فصل: تفسير الآيات رقم (100- 102)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 102‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏100‏)‏ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏101‏)‏ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏102‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجن‏}‏‏:‏ ‏{‏جَعَلُواْ‏}‏‏:‏ بمعنى صَيَّروا، و‏{‏الجن‏}‏‏:‏ مفعولٌ، و‏{‏شُرَكَاءَ‏}‏ مفعولٌ ثانٍ،

قال * ص *‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاء الجن‏}‏‏:‏ ‏{‏جَعَلُواْ‏}‏‏:‏ بمعنى‏:‏ صَيَّروا، والجمهورُ على نَصْب «الجنِّ»، فقال ابن عطيَّة وغيره‏:‏ هو مفعولٌ أول لِ ‏{‏جَعَلُواْ‏}‏، و‏{‏شُرَكَاء‏}‏ الثاني، وجوَّزوا فيه أن يكون بدلاً من ‏{‏شُرَكَاء‏}‏، و‏{‏لِلَّهِ‏}‏ في موضع المفعولِ الثانيِ، و‏{‏شُرَكَاء‏}‏ الأول، وردَّه أبو حَيَّان؛ بأن البدل حينئذ لا يَصحُّ أن يحل محلَّ المبدل منه؛ إذ لو قلْتَ‏:‏ وجعلوا للَّه الجنَّ، لم يصحَّ، وشرط البدل أنْ يكون على نيَّة تكرار العامل؛ على الأشهر، أو معمولاً للعاملِ، في المُبْدَلِ منه؛ على قول، وهذا لا يصحُّ؛ كما ذكرنا، قلْتُ‏:‏ وفيه نظر‏.‏ انتهى، قلتُ‏:‏ وما قاله الشيخُ أبو حَيَّان عندي ظاهرٌ، وفي نظر الصَّفَاقُسِيِّ نَظَرٌ، وهذه الآية مشيرة إلى العادِلِينَ باللَّه تعالى، والقائلين‏:‏ إن الجنَّ تعلم الغيْبَ، العابدين للجنِّ، وكانت طوائفُ من العرب تفعَلُ ذلك، وتستجير بجِنِّ الوادِي في أسفارها ونحوِ هذا، وأما الذين خَرَقُوا البنينَ، فاليهودُ في ذكْر عُزَيْرٍ، والنصارى في ذكر المسيحِ، وأما ذاكرو البناتِ، فالعربُ الذين قالوا‏:‏ الملائكةُ بناتُ اللَّهِ، تعالى اللَّه عن قولهم؛ فكأنَّ الضمير في ‏{‏جَعَلُواْ‏}‏ و‏{‏خَرَقُوا‏}‏؛ لجميع الكفَّار؛ إذ فَعَلَ بعضُهم هذا، وبعضُهم هذا، وبنحو هذا فسَّر السُّدِّيُّ وابن زَيْد، وقرأ الجمهورُ‏:‏ «وَخلَقَهُمْ» بفتح اللام؛ على معنى‏:‏ وهو خلقهم، وفي مصحف ابنِ مسعود‏:‏ «وَهُوَ خَلَقَهُمْ»، والضمير في ‏{‏خَلْقَهُمْ‏}‏ يَحْتَمِلُ العودَةَ على الجاعلين، ويحتملُها على المجْعُولِينَ، وقرأ السبعة سوى نافعٍ‏:‏ «وَخَرَقُوا» بتخفيف الراء؛ بمعنى اختلقوا وافتروا، وقرأ نافع‏:‏ «وَخَرَّقُوا» بتشديد الراء؛ على المبالغة، وقوله‏:‏ ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ نصٌّ على قُبْح تقحُّم المَجْهَلة، وافتراءِ الباطلِ على عَمًى، و‏{‏سبحانه‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ تنزَّه عن وصفهم الفاسدِ المستحيلِ عليه تبارك وتعالى، و‏{‏بَدِيعُ‏}‏‏:‏ بمعنى‏:‏ مُبْدِع، و‏{‏أنى‏}‏‏:‏ بمعنى‏:‏ كيف، وأين، فهي استفهام في معنى التوقيفِ والتقريرِ، وهذه الآيةُ ردٌّ على الكفار بقياس الغائِبِ على الشاهد‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَخَلَقَ كُلَّ شَئ‏}‏ لفظٌ عامٌّ لكلِّ ما يجوز أن يدخل تحته، ولا يجوز أنْ يدخل تحته صفاتُ اللَّهِ تعالى، وكلامُهُ، فليس هو عموماً مخصَّصاً؛ على ما ذهب إليه قوم؛ لأن العموم المخصَّص هو أن يتناول العموم شيئاً، ثم يخرجه التخصيصُ، وهذا لم يتناولْ قطُّ هذه التي ذكرناها، وإنما هذا بمنزلة قَوْلِ الإنسان‏:‏ قَتَلْتُ كُلَّ فَارِسٍ، وأَفْحَمْتُ كُلَّ خَصْمٍ، فلم يدخلِ القائلُ قطُّ في هذا العمومِ الظاهرِ من لفظه، وأما قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ فهو عمومٌ على الإطلاق؛ لأنه سبحانه يعلم كلَّ شيء، لا ربَّ غيره، وباقي الآية بيِّن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 107‏]‏

‏{‏لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ‏(‏103‏)‏ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ‏(‏104‏)‏ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏105‏)‏ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏106‏)‏ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏107‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار‏}‏، أجمع أهلُ السنَّة على أن اللَّه عزَّ وجلَّ يرى يوم القيامة، يَرَاهُ المؤمنون، والوَجْه أنْ يبيَّن جواز ذلك عقلاً، ثم يستند إلى ورود السمعِ بوقوعِ ذلك الجائِزِ، واختصار تبْيِينِ ذلك‏:‏ أنْ يعتبر بعلمنا باللَّه عز وجل؛ فمن حيثُ جاز أنْ نعلمه؛ لا في مكانٍ، ولا متحيِّزاً، ولا مُقَابَلاً، ولم يتعلَّق علمنا بأكثر من الوجودِ، جاز أن نراه؛ غير مقابلٍ، ولا محاذًى، ولا مكيَّفاً، ولا محدَّداً، وكان الإمام أبو عبد اللَّه النحويُّ يقولُ‏:‏ مسألةُ العِلْمِ حَلَقَتْ لِحَى المُعْتَزِلة، ثم ورد الشرْعُ بذلك؛ كقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 22، 23‏]‏، وتعدية النَّظَر ب «إلى» إنما هو في كلام العربِ؛ لمعنى الرؤية لا لمعنى الانتظار؛ على ما ذهب إليه المعتزلة؛ ومنه قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما صحَّ عنه، وتواتر، وكثر نقله‏:‏ ‏"‏ إنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ ‏"‏، ونحوه من الأحاديث الصحيحةِ علَى اختلاف ألفاظها، واستحمل المعتزلةُ الرؤيةَ بآراءٍ مجرَّدةٍ، وتمسَّكوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار‏}‏ وانفصال أهل السنَّة عن تمسُّكهم؛ بأن الآية مخصُوصَةٌ في الدنيا، ورؤية الآخرة ثابتةٌ بأخبارها؛ وأيضاً فإنا نَفْرُقُ بين معنى الإدراك، ومعنى الرؤْيةِ، ونقول‏:‏ إنه عز وجل تراه الأبصار، ولا تدركه؛ وذلك أن الإدراك يتضمَّن الإحاطة بالشيء، والوصولَ إلى أعماقِهِ وحَوْزِهِ من جميع جهاتِهِ، وذلك كلُّه محالٌ في أوصافِ اللَّه عزَّ وجلَّ، والرؤيةُ لا تفتقرُ إلى أنْ يحيطَ الرائي بالمرئيِّ، ويبلغ غايته، وعلى هذا التأويل يترتَّب العَكْس في قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار‏}‏، ويحسن معناه، ونحو هذا رُوِيَ عن ابن عباسٍ وقتادة وعطيَّة العَوْفِيِّ؛ أنهم فَرَقُوا بين الرؤية والإدراك، و‏{‏اللطيف‏}‏‏:‏ المتلطِّف في خلقه واختراعه، والبَصَائِرُ‏:‏ جمع بَصِيرة، فكأنه قال‏:‏ قد جاءكم في القرآن والآياتِ طرائقُ إبصار الحقِّ، والبصيرةُ للقَلْبِ مستعارةٌ من إبصارِ العَيْن، والبصيرةُ أيضاً هي المُعْتَقَدُ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَمَنْ أَبْصَرَ‏}‏، و‏{‏مَنْ عَمِيَ‏}‏‏:‏ عبارةٌ مستعارةٌ فيمن اهتدى، ومَنْ ضَلَّ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ‏}‏ كان في أول الأمر وقَبْلَ ظهور الإسلام، ثم بعد ذلك كان صلى الله عليه وسلم حفيظاً على العَالَمِ، آخذاً لهم بالإسلام؛ أو السيفِ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وكذلك نُصَرِّفُ الأيات‏}‏ أي‏:‏ نردِّدها ونوضِّحها، وقرأ الجمهور‏:‏ «وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ» بكسر اللام؛ على أنها لامُ كَيْ، وهي على هذا لامُ الصيرورة، أي‏:‏ لَمَّا صار أمرهم إلى ذلك، وقرأ نافع وغيره‏:‏ «دَرَسْتَ»، أي‏:‏ يا محمد دَرَسْتَ في الكتبِ القديمةِ ما تجيئُنا به، وقرأ ابن كثير وغيره‏:‏ «دَارَسْتَ»، أي‏:‏ دارَسْتَ غيرك وناظرته، وقرأ ابن عامر‏:‏ «دَرَسَتْ» بإسناد الفعل إلى الآيات؛ كأنهم أشاروا إلى أنها تردَّدت على أسماعهم؛ حتى بَلِيَتْ في نفوسهم، وامحت، واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لِّيَقُولواْ‏}‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَلِنُبَيِّنَهُ‏}‏‏:‏ متعلِّقانِ بفعلِ متأخِّر، وتقديره‏:‏ «صَرَّفْنَاهَا»، وذهب بعض الكوفيِّين إلى أنَّ «لا»‏:‏ مضمرةٌ بعد «أَنِ» المقدَّرةِ في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِيَقُولُواْ‏}‏، فتقدير الكلام عندهم‏:‏ وَلأنْ لاَ يَقُولُوا دَرَسْتَ؛ كما أضمروها في قوله‏:‏

‏{‏يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهذا قَلِقٌ، ولا يجيز البصريُّون إضمار «لا» في موضعٍ من المواضعِ‏.‏

قلت‏:‏ ولكنه حسن جدًّا من جهة المعنى؛ إذ لا يعلمون أنه دَرَسَ أو دَارَسَ أحداً صلى الله عليه وسلم، فتأمَّله‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏اتبع مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إله إِلاَّ هُوَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذه الآيةُ فيها موادَعَةٌ، وهي منسوخةٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 110‏]‏

