فصل: سورة الانفطار

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


سورة الانفطار

مكية وآيها تسع عشرة آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ‏(‏1‏)‏ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ‏(‏3‏)‏ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ‏(‏4‏)‏ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ‏(‏5‏)‏ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏إِذَا السماء انفطرت‏}‏ انشقت‏.‏

‏{‏وَإِذَا الكواكب انتثرت‏}‏ تساقطت متفرقة‏.‏

‏{‏وَإِذَا البحار فُجّرَتْ‏}‏ فتح بعضها إلى بعض فصار الكل بحراً واحداً‏.‏

‏{‏وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ‏}‏ قلب ترابها وأخرج موتاها‏.‏ وقيل إنه مركب من بعث وراء الإثارة كبسمل ونظيره بحثر لفظاً ومعنى‏.‏

‏{‏عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ‏}‏ من عمل أو صدقة‏.‏ ‏{‏وَأَخَّرَتْ‏}‏ من سيئة أو تركت، ويجوز أن يراد بالتأخير التضييع وهو جواب ‏{‏إِذَا‏}‏‏.‏

‏{‏يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم‏}‏ أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه، وذكر ‏{‏الكريم‏}‏ للمبالغة في المنع عن الاغترار فإن محض الكرم لا يقتضي إهمال الظالم وتسوية الموالي والمعادي والمطيع والعاصي، فكيف إذا انضم إليه صفة القهر والانتقام والإِشعار بما به يغره الشيطان، فإنه يقول له افعل ما شئت فربك كريم لا يعذب أحداً ولا يعاجل بالعقوبة، والدلالة على أن كثرة كرمه تستدعي الجد في طاعته لا الانهماك في عصيانه اغتراراً بكرمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 14‏]‏

‏{‏الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ‏(‏7‏)‏ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ‏(‏8‏)‏ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ‏(‏9‏)‏ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ‏(‏10‏)‏ كِرَامًا كَاتِبِينَ ‏(‏11‏)‏ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏12‏)‏ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ‏(‏13‏)‏ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏الذى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ‏}‏ صفة ثانية مقررة للربوبية مبينة للكرم منبهة على أن من قدر على ذلك أولاً قدر عليه ثانياً، والتسوية جعل الأعضاء سليمة مسواة معدة لمنافعها، والتعديل جعل البنية معدلة متناسبة الأعضاء، أو معدلة بما تسعدها من القوى‏.‏ وقرأ الكوفيون «فَعَدَلَكَ» بالتخفيف أي عدل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت، أو فصرفك عن خلقه غيرك وميزك بخلقة فارقت خلقة سائر الحيوان‏.‏

‏{‏فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ‏}‏ أي ركبك في أي صورة شاءها، و‏{‏مَا‏}‏ مزيدة وقيل شرطية، و‏{‏رَكَّبَكَ‏}‏ جوابها والظرف صلة ‏{‏عدلك‏}‏، وإنما لم يعطف الجملة على ما قبلها لأنها بيان لعدلك‏.‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع عن الاغترار بكرم الله وقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ تُكَذّبُونَ بالدين‏}‏ إضراب إلى بيان ما هو السبب الأصلي في اغترارهم، والمراد ‏{‏بالدين‏}‏ الجزاء أو الإِسلام‏.‏

‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين كِرَاماً كاتبين يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ تحقيق لما يكذبون به ورد لما يتوقعون من التسامح والإِهمال، وتعظم الكتبة بكونهم كراماً عند الله لتعظيم الجزاء‏.‏

‏{‏إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ‏}‏ بيان لما يكتبون لأجله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 19‏]‏

‏{‏يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ‏(‏15‏)‏ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ‏(‏16‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏17‏)‏ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏18‏)‏ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏يَصْلَوْنَهَا‏}‏ يقاسون حرها‏.‏ ‏{‏يَوْمِ الدين‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ‏}‏‏.‏ لخلودهم فيها‏.‏ وقيل معناه وما يغيبون عنها قبل ذلك إذ كانوا يجدون سمومها في القبور‏.‏

‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين‏}‏ تعجيب وتفخيم لشأن ال ‏{‏يَوْم‏}‏، أي كنه أمره بحيث لا تدركه دراية دار‏.‏

‏{‏يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ‏}‏ تقرير لشدة هوله وفخامة أمره إجمالاً، ورفع ابن كثير والبصريان ‏{‏يَوْم‏}‏ على البدل من ‏{‏يَوْمِ الدين‏}‏، أو الخبر المحذوف‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة إذا السماء انفطرت كتب الله له بعدد كل قطرة من السماء حسنة، وبعدد كل قبر حسنة» والله أعلم‏.‏

سورة المطففين

مختلف فيها وآيها ست وثلاثون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ‏(‏1‏)‏ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ‏(‏3‏)‏ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ‏(‏4‏)‏ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏5‏)‏ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏6‏)‏ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ‏(‏7‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ‏(‏8‏)‏ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ‏}‏ التطفيف البخس في الكيل والوزن لأن ما يبخس طفيف أي حقير‏.‏ روي أن أهل المدينة كانوا أخبث الناس كيلاً فنزلت فأحسنوه، وفي الحديث «خمس بخمس ما نقض العهد قوم إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر» ‏{‏الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ‏}‏ أي إذا اكتالوا من الناس حقوقهم يأخذونها وافية، وإنما أبدل ‏{‏على‏}‏ بمن للدلالة على أن اكتيالهم لما لهم على الناس، أو اكتيال يتحامل فيه عليهم‏.‏

‏{‏وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ‏}‏ أي إذا كالوا الناس أو وزنوا لهم‏.‏ ‏{‏يُخْسِرُونَ‏}‏ فحذف الجار وأوصل الفعل كقوله‏:‏

وَلَقَد جَنَيْتُكَ أَكمؤاً وَعَسَاقلا *** بمعنى جنيت لك أو كالوا مكيلهم فحذف المضاف وأقيم المضاف مقامه، ولا يحسن جعل المنفصل تأكيداً للمتصل فإنه يخرج الكلام عن مقابلة ما قبله إذ المقصود بيان اختلاف حالهم في الأخذ والدفع، لا في المباشرة وعدمها ويستدعي إثبات الألف بعد الواو كما هو خط المصحف في نظائره‏.‏

‏{‏أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ‏}‏ فإن من ظن ذلك لم يتجاسر على أمثال هذه القبائح، فكيف بمن تيقنه وفيه انكار وتعجيب من حالهم‏.‏

‏{‏لِيَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ عظمه لعظم ما يكون فيه ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الناس‏}‏ نصب بمبعوثون أو بدل من الجار والمجرور ويؤيده القراءة بالجر ‏{‏لِرَبّ العالمين‏}‏ لحكمه‏.‏

وفي هذا الانكار والتعجيب وذكر الظن ووصف اليوم بالعظم، وقيام الناس فيه لله، والتعبير عنه برب العالمين مبالغات في المنع عن التطفيف وتعظيم إثمه‏.‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع عن التطفيف والغفلة عن البعث والحساب‏.‏ ‏{‏إِنَّ كتاب الفجار‏}‏ ما يكتب من أعمالهم أو كتابة أعمالهم‏.‏ ‏{‏لَفِى سِجّينٍ‏}‏ كتاب جامع لأعمال الفجرة من الثقلين كما قال‏:‏

‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ كتاب مَّرْقُومٌ‏}‏ أي مسطور بين الكتابة أو معلم بعلم من رآه أنه لا خير فيه، فعيل من السجن لقب به الكتاب لأنه سبب الحبس، أو لأنه مطروح كما قيل‏:‏ تحت الأرضين في مكان وحش، وقيل هو اسم مكان والتقدير ما كتاب السجين، أو محل كتاب مرقوم فحذف المضاف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 20‏]‏

‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏11‏)‏ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ‏(‏12‏)‏ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏13‏)‏ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏14‏)‏ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ‏(‏15‏)‏ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏17‏)‏ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ‏(‏18‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ‏(‏19‏)‏ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ بالحق أو بذلك‏.‏

‏{‏الذين يُكَذّبُونَ بِيَوْمِ الدين‏}‏ صفة مخصصة أو موضحة أو ذامة‏.‏

‏{‏وَمَا يُكَذّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ‏}‏ متجاوز عن النظر غال في التقليد حتى استقصر قدرة الله تعالى وعلمه فاستحال منه الإِعادة‏.‏ ‏{‏أَثِيمٍ‏}‏ منهمك في الشهوات المخدجة بحيث أشغلته عما وراءها وحملته على الإتقان لما عداه‏.‏

‏{‏إِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا قَالَ أساطير الأولين‏}‏ من فرط جهله وإعراضه عن الحق فلا تنفعه شواهد النقل كما لم تنفعه دالائل العقل‏.‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع عن هذا القول‏.‏ ‏{‏بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ رد لما قالوه وبيان لما أدى بهم إلى هذا القول، بأن غلب عليهم حب المعاصي بالانهماك فيها حتى صار ذلك صدأ على قلوبهم فعمي عليهم معرفة الحق والباطل،‏.‏ فإن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكات كما قال عليه الصلاة والسلام «إن العبد كلما أذنب ذنباً حصل في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه» والرين الصدأ، وقرأ حفص ‏{‏بَلْ رَانَ‏}‏ بإظهار اللام‏.‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع عن الكسب الرائن‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ‏}‏ فلا يرونه بخلاف المؤمنين ومن أنكر الرؤية جعله تمثيلاً لإِهانتهم بإهانة من يمنع عن الدخول على الملوك، أو قدر مضافاً مثل رحمة ربهم، أو قرب ربهم‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم‏}‏ ليدخلون النار ويصلون بها‏.‏

‏{‏ثُمَّ يُقَالُ هذا الذى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ‏}‏ تقوله لهم الزبانية‏.‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏ تكرير ليعقب بوعد الأبرار كما عقب الأول بوعيد الفجار إشعاراً بأن التطفيف فجور والإيفاء بر، أو ردع عن التكذيب‏.‏ ‏{‏إِنَّ كتاب الأبرار لَفِى عِلّيّينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلّيُّونَ كتاب مَّرْقُومٌ‏}‏ الكلام فيه ما مر في نظيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 27‏]‏

