فصل: تفسير الآيات رقم (39- 41)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 41‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏39‏)‏ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ‏(‏40‏)‏ وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏:‏ لما كانت لفظة الكُفْرِ يشترك فيها كفر النعمِ، وكفر المعاصي، ولا يجب بهذا خلودٌ، بيَّن سبحانه أن الكفر هنا هو الشرك، بقوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَّبُواْ بآياتنا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ والآياتُ هنا يحتمل أن يريد بها المتلوَّة، ويحتمل أن يريد العلاماتِ المنصوبَةَ، والصُّحْبَةُ الاقتران بالشيْءِ في حالةٍ مَّا زَمَنًا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يابني إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ‏}‏‏:‏ إسْرَائِيلَ‏:‏ هو يَعْقُوبُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عليهم السلام وإِسْرَا‏:‏ هو بالعبرانية عبد، وإِيلُ‏:‏ اسم اللَّه تعالى، فمعناه عَبْدُ اللَّهِ، والذِّكْرُ في كلام العَرَبِ على أنحاء، وهذا منها ذكر القلب الذي هو ضدّ النسيان، والنعمة هنا اسم جنس، فهي مفردة بمعنى الجَمْعِ، قال ابن عَبَّاس، وجمهور العلماء‏:‏ الخِطَابُ لجميع بني إسرائيل في مدَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ‏}‏‏:‏ أمر وجوابه، وهذا العهد في قول جمهور العلماءِ عامٌّ في جميع أوامره سبحانه ونواهيه ووصاياه لهم، فيدخل في ذلك ذكر محمَّد صلى الله عليه وسلم الذي في التوراة، والرهبةُ يتضمَّن الأمر بها معنى التهديد، وأسند الترمذيُّ الحَكِيمُ في «نَوَادِرِ الأُصُولَ» له عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال‏:‏ ‏"‏ قَالَ رَبُّكُمْ سُبْحَانَهُ‏:‏ لاَ أَجْمَعُ على عَبْدِي خَوْفَيْنِ، وَلاَ أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ، فَمَنْ خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ فِي الآخِرَةِ، وَمَنْ أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا، أَخَفْتُهُ فِي الآخِرَةِ ‏"‏ انتهى في «التذكرة» للقرطبيِّ، ورواه ابن المبارك في «رَقَائِقِهِ» من طريق الحسن البصريِّ، وفيه‏:‏ قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏"‏ وَعِزَّتِي، لاَ أَجْمَعُ على عَبْدِي خَوْفَيْنِ، وَلاَ أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ؛ فَإذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَإذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ‏"‏ انتهى، ورواه أيضاً الترمذيُّ الحكيمُ في كتاب «خَتْمِ الأَوْلِيَاءِ» قال صاحب «الكَلِمِ الفَارِقِيَّةِ، والحِكَمِ الحقيقيَّة»‏:‏ «بقدر ما يدخل القلْبَ من التعظيم والحرمة تنبعثُ الجوارحُ في الطاعةِ والخدمة»‏.‏ انتهى‏.‏

و ‏{‏ءَامِنُواْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ صدِّقوا، و‏{‏مُصَدِّقاً‏}‏ نصبٌ على الحال من الضمير في ‏{‏أَنزَلْتُ‏}‏، و‏{‏مَا أَنزَلْتُ‏}‏ كنايةٌ عن القرآن، و‏{‏لِّمَا مَعَكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ التوراةَ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ‏}‏ هذا من مفهوم الخطاب الذي المذكورُ فيه والمسكوتُ عنه حكُمُهما واحدٌ، وَحُذِّرُوا البدارَ إلى الكفر به؛ إِذ على الأول كِفْلٌ من فعل المقتدى به، ونصب «أَوَّلَ» على خبر «كَانَ»‏.‏

* ع *‏:‏ وقد كان كَفَر قبلهم كفار قريشٍ، وإِنما معناه من أهل الكتاب؛ إِذ هم منظورٌ إِليهم في مثل هذا، واختلف في الضمير في «به»، فقيل‏:‏ يعود على محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ على القرآن، وقيل‏:‏ على التوراة، واختلف في الثمن الذي نُهُوا أن يشتروه بالآياتِ‏.‏

فقالتْ طائفةٌ‏:‏ إن الأحبار كانوا يُعلِّمُونَ دينَهم بالأجرة، فَنُهُوا عن ذلك، وفي كتبهم‏:‏ «عَلِّمْ مَجَّاناً؛ كَمَا عُلِّمْتَ مَجَّاناً»، أي‏:‏ باطلاً بغير أجرة‏.‏

وقيل‏:‏ كانتْ للأَحبار مأكلة يأكلونها على العِلْمِ‏.‏

وقال قوم‏:‏ إن الأحبار أخذوا رُشاً على تغييرِ صفَةِ محمَّد صلى الله عليه وسلم في التوراة، فنُهُوا عن ذلك‏.‏

