمراد خلهم ليذهبوا معنا إلى الشام‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ أي فرعون لموسى بعد ما أتياه فقالا له ذلك‏.‏ ‏{‏أَلَمْ نُرَبٍِّكَ فِينَا‏}‏ في منازلنا‏.‏ ‏{‏وَلِيداً‏}‏ طفلاً سمي به لقربه من الولادة‏.‏ ‏{‏وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ‏}‏ قيل لبث فيهم ثلاثين سنة ثم خرج إلى مدين عشر سنين ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله ثلاثين، ثم بقي بعد الغرق خمسين‏.‏

‏{‏وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ‏}‏ يعني قتل القبطي، وبخه به معظماً إياه بعدما عدد عليه نعمته، وقرئ فعلتك بالكسر لأنها كانت قتلة بالوكز‏.‏ ‏{‏وَأَنتَ مِنَ الكافرين‏}‏ بنعمتي حتى عمدت إلى قتل خواصي، أو ممن تكفرهم الآن فإنه عليه الصلاة والسلام كان يعايشهم بالتقية فهو حال من إحدى التاءين، ويجوز أن يكون حكماً مبتدأ عليه بأنه من الكافرين بآلهيته أو بنعمته لما عاد عليه بالمخالفة، أو من الذين كانوا يكفرون في دينهم‏.‏

‏{‏قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين‏}‏ من الجاهلين وقد قرئ به، والمعنى من الفاعلين فعل أولي الجهل والسفه، أو من الخاطئين لأنه لم يتعمد قتله، أو من الذاهلين عما يؤول إليه الوكز لأنه أراد به التأديب، أو الناسين من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا‏}‏ ‏{‏فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبّي حُكْماً‏}‏ حكمة‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين‏}‏ رد أولاً بذلك ما وبخه به قدحاً في نبوته ثم كر على ما عد عليه من النعمة ولم يصرح برده لأنه كان صدقاً غير قادح في دعواه، بل نبه على أنه كان في الحقيقة نقمة لكونه مسبباً عنها فقال‏:‏

‏{‏وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إسراءيل‏}‏ أي وتلك التربية نعمة تمنها علي ظاهراً، وهي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل وقصدهم بذبح أبنائهم، فإنه السبب في وقوعي إليك وحصولي في تربيتك‏.‏ وقيل إنه مقدر بهمزة الإِنكار أي تلك نعمة تمنها علي وهي ‏{‏أَنْ عَبَّدتَّ‏}‏، ومحل ‏{‏أَنْ عَبَّدتَّ‏}‏ الرفع على أنه خبر محذوف أو بدل ‏{‏نِعْمَة‏}‏ أو الجر بإضمار الباء أو النصب بحذفها‏.‏ وقيل تلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة و‏{‏أَنْ عَبَّدتَّ‏}‏ عطف بيانها والمعنى‏:‏ تعبيدك بني إسرائيل نعمة ‏{‏تَمُنُّهَا‏}‏ علي، وإنما وحد الخطاب في تمنها وجمع فيما قبله لأن المنة كانت منه وحده، والخوف والفرار منه ومن ملئه‏.‏

‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين‏}‏ لما سمع جواب ما طعن به فيه ورأى أنه لم يرعو بذلك شرع في الاعتراض على دعواه فبدأ بالاستفسار عن حقيقة المرسل‏.‏

‏{‏قَالَ رَبُّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ عرفه بأظهر خواصه وآثاره لما امتنع تعريف الأفراد إلا بذكر الخواص والأفعال وإليه أشار بقوله‏:‏

‏{‏إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ‏}‏ أي إن كنتم موقنين الأشياء محققين لها علمتم أن هذه الأجرام المحسوسة ممكنة لتركبها وتعددها وتغير أحوالها، فلها مبدئ واجب لذاته وذلك المبدئ لا بد وأن يكون مبدأ لسائر الممكنات ما يمكن أن يحس بها وما لا يمكن وإلا لزم تعدد الواجب، أو استغناء بعض الممكنات عنه وكلاهما محال ثم ذلك الواجب لا يمكن تعريفه إلا بلوازمه الخارجية لامتناع التعريف بنفسه وبما هو داخل فيه لاستحالة التركيب في ذاته‏.‏

‏{‏قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ‏}‏ جوابه سألته عن حقيقته وهو يذكر أفعاله، أو يزعم أنه ‏{‏رَبّ السموات‏}‏ وهي واجبة متحركة لذاتها كما هو مذهب الدهرية، أو غير معلوم افتقارها إلى مؤثر‏.‏

‏{‏قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الأولين‏}‏ عدولاً إلى ما لا يمكن أن يتوهم فيه مثله ويشك في افتقاره إلى مصور حكيم ويكون أقرب إلى الناظر وأوضح عند التأمل‏.‏

‏{‏قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ‏}‏ أسأله عن شيء ويجيبني عن آخر، وسماه رسولاً على السخرية‏.‏

‏{‏قَالَ رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ تشاهدون كل يوم أنه يأتي بالشمس من المشرق ويحركها على مدار غير مدار اليوم الذي قبله حتى يبلغها إلى المغرب على وجه نافع تنتظم به أمور الكائنات‏.‏ ‏{‏إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ إن كان لكم عقل علمتم أن لا جواب لكم فوق ذلك لاينهم أولاً، ثم لما رأى شدة شكيمتهم خاشنهم وعارضهم بمثل مقالهم‏.‏

‏{‏قَالَ لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِى لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين‏}‏ عدولاً إلى التهديد عن المحاجة بعد الانقطاع وهكذا ديدن المعاند المحجوج، واستدل به على ادعائه الألوهية وإنكاره الصانع وأن تعجبه بقوله ‏{‏أَلاَ تَسْتَمِعُونَ‏}‏ من نسبة الربوبية إلى غيره، ولعله كان دهرياً اعتقد أن من ملك قطراً أو تولى أمره بقوة طالعه استحق العبادة من أهله، واللام في ‏{‏المسجونين‏}‏ للعهد أي ممن عرفت حالهم في سجوني فإنه كان يطرحهم في هوة عميقة حتى يموتوا ولذلك جعل أبلغ من لأسجننك‏.‏

‏{‏قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ‏}‏ أي أتفعل ذلك ولو جئتك بشيء يبين صدق دعواي، يعني المعجزة فإنها الجامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته والدلالة على صدق مدعي نبوته، فالواو للحال وليها الهمزة بعد حذف الفعل‏.‏

‏{‏قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين‏}‏ في أن لك بينة أو في دعواك، فإن مدعي النبوة لا بُدَّ له من حجة‏.‏

‏{‏فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر ثعبانيته واشتقاق الثعبان من ثعبت الماء فانثعب إذا فجرته فانفجر‏.‏

‏{‏وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء للناظرين‏}‏ روي أن فرعون لما رأى الآية الأولى قال فهل غيرها، فأخرج يده قال فما فيها فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق‏.‏

‏{‏قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ‏}‏ مستقرين حوله فهو ظهر وقع موقع الحال‏.‏ ‏{‏إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ‏}‏ فائق في علم السحر‏.‏

‏{‏يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ‏}‏ بهره سلطان المعجزة حتى حطه عن دعوى الربوبية إلى مؤامرة القوم وائتمارهم وتنفيرهم عن موسى وإظهار الاستشعار عن ظهوره واستيلائه على ملكه‏.‏

‏{‏قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ‏}‏ أي أخر أمرهما‏.‏ وقيل إحبسهما‏.‏ ‏{‏وابعث فِي المدائن حاشرين‏}‏ شرطاً يحشرون السحرة‏.‏

‏{‏يَأْتُوكَ بِكُلّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ‏}‏ يفضلون عليه في هذا الفن وأمالها ابن عامر وأبو عمرو والكسائي، وقرئ «بكل ساحر»‏.‏

‏{‏فَجُمِعَ السحرة لميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ‏}‏ لما وقت به من ساعات يوم معين وهو وقت الضحى من يوم الزينة‏.‏

‏{‏وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ‏}‏ فيه استبطاء لهم في الاجتماع حثاً على مبادرتهم إليه كقول تأبط شراً‏:‏

هَلْ أَنْتَ بَاعِثٌ دِينَارٍ لحَاجَتِنَا *** أَوْ عَبْدَ رَبٍّ أَخَا عَوْنِ بن مِخْرَاقِ

أي ابعث أحدهما إلينا سريعاً‏.‏

‏{‏لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين‏}‏ لعلنا نتبعهم في دينهم إن غلبوا والترجي باعتبار الغلبة المقتضية للاتباع، ومقصودهم الأصل أن لا يتبعوا موسى لا أن يتبعوا السحرة فساقوا الكلام مساق الكناية لأنهم إذا اتبعوهم لم يتبعوا موسى عليه الصلاة والسلام‏.‏

‏{‏فَلَمَّا جَاء السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين‏}‏ التزم لهم الأجر والقربة عنده زيادة عليه إن أغلبوا فإذا على ما يقتضيه من الجواب والجزاء، وقرئ ‏{‏نِعْمَ‏}‏ بالكسر وهما لغتان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 60‏]‏

‏{‏قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ‏(‏43‏)‏ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ‏(‏44‏)‏ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ‏(‏45‏)‏ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ‏(‏46‏)‏ قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏47‏)‏ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏48‏)‏ قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏49‏)‏ قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ‏(‏50‏)‏ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏51‏)‏ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ‏(‏52‏)‏ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏53‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ‏(‏54‏)‏ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ‏(‏55‏)‏ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ‏(‏56‏)‏ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏57‏)‏ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ‏(‏58‏)‏ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏59‏)‏ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ‏}‏ أي بعدما قالوا له ‏{‏إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين‏}‏، ولم يرد به أمرهم بالسحر والتمويه بل الإِذن في تقديم ما هم فاعلوه لا محالة توسلاً به إلى إظهار الحق‏.‏