‏{‏يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ‏(‏21‏)‏ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ‏(‏22‏)‏ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ‏(‏23‏)‏ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ‏(‏24‏)‏ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ‏(‏25‏)‏ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ‏(‏26‏)‏ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏يَشْهَدُهُ المقربون‏}‏ يحضرونه فيحفظونه، أو يشهدون على ما فيه يوم القيامة‏.‏

‏{‏إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ على الأرائك‏}‏ على الأسرة في الحجال‏.‏ ‏{‏يَنظَرُونَ‏}‏ إلى ما يسرده من النعم والمتفرجات‏.‏

‏{‏تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم‏}‏ بهجة التنعم وبريقه، وقرأ يعقوب «تُعْرِفُ»على البناء للمفعول و«نَضْرَةُ» بالرفع‏.‏

‏{‏يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ‏}‏ شراب خالص‏.‏ ‏{‏مَّخْتُومٍ ختامه مِسْكٌ‏}‏ أي مختوم أوانيه بالمسك مكان الطين، ولعله تمثيل لنفاسته، أو الذي له ختام أي مقطع هو رائحة المسك، وقرأ الكسائي «خَاتِمَة» بفتح التاء أي ما يختم به ويقطع‏.‏ ‏{‏وَفِى ذَلِكَ‏}‏ يعني الرحيق أو النعيم‏.‏ ‏{‏فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون‏}‏ فليرتغب المرتغبون‏.‏

‏{‏وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ‏}‏ علم لعين بعينها سميت تسنيماً لارتفاع مكانها أو رفعة شرابها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 36‏]‏

‏{‏عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ‏(‏28‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ ‏(‏29‏)‏ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ‏(‏30‏)‏ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ‏(‏32‏)‏ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ‏(‏33‏)‏ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ‏(‏34‏)‏ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ‏(‏35‏)‏ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون‏}‏ فإنهم يشربونها صرفاً لأنهم لم يشتغلوا بغير الله، وتمزج لسائر أهل الجنة وانتصاب ‏{‏عَيْناً‏}‏ على المدح أو الحال ‏{‏مِن تَسْنِيمٍ‏}‏ والكلام في الباء كما في ‏{‏يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله‏}‏ ‏{‏إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ‏}‏ يعني رؤساء قريش‏.‏ ‏{‏كَانُواْ مِنَ الذين ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ‏}‏ كانوا يستهزئون بفقراء المؤمنين‏.‏

‏{‏وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ‏}‏ يغمز بعضهم بعضاً ويشيرون بأعينهم‏.‏

‏{‏وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ انقلبوا فاكهين‏}‏ متلذذين بالسخرية منهم، وقرأ حفص «فَكِهِينَ»‏}‏‏.‏

وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ‏}‏ وإذا رأوا المؤمنين نسبوهم إلى الضلال‏.‏

‏{‏وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ‏}‏ على المؤمنين‏.‏ ‏{‏حافظين‏}‏ يحفظون عليهم أعمالهم ويشهدون برشدهم وضلالهم‏.‏

‏{‏فاليوم الذين ءَامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ‏}‏ حين يرونهم أذلاء مغلوبين في النار‏.‏ وقيل يفتح لهم باب إلى الجنة فيقال لهم اخرجوا إليها، فَإِذَا وصلوا أغلق دونهم فيضحك المؤمنون منهم‏.‏

‏{‏عَلَى الأرائك يَنظُرُونَ‏}‏ حال من ‏{‏يَضْحَكُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏هَلْ ثُوّبَ الكفار‏}‏ أي هل أثيبوا‏.‏ ‏{‏مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ‏}‏ وقرأ حمزة والكسائي بادغام اللام في الثاء‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ سورة المطففين سقاه الله من الرحيق المختوم يوم القيامة ‏"‏‏.‏

سورة الانشقاق

مكية وآيها خمس وعشرون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 12‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ‏(‏1‏)‏ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ‏(‏3‏)‏ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ‏(‏4‏)‏ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ‏(‏5‏)‏ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ‏(‏6‏)‏ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ‏(‏7‏)‏ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ‏(‏8‏)‏ وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ‏(‏9‏)‏ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ‏(‏10‏)‏ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ‏(‏11‏)‏ وَيَصْلَى سَعِيرًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏إِذَا السماء انشقت‏}‏ بالغمام كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام‏}‏ وعن علي رضي الله تعالى عنه‏:‏ تنشق من المجرة‏.‏

‏{‏وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا‏}‏ واستمعت له أي انقادت لتأثير قدرته حين أراد انشقاقها انقياد المطواع الذي يأذن للآمر ويذعن له‏.‏ ‏{‏وَحُقَّتْ‏}‏ وجعلت حقيقة بالاستماع والانقياد يقال‏:‏ حق بكذا فهو محقوق وحقيق‏.‏

‏{‏وَإِذَا الأرض مُدَّتْ‏}‏ بسطت بأن لا تزال جبالها وآكامها‏.‏

‏{‏وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ‏}‏ في الخلو أقصى جهدها حتى لم يبق شيء في باطنها‏.‏

‏{‏وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا‏}‏ في الإِلقاء والتخلي‏.‏ ‏{‏وَحُقَّتْ‏}‏ للإِذن وتكرير ‏{‏إِذَا‏}‏ لاستقلال كل من الجملتين بنوع من القدرة، وجوابه محذوف للتهويل بالإِبهام أو الاكتفاء بما مر في سورتي «التكوير» و«الانفطار» أو لدلالة قوله‏.‏

‏{‏يا أيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبّكَ كَدْحاً فملاقيه‏}‏ عليه وتقديره لاقى الإِنسان كدحه أي جهداً يؤثر فيه من كدحه إذا خدشه، أو ‏{‏فملاقيه‏}‏ و‏{‏يا أيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبّكَ‏}‏ اعتراض، والكدح إليه السعي إلى لقاء جزائه‏.‏

‏{‏فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً‏}‏ سهلاً لا يناقش فيه‏.‏

‏{‏وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً‏}‏ إلى عشيرته المؤمنين، أو فريق المؤمنين، أو ‏{‏أَهْلِهِ‏}‏ في الجنة من الحور‏.‏

‏{‏وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه وَرَاء ظَهْرِهِ‏}‏ أي يؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره‏.‏ قيل تغل يمناه إلى عنقه وتجعل يسراه وراء ظهره‏.‏

‏{‏فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً‏}‏ يتمنى الثبور ويقول يا ثبوراه وهو الهلاك‏.‏

‏{‏ويصلى سَعِيراً‏}‏ وقرأ الحجازيان والشامي «ويصلى» لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ‏}‏ وقرئ «ويصلى» لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونصله جَهَنَّمَ‏.‏‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 19‏]‏

‏{‏إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ‏(‏13‏)‏ إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ‏(‏14‏)‏ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ‏(‏15‏)‏ فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ‏(‏16‏)‏ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ‏(‏17‏)‏ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ‏(‏18‏)‏ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ‏}‏ أي في الدنيا‏.‏ ‏{‏مَسْرُوراً‏}‏ بطراً بالمال والجاه فارغاً عن الآخرة‏.‏

‏{‏إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ‏}‏ لن يرجع إلى الله تعالى‏.‏

‏{‏بلى‏}‏ إيجاب لما بعد ‏{‏لَنْ‏}‏‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً‏}‏ عالماً بأعماله فلا يهمله بل يرجعه ويجازيه‏.‏

‏{‏فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق‏}‏ الحمرة التي ترى في أفق المغرب بعد الغروب‏.‏ وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى‏:‏ أنه البياض الذي يليها، سمي به لرقته من الشفقة‏.‏

‏{‏واليل وَمَا وَسَقَ‏}‏ وما جمعه وستره من الدواب وغيرها يقال‏:‏ وسقه فاتسق واستوسق، قال‏:‏

مُسْتَوْسِقَاتٍ لَوْ يَجِدْنَ سَائِقاً *** أو طرده إلى أماكنه من الوسيقة‏.‏

‏{‏والقمر إِذَا اتسق‏}‏ اجتمع وتم بدراً‏.‏

‏{‏لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ‏}‏ حالاً بعد حال مطابقة لأختها في الشدة، وهو لما طابق غيره فقيل للحال المطابقة، أو مراتب من الشدة بعد المراتب هي الموت ومواطن القيامة وأهوالها، أو هي وما قبلها من الدواهي على أنه جمع طبقة‏.‏ وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «لَتَرْكَبُنَّ» بالفتح على خطاب الإنسان باعتبار اللفظ، أو الرسول عليه الصلاة والسلام على معنى «لَتَرْكَبُنَّ» حالاً شريفة ومرتبة عالية بعد حال ومرتبة، أو ‏{‏طَبَقاً‏}‏ من أطباق السماء بعد طبق ليلة المعراج وبالكسر على خطاب النفس، وبالياء على الغيبة و‏{‏عَن طَبقٍ‏}‏ صفة ل ‏{‏طَبَقاً‏}‏ أو حال من الضمير بمعنى مجاوز ال ‏{‏طَبقٍ‏}‏ أو مجاوزين له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 25‏]‏

‏{‏فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ ‏(‏21‏)‏ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ‏(‏22‏)‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ‏(‏23‏)‏ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏24‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ بيوم القيامة‏.‏

‏{‏وَإِذَا قُرِئ عَلَيْهِمُ القرءان لاَ يَسْجُدُونَ‏}‏ لا يخضعون أو ‏{‏لاَ يَسْجُدُونَ‏}‏ لتلاوته‏.‏ لما روي‏:‏ أنه عليه الصلاة والسلام قرأ ‏{‏واسجد واقترب‏}‏ فسجد بمن معه من المؤمنين وقريش تصفق فوق رؤوسهم فنزلت‏.‏ واحتج به أبو حنيفة على وجوب السجود فإنه ذم لمن سمعه ولم يسجد‏.‏ وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه سجد فيها وقال‏:‏ والله ما سجدت فيها إلا بعد أن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها‏.‏