وقال قوم‏:‏ معنى الآية‏:‏ ولا تشتروا بأوامري، ونواهِيَّ، وآياتي ثمناً قليلاً، يعني‏:‏ الدنيا ومدَّتها والعيش الذي هو نزْرٌ لا خَطَر له، وقد تقدَّم نظير قوله‏:‏ ‏{‏وإياي فاتقون‏}‏، وبيْنَ «اتقون»، و«ارهبون» فرق إن الرهبة مقرونٌ بها وعيدٌ بالغٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏

‏{‏وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏42‏)‏ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل‏}‏، أي‏:‏ لا تخلطوا، قال أبو العاليةِ‏:‏ قالت اليهود‏:‏ محمَّد نبيٌّ مبعوثٌ، لكن إلى غيرنا، فإقرارهم ببعثه حق، وقولهم‏:‏ إلى غيرنا باطلٌ، ‏{‏وَتَكْتُمُواْ الحق‏}‏، أي‏:‏ أمْرَ محمَّد صلى الله عليه وسلم، وفي هذهِ الألفاظ دليل على تغليظ الذنب على من وقع فيه، مع العلم به، وأنه أعصى من الجاهل، ‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ جملةٌ في موضع الحال‏.‏ قال‏:‏

* ص *‏:‏ ‏{‏وَتَكْتُمُواْ‏}‏ مجزومٌ معطوف على ‏{‏تَلْبِسُواْ‏}‏، والمعنى النهْيُ عن كلٍّ من الفعلين‏.‏ انتهى‏.‏

‏{‏وَأَقِيمُواْ الصلاة‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ أظهروا هيئَتَها، وأديموها بشروطها، والزكاة في هذه الآية هي المفروضة، وهي مأخوذة من النماء، وقيل‏:‏ من التطهير‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واركعوا مَعَ الراكعين‏}‏‏:‏ قيل‏:‏ إنما خص الركوع بالذِّكْر؛ لأن بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوعٌ‏.‏

* ت *‏:‏ وفي هذا القول نظرٌ، وقد قال تعالى في «مَرْيم»‏:‏ ‏{‏اسجدي واركعي‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 43‏]‏، وقالت فرقة‏:‏ إنما قال‏:‏ ‏{‏مَعَ‏}‏؛ لأن الأمر بالصلاة أولاً لم يقتضِ شهود الجماعة، فأمرهم بقوله‏:‏ ‏{‏مَعَ‏}‏ شهود الجماعة‏.‏

* ت *‏:‏ وهذا القول هو الذي عوَّل عليه * ع *‏:‏ في قصَّة مرْيَمَ عليها السلام، والركوع الانحناء بالشخْصِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 46‏]‏

‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏44‏)‏ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ‏(‏45‏)‏ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ‏}‏ خرج مخرج الاستفهامِ، ومعناه التوبيخُ، و«البِرُّ» يجمع وجوه الخيرِ والطاعاتِ، و‏{‏تَنسَوْنَ‏}‏ معناه تتركون أنفسكم‏.‏

قال ابنُ عَبَّاس‏:‏ كان الأحبار يأمرون أتباعهم ومقلِّديهم باتباع التوراة، وكانوا هم يخالفونَهَا في جَحْدهم منْها صفةَ محمَّد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ كان الأحبار إذا استرشدَهُمْ أحد من العرب في اتباع محمَّد صلى الله عليه وسلم، دلُّوه على ذلك، وهم لا يفعلونه‏.‏

* ت *‏:‏ وخرَّج الحافظُ أبو نُعَيْمٍ أحمد بن عبد اللَّه الأصبهانيُّ في كتاب «رِيَاضَةِ المُتَعَلِّمِينَ»؛ قال‏:‏ حدَّثنا أبو بكر بن خَلاَّد، حدَّثنا الحارث بن أبي أُسَامَةَ، حدثنا أبو النَّضْرِ، حدثنا محمَّد بن عبد اللَّه بن علي بن زيْدٍ عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه؛ قال‏:‏ قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالاً تُقْرَضُ أَلْسِنَتُهُمْ وَشِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، فَقُلْتُ‏:‏ يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَؤُلاَءِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الخُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ، وَيَنْسُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ ‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏

‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏‏:‏ قال مقاتل‏:‏ معناه‏:‏ على طلب الآخرة، وقيل‏:‏ استعينوا بالصبر على الطاعات، وعن الشهوات على نيلِ رضوانِ اللَّه سبحانه، وبالصلاةِ على نيل رضوانِ اللَّه، وحطِّ الذنوب، وعلى مصائب الدهْر أيضاً؛ ومنه الحديثُ‏:‏ ‏"‏ كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ، فَزِعَ إلَى الصَّلاَةِ ‏"‏، ومنْهُ ما روي أنَّ عبد اللَّه بن عباس نُعِيَ له أخوه قُثَمُ وهو في سفر، فاسترجع، وتنحى عن الطريق، وصلى، ثم انصرف إلى راحلته، وهو يقرأُ‏:‏ ‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏، وقال مجاهد‏:‏ الصبر في هذه الآية الصوْمُ، ومنه قيل لرمضانَ شهْرُ الصبْرِ، وخص الصوم والصلاة على هذا القول بالذكْرِ؛ لتناسبهما في أن الصيام يمنع الشهواتِ، ويزهِّد في الدنيا، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنْكَرِ، وتُخشِّع، ويقرأُ فيها القرآن الذي يذكِّر بالآخرة، وقال قومٌ‏:‏ الصبر على بابه، والصلاة الدعاءُ، وتجيء الآية على هذا القولِ مشْبِهةً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 45‏]‏ لأن الثبات هو الصبر، وذكر اللَّه هو الدعاءُ، وروى ابن المبارك في «رقائقه»؛ قال‏:‏ أخبرنا حمَّاد بن سَلَمَةَ عن ثابتٍ البُنَانِيِّ عن صِلَةَ بْنِ أشْيَمِ؛ قال‏:‏ قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَنْ صلى صَلاَةً، لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا شَيْئاً مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ شَيْئاً إِلاَّ أَعْطَاهُ إيَّاه ‏"‏ وأسند ابن المبارك عن عقبة بن عامر الجُهَنِيِّ؛ قال‏:‏ سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ مَنْ تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ صلى صَلاَةً غَيْرَ سَاهٍ، وَلاَ لاَهٍ، كُفِّرَ عَنْهُ مَا كَانَ قَبْلَهَا مِنْ شَيْءٍ ‏"‏

انتهي‏.‏

وهذان الحديثان يُبَيِّنَانِ ما جاء في «صحيح البخاريِّ» ‏"‏ عن عثمانَ حيثُ توضَّأَ ثلاثًا ثلاثاً، ثم قال‏:‏ قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئي هَذَا، ثُمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ‏"‏ انتهى‏.‏

والضمير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهَا‏}‏ قيل‏:‏ يعود على الصلاة، وقيل‏:‏ على العبادة التي تضمنها بالمعنى ذكر الصبْرِ والصلاة‏.‏ قال‏:‏

* ص *‏:‏ «وإنَّهَا» الضمير للصلاة، وهو القاعدة في أن ضمير الغائب لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل‏.‏ انتهى‏.‏

ثم ذكر أبو حَيَّان وجوهاً أُخَرَ نحو ما تقدَّم‏.‏

وكَبِيرَةٌ‏:‏ معناه‏:‏ ثقيلةٌ شاقَّة، والخَاشِعُونَ‏:‏ المتواضعون المخبتُونَ، والخشوعُ هيئة في النفْسِ يظهر منها على الجوارحِ سكُونٌ وتواضُعٌ‏.‏

و ‏{‏يَظُنُّونَ‏}‏ في هذه الآية، قال الجمهور‏:‏ معناه‏:‏ يوقنُونَ، والظنُّ في كلام العرب قاعدته الشَّكُّ مع ميلٍ إلى أحد معتقديه، وقد يقع موقع اليقين، لكنه لا يقع فيما قد خرج إلى الحِسِّ لا تقول العرب في رجل مَرْئِيٍّ أظن هذا إنسانًا، وإنَّمَا تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحس؛ كهذه الآية؛ وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 53‏]‏‏.‏

قال‏:‏ * ص *‏:‏ قلتُ‏:‏ وما ذكره ابن عَطيَّةَ هو معنى ما ذكره الزَّجَّاج في معانيه عن بعْض أهل العلْمِ؛ أنَّ الظنَّ يقع في معنى العلْمِ الذي لم تشاهدْه، وإِنْ كان قد قامت في نفسك حقيقتُهُ، قال‏:‏ وهذا مذهبٌ إلا أن أهل اللغة لم يذكروه، قال‏:‏ وسمعته من أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق القاضي، رواه عن زيد بن أسْلَمَ‏.‏ انتهى‏.‏

والمُلاَقَاةُ هي لِلثوابِ أو العقابِ، ويصحُّ أن تكون الملاقاة هنا بالرؤية التي عليها أهل السنة، وورد بها متواترُ الْحَدِيث‏.‏

و ‏{‏راجعون‏}‏‏:‏ قيل‏:‏ معناه‏:‏ بالموْتِ، وقيل‏:‏ بالحشرِ والخروجِ إلى الحساب والعرضِ، ويقوِّي هذا القوْل الآيةُ المتقدِّمة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 48‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏47‏)‏ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَابَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية قد تكرَّر هذا النداءُ والتذكيرُ بالنعمة، وفائدةُ ذلك أن الخطاب الأول يصحُّ أن يكون للمؤمنين، ويصح أن يكون للكافرين منهم، وهذا المتكرِّر إنما هو للكافرين؛ بدلالة ما بعده؛ وأيضاً‏:‏ فإن فيه تقويةَ التوقيف، وتأكيدَ الحضِّ على أيَادِي اللَّه سبحانه، وحُسْن خطابهم بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين‏}‏؛ لأن تفضيل آبائهم وأسلافهم تفضيلٌ لهم، وفي الكلام اتساعٌ، قال قتادة وغيره‏:‏ المعنى‏:‏ على عَالَمِ زمانِهِمُ الذي كانتْ فيه النبوءةُ المتكرِّرة، لأن اللَّه تعالى يقول لأمة محمَّد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏‏.‏