‏{‏وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏108‏)‏ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏109‏)‏ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ مخاطبةٌ للمؤمنين والنبيِّ صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس‏:‏ سببها أن كفَّار قريشٍ قالوا لأبي طَالِبٍ‏:‏ إما أنْ ينتهِيَ محمَّد وأصحابه عن سَبِّ آلهتنا والغَضِّ منها، وإما أنْ نَسُبَّ إلهه ونَهْجُوه، فنزلَتِ الآية، وحكْمُها على كلِّ حال باقٍ في الأمة، فلا يحلُّ لمسلمٍ أنْ يتعرَّض إلى ما يؤدِّي إلى سبِّ الإسلام أو النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو اللَّه عزَّ وجلَّ، وعبَّر عن الأصنامِ بالذين، وهي لا تَعْقِلُ، وذلك على معتقدِ الكَفَرة فيها، وفي هذه الآية ضَرْبٌ من الموادعة، و‏{‏عَدْواً‏}‏‏:‏ مصدرٌ من الاعتداء، و‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏‏:‏ بيانٌ لمعنى الاعتداءِ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ‏}‏‏:‏ إشارة إلى ما زَيَّنَ لهؤلاء من التمسُّك بأصنامهم، وتَزْيينُ اللَّه عَمَلَ الأممِ هو ما يخلقه سبحانه في النُّفُوس من المحبَّة للخَيْر والشَّرِّ، وتزيينُ الشيطان هو ما يَقْذِفُه في النفُوسِ من الوسوسة وخَطَراتِ السُّوء، وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ تتضمَّن وعداً جميلاً للمحسنين، ووعيداً ثقيلاً للمسيئين‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لَئِن جَاءتْهُمْ ءَايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا‏}‏‏:‏ اللام في قوله‏:‏ ‏{‏لَئِنْ‏}‏ لامُ توطئة للقَسَمِ، وأما المُتَلَقِّيَةُ للقَسَمِ فهي قوله‏:‏ ‏{‏لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا‏}‏، وآية‏:‏ يريد‏:‏ علامة، وحُكِيَ أنَّ الكفار لمَّا نزلَتْ‏:‏ ‏{‏إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السماء ءَايَةً فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 4‏]‏، أقسموا حينئذٍ؛ أنها إنْ نزلَتْ، آمنوا، فنزلَتْ هذه الآيةُ، وحُكِيَ أنهم اقترحُوا أنْ يعود الصفا ذَهَباً، وأقسموا على ذلك، فقام النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو في ذلك، فجاءه جِبْريلُ، فقال له‏:‏ إنْ شئْتَ أصْبَحَ ذَهَباً، فإن لم يؤمنُوا، هَلَكُوا عَنْ آخرهم معاجلَةً؛ كما فعل بالأمم المُقْتَرِحَةِ، وإن شئْتَ، أُخِّرُوا حتى يتوبَ تائبهم، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ بل حتَّى يتوبَ تائبهم، ونزلَتِ الآية‏.‏

قال ابنُ العربيِّ‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏جَهْدَ أيمانهم‏}‏، يعني‏:‏ غاية أيمانهم التي بلغها علمهم، وانتهت إليها قدرتهم‏.‏ انتهى من «الأحكام»‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ قل لهم، يا محمَّد؛ على جهة الردِّ والتخطئةِ‏:‏ إنما الآياتُ عند اللَّه وليْسَتْ عندي، فَتُقْتَرَحَ علَيَّ، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ‏}‏، قال مجاهدٌ‏:‏ وابن زيد‏:‏ المخاطَبُ بهذا الكفَّار، وقال الفَرَّاء وغيره‏:‏ المخاطَبُ بهذا المؤمنون، ‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ وما يُعْلِمُكم وما يُدْرِيكم، وقرأ ابن كثير وغيره‏:‏ «إنَّهَا» بكسر الألف، على القطعِ، واستئناف الأخبار، فمن قرأ «تُؤْمِنُونَ» بالتاء، وهي قراءة ابن عامر وحمزة؛ استقامت له المخاطبةُ، أولاً وآخراً، للكفَّار، ومن قرأ بالياء، وهي قراءةُ نافعٍ‏.‏ وغيره، فيحتمل أنْ يخاطب، أولاً وآخراً، المؤمنين، ويحتمل أن يخاطب بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ‏}‏ الكفَّار، ثم يستأنف الإخبار عنهم للمؤمنين، وقرأ نافعٌ وغيره‏:‏ «أَنَّهَا» بفتح الألف، فقيل‏:‏ إنَّ «لا» زائدةٌ في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏؛ كما زيدَتْ في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أهلكناها أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 95‏]‏، ودعا إلى التزامِ هذا حفْظُ المعنى، لأنها لو لم تكُنْ زائدةً، لعاد الكلام عذراً للكفَّار، وفَسَدَ المراد بالآية، وضَعَّف الزَّجَّاج وغيره زيادةَ «لا»، ومنهم مَنْ جعل ‏{‏أَنَّهَا‏}‏ بمعنى لَعَلَّها، وحكام سيبَوَيْهِ عن الخليلِ، وهذا التأويل لا يحتاجُ معه إلى تقديرِ زيادةٍ، «لا»، وحكى الكسائيُّ‏:‏ أنه كذلك في مُصْحف أُبَيٍّ «وَمَا أَدْرَاكُمْ لَعَلَّهَا إذَا جَاءَتْ»، ورجَّح أبو عليٍّ أنْ تكون «لا» زائدةً، وبسط شواهده في ذلك‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏، فالمعنى؛ على ما قالت فرقة‏:‏ ونقلِّب أفئدتهم وأبصارهم في النَّار، وفي لهبها في الآخرة، لمَّا لم يُؤْمِنُوا في الدنيا، ثم استأنف على هذا‏:‏ ونَذَرُهُمْ في الدنيا في طغيانهم يعمهون، وقالتْ فرقة‏:‏ إنما المراد بالتقْلِيبِ التَّحْويلُ عن الحَقِّ والهدى والتَّرْكُ في الضلالةِ والكُفْر، ومعنى الآية‏:‏ أن هؤلاء الذين أقسموا أنَّهم يؤمنُون إنْ جاءت آية نحْنُ نقلِّب أفئدتهم وأبصارهم؛ أنْ لو جاءت فلا يؤمنون بها؛ كما لم يؤمنوا أولَ مرَّة بما دُعُوا إلَيْه من عبادة اللَّه تعالى، فأخبر اللَّه عزَّ وجلَّ على هذا التأويل بصورة فعله بهم، وقالتْ فرقة‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏كَمَا‏}‏؛ في هذه الآية‏:‏ إنما هي بمعنى المجازاة، أي‏:‏ لما لم يؤمنوا أولَ مرَّة، نجازيهم، بأنْ نقلِّب أفئدتهم عن الهدى، ونطبع على قلوبهم، فكأنه قال‏:‏ ونحْنُ نقلِّب أفئدتهم وأبصارهم، جَزَاءً لِمَا لم يؤمنوا أول مرة بما دُعُوا إلَيْه من الشرع، والضميرُ في ‏{‏بِهِ‏}‏ يحتمل أنْ يعود على اللَّه عزَّ وجلَّ، أو على القرآن، أو على النبيِّ صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَنَذَرُهُمْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ نتركُهم، والطغيانُ‏:‏ التخبُّط في الشرِّ، والإفراطُ فيما يتناوله المرء، و‏{‏يَعْمَهُونَ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ يتردَّدون في حيرتهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 112‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ‏(‏111‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ أخبر سبحانه أنه لو أتى بجميع ما اقترحوه مِنْ إنزال ملائكةٍ وإحياءِ سلفهم حَسْبما اقترحه بعضُهم؛ أنْ يُحْشَرَ قُصَيٌّ وغيره، فيخبر بصدْقِ محمَّد عليه السلام، أو يحشر عليهم كلُّ شيء قُبُلاً ما آمنوا إلا بالمشيئةِ واللُّطْفِ الذي يخلقه ويَخْتَرِعُه سبحانه في نفْسِ مَنْ يشاء، لا ربَّ غيره‏.‏

وقرأ نافع وغيره‏:‏ «قبلاً»، ومعناه مواجهةً ومعاينةً؛ قاله ابن عباس وغيره، ونصبه علَى الحالِ، وقال المبرِّد‏:‏ معناه‏:‏ ناحيةً؛ كما تقول‏:‏ لِي قِبَلَ فلانٍ دَيْنٌ

قال * ع *‏:‏ فنصبه؛ على هذا‏:‏ هو على الظرفِ، وقرأ حمزة وغيره‏:‏ «قُبُلاً» بضمِّ القافِ والباءِ، واختلف في معناه، فقال بعضهم‏:‏ هو بمعنى «قِبَل» بكسر القافِ، أي‏:‏ مواجهةً؛ كما تقول‏:‏ قُبُل ودُبُر‏.‏

وقال الزَّجَّاج والفَرَّاء‏:‏ هو جَمْعُ قَبِيلٍ، وهو الكفيل، أي وحشرنا عليهم كلَّ شيء كُفَلاَءَ بصدْقِ محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقال مجاهد وغيره‏:‏ هو جمع قَبِيلٍ، أي‏:‏ صنفاً صنفاً، ونوعاً نوعاً، والنصب في هذا كلِّه على الحال، ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ‏}‏، أي‏:‏ يجهلون في اعتقادهم أن الآية تقتَضِي إيمانهم، ولا بُدَّ، فيقتضي اللفظ أنَّ الأقلَّ لا يجهل، فكان فيهم من يعتقد أنَّ الآية لو جاءت لم يُؤْمِنْ إلا مَنْ شاء اللَّه منه ذلك، قُلْتُ‏:‏ وقال مكِّيٌّ‏:‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ‏}‏، أي‏:‏ في مخالَفَتِكَ، وهم يعلمون أنَّك نبيٌّ صادقٌ فيما جئْتَهم به، وروي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُدَاعِبُ أَبَا سُفْيَانَ بَعْدَ الفَتْحِ بِمِخْصَرَةٍ فِي يَدِهِ، وَيَطْعُنُ بِهَا أَبَا سُفْيَانَ، فَإذَا أَحْرَقَتْهُ، قَالَ‏:‏ نَحِّ عَنِّي مِخْصَرَتَكَ، فَوَاللَّهِ، لَوْ أَسْلَمْتُ إلَيْكَ هَذَا الأَمْرَ، مَا اختلف عَلَيْكَ فِيهِ اثنان‏.‏ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَسْلَمْتَ لَهُ، قِتَالُكَ إيَّايَ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ‏؟‏ فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ‏:‏ تَظُنُّ أَنِّي كُنْتُ أُقَاتِلُكَ تَكْذِيباً مِنِّي لَكَ، وَاللَّهِ، مَا شَكَكْتُ فِي صَدْقِكَ قَطُّ، وَمَا كُنْتُ أُقَاتِلُكَ إلاَّ حَسَداً مِنِّي لَكَ، فَالحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَزَعَ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِي، فَكَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَشْتَهِي ذَلِكَ مِنْهُ، وَيَتَبَسَّمُ ‏"‏ انتهى من «الهداية»‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وكذلك جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شياطين الإنس والجن‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ تتضمَّن تسلية النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعَرْضَ القُدْوة عليه، أي‏:‏ هذا الذي امتحنت به، يا محمَّد، مِن الأعداء قد امتحن به غَيْرُك من الأنبياء؛ ليبتليَ اللَّه أُولِي العَزْم منهم، و‏{‏شياطين الإنس والجن‏}‏‏:‏ يريدُ‏:‏ المتمردِّين من النوعَيْن، و‏{‏يُوحِي‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ يلقيه في اختفاء، فهو كالمناجاةِ والسِّرَارِ، و‏{‏زُخْرُفَ القول‏}‏‏:‏ محسَّنه ومُزَيَّنه بالأباطيل؛ قاله عكرمة ومجاهد، والزخرفة؛ أكثر ما تستعملُ في الشرِّ والباطل، و‏{‏غُرُوراً‏}‏‏:‏ مصدرٌ، ومعناه يغرُّون به المضلَّلين، والضمير في ‏{‏فعَلُوهُ‏}‏ عائدٌ على اعتقادهم العداوةَ، ويحتملُ على «الوحْيِ» الذي تضمَّنه ‏{‏يُوحِي‏}‏‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ‏}‏‏:‏ لفظٌ يتضمَّن الأمر بالموادعة، وهو منسوخٌ؛ قال قتادة‏:‏ كُلُّ «ذَرْ» في كتاب اللَّه منسوخٌ بالقتالِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 115‏]‏

