فصل: تفسير الآية رقم (258)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏258‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏258‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَاجَّ إبراهيم فِي رِبّهِ‏}‏ تعجيب من محاجة نمرود وحماقته‏.‏ ‏{‏أَنْ آتاه الله الملك‏}‏ لأن آتاه أي أبطره إيتاء الملك وحمله على المحاجة، أو حاج لأجله شكراً له على طريقة العكس كقولك عاديتني لأني أحسنت إليك، أو وقت أن آتاه الله الملك وهو حجة على من منع إيتاء الله الملك الكافر من المعتزلة‏.‏ ‏{‏إِذْ قَالَ إبراهيم‏}‏ ظرف ل ‏{‏حَاجَّ‏}‏، أو بدل من ‏{‏أَنْ آتاه الله الملك‏}‏ على الوجه الثاني‏.‏ ‏{‏رَبّيَ الذي يُحْييِ وَيُمِيتُ‏}‏ بخلق الحياة والموت في الأجساد‏.‏ وقرأ حمزة «رب» بِحذف الياء‏.‏ ‏{‏قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ‏}‏ بالعفو عن القتل وبالقتل‏.‏ وقرأ نافع «أنا» بلا ألف‏.‏ ‏{‏قَالَ إبراهيم فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب‏}‏ أعرض إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن الاعتراض على معارضته الفاسدة إلى الاحتجاج بما لا يقدر فيه على نحو هذا التمويه دفعاً للمشاغبة، وهو في الحقيقة عدول عن مثال خفي إلى مثال جلي من مقدوراته التي يعجز عن الإِتيان بها غيره، لا عن حجة إلى أخرى‏.‏ ولعل نمروذ زعم أنه يقدر أن يفعل كل جنس يفعله الله فنقضه إبراهيم بذلك، وإنما حمله عليه بطر الملك وحماقته، أو اعتقاد الحلول‏.‏ وقيل لما كسر إبراهيم عليه الصلاة والسلام الأصنام سجنه أياماً ثم أخرجه ليحرقه، فقال له من ربك الذي تدعو إليه وحاجة فيه‏.‏ ‏{‏فَبُهِتَ الذى كَفَرَ‏}‏ فصار مبهوتاً‏.‏ وقرئ ‏{‏فَبُهِتَ‏}‏ أي فغلب إبراهيمُ الكافرَ‏.‏ ‏{‏والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين‏}‏ الذين ظلموا أنفسهم بالامتناع عن قبول الهداية‏.‏ وقيل لا يهديهم محجة الاحتجاج أو سبيل النجاة، أو طريق الجنة يوم القيامة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏259‏]‏

‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏259‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ‏}‏ تقديره أو أرأيت مثل الذي فحذف لدلالة ألم تر عليه، وتخصيصه بحرف التشبيه لأن المنكر للإِحياء كثير والجاهل بكيفيته أكثر من أن يحصى، بخلاف مدعي الربوبية، وقيل الكاف مزيدة وتقدير الكلام ألم تر إلى الذي حاج أو الذي مر‏.‏ وقيل إنه عطف محمول على المعنى كأنه قيل‏:‏ ألم تر كالذي حاج، أو كالذي مر‏.‏ وقيل‏:‏ إنه من كلام إبراهيم ذكره جواباً لمعارضته وتقديره أو إن كنت تحيي فأحيي كإحياء الله تعالى الذي مر على قرية‏.‏ وهو عزير بن شرحيا‏.‏ أو الخضر، أو كافر بالبعث‏.‏ ويؤيده نظمه مع نمروذ‏.‏ والقرية بيت المقدس حين خربه بختنصر‏.‏ وقيل القرية التي خرج منها الألوف‏.‏ وقيل غيرهما واشتقاقها من القرى وهو الجمع‏.‏ ‏{‏وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا‏}‏ خالية ساقطة حيطانها على سقوفها‏.‏ ‏{‏قَالَ أنى يُحْييِ هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ اعترافاً بالقصور عن معرفة طريق الإِحياء، واستعظاماً لقدرة المحيي إن كان القائل مؤمناً، واستبعاداً إن كان كافراً‏.‏ و‏{‏أَنَّى‏}‏ في موضع نصب على الظرف بمعنى متى أو على الحال بمعنى كيف‏.‏ ‏{‏فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ‏}‏ فألبثه ميتاً مائة عام، أو أماته الله فلبث ميتاً مائة عام‏.‏ ‏{‏ثُمَّ بَعَثَهُ‏}‏ بالإِحياء‏.‏ ‏{‏قَالَ كَمْ لَبِثْتَ‏}‏ القائل هو الله وساغ أن يكلمه وإن كان كافراً لأنه آمن بعد البعث أو شارف الإِيمان‏.‏ وقيل ملك أو نبي‏.‏ ‏{‏قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏ كقول الظان‏.‏ وقيل‏:‏ إنه مات ضحى وبعث بعد المائة قبيل الغروب فقال قبل النظر إلى الشمس يوماً ثم التفت فرأى بقية منها فقال أو بعض يوم على الإِضراب‏.‏ ‏{‏قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ لم يتغير بمرور الزمان، واشتقاقه من السنة‏.‏ والهاء أصلية إن قدرت لام السنة هاء وهاء سكت إن قدرت واواً‏.‏ وقيل أصله لم يتسنن من الحمأ المسنون فأبدلت النون الثالثة حرف علة كتقضي البازي، وإنما أفرد الضمير لأن الطعام والشراب كالجنس الواحد‏.‏ وقيل كان طعامه تيناً وعنباً وشرابه عصيراً أو لبناً وكان الكل على حاله‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي «لم يتسن» بغير الهاء في الوصل‏.‏ ‏{‏وانظر إلى حِمَارِكَ‏}‏ كيف تفرقت عظامه، أو انظر إليه سالماً في مكانه كما ربطته حفظناه بلا ماء وعلف كما حفظناه الطعام والشراب من التغير، والأول أدل على الحال وأوفق لما بعده‏.‏ ‏{‏وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً لِلنَّاسِ‏}‏ أي وفعلنا ذلك لنجعلك آية‏.‏ روي أنه أتى قومه على حماره وقال أنا عزير فكذبوه، فقرأ التوراة من الحفظ ولم يحفظها أحد قبله فعرفوه بذلك، وقالوا هو ابن الله‏.‏ وقيل لما رجع إلى منزله كان شاباً وأولاده شيوخاً فإذا حدثهم بحديث قالوا حديث مائة سنة‏.‏

