فصل: تفسير الآية رقم (219)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏219‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏219‏)‏‏}‏

‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر‏}‏ روي أنه نزل بمكة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِن ثمرات النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا‏}‏ فأخذ المسلمون يشربونها، ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من الصحابة قالوا‏:‏ أفتنا يا رسول الله في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال، فنزلت هذه الآية فشربها قوم وتركها آخرون‏.‏ ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناساً منهم فشربوا وسكروا، فأم أحدهم فقرأ‏:‏ ‏{‏قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ فنزلت ‏{‏لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى‏}‏ فقل من يشربها، ثم دعا عتبان بن مالك سعد بن أبي وقاص في نفر فلما سكروا افتخروا وتناشدوا، فأنشد سعد شعراً فيه هجاء الأنصار، فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت ‏{‏إِنَّمَا الخمر والميسر‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ‏}‏ فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ انتهينا يا رب‏.‏ والخمر في الأصل مصدر خمره إذا ستره، سمي بها عصير العنب والتمر إذا اشتد وغلا كأنه يخمر العقل، كما سمي سكراً لأنه يسكره أي يحجزه، وهي حرام مطلقاً وكذا كل ما أسكر عند أكثر العلماء‏.‏ وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى‏:‏ نقيع الزبيب والتمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم اشتد حل شربه ما دون السكر‏.‏ ‏{‏والميسر‏}‏ أيضاً مصدر كالموعد، سمي به القمار لأنه أخذ مال الغير بيسر أو سلب يساره، والمعنى يسألونك عن تعاطيهما لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ فِيهِمَا‏}‏ أي في تعاطيهما‏.‏ ‏{‏إِثْمٌ كَبِيرٌ‏}‏ من حيث إنه يؤدي إلى الانتكاب عن المأمور، وارتكاب المحظور‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي كثير بالثاء‏.‏ ‏{‏ومنافع لِلنَّاسِ‏}‏ من كسب المال والطرب والالتذاذ ومصادقة الفتيان، وفي الخمر خصوصاً تشجيع الجبان وتوفير المروءة وتقوية الطبيعة‏.‏ ‏{‏وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا‏}‏ أي المفاسد التي تنشأ منهما أعظم من المنافع المتوقعة منهما‏.‏ ولهذا قيل إنها المحرمة للخمر لأن المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل، والأظهر أنه ليس كذلك لما مر من إبطال مذهب المعتزلة‏.‏ ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ‏}‏ قيل سائله أيضاً عمرو بن الجموح سأل أولاً عن المنفق والمصرف، ثم سأل عن كيفية الإِنفاق‏.‏ ‏{‏قُلِ العفو‏}‏ العفو نقيض الجهد ومنه يقال للأرض السهلة، وهو أن ينفق ما تيسر له بذله ولا يبلغ منه الجهد‏.‏ قال‏:‏

خُذِي العَفْوَ مِنِّي تَسْتَديمي مَوَدَّتي *** وَلاَ تَنْطقِي فِي سَوْرَتي حِيْنَ اغْضَبُ

وروي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغانم فقال‏:‏ خذها مني صدقة، فأعرض عليه الصلاة والسلام عنه حتى كرر عليه مراراً فقال‏:‏ هاتها مغضباً فأخذها فحذفها حذفاً لو أصابه لشجه ثم قال‏:‏ «يأتي أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى» وقرأ أبو عمرو برفع ‏{‏العفو‏}‏‏.‏ ‏{‏كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات‏}‏ أي مثل ما بين أن العفو أصلح من الجهد، أو ما ذكر من الأحكام، والكاف في موضع النصب صفة لمصدر محذوف أي تبييناً مثل هذا التبيين، وإنما وحد العلامة والمخاطب به جمع على تأويل القبيل والجمع، ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ‏}‏ في الدلائل والأحكام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏220‏]‏

‏{‏فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏220‏)‏‏}‏

‏{‏فِي الدنيا والاخرة‏}‏ في أمور الدارين فتأخذوا بالأصلح والأنفع فيهما، وتجتنبون عما يضركم ولا ينفعكم، أو يضركم أكثر مما ينفعكم‏.‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى‏}‏ لما نزلت ‏{‏إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً‏}‏ الآية اعتزلوا اليتامى ومخالطتهم والاهتمام بأمرهم فشق ذلك عليهم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت ‏{‏قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ‏}‏ أي مداخلتهم لإِصلاحهم، أو إصلاح أموالهم خير من مجانبتهم‏.‏ ‏{‏وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم‏}‏ حث على المخالطة، أي أنهم إخوانكم في الدين ومن حق الأخ أن يخالط الأخ‏.‏ وقيل المراد بالمخالطة المصاهرة‏.‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح‏}‏ وعيد ووعد لمن خالطهم لإِفساد وإصلاح، أي يعلم أمره فيجازيه عليه‏.‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء الله لأَعْنَتَكُمْ‏}‏ أي ولو شاء الله إعناتكم لأعنتكم، أي كلفكم ما يشق عليكم، من العنت وهي المشقة ولم يجوز لكم مداخلتكم‏.‏ ‏{‏أَنَّ الله عَزِيزٌ‏}‏ غالب يقدر على الاعنات‏.‏ ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ يحكم ما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏221‏]‏

‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏221‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ‏}‏ أي ولا تتزوجوهن‏.‏ وقرئ بالضم أي ولا تزوجوهن من المسلمين، والمشركات تعم الكتابيات لأن أهل الكتاب مشركون لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ولكنها خصت عنها بقوله‏:‏ ‏{‏والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب‏}‏ روي ‏(‏أنه عليه الصلاة والسلام بعث مرثداً الغنوي إلى مكة ليخرج منها أناساً من المسلمين، فأتته عناق وكان يهواها في الجاهلية فقالت‏:‏ ألا تخلو‏.‏ فقال‏:‏ إن الإسلام حال بيننا فقالت‏:‏ هل لك أن تتزوج بي فقال نعم ولكن استأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمره‏)‏ فنزلت ‏{‏وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ‏}‏ أي وَلامْرأة مؤمنة حرة كانت أو مملوكة، فإن الناس كلهم عبيد الله وإماؤه‏.‏ ‏{‏وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ‏}‏ بحسنها وشمائلها، والواو للحال ولو بمعنى إن وهو كثير‏.‏ ‏{‏وَلاَ تُنكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ‏}‏ ولا تزوجوا منهم المؤمنات حتى يؤمنوا، وهو على عمومه‏.‏ ‏{‏وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ‏}‏ تعليل للنهي عن مواصلتهم، وترغيب في مواصلة المؤمنين‏.‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى المذكورين من المشركين والمشركات‏.‏ ‏{‏يَدْعُونَ إِلَى النار‏}‏ أي الكفر المؤدي إلى النار فلا يليق موالاتهم ومصاهرتهم‏.‏ ‏{‏والله‏}‏ أي وأولياؤه، يعني المؤمنين حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه تفخيماً لشأنهم‏.‏ ‏{‏يَدْعُو إلى الجنة والمغفرة‏}‏ أي إلى الاعتقاد والعمل الموصلين إليهما فهم الأحقاء بالمواصلة‏.‏ ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏ أي بتوفيق الله تعالى وتيسيره، أو بقضائه وإرادته‏.‏ ‏{‏وَيُبَيِنُ آياته لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏ لكي يتذكروا، أو ليكونوا بحيث يرجى منهم التذكر لما ركز في العقول من ميل الخير ومخالفة الهوى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏222‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ‏(‏222‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض‏}‏ روي ‏(‏أن أهل الجاهلية كانوا لا يساكنون الحَيِّضَ ولا يؤاكلونها، كفعل اليهود والمجوس، واستمر ذلك إلى أن سأل أبو الدحداح في نفر من الصحابة عن ذلك فنزلت‏)‏‏.‏ والمحيض مصدر كالمجيء والمبيت، ولعله سبحانه وتعالى إنما ذكر يسألونك بغير واو ثلاثاً ثم بها ثلاثاً، لأن السؤالات الأول كانت في أوقات متفرقة والثلاثة الأخيرة كانت في وقت واحد فلذلك ذكرها بحرف الجمع‏.‏ ‏{‏قُلْ هُوَ أَذًى‏}‏ أي الحيض شيء مستقذر مؤذ من يقربه نفرة منه‏.‏ ‏{‏فاعتزلوا النساء فِي المحيض‏}‏ فاجتنبوا مجامعتهن لقوله عليه الصلاة والسلام «إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم»‏.‏ وهو الاقتصاد بين إفراط اليهود، وتفريط النصارى فإنهم كانوا يجامعوهن ولا يبالون بالحيض‏.‏ وإنما وصفه بأنه أذى ورتب الحكم عليه بالفاء إشعاراً بأنه العلة‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ‏}‏ تأكيد للحكم وبيان لغايته، وهو أن يغتسلن بعد الانقطاع ويدل عليه صريحاً قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية ابن عباس ‏{‏يَطْهُرْنَ‏}‏ أي يتطهرن بمعنى يغتسلن والتزاماً لقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ‏}‏ فإنه يقتضي تأخير جواز الإتيان عن الغسل‏.‏ وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إذا طهرت لأكثر الحيض جاز قربانها قبل الغسل‏.‏ ‏{‏مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله‏}‏ أي المأتي الذي أمركم الله به وحلله لكم‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين‏}‏ من الذنوب‏.‏ ‏{‏وَيُحِبُّ المتطهرين‏}‏ أي المتنزهين عن الفواحش والأقذار، كمجامعة الحائض والإِتيان في غير المآتي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏223‏]‏