‏{‏وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ‏(‏113‏)‏ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏114‏)‏ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏115‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ولتصغى‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ لِتَمِيلَ، قال الفَخْر‏:‏ والضميرُ في قوله‏:‏ ‏{‏ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة‏}‏ يعود على زُخْرفِ القولِ، وكذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِيَرْضَوْهُ‏}‏ والاقترافُ‏:‏ معناه الاكتساب‏.‏

وقال الزجَّاج‏:‏ و‏{‏ليقترفوا‏}‏، أي‏:‏ يختلقوا ويَكْذِبوا، والأول أفصحُ‏.‏ انتهى‏.‏

والقُرَّاء على كسر اللامِ في الثلاثةِ الأفعالِ؛ على أنها لام كَيْ معطوفة على غُروراً و‏{‏حُكْماً‏}‏ أبلغُ من حاكِمٍ؛ إذ هي صيغةٌ للعَدْلِ من الحكام، والحاكم جَارٍ على الفعل، فقَدْ يقال للجائِرِ، و‏{‏مُفَصَّلاً‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ مزالُ الإشكال، والكتاب أولاً هو القرآن، وثانياً اسم جنسٍ للتوراةِ والإنجيلِ والزبورِ والصُّحُفِ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين‏}‏‏:‏ تثبيتٌ ومبالغةٌ وطَعْنٌ على الممترين‏.‏

قلتُ‏:‏ وقد تقدَّم التنبيهُ على أنه صلى الله عليه وسلم مَعْصُومٌ، وأنَّ الخطاب له، والمراد غيره ممَّنْ يْمُكِنُ منه الشَّكُّ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ‏{‏تَمَّتْ‏}‏؛ في هذا الموضع‏:‏ بمعنى‏:‏ استمرت وصحَّتْ في الأزل صدقاً وعدلاً، وليس بتمامٍ مِنْ نقصٍ، ومثله ما وقَع في كتب «السِّيرة» مِنْ قولهم‏:‏ وتَمَّ حَمْزَةُ على إسْلاَمِهِ، في الحديثِ مع أبي جهل، والكلماتُ‏:‏ ما أنزل على عباده، و‏{‏لاَ مُبَدِّلَ لكلماته‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ في معانيها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 118‏]‏

‏{‏وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏116‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏117‏)‏ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ المعنى‏:‏ فامض، يا محمَّد لما أُمِرْتَ به، وبلِّغ ما أُرْسِلْتَ به، فإنك إنْ تطع أكثر من في الأرض يضلُّوك، قال ابنُ عباس‏:‏ الأرض هنا‏:‏ الدنيا، وحُكِي أنَّ سبب هذه الآية أنَّ المشركين جادلوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم في أمر الذبائحِ، وقالوا‏:‏ أتأكُلُ ما تقتُلُ، وتترُكُ ما قَتَلَ اللَّه، فنزلَتِ الآية، ثم وصفهم تعالى بأنهم إنما يقتَدُون بطُنُونهم ويتَّبعون تخرُّصهم، والخَرْصُ‏:‏ الحَرْز والظنُّ، وهذه الآية خبر في ضمْنه وعيدٌ للضالِّين، ووعدٌ للمهتدين، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ إِن كُنتُم بآياته مُؤْمِنِينَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ القصْد بهذه الآية النهْيُ عما ذبح للنُّصُب وغيرها، وعن الميتة وأنواعها، ولا قصد في الآية إلى ما نَسِيَ المؤمن فيه التسميَة أو تعمَّدها بالترْكِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏119- 121‏]‏

‏{‏وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ‏(‏119‏)‏ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ‏(‏120‏)‏ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ‏(‏121‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ «ما»‏:‏ استفهام يتضمَّن التقريرَ، ‏{‏وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ‏}‏، أي‏:‏ فصَّل الحرامَ من الحلالِ، وانتزعه بالبيانِ، و«ما» في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ‏}‏، يريد بها‏:‏ مِنْ جميع ما حَرَّم؛ كالميتة وغيرها، وهي في موضع نَصْب بالاستثناء، والاستثناءُ منقطعٌ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ كَثِيراً‏}‏ يريد الكفرة المحادِّين المجادلين، ثم توعَّدهم سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين‏}‏‏.‏

وقوله جلَّت عظمته‏:‏ ‏{‏وَذَرُواْ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ‏}‏ نهْيٌ عامٌّ، والظاهرُ والباطنُ‏:‏ يستوفيان جميع المعاصي، وقال قوم‏:‏ الظاهر‏:‏ الأعمالُ، والباطنُ‏:‏ المعتَقَد، وهذا أيضاً حسن؛ لأنه عامٌّ، وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده، عن أبي أُمَامة، قال‏:‏ ‏"‏ سَأَلَ رجُلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ مَا الإثْمُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَا حَكَّ فِي صَدْرِكَ، فَدَعْهُ ‏"‏، وروى ابن المبارك أيضاً بسنده؛ أنَّ رجلاً قال‏:‏ ‏"‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَحِلُّ لِي مِمَّا يَحْرُمُ عَلَيَّ‏؟‏ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَدَّ عَلَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ يَسْكُتُ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَيْنَ السَّائِلُ فَقَالَ‏:‏ أَنَا ذَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ مَا أَنْكَرَ قَلْبُكَ، فَدَعْهُ ‏"‏ انتهى، وقد ذكرنا معناه مِنْ طرُقٍ في غير هذا الموضعِ، فأغنى عن إعادته‏.‏

ثم توعَّد تعالى كَسَبَةَ الإثمِ بالمجازاةِ على ما اكتسبوه من ذلك، والاقتراف‏:‏ الاكتساب‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ مقصد الآية النهْيُ عن الميتة؛ إذ هي جواب لقول المشركين‏:‏ تَتْرُكُونَ ما قَتَلَ اللَّهُ، ومع ذلك، فلفظها يعمُّ ما تُرِكَتِ التسميةُ عليه من ذبائِحِ الإسلام، وبهذا العمومِ تعلَّق ابن عمر وابنُ سيرينَ والشَّعْبِيُّ وغيرهم؛ فقالوا‏:‏ ما تُرِكَتِ التسميةُ علَيْه، لم يؤكَلْ، عمداً كان أونسياناً، وجمهورُ العلماء على أنه يؤكل إن كان تركُها نسياناً؛ بخلاف العَمْدِ، وقيل‏:‏ يؤكل، سواءٌ تركَتْ عمداً أو نسياناً، إلا أنْ يكون مستخِفًّا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الشياطين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال عكرمة‏:‏ هم مَردَةُ الإنس من مجوسِ فَارِس، وذلك أنهم كانوا يوالُونَ قُرَيْشاً على عداوة النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ‏}‏؛ من قريش ‏{‏ليجادلوكم‏}‏؛ بقولهم‏:‏ تأكلون ما قَتَلْتُمْ ولا تأكلون ما قَتَلَ اللَّه؛ فذلك من مخاطبتهمْ هو الوحْيُ، والأولياء هم قريشٌ، وقال ابن زَيْد وعبد اللَّه بن كثير‏:‏ بل الشياطينِ الجِنُّ، واللفظة على وجْهها، وأولياؤهم‏:‏ كَفَرة قريش، ووحْيُهم بالوسوسة، وعلى ألسنة الكُهَّان‏.‏

ثم نهى سبحانه عن طاعتهم بلفظ يتضمَّن الوعيدَ وعرض أصعب مثالٍ في أن يشبه المؤمن بالمُشْرك، قال ابن العربيِّ‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ‏}‏، سمَّى اللَّه تعالى ما يقع في القلوبِ في الإلهام وحياً، وهذا مما يطلقه شيوخُ المتصوِّفة، وينكره جُهَّال المتوسِّمين بالعلْمِ، ولم يعلموا أن الوحْيَ على ثمانيةِ أقسامٍ، وأن إطلاقه في جميعها جائزٌ في دِينِ اللَّه‏.‏ انتهى من «أحكام القرآن»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏122- 124‏]‏

‏{‏أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏122‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏123‏)‏ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فأحييناه‏}‏، لما تقدَّم ذكْر المؤمنين، وذكْر الكافرين، مثَّل سبحانه في الطائفتين بأنْ شَبَّه الذين آمنوا بَعْد كفرهم بأمواتٍ أُحْيُوا، هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وشَبَّه الكافرين وحَيْرَةَ جهلهم بقَوْمٍ في ظلمات يتردَّدون فيها، ولا يمكنهم الخروجُ منها؛ ليبيِّن عزَّ وجلَّ الفرق بيْنَ الطائفتَيْن، والبَوْن بين المنزلتَيْن، و‏{‏نُوراً‏}‏ أمكن ما يعني به الإيمان، قيل‏:‏ ويحتمل أن يراد به النُّور الذي يُؤْتَاهُ المؤمن يوم القيامة، ‏{‏وَجَعَلْنَا‏}‏؛ في هذه الآية‏:‏ بمعنى صَيَّرنا، فهي تتعدى إلى مفعولَيْن، الأول‏:‏ ‏{‏مُجْرِمِيهَا‏}‏، والثاني‏:‏ ‏{‏أكابر‏}‏، وفي الكلام؛ على هذا‏:‏ تقديمٌ وتأخير، وتقديره‏:‏ وكذلك جعلنا في كلِّ قريةٍ مجرميها أَكَابِرَ، وقدَّم الأهمَّ؛ إذ لعلَّة كِبْرهم أجرموا، ويصح أن يكون المفعولُ الأول‏:‏ «أكابر»، و«مجرميها»؛ مضافٌ، والمفعولُ الثانيِ‏:‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فِي كُلِّ قَرْيَةٍ‏}‏، و‏{‏لِيَمْكُرُواْ‏}‏‏:‏ نصب بلامِ الصيرورةِ؛ والأكابر‏:‏ جمع أكْبَر؛ كما الأفاضلُ جمع أفْضَل، قال الفَخْر‏:‏ وإنما جعل المجرمين أكابر؛ لأنهم لأجل رياستهم أقْدَرُ على الغَدْرِ والمَكْرِ ورُكُوبِ الباطلِ من غيرهم؛ ولأن كثرة المال والجاه يَحْمِلاَنِ الإنسان على المبالغةِ في حِفْظهما؛ وذلك الحِفْظُ لا يتمُّ إلا بجميع الأخلاق الذميمةِ؛ كالغَدْر والمَكْر والكَذِب والغِيبة والنَّميمة والأَيْمَان الكاذبة؛ ولو لم يكن للمالِ والجاهِ سوى أنَّ اللَّه تعالى حَكَم بأنه إنما وصفَ بهذه الأوصافِ الذميمةِ مَنْ كان له مالٌ وجاه، لكفى ذلك دليلاً على خَسَاسة المالِ والجَاهِ‏.‏ انتهى، وما ذكره من المال والجاه هو الأغلَبُ‏.‏