‏{‏واتقوا يَوْمًا‏}‏، أي‏:‏ عذابَ يوم، أو هولَ يومٍ؛ ويصح أن يكون يوماً نصبه على الظرف، و‏{‏لاَ تَجْزِي‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ لا تغني، وقال السُّدِّيُّ‏:‏ معناه‏:‏ لا تقضي؛ ويقوِّيه قوله‏:‏ ‏{‏شَيْئاً‏}‏، وفي الكلام حذفٌ، التقدير‏:‏ لا تجزي فيه، وفي مختصر الطبريِّ‏:‏ أي‏:‏ واتقوا يوماً لا تقضي نفْسٌ عن نفس شيئاً، ولا تغني غَنَاءً، وأَحَدُنَا اليومَ قد يقضي عن قريبه دَيْناً، وأما في الآخرة، فيسر المرء أن يترتَّب له على قريبه حقٌّ؛ لأنَّ القضاء هناك من الحسنات والسيئات؛ كما أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ انتهى‏.‏

والشَّفَاعَةُ‏:‏ مأخوذة من الشَّفْع، وهما الاثنان؛ لأن الشافع والمشفوع له شَفْعٌ؛ وسبب هذه الآية أنَّ بني إسرائيل قالوا‏:‏ «نَحْنُ أبناءُ أنبياءِ اللَّه، وسيشفع لنا آباؤنا»، وهذا إنما هو في حق الكافرين؛ للإجماع، وتواترِ الأحاديث بالشفاعة في المؤمنين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ‏}‏‏:‏ قال أبو العالية‏:‏ العَدْلُ‏:‏ الفدية‏.‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ عدل الشيْءِ هو الذي يساويه قيمةً وقدراً، وإن لم يكن من جنسه، والعِدْلُ؛ بكسر العين‏:‏ هو الذي يساوي الشيء من جنسه، وفي جرمه، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ هُمْ‏}‏ عائد على الكافرين الذين اقتضتهم الآيةُ، ويحتمل أن يعود على النفسينِ المتقدِّمِ ذكرُهما؛ لأن اثنين جمع، أو لأن النفس للجنْسِ، وهو جمع، وحصرت هذه الآية المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا؛ فإِن الواقع في شدة مع آدمي لا يتخلَّص إِلاَّ بأن يشفع له، أو ينصر، أو يفتدى‏.‏

* ت *‏:‏ أو يمنّ عليه إلا أنَّ الكافرَ ليس هو بأهلٍ لإنْ يمنّ عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏49‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ نجيناكم مِّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ خلَّصناكم، وَآل‏:‏ أصْلُهُ أَهْل؛ قلبت الهاء أَلِفاً؛ ولذلك رَدَّها التصغيرُ إلى الأصل، فقيل‏:‏ أُهَيْل، وآلُ الرجل قرابته، وشيعته، وأتباعه، وفرعونُ‏:‏ اسمٌ لكلِّ من ملك من العَمَالِقَةِ بمصْرَ، وفرعونُ موسى، قيل‏:‏ اسمه مُصْعَبُ بْنُ الرَّيَّان، وقال ابْن إِسحاق‏:‏ اسمه الوليدُ بْنُ مُصْعب، وروي أنه كان من أهل إِصْطَخْر وَرَدَ مِصْرَ، فاتفق له فيها المُلْك، وكان أصل كون بني إِسرائيل بمصر نزولَ إسرائيل بها زمَنَ ابنه يُوسُفَ عليهما السلام‏.‏

و ‏{‏يَسُومُونَكُمْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ يأخذونكم به، ويُلْزمُونَكم إياه، والجملة في موضعِ نصبٍ على الحال، أي‏:‏ سائمين لكم سُوءَ العذاب، وسوءُ العذاب أشدُّه وأصعبه، وكان فرعَوْنُ على ما روي قد رأى في منامه ناراً خرجَتْ من بيت المقْدِس، فأحرقت بيوتَ مِصْرَ، فأولت له رؤياه؛ أنَّ مولوداً من بني إسرائيل ينشأ، فيخرب مُلْكَ فرعون على يَدَيْهِ، وقال ابن إسْحَاق، وابن عبَّاس، وغيرهما‏:‏ إن الكهنة والمنجِّمين قالُوا لفرعون‏:‏ قد أظلك زمانُ مولودٍ من بني إسرائيل يخرب مُلْكَك‏.‏

و ‏{‏يُذَبِّحُونَ‏}‏ بدلٌ من‏:‏ «يَسُومُونَ»، ‏{‏وَفِي ذلكم‏}‏‏:‏ إشارةٌ إلى جملة الأمر، و‏{‏بَلاءٌ‏}‏ معناه‏:‏ امتحان واختبار، ويكون البلاء في الخير والشر‏.‏