‏{‏نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏223‏)‏‏}‏

‏{‏نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ‏}‏ مواضع حرث لكم‏.‏ شبههن بها تشبيهاً لما يلقى في أرحامهن من النطف بالبذور ‏{‏فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ‏}‏ أي فائتوهن كما تأتون المحارث، وهو كالبيان لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله‏}‏ ‏{‏أنى شِئْتُمْ‏}‏ من أي جهة شئتم، روي ‏(‏أن اليهود كانوا يقولون‏:‏ من جامع امرأته من دبرها في قبلها كان ولدها أحول، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت‏)‏‏.‏ ‏{‏وَقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ‏}‏ ما يدخر لكم من الثواب‏.‏ وقيل هو طلب الولد‏.‏ وقيل التسمية عند الوطء‏.‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ بالاجتناب عن معاصيه‏.‏ ‏{‏واعلموا أَنَّكُم ملاقوه‏}‏ فتزودوا ما لا تفتضحون به‏.‏ ‏{‏وَبَشّرِ المؤمنين‏}‏ الكاملين في الإِيمان بالكرامة والنعيم الدائم‏.‏ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينصحهم ويبشر من صدقه وامتثل أمره منهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏224‏]‏

‏{‏وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏224‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس‏}‏ نزلت في الصديق رضي الله تعالى عنه لما حلف أن لا ينفق على مسطح لافترائه على عائشة رضي الله تعالى عنها، أو في عبد الله بن رواحة حلف أن لا يكلم ختنه بشير بن النعمان ولا يصلح بينه وبين أخته‏.‏ والعرضة فعلة بمعنى المفعول كالقبضة تطلق لما يعرض دون الشيء وللمعرض للأمر، ومعنى الآية على الأول ولا تجعلوا الله حاجزاً لما حلفتم عليه من أنواع الخير، فيكون المراد بالإِيمان الأمور المحلوف عليها، كقوله عليه الصلاة والسلام لابن سمرة «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك»‏.‏ وأن مع صلتها عطف بيان لها، واللام صلة عرضة لما فيها من معنى الاعتراض، ويجوز أن تكون للتعليل ويتعلق أن بالفعل أو بعرضة أي ولا تجعلوا الله عرضة لأن تبروا لأجل أيمانكم به، وعلى الثاني ولا تجعلوه معرضاً لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به، ولذلك ذم الحلاف بقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ‏}‏ و‏{‏أَن تَبَرُّواْ‏}‏ علة للنهي أي أنهاكم عنه إرادة بركم وتقواكم وإصلاحكم بين الناس، فإن الحلاَّفَ مجترئ على الله تعالى، والمجترئ عليه لا يكون براً متقياً ولا موثوقاً به إصلاح ذات البين ‏{‏والله سَمِيعٌ‏}‏ لأيمانكم‏.‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بنياتكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏225‏]‏

‏{‏لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏225‏)‏‏}‏

‏{‏لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِي أيمانكم‏}‏ اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام غيره، ولغو اليمين مالا عقد معه كما سبق به اللسان، أو تكلم به جاهلاً لمعناه كقول العرب‏:‏ لا والله وبلى والله، لمجرد التأكيد لقوله‏:‏ ‏{‏ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏ والمعنى لا يؤاخذكم الله بعقوبة ولا كفارة بما لا قصد معه، ولكن يؤاخذكم بهما أو بأحدهما بما قصدتم من الأيمان وواطأت فيها قلوبكم ألسنتكم‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ اللغو أن يحلف الرجل بناء على ظنه الكاذب، والمعنى لا يعاقبكم بما أخطأتم فيه من الأيمان، ولكن يعاقبكم بما تعمدتم الكذب فيه‏.‏ ‏{‏والله غَفُورٌ‏}‏ حيث لم يؤاخذ باللغو ‏{‏حَلِيمٌ‏}‏ حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجد تربصاً للتوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏226‏]‏

‏{‏لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏226‏)‏‏}‏

‏{‏لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ‏}‏ أي يحلفون على أن لا يجامعوهن‏.‏ والإِيلاء‏:‏ الحلف، وتعديته بعلى ولكن لما ضمن هذا القسم معنى البعد عدي بمن‏.‏ ‏{‏تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ‏}‏ مبتدأ وما قبله خبره، أو فاعل الظرف على خلاف سبق، والتربص الانتظار والتوقف أضيف إلى الظرف على الاتساع، أي للمولى حق التلبث في هذه المدة فلا يطالب بفيء، ولا طلاق، ولذلك قال الشافعي‏:‏ لا إيلاء إلا في أكثر من أربعة أشهر ويؤيده ‏{‏فَإِنْ فَاؤُوا‏}‏ رجعوا في اليمين بالحنث، ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ للمولى إثم حنثه إذا كفر، أو ما توخى بالإِيلاء من ضرار المرأة ونحوه، بالفيئة التي هي كالتوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏227‏]‏

‏{‏وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏227‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق‏}‏ وإن صمموا قصده ‏{‏فَإِنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ لطلاقهم‏.‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بغرضهم فيه، وقال أبو حنيفة‏:‏ الإِيلاء في أربعة أشهر فما فوقها، وحكمه أن المولى إن فاء في المدة بالوطء إن قدر، وبالوعد إن عجز، صح الفيء ولزم الواطئ أن يكفر وإلا بانت بعدها بطلقة‏.‏ وعندنا يطالب بعد المدة بأحد الأمرين فإن أبى عنهما طلق عليه الحاكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏228‏]‏

‏{‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏228‏)‏‏}‏

‏{‏والمطلقات‏}‏ يريد بها المدخول بهن من ذوات الإِقراء لما دلت عليه الآيات والأخبار أن حكم غيرهن خلاف ما ذكر‏.‏ ‏{‏يَتَرَبَّصْنَ‏}‏ خبر بمعنى الأمر، وتغيير العبارة للتأكيد والإِشعار بأنه مما يجب أن يسار إلى امتثاله، وكأن المخاطب قصد أن يمتثل الأمر فيخبر عنه كقولك في الدعاء‏:‏ رحمك الله، وبناؤه على المبتدأ يزيده فضل تأكيد‏.‏ ‏{‏بِأَنفُسِهِنَّ‏}‏ تهييج وبعث لهن على التربص، فإن نفوس النساء طوامح إلى الرجال، فأمرن بأن يقمعنها ويحملنها على التربص‏.‏ ‏{‏ثلاثة قُرُوء‏}‏ نصب على الظرف، أو المفعول به‏.‏ أي يتربصن مضيها‏.‏ و‏{‏قُرُوء‏}‏ جمع قرء وهو يطلق للحيض، كقوله عليه الصلاة والسلام «دعي الصلاة أيام أقرائك» وللطهر الفاصل بين الحيضتين كقول الأعشى‏:‏

مُوَرِّثَةٌ مَالاً وَفِي الحَيِّ رفْعَةٌ *** لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا

وأصله الانتقال من الطهر إلى الحيض، وهو المراد به في الآية لأنه الدال على براءة الرحم لا الحيض، كما قاله الحنفية لقوله تعالى؛ ‏{‏فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ أي وقت عدتهن‏.‏ والطلاق المشروع لا يكون في الحيض، وأما قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان» فلا يقاوم ما رواه الشيخان في قصة ابن عمر «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء»‏.‏ وكان القياس أن يذكر بصيغة القلة التي هي الأقراء، ولكنهم يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من البناءين مكان الآخر، ولعل الحكم لما عم المطلقات ذوات الأقراء تضمن معنى الكثرة فحسن بناؤها‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِي أَرْحَامِهِنَّ‏}‏ من الولد، أو الحيض استعجالاً في العدة وإبطالاً لحق الرجعة، بل التنبيه على أنه ينافي الإِيمان، وأن المؤمن لا يجترئ عليه ولا ينبغي له أن يفعل‏.‏ ‏{‏وَبُعُولَتُهُنَّ‏}‏ أي أزواج المطلقات‏.‏ ‏{‏أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ‏}‏ إلى النكاح والرجعة إليهن، ولكن إذا كان الطلاق رجعياً للآية التي تتلوها فالضمير أخص من المرجوع إليه ولا امتناع فيه، كما لو كرر الظاهر وخصصه‏.‏ والبعولة جمع بعل والتاء لتأنيث الجمع كالعمومة والخؤلة، أو مصدر من قولك بعل حسن البعولة نعت به، أو أقيم مقام المضاف المحذوف أي وأهل بعولتهن، وأفعل ههنا بمعنى الفاعل‏.‏ ‏{‏فِي ذلك‏}‏ أي في زمان التربص‏.‏ ‏{‏إِنْ أَرَادُواْ إصلاحا‏}‏ بالرجعة لا لإضرار المرأة، وليس المراد منه شرطية قصد الإِصلاح للرجعة بل التحريض عليه والمنع من قصد الضرار‏.‏ ‏{‏وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف‏}‏ أي ولهن حقوق على الرجال مثل حقوقهم عليهن في الوجوب واستحقاق المطالبة عليها، لا في الجنس‏.‏ ‏{‏وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ‏}‏ زيادة في الحق وفضل فيه، لأن حقوقهم في أنفسهم وحقوقهن المهر والكفاف وترك الضرار ونحوها، أو شرف وفضيلة لأنهم قوام عليهن وحراص لهن يشاركوهن في غرض الزواج ويخصون بفضيلة الرعاية والإِنفاق ‏{‏والله عَزِيزٌ‏}‏ يقدر على الانتقام ممن خالف الأحكام‏.‏ ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ يشرعها لحكم ومصالح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏229‏]‏