‏{‏ومايَشْعُرُونَ‏}‏، أي‏:‏ ما يعلمون‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ‏}‏، أي‏:‏ علامةٌ ودليلٌ على صحَّة الشرع، تشطَّطوا، وقالوا‏:‏ لَنْ نؤمن حتَّى يُفْلَقَ لنا البَحْرُ، ويحيى لنا الموتى، ونحْوَ ذلك، فردَّ اللَّه تعالى عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏ فيمن اصطفاه، وانتخبه، لا فيمن كَفَرَ، وجعل يتشطَّط على اللَّه سبحانه، قال الفَخْر‏:‏ قال المفسِّرون‏:‏ قال الوليدُ بْنُ المُغِيرَةِ‏:‏ لو كانتِ النبوَّة حقًّا، لكنْتُ أولى بها، قال الضَّحَّاك‏:‏ أراد كلُّ واحد من هؤلاء الكفرة أنْ يُخَصَّ بالوحْيِ والرسالةِ؛ كما أخبر عنهم سبحانه‏:‏ ‏{‏بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 52‏]‏ انتهى‏.‏

ثم توعَّد سبحانه بأن هؤلاء المجرمين الأكابر في الدنيا سيصيبهم عند اللَّه صَغَارٌ وذلَّة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏125- 129‏]‏

‏{‏فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏125‏)‏ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏126‏)‏ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏127‏)‏ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏128‏)‏ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏129‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ‏{‏مَنْ‏}‏‏:‏ شَرْطٌ، و‏{‏يَشْرَحْ‏}‏ جوابُ الشرط‏.‏

والآيةُ نصٌّ في أن اللَّه تعالى يريدُ هدى المؤمن، وضلالَ الكافر، وهذا عند جميعِ أهْل السنَّة بالإرادةِ القديمةِ التي هي صفةُ ذاته تبارك وتعالى، والهدى هنا‏:‏ هو خَلْق الإيمان في القَلْبِ، وشَرْحُ الصدرِ‏:‏ هو تسهيلُ الإيمان، وتحبيبُه، وإعدادُ القَلْبِ لقبولِهِ وتحصيلِهِ، والصَّدْر‏:‏ عبارةٌ عن القلب، وفي ‏{‏يَشْرَحْ‏}‏ ضمير يعود على اسم اللَّهِ عزَّ وجلَّ يَعْضُدُهُ اللفظ والمعنى، ولا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، والقولُ بأنه عائدٌ على «المَهْدِيِّ» قولٌ يتركَّب عليه مذهب القَدَريَّة في خَلْق الأعمال، ويجبُ أن يُعتقد ضَعْفُهُ، والحَذَرُ منه، ورُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أنه لَمَّا نزلَتْ هذه الآية، قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُشْرَحُ الصَّدْرُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ إذَا نَزَلَ النُّورُ فِي القَلْبِ، انشرح لَهُ الصَّدْرُ، وانفسح، قَالُوا‏:‏ وَهَلْ لِذَلِكَ عَلاَمَةٌ، يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمِ، الإنَابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرُورِ، والاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ، قَبْلَ المَوْتِ ‏"‏، والقول في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ‏}‏ كالقول في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ‏}‏، وقرأ حمزة وغيره‏:‏ «حَرَجاً» بفتح الراء، وروي أن عمر بن الخطاب ‏(‏رضي اللَّه عنه‏)‏ قرأها يوماً بفتح الراء، فقرأها له بعضُ الصَّحابة بكَسْر الراء، فقال‏:‏ ابغوني رجُلاً من كِنَانَةَ، وليكنْ رَاعياً، وليكُنْ من بني مدلج، فلما جاء، قال له‏:‏ يَا فتى، مَا الحَرِجَةُ عنْدَكُمْ‏؟‏ قال الشَّجَرَةُ تكُونُ بَيْن الأشجار لا تَصِلُ إليها راعيَةٌ ولا وَحْشِيَّة، قال عمر‏:‏ كذلِكَ قَلْبُ المنافق لا يَصِلُ إليه شَيْءٌ من الخير‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السماء‏}‏، أي‏:‏ كأنَّ هذا الضَّيِّقَ الصَّدْرِ متى حاول الإيمان أو فكَّر فيه، يجد صعوبته عليه، والعياذُ باللَّه، كصعوبةِ الصُّعود في السماء، قاله ابن جُرَيْج وغيره، و‏{‏فِي السماء‏}‏، يريد‏:‏ مِنْ سفل إلى علوٍ، وتحتمل الآية أنْ يكون التشبيهُ بالصاعدِ في عَقَبَةٍ كَئُود؛ كأنه يَصْعَدُ بها في الهواء، ويَصْعَدُ‏:‏ معناه‏:‏ يعلو، ويَصَّعَّدُ‏:‏ معناه‏:‏ يتكلَّف من ذلك ما يشقُّ عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك يَجْعَلُ الله الرجس‏}‏، أي‏:‏ وكما كان الهدى كله من اللَّه، والضلال بإرادته تعالى ومشيئته؛ كذلك يجعل اللَّه الرجْسَ، قال أهل اللغة‏:‏ الرجْسُ يأتي بمعنى العَذَابِ، ويأتي بمعنى النَّجَس‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهذا صراط رَبِّكَ مُسْتَقِيماً‏}‏ الآية‏:‏ هذا إشارة إلى القرآن والشرْعِ الذي جاء به نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ قاله ابن عباس، و‏{‏فَصَّلْنَا‏}‏، معناه‏:‏ بيَّنا وأوضحنا‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ‏}‏، أي‏:‏ للمؤمنين، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏لَهُمْ دَارُ السلام‏}‏ عائد عليهم، والسَّلام‏:‏ يتجه أن يكون اسما من أسماء اللَّه عزَّ وجلَّ، ويتجه أن يكون مصدراً بمعنى السلامة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عِندَ رَبِّهِمْ‏}‏ يريد في الآخرة بعد الحشر، ووليُّهم، أي‏:‏ وليُّ الإنعام عليهمْ، و‏{‏بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏، أي‏:‏ بسَبَبِ ما كانوا يُقَدِّمون من الخير، ويفعلون من الطاعة والبر‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يامعشر الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس‏}‏، والمعنى‏:‏ واذكر يَوْمَ، وفي الكلامِ حذفٌ، تقديره‏:‏ نقول‏:‏ يا معشر الجنِّ، وقوله‏:‏ ‏{‏قَدِ استكثرتم‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ أفرطتم، و‏{‏مِّنَ الإنس‏}‏‏:‏ يريد‏:‏ في إضلالهم وأغوائهم؛ قاله ابن عباس وغيره، وقال الكُفَّار من الإنْس، وهم أولياء الجنِّ الموبَّخين؛ على جهة الاعتذار عن الجنِّ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ‏}‏، أي‏:‏ انتفع؛ وذلك كاستعاذتهم بالجنِّ؛ إذ كان العربيُّ إذا نزل وادياً، ينادي‏:‏ يا رَبَّ الوادِي، إنِّي أستجيرُ بك في هذه الليلة، ثم يرى سلامته إنما هي بحفْظِ جَنِّيِّ ذلك الوادِي، ونحو ذلك، وبلوغُ الأجَلِ المؤجَّلِ‏:‏ هو الموتُ، وقيل‏:‏ هو الحشر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ النار مَثْوَاكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ إخبارٌ من اللَّه تعالى عما يقولُ لهم يوم القيامة إثْرَ كلامهم المتقدِّم، و‏{‏مَثْوَاكُمْ‏}‏، أي‏:‏ مَوْضِعُ ثَوَابكُمْ؛ كَمُقَامِكُمُ الذي هو مَوْضِعُ الإقامة؛ قاله الزَّجَّاج، والاستثناءُ في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا شَاءَ الله‏}‏ قالتْ فرقة‏:‏ «مَا» بمعنى «مَنْ»، فالمراد‏:‏ إلا مَنْ شاء اللَّه مِمَّنْ آمن في الدنيا بعد، إن كان مِنْ هؤلاء الكَفَرة، وقال الطبريُّ‏:‏ إن المستثنى هي المُدَّة التي بَيْنَ حشرهم إلى دخولهم النار، وقال الطبريُّ، عن ابن عباس‏:‏ إنه كان يتأوَّل في هذا الاستثناء؛ أنه مبلغ حالِ هؤلاء في علْمِ اللَّه، ثم أسند إليه أنه قال‏:‏ إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحَدٍ أنْ يحكم على اللَّه في خَلْقه لا يُنْزِلُهم جنَّةً ولا ناراً‏.‏

قال * ع *‏:‏ والإجماع على التخليد الأبديِّ في الكُفَّار، ولا يصحُّ هذا عن ابن عباس ‏(‏رضي اللَّه عنه‏)‏‏.‏

قال * ص *‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا شَاءَ الله‏}‏‏:‏ قيل‏:‏ استثناء منقطعٌ، أي‏:‏ لكِنْ ما شاء اللَّه مِنَ العذابِ الزائِدِ على النَّار، وقيل‏:‏ متصلٌ، واختلفوا في تقديره، فقيل‏:‏ هو استثناء مِنَ الأشخاصِ، وهم مَنْ آمن في الدنيا، ورُدَّ بأنه يختلف زمان المستثنى والمستثنى منه، فيكون منقطعاً لا متصلاً؛ لأنَّ مِنْ شرط المتصل اتحاد زمانَيِ المُخْرَجِ والمُخْرَجِ منه‏.‏ انتهى، وقيل غير هذا‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً‏}‏، قال قتادة‏:‏ معناه‏:‏ نجعل بعضهم وليَّ بعض في الكفر والظلم، وقال أيضاً‏:‏ المعنى نجعلُ بعضهم يَلِي بعضاً في دخول النار، وقال ابن زيد‏:‏ معناه‏:‏ نسلِّط بعض الظالمين على بعض، ونجعلهم أولياء النقمة منهم‏.‏

قال * ع *‏:‏ وقد حفظ هذا في استعمال الصحابة والتابعين؛ كقول ابن الزُّبَيْر‏:‏ أَلاَ إنَّ فَمَ الذِّبَّانِ قَتَلَ لَطِيمَ الشَّيْطَانِ؛ و‏{‏كذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 132‏]‏

‏{‏يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ‏(‏130‏)‏ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ‏(‏131‏)‏ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏132‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذا الكلامُ داخلٌ في القول يَوْمَ الحشر‏.‏