‏{‏فَأَلْقَوْاْ حبالهم وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون‏}‏ أقسموا بعزته على أن الغلبة لهم لفرط اعتقادهم في أنفسهم، أو لإِتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر‏.‏

‏{‏فألقى موسى عصاه فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ‏}‏ تبتلع، وقرأ حفص»تَلْقَفْ«بالتخفيف‏.‏ ‏{‏مَا يَأْفِكُونَ‏}‏ ما يقلبونه عن وجهه بتمويههم وتزويرهم فيخيلون حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى، أو إفكهم تسمية للمأفوك به مبالغة‏.‏

‏{‏فَأُلْقِيَ السحرة ساجدين‏}‏ لعلمهم بأن مثله لا يتأتى بالسحر، وفيه دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق يخيل شيئاً لا حقيقة له، وأن التبحر في كل فن نافع‏.‏ وإنما بدل الخرور بالإِلقاء ليشاكل ما قبله ويدل على أنهم لما رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أنفسهم كأنهم أخذوا فطرحوا على وجوههم، وأنه تعالى ألقاهم بما خولهم من التوفيق‏.‏

‏{‏قَالُواْ ءَامَنَّا بِرَبِّ العالمين‏}‏ بدل من «ألقي» بدل الاشتمال أو حال بإضمار قد‏.‏

‏{‏رَبّ موسى وهارون‏}‏ إبدال للتوضيح ودفع التوهم والإِشعار على أن الموجب لإِيمانهم ما أجراه على أيديهما‏.‏

‏{‏قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذى عَلَّمَكُمُ السحر‏}‏ فعلمكم شيئاً دون شيء ولذلك غلبكم، أو فواعدكم على ذلك وتواطأتم عليه، وأراد به التلبيس على قومه كي لا يعتقدوا أنهم آمنوا عن بصيرة وظهور حق، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وروح «أأمنتم» بهمزتين‏.‏ ‏{‏فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ وبال ما فعلتم وقوله‏:‏ ‏{‏لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ بيان له‏.‏

‏{‏قَالُواْ لاَ ضَيْرَ‏}‏ لا ضرر علينا في ذلك‏.‏ ‏{‏إِنَّا إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ‏}‏ بما توعدنا به فإن الصبر عليه محاء للذنوب موجب للثواب والقرب من الله تعالى، أو بسبب من أسباب الموت والقتل أنفعها وأرجاها‏.‏

‏{‏إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خطايانا أَن كُنَّا‏}‏ لأن كنا‏.‏ ‏{‏أَوَّلَ المؤمنين‏}‏ من أتباع فرعون، أو من أهل المشهد والجملة في المعنى تعليل ثان لنفي الضمير، أو تعليل للعلة المتقدمة‏.‏ وقرئ ‏{‏إِن كُنَّا‏}‏ على الشرط لهضم النفس وعدم الثقة بالخاتمة، أو على طريقة المدل بأمره نحو إن أحسنت إليك فلا تنس حقي‏.‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي‏}‏ وذلك بعد سنين أقامها بين أظهرهم يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات فلم يزيدوا إلا عتواً وفساداً، وقرأ ابن كثير ونافع»أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي«بكسر النون ووصل الألف من سرى وقرئ «أن سر» من السير‏.‏ ‏{‏إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ‏}‏ يتبعكم فرعون وجنوده وهو علة الأمر بالإِسراء أي أسر بهم حتى إذا اتبعوكم مصبحين كان لكم تقدم عليهم بحيث لا يدركونكم قبل وصولكم إلى البحر بل يكونون على أثركم حين تلجون البحر فيدخلون مدخلكم فأطبقه عليهم فأغرقهم‏.‏

‏{‏فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ‏}‏ حين أخبر بسراهم‏.‏ ‏{‏فِي المدائن حاشرين‏}‏ العساكر ليتبعوهم‏.‏

‏{‏إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ‏}‏ على إرادة القول وإنما استقلهم وكانوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً بالإِضافة إلى جنوده، إذ روي أنه خرج وكانت مقدمته سبعمائة ألف والشرذمة الطائفة القليلة، ومنها ثوب شراذم لما بلي وتقطع، و‏{‏قَلِيلُونَ‏}‏ باعتبار أنهم أسباط كل سبط منهم قليل‏.‏

‏{‏وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ‏}‏ لفاعلون ما يغيظنا‏.‏

‏{‏وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذرون‏}‏ وإنا لجميع من عادتنا الحذر واستعمال الحزم في الأمور، أشار أولاً إلى عدم ما يمنع اتباعهم من شوكتهم ثم إلى تحقق ما يدعو إليه من فرط عداوتهم ووجوب التيقظ في شأنهم حثاً عليه، أو اعتذر بذلك إلى أهل المدائن كي لا يظن به ما يكسر سلطانه، وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان والكوفيون ‏{‏حاذرون‏}‏ والأول للثبات والثاني للتجدد، وقيل الحاذر المؤدي في السلاح وهو أيضاً من الحذر لأن ذلك إنما يفعل حذراً، وقرئ «حادرون» بالدال المهملة أي أقوياء قال‏:‏

أُحِبُّ الصَّبِيَ السُّوءَ مِنْ أَجْلِ أُمِّهِ *** وَأُبْغِضُهُ مِنْ بُغْضِهَا وَهُوَ حَادِرٌ

أو تامو السلاح فإن ذلك يوجب حدارة في أجسامهم‏.‏

‏{‏فأخرجناهم‏}‏ بأن خلقنا داعية الخروج بهذا السبب فحملتهم عليه‏.‏ ‏{‏مّن جنات وَعُيُونٍ‏}‏‏.‏

‏{‏وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ‏}‏ يعني المنازل الحسنة والمجالس البهية‏.‏

‏{‏كذلك‏}‏ مثل ذلك الإِخراج أخرجنا فهو مصدر، أو مثل ذلك المقام الذي كان لهم على أنه صفة مقام، أو الأمر كذلك فيكون خبر المحذوف‏.‏ ‏{‏وأورثناها بَنِي إسراءيل‏}‏‏.‏

‏{‏فَأَتْبَعُوهُم‏}‏ وقرئ»فَأَتْبَعُوهُم«‏.‏ ‏{‏مُشْرِقِينَ‏}‏ داخلين في وقت شروق الشمس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 94‏]‏

‏{‏فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ‏(‏61‏)‏ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ‏(‏62‏)‏ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ‏(‏63‏)‏ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ ‏(‏64‏)‏ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ‏(‏65‏)‏ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏66‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏67‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏68‏)‏ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ‏(‏69‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ‏(‏70‏)‏ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ‏(‏71‏)‏ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ‏(‏72‏)‏ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ‏(‏73‏)‏ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ‏(‏74‏)‏ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ‏(‏75‏)‏ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ‏(‏76‏)‏ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏77‏)‏ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ‏(‏78‏)‏ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ‏(‏79‏)‏ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ‏(‏80‏)‏ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ‏(‏81‏)‏ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ‏(‏82‏)‏ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ‏(‏83‏)‏ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏84‏)‏ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ‏(‏85‏)‏ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ‏(‏86‏)‏ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ‏(‏87‏)‏ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ‏(‏88‏)‏ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ‏(‏89‏)‏ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏90‏)‏ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ‏(‏91‏)‏ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ‏(‏92‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ‏(‏93‏)‏ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا تَرَآءَ الجمعان‏}‏ تقاربا بحيث رأى كل واحد منهما الآخر، وقرئ «تراءت الفئتان» ‏{‏قَالَ أصحاب موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ‏}‏ لملحقون، وقرئ»لَمُدْرَكُونَ«من أدرك الشيء إذا تتابع ففني، أي‏:‏ لمتتابعون في الهلاك على أيديهم‏.‏

‏{‏قَالَ كَلاَّ‏}‏ لن يدركوكم فإن الله وعدكم بالخلاص منهم‏.‏ ‏{‏إِنَّ مَعِيَ رَبِّي‏}‏ بالحفظ والنصرة‏.‏ ‏{‏سَيَهْدِينِ‏}‏ طريق النجاة منهم، روي أن مؤمن آل فرعون كان بين يدي موسى فقال‏:‏ أين أمرت فهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون، فقال‏:‏ أمرت بالبحر ولعلي أومر بما أصنع‏.‏

‏{‏فَأَوْحَينَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر‏}‏ بحر القلزم أو النيل‏.‏ ‏{‏فانفلق‏}‏ أي فضرب فانفلق وصار اثني عشر فرقاً بينها مسالك‏.‏ ‏{‏فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم‏}‏ كالجبل المنيف الثابت في مقره فدخلوا في شعابها كل سبط في شعب‏.‏

‏{‏وَأَزْلَفْنَا‏}‏ وقربنا‏.‏ ‏{‏ثَمَّ الآخرين‏}‏ فرعون وقومه حتى دخلوا على أثرهم مداخلهم‏.‏

‏{‏وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ‏}‏ بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا‏.‏

‏{‏ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين‏}‏ بإطباقه عليهم‏.‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ وأية آية‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ وما تنبه عليها أكثرهم إذ لم يؤمن بها أحد ممن بقي في مصر من القبط، وبنو إسرائيل بعد ما نجوا سألوا بقرة يعبدونها واتخذوا العجل وقالوا ‏{‏لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً‏}‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز‏}‏ المنتقم من أعدائه‏.‏ ‏{‏الرحيم‏}‏ بأوليائه‏.‏

‏{‏واتل عَلَيْهِمْ‏}‏ على مشركي العرب‏.‏ ‏{‏نَبَأَ إبراهيم‏}‏‏.‏

‏{‏إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ سألهم ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة‏.‏

‏{‏قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عاكفين‏}‏ فأطالوا جوابهم بشرح حالهم معه تبجحاً به وافتخاراً، و«نظل» ها هنا بمعنى ندوم‏.‏ وقيل كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل‏.‏