‏{‏الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏229‏)‏‏}‏

‏{‏الطلاق مَرَّتَانِ‏}‏ أي التطليق الرجعي اثنان لما روي ‏(‏أنه صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أين الثالثة‏؟‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان‏}‏‏)‏‏.‏ وقيل؛ معناه التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق، ولذلك قالت الحنفية الجمع بين الطلقتين والثلاث بدعة‏.‏ ‏{‏فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ بالمراجعة وحسن المعاشرة، وهو يؤيد المعنى الأول‏.‏ ‏{‏أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان‏}‏ بالطلقة الثالثة، أو بأن لا يراجعها حتى تبين، وعلى المعنى الأخير حكم مبتدأ وتخيير مطلق عقب به تعليمهم كيفية التطليق‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا‏}‏ أي من الصدقات‏.‏ روي ‏(‏أن جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، كانت تبغض زوجها ثابت بن قيس، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسي ورأسه شيء، والله ما أعيبه في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإِسلام، وما أطيقه بغضاً إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في جماعة من الرجال، فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاً‏.‏ فنزلت فاختلعت منه بحديقة كان أصدقها إياها‏.‏ والخطاب مع الحكام وإسناد الأخذ والإِيتاء إليهم لأنهم الآمرون بهما عند الترافع‏.‏ وقيل إنه خطاب للأزواج وما بعده خطاب للحكام وهو يشوش النظم على القراءة المشهورة‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَخَافَا‏}‏ أي الزوجان‏.‏ وقرئ ‏{‏يظنا‏}‏ وهو يؤيد تفسير الخوف بالظن‏.‏ ‏{‏أَن لا يُقِيمَا حُدُودَ الله‏}‏ بترك إقامة أحكامه من مواجب الزوجية‏.‏ وقرأ حمزة ويعقوب ‏{‏يَخَافَا‏}‏ على البناء للمفعول وإبدال أن بصلته من الضمير بدل الاشتمال‏.‏ وقرئ «تخافا» و«تقيما» بتاء الخطاب‏.‏ ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ‏}‏ أيها الحكام‏.‏ ‏{‏أَن لا يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ‏}‏ على الرجل في أخذ ما افتدت به نفسها واختلعت، وعلى المرأة في إعطائه‏.‏ ‏{‏تِلْكَ حُدُودُ الله‏}‏ إشارة إلى ما حد من الأحكام‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَعْتَدُوهَا‏}‏ فلا تتعدوها بالمخالفة‏.‏ ‏{‏وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون‏}‏ تعقيب للنهي بالوعيد مبالغة في التهديد، واعلم أن ظاهر الآية يدل على أن الخلع لا يجوز من غير كراهة وشقاق، ولا بجميع ما ساق الزوج إليها فضلاً عن الزائد، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أيما امرأة سألت زوجها طلاقاً من غير بأس، فحرام عليها رائحة الجنة ‏"‏ وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لجميلة‏:‏ ‏"‏ أتردين عليه حديقته‏؟‏ فقالت‏:‏ أردها وأزيد عليها، فقال عليه الصلاة والسلام أما الزائد فلا ‏"‏ والجمهور استكرهوه ولكن نفذوه فإن المنع عن العقد لا يدل على فساده، وأنه يصح بلفظ المفاداة، فإنه تعالى سماه افتداء‏.‏ واختلف في أنه إذا جرى بغير لفظ الطلاق هل هو فسخ أو طلاق، ومن جعله فسخاً احتج بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏230‏]‏

‏{‏فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏230‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا‏}‏ فإن تعقيبه للخلع بعد ذكر الطلقتين يقتضي أن يكون طلقة رابعة لو كان الخلع طلاقاً‏.‏ والأظهر أنه طلاق لأنه فرقة باختيار الزوج فهو كالطلاق بالعوض، وقوله فإن طلقها متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏الطلاق مَرَّتَانِ‏}‏ أو تفسير لقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان‏}‏ اعترض بينهما ذكر الخلع دلالة على أن الطلاق يقع مجاناً تارة وبعوض أخرى، والمعنى فإن طلقها بعد الثنتين‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ‏}‏ من بعد ذلك الطلاق‏.‏ ‏{‏حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏}‏ حتى تتزوج غيره، والنكاح يستند إلى كل منهما كالتزوج، وتعلق بظاهره من اقتصر على العقد كابن المسيب واتفق الجمهور على أنه لا بد من الإصابة لما روي‏:‏ أن امرأة رفاعة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن رفاعة طلقني فبت طلاقي، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني وإن ما معه مثل هدبة الثوب‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، قال‏:‏ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» فالآية مطلقة قيدتها السنة، ويحتمل أن يفسر النكاح بالإصابة، ويكون العقد مستفاداً من لفظ الزوج‏.‏ والحكمة في هذا الحكم الردع عن التسرع إلى الطلاق والعود إلى المطلقة ثلاثاً والرغبة فيها، والنكاح بشرط التحليل فاسد عند الأكثر‏.‏ وجوزه أبو حنيفة مع الكراهة، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له‏.‏ ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا‏}‏ الزوج الثاني ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا‏}‏ أن يرجع كل من المرأة والزوج الأول إلى الآخر بالزواج، ‏{‏إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله‏}‏ إن كان في ظنهما أنهما يقيمان ما حدده الله وشرعه من حقوق الزوجية، وتفسير الظن بالعلم ههنا غير سديد لأن عواقب الأمور غيب تظن ولا تعلم، ولأنه لا يقال علمت أن يقوم زيد لأن أن الناصبة للتوقع وهو ينافي العلم‏.‏ ‏{‏وَتِلْكَ حُدُودُ الله‏}‏ أي الأحكام المذكورة‏.‏ ‏{‏يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ يفهمون ويعلمون بمقتضى العلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏231‏]‏

‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏231‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ‏}‏ أي آخر عدتهن، والأجل يطلق للمدة ولمنتهاها فيقال لعمر الإِنسان وللموت الذي به ينتهي قال‏:‏

كُلّ حَيٍّ مُسْتَكْمِلٌ مُدَّةَ العُمُرِ وَمَوت *** إِذَا اْنَتَهَى أَجَلُه

والبلوغ هو الوصول إلى الشيء، وقد يقال للدنو منه على الاتساع، وهو المراد في الآية ليصح أو يرتب عليه‏.‏ ‏{‏فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ إذ لا إمساك بعد انقضاء الأجل، والمعنى فراجعوهن من غير ضرار، أو خلوهن حتى تنقضي عدتهن من غير تطويل، وهو إعادة للحكم في بعض صوره للاهتمام به‏.‏ ‏{‏وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا‏}‏ ولا تراجعوهن إرادة الإضرار بهن، كأن المطلق يترك المعتدة حتى تشارف الأجل ثم يراجعها لتطول العدة عليها، فنهي عنه بعد الأمر بضده مبالغة‏.‏ ونصب ضراراً على العلة أو الحال بمعنى مضارين‏.‏ ‏{‏لّتَعْتَدُواْ‏}‏ لتظلموهن بالتطويل أو الإِلجاء إلى الإِفتداء، واللام متعلقة بضرارًا إذ المراد تقييده‏.‏ ‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ‏}‏ بتعريضها للعقاب‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هُزُوًا‏}‏ بالإِعراض عنها والتهاون في العمل بما فيها من قولهم لمن لم يجد في الأمر إنما أنت هازئ، كأنه نهي عن الهزؤ وأراد به الأمر بضده‏.‏ وقيل؛ ‏(‏كان الرجل يتزوج ويطلق ويعتق ويقول‏:‏ كنت ألعب‏)‏ فنزلت‏.‏ وعنه عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد، الطلاق والنكاح والعتاق» ‏{‏واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ التي من جملتها الهداية، وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم بالشكر والقيام بحقوقها‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الكتاب والحكمة‏}‏ القرآن والسنة أفردهما بالذكر إظهاراً لشرفهما‏.‏ ‏{‏يَعِظُكُمْ بِهِ‏}‏ بما أنزل عليكم‏.‏ ‏{‏واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ تأكيد وتهديد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏232‏]‏

‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏232‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ‏}‏ أي انقضت عدتهن، وعن الشافعي رحمه الله تعالى دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أزواجهن‏}‏ المخاطب به الأولياء لما روي ‏(‏أنها نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته جميلاء أن ترجع إلى زوجها الأول بالاستئناف‏)‏ فيكون دليلاً على أن المرأة لا تزوج نفسها، إذ لو تمكنت منه لم يكن لعضل الولي معنى، ولا يعارض بإسناد النكاح إليهن لأنه بسبب توقفه على إذنهن‏.‏ وقيل الأزواج الذين يعضلون نساءهم بعد مضي العدة ولا يتركونهن يتزوجن عدواناً وقسراً، لأنه جواب قوله ‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء‏}‏‏.‏ وقيل الأولياء والأزواج‏.‏ وقيل الناس كلهم، والمعنى‏:‏ لا يوجد فيما بينكم هذا الأمر فإنه إذا وجد بينهم وهم راضون به كانوا الفاعلين له‏.‏ والعضل الحبس والتضييق منه عضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج‏.‏ ‏{‏إِذَا تراضوا بَيْنَهُم‏}‏ أي الخطاب والنساء وهو ظرف لأنه ينكحن أو لا تعضلوهن‏.‏ ‏{‏بالمعروف‏}‏ بما يعرفه الشرع وتستحسنه المروءة، حال من الضمير المرفوع، أو صفة لمصدر محذوف، أو تراضياً كائناً بالمعروف‏.‏ وفيه دلالة على أن العضل عن التزوج من غير كفؤ غير منهي عنه‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما مضى ذكره، والخطاب للجميع على تأويل القبيل، أو كل واحد، أو أن الكاف لمجرد الخطاب‏.‏ والفرق بين الحاضر والمنقضي دون تعيين المخاطبين، أو للرسول صلى الله عليه وسلم على طريقة قوله‏:‏ ‏{‏يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء‏}‏ للدلالة على أن حقيقة المشار إليه أمر لا يكاد يتصوره كل أحد‏.‏ ‏{‏يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر‏}‏ لأنه المتعظ به والمنتفع‏.‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ أي العمل بمقتضى ما ذكر‏.‏ ‏{‏أزكى لَكُمْ‏}‏ أنفع‏.‏ ‏{‏وَأَطْهَرُ‏}‏ من دنس الآثام‏.‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ‏}‏ ما فيه النفع والصلاح‏.‏ ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ لقصور علمكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏233‏]‏