قال الفَخْر‏:‏ قال أهل اللغة‏:‏ المَعْشَر‏:‏ كلُّ جماعةٍ أَمْرهم واحدٌ، وتَحْصُلُ بينهم معاشرةٌ ومخالطةٌ، فالمَعْشَر‏:‏ المُعَاشِر‏.‏ انتهى، و‏{‏مِّنكُمْ‏}‏‏:‏ يعني‏:‏ مِنَ الإنس؛ قاله ابن جُرَيْج وغيره، وقال ابن عباس‏:‏ من الطائفَتَيْنِ، ولكنْ رسلُ الجِنِّ هم رُسُلِ الإنسِ، وهم النُّذُر، و‏{‏يَقُصُّونَ‏}‏‏:‏ من القَصَص، وقولهم‏:‏ ‏{‏شَهِدْنَا‏}‏‏:‏ إقرار منهم بالكفر‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا‏}‏‏:‏ التفاتة فصيحةٌ تضمَّنت أنَّ كفرهم كان بأذَمِّ الوجوه لهم، وهو الاغترار الذي لا يواقعه عاقلٌ، ويَحْتَمِلُ ‏{‏غَرَّتهم‏}‏؛ أنْ يكون بمعنى‏:‏ أشبعتهم وأطغتهم بحَلْوَائها؛ كما يقال‏:‏ غَرَّ الطَّائِرُ فَرْخَهُ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كافرين‏}‏‏:‏ الجمع بيْنَ هذه الآية وبَيْن الآي التي تقتضي إنكار المشركين الإشْرَاكَ هو إمَّا بأنها طوائفُ، وإما بأنها طائفةٌ واحدةٌ في مواطنَ شتى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ‏}‏، أي‏:‏ ذلك الأمر، و‏{‏القرى‏}‏‏:‏ المُدُن، والمراد‏:‏ أهل القرى، و‏{‏بِظُلْمٍ‏}‏‏:‏ يحتمل معنيين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لم يكُنْ سبحانه لِيُهْلِكَهم دون نِذَارة، فيكون ظُلْماً لهم، واللَّه تعالى ليس بظلاَّم للعبيد‏.‏

والآخر‏:‏ أنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ لم يُهْلِكْهم بظلمٍ واقعٍ منهم دون أنْ ينذرهم، وهذا هو البيِّن القويُّ، وذكر الطبري ‏(‏رحمه اللَّه‏)‏ التأويلين‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلِكُلٍّ درجات مِّمَّا عَمِلُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ إخبارٌ من اللَّه سبحانه أنَّ المؤمنين في الآخرة على درجاتٍ من التفاضُل بحَسَب أعمالهم، وتفضُّل المولى سبحانه عليهم، ولكنْ كلٌّ راضٍ بما أعطِيَ غايةَ الرضا، والمشركون أيضاً على دركاتٍ من العذابِ، قلتُ‏:‏ وظاهر الآية أن الجنَّ يثابون وينالُونَ الدَّرَجَاتِ والدَّرَكَاتِ، وقد ترجم البخاريُّ على ذلك، فقال‏:‏ ذِكْر الجنِّ وثَوَابِهِم وعقابِهِم؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏، قال الداووديُّ‏:‏ قال الضحاكُ‏:‏ مِنَ الجنِّ مَنْ يدخل الجنَّة، ويأكل ويشرب‏.‏ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏133- 135‏]‏

‏{‏وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ ‏(‏133‏)‏ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏134‏)‏ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏135‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَرَبُّكَ الغني ذُو الرحمة إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ‏}‏ الآيةُ متضمِّنةٌ وعيداً وتحذيراً من بطْشِ اللَّه عزَّ وجلَّ في التعجيل بذلك، وإمَّا مع المُهْلَة ومرورِ الجَدِيدَيْن؛ فذلك عادته سبحانه في الخَلْق بإذهاب خَلْقِ واستخلاف آخرين‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا تُوعَدُونَ لأَتٍ‏}‏، هو من الوعيدِ؛ بقرينة‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ‏}‏، أي‏:‏ وما أنتم بناجين هَرَباً فتعجزوا طالبكم، ثم أمر سبحانه نبيَّه عليه السلام أنْ يتوعدَّهم بقوله‏:‏ ‏{‏اعملوا‏}‏، أي‏:‏ فسترون عاقبةَ عملكم الفاسدِ، وصيغةُ «افعل» هنا‏:‏ هي بمعنى الوعيدِ والتهديدِ، و‏{‏على مَكَانَتِكُمْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ على حالِكُمْ وطريقَتِكم، و‏{‏عاقبة الدار‏}‏، أي‏:‏ مآل الآخرة، ويحتمل مآل الدنيا؛ بالنصر والظهورِ، ففي الآية إعلام بغَيْب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏136- 138‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏136‏)‏ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ‏(‏137‏)‏ وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏138‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ‏}‏، يعني‏:‏ مشركي العربِ الذين تقدَّم الردُّ عليهم من أول السورة، و‏{‏ذَرَأَ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ خلَق وأنشأَ وبَثَّ، وسبَبُ نزول هذه الآية أنَّ العرب كانَتْ تجعل من غَلاَّتها وزُرُوعها وثمارها وأنعامها جُزْءاً تسميِّه للَّه، وَجْزْءاً تسميه لأصنامها، وكانت عادتها التحفِّي والاهتبال بنَصيبِ الأصنام أكْثَرَ منها بنصيب اللَّهِ؛ إذ كانوا يعتقدون أن الأصنام بها فَقْر، وليس ذلك باللَّه سبحانه، فكانوا إذا جمعوا الزَّرْعَ، فهبَّت الريحُ، فحملَتْ مِنَ الذي للَّه إلى الذي لشركائِهِمْ، أقروه، وإذا حملَتْ من الذي لشركائِهِمْ إلى الذي للَّه، ردُّوه، وإذا لم يُصِيبُوا في نصيبِ شركائهم شيئاً، قالوا‏:‏ لا بُدَّ للآلهة مِنْ نفقةٍ، فيجعلون نصيب اللَّه تعالى في ذلك؛ قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهدٌ والسديُّ وغيرهم؛ أنهم كانوا يفعلُونَ هذا ونحوه من الفعْلِ؛ وكذلك في الأنعامِ؛ كانوا إذا أصابتهم السَّنَةُ، أكلوا نصيبَ اللَّه، وتحامَوْا نصيبَ شركائهم‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم شُرَكَاؤُهُمْ‏}‏، الكثير هنا يرادُ به مَنْ كان يَئِدُ مِنْ مشركي العرب، والشركاء؛ ههنا‏:‏ الشياطين الآمِرُونَ بذلك، المزيِّنون له، والحاملون عليه أيضاً من بني آدم، ومقصد الآية الذمُّ للوأْد والإنْحَناءُ على فَعَلَته، و‏{‏لِيُرْدُوهُمْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ ليهلكوهم من الردى، و‏{‏لِيَلْبِسُواْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ ليخلِّطلوا‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ الله مَا فَعَلُوهُ‏}‏ يقتضي أن لا شيء إلا بمشيئة اللَّه عزَّ وجلَّ، وفيها ردٌّ على من قال بأن المرء يَخْلُقُ أفعاله، وقوله‏:‏ ‏{‏فَذَرْهُمْ‏}‏‏:‏ وعيدٌ محضٌ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء بِزَعْمِهِمْ وأنعام حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا‏}‏ الآيةُ تتضمَّن ما شرعوه لأنفسهم والتزموه على جهة القربة كذباً منهم على اللَّه سبحانه، و‏{‏حِجْرٍ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ التحجيرُ، وهو المنعُ والتحريمُ، ‏{‏وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا‏}‏‏:‏ قال جماعةٌ من المفسِّرين‏:‏ إنَّهم كانت لهم سُنَّة في أنعامٍ مَّا؛ ألاَّ يُحَجُّ عليها، فكانَتْ تُرْكَبُ في كلِّ وجه إلا في الحَجِّ، وقالت فرقة‏:‏ بل ذلك في الذبائحِ، جعلوا لآلهتهم نصيباً منها لا يذكُرُونَ اللَّه على ذبحها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏139- 140‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏139‏)‏ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏140‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ كان مِنْ مذاهبهم الفاسدةِ في بَعْض الأنعامِ أنْ يحرِّموا ما وَلَدَتْ على نسائهم، ويخصِّصونه لذُكُورهم، ف ‏{‏أزواجنا‏}‏‏:‏ يراد به جماعةُ النساءِ التي هِيَ معدَّة أن تكون أزواجاً؛ قاله مجاهد، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن يَكُن مَّيْتَةً‏}‏، يعني‏:‏ أنه كان من سُنَّتهم أنَّ ما خرج من الأجنَّة ميتاً مِنْ تلك الأنعام الموقوفة، فهو حلالٌ للرجال والنساء جميعاً، وكذلك ما مات مِنَ الأنعامِ الموقوفةِ نَفْسِها، ثم أعقب تعالى بوعيدهم على ما وصفوا أنه من القربات‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَدْ خَسِرَ الذين قَتَلُواْ أولادهم سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ تتضمَّن التشنيع بسوء فعلهم، والتَّعْجيبَ مِنْ سوء حالهم فيما ذَكَر، قال عكرمة‏:‏ وكان الوَأْدُ في رَبِيعَةَ وفِي مُضَرَ،

قال * ع *‏:‏ وكان جمهورُ العرب لا يفعله، ثم إنَّ فاعليه كان منهم مَنْ يفعله خَوْفَ العَيْلَة والافتقار، وكان منهم من يفعله غَيْرَةً؛ مخافةَ السِّبَاءِ، و‏{‏قَدْ ضَلُّواْ‏}‏‏:‏ إخبارٌ عنهم بالحَيْرة، ‏{‏وَمَا كَانُواْ‏}‏‏:‏ يريد في هذه الفَعْلَةِ، ويحتمل أن يريدَ‏:‏ وما كانوا قبل ضلالهم بهذه الفَعْلة مهتدين، ولكنَّهم زادوا بهذه الفَعْلَةِ ضلالاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏141- 142‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏141‏)‏ وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏142‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذي أَنشَأَ جنات معروشات وَغَيْرَ معروشات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ تنبيهٌ على مواضع الاِعتبار، و‏{‏أَنشَأَ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ خلَقَ واخترع، و‏{‏معروشات‏}‏، قال ابنُ عَبَّاس‏:‏ ذلك في ثَمَر العِنَبِ، مِنْها‏:‏ ما عرش وسمك، ومنها‏:‏ ما لم يعرش، و‏{‏متشابها‏}‏‏:‏ يريد‏:‏ في المَنْظَر، و‏{‏غَيْرِ متشابه‏}‏‏:‏ في الطعم؛ قاله ابن جُرَيْج وغيره، وقوله‏:‏ ‏{‏كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ‏}‏‏:‏ نصٌّ في الإباحة، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ‏}‏‏:‏ قال ابن عباس وجماعة‏:‏ هي في الزكاة المفْرُوضة،

قال * ع *‏:‏ وهذا القولُ مُعْتَرَضٌ بأن السورة مكِّيَّةٌ؛ وبأنَّه لا زكاة فيما ذُكِرَ من الرُّمَّانِ، وما في معناه، وحكى الزجَّاج؛ أنَّ هذه الآية قيل فيها‏:‏ إنها نزلَتْ بالمدينة، وقال مجاهدٌ وغيره‏:‏ بل قوله‏:‏ ‏{‏وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ‏}‏‏:‏ نَدْبٌ إلى إعطاء حقوقٍ مِنَ المال غَيْر الزكاة، والسُّنَّة أن يُعْطِيَ الرجُلُ من زرعه عند الحصَادِ، وعِنْدَ الذَّرْوِ، وعنْدَ تكديسه في البَيْدَرِ، فإذا صفى وكال، أخرَجَ من ذلك الزكاةَ‏.‏

وقالتْ طائفة‏:‏ هذا حكم صدَقَاتِ المسلمين؛ حتى نزلَت الزكاةُ المفروضةُ، فنسخَتْها‏.‏