‏{‏بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذّبُونَ‏}‏ أي بالقرآن‏.‏

‏{‏والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ‏}‏ بما يضمرون في صدورهم من الكفر والعداوة‏.‏

‏{‏فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ استهزاء بهم‏.‏

‏{‏إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ استثناء منقطع أو متصل، والمراد من تاب وآمن منهم‏.‏ ‏{‏لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ مقطوع أو ‏{‏مَمْنُونٍ‏}‏ به عليهم‏.‏

وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الانشقاق أعاذه الله أن يعطيه كتابه وراء ظهره»‏.‏

سورة البروج

مكية وآيها ثنتان وعشرون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ‏(‏1‏)‏ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ‏(‏2‏)‏ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ‏(‏3‏)‏ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏والسماء ذَاتِ البروج‏}‏ يعني البروج الاثني عشر شبهت بالقصور لأنها تنزلها السيارات وتكون فيها الثوابت، أو منازل القمر أو عظام الكواكب سميت بروجاً لظهورها، أو أبواب السماء فإن النوازل تخرج منها وأصل التركيب للظهور‏.‏

‏{‏واليوم الموعود‏}‏ يوم القيامة‏.‏

‏{‏وشاهد وَمَشْهُودٍ‏}‏ ومن يشهد في ذلك اليوم من الخلائق وما أحضر فيه من العجائب، وتنكيرهما للإبهام في الوصف أي ‏{‏وشاهد وَمَشْهُودٍ‏}‏ لا يكتنه وصفهما، أو المبالغة في الكثرة كأنه قيل‏:‏ ما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود، أو النبي عليه الصلاة والسلام وأمته، أو أمته وسائر الأمم، أو كل نبي وأمته، أو الخالق والخلق، أو عكسه فإن الخالق مطلع على خقله وهو شاهد على وجوده، أو الملك الحفيظ والمكلف أو يوم النحر، أو عرفة والحجيج، أو يوم الجمعة والجمع فإنه يشهد له أو كل يوم وأهله‏.‏

‏{‏قُتِلَ أصحاب الأخدود‏}‏ قيل إنه جواب القسم على تقدير لقد ‏{‏قَتْلَ‏}‏، والأظهر أنه دليل جواب محذوف كأنه قيل إنهم ملعونون يعني كفار مكة لعن أصحاب الأخدود، فإن السورة وردت لتثبيت المؤمنين على أذاهم وتذكيرهم بما جرى على من قبلهم، والأخدود الخد وهو الشق في الأرض ونحوهما بناء ومعنى الحق والأحقوق‏.‏ روي مرفوعاً‏:‏ «أن ملكاً كان له ساحراً فلما كبر ضم إليه غلاماً ليعلمه، وكان في طريقه راهب فمال قلبه إليه، فرأى في طريقه ذات يوم حية قد حبست الناس فأخذ حجراً وقال‏:‏ اللَّهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها فقتلها، وكان الغلام بَعْدُ يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي من الأدواء، وعمي جليس الملك فأبرأه، فسأله الملك عمن أبرأه فقال ربي فغضب فعذبه فدل على الغلام فعذبه، فدل على الراهب فقده بالمنشار، وأرسل الغلام إلى جبل ليطرح من ذروته، فدعا فرجف بالقوم فهلكوا ونجا، وأجلسه في سفينة ليغرق فدعا فانكفأت السفينة بمن معه فغرقوا ونجا، فقال للملك لست بقاتلي حتى تجمع الناس وتصلبني وتأخذ سهماً من كنانتي وتقول‏:‏ بسم الله رب هذا الغلام، ثم ترميني به فرماه فوقع في صدغه فمات، فآمن الناس برب الغلام، فأمر بأخاديد وأوقدت فيها النيران، فمن لم يرجع منهم طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست فقال الصبي‏:‏ يا أماه اصبري فإنك على الحق فاقتحمت» وعن علي رضي الله تعالى عنه‏.‏ كان بعض ملوك المجوس خطب الناس وقال‏:‏ إن الله أحل نكاح الأخوات فلم يقبلوه، فأمر بأخاديد النار فطرح فيها من أبى، وقيل لما تنصر نجران غزاهم ذو نواس اليهودي من حمير فأحرق في الأخاديد من لم يرتد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 14‏]‏

‏{‏النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ‏(‏5‏)‏ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ‏(‏6‏)‏ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ‏(‏7‏)‏ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏8‏)‏ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ‏(‏10‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ‏(‏11‏)‏ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ‏(‏12‏)‏ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ‏(‏13‏)‏ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏النار‏}‏ بدل من ‏{‏الأخدود‏}‏ بدل الاشتمال‏.‏ ‏{‏ذَاتِ الوقود‏}‏ صفة لها بالعظمة وكثرة ما يرتفع بها لهبها، واللام في ‏{‏الوقود‏}‏ للجنس‏.‏

‏{‏إِذْ هُمْ عَلَيْهَا‏}‏ على حافة النار‏.‏ ‏{‏قُعُودٌ‏}‏ قاعدون‏.‏

‏{‏وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ‏}‏ يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنهم لم يقصروا فيما أمروا به، أو يشهدون على ما يفعلون يوم القيامة حين تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم‏.‏

‏{‏وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ‏}‏ وما أنكروا‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد‏}‏ استثناء على طريقة قوله‏:‏

وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُم *** بِهِن فُلُولٌ مِنْ قراعِ الكتائبِ

ووصفه بكونه عزيزاً غالباً يخشى عقابه حميداً منعماً يرجى ثوابه وقرر ذلك بقوله‏:‏

‏{‏الذى لَهُ مُلْكُ السموات والارض وَهُوَ على كُلّ شَئ شَهِيدٍ‏}‏ للإِشعار بما يستحق أن يؤمن به ويعبد‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات‏}‏ بلوهم بالأذى‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ‏}‏ بكفرهم‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق‏}‏ العذاب الزائد في الاحراق بفتنتهم‏.‏ بل المراد ب ‏{‏الذين فَتَنُواْ‏}‏ ‏{‏أصحاب الأخدود‏}‏ وب ‏{‏عَذَابَ الحريق‏}‏ ما روي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار ذَلِكَ الفوز الكبير‏}‏ إذ الدنيا وما فيها تصغر دونه‏.‏

‏{‏إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ‏}‏ مضاعف عنفه فإن البطش أخذ بعنف‏.‏

‏{‏إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئ وَيُعِيدُ‏}‏ ‏{‏يُبْدِئ‏}‏ الخلق ويعيده، أو ‏{‏يُبْدِئ‏}‏ البطش بالكفرة في الدنيا ويعيده في الآخرة‏.‏

‏{‏وَهُوَ الغفور‏}‏ لمن تاب‏.‏ ‏{‏الودود‏}‏ المحب لمن أطاع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 22‏]‏

‏{‏ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ‏(‏15‏)‏ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ‏(‏16‏)‏ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ ‏(‏17‏)‏ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ‏(‏18‏)‏ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ‏(‏19‏)‏ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ‏(‏20‏)‏ بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ ‏(‏21‏)‏ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏ذُو العرش‏}‏ خالفه، وقيل المراد ب ‏{‏العرش‏}‏ الملك، وقرئ «ذي العرش» صفة ل ‏{‏رَبَّكَ‏}‏‏.‏ ‏{‏المجيد‏}‏ العظيم في ذاته وصفاته، فإنه واجب الوجود تام القدرة والحكمة، وجره حمزة والكسائي صفة ل ‏{‏رَبَّكَ‏}‏، أو ل ‏{‏العرش‏}‏ ومجده علوه وعظمته‏.‏

‏{‏فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ‏}‏ لا يمتنع عليه مراد من أفعاله وأفعال غيره‏.‏

‏{‏هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ‏}‏ أبدلهما من الجنود لأن المراد ب ‏{‏فِرْعَوْنُ‏}‏ هو وقومه، والمعنى قد عرفت تكذيبهم للرسل وما حاق بهم فتسل واصبر على تكذيب قومك وحذرهم مثل ما أصابهم‏.‏

‏{‏بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى تَكْذِيبٍ‏}‏ لا يرعوون عنه، ومعنى الإِضراب أن حالهم أعجب من حال هؤلاء فإنهم سمعوا قصتهم ورأوا آثار هلاكهم وكذبوا أشد من تكذيبهم‏.‏

‏{‏والله مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ‏}‏ لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط المحيط‏.‏

‏{‏بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ‏}‏ بل هذا الذي كذبوا به كتاب شريف وحيد في النظم والمعنى، وقرئ ‏{‏قرآن مجيد‏}‏ بالإِضافة أي قرآن رب مجيد‏.‏

‏{‏فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ‏}‏ من التحريف، وقرأ نافع «مَّحْفُوظٍ» بالرفع صفة ل ‏{‏القرءان‏}‏، وقرئ ‏{‏فِى لَوْحٍ‏}‏ وهوالهواء يعني ما فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ سورة البروج أعطاه الله بعدد كل جمعة وعرفة تكون في الدنيا عشر حسنات ‏"‏‏.‏

سورة الطارق

مكية وآيها سبع عشرة آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ‏(‏1‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ‏(‏2‏)‏ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ‏(‏3‏)‏ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ‏(‏4‏)‏ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ‏(‏5‏)‏ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ‏(‏6‏)‏ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ‏(‏7‏)‏ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ‏(‏8‏)‏ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏والسماء والطارق‏}‏ والكوكب البادي بالليل وهو في الأصل لسالك الطريق، واختص عرفاً بالآتي ليلاً ثم استعمل للبادي فيه‏.‏

‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطارق الطارق النجم الثاقب‏}‏ المضيء كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه، أو الأفلاك والمراد الجنس أو معهود بالثقب وهو زحل، عبر عنه أولاً بوصف عام ثم فسره بما يخصه تفخيماً لشأنه‏.‏

‏{‏إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا‏}‏ أي إن الشان كل نفس لعليها‏.‏ ‏{‏حَافِظٌ‏}‏ رقيب فإن هي المخففة واللام الفاصلة وما مزيدة‏.‏ وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة لما على أنها بمعنى الأوان نافية، والجملة على الوجهين جواب القسم‏.‏