‏{‏قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ‏}‏ أيسمعون دعاءكم أو يسمعونكم تدعون فحذف ذلك لدلالة‏.‏ ‏{‏إِذْ تَدْعُونَ‏}‏ عليه وقرئ»يَسْمَعُونَكُمْ«أي يسمعونكم الجواب عن دعائكم ومجيئه مضارعاً مع ‏{‏إِذْ‏}‏ على حكاية الحال الماضية استحضاراً لها‏.‏

‏{‏أَوْ يَنفَعُونَكُمْ‏}‏ على عبادتكم لها‏.‏ ‏{‏أَوْ يَضُرُّونَ‏}‏ من أعرض عنها‏.‏

‏{‏قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ‏}‏ أضربوا عن أن يكون لهم سمع أو يتوقع منهم ضر أو نفع، والتجأوا إلى التقليد‏.‏

‏{‏قَالَ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُمُ الأقدمون‏}‏ فإن التقدم لا يدل على الصحة ولا ينقلب به الباطل حقاً‏.‏

‏{‏فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي‏}‏ يريد أنهم أعداء لعابديهم من حيث إنهم يتضررون من جهتهم فوق ما يتضرر الرجل من جهة عدوه، أو إن المغري بعبادتهم أعدى أعدائهم وهو الشيطان، لكنه صور الأمر في نفسه تعريضاً لهم فإنه أنفع في النصح من التصريح، وإشعاراً بأنها نصيحة بدأ بها نفسه ليكون أدعى إلى القبول، وإفراد العدو لأنه في الأصل مصدر أو بمعنى النسب‏.‏

‏{‏إِلاَّ رَبَّ العالمين‏}‏ استثناء منقطع أو متصل على أن الضمير لكل معبود عبدوه وكان من آبائهم من عبد الله‏.‏

‏{‏الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ‏}‏ لأنه يهدي كل مخلوق لما خلق له من أمور المعاش والمعاد كما قال تعالى ‏{‏والذى قَدَّرَ فهدى‏}‏ هداية مدرجة من مبدأ إيجاده إلى منتهى أجله يتمكن بها من جلب المنافع ودفع المضار، مبدؤها بالنسبة إلى الإِنسان هداية الجنين إلى امتصاص دم الطمث من الرحم، ومنتهاها الهداية إلى طريق الجنة والتنعم بلذائذها، والفاء للسببية إن جعل الموصول مبتدأ وللعطف إن جعل صفة رب العالمين فيكون اختلاف النظم لتقدم الخلق واستمرار الهداية وقوله‏:‏

‏{‏والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ‏}‏ على الأول مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه وكذا اللذان بعده، وتكرير الموصول على الوجهين للدلالة على أن كل واحدة من الصلات مستقلة باقتضاء الحكم‏.‏

‏{‏وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ‏}‏ عطف على ‏{‏يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ‏}‏ لأنه من روادفهما من حيث إن الصحة والمرض في الأغلب يتبعان المأكول والمشروب، وإنما لم ينسب المرض إليه تعالى لأن المقصود تعديد النعم، ولا ينتقض بإسناد الإِماتة إليه فإن الموت من حيث إنه لا يحسن به لا ضرر فيه وإنما الضرر في مقدماته وهي المرض، ثم إنه لأهل الكمال وصلة إلى نيل المحاب التي تستحقر دونها الحياة الدنيوية وخلاص من أنواع المحن والبليات، ولأن المرض في غالب الأمر إنما يحدث بتفريط من الإِنسان في مطاعمه ومشاربه وبما بين الأخلاط والأركان من التنافي والتنافر، والصحة إنما تحصل باستحفاظ اجتماعها والاعتدال المخصوص عليها قهراً وذلك بقدرة الله العزيز العليم‏.‏

‏{‏والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ‏}‏ في الآخرة‏.‏

‏{‏والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين‏}‏ ذكر ذلك هضماً لنفسه وتعليماً للأمة أن يجتنبوا المعاصي ويكونوا على حذر، وطلب لأن يغفر لهم ما يفرط منهم واستغفاراً لما عسى يندر منه من الصغائر، وحمل الخطيئة على كلماته الثلاث‏:‏ ‏{‏إِنّي سَقِيمٌ‏}‏، ‏{‏بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا‏}‏، وقوله «هي أختي»، ضعيف لأنها معاريض وليست خطايا‏.‏

‏{‏رَبّ هَبْ لِي حُكْماً‏}‏ كما في العلم والعمل أستعد به لخلافة الحق ورياسة الخلق‏.‏ ‏{‏وَأَلْحِقْنِي بالصالحين‏}‏ ووفقني للكمال في العمل لأنتظم به في عداد الكاملين في الصلاح الذين لا يشوب صلاحهم كبير ذنب ولا صغيره‏.‏

‏{‏واجعل لّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الاخرين‏}‏ جاهاً وحسن صيت في الدنيا يبقى أثره إلى يوم الدين، ولذلك ما من أمة إلا وهم محبون له مثنون عليه، أو صادقاً من ذريتي يجدد أصل ديني ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏واجعلني مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم‏}‏ في الآخرة وقد مر معنى الوراثة فيها‏.‏

‏{‏واغفر لأَبِي‏}‏ بالهداية والتوفيق للإِيمان‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين‏}‏ طريق الحق وإن كان هذا الدعاء بعد موته فلعله كان لظنه أنه كان يخفي الإِيمان تقية من نمرود ولذلك وعده به، أو لأنه لم يمنع بعد من الاستغفار للكفار‏.‏

‏{‏وَلاَ تُخْزِنِى‏}‏ بمعاتبتي على ما فرطت، أو بنقص رتبتي عن رتبة بعض الوراث، أو بتعذيبي لخفاء العاقبة وجواز التعذيب عقلاً، أو بتعذيب والدي، أو يبعثه في عداد الضالين وهو من الخزي بمعنى الهوان، أو من الخزاية بمعنى الحياء‏.‏ ‏{‏يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ الضمير للعباد لأنهم معلومون أو ل ‏{‏الضالين‏}‏‏.‏

‏{‏يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ‏}‏ أي لا ينفعان أحداً إلا مخلصاً سليم القلب عن الكفر وميل المعاصي وسائر آفاته، أو لا ينفعان إلا مال من هذا شأنه وبنوه حيث أنفق ماله في سبيل البر، وأرشد بنيه إلى الحق وحثهم على الخير وقصد بهم أن يكونوا عباد الله مطيعين شفعاء له يوم القيامة‏.‏ وقيل الاستثناء مما دل عليه المال والبنون أي لا ينفع غنى إلاَّ غناه‏.‏ وقيل منقطع والمعنى لكن سلامة ‏{‏مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ‏}‏ تنفعه‏.‏

‏{‏وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ بحيث يرونها من الموقف فيتبجحون بأنهم المحشورون إليها‏.‏

‏{‏وَبُرِّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ‏}‏ فيرونها مكشوفة ويتحسرون على أنهم المسوقون إليها، وفي اختلاف الفعلين ترجيح لجانب الوعد‏.‏

‏{‏وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ أين آلهتكم الذين تزعمون أنهم شفعاؤكم‏.‏ ‏{‏هَلْ يَنصُرُونَكُمْ‏}‏ بدفع العذاب عنكم‏.‏ ‏{‏أَوْ يَنتَصِرُونَ‏}‏ بدفعه عن أنفسهم لأنهم وآلهتهم يدخلون النار كما قال‏:‏ ‏{‏فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون‏}‏ أي الآلهة وعبدتهم، والكبكبة تكرير الكب لتكرير معناه كأن من ألقي في النار ينكب مرة بعد أخرى حتى يستقر في قعرها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 154‏]‏

‏{‏وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ‏(‏95‏)‏ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ‏(‏96‏)‏ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏97‏)‏ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏98‏)‏ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ‏(‏99‏)‏ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ‏(‏100‏)‏ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ‏(‏101‏)‏ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏102‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏104‏)‏ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏105‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏106‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏107‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏108‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏109‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏110‏)‏ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ‏(‏111‏)‏ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏112‏)‏ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ‏(‏113‏)‏ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏114‏)‏ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏115‏)‏ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ‏(‏116‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ‏(‏117‏)‏ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏118‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏119‏)‏ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ‏(‏120‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏121‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏122‏)‏ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏123‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏124‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏125‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏126‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏127‏)‏ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ ‏(‏128‏)‏ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ‏(‏129‏)‏ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ‏(‏130‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏131‏)‏ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ‏(‏132‏)‏ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ‏(‏133‏)‏ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏134‏)‏ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏135‏)‏ قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ‏(‏136‏)‏ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏137‏)‏ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ‏(‏138‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏139‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏140‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏141‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏142‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏143‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏144‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏145‏)‏ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ ‏(‏146‏)‏ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏147‏)‏ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ‏(‏148‏)‏ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ‏(‏149‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏150‏)‏ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏151‏)‏ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ‏(‏152‏)‏ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ‏(‏153‏)‏ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏154‏)‏‏}‏

‏{‏وَجُنُودُ إِبْلِيسَ‏}‏ متبعوه من عصاة الثقلين، أو شياطينه‏.‏ ‏{‏أَجْمَعُونَ‏}‏ تأكيد لل ‏{‏جُنُودُ‏}‏ إن جعل مبتدأ خبره ما بعده أو للضمير و‏{‏مَا‏}‏ عطف عليه وكذا الضمير المنفصل وما يعود إليه في قوله‏:‏

‏{‏قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تالله إِن كُنَّا لَفِي ضلال مُّبِينٍ‏}‏ على أن الله ينطق الأصنام فتخاصم العبدة ويؤيده الخطاب في قوله‏:‏

‏{‏إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبِّ العالمين‏}‏ أي في استحقاق للعبادة، ويجوز أن تكون الضمائر للعبد كما في ‏{‏قَالُواْ‏}‏ والخطاب للمبالغة في التحسر والندامة، والمعنى أنهم مع تخاصمهم في مبدأ ضلالهم معترفون بانهماكهم في الضلالة متحسرون عليها‏.‏

‏{‏وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ المجرمون فَمَا لَنَا مِن شافعين‏}‏ كما للمؤمنين من الملائكة والأنبياء‏.‏