قال * ع *‏:‏ والنسخ غَيْرُ مترتِّب في هذه الآية، ولا تَعَارُضَ بينها وبيْن آية الزكاة، بل تَنْبَنِي هذه على النَّدْبِ، وتلك على الفرض‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين‏}‏ النهْيُ عن الإسراف‏:‏ إما للناس عن التمنُّع عن أدائها؛ لأن ذلك إسراف من الفعْلِ، وإما للولاة عن التشطُّط على الناسِ والإذاءة لهم، وكلٌّ قد قيلَ به في تأويل الآية‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً‏}‏ ‏{‏حَمُولَةً‏}‏‏:‏ عطْفٌ على ‏{‏جنات معروشات‏}‏‏.‏ التقدير‏:‏ وأنشأنا من الأنعامِ حمولةً، والحَمُولَةُ‏:‏ ما تحمل الأثقال مِنَ الإبل والبقر عنْدَ مَنْ عادته أنْ يحمل عليها، والفَرْش‏:‏ ما لا يحمل ثقلاً؛ كالغنم وصِغَار البَقَر والإبل، وهذا هو المرويُّ عن ابْنِ مسعود وابن عباس والحَسَن وغيرهم، ولا مَدْخَل في الآية لغَيْر الأنعام، وقوله‏:‏ ‏{‏كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله‏}‏‏:‏ نصُّ إباحةٍ، وإزالةُ مَا سَنَّه الكفرة من البَحِيرَة والسَّائبة وغير ذلك، ثم تابع النهْيَ عن تلك السُّنَن الآفكة؛ بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان‏}‏، وهي جمع خُطْوَة، أي‏:‏ لا تَمْشُوا في طريقه، قُلْتُ‏:‏ ولفظ البخاريِّ‏:‏ ‏{‏خطوات‏}‏ من الخَطْو، والمعنى‏:‏ آثاره‏.‏ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏143- 145‏]‏

‏{‏ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏143‏)‏ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏144‏)‏ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏145‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثمانية أزواج‏}‏، واختلف في نَصْبِها فقيل‏:‏ على البدل من «مَا» في قوله‏:‏ ‏{‏كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله‏}‏، وقيل‏:‏ على الحال، وقيل‏:‏ على البدل من قوله‏:‏ ‏{‏حَمُولَةً وَفَرْشاً‏}‏، وهذا أصوب الأقوال، وأجراها مع معنى الآيةِ، والزَّوْج‏:‏ الذكر، والزَّوْج الأنثى، فكل واحدٍ منهما زَوْجُ صاحبِهِ، وهي أربعة أنواعٍ؛ فتجيء ثمانية أزواجٍ، والضَّأْن‏:‏ جمع ضَائِنَة وضَائِن‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين‏}‏، هذا تقسيمٌ على الكفَّار؛ حتى يتبيَّن كذبهم على اللَّه، أي‏:‏ لا بد أن يكون حَرَّم الذكَرَيْن؛ فيلزمكم تحريمُ جميعِ الذُّكور، أو الأنثيين؛ فيلزمكم تحريمُ جميع الإناث، ‏{‏أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين‏}‏، فيلزمكم تحريمُ الجميعِ، وأنتم لم تلتزموا شيئاً يوجبه هذا التقسيمُ، وفي هذه السؤالاتِ تقريعٌ وتوبيخٌ، ثم أتْبَعَ تقريعَهُم بقوله‏:‏ ‏{‏نَبِّئُونِي‏}‏، أي‏:‏ أخبروني ‏{‏بِعِلْمٍ‏}‏، أي‏:‏ من جهة نبوَّة أو كتابٍ من كتب اللَّهِ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏، و‏{‏إن‏}‏ شرطٌ، وجوابه في ‏{‏نَبِّئُونِي‏}‏‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين قُلْ ءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ القولُ في هذه الآية في المعنى وترتيبِ التقسيمِ؛ كما تقدَّم، فكأنه قال‏:‏ أنتم الذين تدَّعون أن اللَّه حرم خصائصَ مِنْ هذه الأنعام لا يَخْلُو تحريمه مِنْ أن يكون في الذَّكَرَيْن أو في الأُنْثَيَيْن، أو فيما اشتملت عليه أرحامُ الأنثيين، لكنه لم يُحَرِّم لا هذا ولا هذا ولا هذا؛ فلم يَبْقَ إلا أنه لم يَقَعْ تحريمٌ، قال الفَخْر‏:‏ والصحيحُ عندي أن هذه الآية لم ترد على سبيل الاستدلال على بطلان قولهم، بل هي استفهام على سبيل الإنكار، وحاصلُ الكلام‏:‏ أنكم لا تعترفُون بنبوَّة أحد من الأنبياء، فكيف تثبتون هذه الأحكام المختلفة‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وصاكم الله بهذا‏}‏‏:‏ استفهامٌ؛ على سبيل التوبيخِ، و‏{‏شُهَدَاء‏}‏‏:‏ جمعُ شهيدٍ، وباقي الآية بيِّن‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لآ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذه الآيةُ نزلَتْ بمكَّة، ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقْتِ شيء محرَّم غير هذه الأشياء، ثم نزلَت، سورة المائدة بالمدينة، وزيدَ في المحرَّمات؛ كالخمر، وكأكل كل ذي نابٍ من السباعِ ممَّا وردَتْ به السُّنَّة‏.‏

قال * ع *‏:‏ ولفظة التحريمِ، إذا وردَتْ على لسان رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإنَّها صالحةٌ أن تنتهي بالشيء المذكور غَايَةَ المنْعِ والحظرِ، وصالحةٌ بحسب اللغة أنْ تقف دون الغاية في حَيِّز الكراهية ونحوها، فما اقترنت به قرينةُ التسليمِ من الصحابة المتأوِّلينِ، وأجمع عليه الكلُّ منهم، ولم تَضْطَرِبْ فيه ألفاظ الأحاديث، وأمضاه الناسُ وجب بالشَّرْعِ أنْ يكون تحريمه قَدْ وصَل الغايةَ من الحَظْر والمَنْع، ولحق بالخنزير والميتة، وهذه صفة تحريم الخمر، وما اقترنت به قرينةُ اضطراب ألفاظ الحديثِ، واختلف الأمة فيه، مع علمهم بالأحاديث؛ كقوله عليه السلام‏:‏

‏"‏ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ ‏"‏، وقد روي عنه «نهى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ»، ثم اختلفتِ الصحابة ومَنْ بعدهم في تحريمِ ذلك، فجاز لهذه الوجوه لِمَنْ ينظر أَنْ يحمل لفظ التحريم على المَنْع الذي هو على الكراهية ونحوها، وما اقترنت به قرينةُ التأويلِ؛ كتحريمه عليه السلام لُحُومَ الحُمُرِ الأنْسِيَّةِ، فتأول بعض الصحابة الحاضِرِينَ ذلك؛ لأنها لم تخمَّس، وتأوَّل بعضهم أن ذلك لئَلاَّ تفنى حمولةُ النَّاس، وتأول بعضهم التحريمَ المَحْضَ، وثبت في الأمة الاختلافُ في لَحْمها، فجائز لِمَنْ ينظر من العلماءِ أنْ يحمل لفظ التحريمِ بحسب اجتهاده وقياسه على كراهية أو نحوها، وباقي الآية بيِّن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏146- 150‏]‏

‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏146‏)‏ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏147‏)‏ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ‏(‏148‏)‏ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏149‏)‏ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ‏(‏150‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذا خبر مِنَ اللَّهِ سبحانه يتضمَّن تكذيبَ اليَهُودِ في قولهم‏:‏ «إن اللَّه لم يحرِّم علينا شيئاً، وإنما حرمنا على أنفسنا ما حَرَّمه إسرائيل على نفسه»، و‏{‏كُلَّ ذِي ظُفُرٍ‏}‏‏:‏ يراد به الإبلُ، والنَّعَام، والإوَزُّ ونحوه من الحيوانِ الذي هو غير مُنْفَرِجِ الأصابع، وله ظُفُر، وأخبرنا سبحانه في هذه الآية بتحريمِ الشحومِ عليهم، وهي الثُّرُوب وشَحْمُ الكلى، ومَا كان شحماً خالصاً خارجاً عن الاستثناء الذي في الآية، واختلف في تحريم ذلك على المسلمين من ذبائحهم، فعن مالكٍ‏:‏ كراهيةُ شحومهم من غير تحريمٍ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا‏}‏، يريد‏:‏ ما اختلط باللحْمِ في الظَّهْرِ والأجنابِ ونحوه، قال السُّدِّيُّ وأبو صالح‏:‏ الأَلْيَاتُ ممَّا حملَتْ ظهورهما، والحَوَايَا‏:‏ ما تحوى في البَطْن، واستدار، وهي المَصَارِينُ والحُشْوة ونحوها، وقال ابن عباس وغيره‏:‏ هي المَبَاعِر، وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ‏}‏، يريد‏:‏ في سائر الشخْصِ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ذلك جزيناهم بِبَغْيِهِمْ‏}‏ يقتضي أنَّ هذا التحريم إنما كان عقوبةً لهم على بغيهم، واستعصائهم على أنبيائهم‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وِإِنَّا لصادقون‏}‏‏:‏ إخبار يتضمَّن التعريضَ بكَذِبهم في قولهم‏:‏ ما حرَّم اللَّهُ علينا شيئاً‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِن كَذَّبُوكَ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ فيما أخبرْتَ به؛ أنَّ اللَّه حرَّمه عليهم، ‏{‏فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسعة‏}‏ أي في إمهاله؛ إذ لم يعاجلْكم بالعقوبةِ، مع شدَّة جُرْمِكم، ولكنْ لا تغترُّوا بسعة رحمته؛ فإن له بَأْساً لا يُرَدُّ عن القوم المجْرِمِين، إما في الدنيا وإما في الآخرة، وهذه الآية وما جانَسَها من آياتِ مكَّة مرتفعٌ حكْمُها بآية القتالِ، ثم أخبر سبحانه نبيَّه عليه السلام؛ بأن المشركين سيحتجُّون؛ لتصويبِ ما هُمْ عليه من شركهم وتديُّنهم‏:‏ بتحريمِ تلك الأشياءِ بإمهال اللَّه تعالى لهم، وتقريرِهِ حالهم، وأنه لو شاء غَيْرَ ذلك، لما تَرَكَهم على تلْك الحال، ولا حُجَّة لهم فيما ذكَروه؛ لأنه سبحانه شاء إشراكهم وأقدرهم على الاكتساب، ويلزمهم على احتجاجهم أنْ تكون كلُّ طريقةٍ وكلُّ نحلةٍ صواباً، إذْ كلها لو شاء اللَّه لَمْ تكُنْ، وفي الكلامِ حذفٌ يدلُّ عليه تناسُقُ الكلامِ؛ كأنه قال‏:‏ سيقول المشركون كذا وكذا، وليس في ذلك حُجَّة لهم، ولا شَيْء يقتضي تكذيبَكَ، ولكن، ‏{‏كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏؛ بنحو هذه الشبهة مِنْ ظَنِّهم أنَّ ترك اللَّه لهم دليلٌ على رضاه بحالهم، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا‏}‏‏:‏ وعيدٌ بيِّن‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ‏}‏‏.‏ أي‏:‏ مِنْ قِبَلِ اللَّه، ‏{‏قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة‏}‏، يريد البالغةَ غاية المَقْصِدِ في الأمر الذي يحتجُّ له، ثم أعلم سبحانه أنَّه لو شاء، لهدَى العالَم بأسْره، و‏{‏هَلُمَّ‏}‏‏:‏ معناها‏:‏ هَاتِ؛ وهي حينئذ متعدِّية، وقد تكون بمعنى‏:‏ «أَقْبِلْ»؛ فلا تتعدى، وبعضُ العرب يجعلها اسم فعْلٍ؛ ك «رُوَيْدَكَ»، وبعضهم يجعلها فِعْلاً، ومعنى الآية‏:‏ قل هاتوا شهداءكم الذين يشهدون أن اللَّه حرَّم ما زعمتم تحريمَهُ، ‏{‏فَإِن شَهِدُواْ‏}‏، أي‏:‏ فإن افترى لهم أحدٌ أو زَوَّرَ شهادةً أو خبراً عن نبوَّة ونَحوَ ذلك، فجَنِّبْ أنْتَ ذلك، ولا تَشْهد معهم، قلْتُ‏:‏ وهذه الآية والتي بعدها مِنْ نوعَ ما تقدَّم من أن الخطاب له صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره ممَّن يمكن ذلك منه، ‏{‏وَهُم بِرَبِهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏، أي‏:‏ يجعلون لَهُ أنداداً يسوُّونهم به، تعالَى اللَّه عن قولهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏151- 153‏]‏

