فصل: تفسير الآيات رقم (55- 78)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 78‏]‏

‏{‏فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏55‏)‏ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ‏(‏56‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏57‏)‏ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ‏(‏58‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏59‏)‏ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ‏(‏60‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏61‏)‏ وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ‏(‏62‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏63‏)‏ مُدْهَامَّتَانِ ‏(‏64‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏65‏)‏ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ‏(‏66‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏67‏)‏ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ‏(‏68‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏69‏)‏ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ‏(‏70‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏71‏)‏ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ‏(‏72‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏73‏)‏ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ‏(‏74‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏75‏)‏ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ‏(‏76‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏77‏)‏ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِنَّ‏}‏ في الجنان فإن جنتان تدل على جنان هي للخائفين أو فيما فيهما من الأماكن والقصور، أو في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش‏.‏ ‏{‏قاصرات الطرف‏}‏ نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن‏.‏ ‏{‏لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ‏}‏ لم يمس الإِنسيات إنس ولا الجنيات جن، وفيه دليل على أن الجن يطمثون‏.‏ وقرأ الكسائي بضم الميم‏.‏ ‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏‏.‏

‏{‏كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان‏}‏ أي حمرة الوجنة وبياض البشرة وصفائهما‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ هَلْ جَزَاء الإحسان‏}‏ في العمل‏.‏ ‏{‏إِلاَّ الإحسان‏}‏ في الثواب وهو الجنة‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ‏}‏ ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للخائفين المقربين ‏{‏جَنَّتَانِ‏}‏ لمن دونهم من أصحاب اليمين‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مُدْهَامَّتَانِ‏}‏ خضراوان تضربان إلى السواد من شدة الخضرة، وفيه إشعار بأن الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض، وعلى الأوليين الأشجار والفواكه دلالة على ما بينهما من التفاوت ‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏‏.‏

‏{‏فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ‏}‏ فوارتان بالماء هو أيضاً أقل مما وصف به الأوليين وكذا ما بعده‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا فاكهة وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ‏}‏ عطفهما على الفاكهة بياناً لفضلهما، فإن ثمرة النخل فاكهة وغذاء وثمرة الرمان فاكهة ودواء، واحتج به أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه على أن من حلف لا يأكل فاكهة فأكل رطباً أو رماناً لم يحنث‏.‏ ‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏‏.‏

‏{‏فِيهِنَّ خيرات‏}‏ أي خيرات فخففت لأن خيراً الذي بمعنى أخير لا يجمع، وقد قرئ على الأصل‏.‏ ‏{‏حِسَانٌ‏}‏ حسان الخَلْقِ وَالخُلُقِ‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ حُورٌ مقصورات فِى الخيام‏}‏ قصرن في خدورهن، يقال امرأة قصيرة وقصورة ومقصورة أي مخدرة، أو مقصورات الطرف على أزواجهن‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ‏}‏ كحور الأولين وهم أصحاب الجنتين فإنهما يدلان عليهم‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ‏}‏ وسائد أو نمارق جمع رفرفة‏.‏ وقيل الرفرف ضرب من البسط أو ذيل الخيمة وقد يقال لكل ثوب عريض‏.‏ ‏{‏خُضْرٍ وَعَبْقَرِيّ حِسَانٍ‏}‏ العبقري منسوب إلى عبقر، تزعم العرب أنه اسم بلد للجن فينسبون إليه كل شيء عجيب، والمراد به الجنس ولذلك جمع ‏{‏حِسَانٌ‏}‏ حملاً على المعنى‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ تبارك اسم رَبّكَ‏}‏ تعالى اسمه من حيث إنه مطلق على ذاته فما ظنك لذاته، وقيل الإِسم بمعنى الصفة أو مقحم كما في قوله‏:‏

إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلاَمِ عَلَيْكُمَا *** ‏{‏ذِى الجلال والإكرام‏}‏ وقرأ ابن عامر بالرفع صفة للإِسم‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الرحمن أدى شكر ما أنعم الله تعالى عليه»‏.‏

سورة الواقعة

مكية وآيها ست وتسعون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ‏(‏1‏)‏ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ‏(‏2‏)‏ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ‏(‏3‏)‏ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ‏(‏4‏)‏ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ‏(‏5‏)‏ فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ‏(‏6‏)‏ وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً ‏(‏7‏)‏ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ‏(‏8‏)‏ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ‏(‏9‏)‏ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏إِذَا وَقَعَتِ الواقعة‏}‏ إذا حدثت القيامة، سماها واقعة لتحقق وقوعها وانتصاب ‏{‏إِذَا‏}‏ بمحذوف مثل اذكر أو كان كيت وكيت‏.‏

‏{‏لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ‏}‏ أي لا يكون حين تقع نفس تكذب على الله تعالى، أو تكذب في نفيها كما تكذب الآن، واللام مثلها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى‏}‏ أو ليس لأحد في وقعتها كاذبة فإنه من أخبر عنها صدق، أو ليس لها حينئذ نفس تحدث صاحبها بإطاقة شدتها واحتمالها وتغريه عليها من قولهم‏:‏ كذبت فلاناً نفسه في الخطب العظيم، إذا شجعته عليه وسولت له أنه يطيقه‏.‏

‏{‏خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ‏}‏ تخفض قوماً وترفع آخرين، وهو تقرير لعظمتها فإن الوقائع العظام كذلك، أو بيان لما يكون حينئذ من خفض أعداء الله ورفع أوليائه، أو إزالة الأجرام عن مقارها بنثر الكواكب وتسيير الجبال في الجو، وقرئتا بالنصب على الحال‏.‏

‏{‏إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً‏}‏ حركت تحريكاً شديداً بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل، والظرف متعلق ب ‏{‏خَافِضَةٌ‏}‏ أو بدل من ‏{‏إِذَا وَقَعَتِ‏}‏‏.‏

‏{‏وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً‏}‏ أي فتتت حتى صارت كالسويق الملتوت من بس السويق إذا لته، أو سيقت وسيرت من بس الغنم إذا ساقها‏.‏

‏{‏فَكَانَتْ هَبَاء‏}‏ غباراً‏.‏ ‏{‏مُّنبَثّاً‏}‏ منتشراً‏.‏

‏{‏وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً‏}‏ أصنافاً‏.‏ ‏{‏ثلاثة‏}‏ وكل صنف يكون أو يذكر مع صنف آخر زوج‏.‏

‏{‏فأصحاب الميمنة مَا أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة مَا أصحاب المشئمة‏}‏ فأصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة الدنيئة من تيمنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل، أو ‏{‏أصحاب الميمنة‏}‏ و‏{‏وأصحاب المشئمة‏}‏ الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم والذين يأتونها بشمائلهم، أو أصحاب اليمن والشؤم فإن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم والأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم‏.‏ والجملتان الاستفهاميتان خبران لما قبلهما بإقامة الظاهر مقام الضمير ومعناهما التعجب من حال الفريقين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 22‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ‏(‏11‏)‏ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏12‏)‏ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏13‏)‏ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ ‏(‏14‏)‏ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ ‏(‏15‏)‏ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ‏(‏16‏)‏ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ‏(‏17‏)‏ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ‏(‏18‏)‏ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ ‏(‏19‏)‏ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ‏(‏20‏)‏ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏21‏)‏ وَحُورٌ عِينٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏والسابقون السابقون‏}‏ والذين سبقوا إلى الإِيمان والطاعة بعد ظهور الحق من غير تلعثم وتوان، أو سبقوا في حيازة الفضائل والكمالات، أو الأنبياء فإنهم مقدموا أهل الأديان هم الذين عرفت حالهم وعرفت مآلهم كقول أبي النجم‏:‏

أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي *** أو الذين سبقوا إلى الجنة ‏{‏أُوْلَئِكَ المقربون فِي جنات النعيم‏}‏ الذين قربت درجاتهم في الجنة وأعليت مراتبهم‏.‏

‏{‏ثُلَّةٌ مّنَ الأولين‏}‏ أي هم كثير من الأولين يعني الأمم السالفة من لدن آدم إلى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام‏.‏

‏{‏وَقَلِيلٌ مّنَ الآخرين‏}‏ يعني أمة محمد عليه الصلاة والسلام ولا يخالف ذلك قوله عليه الصلاة والسلام «إن أمتي يكثرون سائر الأمم» لجواز أن يكون سابقو سائر الأمم أكثر من سابقي هذه الأمة، وتابعو هذه أكثر من تابعيهم، ولا يرده قوله في أصحاب اليمين، ‏{‏ثُلَّةٌ مّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مّنَ الآخرين‏}‏‏.‏ لأن كثرة الفريقين لا تنافي أكثرية أحدهما، وروي مرفوعاً أنهما من هذه الأمة، واشتقاقها من الثل وهو القطع‏.‏

‏{‏على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ‏}‏ خبر آخر للضمير المحذوف، وال ‏{‏مَّوْضُونَةٍ‏}‏ المنسوجة بالذهب مشبكة بالدر والياقوت، أو المتواصلة من الوضن وهو نسج الدرع‏.‏

‏{‏مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا متقابلين‏}‏ حالان من الضمير في ‏{‏على سُرُرٍ‏}‏‏.‏

‏{‏يَطُوفُ عَلَيْهِمْ‏}‏ للخدمة‏.‏ ‏{‏ولدان مُّخَلَّدُونَ‏}‏ مبقون أبداً على هيئة الولدان وطراوتهم‏.‏

‏{‏بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ‏}‏ حال الشرب وغيره، والكوب إناء بلا عروة ولا خرطوم له، والإِبريق إناء له ذلك‏.‏ ‏{‏وَكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ‏}‏ من خمر‏.‏

‏{‏لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا‏}‏ بخمار‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُنزِفُونَ‏}‏ ولا تنزف عقولهم، أو لا ينفد شرابهم‏.‏ وقرأ الكوفيون بكسر الزاي ‏{‏لاَّ يُصَدَّعُونَ‏}‏ بمعنى لا يتصدعون أي لا يتفرقون‏.‏

‏{‏وفاكهة مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ‏}‏ أي يختارون‏.‏

‏{‏وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ‏}‏ يتمنون‏.‏

‏{‏وَحُورٌ عِينٌ‏}‏ عطف على ‏{‏ولدان‏}‏، أو مبتدأ محذوف الخبر أي وفيها أو ولهم حور، وقرأ حمزة والكسائي بالجر عطفاً على ‏{‏جنات بتقدير مضاف أي هم في جنات ومصاحبة حور، أو على أكواب لأن معنى ‏{‏يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ‏}‏ ينعمون بأكواب، وقرئتا بالنصب على ويؤتون حوراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 48‏]‏

‏{‏كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ‏(‏23‏)‏ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏24‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا ‏(‏25‏)‏ إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ‏(‏26‏)‏ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ ‏(‏27‏)‏ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ‏(‏28‏)‏ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ‏(‏29‏)‏ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ‏(‏30‏)‏ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ ‏(‏31‏)‏ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ‏(‏32‏)‏ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ ‏(‏33‏)‏ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ‏(‏34‏)‏ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً ‏(‏35‏)‏ فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ‏(‏36‏)‏ عُرُبًا أَتْرَابًا ‏(‏37‏)‏ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ ‏(‏38‏)‏ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏39‏)‏ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ ‏(‏40‏)‏ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ ‏(‏41‏)‏ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ‏(‏42‏)‏ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ‏(‏43‏)‏ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ ‏(‏44‏)‏ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ ‏(‏45‏)‏ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ‏(‏46‏)‏ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ‏(‏47‏)‏ أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏كأمثال اللؤلؤ المكنون‏}‏ المصون عما يضربه في الصفاء والنقاء‏.‏

‏{‏جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي يفعل ذلك كله بهم جزاء بأعمالهم‏.‏

‏{‏لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً‏}‏ باطلاً‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَأْثِيماً‏}‏ ولا نسبة إلى الإِثم أي لا يقال لهم أثمتم‏.‏