‏{‏وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ‏}‏ إِذِ الأَخِلاَّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إِلاَّ المتقين، أو فما لنا من شافعين ولا صديق ممن نعدهم شفعاء وأصدقاء، أو وقعنا في مهلكة لا يخلصنا منها شافع ولا صديق، وجمع الشافع وحدةال ‏{‏صَدِيقٍ‏}‏ لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق، أو لأن ال ‏{‏صَدِيقٍ‏}‏ الواحد يسعى أكثر مما يسعى الشفعاء، أو لإِطلاق ال ‏{‏صَدِيقٍ‏}‏ على الجمع كالعدو لأنه في الأصل مصدر كالحنين والصهيل‏.‏

‏{‏فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً‏}‏ تمن للرجعة أقيم فيه «لو» مقام ليت لتلاقيهما في معنى التقدير، أو شرط حذف جوابه‏.‏ ‏{‏فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين‏}‏ جواب التمني أو عطف على ‏{‏كَرَّةٌ‏}‏ أي‏:‏ لو أن لنا أن نكر فنكون من المؤمنين‏.‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلك‏}‏ أي فيما ذكر من قصة إبراهيم‏.‏ ‏{‏لآيَةً‏}‏ لحجة وعظة لمن أراد أن يستبصر بها ويعتبر، فإنها جاءت على أنظم ترتيب وأحسن تقرير، يتفطن المتأمل فيها لغزارة علمه لما فيها من الإِشارة إلى أصول العلوم الدينية والتنبيه على دلائلها وحسن دعوته للقوم وحسن مخالفته معهم وكمال إشفاقه عليهم وتصور الأمر في نفسه، وإطلاق الوعد والوعيد على سبيل الحكاية تعريضاً وإيقاظاً لهم ليكون أدعى لهم إلى الاستماع والقبول‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ‏}‏ أكثر قومه‏.‏ ‏{‏مُّؤْمِنِينَ‏}‏ به‏.‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز‏}‏ القادر على تعجيل الانتقام‏.‏ ‏{‏الرحيم‏}‏ بالإِمهال لكي يؤمنوا هم أو أحد من ذريتهم‏.‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين‏}‏ ال ‏{‏قَوْمٌ‏}‏ مؤنثة ولذلك تصغر على قويمة وقد مر الكلام في تكذيبهم المرسلين‏.‏

‏{‏إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ‏}‏ لأنه كان منهم‏.‏ ‏{‏أَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ الله فتتركوا عبادة غيره‏.‏

‏{‏إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ‏}‏ مشهور بالأمانة فيكم‏.‏

‏{‏فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ‏}‏ فيما آمركم به من التوحيد والطاعة لله سبحانه‏.‏

‏{‏وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ‏}‏ على ما أنا عليه من الدعاء والنصح‏.‏ ‏{‏مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين‏}‏‏.‏

‏{‏فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ‏}‏ كرره للتأكيد والتنبيه على دلالة كل واحد من أمانته وحسم طمعه على وجوب طاعته فيما يدعوهم إليه فكيف إذا اجتمعا، وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص بفتح الياء في ‏{‏أَجْرِيَ‏}‏ في الكلمات الخمس‏.‏

‏{‏قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون‏}‏ الأقلون جاهاً ومالاً جمع الأرذل على الصحة، وقرأ يعقوب «وأتباعك» وهو جمع تابع كشاهد وأشهاد أو تبع كبطل وأبطال، وهذا من سخافة عقلهم وقصور رأيهم على الحطام الدنيوية، حتى جعلوا اتباع المقلين فيها مانعاً عن اتباعهم وإيمانهم بما يدعوهم إليه ودليلاً على بطلانه، وأشاروا بذلك إلى أن اتباعهم ليس عن نظر وبصيرة وإنما هو لتوقع مال ورفعة فلذلك‏:‏

‏{‏قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ إنهم عملوه إخلاصاً أو طمعاً في طعمة وما عليَّ إلا اعتبار الظاهر‏.‏

‏{‏إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّي‏}‏ ما حسابهم على بواطنهم إلا على الله فإنه المطلع عليها‏.‏ ‏{‏لَوْ تَشْعُرُونَ‏}‏ لعلمتم ذلك ولكنكم تجهلون فتقولون ما لا تعلمون‏.‏

‏{‏وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين‏}‏ جواب لما أوهم قولهم من استدعاه طردهم وتوقيف إيمانهم عليه حيث جعلوا اتباعهم المانع عنه وقوله‏:‏

‏{‏إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏ كالعلة له أي ما أنا إلا رجل مبعوث لإِنذار المكلفين عن الكفر والمعاصي سواء كانوا أعزاء أو أذلاء فكيف يليق بي في طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء، أو ما عليَّ إلا إنذاركم إنذاراً بيناً بالبرهان الواضح فلا عليَّ أن أطردهم لاسترضائكم‏.‏

‏{‏قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يا نُوحٌ‏}‏ عما تقول‏.‏ ‏{‏لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين‏}‏ من المشتومين أو المضروبين بالحجارة‏.‏

‏{‏قَالَ رَبّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ‏}‏ إظهاراً لما يدعو عليهم لأجله وهو تكذيب الحق لا تخويفهم له واستخفافهم عليه‏.‏

‏{‏فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً‏}‏ فاحكم بيني وبينهم من الفتاحة‏.‏ ‏{‏وَنَجّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ المؤمنين‏}‏ من قصدهم أو شؤم عملهم‏.‏

‏{‏فأنجيناه وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك المشحون‏}‏ المملوء‏.‏

‏{‏ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ‏}‏ بعد إنجائه‏.‏ ‏{‏الباقين‏}‏ من قومه‏.‏

‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ شاعت وتواترت‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم‏}‏‏.‏

‏{‏كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين‏}‏ أنثه باعتبار القبيلة وهو في الأصل اسم أبيهم‏.‏

‏{‏إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين‏}‏ تصدير القصص بها دلالة على أن البعثة مقصورة على الدعاء إلى معرفة الحق والطاعة فيما يقرب المدعو إلى ثوابه ويبعده عن عقابه، وكان الأنبياء متفقين على ذلك وإن اختلفوا في بعض التفاريع مبرئين عن المطامع الدنيئة والأغراض الدنيوية‏.‏

‏{‏أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ‏}‏ بكل مكان مرتفع، ومنه ريع الأرض لارتفاعها‏.‏ ‏{‏ءايَةً‏}‏ علماً للمارة‏.‏ ‏{‏تَعْبَثُونَ‏}‏ ببنائها إذ كانوا يهتدون بالنجوم في أسفارهم فلا يحتاجون إليها أو بروج الحمام، أو بنياناً يجتمعون إليه للعبث بمن يمر عليهم، أو قصوراً يفتخرون بها‏.‏

‏{‏وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ‏}‏ مآخذ الماء وقيل قصوراً مشيدة وحصوناً‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ‏}‏ فتحكمون بنيانها‏.‏

‏{‏وَإِذَا بَطَشْتُمْ‏}‏ بسيف أو سوط‏.‏ ‏{‏بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ‏}‏ متسلطين غاشمين بلا رأفة ولا قصد تأديب ونظر في العاقبة‏.‏

‏{‏فاتقوا الله‏}‏ بترك هذه الأشياء‏.‏ ‏{‏وَأَطِيعُونِ‏}‏ فيما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم‏.‏

‏{‏واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ‏}‏ كرره مرتباً على إمداد الله تعالى إياهم بما يعرفونه من أنواع النعم تعليلاً وتنبيهاً على الوعد عليه بدوام الإِمداد والوعيد على تركه بالإِنقطاع، ثم فصل بعض تلك النعم كما فصل بعض مساويهم المدلول عليها إجمالاً بالإِنكار في ‏{‏أَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ مبالغة في الإِيقاظ والحث على التقوى فقال‏:‏

‏{‏أَمَدَّكُمْ بأنعام وَبَنِينَ وجنات وَعُيُونٍ‏}‏ ثم أوعدهم فقال‏:‏

‏{‏إِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ في الدنيا والآخرة، فإنه كما قدر على الإِنعام قدر على الإِنتقام‏.‏

‏{‏قَالُواْ سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الواعظين‏}‏ فإنا لا نرعوي عما نحن عليه، وتغيير شق النفي عما تقتضيه المقابلة للمبالغة في قلة اعتدادهم بوعظه‏.‏

‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين‏}‏ ما هذا الذي جئتنا به إلا كذب الأولين، أو ما خلقنا هذا إلا خلقهم نحيا ونموت مثلهم ولا بعث ولا حساب، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة»خُلُقُ الاولين«بضمتين أي ما هذا الذي جئت به إلا عادة الأولين كانوا يلفقون مثله، أو ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم ونحن بهم مقتدون، أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة قديمة لم تزل الناس عليها‏.‏

‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏}‏ على ما نحن عليه‏.‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ فأهلكناهم‏}‏ بسبب التكذيب بريح صرصر‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالح أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبّ العالمين أَتُتْرَكُونَ فِيمَا هَا هُنَا ءَامِنِينَ‏}‏ إنكار لأن يتركوا كذلك أو تذكير للنعمة في تخلية الله إياهم وأسباب تنعمهم آمنين ثم فسره بقوله‏:‏

‏{‏فِي جنات وَعُيُونٍ‏}‏‏.‏

‏{‏وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ‏}‏ لطيف لين للطف الثمر، أو لأن النخل أنثى وطلع وإناث النخل ألطف وهو ما يطلع منها كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو، أو متدل منكسر من كثرة الحمل، وإفراد ال ‏{‏نَخْلٍ‏}‏ لفضله على سائر أشجار الجنات أو لأن المراد بها غيرها من الأشجار‏.‏

‏{‏وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فارهين‏}‏ بطرين أو حاذقين من الفراهة وهي النشاط، فإن الحاذق يعمل بنشاط وطيب قلب‏.‏ وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «فرهين» وهو أبلغ من «فارهين»‏.‏