‏{‏قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏151‏)‏ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏152‏)‏ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏153‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً‏}‏‏:‏ هذا أمر من اللَّه عزَّ وجلَّ لنبيِّه عليه السلام أنْ يدعو جميع الخَلْق إلى سماع تلاوة ما حَرَّم اللَّه بشَرْع الإسلام المبعوثِ به إلى الأسود والأحمر، و‏{‏مَا‏}‏ نصبَتْ بقوله‏:‏ ‏{‏اتل‏}‏، وهي بمعنى «الَّذِي»، و«أنْ»، في قوله‏:‏ ‏{‏أَلاَّ تُشْرِكُواْ‏}‏ في موضع رفع، التقدير‏:‏ الأمر أنْ، أو ذَاكَ أنْ، وقال كعب الأحبار‏:‏ هذه الآية هي مفتتحُ التوراة‏:‏ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏» إلى آخر الآيات، وقال ابن عباس‏:‏ هذه الآيات هي المحْكَمَات المذْكُورة في آل عمران، اجتمعت عليها شرائعُ الخَلْقِ، ولم تنسخ قطُّ في ملة، وقد قيل‏:‏ إنها العَشْر الكلمات المنزَّلة على موسى، والإملاق‏:‏ الفَقْر وعدَمُ المال؛ قاله ابن عباس وغيره، قال القُشَيْريُّ‏:‏ خوفُ الفقر قرينةُ الكفر، وحُسْنُ الثقةِ بالرَّبِّ سبحانه نتيجةُ الأَيمان‏.‏ انتهى من «التحبير»‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏، قال مجاهد‏:‏ ‏{‏التي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏‏:‏ التجارة فيه، والأَشُدُّ هنا‏:‏ الحَزْمُ والنظرُ في الأمور وحُسْنُ التصرُّف فيها، وليس هذا بالأَشُدِّ المقرونِ بالأربعين، بل هذا يكون مع صِغَر السِّنِّ في ناسٍ كثيرٍ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُواْ الكيل والميزان‏}‏‏:‏ أمر بالاعتدال‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏‏:‏ يقتضي أن هذه الأوامر إنما هِيَ فيما يقع تَحْتَ قُدْرة البَشَر من التحفُّظ والتحرُّز‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا‏}‏‏:‏ يتضمَّن الشهاداتِ والأحكامَ والتوسُّطَ بيْنَ الناسِ وغيْرَ ذلك، أي‏:‏ ولو كان ميل الحقِّ على قراباتكم‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه‏}‏‏:‏ الإشارة ب ‏{‏هذا‏}‏ هي إلى الشرعِ الذي جَاءَ بِهِ نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقال الطبريُّ‏:‏ الإشارة هي إلى هذه الوصايا التي تقدَّمت مِنْ قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ تَعَالَوْاْ‏}‏، وقال ابن مسعود‏:‏ إن اللَّه سبحانه جَعَلَ طريقه صراطاً مستقيماً طرفه محمَّد صلى الله عليه وسلم وشرعه، ونهايتُه الجنَّة، وتتشعَّب منه طُرُقٌ، فمن سَلَك الجادَّة نجا، ومن خَرَج إلى تلْكَ الطرُقِ أفْضَتْ به إلى النَّار، وقال أيضاً‏:‏ خطَّ لنا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْماً خطًّا، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ ‏"‏ ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِ ذَلِكَ وَعَنْ شِمَالِهِ خُطُوطاً، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ هَذِهِ سُبُلٌ على كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إلَيْهَا ‏"‏، ثم قرأ هذه الآية‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهذه الآية تعمُّ أهل الأهواء والبِدَع والشُّذُوذ في الفُرُوع وغير ذلك من أهل التعمُّق في الجَدَلِ، والخَوْضِ في الكلامِ، هذه كلُّها عُرْضَة للزَّلَل، ومَظِنَّة السوء المعتقَدِ، و‏{‏لَعَلَّكُمْ‏}‏ ترجٍّ بحسبنا، ومن حيث كانَتِ المحرَّمات الأوَلُ لا يقع فيها عاقلٌ قد نظر بعَقْله، جَاءَتِ العبارةُ‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏، والمحرَّمات الأُخَرُ شهواتٌ، وقد يقع فيها من العقلاءِ مَنْ لم يتذكَّر، وركوبُ الجادَّة الكاملة يتضمَّن فعل الفضائلِ، وتلك درجةُ التقوى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏154- 157‏]‏

‏{‏ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏154‏)‏ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏155‏)‏ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ‏(‏156‏)‏ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَامًا عَلَى الذي أَحْسَنَ‏}‏، ‏{‏ثُمَّ‏}‏؛ في هذه الآية‏:‏ إنما مُهْلَتها في ترتيب القولِ الذي أمر به نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ كأنه قال‏:‏ ثم ممَّا قضَيْناه أنَّا آتينا موسَى الكتاب؛ ويدعو إلى ذلك أن موسى عليه السلام متقدِّم بالزمانِ على نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم وتلاوته ما حرَّم اللَّه، و‏{‏الكتاب‏}‏‏:‏ التوراةُ، و‏{‏تَمَاماً‏}‏‏:‏ مصدر، وقوله‏:‏ ‏{‏عَلَى الذي أَحْسَنَ‏}‏‏:‏ مختلفٌ في معناه، فقالت فرقة‏:‏ ‏{‏الذي‏}‏ بمعنى الَّذِينَ و‏{‏أَحْسَنَ‏}‏‏:‏ فعلٌ ماضٍ صلَةُ «الذين»، وكأن الكلام‏:‏ وآتينا موسَى الكتابَ تفضُّلاً على المحسنين من أهْل ملَّته، وإتماماً للنعمة عليهم، وهذا تأويل مجاهد؛ ويؤيِّده ما في مصحف ابْنِ مسعود‏:‏ «تَمَاماً عَلَى الَّذِينَ أحْسَنُوا»، وقالت فرقة‏:‏ المعنى‏:‏ تماماً على ما أحْسَنَ هو مِنْ عبادة ربِّه، يعني‏:‏ موسى عليه السلام وهذا تأويل الربيع وقتادة، وقالت فرقة‏:‏ المعنى‏:‏ تماماً على الذي أحسن اللَّه فيه إلى عبادة من النبوُّات وسائر النعم؛ و‏{‏بِلَقَاء رَبِّهِمْ‏}‏، أي‏:‏ بالبعث‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ فاتبعوه واتقوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏، ‏{‏هذا‏}‏ إشارة إلى القرآن، و‏{‏مُّبَارَكٌ‏}‏‏:‏ وصف بما فيه من التوسُّعات وأنواعِ الخَيْرات، ومعناه‏:‏ مُنَمًّى خيره مُكثَّر، والبركةُ‏:‏ الزيادةُ والنموُّ، ‏{‏فاتبعوه‏}‏‏:‏ دعاء إلى الدِّين، ‏{‏واتقوا‏}‏‏:‏ أمر بالتقوَى العامَّة في جميع الأشياء؛ بقرينةِ قوله‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏، و«أنْ» في قوله‏:‏ ‏{‏أَن تَقُولُواْ‏}‏ في موضعِ نصبٍ، والعاملُ فيه‏:‏ ‏{‏أنزلناه‏}‏، والتقدير‏:‏ وهذا كتاب أنزلناه؛ كراهيةَ أنْ تقولوا، والطائفتان‏:‏ اليهودُ والنصارى بإجماع المتأوِّلين، والدِّرَاسَة‏:‏ القراءةُ والتعلُّم بها، ومعنى الآية‏:‏ إزالة الحجة مِنْ أيدي قُرَيْشٍ وسائرِ العربِ، ولما تقرَّر أن البينة قد جاءَتْهم، والحجَّةَ قد قامَتْ عليهم حَسُنَ بعد ذلك أنْ يقع التقريرُ بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بآيات الله وَصَدَفَ عَنْهَا‏}‏، أيْ‏:‏ حَادَ عنها، وزَاغَ، وأعرض، و‏{‏سَنَجْزِي الذين‏}‏‏:‏ وعيدٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏158‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ‏(‏158‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏، أي‏:‏ ينتظرُونَ، يعني‏:‏ العربَ المتقدِّمَ الآن ذكرهُم، و‏{‏الملائكة‏}‏ هنا‏:‏ هم ملائكة المَوْت الذين يصحبون عزرائيل المخْصُوصَ بقَبْض الأرواح، قاله مجاهد وقتادة وابنُ جْرَيْج‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ‏}‏، قال الطبريُّ‏:‏ لموقف الحساب يَوْمَ القيامة، وأسند ذلك إلى قتادة وجماعةٍ من المتأوِّلين، وقال الزَّجَّاج‏:‏ إن المراد‏:‏ «أو يأتي عذاب ربك»‏.‏

قال * ع *‏:‏ وعلى كلِّ تأويل فإنما هو بحذفِ مضافٍ، تقديره‏:‏ أمر ربك، أو بَطْش رَبِّك، أو حسابُ ربك، وإلا فالإتيانُ المفهومُ من اللغة مستحيلٌ على اللَّه تعالى؛ ألا ترى أن اللَّه عزَّ وجلَّ يقول‏:‏ ‏{‏فأتاهم الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 2‏]‏؛ فهذا إتيان قد وقع، وهو على المجازِ، وحذفِ المضافِ‏.‏

قال الفَخْر‏:‏ والجواب المعتمَدُ عليه هنا أنَّ هذا حكايةُ مذهب الكفَّار، واعتقادِهِم، فلا يفتقر إلى تأويله، وأجمعوا على أن المراد بهذه الآيات علاماتُ القيامةِ‏.‏ انتهى‏.‏

قلتُ‏:‏ وما ذكره الفَخْر من أن هذا حكايةُ مذهب الكفار هي دعوى تفتقر إلى دليلٍ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَو يَأْتِيَ بَعْضُ ءايات رَبِّكَ‏}‏، قال مجاهد وغيره هي إشارة إلى طلوعِ الشمْسِ من مغربها؛ بدليلِ الَّتي بعدها‏.‏