‏{‏وانظر إِلَى العظام‏}‏ يعني عظام الحمار، أو الأموات الذين تعجب من إحيائهم‏.‏ ‏{‏كَيْفَ نُنشِزُهَا‏}‏ كيف نحييها، أو نرفع بعضها على بعض ونركبه عليه، وكيف منصوب بنشزها والجملة حال من العظام أي‏:‏ انظر إليها محياة‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب «ننشرها» من أنشر الله الموتى، وقرئ «ننشرها» من نشر بمعنى أنشر‏.‏ ‏{‏ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ‏}‏ فاعل تبين مضمر يفسره ما بعده تقديره‏:‏ فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير‏.‏ ‏{‏قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ‏}‏ فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، أو يفسره ما قبله أي فلما تبين له ما أشكل عليه‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏قَالَ أَعْلَمُ‏}‏ على الأمر والأمر مخاطبه، أو هو نفسه خاطبها به على طريق التبكيت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏260‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏260‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى‏}‏ إنما سأل ذلك ليصير علمه عياناً، وقيل لما قال نمروذ أنا أحيي وأميت قال له‏:‏ إن إحياء الله تعالى برد الروح إلى بدنها، فقال نمروذ‏:‏ هل عاينته فلم يقدر أن يقول نعم‏.‏ وانتقل إلى تقرير آخر، ثم سأل ربه أن يريه ليطمئن قلبه على الجواب إن سئل عنه مرة أخرى‏.‏ ‏{‏قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ‏}‏ بأني قادر على الإِحياء بإعادة التركيب والحياة، قال له ذلك وقد علم أنه أغرق الناس في الإِيمان ليجيب بما أجاب به فيعلم السامعون غرضه‏.‏ ‏{‏قَالَ بلى ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ أي بلى آمنت ولكن سألت ذلك لأزيد بصيرة وسكون قلب بمضامة العيان إلى الوحي أو الاستدلال‏.‏ ‏{‏قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطير‏}‏ قيل طاوساً وديكاً وغراباً وحمامة، ومنهم من ذكر النسر بدل الحمامة وفيه إيماء إلى أن إحياء النفس بالحياة الأبدية إنما يتأتى بإماتة حب الشهوات والزخارف الذي هو صفة الطاوس، والصولة المشهور بها الديك وخسة النفس وبعد الأمل المتصف بهما الغراب، والترفع والمسارعة إلى الهوى الموسوم بهما الحمام‏.‏ وإنما خص الطير لأنه أقرب إلى الإِنسان وأجمع لخواص الحيوان والطير مصدر سمي به أو جمع كصحب‏.‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ فأملهن واضممهن إليك لتتأملها وتعرف شياتها لئلا تلتبس عليك بعد الإِحياء‏.‏ وقرأ حمزة ويعقوب ‏{‏فَصِرْهُنَّ‏}‏ بالكسر وهما لغتان قال‏:‏

وَمَا صَيَدُ الأَعْنَاقِ فِيهم حِيلَة *** ولَكِنْ أَطْرَافَ الرِّماحِ تَصُورُهَا

وقال‏:‏

وَفَرْعٌ يصِيرُ الجِيدَ وَحْفٌ كَأنه *** عَلى اللَّيثِ قِنْوانُ الكُرُومِ الدَّوالِح

وقرئ ‏{‏فَصُرْهُنَّ‏}‏ بضم الصاد وكسرها وهما لغتان، مشددة الراء من صره يصره ويصره إذا جمعه وفصرهن من التصرية وهي الجمع أيضاً‏.‏ ‏{‏ثُمَّ اجعل على كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءاً‏}‏ أي ثم جزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال التي بحضرتك‏.‏ قيل كانت أربعة‏.‏ وقيل سبعة‏.‏ وقرأ أبو بكر «جزؤا» و«جزؤ» بضم الزاي حيث وقع‏.‏ ‏{‏ثُمَّ ادعهن‏}‏ قل لهن تعالين بإذن الله تعالى‏.‏ ‏{‏يَأْتِينَكَ سَعْيًا‏}‏ ساعيات مسرعات طيراناً أو مشياً‏.‏ روي أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها فيمسك رؤوسها، ويخلط سائر أجزائها ويوزعها على الجبال، ثم يناديهن‏.‏ ففعل ذلك فجعل كل جزء يطير إلى آخر حتى صارت جثثاً ثم أقبلن فانضممن إلى رؤوسهن‏.‏ وفيه إشارة إلى أن من أراد إحياء نفسه بالحياة الأبدية، فعليه أن يقبل على القوى البدنية فيقتلها ويمزج بعضها ببعض حتى تنكسر سورتها، فيطاوعنه مسرعات متى دعاهن بدعاية العقل أو الشرع‏.‏ وكفى لك شاهداً على فضل إبراهيم عليه الصلاة والسلام وَيُمْنُ الضراعة في الدعاء وحسن الأدب في السؤال، إنه تعالى أراه ما أراد أن يريه في الحال على أيسر الوجوه، وأراه عُزّيراً بعد أن أماته مائة عام‏.‏ ‏{‏واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ‏}‏ لا يعجز عما يريده‏.‏ ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ ذو حكمة بالغة في كل ما يفعله ويذره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏261‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏261‏)‏‏}‏

‏{‏مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ‏}‏ أي مثل نفقتهم كمثل حبة، أو مثلهم كمثل باذر حبة على حذف المضاف‏.‏ ‏{‏أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ‏}‏ أسند الإِنبات إلى الحبة لما كانت من الأسباب، كما يسند إلى الأرض والماء، والمنبت على الحقيقة هو الله تعالى والمعنى‏:‏ أنه يخرج منها ساق يتشعب لكل منه سبع شعب، لكل منها سنبلة فيها مائة حبة‏.‏ وهو تمثيل لا يقتضي وقوعه وقد يكون في الذرة والدخن في البر في الأراضي المغلة‏.‏ ‏{‏والله يضاعف‏}‏ تلك المضاعفة‏.‏ ‏{‏لِمَن يَشَاء‏}‏ بفضله وعلى حسب حال المنفق من إخلاصه وتعبه، ومن أجل ذلك تفاوتت الأعمال في مقادير الثواب‏.‏ ‏{‏والله واسع‏}‏ لا يضيق عليه ما يتفضل به من الزيادة‏.‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بنية المنفق وقدر إنفاقه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏262- 263‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏262‏)‏ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ‏(‏263‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ مَنّاً وَلا أَذًى‏}‏ نزلت في عثمان رضي الله تعالى عنه فإنه جهز جيش العسرة بألف بعير بأقتابها وأحلاسها‏.‏ وعبد الرحمن بن عوف فإنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة آلاف درهم صدقة‏.‏ والمن أن يعتد بإحسانه على من أحسن إليه‏.‏ والأذى أن يتطاول عليه بسبب ما أنعم إليه، وثم للتفاوت بين الإِنفاق وترك المن والأذى‏.‏ ‏{‏لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ لعله لم يدخل الفاء فيه وقد تضمن ما أسند إليه معنى الشرط إيهاماً بأنهم أهل لذلك وإن لم يفعلوا فكيف بهم إذا فعلوا‏.‏