‏{‏فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ‏}‏ لما ذكر أن كل نفس عليها حافظ اتبعه توصية الإنسان بالنظر في مبدئه ليعلم صحة إعادته فلا يملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبته‏.‏

‏{‏خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ‏}‏ جواب الاستفهام و‏{‏مَاء‏}‏ بمعنى ذي دفق، وهو صعب فيه دفع والمراد الممتزج من الماءين في الرحم لقوله‏:‏

‏{‏يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترائب‏}‏ من بين صلب الرجل وترائب المرأة وهي عظام صدرها، ولو صح أن النطفة تتولد من فضل الهضم الرابع وتنفصل عن جميع الأعضاء حتى تستعد لأن يتولد منها مثل تلك الأعضاء، ومقرها عروق ملتف بعضها بالبعض عند البيضتين، فلا شك أن الدماغ أعظم الأعضاء معونة في توليدها، ولذلك تشبهه، ويسرع الإِفراط في الجماع بالضعف فيه وله خليفة وهو النخاع‏!‏ وهو في الصلب وشعب كثيرة نازلة إلى الترائب، وهما أقرب إلى أوعية المني فلذلك خصّا بالذكر‏.‏ وقرئ «الصلب» بفتحتين و«الصلب» بضمتين وفيه لغة رابعة وهي «صالب»‏.‏

‏{‏إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ‏}‏ والضمير للخالق ويدل عليه ‏{‏خُلِقَ‏}‏‏.‏

‏{‏يَوْمَ تبلى السرائر‏}‏ تتعرف ويميز بين ما طاب من الضمائر وما خفي من الأعمال وما خبث منها، وهو ظرف ل ‏{‏رَجْعِهِ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 17‏]‏

‏{‏فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ ‏(‏10‏)‏ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ‏(‏11‏)‏ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ‏(‏12‏)‏ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ‏(‏13‏)‏ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ‏(‏14‏)‏ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ‏(‏15‏)‏ وَأَكِيدُ كَيْدًا ‏(‏16‏)‏ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَا لَهُ‏}‏ فما للإنسان‏.‏ ‏{‏مِن قُوَّةٍ‏}‏ من منعة في نفسه يمتنع بها‏.‏ ‏{‏وَلاَ نَاصِرٍ‏}‏ يمنعه‏.‏

‏{‏والسماء ذَاتِ الرجع‏}‏ ترجع في كل دورة إلى الموضع الذي تتحرك عنه، وقيل الرجع المطر سمي به كما سمي أوباً لأن الله يرجعه وقتاً فوقتاً، أو لما قيل من أن السحاب يحمل الماء من البحار ثم يرجعه إلى الأرض، وعلى هذا يجوز أن يراد ب ‏{‏السماء‏}‏ السحاب‏.‏

‏{‏والأرض ذَاتِ الصدع‏}‏ ما تتصدع عنه الأرض من النبات أو الشق بالنبات والعيون‏.‏

‏{‏إِنَّهُ‏}‏ إن القرآن‏.‏ ‏{‏لَقَوْلٌ فَصْلٌ‏}‏ فاصل بين الحق والباطل‏.‏

‏{‏وَمَا هوَ بالهزل‏}‏ فإنه جد كله‏.‏

‏{‏إِنَّهُمْ‏}‏ يعني أهل مكة‏.‏ ‏{‏يَكِيدُونَ كَيْداً‏}‏ في إبطاله وإطفاء نوره‏.‏

‏{‏وَأَكِيدُ كَيْداً‏}‏ وأقابلهم بكيد في استدراجي لهم وانتقامي منهم من حيث لا يحتسبون‏.‏

‏{‏فَمَهّلِ الكافرين‏}‏ فلا تشتغل بالانتقام منهم، أو لا تستعجل بإهلاكهم‏.‏ ‏{‏أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً‏}‏ أمهالاً يسيراً والتكرير وتغيير البنية لزيادة التسكين‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الطارق أعطاه الله بكل نجم في السماء عشر حسنات»‏.‏

سورة الأعلى

مكية وآيها تسع عشرة آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ‏(‏1‏)‏ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏2‏)‏ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ‏(‏3‏)‏ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ‏(‏4‏)‏ فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى ‏(‏5‏)‏ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ‏(‏6‏)‏ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ‏(‏7‏)‏ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى‏}‏ نزه اسمه عن إلحاد فيه بالتأويلات الزائغة وإطلاقه على غيره زاعماً أنهما فيه سواء وذكره الأعلى على وجه التعظيم، وقرئ «سبحان ربي الأعلى»‏.‏ وفي الحديث ‏"‏ لما نزلت ‏{‏فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم‏}‏ قال عليه الصلاة والسلام اجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت ‏{‏سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى‏}‏ قال عليه الصلاة والسلام اجعلوها في سجودكم ‏"‏ وكانوا يقولون في الركوع اللهم لك ركعت وفي السجود اللهم لك سجدت‏.‏

‏{‏الذى خَلَقَ فسوى‏}‏ خلق كل شيء فسوى خلقه بأن جعل له ما به يتأتى كماله ويتم معاشه‏.‏

‏{‏والذى قَدَّرَ‏}‏ أي قدر أجناس الأشياء وأنواعها وأشخاصها ومقاديرها وصفاتها وأفعالها وآجالها‏.‏ ‏{‏فهدى‏}‏ فوجهه إلى أفعاله طبعاً واختياراً بخلق الميول والإِلهامات ونصب الدلائل وانزال الآيات‏.‏

‏{‏والذى أَخْرَجَ المرعى‏}‏ أنبت ما ترعاه الدواب‏.‏

‏{‏فَجَعَلَهُ‏}‏ بعد خضرته‏.‏ ‏{‏غُثَاء أحوى‏}‏ يابساً أسود‏.‏ وقيل ‏{‏أحوى‏}‏ حال من المرعى أي أخرجه ‏{‏أحوى‏}‏ أي أسود من شدة خضرته‏.‏

‏{‏سَنُقْرِئُكَ‏}‏ على لسان جبريل عليه الصلاة والسلام، أو سنجعلك قارئاً بإلهام القراءة‏.‏ ‏{‏فَلاَ تنسى‏}‏ أصلاً من قوة الحفظ مع أنك أمي ليكون ذلك آية أخرى لك مع أن الإِخبار به عما يستقبل ووقوعه كذلك أيضاً من الآيات، وقيل نهي والألف للفاصلة كقوله تعالى ‏{‏السبيلا‏}‏ ‏{‏إِلاَّ مَا شَاءَ الله‏}‏ نسيانه بأن نسخ تلاوته، وقيل أراد به القلة والنذرة‏.‏ لما روي أنه عليه الصلاة والسلام ‏"‏ أسقط آية في قراءته في الصلاة فحسب أُبيّ أنها نسخت فسأله فقال‏:‏ نسيتها ‏"‏ أو نفى النسيان رأساً فإن القلة تستعمل للنفي‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى‏}‏ ما ظهر من أحوالكم وما بطن، أو جهرك بالقراءة مع جبريل عليه الصلاة والسلام وما دعاك إليه من مخافة النسيان فيعلم ما فيه صلاحكم من ابقاء وإنساء‏.‏

‏{‏وَنُيَسّرُكَ لليسرى‏}‏ ونعدك لطريقة اليسرى في حفظ الوحي، أو التدين وتوفقك لها ولهذه النكتة قال ‏{‏نيسرك‏}‏ لا نيسر لك عطف على ‏{‏سَنُقْرِئُكَ‏}‏، وأنه يعلم اعتراض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 19‏]‏

‏{‏فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ‏(‏9‏)‏ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ‏(‏10‏)‏ وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ‏(‏11‏)‏ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ‏(‏12‏)‏ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ‏(‏13‏)‏ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ‏(‏14‏)‏ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ‏(‏15‏)‏ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏16‏)‏ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏17‏)‏ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ‏(‏18‏)‏ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏فَذَكّرْ‏}‏ بعد ما استتب لك الأمر‏.‏ ‏{‏إِن نَّفَعَتِ الذكرى‏}‏ لعل هذه الشرطية إنما جاءت بعد تكرير التذكير وحصول اليأس من البعض لئلا يتعب نفسه ويتلهف عليهم كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ‏}‏ الآية، أو لذم المذكورين واستبعاد تأثير الذكرى فيهم، أو للإشعار بأن التذكير إنما يجب إذا ظن نفعه ولذلك أمر بالإِعراض عمن تولى‏.‏

‏{‏سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى‏}‏ سيتعظ وينتفع بها من يخشى الله تعالى بأن يتأمل فيها فيعلم حقيقتها‏.‏ وهو يتناول العارف والمتردد‏.‏

‏{‏وَيَتَجَنَّبُهَا‏}‏ ويتجنب ‏{‏الذكرى‏}‏‏.‏ ‏{‏الأشقى‏}‏ الكافر فإنه أشقى من الفاسق، أو ‏{‏الأشقى‏}‏ من الكفرة لتوغله في الكفر‏.‏

‏{‏الذى يَصْلَى النار الكبرى‏}‏ نار جهنم فإنه عليه الصلاة والسلام قال «ناركم هذه جزء من سبعين جزأ من نار جهنم» أو ما في الدرك الأسفل منها‏.‏

‏{‏ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا‏}‏ فيستريح‏.‏ ‏{‏وَلاَ يحيى‏}‏ حياة تنفعه‏.‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى‏}‏ تطهر من الكفر والمعصية، أو تكثر من التقوى من الزكاة، أو تطهر للصلاة أو أدى الزكاة‏.‏

‏{‏وَذَكَرَ اسم رَبّهِ‏}‏ بقلبه ولسانه ‏{‏فصلى‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏أَقِمِ الصلاة لِذِكْرِي‏}‏ ويجوز أن يراد بالذكر تكبيرة التحريم، وقيل ‏{‏تزكى‏}‏ تصدق للفطر ‏{‏وَذَكَرَ اسم رَبّهِ‏}‏ كبره يوم العيد ‏{‏فصلى‏}‏ صلاته‏.‏