‏{‏وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏233‏)‏‏}‏

‏{‏والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن‏}‏ أمر عبر عنه بالخبر للمبالغة ومعناه الندب، أو الوجوب فيخص بما إذا لم يرتضع الصبي إلا من أمه أو لم يوجد له ظئر، أو عجز الوالد عن الاستئجار‏.‏ والوالدات يعم المطلقات وغيرهن‏.‏ وقيل يختص بهن إذ الكلام فيهن‏.‏ ‏{‏حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ‏}‏ أكده بصفة الكمال لأنه مما يتسامح فيه‏.‏ ‏{‏لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة‏}‏ بيان للمتوجه إليه الحكم أي ذلك لمن أراد إتمام الرضاعة، أو متعلق بيرضعن فإن الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة، والأم ترضع له‏.‏ وهو دليل على أن أقصى مدة الإرضاع حولان ولا عبرة به بعدهما وأنه يجوز أن ينقص عنه‏.‏ ‏{‏وَعلَى المولود لَهُ‏}‏ أي الذي يولد له يعني الوالد، فإن الولد يولد له وينسب إليه‏.‏ وتغيير العبارة للإِشارة إلى المعنى المقتضى لوجوب الإِرضاع ومؤن المرضعة عليه‏.‏ ‏{‏رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ‏}‏ أجرة لهن، واختلف في استئجار الأم، فجوزه الشافعي، ومنعه أبو حنيفة رحمه الله تعالى ما دامت زوجة أو معتدة نكاح‏.‏ ‏{‏بالمعروف‏}‏ حسب ما يراه الحاكم ويفي به وسعه‏.‏ ‏{‏لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ تعليل لإِيجاب المؤن والتقييد بالمعروف، ودليل على أنه سبحانه وتعالى لا يكلف العبد بما لا يطيقه وذلك لا يمنع إمكانه‏.‏ ‏{‏لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ‏}‏ تفصيل له وتقرير، أي لا يكلف كل واحد منهما الآخر ما ليس في وسعه، ولا يضاره بسبب الولد‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب ‏{‏لاَ تُضَار‏}‏ بالرفع بدلاً من قوله ‏{‏لاَ تُكَلَّفُ‏}‏، وأصله على القراءتين تضارر بالكسر على البناء للفاعل أو الفتح على البناء للمفعول، وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون بمعنى تضر والباء من صلته أي لا يضر الوالدان بالولد فيفرط في تعهده ويقصر فيما ينبغي له‏.‏ وقرئ ‏{‏لاَ تُضَار‏}‏ بالسكون مع التشديد على نية الوقف وبه مع التخفيف على أنه من ضاره يضيره، وإضافة الولد إليها تارة وإليه أخرى استعطاف لهما عليه، وتنبيه على أنه حقيق بأن يتفقا على استصلاحه والإِشفاق فلا ينبغي أن يضرا به، أو أن يتضارا بسببه‏.‏ ‏{‏وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك‏}‏ عطف على قوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن، وما بينهما تعليل معترض‏.‏ والمراد بالوارث وارث الأب وهو الصبي أي مؤن المرضعة من ماله إذا مات الأب‏.‏ وقيل الباقي من الأبوين من قوله عليه الصلاة والسلام «واجعله الوارث منا» وكلا القولين يوافق مذهب الشافعي رحمه الله تعالى إذ لا نفقة عنده فيما عدا الولادة‏.‏ وقيل وارث الطفل وإليه ذهب ابن أبي ليلى‏.‏ وقيل وارثه المحرم منه، وهو مذهب أبي حنيفة‏.‏ وقيل عصابته وبه قال أبو زيد وذلك إشارة إلى ما وجب على الأب من الرزق والكسوة‏.‏

‏{‏فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ‏}‏ أي فصالاً صادراً عن التراضي منهما والتشاور بينهما قبل الحولين، والتشاور والمشاورة والمشورة والمشورة استخراج الرأي، من شُرْتْ العسل إذا استخرجته‏.‏ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا‏}‏ في ذلك وإنما اعتبر تراضيهما مراعاة لصلاح الطفل، وحذراً أن يقدم أحدهما على ما يَضُرُّ بِهِ لغرض أو غيره‏.‏ ‏{‏وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم‏}‏ أي تسترضعوا المراضع لأولادكم، يقال أرضعت المرأة الطفل واسترضعتها إياه، كقولك أنجح الله حاجتي واستنجحته إياها، فحذف المفعول الأول للاستغناء عنه‏.‏ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ‏}‏ فيه وإطلاقه يدل على أن للزوج أن يسترضع الولد ويمنع الزوجة من الإرضاع‏.‏ ‏{‏إِذَا سَلَّمْتُم‏}‏ إلى المراضع‏.‏ ‏{‏مَّاءاتيتم‏}‏ ما أردتم إيتاءه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا قُمتُم إِلى الصّّلاةِ‏}‏ وقراءة ابن كثير ‏{‏مَّا ءاتَيْتُم‏}‏، من أتى إحساناً إذا فعله‏.‏ وقرئ «أوتيتم» أي ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة‏.‏ ‏{‏بالمعروف‏}‏ صلة سلمتم، أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعاً‏.‏ وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، وليس اشتراط التسليم لجواز الاسترضاع بل لسلوك ما هو الأولى والأصلح للطفل‏.‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ مبالغة في المحافظة على ما شرع في أمر الأطفال والمراضع‏.‏ ‏{‏واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ حث وتهديد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏234- 235‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏234‏)‏ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏235‏)‏‏}‏

‏{‏والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا‏}‏ أي أزواج الذين، أو والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بعدهم، كقولهم السمن منوان بدرهم‏.‏ وقرئ ‏{‏يتَوَفَّوْنَ‏}‏ بفتح الياء أي يستوفون آجالهم، وتأنيث العشر باعتبار الليالي لأنها غرر الشهور والأيام، ولذلك لا يستعملون التذكير في مثله قط ذهاباً إلى الأيام حتى إنهم يقولون صمت عشراً ويشهد له قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً‏}‏ ثم ‏{‏إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً‏}‏ ولعل المقتضى لهذا التقدير أن الجنين في غالب الأمر يتحرك لثلاثة أشهر إن كان ذكراً، ولأربعة إن كان أنثى فاعتبر أقصى الأجلين، وزيد عليه العشر استظهاراً إذ ربما تضعف حركته في المبادي فلا يحس بها، وعموم اللفظ يقتضي تساوي المسلمة والكتابية فيه، كما قاله الشافعي والحرة والأمة كما قاله الأصم، والحامل وغيرها، لكن القياس اقتضى تنصيف المدة للأمة، والإِجماع خص الحامل منه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ‏}‏ وعن علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنها تعتد بأقصى الأجلين احتياطاً‏.‏ ‏{‏فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ‏}‏ أي انقضت عدتهن‏.‏ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ‏}‏ أيها الأئمة أو المسلمون جميعاً‏.‏ ‏{‏فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ‏}‏ من التعرض للخطاب وسائر ما حرم عليهن للعدة‏.‏ ‏{‏بالمعروف‏}‏ بالوجه الذي لا ينكره الشرع، ومفهومه أنهن لو فعلن ما ينكره فعليهم أن يكفوهن، فإن قصروا فعليهم الجناح‏.‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ فيجازيكم عليه‏.‏

‏{‏وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النساء‏}‏ التعريض والتلويح إيهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجازاً، كقول السائل جئتك لأسلم عليك، والكناية هي الدلالة على الشيء بذكر لوازمه وروادفه، كقولك الطويل النجاد للطويل، وكثير الرماد للمضياف‏.‏ والخطبة بالضم والكسر اسم الحالة، غير أن المضمومة خصت بالموعظة والمكسورة بطلب المرأة، والمراد بالنساء المعتدات للوفاة، وتعريض خطبتها أن يقول لها إنك جميلة أو نافقة ومن غرضي أن أتزوج ونحو ذلك‏.‏ ‏{‏أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ‏}‏ أو أضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه تصريحاً ولا تعريضاً‏.‏ ‏{‏عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ‏}‏ ولا تصبرون على السكوت عنهن وعن الرغبة فيهن وفيه نوع توبيخ‏.‏ ‏{‏ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً‏}‏ استدراك على محذوف دل عليه ستذكرونهن أي فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن نكاحاً أو جماعاً، عبر بالسر عن الوطء لأنه مما يسر ثم عن العقد لأنه سبب فيه‏.‏ وقيل معناه لا تواعدوهن في السر على أن المعنى بالمواعدة في السر المواعدة بما يستهجن‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا‏}‏ وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا والمستثنى منه محذوف أي‏:‏ لا تواعدوهن مواعدة إلا مواعدة معروفة، أو إلا مواعدة بقول معروف‏.‏ وقيل إنه استثناء منقطع من سراً وهو ضعيف لأدائه إلى قولك لا تواعدوهن إلا التعريض، وهو غير موعود‏.‏