وحكى الطبريُّ وغيره في كيفية نجاتهم أن موسى عليه السلام أوحي إلَيْه أن يسري من مصر ببني إِسرائيل، فأمرهم موسى أن يستعيروا الحُلِيَّ والمتاعَ من القِبْطِ، وأحل اللَّه ذلك لبني إسرائيل، ويروى أنهم فعلوا ذلك دون رَأْيِ موسى عليه السلام وهو الأشبه به، فسرى بهم موسى من أول الليْلِ، فأعلم بهم فرعون، فقال‏:‏ لا يتبعهم أحد حتى تصيح الدِّيَكَةُ، فلم يَصِحْ تلك الليلة بمصر دِيكٌ؛ حتى أصبح، وأمات اللَّه تلك الليلةَ كثيراً من أبناء القِبطِ، فاشتغلوا بالدَّفْنِ، وخرجوا في الأتباع مشرِّقين، وذهب موسى عليه السلام إلى ناحية البحر؛ حتى بلغه، وكانت عدة بني إِسرائيل نيِّفاً على ستِّمائة ألف، وكانت عِدَّة فرعون أَلْفَ ألْفٍ ومِائَتَي ألْفٍ، وحكي غير هذا مما اختصرته لقلَّة ثبوته، فلما لحق فرعَوْنُ موسى، ظن بنو إِسرائيل أنهم غير ناجين، فقال يُوشَعُ بْنُ نُونٍ لموسى‏:‏ أين أُمِرْتَ‏؟‏ فقال‏:‏ هكذا، وأشار إلى البحر، فركض يُوشَعُ فرسه؛ حتى بلغ الغَمْرَ، ثم رجع، فقال لموسى‏:‏ أين أُمِرْتَ‏؟‏ فواللَّه‏:‏ ما كَذَبْتَ، ولا كُذِبْتَ، فأشار إِلى البحر، وأوحى اللَّه تعالى إليه؛ أنِ اضرب بعصاك البَحْرَ، وأوحى اللَّه إلى البحر؛ أن انفرِقْ لموسى إذا ضربك، فبات البَحْرُ تلك الليلة يضطرب، فحينَ أصبَحَ، ضرَبَ موسى البحر، وكناه أبا خالد، فانفلَقَ، وكان ذلك في يَوْمِ عَاشُورَاءَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 54‏]‏

‏{‏وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏50‏)‏ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏51‏)‏ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏52‏)‏ وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏53‏)‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏54‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر‏}‏ الآية‏:‏ ‏{‏فَرَقْنَا‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ جعلْنَاه فِرَقاً، ومعنى ‏{‏بِكُمُ‏}‏ أي‏:‏ بسببكم، والبحر هو بحر القُلْزُمِ ولم يفرق البحر عَرْضاً من ضفَّة إلى ضفَّة، وإنما فرق من موضع إلى موضع آخر في ضفة واحدة، وكان ذلك الفرق يُقَرِّبُ موضع النجاة، ولا يلحق في البر إلا في أيام كثيرةٍ بسبب جبالٍ وأوغار حائلة، وقيل‏:‏ انفرق البحْرُ عَرْضاً على اثني عَشَرَ طَريِقاً؛ طريق لكلِّ سبط، فلما دخلوها، قالَتْ كل طائفة‏:‏ غَرِقَ أصحابنا، وجَزِعُوا، فقال موسى عليه السلام‏:‏ اللهمَّ، أَعِنِّي على أخلاقهِمُ السَّيئة، فأوْحَى اللَّه إِلَيْه أَنْ أدِرْ عصَاك على البَحْر، فأدارها، فصار في الماء فتوحٌ كالطَّاق، يرى بعضهم بعضًا، وجازوا وجبريلُ في ساقتهم على مَاذِيَانةٍ يحث بني إسرائيل، ويقول لآلِ فرْعَوْنَ‏:‏ مَهْلاً حتى يلحق آخركم أوَّلَكُم، فلما وصل فرعونُ إلى البحر، أراد الدخول، فنفر فرسُهُ، فتعرَّض له جبريلُ بالرَّمَكَة، فأتبعها الفرَسُ، ودخَل آلُ فرعَوْن، وميكائلُ يحثهم، فلما لم يبق إلا ميكائلُ في ساقتهم على الضّفَّة وحده، انطبَقَ البحْرُ عليهم، فغرقوا‏.‏

وَ ‏{‏تَنظُرُونَ‏}‏‏:‏ قيل‏:‏ معناه بأبصاركم لقُرْبِ بعضهم من بعضٍ، وقيل‏:‏ ببصائركم للاعتبار؛ لأنهم كانوا في شُغُلٍ‏.‏