‏{‏بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا‏}‏ فلا تفعلون ما يسعدكم في الآخرة، والخطاب للأشقين على الالتفات أو على إضمار قل، أو للكل فإن السعي للدنيا أكثر في الجملة، وقرأ أبو عمرو بالياء‏.‏

‏{‏والآخرة خَيْرٌ وأبقى‏}‏ فإن نعيمها ملذ بالذات خالص عن الغوائل لا انقطاع له‏.‏

‏{‏إِنَّ هذا لَفِى الصحف الأولى‏}‏ الإِشارة إلى ما سبق من ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ‏}‏ فإنه جامع أمر الديانة وخلاصة الكتب المنزلة‏.‏

‏{‏صُحُفِ إبراهيم وموسى‏}‏ بدل من الصحف الأولى‏.‏

قال صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الأعلى أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل حرف أنزله الله على إبراهيم وموسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام»‏.‏

سورة الغاشية

مكية وهي ست وعشرون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 12‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ‏(‏1‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ‏(‏2‏)‏ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ‏(‏3‏)‏ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ‏(‏4‏)‏ تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ ‏(‏5‏)‏ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ‏(‏6‏)‏ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ‏(‏7‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ ‏(‏8‏)‏ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ‏(‏9‏)‏ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ‏(‏10‏)‏ لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ‏(‏11‏)‏ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية‏}‏ الداهية التي تغشى الناس بشدائدها يعني يوم القيامة، أو النار من قوله تعالى ‏{‏وتغشى وُجُوهَهُمْ النار‏}‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشعة‏}‏ ذليلة‏.‏

‏{‏عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ‏}‏ تعمل ما تتعب فيه كجر السلاسل وخوضها في النار خوض الإبل في الوحل، والصعود والهبوط في تلالها ووهادها ما عملت، ونصبت في أعمال لا تنفعها يومئذ‏.‏

‏{‏تصلى نَاراً‏}‏ تدخلها وقرأ أبو عمرو ويعقوب وأبو بكر «تصلى» من أصلاه الله، وقرئ «تُصَّلِّ» بالتشديد للمبالغة‏.‏ ‏{‏حَامِيَةً‏}‏ متناهية في الحر‏.‏

‏{‏تسقى مِنْ عَيْنٍ ءانِيَةٍ‏}‏ بلغت أناها في الحر‏.‏

‏{‏لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ‏}‏ يبيس الشبرق وهو شوك ترعاه الإِبل ما دام رطباً، وقيل شجرة نارية تشبه الضريع، ولعله طعام هؤلاء والزقوم والغسلين طعام غيرهم، أو المراد طعامهم ما تتحاماه الإِبل وتعافه لضره وعدم نفعه كما قال تعالى‏:‏

‏{‏لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ‏}‏ والمقصود من الطعام أحد الأمرين‏.‏

‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ‏}‏ ذات بهجة أو متنعمة‏.‏

‏{‏لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ‏}‏ رضيت بعملها لما رأت ثوابه‏.‏

‏{‏فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ‏}‏ علية المحل أو القدر‏.‏

‏{‏لاَ تُسْمِعُ‏}‏ يا مخاطب أو الوجوه، وقرأ على بناء المفعول بالياء ابن كثير وأبو عمرو ورويس وبالتاء نافع‏.‏ ‏{‏فِيهَا لاغية‏}‏ لغواً أو كلمة ذات لغو أو نفساً تلغو، فإن كلام أهل الجنة الذكر والحِكَم‏.‏ ‏{‏فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ‏}‏ يجري ماؤها ولا ينقطع والتنكير للتعظيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 21‏]‏

‏{‏فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ‏(‏13‏)‏ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ ‏(‏14‏)‏ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ‏(‏15‏)‏ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ‏(‏16‏)‏ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ‏(‏17‏)‏ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ‏(‏18‏)‏ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ‏(‏19‏)‏ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ‏(‏20‏)‏ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ‏}‏ رفيعة السمك أو القدر‏.‏

‏{‏وَأَكْوابٌ‏}‏ جمع كوب وهي آنية لا عروة لها‏.‏ ‏{‏مَّوْضُوعَةٌ‏}‏ بين أيديهم‏.‏

‏{‏وَنَمَارِقُ‏}‏ وسائد جمع نمرقة بالفتح والضم‏.‏ ‏{‏مَصْفُوفَةٌ‏}‏ بعضها إلى بعض‏.‏

‏{‏وَزَارَابيُّ‏}‏ بسط فاخرة جمع زريبة‏.‏ ‏{‏مَبْثُوثَةٌ‏}‏ مبسوطة‏.‏

‏{‏أَفَلاَ يَنظُرُونَ‏}‏ نظر اعتبار‏.‏ ‏{‏إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ‏}‏ خلقاً دالاً على كمال قدرته وحسن تدبيره حيث خلقها لجر الأثقال إلى البلاد النائية، فجعلها عظيمة باركة للمحل ناهضة بالحمل منقادة لمن اقتادها طوال الأعناق لينوء بالأوقار، ترعى كل نابت وتحتمل العطش إلى عشر فصاعداً ليتأتى لها قطع البوادي والمفاوز، مع مالها من منافع أخرى ولذلك خصت بالذكر لبيان الآيات المنبثة في الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعاً، ولأنها أعجب ما عند العرب من هذا النوع‏.‏ وقيل المراد بها السحاب على الاستعارة‏.‏

‏{‏وَإِلَى السماء كَيْفَ رُفِعَتْ‏}‏ بلا عمد‏.‏

‏{‏وَإِلَى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ‏}‏ فهي راسخة لا تميل‏.‏

‏{‏وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ‏}‏ بسطت حتى صارت مهاداً، وقرئ الأفعال الأربعة على بناء الفاعل للمتكلم وحذف الراجع المنصوب، والمعنى ‏{‏أَفَلاَ يَنظُرُونَ‏}‏ إلى أنواع المخلوقات من البسائط والمركبات ليتحققوا كمال قدرة الخالق سبحانه وتعالى، فلا ينكروا اقتداره على البعث ولذلك عقب به أمر المعاد ورتب عليه الأمر بالتذكير فقال‏:‏

‏{‏فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ‏}‏ فلا عليك إن لم ينظروا ولم يذكروا إذ ما عليك إلا البلاغ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 26‏]‏

‏{‏لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ‏(‏22‏)‏ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ‏(‏23‏)‏ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ ‏(‏24‏)‏ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ‏}‏ بمتسلط، وعن الكسائي بالسين على الأصل وحمزة بالإِشمام‏.‏

‏{‏إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ‏}‏ لكن من تولى وكفر‏.‏

‏{‏فَيْعَذّبُهُ الله العذاب الأكبر‏}‏ يعني عذاب الآخرة‏.‏ وقيل متصل فإن جهاد الكفار وقتلهم تسلط، وكأنه أوعدهم بالجهاد في الدنيا وعذاب النار في الآخرة وقيل هو استثناء من قوله ‏{‏فَذَكّرْ‏}‏ أي فذكر إلا من تولى وأصر فاستحق العذاب الأكبر، وما بينهما اعتراض ويؤيد الأول أنه قرئ ‏{‏إِلاَّ مَن تولى‏}‏ على التنبيه‏.‏

‏{‏إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ‏}‏ رجوعهم، وقرئ بالتشديد على أنه فيعلل مصدر فيعل من الإياب، أو فعال من الأوب قلبت واوه الأولى قلبها في ديوان ثم الثانية للإِدغام‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ‏}‏ في المحشر، وتقديم الخبر للتخصيص والمبالغة في الوعيد‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الغاشية حاسبه الله حساباً يسيراً»‏.‏

سورة الفجر

مكية وآيها ثلاثون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَالْفَجْرِ ‏(‏1‏)‏ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ‏(‏2‏)‏ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ‏(‏3‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ‏(‏4‏)‏ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ‏(‏6‏)‏ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ‏(‏7‏)‏ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ‏(‏8‏)‏ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏والفجر‏}‏ أقسم بالصبح أو فلقه كقوله‏:‏ ‏{‏والصبح إِذَا تَنَفَّسَ‏}‏ أو بصلاته‏.‏

‏{‏وَلَيالٍ عَشْرٍ‏}‏ عشر ذي الحجة ولذلك فسر ‏{‏الفجر‏}‏ بفجر عرفة، أو النحر أو عشر رمضان الأخير وتنكيرها للتعظيم، وقرئ «وَلَيالٍ عَشْرٍ» بالإِضافة على أن المراد بالعشر الأيام‏.‏

‏{‏والشفع والوتر‏}‏ والأشياء كلها شفعها ووترها، أو الخلق لقوله‏:‏ ‏{‏وَمِن كُلّ شَئ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ‏}‏ والخالق لأنه فرد، ومن فسرهما بالعناصر والأفلاك أو البروج والسيارات أو شفع الصلوات ووترها، أو بيومي النحر وعرفة، وقد روي مرفوعاً، أو بغيرها فلعله أفرد بالذكر من أنواع المدلول ما رآه أظهر دلالة على التوحيد، أو مدخلاً في الدين أو مناسبة لما قبلهما أو أكثر منفعة موجبة للشكر، وقرئ ‏{‏والوتر‏}‏ بكسر الواو وهما لغتان كالحبر والحبر‏.‏

‏{‏واليل إِذَا يَسْرِ‏}‏ إذا يمضي كقوله‏:‏ ‏{‏واليل إِذْ أَدْبَرَ‏}‏ والتقييد بذلك لما في التعاقب من قوة الدلالة على كمال القدرة ووفور النعمة، أو يرى فيه من قولهم صلى المقام وحذف الياء للاكتفاء بالكسرة تخفيفاً، وقد خصه نافع وأبو عمرو بالوقف لمراعاة الفواصل ولم يحذفها ابن كثير ويعقوب أصلاً، وقرئ ‏{‏يَسْرِ‏}‏ بالتنوين المبدل من حرف الاطلاق‏.‏