‏{‏قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ‏}‏ رد جميل‏.‏ ‏{‏وَمَغْفِرَةٌ‏}‏ وتجاوز عن السائل والحاجة، أو نيل المغفرة من الله بالرد الجميل، أو عفو من السائل بأن يعذر ويغتفر رده‏.‏ ‏{‏خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى‏}‏ خبر عنهما، وإنما صح الابتداء بالنكرة لاختصاصها بالصفة‏.‏ ‏{‏والله غَنِيٌّ‏}‏ عن إنفاق بمن وإيذاء‏.‏ ‏{‏حَلِيمٌ‏}‏ عن معاجلة من يمن ويؤذي بالعقوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏264‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏264‏)‏‏}‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والأذى‏}‏ لا تحبطوا أجرها بكل واحد منهما‏.‏ ‏{‏كالذي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر‏}‏ كإبطال المنافق الذي يرائي بإنفاقه ولا يريد به رضا الله تعالى ولا ثواب الآخرة، أو مماثلين الذي ينفق رئاء الناس، والكاف في محل النصب على المصدر أو الحال، و‏{‏رِئَاء‏}‏ نصب على المفعول له أو الحال بمعنى مرائياً أو المصدر أي إنفاق ‏{‏رِئَاء‏}‏‏.‏ ‏{‏فَمَثَلُهُ‏}‏ أي فمثل المرائي في إنفاقه‏.‏ ‏{‏كَمَثَلِ صَفْوَانٍ‏}‏ كمثل حجر أملس‏.‏ ‏{‏عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ‏}‏ مطر عظيم القطر‏.‏ ‏{‏فَتَرَكَهُ صَلْدًا‏}‏ أملس نقياً من التراب‏.‏ ‏{‏لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْء مّمَّا كَسَبُواْ‏}‏ لا ينتفعون بما فعلوا رئاء ولا يجدون له ثواباً، والضمير للذي ينفق باعتبار المعنى لأن المراد به الجنس، أو الجمع كما في قوله‏:‏

إِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلجٍ دِمَاؤُهُم *** هُمُ القَومُ كُلَّ القَومِ يَا أُمَّ خَالدٍ

‏{‏والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين‏}‏ إلى الخير والرشاد، وفيه تعريض بأن الرئاء والمن والأذى على الإنفاق من صفات الكفار ولا بد للمؤمن أن يتجنب عنها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏265‏]‏

‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏265‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم ابتغاء مَرْضَاتَ الله وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ‏}‏ وتثبيتاً بعض أنفسهم على الإِيمان، فإِن المال شقيق الروح، فمن بذل ماله لوجه الله ثبت بعض نفسه ومن بذل ماله وروحه ثبتها كلها، أو تصديقاً للإِسلام وتحقيقاً للجزاء مبتدأ من أصل أنفسهم، وفيه تنبيه على أن حكمة الإِنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل وحب المال‏.‏ ‏{‏كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ‏}‏ أي ومثل نفقة هؤلاء في الزكاة، كمثل بستان بموضع مرتفع، فإن شجره يكون أحسن منظراً وأزكى ثمراً‏.‏ وقرأ ابن عامر وعاصم ‏{‏بِرَبْوَةٍ‏}‏ بالفتح وقرئ بالكسر وثلاثتها لغات فيها‏.‏ ‏{‏أَصَابَهَا وَابِلٌ‏}‏ مطر عظيم القطر‏.‏ ‏{‏فَأَتَتْ أُكُلَهَا‏}‏ ثمرتها‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بالسكون للتخفيف‏.‏ ‏{‏ضِعْفَيْنِ‏}‏ مثلي ما كنت تثمر بسبب الوابل‏.‏ والمراد بالضعف المثل كما أريد بالزوج الواحد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين‏}‏ وقيل‏:‏ أربعة أمثاله ونصبه على الحال أي مضاعفاً‏.‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ‏}‏ أي فيصيبها، أو فالذي يصيبها طل، أو فطل يكفيها لكرم منبتها وبرودة هوائها لارتفاع مكانها‏.‏ وهو المطر الصغير القطر، والمعنى أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت باعتبار ما ينضم إليها من أحواله، ويجوز أن يكون التمثيل لحالهم عند الله تعالى بالجنة على الربوة ونفقاتهم الكثيرة والقليلة الزائدتين في زلفاهم بالوابل والطل‏.‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ تحذير عن الرئاء وترغيب في الإِخلاص‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏266‏]‏

‏{‏أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏266‏)‏‏}‏

‏{‏أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ‏}‏ الهمزة فيه للإِنكار‏.‏ ‏{‏أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثمرات‏}‏ جعل الجنة منهما مع ما فيها من سائر الأشجار تغلباً لهما لشرفهما وكثرة منافعهما، ثم ذكر أن فيها من كل الثمرات ليدل على احتوائها على سائر أنواع الأشجار، ويجوز أن يكون المراد بالثمرات المنافع‏.‏ ‏{‏وَأَصَابَهُ الكبر‏}‏ أي كبر السن، فإن الفاقة والعالة في الشيخوخة أصعب، والواو للحال أو للعطف حملاً على المعنى، فكأنه قيل‏:‏ أيود أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر‏.‏ ‏{‏وَلَهُ ذُرّيَّةٌ ضُعَفَاء‏}‏ صغار لا قدرة لهم على الكسب‏.‏ ‏{‏فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فاحترقت‏}‏ عطف على أصابه، أو تكون باعتبار المعنى‏.‏ والإِعصار ريح عاصفة تنعكس من الأرض إلى السماء مستديرة كعمود، والمعنى تمثيل حال من يفعل الأفعال الحسنة ويضم إليها ما يحبطها كرياء وإيذاء في الحسرة والأسف، فإذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إليها وجدها محبطة بحال من هذا شأنه، وأشبههم به من جال بسره في عالم الملكوت، وترقى بفكره إلى جناب الجبروت، ثم نكص على عقبيه إلى عالم الزور والتفت إلى ما سوى الحق وجعل سعيه هباء منثوراً‏.‏ ‏{‏كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ‏}‏ أي تتفكرون فيها فتعتبرون بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏267‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏267‏)‏‏}‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ‏}‏ من حلاله أو جياده‏.‏ ‏{‏وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الأرض‏}‏ أي ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الحبوب والثمرات والمعادن، فحذف المضاف لتقدم ذكره‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ‏}‏ أي ولا تقصدوا الرديء منه أي من المال، أو مما أخرجنا لكم‏.‏ وتخصيصه بذلك لأن التفاوت فيه أكثر، وقرئ ولا تؤمموا ولا تيمموا بضم التاء‏.‏ ‏{‏تُنفِقُونَ‏}‏ حال مقدرة من فاعل تيمموا، ويجوز أن يتعلق به منه ويكون الضمير للخبيث والجملة حالاً منه‏.‏ ‏{‏وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ‏}‏ أي وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم لردائته‏.‏ ‏{‏إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ‏}‏ إلا أن تتسامحوا فيه، مجاز من أغمض بصره إذا غضه‏.‏ وقرئ ‏{‏تُغْمِضُواْ‏}‏ أي تحملوا على الإِغماض، أو توجدوا مغمضين‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ كانوا يتصدقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه‏.‏ ‏{‏واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ‏}‏ عن إنفاقكم، وإنما يأمركم به لانتفاعكم‏.‏ ‏{‏حَمِيدٌ‏}‏ بقبوله وإثابته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏268‏]‏