قال الطبريُّ‏:‏ وفي أخبار القرآن على لسان النبيِّ صلى الله عليه وسلم بهذه المغيَّبات التي لم تكُنْ من علم العَرَب، ولا وقعتْ إلا في خفيِّ علْمِ بني إسرائيل دليلٌ واضحٌ عند بني إسرائيل، وقائمْ عليهم بنبوءة نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وموسَى‏:‏ اسم أَعْجميٌّ، قال ابن إِسحاقَ‏:‏ هو مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهرَ بْنِ قَاهَثَ بْنِ لاَوى بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الخَليِلِ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وخص الليالي بالذكْرِ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ واعدنا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً‏}‏ إِذ الليلة أقدم من اليوم، وقبله في الرتبة، ولذلك وقع بها التاريخُ، قال النقَّاش‏:‏ وفي ذلك إشارة إلى صلة الصوم؛ لأنه لو ذكر الأيام، لأَمْكَن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل، فلما نصَّ على الليالي، اقتضت قوة الكلام أنه عليه السلام واصل أربعين ليلةً بأيامها‏.‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ حدَّثني أبي رضي اللَّه عنه قال‏:‏ سمعتُ الشيخَ الزاهد الإِمام الواعظَ أبا الفضل بْنَ الجوهَرِيِّ رحمه اللَّه يعظُ النَّاسَ بهذا المعنى في الخلوة باللَّه سبحانه، والدنوِّ منه في الصلاة، ونحوه، وأنَّ ذلك يشغل عن كل طعامٍ وشرابٍ، ويقول‏:‏ أين حال موسى في القرب من اللَّه، ووصالِ ثمانين من الدهْرِ من قوله، حين سار إلى الخَضِرِ لفتاه في بعض يوم‏:‏ ‏{‏آتِنَا غَدَاءَنَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 62‏]‏‏.‏

* ت *‏:‏ وأيضاً في الأثر أنَّ موسى لم يصبه، أو لم يشك ما شكاه من النَّصَب؛ حتى جاوز الموضع الذي وعد فيه لقاء الخَضِرِ عليهما السلام‏.‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ وكل المفسِّرين على أن الأربعين كلَّها ميعاد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اتخذتم العجل‏}‏ أي‏:‏ إلهاً، والضمير في ‏{‏بَعْدِهِ‏}‏ يعود على موسى، وقيل‏:‏ على انطلاقه للتكليمِ؛ إذ المواعدة تقتضيه، وقصص هذه الآية أن موسى عليه السلام، لما خرج ببني إسرائيل من مصْرَ، قال لهم‏:‏ إن اللَّه تعالى سينجِّيكم من آل فرعَوْنَ، وينفلكم حُلِيَّهُمْ، ويروى أن استعارتهم للحُلِيِّ كانت بغَيْرِ إذن موسى عليه السلام وهو الأشبه به، ويؤيِّده ما في سورة طه في قولهم لموسى‏:‏ ‏{‏ولكنا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 87‏]‏ فظاهرُهُ أنهم أخبروه بما لم يتقدَّم له به شعورٌ، ثم قال لهم موسى‏:‏ إنه سينزل اللَّه عليَّ كتابًا فيه التحليلُ والتحريمُ والهدى لكم، فلما جازوا البحر، طلبوا موسى بما قال لهم من أمر الكتاب، فخرج لميعاد ربه وحده، وقد أعلمهم بالأربعين ليلةً، فعدوا عشرين يوماً بعشرين ليلة، وقالوا‏:‏ هذه أربعون من الدهر، وقد أَخْلَفَنَا المَوْعِدَ، وبدا تعنُّتهم وخلافُهم، وكان السامريُّ رجلاً من بني إسرائيل يسمى موسى بْنَ ظفر، ويقال‏:‏ إِنه ابْنُ خالِ موسى، وقيل‏:‏ لم يكن من بني إسرائيل، بل كان غريباً فيهم، والأول أصحُّ، وكان قد عرف جبريلَ عليه السلام وقت عبورهم، قالت طائفة‏:‏ أنكَرَ هَيْئَتَهُ، فعرف أنه ملَكٌ، وقالت طائفة‏:‏ كانت أم السامريِّ ولدته عام الذبْحِ، فجعلته في غَارٍ وأطبقت عليه، فكان جبريل عليه السلام يَغْذُوهُ بأصبع نفسه، فيجد في أصبع لَبَناً وفي أصبع عَسَلاً، وفي أصبع سَمْناً، فلما رآه وقت جواز البحْرِ، عرفه، فأخذ من تحت حافرِ فرسه قبضةَ ترابٍ، وألقى في روعِهِ؛ أنه لن يلقيها على شيء، ويقول له‏:‏ كن كذا إلا كان، فَلَمَّا خرج موسى لميعاده، قال هارون لبنِي إسرائيل‏:‏ إِن ذلك الحُلِيَّ والمتاعَ الذي استعرتم من القِبْط لا يحلُّ لكم، فَجِيئوا به؛ حتى تأكله النار التي كانت العادةُ أن تنزل على القرابين‏.‏

وقيل‏:‏ بل أوقد لهم ناراً، وأمرهم بطرح جميعِ ذلك فيها، فجعلوا يطرحون‏.‏

وقيل‏:‏ بل أمرهم أن يضعوه في حُفْرة دُون نار حتى يجيء موسى، وروي، وهو الأصحُّ الأكثر؛ أنه ألقى الناسُ الحُلِيَّ في حفرة، أو نحوِها، وجاء السامريُّ، فطرح القبضة، وقال‏:‏ كن عجلاً‏.‏