‏{‏هَلْ فِى ذَلِكَ‏}‏ القسم أو المقسم به ‏{‏قَسَمٌ‏}‏ حلف أو محلوف به‏.‏ ‏{‏لّذِى حِجْرٍ‏}‏ يعتبره ويؤكد به ما يريد تحقيقه، وال ‏{‏حِجْرٍ‏}‏ العقل سمي به لأنه يحجر عما لا ينبغي كما سمي عقلاً ونهية وحصاة من الإِحصاء، وهو الضبط والمقسم عليه محذوف وهو ليعذبن يدل عليه قوله‏:‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ‏}‏ يعني أولاد عاد بن عوصن بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، قوم هود سموا باسم أبيهم كما سمي بنو هاشم باسمه‏.‏

‏{‏إِرَمَ‏}‏ عطف بيان ل ‏{‏عَادٍ‏}‏ على تقدير مضاف أي سَبْطُ ‏{‏إِرَمَ‏}‏، أو أَهْلُ ‏{‏إِرَمَ‏}‏ إن صح أنه إسم بلدتهم‏.‏ وقيل سمي أوائلهم وهم ‏{‏عَاداً الأولى‏}‏ باسم جدهم ومنع صرفه للعلمية والتأنيث‏.‏ ‏{‏ذَاتِ العماد‏}‏ ذات البناء الرفيع أو القدود الطوال، أو الرفعة والثبات‏.‏ وقيل كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا وقهرا، ثم مات شديد فخلص الأمر لشداد وملك المعمورة ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنة فبنى على مثالها في بعض صحاري عدن جنة وسماها إرم، فلما تمت سار إليها بأهله، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا‏.‏ وعن عبد الله ابن قلابة أنه خرج في طلب إبله فوقع عليها‏.‏

‏{‏التى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى البلاد‏}‏ صفة أخرى ل ‏{‏إِرَمَ‏}‏ والضمير لها سواء جعلت ‏{‏إِرَمَ‏}‏ القبيلة أو البلدة‏.‏

‏{‏وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر‏}‏ قطعوه واتخذوه منازل لقوله‏:‏ ‏{‏وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً‏}‏ ‏{‏بالواد‏}‏ وادي القرى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 19‏]‏

‏{‏وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ‏(‏11‏)‏ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ‏(‏12‏)‏ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ‏(‏13‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ‏(‏14‏)‏ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ‏(‏15‏)‏ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ‏(‏16‏)‏ كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ‏(‏18‏)‏ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد‏}‏ لكثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا، أو لتعذيبه بالأوتاد‏.‏

‏{‏الذين طَغَوْاْ فِى البلاد‏}‏ صفة للمذكورين «عاد» ‏{‏وَثَمُودُ‏}‏ ‏{‏وَفِرْعَوْنَ‏}‏، أو ذم منصوب أو مرفوع‏.‏

‏{‏فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد‏}‏ بالكفر والظلم‏.‏

‏{‏فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ‏}‏ ما خلط لهم من أنواع العذاب، وأصله الخلط وإنما سمي به الجلد المضفور الذي يضرب به لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض، وقيل شبه بال ‏{‏سَوْطَ‏}‏ ما أحل بهم في الدنيا إشعاراً بأنه القياس إلى ما أعد لهم في الآخرة من العذاب كالسوط إذا قيس إلى السيف‏.‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد‏}‏ إلى المكان الذي يترقب فيه الرصد، مفعال من رصده كالميقات من وقته، وهو تمثيل لإرصاده العصاة بالعقاب‏.‏

‏{‏فَأَمَّا الإنسان‏}‏ متصل بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد‏}‏ كأنه قيل إنه ‏{‏لبالمرصاد‏}‏ من الآخرة فلا يريد إلا السعي لها فأما الإنسان فلا يهمه إلا الدنيا ولذاتها‏.‏ ‏{‏إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ‏}‏ اختبره بالغنى واليسر‏.‏ ‏{‏فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ‏}‏ بالجاه والمال‏.‏ ‏{‏فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ‏}‏ فضلني بما أعطاني، وهو خبر المبتدأ الذي هو ‏{‏الإنسان‏}‏، والفاء لما في «أما» من معنى الشرط، والظرف المتوسط في تقدير التأخير كأنه قيل‏:‏ فأما الإنسان فقائل ربي أكرمني وقت ابتلائه بالإِنعام، وكذا قوله‏:‏

‏{‏وَأَمَّا إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ‏}‏ إذ التقدير وأما الإنسان إذا ما ابتلاه أي بالفقر والتقتير ليوازن قسيمه‏.‏ ‏{‏فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ‏}‏ لقصور نظره وسوء فقره، فإن التقتير قد يؤدي إلى كرامة الدارين، والتوسعة قد تفضي إلى قصد الأعداء والانهماك في حب الدنيا ولذلك ذمه على قوليه سبحانه وتعالى وردعه عنه بقوله‏:‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏ مع أن قوله الأول مطابق لأكرمه ولم يقل فأهانه وقدر عليه كما قال‏:‏ ‏{‏فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ‏}‏ لأن التوسعة تفضل والإخلال به لا يكون إهانة، وقرأ ابن عامر والكوفيون «أكرمن» و«أهانن» بغير ياء في الوصل والوقف‏.‏ وعن أبي عمرو مثله ووافقهم نافع في الوقف وقرأ ابن عامر«فَقَّدَّرَ» بالتشديد‏.‏

‏{‏بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلاَ تَحَاضُّونَ على طَعَامِ المسكين‏}‏ أي بل فعلهم أسوأ من قولهم وأدل على تهالكهم بالمال وهو أنهم لا يكرمون اليتيم بالنفقة والمبرة، ولا يحثون أهلهم على طعام المسكين فضلاً عن غيرهم، وقرأ الكوفيون «ولا تحاضون»‏.‏

‏{‏وَتَأْكُلُونَ التراث‏}‏ الميراث وأصله وراث‏.‏ ‏{‏أَكْلاً لَّمّاً‏}‏ ذا لم أي جمع بين الحلال والحرام فإنهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان ويأكلون أنصباءهم، أو يأكلون ما جمعه المورث من حلال وحرام عالمين بذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 30‏]‏

‏{‏وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ‏(‏20‏)‏ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ‏(‏21‏)‏ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ‏(‏22‏)‏ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ‏(‏23‏)‏ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ‏(‏24‏)‏ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ‏(‏25‏)‏ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ‏(‏26‏)‏ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ‏(‏27‏)‏ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ‏(‏28‏)‏ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ‏(‏29‏)‏ وَادْخُلِي جَنَّتِي ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً‏}‏ كثيراً مع حرص وشره، وقرأ أبو عمرو وسهل ويعقوب «لا يكرمون» إلى «ويحبون» بالياء والباقون بالتاء‏.‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم وما بعده وعيد عليه‏.‏ ‏{‏إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً‏}‏ أي دكا بعد دك حتى صارت منخفضة الجبال والتلال، أو ‏{‏هَبَاء مُّنبَثّاً‏}‏ ‏{‏وَجَاء رَبُّكَ‏}‏ أي ظهرت آيات قدرته وآثار قهره مثل ذلك بما يظهر عند حضور السلطان من آثار هيبته وسياسته‏.‏ ‏{‏والملك صَفّاً صَفّاً‏}‏ بحسب منازلهم ومراتبهم‏.‏

‏{‏وَجِئ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبُرّزَتِ الجحيم‏}‏ وفي الحديث ‏"‏ يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ‏"‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ بدل من إذا دكت الأرض والعامل فيهما‏.‏ ‏{‏يَتَذَكَّرُ الإنسان‏}‏ أي يتذكر معاصيه أو يتعظ لأنه يعلم قبحها فيندم عليها‏.‏ ‏{‏وأنى لَهُ الذكرى‏}‏ أي منفعة الذكرى لئلا يناقض ما قبله، واستدل به على عدم وجوب قبول التوبة، فإن هذا التذكر توبة غير مقبولة‏.‏

‏{‏يَقُولُ ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى‏}‏ أي لحياتي هذه، أو وقت حياتي في الدنيا أعمالاً صالحة، وليس في هذا التمني دلالة على استقلال العبد بفعله فإن المحجور عن شيء قد يتمنى أن كان ممكناً منه‏.‏

‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ‏}‏ الهاء لله أي لا يتولى عذاب الله ووثاقه يوم القيامة سواه إذ الأمر كله له، أو للإنسان أي لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه، وقرأهما الكسائي ويعقوب على بناء المفعول‏.‏

‏{‏ياأيتها النفس المطمئنة‏}‏ على إرادة القول وهي التي اطمأنت بذكر الله، فإن النفس تترقى في سلسلة الأسباب والمسببات إلى الواجب لذاته فتستفز دون معرفته وتستغني به عن غيره، أو إلى الحق بحيث لا يريبها شك أو الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن، وقد قرئ بهما‏.‏

‏{‏ارجعى إلى رَبّكِ‏}‏ إلى أمره أو موعده بالموت، ويشعر ذلك بقول من قال‏:‏ كانت النفوس قبل الأبدان موجودة في عالم القدس أو البعث، ‏{‏رَّاضِيَةً‏}‏ بما أوتيت‏.‏ ‏{‏مَّرْضِيَّةً‏}‏ عند الله تعالى‏.‏

‏{‏فادخلى فِى عِبَادِى‏}‏ في جملة عبادي الصالحين‏.‏

‏{‏وادخلى جَنَّتِى‏}‏ معهم أو في زمرة المقربين فتستضيء بنورهم، فإن الجواهر القدسية كالمرايا المتقابلة، أو ادخلي في أجساد عبادي التي فارقت عنها، وادخلي دار ثوابي التي أعدت لك‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ سورة الفجر في الليالي العشر غفر له، ومن قرأها في سائر الأيام كانت له نوراً يوم القيامة ‏"‏‏.‏