‏{‏فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ المسرفين‏}‏ استعير الطاعة التي هي انقياد الأمر لامتثال الأمر، أو نسب حكم الآمر إلى أمره مجازاً‏.‏

‏{‏الذين يُفْسِدُونَ فِي الأرض‏}‏ وصف موضح لإِسرافهم ولذلك عطف‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُصْلِحُونَ‏}‏ على يفسدون دلالة على خلوص فسادهم‏.‏

‏{‏قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين‏}‏ الذين سحروا كثيراً حتى غلب على عقلهم، أو من ذوي السحر وهي الرئة أي من الأناسي فيكون‏:‏

‏{‏مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا‏}‏ تأكيداً له‏.‏ ‏{‏فَأْتِ بِئَايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ في دعواك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏155- 194‏]‏

‏{‏قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ‏(‏155‏)‏ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏156‏)‏ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ‏(‏157‏)‏ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏158‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏159‏)‏ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏160‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏161‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏162‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏163‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏164‏)‏ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏165‏)‏ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ‏(‏166‏)‏ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ‏(‏167‏)‏ قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ ‏(‏168‏)‏ رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏169‏)‏ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ‏(‏170‏)‏ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ‏(‏171‏)‏ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏172‏)‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏173‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏174‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏175‏)‏ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏176‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏177‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏178‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏179‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏180‏)‏ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ‏(‏181‏)‏ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ‏(‏182‏)‏ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏183‏)‏ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏184‏)‏ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ‏(‏185‏)‏ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏186‏)‏ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏187‏)‏ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏188‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏189‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏190‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏191‏)‏ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏192‏)‏ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ‏(‏193‏)‏ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ‏(‏194‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ هذه نَاقَةٌ‏}‏ أي بعدما أخرجها الله من الصخرة بدعائه كما اقترحوها‏.‏ ‏{‏لَّهَا شِرْبٌ‏}‏ نصيب من الماء كالسقي والقيت للحظ من السقي والقوت وقرئ بالضم‏.‏ ‏{‏وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ‏}‏ فاقتصروا على شربكم ولا تزاحموها في شربها‏.‏

‏{‏وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء‏}‏ كضرب وعقر‏.‏ ‏{‏فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ عظم اليوم لعظم ما يحل فيه، وهو أبلغ من تعظيم العذاب‏.‏

‏{‏فَعَقَرُوهَا‏}‏ أسند العقر إلى كلهم لأن عاقرها إنما عقرها برضاهم ولذلك أخذوا جميعاً‏.‏ ‏{‏فَأَصْبَحُواْ نادمين‏}‏ على عقرها خوفاً من حلول العذاب لا توبة، أو عند معاينة العذاب ولذلك لم ينفعهم‏.‏

‏{‏فَأَخَذَهُمُ العذاب‏}‏ أي العذاب الموعود‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ في نفي الإِيمان عن أكثرهم في هذا المعرض إيماء بأنه لو آمن أكثرهم أو شطرهم لما أخذوا بالعذاب، وإن قريشاً إنما عصموا من مثله ببركة من آمن منهم‏.‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المرسلين إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبّ العالمين أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين‏}‏ أتأتون من بين من عداكم من العالمين الذكران لا يشارككم فيه غيركم، أو أتأتون الذكران من أولاد آدم مع كثرتهم وغلبة الإِناث فيهم كأنهن قد أعوزنكم، فالمراد ب ‏{‏العالمين‏}‏ على الأول كل من ينكح وعلى الثاني الناس‏.‏

‏{‏وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ‏}‏ لأجل استمتاعكم‏.‏ ‏{‏رَبُّكُمْ مّنْ أزواجكم‏}‏ للبيان إن أريد به جنس الإناث، أو للتبعيض إن أريد به العضو المباح منهن فيكون تعريضاً بأنهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم أيضاً‏.‏ ‏{‏بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ‏}‏ متجاوزون عن حد الشهوة حيث زادوا على سائر الناس بل الحيوانات، أو مفرطون في المعاصي وهذا من جملة ذاك، أو أحقاء بأن توصفوا بالعدوان لارتكابكم هذه الجريمة‏.‏

‏{‏قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط‏}‏ عما تدعيه أو عن نهينا وتقبيح أمرنا‏.‏ ‏{‏لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين‏}‏ من المنفيين من بين أظهرنا، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على عنف وسوء حال‏.‏

‏{‏قَالَ إِنّي لِعَمَلِكُمْ مّنَ القالين‏}‏ من المبغضين غاية البعض لا أقف عن الإِنكار عليه بالإِبعاد، وهو أبلغ من أن يقول»إِنّي لِعَمَلِكُمْ«قال لدلالته على أنه معدود في زمرتهم مشهور بأنه من جملتهم‏.‏

‏{‏رَبّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ‏}‏ أي من شؤمه وعذابه‏.‏

‏{‏فنجيناه وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ‏}‏ أهل بيته والمتبعين له على دينه بإخراجهم من بينهم وقت حلول العذاب بهم‏.‏

‏{‏إِلاَّ عَجُوزاً‏}‏ هي امرأة لوط‏.‏ ‏{‏فِى الغابرين‏}‏ مقدرة في الباقين في العذاب إذ أصابها حجر في الطريق فأهلكها لأنها كانت مائلة إلى القوم راضية بفعلهم‏.‏

وقيل كائنة فيمن بقي في القرية فإنها لم تخرج مع لوط‏.‏

‏{‏ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين‏}‏ أهلكناهم‏.‏

‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا‏}‏ وقيل أمطر الله على شذاذ القوم حجارة فأهلكهم‏.‏ ‏{‏فَسَاءَ مَطَرُ المنذرين‏}‏ اللام فيه للجنس حتى يصح وقوع المضاف إليه فاعل ساء والمخصوص بالذم محذوف وهو مطرهم‏.‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم‏}‏‏.‏

‏{‏كَذَّبَ أصحاب لْئَيْكَةِ المرسلين‏}‏ الأيكة غيضة تنبت ناعم الشجر يريد غيضة بقرب مدين تسكنها طائفة فبعث الله إليهن شعيباً كما بعثه إلى مدين وكان أجنبياً منهم فلذلك قال‏:‏

‏{‏إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ ولم يقل أخوهم شعيب‏.‏ وقيل الأيكة شجرة ملتف وكان شجرهم الدوم وهو المقل، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «ليكة» بحذف الهمزة وإبقاء حركتها على اللام وقرئت كذلك مفتوحة على أنها ليكة وهي اسم بلدتهم، وإنما كتبت ها هنا وفي ص بغير ألف اتباعاً للفظ‏.‏

‏{‏إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبّ العالمين‏}‏‏.‏

‏{‏أَوْفُواْ الكيل‏}‏ أتموه‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين‏}‏ الناقصين حقوق الناس بالتطفيف‏.‏

‏{‏وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم‏}‏ بالميزان السوي، وهو وإن كان عربياً فإن كان من القسط ففعلاس بتكرير العين وإلا ففعلال‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص بكسر القاف‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ‏}‏ ولا تنقصوا شيئاً من حقوقهم‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ‏}‏ بالقتل والغارة وقطع الطريق‏.‏

‏{‏واتقوا الذى خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين‏}‏ وذوي الجبلة الأولين يعني من تقدمهم من الخلائق‏.‏

‏{‏قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا‏}‏ أتوا بالواو للدلالة على أنه جامع بين وصفين متنافين للرسالة مبالغة في تكذيبه‏.‏ ‏{‏وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين‏}‏ في دعواك‏.‏

‏{‏فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السماء‏}‏ قطعة منها، ولعله جواب لما أشعر به الأمر بالتقوى من التهديد‏.‏ وقرأ حفص بفتح السين‏.‏ ‏{‏إِن كُنتَ مِنَ الصادقين‏}‏ في دعواك‏.‏

‏{‏قَالَ رَبّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ وبعذابه منزل عليكم ما أوجبه لكم عليه في وقته المقدر له لا محالة‏.‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة‏}‏ على نحو ما اقترحوا بأن سلط الله عليهم الحر سبعة أيام حتى غلت أنهارهم وأظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم‏}‏ هذا آخر القصص السبع المذكورة على سبيل الاختصار تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديداً للمكذبين به، وإطراد نزول العذاب على تكذيب الأمم بعد إنذار الرسل به، واقتراحهم له استهزاء وعدم مبالاة به يدفع أن يقال إنه كان بسبب اتصالات فلكية أو كان إبتلاء لهم لا مؤاخدة على تكذيبهم‏.‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ العالمين نَزَلَ بِهِ الروح الأمين‏}‏‏.‏

‏{‏على قَلْبِكَ‏}‏ تقرير لحقية تلك القصص وتنبيه على إعجاز القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الإخبار عنها ممن لم يتعلمها لا يكون إلا وحياً من الله عز وجل، والقلب إن أراد به الروح فذاك وإن أراد به العضو فتخصيصه، لأن المعاني الروحانية إنما تنزل أولاً على الروح ثم تنتقل منه إلى القلب لما بينهما من التعلق، ثم تتصعد منه إلى الدماغ فينتقش بها لوح المتخيلة، و‏{‏الروح الأمين‏}‏ جبريل عليه الصلاة والسلام فإنه أمين الله على وحيه‏.‏ وقرأ ابن عامر وأبو بكر وحمزة والكسائي بتشديد الزاي ونصب ‏{‏الروح الامين‏}‏‏.‏ ‏{‏لِتَكُونَ مِنَ المنذرين‏}‏ عما يؤدي إلى عذاب من فعل أو ترك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏195- 227‏]‏