وقيل‏:‏ إن السامريَّ كان في أصله من قوم يعبدون البقر، وكان يعجبه ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ بل كانت بنو إسرائيل قد مرَّت مع موسى على قوم يعبدون البَقَرَ‏.‏

* ت *‏:‏ والذي في القرآن‏:‏ ‏{‏يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 138‏]‏ قيل‏:‏ كانت على صور البقر، ‏{‏فَقَالُواْ يا مُوسَى اجعل لَنَا إلها كَمَا لَهُمْ ءالِهَة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 138‏]‏ فوعاها السامريُّ، وعلم أن من تلك الجهة يفتنون، ففتنت بنو إسرائيل بالعجل، وظلَّت منهم طائفةٌ يعبدونه، فاعتزلهم هارونُ بمن تبعه، فجاء موسى من ميعاده، فغضب حسبما يأتي قصصه في مواضعه، إن شاء اللَّه تعالى، ثم أوحى اللَّه إِليه؛ أنه لن يتوب على بني إِسرائيل؛ حتى يقتلوا أنفسهم، ففعلَتْ بنو إِسرائيل ذلك، فروي أنهم لبسوا السلاح مَنْ عَبَدَ منهم، ومن لم يَعْبُد، وألقى اللَّه عليهم الظلام، فقتل بعضهم بعضاً، يقتل الأب ابنه، والأخ أخاه، فلما استحر فيهم القتْلُ، وبلغ سبعين ألفاً، عفا اللَّه عنهم، وجعل من مات شهيداً، وتاب على البقية؛ فذلك قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم‏}‏ وقال بعض المفسِّرين‏:‏ وقف الذين عبدوا العجْلَ صفًّا، ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح، فقتلوهم، وقالت طائفة‏:‏ جلس الذين عبدوا بالأفْنِيَةِ، وخرج يُوشَعُ بنُ نُونٍ ينادي‏:‏ ملعونٌ مَن حَلَّ حُبْوَتَهُ، وجعل الذين لم يعبدوه يقتلونهم، وموسى صلى الله عليه وسلم في خلالِ ذلك يدعو لقومه، ويَرْغَبُ في العفو عنهم، وإِنما عوقب الذين لم يعبدوا بقتل أنفسهم على أحد الأقوال؛ لأنهم لم يغيِّروا المُنْكَرَ حين عُبِدَ العِجْلُ‏.‏

‏{‏وَأَنتُمْ ظالمون‏}‏ ابتداءٌ وخبرٌ في موضع الحالِ، والعفو تغطيةُ الأثر، وإِذهابُ الحالِ الأول من الذنب أو غيره‏.‏

* ت *‏:‏ ومنه الحديثُ‏:‏ «فَجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تعفي أَثَرَهَا»‏.‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ ولا يستعمل العفو بمعنى الصفح إلا في الذَّنْبِ، والكتابُ هنا هو التوراةُ بإجماع، واختلف في الفُرْقَانِ هنا، فقال الزجَّاج وغيره‏:‏ هو التوراة أيضاً؛ كرر المعنى؛ لاختلاف اللفظ، وقال آخرون‏:‏ الكتاب التوراةُ، والفرقانُ سائر الآيات التي أوتي موسى عليه السلام؛ لأنها فَرَقَتْ بين الحق والباطل، واختلف هل بقي العجْلُ مِنْ ذَهَب‏؟‏ فقال ذلك الجمهور، وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ صار لحماً ودماً، والأول أصحُّ‏.‏

* ت *‏:‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتُوبُواْ إلى بَارِئِكُمْ‏}‏ عن أبي العالية‏:‏ إلى خالقكم؛ مِنْ بَرَأَ اللَّهُ الخَلْقَ، أي‏:‏ خلقهم، فالبريئة‏:‏ فَعِيلَةٌ بمعنى مفعولة‏.‏ انتهى من «مختصر أبي عبد اللَّه اللَّخْميِّ النحوي للطبريِّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 57‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏55‏)‏ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏56‏)‏ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى‏}‏‏:‏ يريد السبعينَ الذين اختارهم موسى، واختلف في وقت اختيارهمْ‏.‏

فحكى أكثر المفسِّرين؛ أن ذلك بعد عبادة العجل، فاختارهم؛ ليستغفِروا لبني إسرائيل، وحكى النقَّاش وغيره؛ أنه اختارهم حين خَرَجَ من البحْرِ، وطلب بالميعاد، والأول أصح‏.‏