سورة البلد

مكية وآيها عشرون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ‏(‏1‏)‏ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ‏(‏2‏)‏ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ‏(‏3‏)‏ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ‏(‏4‏)‏ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ‏(‏5‏)‏ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا ‏(‏6‏)‏ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ‏(‏7‏)‏ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ‏(‏8‏)‏ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد‏}‏ أقسم سبحانه بالبلد الحرام وقيده بحلول الرسول عليه الصلاة والسلام فيه إظهاراً لمزيد فضله، وإشعاراً بأن شرف المكان بشرف أهله‏.‏ وقيل ‏{‏حِلٌّ‏}‏ مستحل تعرضك فيه كما يستحل تعرض الصيد في غيره، أو حلال لك أن تفعل فيه ما تريد ساعة من النهار فهو وعد بما أحل له عام الفتح‏.‏

‏{‏وَوَالِدٍ‏}‏ عطف على ‏{‏هذا البلد‏}‏ والوالد آدم أو إبراهيم عليهما الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏وَمَا وَلَدَ‏}‏ ذريته أو محمد عليه الصلاة والسلام، والتنكير للتعظيم وإيثار ما على من لمعنى التعجب كما في قوله ‏{‏والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ‏}‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى كَبَدٍ‏}‏ تعب ومشقة من كبد الرجل كبداً إذا وجعت كبده ومنه المكابدة، والإِنسان لا يزال في شدائد مبدؤها ظلمة الرحم ومضيقه ومنتهاها الموت وما بعده، وهو تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام مما كان يكابده من قريش والضمير في ‏{‏أَيَحْسَبُ‏}‏ لبعضهم الذي كان يكابد من أكثر، أو يفتر بقوته كأبي الأشد بن كلدة فإنه كان يبسط تحت قدميه أديم عكاظي ويجذبه عشرة فينقطع ولا تزال قدماه، أو لكل أحد منهم أو للإنسان‏.‏ ‏{‏أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ‏}‏ فينتقم منه‏.‏

‏{‏يِقُولُ‏}‏ أي في ذلك الوقت ‏{‏أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً‏}‏ كثيراً، من تلبد الشيء إذا اجتمع، والمراد ما أنفقه سمعة ومفاخرة، أو معاداة للرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏

‏{‏أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ‏}‏ حين كان ينفق أو بعد ذلك فيسأله عنه، يعني أن الله سبحانه وتعالى يراه فيجازيه، أو يجده فيحاسبه عليه ثم بين ذلك بقوله‏:‏

‏{‏أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ‏}‏ يبصر بهما‏.‏

‏{‏وَلِسَاناً‏}‏ يترجم به عن ضميره‏.‏ ‏{‏وَشَفَتَيْنِ‏}‏ يستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب وغيرها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 20‏]‏

‏{‏وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ‏(‏10‏)‏ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ‏(‏11‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ‏(‏12‏)‏ فَكُّ رَقَبَةٍ ‏(‏13‏)‏ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ‏(‏14‏)‏ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ‏(‏15‏)‏ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ‏(‏17‏)‏ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ‏(‏18‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ‏(‏19‏)‏ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وهديناه النجدين‏}‏ طريقي الخير والشر، أو الثديين وأصله المكان المرتفع‏.‏

‏{‏فَلاَ اقتحم العقبة‏}‏ أي فلم يشكر تلك الأيادي باقتحام العقبة وهو الدخول في أمر شديد، و‏{‏العقبة‏}‏ الطريق في الجبل استعارها بما فسرها عزَّ وجلّ به من الفك والإطعام في قوله‏:‏

‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ‏}‏ لما فيهما من مجاهدة النفس ولتعدد المراد بها حسن وقوع لا موقع لم فإنها لا تكاد تقع إلا مكررة، إذ المعنى‏:‏ فَلاَ فَكَ رَقَبةً ولا أَطْعَمَ يَتيماً أو مسكيناً‏.‏ والمسغبة والمقربة والمتربة مفعلات من سغب إذا جاع وقرب في النسب وترب إذا افتقر، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «فَكُّ رَقَبَةٍ أو أطعم»على الإِبدال من ‏{‏اقتحم‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة‏}‏ اعتراض معناه إنك لم تدر كنه صعوبتها وثوابها‏.‏

‏{‏ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ‏}‏ عطفه على ‏{‏اقتحم‏}‏، أو ‏{‏فَكُّ‏}‏ ب ‏{‏ثُمَّ‏}‏ لتباعد الإيمان عن العتق والإطعام في الرتبة لاستقلاله واشتراط سائر الطاعات به‏.‏ ‏{‏وَتَوَاصَوْاْ‏}‏ وأوصى بعضهم بعضاً‏.‏ ‏{‏بالصبر‏}‏ على طاعة الله تعالى‏.‏ ‏{‏وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة‏}‏ بالرحمة على عباده، أو بموجبات رحمة الله تعالى‏.‏

‏{‏أولئك أصحاب الميمنة‏}‏ اليمين أو اليمن‏.‏

‏{‏والذين كَفَرُواْ بئاياتنا‏}‏ بما نصبناه دليلاً على الحق من كتاب وحجة أو بالقرآن‏.‏ ‏{‏هُمْ أصحاب المشئمة‏}‏ الشمال أو الشؤم، ولتكرير ذكر المؤمنين باسم الإِشارة والكفار بالضمير شأن لا يخفى‏.‏

‏{‏عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ‏}‏ مطبقة من أوصدت الباب إذا أطبقته وأغلقته‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص بالهمزة من آصدته‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ لا أقسم بهذا البلد أعطاه الله سبحانه وتعالى الأمان من غضبه يوم القيامة ‏"‏‏.‏

سورة الشمس

مكية وآيها خمس عشرة آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ‏(‏1‏)‏ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ‏(‏2‏)‏ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ‏(‏3‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ‏(‏4‏)‏ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ‏(‏5‏)‏ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ‏(‏6‏)‏ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ‏(‏7‏)‏ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏والشمس وضحاها‏}‏ وضوئها إذا أشرقت، وقيل الضحوة ارتفاع النهار والضحى فوق ذلك، والضحاء بالفتح والمد إذا امتد النهار وكاد ينتصف‏.‏

‏{‏والقمر إِذَا تلاها‏}‏ تلا طلوعه طلوع الشمس أول الشهر أو غروبها ليلة البدر، أو في الاستدارة وكمال النور‏.‏

‏{‏والنهار إِذَا جلاها‏}‏ جلى الشمس فإنها تتجلى إذا انبسط النهار أو الظلمة، أو الدنيا أو الأرض وإن لم يجر ذكرها للعلم بها‏.‏

‏{‏واليل إِذَا يغشاها‏}‏ يغشى الشمس فيغطي ضوءها أو الآفاق، أو الأرض‏.‏ ولما كانت واوات العطف نوائب للواو الأولى القسيمة الجارة بنفسها النائبة مناب فعل القسم من حيث استلزمت طرحه معها، ربطن المجرورات والظرف بالمجرور والظرف المتقدمين ربط الواو لما بعدها في قولك‏:‏ ضرب زيد عمراً وبكر خالداً على الفاعل والمفعول من غير عطف على عاملين مختلفين‏.‏

‏{‏والسماء وَمَا بناها‏}‏ ومن بناها وإنما أوثرت على من لإرادة معنى الوصفية كأنه قيل‏:‏ والشيء القادر الذي بناها ودل على وجوده وكمال قدرته بناؤها، ولذلك أفرد ذكره وكذا الكلام في قوله‏:‏

‏{‏والأرض وَمَا طحاها وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا‏}‏ وجعل الماءات مصدرية يجرد الفعل عن الفاعل ويخل بنظم قوله‏:‏

‏{‏فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏ بقوله ‏{‏وَمَا سَوَّاهَا‏}‏ إلا أن يضمر فيه اسم الله للعلم به وتنكير ‏{‏نَفْسٌ‏}‏ للتكثير كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَلِمَتْ نَفْسٌ‏}‏ أو للتعظيم والمراد نفس آدم وإلهام الفجور والتقوى إفهامهما وتعريف حالهما أو التمكين من الإِتيان بهما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 15‏]‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ‏(‏9‏)‏ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ‏(‏10‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ‏(‏11‏)‏ إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا ‏(‏12‏)‏ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ‏(‏13‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا ‏(‏14‏)‏ وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها‏}‏ أنماها بالعلم والعمل جواب القسم، وحذف اللام للطول كأنه لما أراد به الحث على تكميل النفس والمبالغة فيه أقسم عليه بما يدلهم على العلم بوجود الصانع ووجوب ذاته وكمال صفاته الذي هو أقصى درجات القوة النظرية، ويذكرهم عظائم آلائه ليحملهم على الاستغراق في شكر نعمائه الذي هو منتهى كمالات القوة العملية‏.‏ وقيل هو استطراد بذكر بعض أحوال النفس، والجواب محذوف تقديره لَيُدَمْدِمَنَّ الله، على كفار مكة لتكذيبهم رسوله صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحاً عليه الصلاة والسلام‏.‏

‏{‏وَقَدْ خَابَ مَن دساها‏}‏ نقصها وأخفاها بالجهالة والفسوق، وأصل دسى دسس كتقضي وتقضض‏.‏

‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا‏}‏ بسبب طغيانها، أو بما أوعدت به من عذابها ذي الطغوى كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأُهْلِكُواْ بالطاغية‏}‏ وأصله طغياها وإنما قلبت ياؤه واواً تفرقة بين الإسم والصفة، وقرئ بالضم كا «الرجعى»‏.‏

‏{‏إِذِ انبعث‏}‏ حين قام ظرف ل ‏{‏كَذَّبَتْ‏}‏ أو طغوى‏.‏ ‏{‏أشقاها‏}‏ أشقى ثمود وهو قدار بن سالف، أو هو ومن مالأه على قتل الناقة فإن أفعل التفضيل إذا أضفته صلح للواحد والجمع وفضل شقاوتهم لتوليهم العقر‏.‏