‏{‏إِلاَّ قِيلاً‏}‏ أي قولاً‏.‏ ‏{‏سلاما سلاما‏}‏ بدل من ‏{‏قِيلاً‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سلاما‏}‏ أو صفته أو مفعوله بمعنى إلا أن يقولوا سلاماً، أو مصدر والتكرير للدلالة على فشو السلام بينهم‏.‏ وقرئ «سلام سلام» على الحكاية‏.‏

‏{‏وأصحاب اليمين مَا أصحاب اليمين فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ‏}‏ لا شوك فيه من خضد الشوك إذا قطعه، أو مثني أغصانه من كثرة حمله من خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب‏.‏

‏{‏وَطَلْحٍ‏}‏ وشجر موز، أو أم غيلان وله أنوار كثيرة طيبة الرائحة، وقرئ بالعين‏.‏ ‏{‏مَّنْضُودٍ‏}‏ نضد حمله من أسفله إلى أعلاه‏.‏

‏{‏وَظِلّ مَّمْدُودٍ‏}‏ منبسط لا يتقلص ولا يتفاوت‏.‏

‏{‏وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ‏}‏ يسكب لهم أين شاؤوا وكيف شاؤوا بلا تعب، أو مصبوب سائل كأنه لما شبه حال السابقين في التنعم بأعلى ما يتصور لأهل المدن شبه حال أصحاب اليمين بأكمل ما يتمناه أهل البوادي إشعاراً بالتفاوت بين الحالين‏.‏

‏{‏وفاكهة كَثِيرَةٍ‏}‏ كثيرة الأجناس‏.‏

‏{‏لاَّ مَقْطُوعَةٍ‏}‏ لا تنقطع في وقت‏.‏ ‏{‏وَلاَ مَمْنُوعَةٍ‏}‏ لا تمنع عن متناولها بوجه‏.‏

‏{‏وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ‏}‏ رفيعة القدر أو منضدة مرتفعة‏.‏ وقيل الفرش النساء وارتفاعها أنها على الأرائك، ويدل عليه قوله‏:‏

‏{‏إِنَّا أنشأناهن إِنشَاءً‏}‏ أي ابتدأناهن ابتداء جديداً من غير ولادة إبداء أو إعادة‏.‏ وفي الحديث ‏"‏ هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطاً رمصاً، جعلهن الله بعد الكبر أتراباً على ميلاد واحد، كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً ‏"‏ ‏{‏فجعلناهن أبكارا‏}‏‏.‏ ‏{‏عُرُباً‏}‏ متحببات إلى أزواجهن جمع عروب، وسكن راءه حمزة وأبو بكر وروي عن نافع وعاصم مثله‏.‏ ‏{‏أَتْرَاباً‏}‏ فإن كلهن بنات ثلاث وثلاثين وكذا أزواجهن‏.‏

‏{‏لأصحاب اليمين‏}‏ متعلق ب ‏{‏أَنشَأْنَا‏}‏ أو «جعلنا»، أو صفة ل ‏{‏أَبكاراً‏}‏ أو خبر لمحذوف مثل هن أو لقوله‏:‏

‏{‏ثُلَّةٌ مّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مّنَ الآخرين‏}‏ وهي على الوجه الأول خبر محذوف‏.‏

‏{‏وأصحاب الشمال مَا أصحاب الشمال فِى سَمُومٍ‏}‏ في حر نار ينفذ في المُسام‏.‏ ‏{‏وَحَمِيمٍ‏}‏ وماء متناه في الحرارة‏.‏

‏{‏وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ‏}‏ من دخان أسود يفعول من الحممة‏.‏

‏{‏لاَّ بَارِدٍ‏}‏ كسائر الظل‏.‏ ‏{‏وَلاَ كَرِيمٍ‏}‏ ولا نافع، نفى بذلك ما أوهم الظل من الاسترواح‏.‏

‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ‏}‏ منهمكين في الشهوات‏.‏

‏{‏وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم‏}‏ الذنب العظيم يعني الشرك، ومنه بلغ الغلام الحنث أي الحلم ووقت المؤاخذة بالذنب، وحنث في يمينه خلاف بر فيها وتحنث إذا تأثم‏.‏

‏{‏وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ‏}‏ كررت الهمزة للدلالة على إنكار البعث مطلقاً وخصوصاً في هذا الوقت كما دخلت العاطفة في قوله‏:‏

‏{‏أَوَ ءَابَاؤُنَا الأولون‏}‏ للدلالة على ذلك أشد إنكاراً في حقهم لتقادم زمانهم وللفصل بها حسن العطف على المستكن في ‏{‏لَمَبْعُوثُونَ‏}‏، وقرأ نافع وابن عامر ‏{‏أَوْ‏}‏ بالسكون وقد سبق مثله، والعامل في الظرف ما دل عليه «مبعوثون» لا هو للفصل بأن والهمزة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 61‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ ‏(‏49‏)‏ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ‏(‏50‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ‏(‏51‏)‏ لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ ‏(‏52‏)‏ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ‏(‏53‏)‏ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ‏(‏54‏)‏ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ‏(‏55‏)‏ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ‏(‏56‏)‏ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ‏(‏57‏)‏ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ‏(‏58‏)‏ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ‏(‏59‏)‏ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ‏(‏60‏)‏ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين لَمَجْمُوعُونَ‏}‏‏.‏ وقرئ «لمجمعون»‏.‏ ‏{‏إلى ميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ‏}‏ إلى ما وقت به الدنيا وحدث من يوم معين عند الله معلوم له‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالون المكذبون‏}‏ أي بالبعث والخطاب لأهل مكة وأضرابهم‏.‏

‏{‏لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ‏}‏ ‏{‏مِنْ‏}‏ الأولى للابتداء والثانية للبيان‏.‏

‏{‏فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون‏}‏ من شدة الجوع‏.‏

‏{‏فشاربون عَلَيْهِ مِنَ الحميم‏}‏ لغلبة العطش، وتأنيث الضمير في منها وتذكيره في ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ على معنى الشجر ولفظه، وقرئ «من شجرة» فيكون التذكير لل ‏{‏زَقُّومٍ‏}‏ فإنه تفسيرها‏.‏

‏{‏فشاربون شُرْبَ الهيم‏}‏ الإِبل التي بها الهيام وهو داء يشبه الاستسقاء، جمع أهيم وهيماء قال ذو الرمة‏:‏

فَأَصْبَحَّتُ كَالهَيْمَاءِ لاَ المَاءُ مُبْردٌ *** صَدَاهَا وَلاَ يَقْضِي عَلَيْهَا هَيَامُهَا

وقيل الرمال على أنه جمع هيام بالفتح وهو الرمل الذي لا يتماسك جمع على هيم كسحب، ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أبيض وكل من المعطوف والمعطوف عليه أخص من الآخر من وجه فلا اتحاد، وقرأ نافع وحمزة وعاصم ‏{‏شُرْبَ‏}‏ بضم الشين‏.‏

‏{‏هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدين‏}‏ يوم الجزاء فما ظنك بما يكون لهم بعد ما استقروا في الجحيم، وفيه تهكم كما في قوله‏:‏ ‏{‏فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ لأن النزل ما يعد للنازل تكرمة له، وقرئ «نُزُلُهُمْ» بالتخفيف‏.‏

‏{‏نَحْنُ خلقناكم فَلَوْلاَ تُصَدّقُونَ‏}‏ بالخلق متيقنين محققين للتصديق بالأعمال الدالة عليه، أو بالبعث فإن من قدر على الإِبداء قدر على الإِعادة‏.‏

‏{‏أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ‏}‏ أي ما تقذفونه في الأرحام من النطف، وقرئ بفتح التاء من منى النطفة بمعنى أمناها‏.‏

‏{‏أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ‏}‏ تجعلونه بشراً سوياً‏.‏ ‏{‏أَم نَحْنُ الخالقون‏}‏‏.‏

‏{‏نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت‏}‏ قسمناه عليكم وأقتنا موت كل بوقت معين، وقرأ ابن كثير بتخفيف الدال‏.‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ‏}‏ لا يسبقنا أحد فيهرب من الموت أو يغير وقته، أو لا يغلبنا أحد من سبقته على كذا إذا غلبته عليه‏.‏

‏{‏على أَن نُّبَدّلَ أمثالكم‏}‏ على الأول حال أو علة ل ‏{‏قَدَّرْنَآ‏}‏ وعلى بمعنى اللام، ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ‏}‏ اعتراض وعلى الثاني صلة، والمعنى على أن نبدل منكم أشباهكم فنخلق بدلكم، أو نبدل صفاتكم على أن أمثالكم جمع مثل بمعنى صفة‏.‏ ‏{‏وَنُنشِئَكُمْ فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ في خلق أو صفات لا تعلمونها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 75‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏62‏)‏ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ‏(‏63‏)‏ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ‏(‏64‏)‏ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ‏(‏65‏)‏ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ‏(‏66‏)‏ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ‏(‏67‏)‏ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ‏(‏68‏)‏ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ‏(‏69‏)‏ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ‏(‏70‏)‏ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ‏(‏71‏)‏ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ ‏(‏72‏)‏ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ ‏(‏73‏)‏ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ‏(‏74‏)‏ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏ أن من قدر عليها قدر على النشأة الأخرى فإنها أقل صنعاً لحصول المواد وتخصيص الاجزاء وسبق المثال، وفيه دليل على صحة القياس‏.‏

‏{‏أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ‏}‏ تبذرون حبه‏.‏

‏{‏أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ‏}‏ تنبتونه‏.‏ ‏{‏أَمْ نَحْنُ الزرعون‏}‏ المنبتون‏.‏

‏{‏لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حطاما‏}‏ هشيماً‏.‏ ‏{‏فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ‏}‏ تعجبون أو تندمون على اجتهادكم فيه، أو على ما أصبتم لأجله من المعاصي فتتحدثون فيه، والفكه التنقل بصنوف الفاكهة وقد استعير للتنقل بالحديث، وقرئ «فَظَلْتُمْ» بالكسر و«فظللتم» على الأصل‏.‏

‏{‏إِنَّا لَمُغْرَمُونَ‏}‏ لملزمون غرامة ما أنفقنا، أو مهلكون لهلاك رزقنا من الغرام، وقرأ أبو بكر «أئنا لمغرمون» على الاستفهام‏.‏

‏{‏بَلْ نَحْنُ‏}‏ قوم‏.‏ ‏{‏مَحْرُومُونَ‏}‏ حرمنا رزقنا، أو محدودون لا مجدودون‏.‏

‏{‏أَفَرَءيْتُمُ الماء الذى تَشْرَبُونَ‏}‏ أي العذب الصالح للشرب‏.‏

‏{‏ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن‏}‏ من السحاب واحده مزنة، وقيل ‏{‏المزن‏}‏ السحاب الأبيض وماؤه أعذب‏.‏ ‏{‏أَمْ نَحْنُ المنزلون‏}‏ بقدرتنا والرؤية إن كانت بمعنى العلم فمتعلقة بالاستفهام‏.‏

‏{‏لَوْ نَشَاءُ جعلناه أُجَاجاً‏}‏ ملحاً أو من الأجيج فإنه يحرق الفم، وحذف اللام الفاصلة بين جواب ما يتمحض للشرط وما يتضمن معناه لعلم السامع بمكانها، أو الاكتفاء بسبق ذكرها أو يختص ما يقصد لذاته ويكون أهم وفقده أصعب بمزيد التأكيد‏.‏ ‏{‏فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ‏}‏ أمثال هذه النعم الضرورية‏.‏

‏{‏أَفَرَءيْتُمُ النار التى تُورُونَ‏}‏ تقدحون‏.‏

‏{‏ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المنشئون‏}‏ يعني الشجرة التي منها الزناد‏.‏

‏{‏نَحْنُ جعلناها‏}‏ جعلنا نار الزناد‏.‏ ‏{‏تَذْكِرَةً‏}‏ تبصرة في أمر البعث كما مر في سورة «يس»، أو في الظلام أو تذكيراً وأنموذجاً لنار جهنم‏.‏ ‏{‏ومتاعا‏}‏ ومنفعة‏.‏ ‏{‏لّلْمُقْوِينَ‏}‏ الذين ينزلون القواء وهي القفر، أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام، من أقوت الدار إذا خلت من ساكنيها‏.‏