‏{‏الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏268‏)‏‏}‏

‏{‏الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر‏}‏ في الإِنفاق، والوعد في الأصل شائع في الخير والشر‏.‏ وقرئ ‏{‏الفقر‏}‏ بالضم والسكون وبضمتين وفتحتين‏.‏ ‏{‏وَيَأْمُرُكُم بالفحشاء‏}‏ ويغريكم على البخل، والعرب تسمي البخيل فاحشاً‏.‏ وقيل المعاصي ‏{‏والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ‏}‏ أي يعدكم في الإِنفاق مغفرة لذنوبكم‏.‏ ‏{‏وَفَضْلاً‏}‏ خلفاً أفضل مما أنفقتم في الدنيا، أو في الآخرة‏.‏ ‏{‏والله واسع‏}‏ أي واسع الفضل لمن أنفق‏.‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بإنفاقه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏269‏]‏

‏{‏يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏269‏)‏‏}‏

‏{‏يُؤْتِي الْحِكْمَةَ‏}‏ تحقيق العلم وإتقان العلم‏.‏ ‏{‏مَن يَشَآء‏}‏ مفعول أول أخر للإِهتمام بالمفعول الثاني ‏{‏وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ‏}‏ بناؤه للمفعول لأنه المقصود‏.‏ وقرأ يعقوب بالكسر أي ومن يؤته الله الحِكمة‏.‏ ‏{‏فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا‏}‏ أي‏:‏ أيُّ خير كثير‏؟‏ إذ حيز له خير الدارين‏.‏ ‏{‏وَمَا يَذَّكَّرُ‏}‏ وما يتعظ بما قص من الآيات، أو ما يتفكر، فإن المتفكر كالمتذكر لما أودع الله في قلبه من العلوم بالقوة‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب‏}‏ ذوو العقول الخالصة عن شوائب الوهم والركون إلى متابعة الهوى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏270‏]‏

‏{‏وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏270‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ‏}‏ قليلة أو كثيرة، سراً أو علانية، في حق أو باطل‏.‏ ‏{‏أَوْ نَذَرْتُم مّن نَّذْرٍ‏}‏ بشرط أو بغير شرط، في طاعة أو معصية‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ‏}‏ فيجازيكم عليه‏.‏ ‏{‏وَمَا للظالمين‏}‏ الذين ينفقون في المعاصي وينذرون فيها، أو يمنعون الصدقات ولا يوفون بالنذر‏.‏ ‏{‏مِنْ أَنصَارٍ‏}‏ من ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏271- 272‏]‏

‏{‏إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏271‏)‏ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ‏(‏272‏)‏‏}‏

‏{‏إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ‏}‏ فنعم شيئاً إبداؤها‏.‏ وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وكسر العين على الأصل‏.‏ وقرأ أبو بكر وأبو عمرو وقالون بكسر النون وسكون العين، وروي عنهم بكسر النون وإخفاء حركة العين وهو أقيس‏.‏ ‏{‏وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء‏}‏ أي تعطوها مع الإِخفاء‏.‏ ‏{‏فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ فالإِخفاء خير لكم، وهذا في التطوع ولمن لم يعرف بالمال فإن إبداء الغرض لغيره أفضل لنفي التهمة عنه‏.‏ عن ابن عباس رضي الله عنهما ‏(‏صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفاً، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً‏)‏‏.‏ ‏{‏وَيُكَفّرُ عَنكُم مّن سَيّئَاتِكُمْ‏}‏ قرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص بالياء أي والله يكفر أو الإِخفاء‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عياش ويعقوب بالنون مرفوعاً على أنه جملة فعلية مبتدأة أو إسمية معطوفة على ما بعد الفاء أي‏:‏ ونحن نكفر‏.‏ وقرأ نافع وحمزة والكسائي به مجزوماً على محل الفاء وما بعده‏.‏ وقرئ بالتاء مرفوعاً ومجزوماً والفعل للصدقات‏.‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ ترغيب في الإِسرار‏.‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ‏}‏ لا يجب عليك أن تجعل الناس مهديين، وإنما عليك الإِرشاد والحث على المحاسن، والنهي عن المقابح كالمن والأذى وإنفاق الخبيث‏.‏ ‏{‏ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَاء‏}‏ صريح بأن الهداية من الله تعالى وبمشيئته، وإنها تخص بقوم دون قوم‏.‏ ‏{‏وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ‏}‏ من نفقة معروفة‏.‏ ‏{‏فَلأَنفُسِكُمْ‏}‏ فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا عليه ولا تنفقوا الخبيث‏.‏ ‏{‏وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ الله‏}‏ حال، وكأنه قال وما تنفقون من خير فلأنفسكم غير منفقين إلا لابتغاء وجه الله وطلب ثوابه‏.‏ أو عطف على ما قبله أي وليست نفقتكم إلا لابتغاء وجهه فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث‏.‏ وقيل‏:‏ نفي في معنى النهي‏.‏ ‏{‏وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ‏}‏ ثوابه أضعافاً مضاعفة، فهو تأكيد للشرطية السابقة، أو ما يخلف للمنفق استجابة لقوله عليه الصلاة والسلام «اللهم اجعل لمنفق خلفاً، ولممسك تلفاً» روي‏:‏ أن ناساً من المسلمين كانت لهم أصهار ورضاع في اليهود، وكانوا ينفقون عليهم، فكرهوا لما أسلموا أن ينفعوهم فنزلت‏.‏ وهذا في غير الواجب أما الواجب فلا يجوز صرفه إلى الكفار‏.‏ ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ‏}‏ أي لا تنقصون ثواب نفقاتكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏273- 273‏]‏