قال * ع *‏:‏ ويصحُّ أن يريد سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏أَو يَأْتِيَ بَعْضُ ءايات رَبِّكَ‏}‏ جميعَ ما يُقْطَعُ بوقوعه من أشراط الساعة، ثم خصَّص سبحانه بعد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءايات رَبِّكَ‏}‏ الآيةَ التي ترتفع التوبةُ معها، وقد بيَّنت الأحاديثُ الصِّحاح في البخاريِّ ومسلمٍ؛ أنها طلوع الشمس مِنْ مغربها، ومقْصِدُ الآية تهديدُ الكفَّار بأحوالٍ لا يخلُونَ منها، وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمانها خَيْراً‏}‏؛ يريد‏:‏ جميعَ أعمال البرِّ، وهذا الفَصْل هو للعُصَاة من المؤمنين؛ كما أن قوله‏:‏ ‏{‏لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ‏}‏ هو للكافرين، فالآية المشارُ إليها تقْطَعُ توبة الصِّنْفَيْنِ، قال الداووديُّ‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمانها خَيْراً‏}‏، يريد أن النفس المؤمنة التي ارتكبت الكبائر لا تُقْبَلُ منها التوبة يومئذ، وتكونُ في مشيئة اللَّه تعالى؛ كأن لم تَتُبْ، وعن عائشة ‏(‏رضي اللَّه عنها‏)‏‏:‏ إذا خرجَتْ أول الآيات، طُرِحَتِ الأقلامُ، وحُبِسَتِ الحَفَظَةُ، وشَهِدَتِ الأجساد على الأعمال‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلِ انتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ‏}‏‏:‏ لفظٌ يتضمَّن الوعيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏159- 161‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏159‏)‏ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏160‏)‏ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏161‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ‏}‏، قال ابن عباس وغيره‏:‏ المراد ب «الذين» اليهود والنصارى، أي‏:‏ فَرَّقوا دين إبراهيم، ووَصَفَهم ب «الشِّيَعِ»؛ إذ كل طائفة منهم لها فرق واختلافات، ففي الآية حضٌّ للمؤمنين على الائتلاف وتركِ الاختلافِ، وقال أبو الأحْوَص وأم سلمة زوجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ الآية في أهْل البدع والأهواء والفتنِ، ومَنْ جرى مَجْراهم من أمة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، أي‏:‏ فَرَّقوا دين الإسلام، وقرأ حمزة والكسائيُّ‏:‏ «فارَقُوا»، ومعناه‏:‏ تركوا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ لا تشفع لهم، ولا لهم بك تعلُّق، وهذا على الإطلاق في الكفَّار، وعلى جهة المبالغة في العُصَاة‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ وعيدٌ محضٌ، وقال السدي‏:‏ هذه آية لم يؤمر فيها بقتالٍ، فهي منسوخة بالقتال‏.‏

قال * ع *‏:‏ الآية خبر لا يدخله نسخٌ، ولكنها تضمَّنت بالمعنى أمراً بموادعةٍ، فيشبه أنْ يقال‏:‏ إن النسخ وقع في ذلك المعنَى الذي قد تقرَّر نسخه في آيات أخرى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال ابن مسعود وغيره‏:‏ ‏{‏الحسنة‏}‏ هنا‏:‏ «لا إله إلا اللَّه»، و‏{‏السيئة‏}‏‏:‏ الكفر‏.‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ وهذه هي الغاية من الطرفَيْنِ، وقالت فرقة‏:‏ ذلك لفظٌ عامٌّ في جميع الحسناتِ والسيئاتِ، وهذا هو الظاهر، وتقديرُ الآية‏:‏ مَنْ جاء بالحسنة، فله ثوابُ عَشْرِ أمثالها، وقرأ يعقوبُ وغيره‏:‏ «فَلَهُ عَشْرٌ» بالتنوين «أَمْثَالُهَا» بالرفع‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ في غاية الوضوحِ والبيانِ، و‏{‏قِيَماً‏}‏‏:‏ نعت للدِّين، ومعناه‏:‏ مستقيماً، و‏{‏مِلَّةَ‏}‏‏:‏ بدلٌ من الدِّين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏162- 165‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏162‏)‏ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏163‏)‏ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏164‏)‏ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏165‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ أمْر من اللَّه عز وجل لنبيِّه عليه السلام أنْ يعلن بأنَّ مقصده في صلاته، وطاعتِهِ من ذبيحة وغيرها، وتصرفَهُ مدَّةَ حياتِهِ، وحالهُ من إخلاصٍ وإيمانٍ عند مماته إنما هو للَّه عزَّ وجلَّ، وإرادةِ وجهه، وطَلَبِ رضاه، وفي إعلان النبيِّ صلى الله عليه وسلم بهذه المقالة ما يلزمُ المؤمنين التأسِّي به؛ حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قَصْدَ وجه اللَّه عزَّ وجلَّ، ويحتمل أن يريد بهذه المقالة؛ أنَّ صلاته ونسكه وحياته ومماته بِيَدِ اللَّه عزَّ وجلَّ، واللَّه يصرفه في جميع ذلك كَيْفَ شاء سبحانه، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏وبذلك أُمِرْتُ‏}‏؛ على هذا التأويل راجعاً إلى قوله‏:‏ ‏{‏لاَ شَرِيكَ لَهُ‏}‏ فقطْ، أو راجعاً إلى القول؛ وعلى التأويل الأول، يرجع إلى جميع ما ذُكِرَ من صلاة وغيرها، وقالتْ فرقة‏:‏ النُّسُكُ؛ في هذه الآية‏:‏ الذبائح‏.‏

قال * ع *‏:‏ ويُحَسِّن تخصيصَ الذبيحة بالذِّكْر في هذه الآية؛ أنها نازلةٌ قد تقدَّم ذكرها، والجَدَل فيها في السُّورة، وقالتْ فرقة‏:‏ النسك؛ في هذه الآية‏:‏ جميع أعمال الطاعاتِ؛ مِنْ قولك‏:‏ نَسَكَ فُلاَنٌ، فَهُوَ نَاسِكٌ؛ إذا تعبَّد، وقرأ السبعة سوى نافع‏:‏ «وَمَحْيَايَ» بفتح الياء، وقرأ نافع وحده‏:‏ «وَمَحْيَايْ» بسكون الياء، قال أبو حَيَّان‏:‏ وفيه جمع بين ساكنَيْنِ، وسوَّغ ذلك ما في الألفِ من المَدِّ القائمِ مَقَام الحركَة‏.‏ انتهى، وقوله‏:‏ «وأنا أول المسلمين»، أي‏:‏ من هذه الأمة‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ حكى النَّقَّاش أنه روي أنَّ الكُفَّار قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ارجع يا محمَّد إلى ديننا، واعبد آلهتنا، واترك ما أنت عليه، ونحن نتكفَّل لك بكلِّ تباعة تتوقَّعها في دُنْيَاك وآخرتك، فنزلَتْ هذه الآية، وهي استفهام يقتضي التوبيخَ لهم، و‏{‏أَبْغِي‏}‏‏:‏ معناه أَطْلُبْ؛ فكأنه قال‏:‏ أفَيَحْسُنُ عندكم أن أَطْلُبَ إلهاً غير اللَّه الذي هو رَبُّ كلِّ شيء، وما ذكَرْتُم من كَفَالَتِكُمْ باطلٌ ليس الأمرُ كما تظُنُّون، فلا تَكْسِبُ كلُّ نفس من الشَّرِّ والإثم إلا عليها وحْدها، ‏{‏وَلاَ تَزِرُ‏}‏، أي‏:‏ تحملُ ‏{‏وازرة‏}‏، أي‏:‏ حاملةٌ حمل أخرى وثقلها، و«الوِزْر»‏:‏ أصله الثقل، ثم استعمل في الإثم؛ تجوُّزاً واستعارة، ‏{‏ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ‏}‏‏:‏ تهديد ووعيد، وقوله‏:‏ ‏{‏فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏، أي‏:‏ في أمري في قول بعضكم‏:‏ هو سَاحِرٌ، وبعضكم‏:‏ هو شاعرٌ، إلى غير ذلك؛ قاله بعض المتأوِّلين، وهذا التأويلُ يَحْسُنُ في هذا الموضع، وإن كان اللفظ يعمُّ جميع أنواع الاختلافاتِ بَيْن الأديان والمِلَلِ والمَذَاهِب وغَيْرِ ذلك، و‏{‏خلائف‏}‏‏:‏ جمع خَلِيفَةِ، أي‏:‏ يخلف بعضُكم بعضاً؛ لأن مَنْ أتى خليفةٌ لِمَنْ مضى، وهذا يتصوَّر في جميع الأممِ وسائرِ أصنافِ الناسِ، ولكنه يحْسُنُ في أمة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يسمى أهلها بجملتهم خلائِف للأمم، وليس لهم من يخلفهم؛ إذ هم آخر الأمم، وعليهم تقومُ الساعة، وروى الحَسَنُ بْنُ أبي الحسن؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏"‏ تُوفونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏"‏، ويروى‏:‏ ‏"‏ أَنْتُمْ آخِرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ ‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات‏}‏‏:‏ لفظٌ عامٌّ في المالِ، والقوةِ، والجاهِ، وجودةِ النفُوسِ والأذهانِ، وغير ذلك، وكل ذلك إنما هو ليختبر اللَّه سبحانه الخلْقَ، فيَرَى المحْسِنَ من المُسيء، ولما أخبر اللَّه عزَّ وجلَّ بهذا، ففسح للنَّاس مَيْدَانَ العَمَل، وحضَّهم سبحانه على الاستباقِ إلى الخيراتِ، توعَّد ووَعَد؛ تخويفاً منه وترجيةً، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب‏}‏ إما بأخَذَاته في الدنيا، وإما بعقاب الآخرة، وحَسُنَ أنْ يوصف عقابُ الآخرة ب «سريع»؛ لما كان متحقّقاً مضمون الإتيانِ والوقوعِ، وكلُّ آت قريبٌ، ‏{‏وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏:‏ ترجيةٌ لمن أذنب وأراد التوبة، وهذا في كتاب اللَّه كثيرٌ، وهو اقتران الوعيد بالوعدِ؛ لطفاً من اللَّه سبحانه بعبادِهِ، اللَّهم اجعلنا مِمَّنْ شملته رحْمَتُكَ وغُفْرانُكَ، بجُودِكَ وإحسانِكَ، ومِنْ كلام الشيخ الوليِّ العارفِ أبي الحسن الشَّاذِلِيِّ ‏(‏رحمه اللَّه‏)‏ قَالَ‏:‏ من أراد ألاَّ يضره ذنْبٌ، فليقل‏:‏ ربِّ أعوذ بك من عذابِكَ يَوْمَ تبعث عبادَكَ، وأعوذ بك مِنْ عاجل العذابِ، ومِنْ سوء الحسابِ، فإنك لسريعُ الحِسَاب، وإنك لغفور رحيم، رَبِّ إني ظلمت نفسي ظُلْماً كثيراً، فاغفر لي وتُبْ عليَّ لا إله إلا أنت، سبحانك، إني كنْتُ من الظالمين‏.‏ انتهى، نسأل اللَّه أنْ ينفع به ناظِرَهُ وأنْ يجعله لنا ذخراً ونوراً يسعى بين أيدينا يوم لقائه، والحمدُ للَّه الَّذي بنعمته تتمُّ الصالحاتُ، وصلى اللَّه على سيدنا محمَّد وآله وصَحْبه وسلَّم تسلماً‏.‏