‏{‏فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله نَاقَةَ الله‏}‏ أي ذروا ناقة الله واحذروا عقرها‏.‏ ‏{‏وسقياها‏}‏ وسقيها فلا تذودوها عنها‏.‏ ‏{‏فَكَذَّبُوهُ‏}‏ فيما حذرهم منه من حلول العذاب إن فعلوا‏.‏ ‏{‏فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ‏}‏ فأطبق عليهم العذاب وهو من تكرير قولهم ناقة مدمومة إذا ألبسها الشحم‏.‏ ‏{‏بِذَنبِهِمْ‏}‏ بسببه‏.‏ ‏{‏فَسَوَّاهَا‏}‏ فسوى الدمدمة بينهم أو عليهم فلم يفلت منهم صغير ولا كبير، أو ثمود بالإِهلاك‏.‏

‏{‏وَلاَ يَخَافُ عقباها‏}‏ أي عاقبة الدمدمة أو عاقبة هلاك ثمود وتبعتها فيبقي بعض الإِبقاء، والواو للحال وقرأ نافع وابن عامر«فَلا» على العطف‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ سورة والشمس فكأنما تصدق بكل شيء طلعت عليه الشمس والقمر ‏"‏‏.‏

سورة الليل

مكية‏.‏ وآيها إحدى وعشرون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 12‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ‏(‏1‏)‏ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ‏(‏2‏)‏ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏3‏)‏ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ‏(‏4‏)‏ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ‏(‏5‏)‏ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ‏(‏6‏)‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ‏(‏8‏)‏ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ‏(‏9‏)‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ‏(‏10‏)‏ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ‏(‏11‏)‏ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏واليل إِذَا يغشى‏}‏ أي يغشى الشمس أو النهار أو كل ما يواريه بظلامه‏.‏

‏{‏والنهار إِذَا تجلى‏}‏ ظهر بزوال ظلمة الليل، أو تبين بطلوع الشمس‏.‏

‏{‏وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى‏}‏ والقادر الذي خلق صنفي الذكر والأنثى من كل نوع له توالد، أو آدم وحواء وقيل ‏{‏مَا‏}‏ مصدرية‏.‏

‏{‏إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى‏}‏ إن مساعيكم لأشتات مختلفة جمع شتيت‏.‏

‏{‏فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى‏}‏ تفصيل مبين لتشتت المساعي‏.‏ والمعنى من أعطى الطاعة واتقى المعصية وصدق بالكلمة الحسنى وهي ما دلت على حق ككلمة التوحيد‏.‏

‏{‏فَسَنُيَسّرُهُ لليسرى‏}‏ فسنهيئه للخلة التي تؤدي إلى يسر وراحة كدخول الجنة، من يسر الفرس إذا هيأه للركوب بالسرج واللجام‏.‏

‏{‏وَأَمَّا مَن بَخِلَ‏}‏ بما أمر به‏.‏ ‏{‏واستغنى‏}‏ بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى‏.‏

‏{‏وَكَذَّبَ بالحسنى‏}‏ وبإنكار مدلولها‏.‏

‏{‏فَسَنُيَسّرُهُ للعسرى‏}‏ للخلة المؤدية إلى العسر والشدة كدخول النار‏.‏

‏{‏وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ‏}‏ نفي أو استفهام إنكار‏.‏ ‏{‏إِذَا تردى‏}‏ هلك تفعل من الردى، أو تردى في حفرة القبر أو قعر جهنم‏.‏

‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا للهدى‏}‏ للإرشاد إلى الحق بموجب قضائنا أو بمقتضى حكمتنا، أو ‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا‏}‏ طريقة الهدى كقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 21‏]‏

‏{‏وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى ‏(‏13‏)‏ فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ‏(‏14‏)‏ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ‏(‏15‏)‏ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏16‏)‏ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ‏(‏17‏)‏ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ‏(‏18‏)‏ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ‏(‏19‏)‏ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ‏(‏20‏)‏ وَلَسَوْفَ يَرْضَى ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى‏}‏ فنعطي في الدارين ما نشاء لمن نشاء، أو ثواب الهداية للمهتدين، أو فلا يضرنا ترككم الاهتداء‏.‏

‏{‏فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى‏}‏ تتلهب‏.‏

‏{‏لاَ يصلاها‏}‏ لا يلزمها مقاسياً شدتها‏.‏ ‏{‏إِلاَّ الأشقى‏}‏ إلا الكافر فإن الفاسق وإن دخلها لا يلزمها ولذلك سماه أشقى ووصفه بقوله‏:‏

‏{‏الذى كَذَّبَ وتولى‏}‏ أي كذب الحق وأعرض عن الطاعة‏.‏

‏{‏وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى الذى‏}‏ اتقى الشرك والمعاصي فإنه لا يدخلها فضلاً عن أن يدخلها ويصلاها، ومفهوم ذلك أن من اتقى الشرك دون المعصية لا يجنبها ولا يلزم ذلك صليها فلا يخالف الحصر السابق‏.‏ ‏{‏يُؤْتِي مَالَهُ‏}‏ يصرفه في مصارف الخير لقوله‏:‏ ‏{‏يتزكى‏}‏ فإنه بدل من ‏{‏يُؤْتَي‏}‏ أو حال من فاعله‏.‏

‏{‏وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى‏}‏ فيقصد بإيتائه مجازاتها‏.‏

‏{‏إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الأعلى‏}‏ استثناء منقطع أو متصل عن محذوف مثل لا يؤتى إلا ابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة‏.‏

‏{‏وَلَسَوْفَ يرضى‏}‏ وعد بالثواب الذي يرضيه‏.‏ والآيات نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه حين اشترى بلالاً في جماعة تولاهم المشركون فأعتقهم، ولذلك قيل‏:‏ المراد بالأشقى أبو جهل أو أمية بن خلف‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والليل أعطاه الله سبحانه وتعالى حتى يرضى وعافاه من العسر ويسر له اليسر»‏.‏

سورة الضحى

مكية‏.‏ وآيها إحدى عشرة آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَالضُّحَى ‏(‏1‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ‏(‏2‏)‏ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ‏(‏3‏)‏ وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ‏(‏4‏)‏ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى ‏(‏6‏)‏ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ‏(‏7‏)‏ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ‏(‏8‏)‏ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ‏(‏9‏)‏ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ‏(‏10‏)‏ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏والضحى‏}‏ ووقت ارتفاع الشمس وتخصيصه لأن النهار يقوى فيه، أو لأن فيه كلم موسى عليه الصلاة والسلام ربه وألقى السحرة سجداً، أو النهار ويؤيده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى‏}‏ في مقابلة ‏{‏بَيَاتًا‏}‏ ‏{‏واليل إِذَا سجى‏}‏ سكن أهله أو ركد ظلامه من سجا البحر سجواً إذا سكنت أمواجه، وتقديم ‏{‏اليل‏}‏ في السورة المتقدمة باعتبار الأصل، وتقديم النهار ها هنا باعتبار الشرف‏.‏

‏{‏مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ‏}‏ ما قطعك قطع المودع، وقرئ بالتخفيف بمعنى ما تركك وهو جواب القسم‏.‏ ‏{‏وَمَا قلى‏}‏ وما أبغضك، وحذف المفعول استغناء بذكره من قبل ومراعاة للفواصل‏.‏ روي أن الوحي تأخر عنه أياماً لتركه الاستثناء كما مر في سورة «الكهف»، أو لزجره سائلاً ملحاً، أو لأن جرواً ميتاً كان تحت سريره أو لغيره فقال المشركون‏:‏ إن محمداً ودعه ربه وقلاه فنزلت رداً عليهم‏.‏

‏{‏وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى‏}‏ فإنها باقية خالصة عن الشوائب وهذه فانية مشوبة بالمضار، كأنه لما بين أنه سبحانه وتعالى لا يزال يواصله بالوحي والكرامة في الدنيا وعد له ما هو أعلى وأجل من ذلك في الآخرة، أو لنهاية أمرك خير من بدايته، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يزال يتصاعد في الرفعة والكمال‏.‏

‏{‏وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى‏}‏ وعد شامل لما أعطاه من كمال النفس وظهور الأمر وإعلاء الدين، ولما ادخر له مما لا يعرف كنهه سواء، واللام للابتلاء دخل الخبر بعد حذف المبتدأ والتقدير‏:‏ ولأنت سوف يعطيك لا للقسم فإنها لا تدخل على المضارع إلا مع النون المؤكدة، وجمعها مع سوف للدلالة على أن الإِعطاء كائن لا محالة وإن تأخر لحكمه‏.‏

‏{‏أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فاوى‏}‏ تعديد لما أنعم عليه تنبيهاً على أنه كما أحسن إليه فيما مضى يحسن إليه فيما يستقبل وأن تأخر‏.‏ و‏{‏يَجِدْكَ‏}‏ من الوجود بمعنى العلم و‏{‏يَتِيماً‏}‏ مفعولك الثاني أو المصادقة و‏{‏يَتِيماً‏}‏ حال‏.‏

‏{‏وَوَجَدَكَ ضَالاًّ‏}‏ عن علم الحكم والأحكام‏.‏ ‏{‏فهدى‏}‏ فعلمك بالوحي والإِلهام والتوفيق للنظر‏.‏ وقيل وجدك ضالاً في الطريق حين خرج بك أبو طالب إلى الشام أو حين فطمتك حليمة وجاءت بك لتردك إلى جدك، فأزال ضلالك عن عمك أو جدك‏.‏

‏{‏وَوَجَدَكَ عَائِلاً‏}‏ فقيراً ذا عيال‏.‏ ‏{‏فأغنى‏}‏ بما حصل لك من ربح التجارة‏.‏

‏{‏فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ‏}‏ فلا تغلبه على ماله لضعفه، وقرئ فلا تكهر أي فلا تعبس في وجهه‏.‏

‏{‏وَأَمَّا السائل فَلاَ تَنْهَرْ‏}‏ فلا تزجره‏.‏

‏{‏وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ‏}‏ فإن التحدث بها شكرها‏.‏ وقيل المراد بالنعمة النبوة والتحديث بها تبليغها‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ سورة والضحى جعله الله سبحانه وتعالى فيمن يرضى لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يشفع له وعشر حسنات، يكتبها الله سبحانه وتعالى بعدد كل يتيم وسائل ‏"‏‏.‏