‏{‏فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم‏}‏ فأحدث التسبيح بذكر اسمه تعالى أو بذكره فإن إطلاق اسم الشيء ذكره والعظيم صفة للاسم أو الرب، وتعقيب الأمر بالتسبيح لما عدد من بدائع صنعه وإنعامه إما لتنزيهه تعالى عما يقول الجاحدون لوحدانيته الكافرون لنعمته، أو للتعجب من أمرهم في غمط نعمه، أو للشكر على ما عدها من النعم‏.‏

‏{‏فَلاَ أُقْسِمُ‏}‏ إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم، أو فأقسم و«لا» مزيدة للتأكيد كما في ‏{‏لّئَلاَّ يَعْلَمَ‏}‏ أو فلأنا أقسم فحذف المبتدأ وأشبع فتحة لام الابتداء، ويدل عليه قراءة ‏{‏فَلاَ أُقْسِمُ‏}‏ أو ‏{‏فَلا‏}‏ رد لكلام يخالف المقسم عليه‏.‏ ‏{‏بمواقع النجوم‏}‏ بمساقطها، وتخصيص المغارب لما في غروبها من زوال أثرها والدلالة على وجود مؤثر لا يزول تأثيره، أو بمنازلها ومجاريها‏.‏ وقيل النجوم نجوم القرآن ومواقعها أوقات نزولها، وقرأ حمزة والكسائي بموقع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 96‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ‏(‏76‏)‏ إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ ‏(‏77‏)‏ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ‏(‏78‏)‏ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ‏(‏79‏)‏ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏80‏)‏ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ ‏(‏81‏)‏ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ‏(‏82‏)‏ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ‏(‏83‏)‏ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ‏(‏84‏)‏ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ ‏(‏85‏)‏ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ‏(‏86‏)‏ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏87‏)‏ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏88‏)‏ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ‏(‏89‏)‏ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ‏(‏90‏)‏ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ‏(‏91‏)‏ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ‏(‏92‏)‏ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ ‏(‏93‏)‏ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ‏(‏94‏)‏ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ‏(‏95‏)‏ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ‏}‏ لما في المقسم به من الدلالة على عظم القدرة وكمال الحكمة وفرط الرحمة، ومن مقتضيات رحمته أن لا يترك عباده سدى، وهو اعتراض في اعتراض فإنه اعتراض بين القسم والمقسم عليه، و‏{‏لَّوْ تَعْلَمُونَ‏}‏ اعتراض بين الموصوف والصفة‏.‏

‏{‏إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ‏}‏ كثير النفع لاشتماله على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش والمعاد، أو حسن مرضي في جنسه‏.‏

‏{‏فِى كتاب مَّكْنُونٍ‏}‏ مصون وهو اللوح المحفوظ‏.‏

‏{‏لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون‏}‏ لا يطلع على اللوح إلا المطهرون من الكدورات الجسمانية وهم الملائكة، أو لا يمس القرآن ‏{‏إِلاَّ المطهرون‏}‏ من الأحداث فيكون نفياً بمعنى النهي، أو لا يطلبه ‏{‏إِلاَّ المطهرون‏}‏ من الكفر، وقرئ «المتَطَهِرُونَ» و«المطهرون» من أطهره بمعنى طهره و«المطهرون» أي أنفسهم أو غيرهم بالاستغفار لهم والإِلهام‏.‏

‏{‏تَنزِيلٌ مّن رَّبّ العالمين‏}‏ صفة ثالثة أو رابعة للقرآن، وهو مصدر نعت به وقرئ بالنصب أي نزل تنزيلاً‏.‏

‏{‏أفبهذا الحديث‏}‏ يعني القرآن‏.‏ ‏{‏أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ‏}‏ متهاونون به كمن يدهن في الأمر أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاوناً به‏.‏

‏{‏وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ‏}‏ أي شكر رزقكم‏.‏ ‏{‏أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ‏}‏ أي بمانحه حيث تنسبونه إلى الأنواء، وقرئ «شكركم» أي تجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به وتكذبون أي بقولكم في القرآن أنه سحر وشعر، أو في المطر أنه من الأنواء‏.‏

‏{‏فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم‏}‏ أي النفس‏.‏

‏{‏وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ‏}‏ حالكم، والخطاب لمن حول المحتضر والواو للحال‏.‏

‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ‏}‏ أي ونحن أعلم‏.‏ ‏{‏إِلَيْهِ‏}‏ إلى المحتضر‏.‏ ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ عبر عن العلم بالقرب الذي هو أقوى سبب الاطلاع‏.‏ ‏{‏ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ‏}‏ لا تدركون كنه ما يجري عليه‏.‏

‏{‏فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ‏}‏ أي مجزيين يوم القيامة أو مملوكين مقهورين من دانه إذا أذله واستعبده، وأصل التركيب للذل والانقياد‏.‏

‏{‏تَرْجِعُونَهَا‏}‏ ترجعون النفس إلى مقرها وهو عامل الظرف والمحضض عليه ب ‏{‏فَلَوْلا‏}‏ الأولى والثانية تكرير للتوكيد وهي بما في حيزها دليل جواب الشرط، والمعنى إن كنتم غير مملوكين مجزيين كما دل عليه جحدكم أفعال الله وتكذيبكم بآياته‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ في أباطيلكم ‏{‏فَلَوْلا‏}‏ ترجعون الأرواح إلى الأبدان بعد بلوغها الحلقوم‏.‏

‏{‏فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين‏}‏ أي إن كان المتوفى من السابقين‏.‏

‏{‏فَرَوْحٌ‏}‏ فله استراحة وقرئ «فَرَوْحٌ» بالضم وفسر بالرحمة لأنها كالسبب لحياة المرحوم وبالحياة الدائمة‏.‏ ‏{‏وَرَيْحَانٌ‏}‏ ورزق طيب‏.‏ ‏{‏وَجَنَّةُ نَعِيمٍ‏}‏ ذات تنعم‏.‏

‏{‏وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أصحاب اليمين فسلام لَّكَ‏}‏ يا صاحب اليمين‏.‏ ‏{‏مِنْ أصحاب اليمين‏}‏ أي من إخوانك يسلمون عليك‏.‏

‏{‏وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضالين‏}‏ يعني أصحاب الشمال، وإنما وصفهم بأفعالهم زجراً عنها وإشعاراً بما أوجب لهم ما أوعدهم به‏.‏

‏{‏فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ‏}‏ وذلك ما يجد في القبر من سموم النار ودخانها‏.‏

‏{‏إِنَّ هَذَا‏}‏ أي الذي ذكر في السورة أو في شأن الفرق‏.‏ ‏{‏لَهُوَ حَقُّ اليقين‏}‏ أي حق الخبر اليقين‏.‏

‏{‏فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم‏}‏ فنزهه بذكر اسمه تعالى عما لا يليق بعظمه شأنه‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً»‏.‏

سورة الحديد

مدنية وقيل مكية وآيها تسع وعشرون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏2‏)‏ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏3‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السموات والأرض‏}‏ ذكر ها هنا وفي «الحشر» و«الصف» بلفظ الماضي، وفي «الجمعة» و«التغابن» بلفظ المضارع إشعاراً بأن من شأن ما أسند إليه أن يسبحه في جميع أوقاته، لأنه دلالة جِبِلِّية لا تختلف باختلاف الحالات، ومجيء المصدر مطلقاً في «بني إسرائيل» أبلغ من حيث إنه يشعر بإطلاقه على استحقاق التسبيح من كل شيء وفي كل حال، وإنما عدي باللام وهو متعد بنفسه مثل نصحت له في نصحته إشعاراً بأن إيقاع الفعل لأجل الله وخالصاً لوجهه‏.‏ ‏{‏وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ حال يشعر بما هو المبدأ للتسبيح‏.‏

‏{‏لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض‏}‏ فإنه الموجد لها والمتصرف فيها‏.‏ ‏{‏يُحْيِي وَيُمِيتُ‏}‏ استئناف أو خبر لمحذوف ‏{‏وَهُوَ على كُلّ شَئ‏}‏ من الإِحياء والإِماتة وغيرهما‏.‏ ‏{‏قَدِيرٌ‏}‏ تام القدرة‏.‏

‏{‏هُوَ الأول‏}‏ السابق على سائر الموجودات من حيث إنه موجدها ومحدثها‏.‏ ‏{‏والآخر‏}‏ الباقي بعد فنائها ولو بالنظر إلى ذاتها مع قطع النظر عن غيرها، أو ‏{‏هُوَ الأول‏}‏ الذي تبتدئ منه الأسباب وتنتهي إليه المسببات، أو ‏{‏الأول‏}‏ خارجاً و‏{‏الآخر‏}‏ ذهناً‏.‏ ‏{‏والظاهر والباطن‏}‏ الظاهر وجوده لكثرة دلائله والباطن حقيقة ذاته فلا تكتنهها العقول، أو الغالب على كل شيء والعالم بباطنه والواو الأولى والأخيرة للجمع بين الوصفين، والمتوسطة للجمع بين المجموعين‏.‏ ‏{‏وَهُوَ بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ‏}‏ يستوي عنده الظاهر والخفي‏.‏

‏{‏هُوَ الذي خَلَقَ السموات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأرض‏}‏ كالبذور‏.‏ ‏{‏وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا‏}‏ كالزروع‏.‏ ‏{‏وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء‏}‏ كالأمطار‏.‏ ‏{‏وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا‏}‏ كالأبخرة‏.‏ ‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ‏}‏ لا ينفك علمه وقدرته عنكم بحال‏.‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ فيجازيكم عليه، ولعل تقديم الخلق على العلم لأنه دليل عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 10‏]‏

‏{‏لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏5‏)‏ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏6‏)‏ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏7‏)‏ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏9‏)‏ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض‏}‏ ذكره مع الإِعادة كما ذكره مع الإِبداء لأنه كالمقدمة لهما‏.‏ ‏{‏وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور‏}‏‏.‏

‏{‏يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ بمكنوناتها‏.‏

‏{‏آمِنُوا بالله وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ‏}‏ من الأموال التي جعلكم الله خلفاء في التصرف فيها فهي في الحقيقة له لا لكم، أو التي استخلفكم عمن قبلكم في تملكها والتصرف فيها، وفيه حث على الإِنفاق وتهوين له على النفس‏.‏ ‏{‏فالذين ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ‏}‏ وعد فيه مبالغات جعل الجملة اسمية وإعادة ذكر الإِيمان والإِنفاق وبناء الحكم على الضمير وتنكير الأجر ووصفه بالكبر‏.‏

‏{‏وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله‏}‏ أي وما تصنعون غير مؤمنين به كقولك‏:‏ مالك قائماً‏.‏ ‏{‏والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ‏}‏ حال من ضمير تؤمنون، والمعنى أي عذر لكم في ترك الإِيمان والرسول يدعوكم إليه بالحجج والآيات‏.‏ ‏{‏وَقَدْ أَخَذَ ميثاقكم‏}‏ أي وقد أخذ الله ميثاقكم بالإِيمان قبل ذلك بنصب الأدلة والتمكين من النظر، والواو للحال من مفعول ‏{‏يَدْعُوكُمْ‏}‏، وقرأ أبو عمرو وعلى البناء للمفعول ورفع «ميثاقكم»‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ لموجب ما فإن هذا موجب لا مزيد عليه‏.‏

‏{‏هُوَ الذى يُنَزّلُ على عَبْدِهِ ءايات بينات لّيُخْرِجَكُمْ‏}‏ أي الله أو العبد‏.‏ ‏{‏مِنَ الظلمات إِلَى النور‏}‏ من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ حيث نبهكم بالرسول والآيات ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية‏.‏