‏{‏بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ‏(‏195‏)‏ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏196‏)‏ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏197‏)‏ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ‏(‏198‏)‏ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ‏(‏199‏)‏ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏200‏)‏ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏201‏)‏ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏202‏)‏ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ‏(‏203‏)‏ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏204‏)‏ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ‏(‏205‏)‏ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏206‏)‏ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ‏(‏207‏)‏ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ‏(‏208‏)‏ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏209‏)‏ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ‏(‏210‏)‏ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏211‏)‏ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ‏(‏212‏)‏ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ‏(‏213‏)‏ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ‏(‏214‏)‏ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏215‏)‏ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏216‏)‏ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ‏(‏217‏)‏ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ‏(‏218‏)‏ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ‏(‏219‏)‏ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏220‏)‏ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ‏(‏221‏)‏ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏(‏222‏)‏ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ‏(‏223‏)‏ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ‏(‏224‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ‏(‏225‏)‏ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ‏(‏226‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ‏(‏227‏)‏‏}‏

‏{‏بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مُّبِينٍ‏}‏ واضح المعنى لئلا يقولوا ما نصنع بما لا نفهمه فهو متعلق ب ‏{‏نَزَّلَ‏}‏، ويجوز أن يتعلق بالمنذرين أي لتكون ممن أنذروا بلغة العرب وهم هود وصالح وإسمعيل وشعيب ومحمد عليهم الصلاة والسلام‏.‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين‏}‏ وإن ذكره أو معناه لفي الكتب المتقدمة‏.‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً‏}‏ على صحة القرآن أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إسراءيل‏}‏ أن يعرفوه بنعته المذكور في كتبهم وهو تقرير لكونه دليلاً‏.‏ وقرأ ابن عامر تكن بالتاء و‏{‏ءايَةً‏}‏ بالرفع على أنها الاسم والخبر ‏{‏لَهُمْ‏}‏ ‏{‏وَأَنْ يَعْلَمْهُ‏}‏ بدل أو الفاعل و‏{‏أَن يَعْلَمَهُ‏}‏ بدل ‏{‏وَهُمْ‏}‏ حال، أو أن الاسم ضمير القصة و‏{‏ءَايَةً‏}‏ خبر ‏{‏أَن يَعْلَمَهُ‏}‏ والجملة خبر تكن‏.‏

‏{‏وَلَوْ نزلناه على بَعْضِ الأعجمين‏}‏ كما هو زيادة في إعجازه أو بلغة العجم‏.‏

‏{‏فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ‏}‏ لفرط عنادهم واستكبارهم، أو لعدم فهمهم واستنكافهم من اتباع العجم، و‏{‏الأعجمين‏}‏ جمع أعجمي على التخفيف ولذلك جمع جمع السلامة‏.‏

‏{‏كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ‏}‏ أدخلناه‏.‏ ‏{‏فِي قُلُوبِ المجرمين‏}‏ والضمير للكفر المدلول عليه بقوله ‏{‏مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ‏}‏ فتدل الآية على أنه بخلق الله، وقيل للقرآن أي أدخلناه فيها فعرفوا معانيه وإعجازه ثم لم يؤمنوا به عناداً‏.‏

‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم‏}‏ الملجئ إلى الإِيمان‏.‏

‏{‏فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً‏}‏ في الدنيا والآخرة‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ بإتيانه‏.‏

‏{‏فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ‏}‏ تحسراً وتأسفاً‏.‏

‏{‏أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ فيقولون أمطر علينا حجارة من السماء، ‏{‏فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا‏}‏، وحالهم عند نزول العذاب طلب النظرة‏.‏

‏{‏أَفَرَأَيْتَ إِن متعناهم سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَا أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ‏}‏ لم يغن عنهم تمتعهم المتطاول في دفع العذاب وتخفيفه‏.‏

‏{‏وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ‏}‏ أنذروا أهلها إلزاماً للحجة‏.‏

‏{‏ذِكْرِى‏}‏ تذكرة ومحلها النصب على العلة أو المصدر لأنها في معنى الإِنذار، أو الرفع على أنها صفة ‏{‏مُنذِرُونَ‏}‏ بإضمار ذوو، أو بجعلهم ذكرى لإِمعانهم في التذكرة، أو خبر محذوف والجملة اعتراضية‏.‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا ظالمين‏}‏ فنهلك غير الظالمين، أو قبل الإِنذار‏.‏

‏{‏وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين‏}‏ كما زعم المشركون أنه من قبيل ما يلقي الشياطين على الكهنة‏.‏

‏{‏وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ‏}‏ وما يصح لهم أن يتنزلوا به‏.‏ ‏{‏وَمَاَ يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ وما يقدرون‏.‏

‏{‏إِنَّهُمْ عَنِ السمع‏}‏ لكلام الملائكة‏.‏ ‏{‏لَمَعْزُولُونَ‏}‏ لأنه مشروط بمشاركة في صفاء الذات وقبول فيضان الحق والانتقاش بالصور الملكوتية، ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات لا تقبل ذلك والقرآن مشتمل على حقائق ومغيبات لا يمكن تلقيها إلا من الملائكة‏.‏

‏{‏فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المعذبين‏}‏ تهييج لإِزدياد الإِخلاص ولطف لسائر المكلفين‏.‏

‏{‏وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين‏}‏ الأقرب منهم فالأقرب فإن الاهتمام بشأنهم أهم ‏"‏ روي أنه لما نزلت صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفا وناداهم فخذاً فخذاً حتى اجتمعوا إليه فقال‏:‏ «لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلاً أكنتم مصدقي» قالوا نعم قال‏:‏ فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ‏"‏‏.‏

‏{‏واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين‏}‏ لين جانبك لهم مستعار من خفض الطائر جناحه إذا أراد أن ينحط، و‏{‏مِنْ‏}‏ للتبيين لأن من اتبع أعم ممن اتبع لدين أو غيره، أو للتبعيض على أن المراد ‏{‏مِنَ المؤمنين‏}‏ المشارفون للإِيمان أو المصدقون باللسان‏.‏

‏{‏فَإِنْ عَصَوْكَ‏}‏ ولم يتبعوك‏.‏ ‏{‏فَقُلْ إِنّي بَرِئ مّمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ بما تعملونه أو من أعمالكم‏.‏

‏{‏وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم‏}‏ الذي يقدر على قهر أعدائه ونصر أوليائه يكفك شر من يعصيك منهم ومن غيرهم‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر «فتوكل» على الإِبدال من جواب الشرط‏.‏

‏{‏الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ‏}‏ إلى التهجد‏.‏

‏{‏وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين‏}‏ وترددك في تصفح أحوال المجتهدين كما روي ‏"‏ أنه عليه الصلاة والسلام لما نسخ قيام فرض الليل طاف عليه الصلاة والسلام تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصاً على كثرة طاعاتهم، فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع بها من دندنتهم بذكر الله وتلاوة القرآن ‏"‏‏.‏ أو تصرفك فيما بين المصلين بالقيام والركوع والسجود والقعود إذا أممتهم، وإنما وصفه الله تعالى بعلمه بحاله التي بها يستأهل ولايته بعد وصفه بأن من شأنه قهر أعدائه ونصر أوليائه تحقيقاً للتوكل وتطميناً لقلبه عليه‏.‏

‏{‏إِنَّهُ هُوَ السميع‏}‏ لما تقوله‏.‏ ‏{‏العليم‏}‏ بما تنويه‏.‏

‏{‏هَلْ أُنَبّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏}‏ لما بين أن القرآن لا يصح أن يكون مما تنزلت به الشياطين أكد ذلك بأن بين أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يصح أن يتنزلوا عليه من وجهين‏:‏ أحدهما أنه إنما يكون على شرير كذاب كثير الإِثم، فإن اتصال الإِنسان بالغائبات لما بينهما من التناسب والتواد وحال محمد صلى الله عليه وسلم على خلاف ذلك‏.‏ وثانيهما قوله‏:‏

‏{‏يُلْقُونَ السمع وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون‏}‏ أي الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون منهم ظنوناً وأمارات لنقصان علمهم، فيضمون إليها على حسب تخيلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها كما جاء في الحديث ‏"‏ الكلمة يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة ‏"‏ ولا كذلك محمد صلى الله عليه وسلم فإنه أخبر عن مغيبات كثيرة لا تحصى وقد طابق كلها، وقد فسر الأكثر بالكل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏}‏‏.‏ والأظهر أن الأكثرية باعتبار أقوالهم على معنى أن هؤلاء قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني‏.‏ وقيل الضمائر للشياطين أي يلقون السمع إلى الملأ الأعلى قبل أن يرجموا فيختطفون منهم بعض المغيبات ويوحون به إلى أوليائهم أو يلقون مسموعهم منهم إلى أوليائهم وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إليهم إذ يسمعونهم لا على نحو ما تكلمت به الملائكة لشرارتهم، أو لقصور فهمهم أو ضبطهم أو إفهامهم‏.‏

سورة النمل

مكية وهي ثلاث أو أربع أو خمس وتسعون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏

‏{‏طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏1‏)‏ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏4‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ‏(‏5‏)‏ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ‏(‏6‏)‏ إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ‏(‏7‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏8‏)‏ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏9‏)‏ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏طس‏}‏‏.‏

‏{‏تِلْكَ ءايات القرءان وكتاب مُّبِينٍ‏}‏ الإِشارة إلى آي السورة، والكتاب المبين إما اللوح المحفوظ وإبانته أنه خط فيه ما هو كائن فهو يبينه للناظرين فيه، وتأخيره باعتباره تعلق علمنا به وتقديمه في الحجر باعتبار الوجود، أو القرآن وإبانته لما أودع فيه من الحكم والأحكام، أو لصحته بإعجازه وعطفه على القرآن كعطف إحدى الصفتين على الأخرى وتنكيره للتعظيم‏.‏ وقرئ ‏{‏وكتاب‏}‏ بالرفع على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه‏.‏

‏{‏هُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ حالان من ال ‏{‏ءايات‏}‏ والعامل فيهما معنى الإِشارة، أو بدلان منها أو خبران آخران أو خبران لمحذوف‏.‏