‏{‏لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏273‏)‏‏}‏

‏{‏لِلْفُقَرَاء‏}‏ متعلق بمحذوف أي اعمدوا للفقراء، أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء، أو صدقاتكم للفقراء‏.‏ ‏{‏الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله‏}‏ أحصرهم الجهاد‏.‏ ‏{‏لاَ يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ لاشتغالهم به‏.‏ ‏{‏ضَرْبًا فِى الأرض‏}‏ ذهاباً فيها للكسب‏.‏ وقيل هم أهل الصفة كانوا نحواً من أربعمائة من فقراء المهاجرين يسكنون صفة المسجد يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والعبادة، وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏يَحْسَبُهُمُ الجاهل‏}‏ بحالهم، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين‏.‏ ‏{‏أَغْنِيَاء مِنَ التعفف‏}‏ من أجل تعففهم عن السؤال، ‏{‏تَعْرِفُهُم بسيماهم‏}‏ من الضعف ورثاثة الحال، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحد‏.‏ ‏{‏يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً‏}‏ إلحاحاً، وهو أن يلازم المسؤول حتى يعطيه، من قولهم لحفي من فضل لحافه، أي أعطاني من فضل ما عنده، والمعنى أنهم لا يسألون وإن سألوا عن ضرورة لم يلحوا‏.‏ وقيل‏:‏ هو نفي للأمرين كقوله‏:‏

على لا حب يهتدي بمناره *** فنصبه على المصدر فإنه كنوع من السؤال، أو على الحال‏.‏ ‏{‏وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ‏}‏ ترغيب في الإِنفاق وخصوصاً على هؤلاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏274‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏274‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يُنفِقُونَ أموالهم بالليل والنهار سِرّا وَعَلاَنِيَةً‏}‏ أي يعمون الأوقات والأحوال بالخير‏.‏ نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار، وعشرة بالسر وعشرة بالعلانية‏.‏ وقيل في أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه‏:‏ لم يملك إلا أربعة دراهم فتصدّق بدرهم ليلاً ودرهم نهاراً، ودرهم سراً ودرهم علانية‏.‏ وقيل‏:‏ في ربط الخيل في سبيل الله والإِنفاق عليها‏.‏ ‏{‏فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ خبر الذين ينفقون، والفاء للسببية‏.‏ وقيل للعطف والخبر محذوف أي ومنهم الذين ولذلك جوز الوقف على وعلانية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏275‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏275‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يَأْكُلُونَ الربا‏}‏ أي الآخذون له، وإنما ذكر الأكل لأنه أعظم منافع المال، ولأن الربا شائع في المطعومات وهو زيادة في الأجل، بأن يباع مطعوم بمطعوم، أو نقد بنقد إلى أجل، أو في العوض بأن يباع أحدهما بأكثر منه من جنسه، وإنما كتب بالواو كالصلاة للتفخيم على لغة وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع‏.‏ ‏{‏لاَ يَقُومُونَ‏}‏ إذا بعثوا من قبورهم‏.‏ ‏{‏إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان‏}‏ إلا قياماً كقيام المصروع، وهو وارد على ما يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع، والخبط ضرب على غير اتساق كخبط العشواء‏.‏ ‏{‏مِنَ المس‏}‏ أي الجنون، وهذا أيضاً من زعماتهم أن الجني يمسه فيختلط عقله ولذلك قيل‏:‏ جَنَّ الرجلُ‏.‏ وهو متعلق ب ‏{‏لاَ يَقُومُونَ‏}‏ أي لا يقومون من المس الذي بهم بسبب أكل الربا، أو بيقوم أو بيتخبط فيكون نهوضهم وسقوطهم كالمصروعين لا لاختلال عقولهم ولكن لأن الله أربى في بطونهم ما أكلوه من الربا فأثقلهم‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا‏}‏ أي ذلك العقاب بسبب أنهم نظموا الربا والبيع في سلك واحد لإفضائهما إلى الربح فاستحلوه استحلاله‏.‏ وكان الأصل إنما الربا مثل البيع ولكن عكس للمبالغة، كأنهم جعلوا الربا أصلاً وقاسوا به البيع، والفرق بينَّ فإن من أعطى درهمين بدرهم ضيع درهماً، ومن اشترى سلعة تساوي درهماً بدرهمين فلعل مساس الحاجَةُ إليها، أو توقع رواجها يجبر هذا الغبن‏.‏ ‏{‏وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا‏}‏ إنكار لتسويتهم، وإبطال القياس بمعارضة النص‏.‏ ‏{‏فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ‏}‏ فمن بلغه وعظ من الله تعالى وزجر كالنهي عن الربا‏.‏ ‏{‏فانتهى‏}‏ فاتعظ وتبع النهي‏.‏ ‏{‏فَلَهُ مَا سَلَفَ‏}‏ تقدم أخذه التحريم ولا يسترد منه، وما في موضع الرفع بالظرف إن جعلت من موصولة، وبالابتداء إن جعلت شرطية على رأي سيبويه إذ الظرف غير معتمد على ما قبله‏.‏ ‏{‏وَأَمْرُهُ إِلَى الله‏}‏ يجازيه على انتهائه إن كان من قبول الموعظة وصدق النية‏.‏ وقيل يحكم في شأنه ولا اعتراض لكم عليه‏.‏ ‏{‏وَمَنْ عَادَ‏}‏ إلى تحليل الربا، إذ الكلام فيه‏.‏ ‏{‏فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ لأنهم كفروا به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏276‏]‏

‏{‏يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ‏(‏276‏)‏‏}‏

‏{‏يَمْحَقُ الله الربا‏}‏ يذهب ببركته ويهلك المال الذي يدخل فيه‏.‏ ‏{‏وَيُرْبِي الصدقات‏}‏ يضاعف ثوابها ويبارك فيما أخرجت منه، وعنه عليه الصلاة والسلام «إن الله يقبل الصدقة ويربيها كما يربي أحدكم مهره» وعنه عليه الصلاة والسلام «ما نقصت زكاة من مال قط» ‏{‏والله لاَ يُحِبُّ‏}‏ لا يرضى ولا يحب محبته للتوابين‏.‏ ‏{‏كُلَّ كَفَّارٍ‏}‏ مصر على تحليل المحرمات‏.‏ ‏{‏أَثِيمٍ‏}‏ منهمك في ارتكابه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏277‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏277‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ‏}‏ بالله ورسوله وبما جاءهم منه‏.‏ ‏{‏وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة‏}‏ عطفهما على ما يعمهما لإِنافتهما على سائر الأعمال الصالحة‏.‏ ‏{‏لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ من آت‏.‏ ‏{‏وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ على فائت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏278‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏278‏)‏‏}‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا‏}‏ واتركوا بقايا ما شرطتم على الناس من الربا‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ بقلوبكم فإن دليله امتثال ما أمرتم به‏.‏ روي‏:‏ أنه كان لثقيف مال على بعض قريش، فطالبوهم عند المحل بالمال والربا‏.‏ فنزلت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏279- 280‏]‏