‏{‏وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ‏}‏ وأي شيء لكم في ‏{‏أَلاَّ تُنفِقُواْ‏}‏‏.‏ ‏{‏فِى سَبِيلِ الله‏}‏ فيما يكون قربة إليه‏.‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض‏}‏ يرث كل شيء فيهما فلا يبقى لأحد مال، وإذا كان كذلك فإنفاقه بحيث يستخلف عوضاً يبقى وهو الثواب كان أولى‏.‏ ‏{‏لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً‏}‏ بيان لتفاوت المنفقين باختلاف أحوالهم من السبق وقوة اليقين، وتحري الحاجات حثاً على تحري الأفضل منها بعد الحث على الإِنفاق، وذكر القتال للاستطراد وقسيم من أنفق محذوف لوضوحه ودلالة ما بعده عليه، و‏{‏الفتح‏}‏ فتح مكة إذ عز الإِسلام به وكثر أهله وقلت الحاجة إلى المقاتلة والإِنفاق‏.‏ ‏{‏مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ‏}‏ أي من بعد الفتح‏.‏ ‏{‏وقاتلوا وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى‏}‏ أي وعد الله كلا من المنفقين المثوبة الحسنى وهي الجنة‏.‏ وقرأ ابن عامر «وكُلٌ» بالرفع على الابتداء أي وكل وعده الله ليطابق ما عطف عليه‏.‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ عالم بظاهره وباطنه فيجازيكم على حسبه، والآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه فإنه أول من آمن وأنفق في سبيل الله وخاصم الكفار حتى ضرب ضرباً أشرف به على الهلاك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 19‏]‏

‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ‏(‏11‏)‏ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏12‏)‏ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ‏(‏13‏)‏ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏14‏)‏ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏15‏)‏ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏16‏)‏ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏17‏)‏ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ‏(‏18‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا‏}‏ أي من الذي ينفق ماله في سبيله رجاء أن يعوضه، فإنه كمن يقرضه وحسن الإِنفاق بالإِخلاص فيه وتحري أكرم المال وأفضل الجهات له‏.‏ ‏{‏فَيُضَاعِفَهُ لَهُ‏}‏ أي يعطي أجره أضعافاً‏.‏ ‏{‏وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ‏}‏ أي وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه ينبغي أن يتوخى وإن لم يضاعف، فكيف وقد يضاعف أضعافاً‏.‏ وقرأ عاصم «فَيُضَاعِفَهُ» بالنصب على جواب الاستفهام باعتبار المعنى فكأنه قال‏:‏ أيقرض الله أحد فيضاعفه له‏.‏ وقرأ ابن كثير «فيضعفه» مرفوعاً وقرأ ابن عامر ويعقوب «فيضعفه» منصوباً‏.‏

‏{‏يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات‏}‏ ظرف لقوله ‏{‏وَلَهُ‏}‏ أو ‏{‏فَيُضَاعِفَهُ‏}‏ أو مقدر باذكر ‏{‏يسعى نُورُهُم‏}‏ ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة‏.‏ ‏{‏بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم‏}‏ لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين‏.‏ ‏{‏بُشْرَاكُمُ اليوم جنات‏}‏ أي يقول لهم من يتلقاهم من الملائكة ‏{‏بُشْرَاكُمُ‏}‏ أي المبشر به جنات، أو ‏{‏بُشْرَاكُمُ‏}‏ دخول جنات‏.‏ ‏{‏تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ذلك الفوز العظيم‏}‏ الإِشارة إلى ما تقدم من النور والبشرى بالجنات المخلدة‏.‏

‏{‏يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات‏}‏ بدل من ‏{‏يَوْمَ تَرَى‏}‏‏.‏ ‏{‏لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ انظرونا‏}‏ انتظرونا فإنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف، أو انظروا إلينا فإنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم فيستضيئون بنور بين أيديهم‏.‏ وقرأ حمزة «أنظرونا» على أن اتئادهم ليلحقوا بهم إمهال لهم‏.‏ ‏{‏نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ‏}‏ نصب منه‏.‏ ‏{‏قِيلَ ارجعوا وَرَاءكُمْ‏}‏ إلى الدنيا‏.‏ ‏{‏فالتمسوا نُوراً‏}‏ بتحصيل المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة، فإنه يتولد منها أو إلى الموقف فإنه من ثمة يقتبس، أو إلى حيث شئتم فاطلبوا نوراً آخر فإنه لا سبيل لكم إلى هذا، وهو تهكم بهم وتخييب من المؤمنين أو الملائكة ‏{‏فَضُرِبَ بَيْنَهُم‏}‏ بين المؤمنين والمنافقين‏.‏ ‏{‏بِسُورٍ‏}‏ بحائط‏.‏ ‏{‏لَّهُ بَابٌ‏}‏ يدخل منه المؤمنون‏.‏ ‏{‏بَاطِنُهُ‏}‏ باطن السور أو الباب‏.‏ ‏{‏فِيهِ الرحمة‏}‏ لأنه يلي الجنة‏.‏ ‏{‏وظاهره مِن قِبَلِهِ العذاب‏}‏ من جهته لأنه يلي النار‏.‏

‏{‏ينادونهم أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ‏}‏ يريدون موافقتهم في الظاهر‏.‏ ‏{‏قَالُواْ بلى ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ بالنفاق‏.‏ ‏{‏وَتَرَبَّصْتُمْ‏}‏ بالمؤمنين الدوائر‏.‏ ‏{‏وارتبتم‏}‏ وشككتم في الدين‏.‏ ‏{‏وَغرَّتْكُمُ الأمانى‏}‏ كامتداد العمر‏.‏ ‏{‏حتى جَاء أَمْرُ الله‏}‏ وهو الموت‏.‏ ‏{‏وَغَرَّكُم بالله الغرور‏}‏ الشيطان أو الدنيا‏.‏

‏{‏فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ‏}‏ فداء وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتاء‏.‏ ‏{‏وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ ظاهراً وباطناً‏.‏ ‏{‏مَأْوَاكُمُ النار هِىَ مولاكم‏}‏ هي أولى بكم كقول لبيد‏:‏

فَغَدَتْ كِلاَ الفرجَيْنِ تَحْسِبُ أَنَّه *** مَوْلَى المَخَافَةِ خَلْفَهَا وَأمامها

وحقيقته مجراكم أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كقولك‏:‏ هو مئنة الكرم أي مكان قول القائل إنه لكريم، أو مكانكم عما قريب من الولي وهو القرب، أو ناصركم على طريقة قوله‏:‏

تَحِيَّةٌ بَيْنَهُمْ ضَرْبٌ وَجِيعٌ *** أو متوليكم يتولاكم كما توليتم موجباتها في الدنيا‏.‏ ‏{‏وَبِئْسَ المصير‏}‏ النار‏.‏

‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله‏}‏ ألم يأت وقته يقال أنى الأمر يأني أنياً وأناً إذا جاء إناه، وقرئ «ألم يئن» بكسر الهمزة وسكون النون من آن يئين بمعنى أتى وألماً يأن‏.‏ روي أن المؤمنين كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت‏.‏ ‏{‏وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق‏}‏ أي القرآن وهو عطف على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر، ويجوز أن يراد بالذكر أن يذكر الله، وقرأ نافع وحفص ويعقوب ‏{‏نَزَّلَ‏}‏ بالتخفيف‏.‏ وقرئ «أنزل»‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ‏}‏ عطف على ‏{‏تَخْشَعَ‏}‏، وقرأ رويس بالتاء والمراد النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكي عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ أي فطال عليهم الأجل لطول أعمارهم وآمالهم، أو ما بينهم وبين أنبيائهم ‏{‏فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏‏.‏ وقرئ ‏{‏الأمد‏}‏ وهو الوقت الأطول‏.‏ ‏{‏وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون‏}‏ خارجون عن دينهم رافضون لما في كتابهم من فرط القسوة‏.‏

‏{‏اعلموا أَنَّ الله يُحْييِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ تمثيل لإِحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بالإِحياء والإموات ترغيباً في الخشوع وزجراً عن القساوة‏.‏ ‏{‏قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ كي تكمل عقولكم‏.‏

‏{‏إِنَّ المصدقين والمصدقات‏}‏ إن المتصدقين والمتصدقات، وقد قرئ بهما، وقرأ ابن كثير وأبو بكر بتخفيف الصاد أي الذين صدقوا الله ورسوله‏.‏ ‏{‏وَأَقْرَضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً‏}‏ عطف على معنى الفعل في المحل باللام لأن معناه‏:‏ الذين أصدقوا، أو صدقوا وهو على الأول للدلالة على أن المعتبر هو التصدق المقرون بالإِخلاص‏.‏ ‏{‏يضاعف لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ‏}‏ معناه والقراءة في ‏{‏يضاعف‏}‏ كما مر غير أنه لم يجزم لأنه خبر إن وهو مسند إلى ‏{‏لَهُمْ‏}‏ أو إلى ضمير المصدر‏.‏

‏{‏والذين ءَامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون والشهداء عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ أي أولئك عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء، أو هم المبالغون في الصدق فإنهم آمنوا وصدقوا جميع أخبار الله ورسله والقائمون بالشهادة لله ولهم، أو على الأمم يوم القيامة‏.‏ وقيل ‏{‏والشهداء عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ مبتدأ وخبر، والمراد به الأنبياء من قوله‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ‏}‏ أو الذين استشهدوا في سبيل الله‏.‏ ‏{‏لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ‏}‏ مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم ولكنه من غير تضعيف ليحل التفاوت، أو الأجر والنور الموعودان لهم‏.‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا أولئك أصحاب الجحيم‏}‏ فيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار من حيث أن التركيب يشعر بالاختصاص والصحبة تدل على الملازمة عرفاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 25‏]‏

‏{‏اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ‏(‏20‏)‏ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏21‏)‏ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏22‏)‏ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ‏(‏23‏)‏ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏24‏)‏ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى الأموال والأولاد‏}‏ لما ذكر حال الفريقين في الآخرة حقر أمور الدنيا أعني ما لا يتوصل به إلى الفوز الآجل، بأن بين أنها أمور خيالية قليلة النفع سريعة الزوال لأنها لعب يتعب الناس فيه أنفسهم جداً إتعاب الصبيان في الملاعب من غير فائدة، ولهو يلهون به أنفسهم عما يهمهم وزينة كالملابس الحسنة والمواكب البهية والمنازل الرفيعة، وتفاخر بالأنساب أو تكاثر بالعدد والعدد، ثم قرر ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً‏}‏ وهو تمثيل لها في سرعة تقضيها وقلة جدواها يحال نبات أنبته الغيث فاستوى وأعجب به الحراث، أو الكافرون بالله لأنهم أشداء إعجاباً بزينة الدنيا ولأن المؤمن إذا رأى معجباً انتقل فكره إلى قدرة صانعه فأعجب بها، والكافر لا يتخطى فكره عما أحس به فيستغرق فيه إعجاباً، ثم هاج أي يبس بعاهة فاصفر ثم صار حطاماً، ثم عظم أمور الآخرة الأبدية بقوله‏:‏ ‏{‏وَفِى الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏ تنفيراً عن الانهماك في الدنيا وحثاً على ما يوجب كرامة العقبى، ثم أكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله ورضوان‏}‏ أي لمن أقبل عليها ولم يطلب إلا الآخرة‏.‏ ‏{‏وَما الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور‏}‏ أي لمن أقبل عليها ولم يطلب بها الآخرة‏.‏

‏{‏سَابِقُواْ‏}‏ سارعوا مسارعة المسابقين في المضمار‏.‏ ‏{‏إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ إلى موجباتها‏.‏ ‏{‏وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض‏}‏ أي عرضها كعرضهما وإن كان العرض كذلك فما ظنك بالطول، وقيل المراد به البسطة كقوله‏:‏ ‏{‏فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ‏}‏ ‏{‏أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرُسُلِهِ‏}‏ فيه دليل على أن الجنة مخلوقة وأن الإِيمان وحده كاف في استحقاقها‏.‏ ‏{‏ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء‏}‏ ذلك الموعود يتفضل به على من يشاء من غير إيجاب‏.‏ ‏{‏والله ذُو الفضل العظيم‏}‏ منه التفضل بذلك وإن عظم قدره‏.‏