‏{‏الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكواة‏}‏ الذين يعملون الصالحات من الصلاة والزكاة‏.‏ ‏{‏وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏ من تتمة الصلة والواو للحال أو للعطف، وتغيير النظم للدلالة على قوة يقينهم وثباته وأنهم الأوحدون فيه، أو جملة اعتراضية كأنه قيل‏:‏ وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة، فإن تحمل المشاق إنما يكون لخوف العاقبة والوثوق على المحاسبة وتكرير الضمير للاختصاص‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم‏}‏ زين لهم أعمالهم القبيحة بأن جعلها مشتهاة للطبع محبوبة للنفس، أو الأعمال الحسنة التي وجب عليهم أن يعملوها بترتيب المثوبات عليها‏.‏ ‏{‏فَهُمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ عنها لا يدركون ما يتبعها من ضر أو نفع‏.‏

‏{‏أولئك الذين لَهُمْ سُوء العذاب‏}‏ كالقتل والأسر يوم بدر‏.‏ ‏{‏وَهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون‏}‏ أشد الناس خسراناً لفوات المثوبة واستحقاق العقوبة‏.‏

‏{‏وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان‏}‏ لتؤتاه‏.‏ ‏{‏مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ‏}‏ أي حكيم وأي عليم، والجمع بينهما مع أن العلم داخل في الحكمة لعموم العلم ودلالة الحكمة على اتقان الفعل والإِشعار بأن علوم القرآن منها ما هو حكمة كالعقائد والشرائع ومنها ما ليس كذلك كالقصص والأخبار عن المغيبات، ثم شرع في بيان بعض تلك العلوم بقوله‏:‏

‏{‏إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ إِنّي آنَسْتُ نَاراً‏}‏ أي اذكر قصته ‏{‏إِذْ قَالَ‏}‏ ويجوز أن يتعلق ب ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏‏.‏ ‏{‏سَئَاتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ‏}‏ أي عن حال الطريق لأنه قد ضله، وجمع الضمير إن صح أنه لم يكن معه غير امرأته لما كنى عنها بالأهل، والسين للدلالة على بعد المسافة والوعد بالإِتيان وإن أبطأ‏.‏ ‏{‏أَوْ ءَاتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ‏}‏ شعلة نار مقبوسة، وإضافة الشهاب إليه لأنه قد يكون قبساً وغير قبس، ونونه الكوفيون ويعقوب على أن ال ‏{‏قَبَسٍ‏}‏ بدل منه أو وصف له لأنه بمعنى المقبوس، والعدتان على سبيل الظن ولذلك عبر عنهما بصيغة الترجي في «طه»، والترديد للدلالة على أنه إن لم يظفر بهما لم يعدم، أحدهما بناء على ظاهر الأمر أو ثقة بعبادة الله تعالى أنه لا يكاد يجمع حرمانين على عبده‏.‏

‏{‏لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ‏}‏ رجاء أن تستدفئوا بها والصلاء النار العظيمة‏.‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ‏}‏ أي ‏{‏بُورِكَ‏}‏ فإن النداء فيه معنى القول، أو ب ‏{‏أَن بُورِكَ‏}‏ على أنها مصدرية أو مخففة من الثقيلة، والتخفيف وإن اقتضى التعويض بلا أو قد أو السين أو سوف لكنه دعاء وهو يخالف غيره في أحكام كثيرة‏.‏ ‏{‏مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا‏}‏ ‏{‏مِنْ‏}‏ في مكان ‏{‏النار‏}‏ وهو البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نُودِيَ مِن شَاطِئ الواد الأيمن فِي البقعة المباركة‏}‏ ومن حول مكانها والظاهر أنه عام في كل من تلك الأرض، وفي ذلك الواد وحواليها من أرض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء وكفاتهم أحياء وأمواتاً وخصوصاً تلك البقعة التي كلم الله فيها موسى‏.‏ وقيل المراد موسى والملائكة الحاضرون، وتصدير الخطاب بذلك بشارة بأنه قد قضى له أمر عظيم تنتشر بركته في أقطار الشأم‏.‏ ‏{‏وسبحان الله رَبّ العالمين‏}‏ من تمام ما نودي به لئلا يتوهم من سماع كلامه تشبيهاً وللتعجيب من عظمة ذلك الأمر، أو تعجب من موسى لما دهاه من عظمته‏.‏

‏{‏ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله‏}‏ الهاء للشأن و‏{‏أَنَا الله‏}‏ جملة مفسرة له، أو للمتكلم و‏{‏أَنَاْ‏}‏ خبره و‏{‏الله‏}‏ بيان له‏.‏ ‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ صفتان لله ممهدتان لما أراد أن يظهره، يريد أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصا حية الفاعل كل ما أفعله بحكمة وتدبير‏.‏

‏{‏وَأَلْقِ عَصَاكَ‏}‏ عطف على ‏{‏بُورِكَ‏}‏ أي نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك، ويدل عليه قوله ‏{‏وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ‏}‏ بعد قوله ‏{‏أَن يَا موسى إِنّي أَنَا الله‏}‏ بتكرير أن‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ‏}‏ تتحرك باضطراب‏.‏ ‏{‏كَأَنَّهَا جَانٌّ‏}‏ حية خفيفة سريعة، وقرئ «جأن» على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين‏.‏ ‏{‏ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ‏}‏ ولم يرجع من عقب المقاتل إذا كر بعد الفرار، وإنما رعب لظنه أن ذلك الأمر أريد به ويدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏يَا مُوسَى لاَ تَخَفْ‏}‏ أي من غيري ثقة بي أو مطلقاً لقوله‏:‏ ‏{‏إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون‏}‏ أي حين يوحى إليهم من فرط الاستغراق فإنهم أخوف الناس أي من الله تعالى، أو لا يكون لهم عندي سوء عاقبة فيخافون منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 20‏]‏

‏{‏إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏11‏)‏ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏12‏)‏ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏13‏)‏ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏14‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏15‏)‏ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ‏(‏16‏)‏ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏17‏)‏ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏18‏)‏ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ‏(‏19‏)‏ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء فَإِنّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ استثناء منقطع استدرك به ما يختلج في الصدر من نفي الخوف عن كلهم، وفيهم من فرطت منه صغيرة فإنهم وإن فعلوها أتبعوا فعلها ما يبطلها ويستحقون به من الله مغفرة ورحمة فإنه لا يخاف أيضاً، وقصد تعريض موسى بوكزه القبطي‏.‏ وقيل متصل وثم بدل مستأنف معطوف على محذوف أي عن ظلم ثم بدل ذنبه بالتوبة‏.‏

‏{‏وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ‏}‏ لأنه كان بمدرعة صوف لا كم لها‏.‏ وقيل الجيب القميص لأنه يجاب أي يقطع‏.‏ ‏{‏تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء‏}‏ آفة كبرص‏.‏ ‏{‏فِي تِسْعِ ءَايَاتٍ‏}‏ في جملتها أو معها على أن التسع هي، الفلق، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمسة، والجدب في بواديهم، والنقصان في مزراعهم ولمن عد العصا واليد من التسع أن يعد الأخيرين واحداً ولا يعد الفلق لأنه لم يبعث به إلى فرعون‏.‏ أو اذهب في تسع آيات على أنه استئناف بالإِرسال فيتعلق به‏.‏ ‏{‏إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ‏}‏ وعلى الأولين يتعلق بنحو مبعوثاً أو مرسلاً‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين‏}‏ تعليل للإِرسال‏.‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءاياتنا‏}‏ بأن جاءهم موسى بها‏.‏ ‏{‏مُبْصِرَةً‏}‏ بينة اسم فاعل أطلق للمفعول، وإشعاراً بأنها لفرط اجتلائها للأبصار بحيث تكاد تبصر نفسها لو كانت مما يبصر، أو ذات تبصر من حيث إنها تهدي والعمي لا تهتدي فضلاً عن أن تهدي، أو مبصرة كل من نظر إليها وتأمل فيها‏.‏ وقرئ»مُبْصِرَةً«أي مكاناً يكثركم فيه التبصر‏.‏ ‏{‏قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ واضح سحريته‏.‏

‏{‏وَجَحَدُواْ بِهَا‏}‏ وكذبوا بها‏.‏ ‏{‏واستيقنتها أَنفُسُهُمْ‏}‏ وقد استيقنتها لأن الواو للحال‏.‏ ‏{‏ظُلْماً‏}‏ لأنفسهم‏.‏ ‏{‏وَعُلُوّاً‏}‏ ترفعاً عن الإِيمان وانتصابهما‏.‏ على العلة من ‏{‏جَحَدُواْ‏}‏‏.‏ ‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين‏}‏ وهو الإِغراق في الدنيا والإِحراق في الآخرة‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ وسليمان عِلْماً‏}‏ طائفة من العلم وهو علم الحكم والشرائع، أو علماً أي علم‏.‏ ‏{‏وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ‏}‏ عطفه بالواو إشعاراً بأن ما قالاه بعض ما أتيا به في مقابلة هذه النعمة كأنه قال‏:‏ ففعلا شكراً له ما فعلا ‏{‏وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ‏}‏‏.‏ ‏{‏الذى فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ يعني من لم يؤت علماً أو مثل علمهما، وفيه دليل على فضل العلم وشرف أهله حيث شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا دونه ما أوتيا من الملك الذي لم يؤت غيرهما، وتحريض للعالم على أن يحمد الله تعالى على ما آتاه من فضله وأن يتواضع ويعتقد أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه كثير‏.‏

‏{‏وَوَرِثَ سليمان دَاوُودَ‏}‏ النبوة أو العلم أو الملك بأن قام مقامه في ذلك دون سائر بنيه وكانوا تسعة عشر‏.‏