وفيه دليل حرمة تصريح خطبة المعتدة وجواز تعريضها إن كانت معتدة وفاة‏.‏ واختلف في معتدة الفراق البائن والأظهر جوازه‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح‏}‏ ذكر العزم مبالغة في النهي عن العقد، أي ولا تعزموا عقد عقدة النكاح‏.‏ وقيل معناه ولا تقطعوا عقدة النكاح فإن أصل العزم القطع‏.‏ ‏{‏حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ‏}‏ حتى ينتهي ما كتب من العدة‏.‏ ‏{‏واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ‏}‏ من العزم على ما لا يجوز‏.‏ ‏{‏فاحذروه‏}‏ ولا تعزموا‏.‏ ‏{‏واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ‏}‏ لمن عزم ولم يفعل خشية من الله سبحانه وتعالى‏.‏ ‏{‏حَلِيمٌ‏}‏ لا يعاجلكم بالعقوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏236‏]‏

‏{‏لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ‏(‏236‏)‏‏}‏

‏{‏لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ‏}‏ لا تبعة من مهر‏.‏ وقيل من وزر لأنه لا بدعة في الطلاق قبل المسيس‏.‏ وقيل‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر النهي عن الطلاق فظن أن فيه حرجاً فنفى ‏{‏إِن طَلَّقْتُمُ النساء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ‏}‏ أي تجامعوهن‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي «تماسوهن» بضم التاء ومد الميم في جميع القرآن‏.‏ ‏{‏أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً‏}‏ إلا أن تفرضوا، أو حتى تفرضوا أو وتفرضوا‏.‏ والفرض تسمية المهر، وفريضة نصب على المفعول به بمعنى فعيلة بمعنى مفعول‏.‏ والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الإِسمية، ويحتمل المصدر‏.‏ والمعنى أنه لا تبعة على المطلق من مطالبة المهر إذا كانت المطلقة غير ممسوسة ولم يسم لها مهراً، إذ لو كانت ممسوسة فعلية المسمى، أو مهر المثل‏.‏ ولو كانت غير ممسوسة ولكن سمي لها فلها نصف المسمى، فمنطوق الآية ينفي الوجوب في الصورة الأولى، ومفهومها يقتضي الوجوب على الجملة في الأخيرتين‏.‏ ‏{‏وَمَتّعُوهُنَّ‏}‏ عطف على مقدر أي فطلقوهن ومتعوهن، والحكمة في إيجاب المتعة جبر إيحاش الطلاق، وتقديرها مفوض إلى رأي الحاكم ويؤيده قوله‏:‏ ‏{‏عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ‏}‏ أي على كل من الذي له سعة، والمقتر الضيق الحال ما يطيقه ويليق به، ويدل عليه قوله عليه السلام لأنصاري طلق امرأته المفوضة قبل أن يمسها ‏"‏ متعها بقلنسوتك ‏"‏ وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه‏:‏ هي درع وملحفة وخمار على حسب الحال إلا أن يقل مهر مثلها عن ذلك فلها نصف مهر المثل، ومفهوم الآية يقتضي تخصيص إيجاب المتعة للمفوضة التي لم يمسها الزوج، وألحق بها الشافعي رحمه الله تعالى في أحد قوليه الممسوسة المفوضة وغيرها قياساً، وهو مقدم على المفهوم‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص وابن ذكوان بفتح الدال ‏{‏متاعا‏}‏ تمتيعاً‏.‏ ‏{‏بالمعروف‏}‏ بالوجه الذي يستحسنه الشرع والمروءة‏.‏ ‏{‏حَقّاً‏}‏ صفة لمتاعاً، أو مصدر مؤكد أي حق ذلك حقاً‏.‏ ‏{‏عَلَى المحسنين‏}‏ الذي يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال، أو إلى المطلقات بالتمتيع وسماهم محسنين قبل الفعل للمشارفة ترغيباً وتحريضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏237‏]‏

‏{‏وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏237‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً‏}‏ لما ذكر حكم المفوضة أتبعه حكم قسيمها‏.‏ ‏{‏فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ‏}‏ أي فلهن، أو فالواجب نصف ما فرضتم لهن، وهو دليل على أن الجناح المنفي ثم تبعه المهر وأن لا متعة مع التشطير لأنه قسيمها ‏{‏إَّلا أَن يَعْفُونَ‏}‏ أي المطلقات فلا يأخذن شيئاً، والصيغة تحتمل التذكير والتأنيث، والفرق في الأول أن الواو ضمير والنون علامة الرفع والثاني لام الفعل والنون ضمير والفعل مبني ولذلك لم يؤثر فيه أن ههنا ونصب المعطوف عليه‏.‏ ‏{‏أَوْ يَعْفُوَاْ الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح‏}‏ أي الزوج المالك لعقده وحله عما يعود إليه بالتشطير فيسوق المهر إليها كاملاً، وهو مشعر بأن الطلاق قبل المسيس مخير للزوج غير مشطر بنفسه، وإليه ذهب بعض أصحابنا والحنفية‏.‏ وقيل الولي الذي يلي عقد نكاحهن وذلك إذا كانت المرأة صغيرة، وهو قول قديم للشافعي رحمه الله تعالى‏.‏ ‏{‏وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى‏}‏ يؤيد الوجه الأول وعفو الزوج على وجه التخيير ظاهر وعلى الوجه الآخر عبارة عن الزيادة على الحق، وتسميتها عفواً إما على المشالكة وإما لأنهم يسوقون المهر إلى النساء عند التزوج، فمن طلق قبل المسيس استحق استرداد النصف فإذا لم يسترده فقد عفا عنه‏.‏ وعن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول فأكمل لها الصداق وقال أنا أحق بالعفو‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ‏}‏ أي ولا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ لا يضيع تفضلكم وإحسانكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏238‏]‏

‏{‏حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ‏(‏238‏)‏‏}‏

‏{‏حافظوا عَلَى الصلوات‏}‏ بالأداء لوقتها والمداومة عليها، ولعل الأمر بها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها‏.‏ ‏{‏وَالصَّلاةِ الوُسْطَى‏}‏ أي الوسطى بينها، أو الفضلى منها خصوصاً وهي صلاة العصر لقوله عليه الصلاة والسلام يوم الأحزاب «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم ناراً» وفضلها لكثرة اشتغال الناس في وقتها، واجتماع الملائكة‏.‏ وقيل صلاة الظهر لأنها في وسط النهار وكانت أشق الصلوات عليهم فكانت أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام «أفضل العبادات أحمزها» وقيل صلاة الفجر لأنها بين صلاتي النهار والليل والواقعة في الحد المشترك بينهما ولأنها مشهودة‏.‏ وقيل المغرب لأنها المتوسطة بالعدد ووتر النهار‏.‏ وقيل العشاء لأنها بين جهريتين واقعتين طرفي الليل‏.‏ وعن عائشة رضي الله تعالى عنها‏:‏ أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ‏:‏ «والصلاة الوسطى صلاة العصر» فتكون صلاة من الأربع خصت بالذكر مع العصر لانفرادهما بالفضل‏.‏ وقرئ بالنصب على الاختصاص والمدح‏.‏ ‏{‏وَقُومُواْ لِلَّهِ‏}‏ في الصلاة‏.‏ ‏{‏قانتين‏}‏ ذاكرين له في القيام، والقنوت الذكر فيه‏.‏ وقيل خاشعين، وقال ابن المسيب المراد به القنوت في الصبح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏239‏]‏

‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ‏(‏239‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ‏}‏ من عدو أو غيره‏.‏ ‏{‏فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا‏}‏ فصلوا راجلين أو راكبين ورجالاً جمع راجل أو رجل بمعناه كقائم وقيام، وفيه دليل على وجوب الصلاة حال المسايفة وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يصلى حال المشي والمسايفة ما لم يكن الوقوف‏.‏ ‏{‏فَإِذَا أَمِنتُمْ‏}‏ وزال خوفكم‏.‏ ‏{‏فاذكروا الله‏}‏ صلوا صلاة الأمن أو اشكروه على الأمن ‏{‏كَمَا عَلَّمَكُم‏}‏ ذكراً مثل ما علمكم من الشرائع وكيفية الصلاة حالتي الخوف والأمن‏.‏ أو شكراً يوازيه وما مصدرية أو موصولة‏.‏ ‏{‏مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ‏}‏ مفعول علمكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏240‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏240‏)‏‏}‏

‏{‏والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم‏}‏ قرأها بالنصب أبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم على تقدير والذين يتوفون منكم يوصون وصية، أو ليوصوا وصية، أو كتب الله عليهم وصية، أو ألزم الذين يتوفون وصية‏.‏ ويؤيد ذلك قراءة كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعاً إلى الحول مكانه‏.‏ وقرأ الباقون بالرفع على تقدير ووصية الذين يتوفون، أو وحكمهم وصية، أو والذين يتوفون أهل وصية، أو كتب عليهم وصية، أو عليهم وصية وقرئ «متاع» بدلها‏.‏ ‏{‏متاعا إِلَى الحول‏}‏ نصب بيوصون إن أضمرت وإلا فبالوصية وبمتاع على قراءة من قرأ لأنه بمعنى التمتيع‏.‏ ‏{‏غَيْرَ إِخْرَاجٍ‏}‏ بدل منه، أو مصدر مؤكد كقولك هذا القول غير ما تقول، أو حال من أزواجهم أي غير مخرجات، والمعنى‏:‏ أنه يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل أن يحتضروا لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم حولاً بالسكنى والنفقة، وكان ذلك في أول الإِسلام ثم نسخت المدة بقوله‏:‏ ‏{‏أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا‏}‏ وهو وإن كان متقدماً في التلاوة فهو متأخر في النزول، وسقطت النفقة بتوريثها الربع أو الثمن، والسكنى لها بعد ثابتة عندنا خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله‏.‏ ‏{‏فَإِنْ خَرَجْنَ‏}‏ عن منزل الأزواج‏.‏ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ‏}‏ أيها الأئمة‏.‏ ‏{‏فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ‏}‏ كالتطيب وترك الإِحداد‏.‏ ‏{‏مِن مَّعْرُوفٍ‏}‏ مما لم ينكره الشرع، وهذا يدل على أنه لم يكن يجب عليها ملازمة مسكن الزوج والحداد عليه وإنما كانت مخيرة بين الملازمة وأخذ النفقة وبين الخروج وتركها‏.‏ ‏{‏والله عَزِيزٌ‏}‏ ينتقم ممن خالفه منهم‏.‏ ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ يراعي مصالحهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏241- 242‏]‏