‏{‏مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأرض‏}‏ كجدب وعاهة‏.‏ ‏{‏وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ‏}‏ كمرض وآفة‏.‏ ‏{‏إِلاَّ فِى كتاب‏}‏ إلا مكتوبة في اللوح مثبتة في علم الله تعالى‏.‏ ‏{‏مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا‏}‏ نخلقها والضمير لل ‏{‏مُّصِيبَةٍ‏}‏ أو ‏{‏الأرض‏}‏ أو للأنفس‏.‏ ‏{‏إِنَّ ذلك‏}‏ أي إثباته في كتاب‏.‏ ‏{‏عَلَى الله يَسِيرٌ‏}‏ لاستغنائه تعالى فيه عن العدة والمدة‏.‏ ‏{‏لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ‏}‏ أي أثبت وكتب كي لا تحزنوا ‏{‏على مَا فَاتَكُمْ‏}‏ من نعم الدنيا ‏{‏وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم‏}‏ بما أعطاكم الله منها فإن من علم أن الكل مقدر هان عليه الأمر، وقرأ أبو عمرو ‏{‏بِمَا ءاتاكم‏}‏ من الإِتيان ليعادل ما فاتكم، وعلى الأول فيه إشعار بأن فواتها يلحقها إذ خليت وطباعها، وأما حصولها وإبقاؤها فلا بد لهما من سبب يوجدها ويبقيها، والمراد نفي الآسي المانع عن التسليم لأمر الله والفرح الموجب للبطر والاحتيال، ولذلك عقبه بقوله‏:‏ ‏{‏والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ‏}‏ إذ قل من يثبت نفسه في حالي الضراء والسراء‏.‏

‏{‏الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل‏}‏ بدل من كل مختال فإن المختال بالمال يضن به غالباً أو مبتدأ خبره محذوف مدلول عليه بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد‏}‏ لأن معناه ومن يعرض عن الإنفاق فإن الله غني عنه وعن إنفاقه محمود في ذاته لا يضره الإِعراض عن شكره ولا ينفعه التقرب إليه بشكر من نعمه، وفيه تهديد وإشعار بأن الأمر بالإِنفاق لمصلحة المنفق وقرأ نافع وابن عامر ‏{‏فَإِنَّ الله الغنى‏}‏‏.‏

‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا‏}‏ أي الملائكة إلى الأنبياء أو الأنبياء إلى الأمم‏.‏ ‏{‏بالبينات‏}‏ بالحجج والمعجزات‏.‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب‏}‏ ليبين الحق ويميز صواب العمل‏.‏ ‏{‏والميزان‏}‏ لتسوى به الحقوق ويقام به العدل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَقُومَ الناس بالقسط‏}‏ وإنزاله إنزال أسبابه والأمر باعداده، وقيل أنزل الميزان إلى نوح عليه السلام، ويجوز أن يراد به العدل‏.‏ ‏{‏لِيَقُومَ الناس بالقسط‏}‏ لتقام به السياسة وتدفع به الأعداء كما قال‏:‏ ‏{‏وَأَنزْلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ‏}‏ فإن آلات الحروب متخذة منه‏.‏ ‏{‏ومنافع لِلنَّاسِ‏}‏ إذ ما من صنعة إلا والحديد آلاتها‏.‏ ‏{‏وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ‏}‏ باستعمال الأسلحة في مجاهدة الكفار والعطف على محذوف دل عليه ما قبله فإنه حال يتضمن تعليلاً، أو اللام صلة لمحذوف أي أنزله ليعلم الله‏.‏ ‏{‏بالغيب‏}‏ حال من المستكن في ينصره‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله قَوِىٌّ‏}‏، على إهلاك من أراد إهلاكه‏.‏ ‏{‏عَزِيزٌ‏}‏ لا يفتقر إلى نصرة وإنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به ويستوجبوا ثواب الامتثال فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 29‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏26‏)‏ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏27‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏28‏)‏ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وإبراهيم وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب‏}‏ بأن استنبأناهم وأوحينا إليهم الكتب‏.‏ وقيل المراد بالكتب الخط‏.‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ‏}‏ فمن الذرية أو من المرسل إليهم وقد دل عليهم ‏{‏أَرْسَلْنَا‏}‏‏.‏ ‏{‏مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فاسقون‏}‏ خارجون عن الطريق المستقيم والعدول عن السنن القابلة للمبالغة في الذم والدلالة على أن الغلبة للضلال‏.‏

‏{‏ثُمَّ قَفَّيْنَا على ءاثارهم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ‏}‏ أي أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى عليه السلام، والضمير لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم، أو من عاصرهما من الرسل لا للذرية، فإن الرسل الملقى بهم من الذرية‏.‏ ‏{‏وَآتيْنَاهُ الإِنْجِيلَ‏}‏ وقرئ بفتح الهمزة وأمره أهون من أمر البرطيل لأنه أعجمي‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً‏}‏ وقرئ «رآفة» على فعالة‏.‏ ‏{‏وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها‏}‏ أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، أو رهبانية مبتدعة على أنها من المجعولات وهي المبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس، منسوبة إلى الرهبان وهو المبالغ في الخوف من رهب كالخشيان من خشي، وقرئت بالضم كأنها منسوبة إلى الرهبان وهو جمع راهب كراكب وركبان‏.‏ ‏{‏مَا كتبناها عَلَيْهِمْ‏}‏ ما فرضناها عليهم‏.‏ ‏{‏إِلاَّ ابتغاء رضوان الله‏}‏ استثناء منقطع أي ولكنهم ابتدعوها ‏{‏ابتغاء رضوان الله‏}‏‏.‏ وقيل متصل فإن ‏{‏مَا كتبناها عَلَيْهِمْ‏}‏ بمعنى ما تعبدناهم بها وهو كما ينفي الإِيجاب المقصود منه دفع العقاب ينفي الندب المقصود منه مجرد حصول مرضاة الله، وهو يخالف قوله ‏{‏ابتدعوها‏}‏ إلا أن يقال ‏{‏ابتدعوها‏}‏ ثم ندبوا إليها، أو ‏{‏ابتدعوها‏}‏ بمعنى استحدثوها وأتوا بها، أو لأنهم اخترعوها من تلقاء أنفسهم‏.‏ ‏{‏فَمَا رَعَوْهَا‏}‏ أي فما رعوها جميعاً‏.‏ ‏{‏حَقَّ رِعَايَتِهَا‏}‏ بضم التثليث والقول بالاتحاد وقصد السمعة والكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام ونحوها إليها‏.‏ ‏{‏فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ أتوا بالإِيمان الصحيح ومن ذلك الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وحافظوا حقوقها‏.‏ ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ من المتسمين باتباعه‏.‏ ‏{‏أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فاسقون‏}‏ خارجون عن حال الاتباع‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ بالرسل المتقدمة‏.‏ ‏{‏اتقوا الله‏}‏ فيما نهاكم عنه‏.‏ ‏{‏وَآمِنُوا بِرَسُولِه‏}‏ محمد عليه الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ‏}‏ نصيبين‏.‏ ‏{‏مّن رَّحْمَتِهِ‏}‏ لإيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم إيمانكم بمن قبله، ولا يبعد أن يثابوا على دينهم السابق وإن كان منسوخاً ببركة الإِسلام، وقيل الخطاب للنصارى الذين كانوا في عصره صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ‏}‏ يريد المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏يسعى نُورُهُم‏}‏ أو الهدى الذي يسلك به إلى جناب القدس‏.‏ ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب‏}‏ أي ليعلموا و«لا» مزيدة ويؤيده أنه قرئ «ليعلم» و«لكي يعلم» و«لأن يعلم» بادغام النون في الياء‏.‏

‏{‏أَلاَّ يَقْدِرُونَ على شَئ مّن فَضْلِ الله‏}‏ أن هي المخففة والمعنى‏:‏ أنه لا ينالون شيئاً مما ذكر من فضله ولا يتمكنون من نيله لأنهم لم يؤمنوا برسوله وهو مشروط بالإِيمان به، أو لا يقدرون على شيء من فضله فضلاً عن أن يتصرفوا في أعظمه وهو النبوة فيخصوها بمن أرادوا ويؤيده قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء والله ذُو الفضل العظيم‏}‏ وقيل «لا» غير مزيدة، والمعنى لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبي والمؤمنون به على شيء من فضل الله ولا ينالونه، فيكون ‏{‏وَأَنَّ الفضل‏}‏ عطفاً على ‏{‏لّئَلاَّ يَعْلَمَ‏}‏، وقرئ «ليلا يعلم» ووجهه أن الهمزة حذفت وأدغمت النون في اللام ثم أبدلت ياء‏.‏ وقرئ «ليلا» على أن الأصل في الحروف المفردة الفتح‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسله أجمعين ‏"‏‏.‏

سورة المجادلة

مدنية وقيل العشر الأول مكي والباقي مدني، وآيها اثنتان وعشرون آية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى الله‏}‏ روي أن خولة بنت ثعلبة ظاهر عنها زوجها أوس بن الصامت، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «حرمت عليه»، فقالت‏:‏ ما طلقني فقال‏:‏ «حرمت عليه»، فاغتمت لصغر أولادها وشكت إلى الله تعالى فنزلت هذه الآيات الأربع، وقد تشعر بأن الرسول عليه الصلاة والسلام أو المجادلة يتوقع أن الله يسمع مجادلتها وشكواها ويفرج عنها كربها، وأدغم حمزة والكسائي وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر دالها في السين‏.‏ ‏{‏والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما‏}‏ تراجعكما الكلام وهو على تغليب الخطاب‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏ للأقوال والأحوال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 7‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ‏(‏2‏)‏ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏3‏)‏ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏4‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏5‏)‏ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏6‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يظاهرون مِنكُمْ مّن نّسَائِهِمْ‏}‏ الظهار أن يقول الرجل لامرأته أنت عليّ كظهر أمي مشتق من الظهر، وألحق به الفقهاء تشبيهها بجزء أنثى محرم، وفي ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ تهجين لعادتهم فيه فإنه كان من إيمان أهل الجاهلية، وأصل ‏{‏يظاهرون‏}‏ يتظاهرون وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «يظاهرون» من أظاهر وعاصم ‏{‏يظاهرون‏}‏ من ظاهر‏.‏ ‏{‏مَّا هُنَّ أمهاتهم‏}‏ أي على الحقيقة‏.‏ ‏{‏إِنْ أمهاتهم إِلاَّ اللائى وَلَدْنَهُمْ‏}‏ فلا تشبه بهن في الحرمة إلا من ألحقها الله بهن كالمرضعات وأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن عاصم أمهاتهم بالرفع على لغة بني تميم، وقرئ ب «أمهاتهم» وهو أيضاً على لغة من ينصب‏.‏ ‏{‏وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ القول‏}‏ إذ الشرع أنكره‏.‏ ‏{‏وَزُوراً‏}‏ منحرفاً عن الحق فإن الزوجة لا تشبه الأم‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ‏}‏ لما سلف منه مطلقاً، أو إذا تيب عنه‏.‏

‏{‏والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ‏}‏ أي إلى قولهم بالتدارك ومنه المثل‏:‏ عاد الغيث على ما أفسد، وهو بنقض ما يقتضيه وذلك عند الشافعي بإمساك المظاهر عنها في النكاح زماناً يمكنه مفارقتها فيه، إذ التشبيه يتناول حرمته لصحة استثنائها عنه وهو أقل ما ينتقض به‏.‏ وعند أبي حنيفة باستباحة استمتاعها ولو بنظرة شهوة‏.‏ وعند مالك بالعزم على الجماع، وعند الحسن بالجماع‏.‏ أو بالظهار في الإِسلام على أن قوله ‏{‏يظاهرون‏}‏ بمعنى يعتادون الظهار إذ كانوا يظاهرون في الجاهلية، وهو قول الثوري أو بتكراره لفظاً وهو قول الظاهرية، أو معنى بأن يحلف على ما قال وهو قول أبي مسلم أو إلى المقول فيها بامساكها، أو استباحة استمتاعها أو وطئها‏.‏ ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ أي فعليهم أو فالواجب اعتقاق رقبة والفاء للسببية، ومن فوائدها الدلالة على تكرر وجوب التحرير بتكرر الظهار، والرقبة مقيدة بالإيمان عندنا قياساً على كفارة القتل‏.‏ ‏{‏مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا‏}‏ أن يستمتع كل من المظاهر عنها بالآخر لعموم اللفظ ومقتضى التشبيه، أو أن يجامعها وفيه دليل على حرمة ذلك قبل التكفير‏.‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ أي ذلكم الحكم بالكفارة‏.‏ ‏{‏تُوعَظُونَ بِهِ‏}‏ لأنه يدل على ارتكاب الجناية الموجبة للغرامة ويردع عنه‏.‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ لا تخفى عليه خافية‏.‏