‏{‏فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ‏(‏279‏)‏ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏280‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ الله وَرَسُولِهِ‏}‏ أي فاعلموا بها، من أذن بالشيء إذا علم به، وقرأ حمزة وعاصم في رواية ابن عياش «فآذنوا» أي فاعلموا بها غيركم، من الأذن وهو الاستماع فإنه من طرق العلم، وتنكير حرب للتعظيم وذلك يقتضي أن يقاتل المربي بعد الاستتابة حتى يفيء إلى أمر الله، كالباغي ولا يقتضي كفره‏.‏ روي‏:‏ أنها لما نزلت قالت ثقيف لا يدي لنا بحرب الله ورسوله‏.‏ ‏{‏وَإِن تُبتُمْ‏}‏ من الارتباء واعتقاد حله‏.‏ ‏{‏فَلَكُمْ رُءوسُ أموالكم لاَ تَظْلِمُونَ‏}‏ بأخذ الزيادة‏.‏ ‏{‏وَلاَ تُظْلَمُونَ‏}‏ بالمطل والنقصان، ويفهم منه أنها إن لم يتوبوا فليس لهم رأس مالهم وهو سديد على ما قلناه، إذ المصر على التحليل مرتد وماله فيء‏:‏

‏{‏وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ‏}‏ وإن وقع غريم ذو عسرة‏.‏ وقرئ «ذا عسرة» أي وإن كان الغريم ذا عسرة‏.‏ ‏{‏فَنَظِرَةٌ‏}‏ فالحكم نظرة، أو فعليكم نظرة، أو فليكن نظرة وهي الإنظار‏.‏ وقرئ «فناظره» على الخبر أي فالمستحق ناظره بمعنى منتظره، أو صاحب نظرته على طريق النسب وفناظره على الأمر أي فسامحه بالنظرة‏.‏ ‏{‏إلى مَيْسَرَةٍ‏}‏ يسار، وقرأ نافع وحمزة بضم السين، وهما لغتان كمشرقة ومشرقة‏.‏ وقرئ بهما مضافين بحذف التاء عند الإِضافة كقوله‏:‏ ‏{‏أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ‏}‏ ‏{‏وَأَن تَصَدَّقُواْ‏}‏ بالإبراء‏.‏ وقرأ عاصم بتخفيف الصاد‏.‏ ‏{‏خَيْراً لَّكُمْ‏}‏ أكثر ثواباً من الإِنظار، أو خير مما تأخذون لمضاعفة ثوابه ودوامه‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالتصدق الإِنظار لقوله عليه الصلاة والسلام، ‏"‏ لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة ‏"‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ما فيه من الذكر الجميل الجزيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏281‏]‏

‏{‏وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏281‏)‏‏}‏

‏{‏واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله‏}‏ يوم القيامة، أو يوم الموت فتأهبوا لمصيركم إليه‏.‏ وقرأ أبو عمرو ويعقوب بفتح التاء وكسر الجيم‏.‏ ‏{‏ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ‏}‏ جزاء ما عملت من خير أو شر ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ بنقص ثواب وتضعيف عقاب‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ‏(‏أنها آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام وقال ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة‏)‏ وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أحداً وعشرين يوماً وقيل أحداً وثمانين يوماً‏.‏ وقيل سبعة أيام وقيل ثلاثة ساعات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏282‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏282‏)‏‏}‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ‏}‏ أي إذا داين بعضكم بعضاً، تقول‏:‏ داينته إذا عاملته نسيئة معطياً أو آخذاً‏.‏ وفائدة ذكر الدين أن لا يتوهم من التداين المجازاة ويعلم تنوعه إلى المؤجل والحال، وأنه الباعث على الكتبة ويكون مرجع ضمير فاكتبوه ‏{‏إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ معلوم الأيام والأشهر لا بالحصاد وقدوم الحاج‏.‏ ‏{‏فاكتبوه‏}‏ لأنه أوثق وادفع للنزاع، والجمهور على أنه استحباب‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما ‏(‏أن المراد به السلم وقال لما حرم الله الربا أباح السلم‏)‏‏.‏ ‏{‏وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بالعدل‏}‏ من يكتب السوية لا يزيد ولا ينقص، وهو في الحقيقة أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه دين حتى يجيء مكتوبه موثوقاً به معدلاً بالشرع‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ‏}‏ ولا يمتنع أحد من الكتاب‏.‏ ‏{‏أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله‏}‏ مثل ما علمه الله من كتبة الوثائق، أو لا يأب أن ينفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها كقوله‏:‏ ‏{‏وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ‏}‏ ‏{‏فَلْيَكْتُبْ‏}‏ تلك الكتابة المعلمة‏.‏ أمر بها بعد النهي عن الإِباء عنها تأكيداً، ويجوز أن تتعلق الكاف بالأمر فيكون النهي عن الامتناع منها مطلقة ثم الأمر بها مقيدة‏.‏ ‏{‏وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق‏}‏ وليكن المملي من عليه الحق لأنه المقر المشهود عليه، والإِملال والإِملاء واحد‏.‏ ‏{‏وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ‏}‏ أي المملي‏.‏ أو الكاتب‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَبْخَسْ‏}‏ ولا ينقص‏.‏ ‏{‏مِنْهُ شَيْئاً‏}‏ أي من الحق، أو مما أملى عليه‏.‏ ‏{‏فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهًا‏}‏ ناقص العقل مبذراً‏.‏ ‏{‏أَوْ ضَعِيفًا‏}‏ صبياً أو شيخاً مختلاً‏.‏ ‏{‏أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ‏}‏ أو غير مستطيع للإِملال بنفسه لخرس أو جهل باللغة‏.‏ ‏{‏فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل‏}‏ أي الذي يلي أمره ويقوم مقامه من قيم إن كان صبياً أو مختل العقل، أو وكيل أو مترجم إن كان غير مستطيع‏.‏ وهو دليل جريان النيابة في الإِقرار ولعله مخصوص بما تعاطاه القيم أو الوكيل‏.‏ ‏{‏واستشهدوا شَهِيدَيْنِ‏}‏ واطلبوا أن يشهد على الدين شاهدان‏.‏ ‏{‏مّن رّجَالِكُمْ‏}‏ من رجال المسلمين، وهو دليل اشتراط إسلام الشهود وإليه ذهب عامة العلماء وقال أبو حنيفة‏:‏ تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض‏.‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ‏}‏ فإن لم يكن الشاهدان رجلين‏.‏ ‏{‏فَرَجُلٌ وامرأتان‏}‏ فليشهد أو فليستشهد رجل وامرأتان، وهذا مخصوص بالأموال عندنا وبما عدا الحدود والقصاص عند أبي حنيفة‏.‏ ‏{‏مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء‏}‏ لعلمكم بعدالتهم‏.‏ ‏{‏أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى‏}‏ علة اعتبار العدد أي لأجل أن إحداهما إن ضلت الشهادة بأن نسيتها ذكرتها الأخرى، والعلة في الحقيقة التذكير ولكن لما كان الضلال سبباً له نزل منزلته كقولهم‏:‏ أعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه، وكأنه قيل‏:‏ إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت، وفيه إشعار بنقصان عقلهن وقلة ضبطهن‏.‏