‏{‏وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ‏(‏241‏)‏ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏242‏)‏‏}‏

‏{‏وللمطلقات متاع بالمعروف حَقّا عَلَى المتقين‏}‏ أثبت المتعة للمطلقات جميعاً بعدما أوجبها لواحدة منهن، وإفراد بعض العام بالحكم لا يخصصه إلا إذا جوزنا تخصيص المنطوق بالمفهوم ولذلك أوجبها ابن جبير لكل مطلقة، وأول غيره بما يعم التمتيع الواجب والمستحب‏.‏ وقال قوم المراد بالمتاع نفقة العدة، ويجوز أن تكون اللام للعهد والتكرير للتأكيد أو لتكرر القضية ‏{‏كذلك‏}‏ إشارة إلى ما سبق من أحكام الطلاق والعدة‏.‏ ‏{‏يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته‏}‏ وعد بأنه سيبين لعباده من الدلائل والأحكام ما يحتاجون إليه معاشاً ومعاداً‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ لعلكم تفهمونها فتستعملون العقل فيها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏243‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏243‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ‏}‏ تعجيب وتقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب التواريخ، وقد يخاطب به من لم ير ومن لم يسمع فإنه صار مثلاً في التعجب‏.‏ ‏{‏إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم‏}‏ يريد أهل داوردان قرية قبل واسط وقع فيها طاعون فخرجوا هاربين، فأماتهم الله ثم أحياهم ليعتبروا ويتيقنوا أن لا مفر من قضاء الله تعالى وقدره‏.‏ أو قوماً من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد ففروا حذر الموت فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم‏.‏ ‏{‏وَهُمْ أُلُوفٌ‏}‏ أي ألوف كثيرة‏.‏ قيل عشرة‏.‏ وقيل ثلاثون‏.‏ وقيل سبعون وقيل متألفون جمع إلف أو آلف كقاعد وقعود والواو للحال‏.‏ ‏{‏حَذَرَ الموت‏}‏ مفعول له‏.‏ ‏{‏فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ‏}‏ أي قال لهم موتوا فماتوا كقوله‏:‏ ‏{‏كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ والمعنى أنهم ماتوا ميتة رجل واحد من غير علة، بأمر الله تعالى ومشيئته‏.‏ وقيل ناداهم به ملك وإنما أسند إلى الله تعالى تخويفاً وتهويلاً‏.‏ ‏{‏ثُمَّ أحياهم‏}‏ قيل مر حزقيل عليه السلام على أهل داوردان وقد عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم، فتعجب من ذلك فأوحى الله تعالى إليه ناد فيهم أن قوموا بإذن الله تعالى، فنادى فقاموا يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إِلا أنت‏.‏ وفائدة القصة تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة، وحثهم على التوكل والاستسلام للقضاء‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس‏}‏ حيث أحياهم ليعتبروا ويفوزوا وقص عليهم حالهم ليستبصروا ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ أي لا يشكرونه كما ينبغي، ويجوز أن يراد بالشكر الاعتبار والاستبصار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏244‏]‏

‏{‏وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏244‏)‏‏}‏

‏{‏وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله‏}‏ لما بين أن الفرار من الموت غير مخلص منه وأن المقدر لا محالة واقع، أمرهم بالقتال إذ لو جاء أجلهم في سبيل الله وإِلا فالنصر والثواب‏.‏ ‏{‏واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ لما يقوله المتخلف والسابق‏.‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بما يضمرانه وهو من وراء الجزاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏245‏]‏

‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏245‏)‏‏}‏

‏{‏مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله‏}‏ ‏{‏مِنْ‏}‏ استفهامية مرفوعة الموضع بالابتداء، و‏{‏ذَا‏}‏ خبره، و‏{‏الذي‏}‏ صفة ذا أو بدله، وإقراض الله سبحانه وتعالى مثل لتقديم العمل الذي به يطلب ثوابه‏.‏ ‏{‏قَرْضًا حَسَنًا‏}‏ إقراضاً حسناً مقروناً بالإخلاص وطيب النفس أو مقرضاً حلالاً طيباً‏.‏ وقيل‏:‏ القرض الحسن بالمجاهدة والإِنفاق في سبيل الله ‏{‏فَيُضَاعِفَهُ لَهُ‏}‏ فيضاعف جزاءه، أخرجه على صورة المغالبة للمبالغة، وقرأ عاصم بالنصب على جواب الاستفهام حملاً على المعنى، فإن ‏{‏مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله‏}‏ في معنى أيقرض الله أحد‏.‏ وقرأ ابن كثير «فيضعفه» بالرفع والتشديد وابن عامر ويعقوب بالنصب‏.‏ ‏{‏أَضْعَافًا كَثِيرَةً‏}‏ كثرة لا يقدرها إلا الله سبحانه وتعالى‏.‏ وقيل الواحد بسبعمائة، و«أضعافاً» جمع ضعف ونصبه على الحال من الضمير المنصوب، أو المفعول الثاني لتضمن المضاعفة معنى التصيير أو المصدر على أن الضعف اسم مصدر وجمعه للتنويع‏.‏ ‏{‏والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ‏}‏ يقتر على بعض ويوسع على بعض حسب ما اقتضت حكمته، فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم كيلا يبدل حالكم‏.‏ وقرأ نافع والكسائي والبزي وأبو بكر بالصاد ومثله في الأعراف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَسْطَةً‏}‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ فيجازيكم على حسب ما قدمتم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏246‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏246‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بَنِى إِسْرءيلَ‏}‏ ‏{‏الملا‏}‏ جماعة يجتمعون للتشاور، ولا واحد له كالقوم ومن للتبعيض‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ موسى‏}‏ أي من بعد وفاته ومن للابتداء‏.‏ ‏{‏إِذْ قَالُواْ لِنَبِىّ لَّهُمُ‏}‏ هو يوشع، أو شمعون، أو شمويل عليهم السلام‏.‏ ‏{‏ابعث لَنَا مَلِكًا نقاتل فِي سَبِيلِ الله‏}‏ أقم لنا أميراً ننهض معه للقتال يدبر أمره ونصدر فيه عن رأيه، وجزم نقاتل على الجواب‏.‏ وقرئ بالرفع على أنه حال أي أبعثه لنا مقدرين القتال، ويقاتل بالياء مجزوماً ومرفوعاً على الجواب والوصف لملكا‏.‏ ‏{‏قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تقاتلوا‏}‏ فصل بين عسى وخبره بالشرط، والمعنى أتوقع جبنكم عن القتال إن كتب عليكم، فأدخل هل على فعل التوقع مستفهماً عما هو المتوقع عنده تقريراً وتثبيتاً‏.‏ وقرأ نافع ‏{‏عَسَيْتُمْ‏}‏ بكسر السين‏.‏ ‏{‏قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نقاتل فِى سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديارنا وَأَبْنَائِنَا‏}‏ أيْ أيُّ غرض لنا في ترك القتال وقد عرض لنا ما يوجبه ويحث عليه من الإخراج عن الأوطان والإفراد عن الأولاد، وذلك أن جالوت ومن معه من العمالقة كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين، فظهروا على بني إسرائيل فأخذوا ديارهم وسبوا أولادهم وأسروا من أبناء الملوك أربعمائة وأربعين‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ‏}‏ ثلاثمائة وثلاثة عشر بعدد أهل بدر ‏{‏والله عَلِيمٌ بالظالمين‏}‏ وعيد لهم على ظلمهم في ترك الجهاد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏247- 248‏]‏