‏{‏فَمَن لَّمْ يَجِدْ‏}‏ أي الرقبة والذي غاب ماله واجد‏.‏ ‏{‏فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا‏}‏ فإن أفطر بغير عذر لزمه الاستئناف وإن أفطر لعذر ففيه خلاف، وإن جامع المظاهر عنها ليلاً لم ينقطع التتابع عندنا خلافاً لأبي حنيفة ومالك رضي الله تعالى عنهما‏.‏ ‏{‏فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ‏}‏ أي الصوم لهرم أو مرض مزمن أو شبق مفرط فإنه صلى الله عليه وسلم رخص للأعرابي المفطر أن يعدل لأجله‏.‏

‏{‏فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً‏}‏ ستين مداً بمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو رطل وثلث لأنه أقل ما قيل في الكفارات وجنسه المخرج في الفطرة، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من غيره، وإنما لم يذكر التماس مع الطعام اكتفاء بذكره مع الآخرين، أو لجوازه في خلال الإطعام كما قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي ذلك البيان أو التعليم للأحكام ومحله النصب بفعل معلل بقوله‏:‏ ‏{‏لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ‏}‏، أي فَرضَ ذَلِكَ لتصدقوا بالله وَرَسُولِهِ في قبول شرائعهِ وَرَفْض مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ في جاهليتكم ‏{‏وَتِلْكَ حُدُودُ الله‏}‏ لا يجوز تعديها‏.‏ ‏{‏وللكافرين‏}‏ أي الذين لا يقبلونها‏.‏ ‏{‏عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ هو نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين‏}‏ ‏{‏إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ يعادونهما فإن كلاً من المتعادين في حد غير حد الآخر، أو يضعون أو يختارون حدوداً غير حدودهما‏.‏ ‏{‏كُبِتُواْ‏}‏ أخزوا وأهلكوا وأصل الكبت الكب‏.‏ ‏{‏كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ يعني كفار الأمم الماضية‏.‏ ‏{‏وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايات بينات‏}‏ تدل على صدق الرسول وما جاء به‏.‏ ‏{‏وللكافرين عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ يذهب عزهم وتكبرهم‏.‏

‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله‏}‏ منصوب ب ‏{‏مُّهِينٌ‏}‏ أو بإضمار اذكر‏.‏ ‏{‏جَمِيعاً‏}‏ كلهم لا يدع أحداً غير مبعوث أو مجتمعين‏.‏ ‏{‏فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ‏}‏ أي على رؤوس الأشهاد تشهيراً لحالهم وتقريراً لعذابهم‏.‏ ‏{‏أحصاه الله‏}‏ أحاط به عدداً لم يغب منه شيء‏.‏ ‏{‏وَنَسُوهُ‏}‏ لكثرته أو تعاونهم به‏.‏ ‏{‏والله على كُلّ شَئ شَهِيدٌ‏}‏ لا يغيب عنه شيء‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ كلياً وجزئياً‏.‏ ‏{‏مَا يَكُونُ مِن نجوى ثلاثة‏}‏ أي ما يقع من تناجي ثلاثة، ويجوز أن يقدر مضاف أو يؤول ‏{‏نجوى‏}‏ بمتناجين ويجعل ‏{‏ثلاثة‏}‏ صفة لها، واشتقاقها من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض فإن السر أمر مرفوع إلى الذهن لا يتيسر لكل أحد أن يطلع عليه‏.‏ ‏{‏إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ‏}‏ إلا الله يجعلهم أربعة من حيث أنه يشاركهم في الاطلاع عليها، والاستثناء من أعم الأحوال‏.‏ ‏{‏وَلاَ خَمْسَةٍ‏}‏ ولا نجوى خمسة‏.‏ ‏{‏إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ‏}‏ وتخصيص العددين إما لخصوص الواقعة فإن الآية نزلت في تناجي المنافقين، أو لأن الله تعالى وتر يحب الوتر، والثلاثة أول الأوتار أو لأن التشاور لا بد له من اثنين يكونان كالمتنازعين وثالث يتوسط بينهما، وقرئ ‏{‏ثلاثة‏}‏ و‏{‏خَمْسَةٍ‏}‏ بالنصب على الحال بإضمار ‏{‏يتناجون‏}‏ أو تأويل ‏{‏نجوى‏}‏ بمتناجين‏.‏ ‏{‏وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ‏}‏ ولا أقل مما ذكر كالواحد والاثنين‏.‏ ‏{‏وَلاَ أَكْثَرَ‏}‏ كالستة وما فوقها‏.‏ ‏{‏إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ‏}‏ يعلم ما يجري بينهم‏.‏ وقرأ يعقوب ولا أكثر بالرفع عطفاً على محل من ‏{‏نجوى‏}‏ أو محل لا أدنى بأن جعلت لا لنفي الجنس‏.‏ ‏{‏أَيْنَمَا كَانُواْ‏}‏ فإن علمه بالأشياء ليس لقرب مكاني حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة‏}‏ تفضيحاً لهم وتقريراً لما يستحقونه من الجزاء‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ‏}‏ لأن نسبة ذاته المقتضية للعلم إلى الكل على السواء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 14‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏8‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏9‏)‏ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏10‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏13‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ‏}‏، نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عادوا لمثل فعلهم‏.‏ ‏{‏ويتناجون بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول‏}‏ أي بما هو إثم وعدوان للمؤمنين وتواص بمعصية الرسول، وقرأ حمزة «وينتجون» وهو يفتعلون من النجوى وروي عن يعقوب مثله‏.‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله‏}‏ فيقولون السام عليك، أو أنعم صباحاً والله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى‏}‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ فيما بينهم‏.‏ ‏{‏لَوْلاَ يُعَذّبُنَا الله بِمَا نَقُولَ‏}‏ هلا يعذبنا الله بذلك لو كان محمد نبياً‏.‏ ‏{‏حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ‏}‏ عذاباً‏.‏ ‏{‏يَصْلَوْنَهَا‏}‏ يَدخلونها‏.‏ ‏{‏فَبِئْسَ المصير‏}‏ جهنم‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجُوْا بِالإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ‏}‏ كما يفعله المنافقون وعن يعقوب «فلا تنتجوا»‏.‏ ‏{‏وتناجوا بالبر والتقوى‏}‏ بما يتضمن خير المؤمنين والاتقاء عن معصية الرسول‏.‏ ‏{‏واتقوا الله الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ فيما تأتون وتذرون فإنه مجازيكم عليه‏.‏

‏{‏إِنَّمَا النجوى‏}‏ أَي النجوى بالإِثم والعدوان‏.‏ ‏{‏مِنَ الشيطان‏}‏ فإنه المزين لها والحامل عليها‏.‏ ‏{‏لِيَحْزُنَ الذين ءامَنُواْ‏}‏ بتوهمهم أنها في نكبة أصابتهم‏.‏ ‏{‏وَلَيْسَ‏}‏ أي الشيطان أو التناجي‏.‏ ‏{‏بِضَارّهِمْ‏}‏ بضار المؤمنين‏.‏ ‏{‏شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏ إلا بمشيئته‏.‏ ‏{‏وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون‏}‏ ولا يبالوا بنجواهم‏.‏

‏{‏ا يا أيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى المجالس‏}‏ توسعوا فيه وليفسح بعضكم عن بعض من قولهم‏:‏ افسح عني أي تنح، وقرئ «تفاسحوا» والمراد بالمجلس الجنس ويدل عليه قراءة عاصم بالجمع، أو مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا يتضامون به تنافساً على القرب منه وحرصاً على استماع كلامه‏.‏ ‏{‏فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ‏}‏ فيما تريدون التفسح فيه من المكان والرزق والصدر وغيرها‏.‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ انشزوا‏}‏ انهضوا للتوسعة أو لما أمرتم به كصلاة أو جهاد، أو ارتفعوا عن المجلس‏.‏ ‏{‏فَانشُزُواْ‏}‏ وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بضم الشين فيهما‏.‏ ‏{‏يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ‏}‏ بالنصر وحسن الذكر في الدنيا، وإيوائهم غرف الجنان في الآخرة‏.‏ ‏{‏والذين أُوتُواْ العلم درجات‏}‏ ويرفع العلماء منهم خاصة درجات بما جمعوا من العلم والعمل، فإن العلم مع علو درجته يقتضي العمل المقرون به مزيد رفعة، ولذلك يقتدى بالعالم في أفعاله ولا يقتدى بغيره‏.‏ وفي الحديث ‏"‏ فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ‏"‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلَونَ خَبِيرٌ‏}‏ تهديد لمن لم يتمثل الأمر أو استكرهه‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صَدَقَةً‏}‏ فتصدقوا قدامها مستعار ممن له يدان، وفي هذا الأمر تعظيم الرسول وإنفاع الفقراء والنهي عن الإِفراط في السؤال، والميز بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا، واختلف في أنه للندب أو للوجوب لكنه منسوخ بقوله‏:‏ ‏{‏ءأشفقتم‏}‏ وهو إن اتصل به تلاوة لم يتصل به نزولاً‏.‏

وعن على كرم الله وجهه إن في كتاب الله آية ما عمل بها أحد غيري، كان لي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم‏.‏ وهو على القول بالوجوب لا يقدح في غيره فلعله لم يتفق للأغنياء مناجاة في مدة بقائه، إذ روي أنه لم يبق إلا عشراً وقيل إلا ساعة‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي ذلك التصدق‏.‏ ‏{‏خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ‏}‏ أي لانْفُسِكُم من الريبة وحب المال وهو يشعر بالندبية لكن قوله‏:‏ ‏{‏فإن لَمْ تَجُِدُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيم‏}‏ أي لمن لم يجده حيث رخص له في المناجاة بلا تصدق أدل على الوجوب‏.‏

‏{‏أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صدقات‏}‏ أخفتم الفقر من تقديم الصدقة أو أخفتم التقديم لما يعدكم الشيطان عليه من الفقر وجمع ‏{‏صدقات‏}‏ لجمع المخاطبين، أو لكثرة التناجي‏.‏ ‏{‏فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ بأن رخص لكم أن لا تفعلوه، وفيه إشعار بأن إشفاقهم ذنب تجاوز الله عنه لما رأى منهم مما قام مقام توبتهم وإذ على بابُّها وقيل بمعنى إذا أو إن‏.‏ ‏{‏فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة‏}‏‏.‏ فلا تفرطوا في أدائهما‏.‏ ‏{‏وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ في سائر الأوامر، فإن القيام بها كالجابر للتفريط في ذلك‏.‏ ‏{‏والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ظاهراً وباطناً‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ‏}‏ والوا‏.‏ ‏{‏قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ‏}‏ يعني اليهود‏.‏ ‏{‏مَّا هُم مّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ‏}‏ لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك‏.‏ ‏{‏وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب‏}‏ وهو ادعاء الإسلام‏.‏ ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن المحلوف عليه كذب كمن يحلف بالغموس، وفي هذا التقييد دليل على أن الكذب يعم ما يعلم المخبر عدم مطابقته وما لا يعلم‏.‏ وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان في حجرة من حجراته فقال «يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان، فدخل عبد الله بن نبتل المنافق وكان أزرق فقال عليه الصلاة والسلام له‏:‏ علام تشتمني أنت وأصحابك، فحلف بالله ما فعل ثم جاء بأصحابه فحلفوا فنزلت»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 22‏]‏