‏{‏وَقَالَ يَا أَيُّهَا الناس عُلّمْنَا مَنطِقَ الطير وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَيْءٍ‏}‏ تشهيراً لنعمة الله وتنويهاً بها ودعاء الناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير وغير ذلك من عظائم ما أوتيه، والنطق والمنطق في المتعارف كل لفظ يعبر به عما في الضمير مفرداً كان أو مركباً وقد يطلق لكل ما يصوت به على التشبيه، أو التبع كقولهم نطقت الحمامة ومنه الناطق والصامت للحيوان والجماد، فإن الأصوات الحيوانية من حيث إنها تابعة للتخيلات منزلة منزلة العبارات سيما وفيها ما يتفاوت باختلاف الأغراض بحيث يفهمها ما من جنسه، ولعل سليمان عليه الصلاة والسلام مهما سمع صوت حيوان علم بقوته القدسية التخيل الذي صوته والغرض الذي توخاه به‏.‏ ومن ذلك ما حكي أنه مر ببلبل يصوت ويترقص فقال‏:‏ يقول إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء، وصاحت فاختة فقال‏:‏ إنها تقول ليت الخلق لم يخلقوا، فلعله كان صوت البلبل عن شبع وفراغ بال وصياح الفاختة عن مقاساة شدة وتألم قلب، والضمير في ‏{‏عَلِمْنَا‏}‏ ‏{‏وَأُوتِينَا‏}‏ له ولأبيه عليهما الصلاة والسلام أوله وحده على عادة الملوك لمراعاة قواعد السياسة، والمراد ‏{‏مِن كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ كثرة ما أوتي كقولك‏:‏ فلان يقصده كل أحد ويعلم كل شيء‏.‏ ‏{‏إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين‏}‏ الذي لا يخفى على أحد‏.‏

‏{‏وَحُشِرَ‏}‏ وجمع‏.‏ ‏{‏لسليمان جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس والطير فَهُمْ يُوزَعُونَ‏}‏ يحبسون بحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا‏.‏

‏{‏حتى إِذَا أَتَوْا على وَادِي النمل‏}‏ واد بالشام كثير النمل، وتعدية الفعل إليه ب ‏{‏على‏}‏ إما لأن إتيانهم كان من عال أو لأن المراد قطعة من قولهم‏:‏ أتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا أخريات الوادي‏.‏ ‏{‏قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النمل ادخلوا مساكنكم‏}‏ كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت عنهم مخافة حطمهم فتبعها غيرها فصاحت صيحة نبهت بها ما بحضرتها من النمال فتبعتها، فشبه ذلك بمخاطبة العقلاء ومناصحتهم ولذلك أجروا مجراهم مع أنه لا يمتنع أن خلق الله سبحانه وتعالى فيها العقل والنطق‏.‏ ‏{‏لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان وَجُنُودُهُ‏}‏ نهي لهم عن الحطم، والمراد نهيها عن التوقف بحيث يحطمونها كقولهم‏:‏ لا أرينك ها هنا، فهو استئناف أو بدل من الأمر لا جواب له فإن النون لا تدخله في السعة‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ بأنهم يحطمونكم إذ لو شعروا لم يفعلوا كأنها شعرت عصمة الأنبياء من الظلم والإِيذاء‏.‏ وقيل استئناف أي فهم سليمان والقوم لا يشعرون‏.‏

‏{‏فَتَبَسَّمَ ضاحكا مّن قَوْلِهَا‏}‏ تعجباً من حذرها وتحذيرها واهتدائها إلى مصالحها، وسروراً بما خصه الله تعالى به من إدراك همسها وفهم غرضها ولذلك سأل توفيق شكره‏.‏ ‏{‏وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ‏}‏ أي اجعلني أزع شكر نعمتك عندي، أي أكفه وأرتبطه لا ينفلت عني بحيث لا أنفك عنه، وقرأ البزي وورش بفتح ياء ‏{‏أَوْزِعْنِي‏}‏‏.‏

‏{‏التي أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ‏}‏ أدرج فيه ذكر والديه تكثيراً للنعمة أو تعميماً لها، فإن النعمة عليهما نعمة عليه والنعمة عليه يرجع نفعها إليهما سيما الدينية‏.‏ ‏{‏وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه‏}‏ إتماماً للشكر واستدامة للنعمة‏.‏ ‏{‏وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين‏}‏ في عدادهم الجنة‏.‏

‏{‏وَتَفَقَّدَ الطير‏}‏ وتعرف الطير فلم يجد فيها الهدهد‏.‏ ‏{‏فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين‏}‏ أم منقطعة كأنه لما لم يره ظن أنه حاضر ولا يراه لساتر أو غيره فقال‏:‏ ما لي لا أراه، ثم احتاط فلاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول أهو غائب كأنه يسأل عن صحة ما لاح له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 26‏]‏

‏{‏لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏21‏)‏ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ‏(‏22‏)‏ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ‏(‏23‏)‏ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ‏(‏24‏)‏ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ‏(‏25‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏لأُعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً‏}‏ كنتف ريشه وإلقائه في الشمس، أو حيث النمل يأكله أو جعله مع ضده في قفص‏.‏ ‏{‏أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ‏}‏ ليعتبر به أبناء جنسه‏.‏ ‏{‏أَوْ لَيَأْتِيَنّي بسلطان مُّبِينٍ‏}‏ بحجة تبين عذره، والحلف في الحقيقة على أحد الأولين بتقدير عدم الثالث لكن لما اقتضى ذلك وقوع أحد الأمور الثلاثة ثلث المحلوف عليه بعطفه عليهما، وقرأ ابن كثير أو «ليأتينني» بنونين الأولى مفتوحة مشددة‏.‏

‏{‏فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ‏}‏ زماناً غير مديد يريد به الدلالة على سرعة رجوعه خوفاً منه، وقرأ عاصم بفتح الكاف‏.‏ ‏{‏فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ‏}‏ يعني حالاً سبأ، وفي مخاطبته إياه بذلك تنبيه له على أن في أدنى خلق الله تعالى من أحاط علماً بما لم يحط به لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر لديه علمه، وقرئ بإدغام الطاء في التاء بإطباق وبغير إطباق‏.‏ ‏{‏وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ‏}‏ وقرأ ابن كثير برواية البزي وأبو عمرو غير مصروف على تأويل القبيلة والبلدة والقواس بهمزة ساكنة‏.‏ ‏{‏بِنَبَإٍ يَقِينٍ‏}‏ بخبر متحقق روي أنه عليه الصلاة والسلام لما أتم بناء بيت المقدس تجهز للحج فوافى الحرم وأقام بها ما شاء، ثم توجه إلى اليمن فخرج من مكة صباحاً فوافى صنعاء ظهيرة فأعجبته نزاهة أرضها فنزل بها ثم لم يجد الماء وكان الهدهد رائده لأنه يحسن طلب الماء فتفقده لذلك فلم يجده إذ حلق حين نزل سليمان فرأى هدهداً واقعاً فانحط إليه فتواصفا وطار معه لينظر ما وصف له، ثم رجع بعد العصر وحكى ما حكى، ولعل في عجائب قدرة الله وما خص به خاصة عباده أشياء أعظم من ذلك يستكبرها من يعرفها ويستنكرها من ينكرها‏.‏

‏{‏إِنّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ‏}‏ يعني بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان، والضمير لسبأ أو لأهلها‏.‏ ‏{‏وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَيْء‏}‏ يحتاج إليه الملوك‏.‏ ‏{‏وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ‏}‏ عظمه بالنسبة إليها أو إلى عروش أمثالها‏.‏ وقيل كان ثلاثين ذراعاً في ثلاثين عرضاً وسمكاً، أو ثمانين من ذهب وفضة مكللاً بالجواهر‏.‏

‏{‏وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله‏}‏ كأنهم كانوا يعبدونها‏.‏ ‏{‏وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم‏}‏ عبادة الشمس وغيرها من مقابح أعمالهم‏.‏ ‏{‏فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل‏}‏ عن سبيل الحق والصواب‏.‏ ‏{‏فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ‏}‏ إليه‏.‏

‏{‏أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ‏}‏ فصدهم لئلا يسجدوا أو زين لهم أن لا يسجدوا على أنه بدل من ‏{‏أعمالهم‏}‏، أو ‏{‏لاَ يَهْتَدُونَ‏}‏ إلى أن يسجدوا بزيادة ‏{‏لا‏}‏‏.‏ وقرأ الكسائي ويعقوب ‏{‏إِلا‏}‏ بالتخفيف على أنها للتنبيه ويا للنداء ومناداه محذوف أي‏:‏ ألا يا قوم اسجدوا كقوله‏:‏

وَقَالَتْ أَلاَ يَا اسْمَعْ أَعِظكَ بِخطَّةٍ *** فَقُلْتُ سَمِيعاً فَانْطِقِي وَأَصِيبِي

وعلى هذا صح أن يكون استئنافاً من الله أو من سليمان والوقف على ‏{‏لاَ يَهْتَدُونَ‏}‏، فيكون أمراً بالسجود وعلى الأول ذماً على تركه وعلى الوجهين يقتضي وجوب السجود في الجملة لا عند قراءتها، وقرئ «هلا» و«هلا» بقلب الهمزة هاء و«ألا تسجدون» و«هلا تسجدون» على الخطاب‏.‏ ‏{‏الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السموات والأرض وَيَعْلَمُ مَا يُخْفُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ وصف له تعالى بما يوجب اختصاصه باستحقاق السجود من التفرد بكمال القدرة والعلم حثاً على سجوده ورداً على من يسجد لغيره، و‏{‏الخبء‏}‏ ما خفي في غيره وإخراجه إظهاره، وهو يعم إشراق الكواكب وإنزال الأمطار وإنبات النبات بل الإِنشاء فإنه إخراج ما في الشيء بالقوة إلى الفعل والإِبداع، فإنه إخراج ما في الإِمكان والعدم إلى الوجوب والوجود ومعلوم أنه يختص بالواجب لذاته‏.‏ وقرأ حفص والكسائي»مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ«بالتاء‏.‏

‏{‏الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم‏}‏ الذي هو أول الأجرام وأعظمها والمحيط بجملتها فبين العظيمين بون‏.‏