‏{‏وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏247‏)‏ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏248‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا‏}‏ طالوت علم عبري كداود وجعله فعلوتاً من الطول تعسف يدفعه منع صرفه، روي أن نبيهم صلى الله عليه وسلم لما دعا الله أن يملكهم أتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت ‏{‏قَالُواْ أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا‏}‏ من أين يكون له ذلك ويستأهل‏.‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ المال‏}‏ والحال أنا أحق بالملك منه وراثة ومكنة وإنه فقير لا مال له يعتضد به، وإنما قالوا ذلك لأن طالوت كان فقيراً رَاعياً أو سقاء أو دباغاً من أولاد بنيامين ولم تكن فيهم النبوة والملك، وإنما كانت النبوة في أولاد لاوى بن يعقوب والملك في أولاد يهوذا وكان فيهم من السبطين خلق‏.‏ ‏{‏قَالَ إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء والله واسع عَلِيمٌ‏}‏ لما استبعدوا تملكه لفقره وسقوط نسبه رد عليهم ذلك‏.‏ أولاً بأن العمدة فيه اصطفاه الله سبحانه وتعالى وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم، وثانياً بأن الشرط فيه وفور العلم ليتمكن به من معرفة الأمور السياسية، وجسامة البدن ليكون أعظم خطراً في القلوب، وأقوى على مقاومة العدو ومكابدة الحروب، لا ما ذكرتم‏.‏ وقد زاده الله فيهما وكان الرجل القائم يمد يده فينال رأسه، وثالثاً بأن الله تعالى مالك الملك على الإطلاق فله أن يؤتيه من يشاء، ورابعاً أنه واسع الفضل يوسع على الفقير ويغنيه عليم بمن يليق بالملك من النسيب وغيره‏.‏ ‏{‏وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ‏}‏ لما طلبوا منه حجة على أنه سبحانه وتعالى اصطفى طالوت وملكه عليهم‏.‏ ‏{‏إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ‏}‏ الصندوق فعلوت من التوب، وهو الرجوع فإنه لا يزال يرجع إلى ما يخرج منه، وليس بفاعول لقلة نحو سلس وقلق، ومن قرأه بالهاء فلعله أبدله منه كما أبدل من تاء التأنيث لاشتراكهما في الهمس والزيادة، ويريد به صندوق التوراة وكان من خشب الشمشاد مموهاً بالذهب نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين‏.‏ ‏{‏فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ الضمير للإِتيان أي في إتيانه سكون لكم وطمأنينة، أو للتابوت أي مودع فيه ما تسكنون إليه وهو التوراة‏.‏ وكان موسى عليه الصلاة والسلام إِذا قاتل قدمه فتسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون‏.‏ وقيل صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت لها رأس وذنب كرأس الهرة وذنبها وجناحان فتئن فيزف التابوت نحو العدو وهم يتبعونه فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر‏.‏ وقيل صورة الأنبياء من آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام‏.‏ وقيل التابوت هو القلب والسكينة ما فيه من العلم والإخلاص وإتيانه مصير قلبه مقراً للعلم والوقار بعد أن لم يكن‏.‏

‏{‏وَبَقِيَّةٌ مّمَّا تَرَكَ ءَالُ موسى وَءَالُ هارون‏}‏ رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وعمامة هرون، وآلْهما أبناؤهما أو أنفسهما‏.‏ والآل مقحم لتفخيم شأنهما، أو أنبياء بني إسرائيل لأنهم أبناء عمهما‏.‏ ‏{‏تَحْمِلُهُ الملائكة‏}‏ قيل رفعه الله بعد موسى فنزلت به الملائكة وهم ينظرون إليه وقيل كان بعده مع أنبيائهم يستفتحون به حتى أفسدوا فغلبهم الكفار عليه، وكان في أرض جالوت إلى أن ملك الله طالوت فأصابهم بلاء حتى هلكت خمس مدائن فتشاءموا بالتابوت فوضعوه على ثورين فساقتهما الملائكة إلى طالوت‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذلك لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ يحتمل أن يكون من تمام كلام النبي عليه الصلاة والسلام وأن يكون ابتداء خطاب من الله سبحانه وتعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏249- 250‏]‏

‏{‏فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏249‏)‏ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏250‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتٌ بالجنود‏}‏ انفصل بهم عن بلده لقتال العمالقة، وأصله فصل نفسه عنه ولكن لما كثر حذف مفعوله صار كاللازم‏.‏ روي‏:‏ أنه قال لهم لا يخرج معي إلا الشاب النشيط الفارغ، فاجتمع إليه ممن إختاره ثمانون ألفاً، وكان الوقت قيظاً فسلكوا مفازه وسألوه أن يجري الله لهم نهراً‏.‏ ‏{‏قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ‏}‏ معاملكم معاملة المختبر بما اقترحتموه‏.‏ ‏{‏فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي‏}‏ فليس من أشياعي، أو ليس بمتحد معي‏.‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى‏}‏ أي من لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه مأكولاً أو مشروباً قال الشاعر‏:‏ وَإِن شِئْتُ لَمْ أَطْعِم نقاخاً وَلاَ بَرَدْا‏.‏ وإنما علم ذلك بالوحي إن كان نبياً كما قيل، أو بإخبار النبي عليه الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ‏}‏ استثناء من قوله فمن شرب منه، وإنما قدمت عليه الجملة الثانية للعناية بها كما قدم والصائبون على الخبر في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَادُواْ‏}‏ والمعنى الرخصة في القليل دون الكثير، وقرأ ابن عامر والكوفيون ‏{‏غُرْفَةً‏}‏ بضم الغين‏.‏ ‏{‏فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ‏}‏ أي فكرعوا فيه إذ الأصل في الشرب منه أن لا يكون بوسط، وتعميم الأول ليتصل الاستثناء، أو أفرطوا في الشرب منه إلا قليلاً منهم‏.‏ وقرئ بالرفع حملاً على المعنى فإن قوله ‏{‏فَشَرِبُواْ مِنْهُ‏}‏ في معنى فلم يطيعوه والقليل كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً‏.‏ وقيل ثلاثة آلاف‏.‏ وقيل‏:‏ ألفاً روي أن من اقتصر على الغرفة كفته لشربه وإداوته، ومن لم يقتصر غلب عليه واسودت شفته ولم يقدر أن يمضي وهكذا الدنيا لقاصد الآخرة‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ‏}‏ أي القليل الذين لم يخالفوه‏.‏ ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي بعضهم لبعض‏.‏ ‏{‏لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ‏}‏ لكثرتهم وقوتهم‏.‏ ‏{‏قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله‏}‏ أي قال الخلص منهم الذين تيقنوا لقاء الله وتوقعوا ثوابه، أو علموا أنهم يستشهدون عما قريب فيلقون الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ هم القليل الذين ثبتوا معه، والضمير في ‏{‏قَالُواْ‏}‏ للكثير المنخذلين عنه اعتذاراً في التخلف وتخذيلاً للقليل، وكأنهم تقاولوا به والنهر بينهما‏.‏ ‏{‏كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله‏}‏ بحكمه وتيسيره، و‏{‏كَمْ‏}‏ تحتمل الخبر والاستفهام، و‏{‏مِنْ‏}‏ مبينة أو مزيدة‏.‏ والفئة الفرقة من الناس من فأوت رأسه إذا شققته، أو من فاء رجع فوزنها فعة أو فلة‏.‏ ‏{‏والله مَعَ الصابرين‏}‏‏.‏ بالنصر والإِثابة‏.‏

‏{‏وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ‏}‏ أي ظهروا لهم ودنوا منهم‏.‏ ‏{‏قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين‏}‏ التجؤوا إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء، وفيه ترتيب بليغ إذ سألوا أولاً إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر، ثم ثبات القدم في مداحض الحرب المسبب عنه، ثم النصر على العدو المترتب عليهما غالباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏251‏]‏

‏{‏فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏251‏)‏‏}‏

‏{‏فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ الله‏}‏ فكسروهم بنصره، أو مصاحبين لنصره إياهم إجابة لدعائهم‏.‏ ‏{‏وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ‏}‏ قيل‏:‏ كان إيشا في عسكر طالوت معه ستة من بنيه، وكان داود سابعهم وكان صغيراً يرعى الغنم، فأوحى الله إلى نبيهم أنه الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء وقد كلمه في الطريق ثلاثة أحجار وقالت له‏:‏ إنك بنا تقتل جالوت، فحملها في مخلاته ورماه بها فقتله ثم زوجه طالوت بنته‏.‏ ‏{‏وآتاه الله الملك‏}‏ أي ملك بني إسرائيل ولم يجتمعوا قبل داود على ملك‏.‏ ‏{‏والحكمة‏}‏ أي النبوة‏.‏ ‏{‏وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء‏}‏ كالسرد وكلام الدواب والطير‏.‏ ‏{‏وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين‏}‏ ولولا أنه سبحانه وتعالى يدفع بعض الناس ببعض وينصر المسلمين على الكفار ويكف بهم فسادهم، لغلبوا وأفسدوا في الأرض، أو لفسدت الأرض بشؤمهم‏.‏ وقرأ نافع هنا وفي الحج «دفاع الله»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏252‏]‏

‏{‏تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏252‏)‏‏}‏

‏{‏تِلْكَ آيات الله‏}‏ إشارة إلى ما قص من حديث الألوف وتمليك طالوت وإتيان التابوت وانهزام الجبابرة وقتل داودُ جالوت ‏{‏نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق‏}‏ بالوجه المطابق الذي لا يشك فيه أهل الكتاب وأرباب التواريخ‏.‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين‏}‏ لما اختبرت بها من غير تعرف واستماع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏253‏]‏

‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ‏(‏253‏)‏‏}‏

‏{‏تِلْكَ الرسل‏}‏ إشارة إلى الجماعة المذكورة قصصها في السورة، أو المعلومة للرسول صلى الله عليه وسلم، أو جماعة الرسل واللام للاستغراق‏.‏ ‏{‏فَضَّلْنَا بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ‏}‏ بأن خصصناه بمنقبة ليست لغيره‏.‏ ‏{‏مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله‏}‏ تفضيل له، وهو موسى عليه الصلاة والسلام‏.‏ وقيل‏:‏ موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، كلم الله موسى ليلة الحيرة وفي الطور، ومحمداً عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج حين كان قاب قوسين أو أدنى وبينهما بون بعيد، وقرئ ‏{‏كَلمَ الله‏}‏ و«كالم الله» بالنصب، فإنه كلم الله كما أن الله كلمه ولذلك قيل كليم الله بمعنى مكالمه‏.‏ ‏{‏وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات‏}‏ بأن فضله على غيره من وجوه متعددة، أو بمراتب متباعدة‏.‏ وهو محمد صلى الله عليه وسلم فإنه خصه بالدعوة العامة والحجج المتكاثرة والمعجزات المستمرة، والآيات المتعاقبة بتعاقب الدهر، والفضائل العلمية والعملية الفائتة للحصر‏.‏ والإبهام لتفخيم شأنه كأنه العلم المتعين لهذا الوصف المستغني عن التعيين‏.‏ وقيل‏:‏ إبراهيم عليه السلام خصصه بالخلة التي هي أعلى المراتب‏.‏ وقيل‏:‏ إدريس عليه السلام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً‏}‏ وقيل‏:‏ أولو العزم من الرسل‏.‏ ‏{‏وَآتَيْنَا عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ‏}‏ خصه بالتعيين لإفراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه، وجعل معجزاته سبب تفضيله لأنها آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره‏.‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء الله‏}‏ أي هدى الناس جميعاً‏.‏ ‏{‏مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم‏}‏ من بعد الرسل‏.‏ ‏{‏مّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات‏}‏ أي المعجزات الواضحة لاختلافهم في الدين، وتضليل بعضهم بعضاً‏.‏ ‏{‏ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ‏}‏ بتوفيقه التزام دين الأنبياء تفضلاً‏.‏ ‏{‏وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ‏}‏ لإِعراضه عنه بخذلانه‏.‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء الله مَا اقتتلوا‏}‏ كرره للتأكيد‏.‏ ‏{‏ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ فيوفق من يشاء فضلاً، ويُخذل من يشاء عدلاً‏.‏ والآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متفاوتة الأقدام، وأنه يجوز تفضيل بعضهم على بعض، ولكن بقاطع لأن اعتبار الظن فيما يتعلق بالعمل وأن الحوادث بيد الله سبحانه وتعالى تابعة لمشيئته خيراً كان أو شراً إيماناً أو كفراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏254‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏254‏)‏‏}‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم‏}‏ ما أوجبت عليكم إنفاقه‏.‏ ‏{‏مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شفاعة‏}‏ من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فرطتم، والخلاص من عذابه إذ لا بيع فيه فتحصلون ما تنفقونه، أو تفتدون به من العذاب ولا خلة حتى يعينكم عليه أخلاؤكم أو يسامحوكم به ولا شفاعة ‏{‏إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً‏}‏ حتى تتكلوا على شفعاء تشفع لكم في حط ما في ذممكم، وإنما رفعت ثلاثتها مع قصد التعميم لأنها في التقدير جواب‏:‏ هل فيه بيع‏؟‏ أو خلة‏؟‏ أو شفاعة‏؟‏ وقد فتحها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب على الأصل‏.‏ ‏{‏والكافرون هُمُ الظالمون‏}‏ يريد والتاركون للزكاة هم الظالمون الذين ظلموا أنفسهم، أو وضعوا المال في غيره موضعه وصرفوه على غير وجهه، فوضع الكافرون موضعه تغليظاً لهم وتهديداً كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ‏}‏ مكان ومن لم يحج وإيذاناً بأن ترك الزكاة من صفات الكفار لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة‏.‏‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏255‏]‏

‏{‏اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ‏(‏255‏)‏‏}‏

‏{‏الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ مبتدأ وخبر والمعنى أنه المستحق للعبادة لا غيره‏.‏ وللنحاة خلاف في أنه هل يضمر للأخير مثل في الوجود أو يصح أن يوجد‏.‏ ‏{‏الحي‏}‏ الذي يصح أن يعلم ويقدر وكل ما يصح له فهو واجب لا يزول لامتناعه عن القوة والإِمكان‏.‏ ‏{‏القيوم‏}‏ الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه فيعول من قام بالأمر إذا حفظه، وقرئ «القيام» و«القيم»‏.‏ ‏{‏لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ‏}‏ السنة فتور يتقدم النوم قال ابن الرقاع‏:‏

وَسَنانٌ أَقْصَدَهُ النَّعَاسُ فَرَنَّقَت *** في عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيسَ بِنَائِمٍ

والنوم حال تعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة، بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأساً، وتقديم السنة عليه وقياس المبالغة عكسه على ترتيب الوجود، والجملة نفي للتشبيه وتأكيد لكونه حياً قيوماً، فإن من أخذه نعاس أو نوم كان موؤف الحياة قاصراً في الحفظ والتدبير، ولذلك ترك العاطف فيه وفي الجمل التي بعده‏.‏ ‏{‏لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ تقرير لقيوميتَّه واحتجاج به على تفرده في الألوهية، والمراد بما فيهما داخلاً في حقيقتهما أو خارجاً عنهما متمكناً فيهما فهو أبلغ من قوله‏:‏ ‏{‏لَهُ السموات والأرض وَمَا فِيهِنَّ‏}‏، ‏{‏مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ بيان لكبرياء شأنه سبحانه وتعالى، وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة واستكانة فضلاً عن أن يعاوقه عناداً أو مناصبة أي مخاصمة‏.‏ ‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ ما قبلهم وما بعدهم، أو بالعكس لأنك مستقبل المستقبل ومستدبر الماضي، أو أمور الدنيا وأمور الآخرة، أو عكسه، أو ما يحسونه وما يعقلونه، أو ما يدركونه وما لا يدركونه، والضمير لما في السموات والأرض، لأن فيهما العقلاء، أو لما دل عليه من ذا من الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ‏}‏ من معلوماته‏.‏ ‏{‏إِلاَّ بِمَا شَاء‏}‏ أن يعلموه، وعطفه على ما قبله لأن مجموعهما يدل على تفرده بالعلم الذاتي التام الدال على وحدانيته سبحانه وتعالى‏.‏ ‏{‏وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السموات والأرض‏}‏ تصوير لعظمته وتمثيل مجرد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ ‏{‏والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ‏}‏ ولا كرسي في الحقيقة، ولا قاعد‏.‏ وقيل كرسيه مجاز عن علمه أو ملكه، مأخوذ من كرسي العالم والملك‏.‏ وقيل جسم بين يدي العرش ولذلك سمي كرسياً محيط بالسموات السبع، لقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ ما السموات السبع والأرضون السبع من الكرسي، إلا كحلقة في فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ‏"‏ ولعله الفلك المشهور بفلك البروج، وهو في الأصل اسم لما يقعد عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد، وكأنه منسوب إلى الكرسي وهو الملبد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏256‏]‏

‏{‏لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏256‏)‏‏}‏

‏{‏لا إِكْرَاهَ فِى الدين‏}‏ إذ الإِكراه في الحقيقة إلزام الغير فعلاً لا يرى فيه خيراً يحمله عليه، ولكن ‏{‏قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي‏}‏ تميز الإِيمان من الكفر بالآيات الواضحة، ودلت الدلائل على أن الإِيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية والكفر غي يؤدي إلى الشقاوة السرمدية، والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإِيمان طلباً للفوز بالسعادة والنجاة، ولم يحتج إلى الإِكراه والإِلجاء‏.‏ وقبل إخبار في معنى النهي، أي لا تكرهوا في الدين، وهو إما عام منسوخ بقوله؛ ‏{‏جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ‏}‏ أو خاص بأهل الكتاب لما روي ‏(‏أن أنصارياً كان له ابنان تنصرا قبل المبعث، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال‏:‏ والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ الأنصاري يا رسول الله أيدخل بِعَقْبَيَّ النار وأنا أنظر إليه فنزلت فخلاهما‏)‏‏.‏ ‏{‏فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت‏}‏ بالشيطان، أو الأصنام، أو كل ما عبد من دون الله، أو صد عن عبادة الله تعالى‏.‏ فعلوت من الطغيان قلبت عينه ولامه‏.‏ ‏{‏وَيُؤْمِن بالله‏}‏ بالتوحيد وتصديق الرسل‏.‏ ‏{‏فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى‏}‏ طلب الإِمساك عن نفسه بالعروة الوثقى من الحبل الوثيق، وهي مستعارة لمتمسك الحق من النظر الصحيح والرأي القويم‏.‏ ‏{‏لاَ انفصام لَهَا‏}‏ لا انقطاع لها يقال فصمته فانفصم إذا كسرته‏.‏ ‏{‏والله سَمِيعٌ‏}‏ بالأقوال ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بالنيات، ولعله تهديد على النفاق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏257‏]‏

‏{‏اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏257‏)‏‏}‏

‏{‏الله وَلِيُّ الذين ءَامَنُواْ‏}‏ محبهم، أو متولي أمورهم، والمراد بهم من أراد إيمانه وثبت في علمه أنه يؤمن‏.‏ ‏{‏يُخْرِجُهُم‏}‏ بهدايته وتوفيقه‏.‏ ‏{‏مِنَ الظلمات‏}‏ ظلمات الجهل واتباع الهوى وقبول الوساوس والشبه المؤدية إلى الكفر‏.‏ ‏{‏إِلَى النور‏}‏ إلى الهدى الموصل إلى الإِيمان، والجملة خبر بعد خبر، أو حال من المستكن في الخبر، أو من الموصول، أو منهما، أو استئناف مبين، أو مقرر للولاية‏.‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت‏}‏ أي الشياطين، أو المضلات من الهوى والشيطان وغيرهما‏.‏ ‏{‏يُخْرِجُونَهُم مّنَ النور إِلَى الظلمات‏}‏ من النور الذي منحوه بالفطرة، إلى الكفر وفساد الاستعداد والانهماك في الشهوات، أو من نور البينات إلى ظلمات الشكوك والشبهات‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في قوم ارتدوا عن الإِسلام، وإسناد الإِخراج إلى الطاغوت باعتبار التسبب لا يأبى تعلق قدرته تعالى وإرادته بها‏.‏ ‏{‏أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ وعيد وتحذير، ولعل عدم مقابلته بوعد المؤمنين تعظيم لشأنهم‏.‏