‏{‏أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏15‏)‏ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏16‏)‏ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏17‏)‏ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏18‏)‏ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏19‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ ‏(‏20‏)‏ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏21‏)‏ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً‏}‏ نوعاً من العذاب متفاقماً‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ فتمرنوا على سوء العمل وأصروا عليه‏.‏

‏{‏اتخذوا أيمانهم‏}‏ أي التي حلفوا بها، وقرئ بالكسر أي «أيمانهم» الذي أظهروه‏.‏ ‏{‏جُنَّةً‏}‏ وقاية دون دمائهم وأموالهم‏.‏ ‏{‏فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ فصدوا الناس في خلال أمنهم عن دين الله بالتحريش والتثبيط‏.‏ ‏{‏فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ وعيد ثان بوصف آخر لعذابهم‏.‏ وقيل الأول عذاب القبر وهذا عذاب الآخرة‏.‏

‏{‏لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله شَيْئاً أُوْلَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ قد سبق مثله‏.‏

‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ‏}‏ أي لله تعالى على أنهم مسلمون‏.‏ ‏{‏كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ‏}‏ في الدنيا ويقولون إنهم لمنكم‏.‏ ‏{‏وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَئ‏}‏ في حلفهم الكاذب لأن تمكن النفاق في نفوسهم بحيث يخيل إليهم في الآخرة أن الأيمان الكاذبة تروج الكذب على الله كما تروجه عليكم في الدنيا‏.‏ ‏{‏أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون‏}‏ البالغون الغاية في الكذب حيث يكذبون مع عالم الغيب والشهادة ويحلفون عليه‏.‏

‏{‏استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان‏}‏ استولى عليهم من حذت الإِبل وأحذتها إذا استوليت عليها، وهو مما جاء على الأصل‏.‏ ‏{‏فأنساهم ذِكْرَ الله‏}‏ لا يذكرونه بقلوبهم ولا بألسنتهم‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشيطان‏}‏ جنوده وأتباعه‏.‏ ‏{‏أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخاسرون‏}‏ لأنهم فوتوا على أنفسهم النعيم المؤبد وعرضوها للعذاب المخلد‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِى الأذلين‏}‏ في جملة من هو أذل خلق الله‏.‏

‏{‏كتاب الله‏}‏ في اللوح‏.‏ ‏{‏لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى‏}‏ أي بالحجة، وقرأ نافع وابن عامر «رُسُلِى» بفتح الياء‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله قَوِىٌّ‏}‏ على نصر أنبيائه‏.‏ ‏{‏عَزِيزٌ‏}‏ لا يغلب عليه شيء في مراده‏.‏

‏{‏لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ أي لا ينبغي أن تجدهم وادين أعداء الله، والمراد أنه لا ينبغي أن يوادوهم‏.‏ ‏{‏وَلَوْ كَانُواْ ءَابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخوانهم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ‏}‏ ولو كان المحادون أقرب الناس إليهم‏.‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي الذين لم يوادوهم‏.‏ ‏{‏كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان‏}‏ أثبته فيها، وهو دليل على خروج العمل من مفهوم الإِيمان، فإن جزء الثابت في القلب يكون ثابتاً فيه، وأعمال الجوارح لا تثبت فيه‏.‏ ‏{‏وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ‏}‏ أي من عند الله وهو نور القلب أو القرآن، أو بالنصر على العدو‏.‏ قيل الضمير ل ‏{‏الإيمان‏}‏ فإنه سبب لحياة القلب‏.‏ ‏{‏وَيُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا رَضِىَ الله عَنْهُمْ‏}‏ بطاعتهم‏.‏ ‏{‏وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ بقضائه أو بما وعدهم من الثواب‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله‏}‏ جنده وأنصار دينه‏.‏ ‏{‏أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون‏}‏ الفائزون بخير الدارين‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله يوم القيامة ‏"‏‏.‏

سورة الحشر

مدنية وآيها أربع وعشرون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏2‏)‏ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ‏(‏3‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏4‏)‏ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ روي ‏"‏ أنه عليه السلام لما قدم المدينة صالح بني النضير على أن لا يكونوا له ولا عليه، فلما ظهر يوم بدر قالوا‏:‏ إنه النبي المنعوت في التوراة بالنصرة، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا وخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة وحالفوا أبا سفيان، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أخا كعب من الرضاعة فقتله غيلة، ثم صبحهم بالكتائب وحاصرهم حتى صالحوا على الجلاء فجلا أكثرهم إلى الشام ولحقت طائفة بخيبر والحيرة ‏"‏ فأنزل الله تعالى ‏{‏سَبَّحَ للَّهِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

‏{‏هُوَ الذى أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم لأَِوَّلِ الحشر‏}‏ أي في أول حشرهم من جزيرة العرب إذ لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك، أو في أول حشرهم للقتال أو الجلاء إلى الشام، وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه إياهم من خيبر إليه، أو في أول حشر الناس إلى الشام وآخر حشرهم أنهم يحشرون إليه عند قيام الساعة فيدركهم هناك، أو أن ناراً تخرج من المشرق فتحشرهم إلى المغرب‏.‏ والحشر إخراج جمع من مكان إلى آخر‏.‏ ‏{‏مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ‏}‏ لشدة بأسهم ومنعتهم‏.‏ ‏{‏وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ الله‏}‏ أي أن حصونهم تمنعهم من بأس الله وتغيير النظم، وتقديم الخبر وإسناد الجملة إلى ضميرهم للدلالة على فرط وثوقهم بحصانتها واعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة بسببها، ويجوز أن تكون ‏{‏حُصُونُهُم‏}‏ فاعلاً ل ‏{‏مَّانِعَتُهُمْ‏}‏‏.‏ ‏{‏فاتاهم الله‏}‏ أي عذابه وهو الرعب والاضطرار إلى الجلاء، وقيل الضمير ل ‏{‏المؤمنين‏}‏ أي فأتاهم نصر الله، وقرئ ‏{‏فاتاهم الله‏}‏ أي العذاب أو النصر‏.‏ ‏{‏مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ‏}‏ لقوة وثوقهم‏.‏ ‏{‏وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب‏}‏ وأثبت فيها الخوف الذي يرعبها أي يملؤها‏.‏ ‏{‏يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ‏}‏ ضناً بها على المسلمين وإخراجاً لما استحسنوا من آلاتها‏.‏ ‏{‏وَأَيْدِى المؤمنين‏}‏ فإنهم أيضاً كانوا يخربون ظواهرها نكاية وتوسيعاً لمجال القتال‏.‏ وعطفها على «أيديهم» من حيث أن تخريب المؤمنين مسبب عن نقضهم فكأنهم استعملوهم فيه، والجملة حال أو تفسير ل ‏{‏الرعب‏}‏‏.‏ وقرأ أبو عمرو «يُخْرِبُونَ» بالتشديد وهو أبلغ لما فيه من التكثير‏.‏ وقيل الإِخراب التعطيل أو ترك الشيء خراباً والتخريب الهدم‏.‏ ‏{‏فاعتبروا ياأولى الأبصار‏}‏ فاتعظوا بحالهم فلا تغدروا ولا تعتمدوا على غير الله، واستدل به على أن القياس حجة من حيث أنه أمر بالمجاوزة من حال إلى حال وحملها عليها في حكم لما بينهما من المشاركة المقتضية له على ما قررناه في الكتب الأصولية‏.‏

‏{‏وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء‏}‏ الخروج من أوطانهم‏.‏ ‏{‏لَعَذَّبَهُمْ فِى الدنيا‏}‏ بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ فِى الآخرة عَذَابُ النار‏}‏ استئناف معناه أنهم إن نجوا من عذاب الدنيا لم ينجوا من عذاب الآخرة‏.‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقّ الله فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏ الإِشارة إلى ما ذكر مما حاق بهم وما كانوا بصدده وما هو معد لهم أو إلى الأخير‏.‏

‏{‏مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ‏}‏ أي شيء قطعتم من نخلة فعلة من اللون ويجمع على ألوان، وقيل من اللين ومعناها النخلة الكريمة وجمعها أليان‏.‏ ‏{‏أَوْ تَرَكْتُمُوهَا‏}‏ الضمير لما وتأنيثه لأنه مفسر باللينة‏.‏ ‏{‏قَائِمَةً على أُصُولِهَا‏}‏ وقرئ «أصلها» اكتفاء بالضمة عن الواو أو على أنه كرهن‏.‏ ‏{‏فَبِإِذْنِ الله‏}‏ فبأمره‏.‏ ‏{‏وَلِيُخْزِىَ الفاسقين‏}‏ علة لمحذوف أي وفعلتم أو وأذن لكم في القطع ليجزيهم على فسقهم بما غاظهم منه‏.‏ ‏"‏ روي أنه عليه الصلاة والسلام لما أمر بقطع نخيلهم قالوا‏:‏ قد كنت يا محمد تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها فنزلت ‏"‏ واستدل به على جواز هدم ديار الكفار وقطع أشجارهم زيادة لغيظهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 10‏]‏

‏{‏وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏6‏)‏ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏7‏)‏ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ‏(‏8‏)‏ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏9‏)‏ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَفَاء الله على رَسُولِهِ‏}‏ وما أعاده عليه بمعنى صيره له أورده عليه، فإنه كان حقيقاً بأن يكون له لأنه تعالى خلق الناس لعبادته وخلق ما خلق لهم ليتوسلوا به إلى طاعته فهو جدير بأن يكون للمطيعين‏.‏ ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ من بني النضير أو من الكفرة‏.‏ ‏{‏فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ‏}‏ فما أجريتم على تحصيله من الوجيف وهو سرعة السير‏.‏ ‏{‏مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ‏}‏ ما يركب من الإِبل غلب فيه كما غلب الراكب على راكبه، وذلك إن كان المراد فيءُ بني النضير، فلأن قراهم كانت على ميلين من المدينة فمشوا إليها رجالاً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ركب جملاً أو حماراً، ولم يجر مزيد قتال ولذلك لم يعط الأنصار منه شيئاً إلا ثلاثة كانت بهم حاجة‏.‏ ‏{‏ولكن الله يُسَلّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَاءُ‏}‏ بقذف الرعب في قلوبهم‏.‏ ‏{‏والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ‏}‏ فيفعل ما يريد تارة بالوسائط الظاهرة وتارة بغيرها‏.‏

‏{‏مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى‏}‏ بيان للأول ولذلك لم يعطف عليه‏.‏ ‏{‏فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏ اختلف في قسم الفيء، فقيل يسدس لظاهر الآية ويصرف سهم الله في عمارة الكعبة وسائر المساجد، وقيل يخمس لأن ذكر الله للتعظيم ويصرف الآن سهم الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الإِمام على قول وإلى العساكر والثغور على قول وإلى مصالح المسلمين على قول‏.‏ وقيل يخمس خمسه كالغنيمة فإنه عليه الصلاة والسلام كان يقسم الخمس كذلك ويصرف الأخماس الأربعة كما يشاء والآن على الخلاف المذكور‏.‏ ‏{‏كَيْلاَ يَكُونَ‏}‏ أي الفيء الذي حقه أن يكون للفقراء‏.‏ وقرأ هشام في رواية بالتاء‏.‏ ‏{‏دُولَةً بَيْنَ الأغنياء مِنكُمْ‏}‏ الدولة ما يتداوله الأغنياء ويدور بينهم كما كان في الجاهلية، وقرئ ‏{‏دُولَةً‏}‏ بمعنى كيلا يكون الفيء ذا تداول بينهم أو أخذه غلبة تكون بينهم، وقرأ هشام «دُولَةً» بالرفع على كان التامة أي كيلا يقع دولة جاهلية‏.‏ ‏{‏وَمَا ءاتاكم الرسول‏}‏ وما أعطاكم من الفيء أو من الأمر‏.‏ ‏{‏فَخُذُوهُ‏}‏ لأنه حلال لكم، أو فتمسكوا به لأنه واجب الطاعة‏.‏ ‏{‏وَمَا نهاكم عَنْهُ‏}‏ عن أخذه منه، أو عن إتيانه‏.‏ ‏{‏فانتهوا‏}‏ عنه‏.‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في مخالفة رسوله‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏ لمن خالفه‏.‏