وقرأ حمزة ‏{‏أَن تَضِلَّ‏}‏ على الشرط فتذكر بالرفع‏.‏ وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب ‏{‏فَتُذَكّرَ‏}‏ من الإِذكار‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ‏}‏ لأداء الشهادة أو التحمل‏.‏ وسموا شهداء قبل التحمل تنزيلاً لما يشارف منزلة الواقع و‏{‏مَا‏}‏ مزيدة‏.‏ ‏{‏وَلاَتَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوه‏}‏ ولا تملوا من كثرة مدايناتكم أن تكتبوا الدين أو الحق أو الكتاب‏.‏ وقيل كنى بالسأم عن الكسل لأنه صفة المنافق، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «لا يقول المؤمن كسلت» ‏{‏صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا‏}‏ صغيراً كان الحق أو كبيراً، أو مختصراً كان الكتاب أو مشبعاً‏.‏ ‏{‏إِلَى أَجَلِهِ‏}‏ إلى وقت حلوله الذي أقر به المديون‏.‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ إشارة إلى أن تَكتبوه‏.‏ ‏{‏أَقْسَطُ عِندَ الله‏}‏ أكثر قسطاً‏.‏ ‏{‏وَأَقْوَمُ للشهادة‏}‏ وأثبت لها وأعون على إقامتها، وهما مبنيان من أقسط وأقام على غير قياس، أو من قاسط بمعنى ذي قسط وقويم، وإنما صحت الواو في ‏{‏أَقْوَمُ‏}‏ كما صحت في التعجب لجموده‏.‏ ‏{‏وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ‏}‏ وأقرب في أن لا تشكوا في جنس الدين وقدره وأجله والشهود ونحو ذلك‏.‏ ‏{‏إِلا أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا‏}‏ استثناء من الأمر بالكتابة والتجارة الحاضرة تعم المبايعة بدين أو عين، وإدارتها بينهم تعاطيهم إياها يداً بيد أي‏:‏ إلا أن تتبايعوا يداً بيد فلا بأس أن لا تكتبوا، لبعده عن التنازع والنسيان‏.‏ ونصب عاصم ‏{‏تجارة‏}‏ على أنه الخبر والاسم مضمر تقديره إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كقوله‏:‏

بَني أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلاَءَنَا *** إذَا كَانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعا

ورفعها الباقون على أنها الاسم والخبر تديرونها أو على كان التامة‏.‏ ‏{‏وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ‏}‏ هذا التبايع، أو مطلقاً لأنه أحوط‏.‏ والأوامر التي في هذه الآية للاستحباب عند أكثر الأئمة‏.‏ وقيل‏:‏ إنها للوجوب ثم اختلف في إحكامها ونسخها‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ‏}‏ يحتمل البناءين، ويدل عليه أنه قرئ ‏{‏وَلاَ يُضَارَّ‏}‏ بالكسر والفتح‏.‏ وهو نهيهما عن ترك الإِجابة والتحريف والتغيير في الكتب والشهادة، أو النهي عن الضرار بهما مثل أن يعجلا عن مهم ويكلفا الخروج عما حد لهما، ولا يعطى الكاتب جعله، والشهيد مؤنة مجيئه حيث كان‏.‏ ‏{‏وَإِن تَفْعَلُواْ‏}‏ الضرار أو ما نهيتم عنه‏.‏ ‏{‏فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ‏}‏ خروج عن الطاعة لا حق بكم‏.‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في مخالفة أمره ونهيه‏.‏ ‏{‏وَيُعَلّمُكُمُ الله‏}‏ أحكامه المتضمنة لمصالحكم‏.‏ ‏{‏والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ‏}‏ كرر لفظه الله في الجمل الثلاث لاستقلالها، فإن الأولى حث على التقوى، والثانية وعد بإنعامه، والثالثة تعظيم لشأنه‏.‏ ولأنه أدخل في التعظيم من الكناية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏283‏]‏

‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏283‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ‏}‏ أي مسافرين‏.‏ ‏{‏وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فرهان مَّقْبُوضَةٌ‏}‏ فالذي يستوثق به رهان، أو فعليكم رهان، أو فليؤخذ رهان‏.‏ وليس هذا التعليق لاشتراط السفر في الإِرتهان كما ظنه مجاهد والضحاك رحمهما الله تعالى لأنه عليه السلام رهن درعه في المدينة من يهودي على عشرين صاعاً من شعير أخذه لأهله، بل لإِقامة التوثق للإِرتهان مقام التوثق بالكتابة في السفر الذي هو مظنة إعوازها‏.‏ والجمهور على اعتبار القبض فيه غير مالك‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فرهن» كسقف وكلاهما جمع رهن بمعنى مرهون‏:‏ وقرئ بإسكان الهاء على التخفيف‏.‏ ‏{‏فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا‏}‏ أي بعض الدائنين بعض المديونين واستغنى بأمانته عن الارتهان‏.‏ ‏{‏فَلْيُؤَدّ الذي اؤتمن أمانته‏}‏ أي دينه سماه أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان به‏.‏ وقرئ «الذي ايتمن» بقلب الهمزة ياء، و«الذي أتمن» بإدغام الياء في التاء وهو خطأ لأن المنقلبة عن الهمزة في حكمها فلا تدغم‏.‏ ‏{‏وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ‏}‏ في الخيانة وإنكار الحق وفيه مبالغات‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة‏}‏ أيها الشهود، أو المدينون والشهادة شهادتهم على أنفسهم‏.‏ ‏{‏وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ‏}‏ أي يأثم قلبه أو قلبه يأثم‏.‏ والجملة خبر إن وإسناد الإِثم إلى القلب لأن الكتمان مقترفه ونظيره‏:‏ العين زانية والأذن زانية‏.‏ أو للمبالغة فإنه رئيس الأعضاء وأفعاله أعظم الأفعال، وكأنه قيل‏:‏ تمكن الإِثم في نفسه وأخذ أشرف أجزائه، وفاق سائر ذنوبه‏.‏ وقرئ ‏{‏قَلْبَهُ‏}‏ بالنصب كحسن وجهه‏.‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏ تهديد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏284‏]‏