‏{‏لِلْفُقَرَاء المهاجرين‏}‏ بدل من ‏{‏ذَا القربى‏}‏ و‏{‏مَا‏}‏ عطف عليه فإن ‏{‏الرسول‏}‏ لا يسمى فقيراً، ومن أعطى أغنياء ذوي القربى خصص الإبدال بما بعده، والفيء بفيء بني النضير‏.‏ ‏{‏الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن ديارهم وأموالهم‏}‏ فإن كفار مكة أخرجوهم وأخذوا أموالهم‏.‏ ‏{‏يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ الله وَرِضْوَاناً‏}‏ حال مقيدة لإخراجهم بما يوجب تفخيم شأنهم‏.‏ ‏{‏وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ بأنفسهم وأموالهم‏.‏

‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون‏}‏ في إيمانهم‏.‏

‏{‏والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان‏}‏ عطف على المهاجرين، والمراد بهم الأنصار الذين ظهر صدقهم فإنهم لزموا المدينة والإِيمان وتمكنوا فيهما، وقيل المعنى تبوءوا دار الهجرة ودار الإِيمان فحذف المضاف من الثاني والمضاف إليه من الأول وعوض عنه اللام، أو تبوءوا الدار وأخلصوا الإِيمان كقوله‏:‏

عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءٌ بَارِداً *** وقيل سمى المدينة بالإِيمان لأنها مظهره ومصيره‏.‏ ‏{‏مِن قَبْلِهِمُ‏}‏ من قبل هجرة المهاجرين‏.‏ وقيل تقدير الكلام والذين تبوءوا الدار من قبلهم والإِيمان‏.‏ ‏{‏يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ‏}‏ ولا يثقل عليهم‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ‏}‏ في أنفسهم‏.‏ ‏{‏حَاجَةً‏}‏ ما تحمل عليه الحاجة كالطلب والحزازة والحسد والغيظ‏.‏ ‏{‏مّمَّا أُوتُواْ‏}‏ مما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره‏.‏ ‏{‏وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ‏}‏ ويقدمون المهاجرين على أنفسهم حتى إن كان عنده امرأتان نزل عن واحدة وزوجها من أحدهم‏.‏ ‏{‏وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ‏}‏ حاجة من خصاص البناء وهي فرجه‏.‏ ‏{‏وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ‏}‏ حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإِنفاق‏.‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون‏}‏ الفائزون بالثناء العاجل والثواب الآجل‏.‏

‏{‏والذين جَاؤُوا مّن بَعْدِهِمْ‏}‏ هم الذين هاجروا حين قوي الإِسلام، أو التابعون بإحسان وهم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة ولذلك قيل‏:‏ إن الآية قد استوعبت جميع المؤمنين‏.‏ ‏{‏يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا الذين سَبَقُونَا بالإيمان‏}‏ أي لإِخواننا في الدين‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ‏}‏ حقداً لهم‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ فحقيق بأن تجيب دعاءنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 17‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏11‏)‏ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏12‏)‏ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏13‏)‏ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏14‏)‏ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏15‏)‏ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نافقوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب‏}‏ يريد الذين بينهم وبينهم أخوة الكفر أو الصداقة والموالاة‏.‏ ‏{‏لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ‏}‏ من دياركم‏.‏ ‏{‏لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ‏}‏ في قتالكم أو خذلانكم‏.‏ ‏{‏أَحَداً أَبَداً‏}‏ أي من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين‏.‏ ‏{‏وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ‏}‏ لنعَاوننكم‏.‏ ‏{‏والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ لعلمه بأنهم لا يفعلون ذلك كما قال‏:‏

‏{‏لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ‏}‏ وكان كذلك فإن ابن أبي وأصحابه راسلوا بني النضير بذلك ثم أخلفوهم، وفيه دليل على صحة النبوة وإعجاز القرآن‏.‏ ‏{‏وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ‏}‏ على الفرض والتقدير‏.‏ ‏{‏لَيُوَلُّنَّ الأدبار‏}‏ انهزاماً‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ‏}‏ بعد بل يخذلهم الله ولا ينفعهم نصرة المنافقين، أو نفاقهم إذ ضمير الفعلين يحتمل أن يكون لليهود وأن يكون للمنافقين‏.‏

‏{‏لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً‏}‏ أي أشد مرهوبية مصدر للفعل المبني للمفعول‏.‏ ‏{‏فِى صُدُورِهِمْ‏}‏ فإنهم كانوا يضمرون مخافتهم من المؤمنين‏.‏ ‏{‏مِنَ الله‏}‏ على ما يظهرونه نفاقاً فإن استبطان رهبتكم سبب لإِظهار مرهبة الله‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ‏}‏ لا يعلمون عظمة الله حتى يخشوه حق خشيته ويعلموا أنه الحقيق بأن يخشى‏.‏

‏{‏لاَ يقاتلونكم‏}‏ اليهود والمنافقون‏.‏ ‏{‏جَمِيعاً‏}‏ مجتمعين متفقين‏.‏ ‏{‏إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ‏}‏ بالدروب والخنادق‏.‏ ‏{‏أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ‏}‏ لفرط رهبتهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «جدار» وأمال أبو عمرو فتحة الدال‏.‏ ‏{‏بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ‏}‏ أي وليس ذلك لضعفهم وجبنهم فإنه يشتد بأسهم إذا حارب بعضهم بعضاً، بل لقذف الله الرعب في قلوبهم ولأن الشجاع يجبن والعزيز يذل إذا حارب الله ورسوله‏.‏ ‏{‏تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً‏}‏ مجتمعين متفقين‏.‏ ‏{‏وَقُلُوبُهُمْ شتى‏}‏ متفرقة لافتراق عقائدهم واختلاف مقاصدهم‏.‏ ‏{‏ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ‏}‏ ما فيه صلاحهم وإن تشتت القلوب يوهن قواهم‏.‏

‏{‏كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ أي مثل اليهود كمثل أهل بدر، أو بني قينقاع إن صح أنهم أخرجوا قبل النضير، أو المهلكين من الأمم الماضية‏.‏ ‏{‏قَرِيبًا‏}‏ في زمان قريب وانتصابه بمثل إذ التقدير كوجود مثل‏.‏ ‏{‏ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ‏}‏ سوء عاقبة كفرهم في الدنيا‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ في الآخرة‏.‏

‏{‏كَمَثَلِ الشيطان‏}‏ أي مثل المنافقين في إغراء اليهود على القتال كمثل الشيطان‏.‏ ‏{‏إِذْ قَالَ للإنسان اكفر‏}‏ أغراه على الكفر إغراء الآمر المأمور‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِئ مّنكَ إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين‏}‏ تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب ولم ينفعه ذلك كما قال‏.‏

‏{‏فَكَانَ عاقبتهما أَنَّهُمَا فِى النار خالدين فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين‏}‏ والمراد من الإِنسان الجنس‏.‏ قيل أبو جهل قال له إبليس يوم بدر ‏{‏لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ‏}‏ الآية‏.‏ وقيل راهب حمله على الفجور والارتداد وقرئ ‏{‏عاقبتهما‏}‏ و«خالدان» على أنه خبر إن و‏{‏فِى النار‏}‏ لغو‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 24‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏18‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏19‏)‏ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏20‏)‏ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏21‏)‏ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ‏(‏22‏)‏ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏23‏)‏ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ‏}‏ ليوم القيامة سماه به لدنوه أو لأن الدنيا كيوم والآخرة كغده، وتنكيره للتعظيم وأما تنكير النفس فلاستقلال الأنفس النواظر فيما قدمن للآخرة كأنه قال‏:‏ فلتنظر نفس واحدة في ذلك‏.‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ تكرير للتأكيد، أو الأول في أداء الواجبات لأنه مقرون بالعمل والثاني في ترك المحارم لاقترانه بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ وهو كالوعيد على المعاصي‏.‏

‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله‏}‏ نسوا حقه‏.‏ ‏{‏فأنساهم أَنفُسَهُمْ‏}‏ فجعلهم ناسين لها حتى لم يسمعوا ما ينفعها ولم يفعلوا ما يخلصها، أو أراهم يوم القيامة من الهول ما أنساهم أنفسهم‏.‏ ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الفاسقون‏}‏ الكاملون في الفسوق‏.‏

‏{‏لاَ يَسْتَوِى أصحاب النار وأصحاب الجنة‏}‏ الذين استكملوا نفوسهم فاستأهلوا الجنة والذين استمهنوها فاستحقوا النار، واحتج به أصحابنا على أن المسلم لا يقتل بالكافر‏.‏ ‏{‏أصحاب الجنة هُمُ الفائزون‏}‏ بالنعيم المقيم‏.‏

‏{‏لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ الله‏}‏ تمثيل وتخييل كما مر في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة‏}‏ ولذلك عقبه بقوله‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ فإن الإِشارة إليه وإلى أمثاله‏.‏ والمراد توبيخ الإِنسان على عدم تخشعه عند تلاوة القرآن لقساوة قلبه وقلة تدبره، والتصدع التشقق‏.‏ وقرئ «مصدعاً» على الإِدغام‏.‏

‏{‏هُوَ الله الذى لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة‏}‏ ما غاب عن الحس من الجواهر القدسية وأحوالها، وما حضر له من الأجرام وأعراضها، وتقديم ‏{‏الغيب‏}‏ لتقدمه في الوجود وتعلق العلم القديم به، أو المعدوم والموجود، أو السر والعلانية‏.‏ وقيل الدنيا والآخرة‏.‏ ‏{‏هُوَ الرحمن الرحيم‏}‏‏.‏

‏{‏هُوَ الله الذى لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك القدوس‏}‏ البالغ في النزاهة عما يوجب نقصاناً‏.‏ وقرئ بالفتح وهو لغة فيه‏.‏ ‏{‏السلام‏}‏ ذو السلامة من كل نقص وآفة، مصدر وصف به للمبالغة‏.‏ ‏{‏المؤمن‏}‏ واهب الأمن، وقرئ بالفتح بمعنى المؤمن به على حذف الجار‏.‏ ‏{‏المهيمن‏}‏ الرقيب الحافظ لكل شيء مفيعل من الأمن قلبت همزته هاء‏.‏ ‏{‏العزيز الجبار‏}‏ الذي جبر خلقه على ما أراده، أو جبر حالهم بمعنى أصلحه‏.‏ ‏{‏المتكبر‏}‏ الذي تكبر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصاناً‏.‏ ‏{‏سبحان الله عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ إذ لا يشركه في شيء من ذلك‏.‏

‏{‏هُوَ الله الخالق‏}‏ المقدر للأشياء على مقتضى حكمته‏.‏ ‏{‏البَارِيءُ‏}‏ الموجد لها بريئاً من التفاوت‏.‏ ‏{‏المصور‏}‏ الموجد لصورها وكيفياتها كما أراد‏.‏ ‏(‏ومن أراد الإِطناب في شرح هذه الأسماء وأخواتها فعليه بكتابي المسمى بمنتهى المنى‏)‏‏.‏ ‏{‏لَهُ الأسماء الحسنى‏}‏ لأنها دالة على محاسن المعاني‏.‏ ‏{‏يُسَبّحُ لَهُ مَا فِى السموات والأرض‏}‏ لتنزهه عن النقائص كلها‏.‏ ‏{‏وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ الجامع للكمالات بأسرها فإنها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ سورة الحشر غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ‏"‏‏.‏