‏{‏لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏284‏)‏‏}‏

‏{‏للَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ خلقاً وملكاً‏.‏ ‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ‏}‏ يعني ما فيها من السوء والعزم عليه لترتب المغفرة والعذاب عليه‏.‏ ‏{‏يُحَاسِبْكُم بِهِ الله‏}‏ يوم القيامة‏.‏ وهو حجة على من أنكر الحساب كالمعتزلة والروافض‏.‏ ‏{‏فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء‏}‏ مغفرته‏.‏ ‏{‏وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء‏}‏ تعذيبه، وهو صريح في نفي وجوب التعذيب‏.‏ وقد رفعهما ابن عامر وعاصم ويعقوب على الاستئناف، وجزمهما الباقون عطفاً على جواب الشرط، ومن جزم بغير فاء جعلهما بدلاً منه بدل البعض من الكل أو الاشتمال كقوله‏:‏

مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بنَا فِي دِيَارِنَا *** تجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا

وإدغام الراء في اللام لحن إذ الراء لا تدغم إلا في مثلها‏.‏ ‏{‏والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ‏}‏ فيقدر على الإِحياء والمحاسبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏285‏]‏

‏{‏آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏(‏285‏)‏‏}‏

‏{‏آمَنَ الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ‏}‏ شهادة وتنصيص من الله تعالى على صحة إيمانه والإِعتداد به، وإنه جازم في أمره غير شاك فيه‏.‏ ‏{‏والمؤمنون كُلٌّ ءَامَنَ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ‏}‏ لا يخلو من أن يعطف ‏{‏المؤمنون‏}‏ على ‏{‏الرسول‏}‏، فيكون الضمير الذي ينوب عنه التنوين راجعاً إلى ‏{‏الرسول‏}‏ ‏{‏والمؤمنين‏}‏، أو يجعل مبتدأ فيكون الضمير للمؤمنين‏.‏ وباعتباره يصح وقوع كل بخبره خبر المبتدأ، ويكون إفراد الرسول بالحكم إما لتعظيمه أو لأن إيمانه عن مشاهدة وعيان، وإيمانهم عن نظر واستدلال‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ «وكتابه» يعني القرآن، أو الجنس‏.‏ والفرق بينه وبين الجمع أنه شائع في وحدان الجنس والجمع في جموعه ولذلك قيل‏:‏ الكتاب أكثر من الكتب‏.‏ ‏{‏لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ‏}‏ أي يقولون لا تفرق‏.‏ وقرأ يعقوب لا يفرق بالياء على أن الفعل ل ‏{‏كُلٌّ‏}‏‏.‏ وقرئ «لا يفرقون» حملاً على معناه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين‏}‏ واحد في معنى الجمع لوقوعه في سياق النفي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين‏}‏ ولذلك دخل عليه بين، والمراد نفي الفرق بالتصديق والتكذيب ‏{‏وَقَالُواْ سَمِعْنَا‏}‏ أجبنا‏.‏ ‏{‏وَأَطَعْنَا‏}‏ أمرك‏.‏ ‏{‏غُفْرَانَكَ رَبَّنَا‏}‏ اغفر لنا غفرانك، أو نطلب غفرانك‏.‏ ‏{‏وَإِلَيْكَ المصير‏}‏ المرجع بعد الموت وهو إقرار منهم بالبعث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏286‏]‏

‏{‏لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏286‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ إلا ما تسعه قدرتها فضلاً ورحمةً، أو ما دون مدى طاقتها بحيث يتسع فيه طوقها ويتيسر عليها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر‏}‏ وهو يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال ولا يدل على امتناعه‏.‏ ‏{‏لَهَا مَا كَسَبَتْ‏}‏ من خير‏.‏ ‏{‏وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت‏}‏ من شر لا ينتفع بطاعتها ولا يتضرر بمعاصيها غيرها، وتخصيص الكسب بالخير والاكتساب بالشر لأن الاكتساب فيه احتمال والشر تشتهيه النفس وتنجذب إليه فكانت أجد في تحصيله وأعمل بخلاف الخير‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ أي لا تؤاخذنا بما أدى بنا إلى نسيان أو خطأ من تفريط وقلة مبالاة، أو بأنفسهما إذ لا تمتنع المؤاخذة بهما عقلاً فإن الذنوب كالسموم فكما أن تناولها يؤدي إلى الهلاك وإن كان خطأ فتعاطي الذنوب لا يبعد أن يفضي إلى العقاب وإن لم تكن عزيمة، لكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمةً وفضلاً فيجوز أن يدعو الإنسان به استدامة واعتداداً بالنعمة فيه‏.‏ ويؤيد ذلك مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» ‏{‏رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا‏}‏ عبأً ثقيلاً يأصر صاحبه، أي يحبسه في مكانه‏.‏ يريد به التكاليف الشاقة‏.‏ وقرئ ‏{‏وَلاَ تَحْمِلْ‏}‏ بالتشديد للمبالغة‏.‏ ‏{‏كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا‏}‏ حملاً مثل حملك إياه على ‏{‏مِن قَبْلِنَا‏}‏، أو مثل الذي حملته إياهم فيكون صفة لإِصراً، والمراد به ما كلف به بنو إسرائيل من قتل الأنفس، وقطع موضع النجاسة، وخمسين صلاة في اليوم والليلة، وصرف ربع المال للزكاة‏.‏ أو ما أصابهم من الشدائد والمحن‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ‏}‏ من البلاء والعقوبة، أو من التكاليف التي لا تفي بها الطاقة البشرية وهو يدل على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص منه، والتشديد ههنا لتعدية الفعل إلى المفعول الثاني‏.‏ ‏{‏واعف عَنَّا‏}‏ وامح ذنوبنا‏.‏ ‏{‏واغفر لَنَا‏}‏ واستر عيوبنا ولا تفضحنا بالمؤاخذة‏.‏ ‏{‏وارحمنا‏}‏ وتعطف بنا وتفضل علينا‏.‏ ‏{‏أَنتَ مولانا‏}‏ سيدنا‏.‏ ‏{‏فانصرنا عَلَى القوم الكافرين‏}‏ فإن من حق المولى أن ينصر مواليه على الأعداء، أو المراد به عامة الكفرة‏.‏

روي أنه عليه الصلاة والسلام لما دعا بهذه الدعوات قيل له عند كل كلمة فعلت‏.‏ وعنه عليه السلام «أنزل الله تعالى آيتين من كنوز الجنة‏.‏ كتبها الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة، من قرأهما بعد العشاء الأخيرة أجزأتاه عن قيام الليل» وعنه عليه الصلاة والسلام «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» وهو يرد قول من استكره أن يقال سورة البقرة، وقال‏:‏ ينبغي أن يقال السورة التي تذكر فيها البقرة، كما قال عليه الصلاة والسلام «السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها، فإن تعلمها بركة وتركها حسرة، ولن يستطيعها البطلة قيل‏:‏ يا رسول الله وما البطلة‏؟‏ قال‏:‏ السحرة»‏.‏