وقصة السبعين أنَّ موسى عليه السلام، لما رجع من تكليم اللَّه تعالى، ووجد العجْلَ قد عُبِدَ، قالتْ له طائفة ممَّن لم يعبد العجلَ‏:‏ نحن لم نكْفُرْ، ونحن أصحابك، ولكنْ أسمعْنَا كلام ربِّك، فأوحى اللَّه إِليه؛ أن اختَرْ منهم سَبْعِينَ، فلم يجد إلا ستِّين، فأوحى إليه أن اختر من الشباب عَشَرةً، ففعل، فأصبحوا شيوخاً، وكان قد اختار ستَّةً من كلِّ سبط، فزادوا اثنين على السبعين، فتشاحُّوا فيمن يتأخَّر، فأُوحِيَ إِليه أنَّ من تأخَّر له أجْرُ مَنْ مضى، فتأخَّر يوشَعُ بْنُ نُونٍ، وكَالُوثُ بْنُ يُوفَنَّا، وذهب موسى عليه السلام بالسبْعين، بعد أن أمرهم أن يتجنَّبوا النساء ثلاثاً، ويغتسلوا في اليوم الثالث، واستخلف هارون على قومه، ومضى حتى أتى الجَبَلَ، فألقي عليهم الغمام، قال النَّقَّاش‏:‏ غشيتهم سحابة، وحِيلَ بينهم وبين موسى بالنور، فوقعوا سجوداً، قال السُّدِّيُّ وغيره‏:‏ وَسَمِعوا كلامَ اللَّهِ يأمر وينهى، فلم يطيقوا سماعه، واختلطتْ أذهانهم، ورَغِبُوا أن يكون موسى يسمع ويعبِّر لهم، ففعل، فلما فرغوا، وخرجوا، بدَّلت منهم طائفةٌ ما سمعت من كلام اللَّهِ، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كلام الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 75‏]‏ واضطرب إيمانهم، وامتحنهم اللَّه تعالى بذلك، فقالوا‏:‏ ‏{‏لَنْ نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً‏}‏، ولم يطلبوا من الرؤية محالاً؛ أما إِنه عند أهل السُّنَّة ممتنعٌ في الدنيا من طريق السمع، فأخذتهم حينئذ الصاعقةُ، فاحترقوا وماتوا موْتَ همودٍ يعتبر به الغَيْرُ، وقال قتادة‏:‏ ماتوا، وذهبت أرواحهم، ثم رُدُّوا؛ لاستيفاء آجالهم، فحين حصلوا في ذلك الهمود، جعل موسى يناشد ربَّه فيهم، ويقول‏:‏ أيْ ربِّ، كيف أرجع إِلى بني إِسرائيل دونهم، فيَهْلِكُون، ولا يؤمنون بي أبداً، وقد خرجوا، وهم الأخيار‏.‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ يعني‏:‏ هم بحال الخير وقْتَ الخروج، وقال قومٌ‏:‏ بل ظن موسى أنَّ السبعين، إِنما عوقبوا بِسَبَبِ عبادة العجْلِ، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏أَتُهْلِكُنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏ يعني السبعين‏:‏ ‏{‏بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا‏}‏ يعني‏:‏ عَبَدَةَ العجلِ، وقال ابن فورك‏:‏ يحتمل أن تكون معاقبة السبعين؛ لإخراجهم طلب الرؤية عن طريقه؛ بقولهم لموسى‏:‏ ‏{‏أَرِنَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 153‏]‏ وليس ذلك من مقدورِ موسى عليه السلام‏.‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ ومن قال‏:‏ إن السبعين سَمِعُوا ما سمع موسى، فقد أخطأ، وأذهب فضيلةَ موسى، واختصاصه بالتكْلِيم‏.‏

و ‏{‏جَهْرَةً‏}‏‏:‏ مصدر في موضع الحالِ، والجهرُ العلانيةُ، ومنه الجَهْرُ ضد السر، وجَهَرَ الرَّجُلُ الأَمْرَ‏:‏ كشفه، وفي «مختصر الطبريِّ» عن ابن عبَّاس‏:‏ ‏{‏جَهْرَةً‏}‏‏:‏ قال علانيةً، وعن الربيع‏:‏ ‏{‏جَهْرَةً‏}‏‏:‏ عياناً‏.‏

انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بعثناكم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏‏:‏ أجاب اللَّه تعالى فيهم رغبةَ موسى عليه السلام وأحياهم من ذلك الهمودِ، أو الموت؛ ليستوفوا آجالهم، وتاب عليهم، والبعث هنا الإِثارة، و‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏، أي‏:‏ على هذه النعمة، والترجِّي إِنَّمَا هو في حق البَشَر‏.‏

وذكر المفسِّرون في تظليل الغمامِ؛ أنَّ بني إِسرائيل، لما كان من أمرهم ما كان من القتل، وبقي منهم من بقي، حصلوا في فحص التِّيه بَيْن مصْر والشَّام، فأُمِرُوا بقتال الجَبَّارين، فَعَصَوْا، وقالوا‏:‏ ‏{‏اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏ فدعا موسى عليهم، فعوقبوا بالبقاء في ذلك الفحْص أربعين سَنَةً يتيهون في مقدارِ خَمْسَة فراسِخَ أو ستَّةٍ، روي أنهم كانوا يمشون النهار كلَّه، وينزلون للمبيت، فيصبحون حيثُ كانوا بكرةَ أَمْسِ، فندم موسى على دعائه علَيْهم، فقيل له‏:‏ ‏{‏لاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وروي أنهم ماتوا بأجمعهم في فحص التِّيه، ونشأ بنوهم على خير طاعة، فهم الذين خرجوا من فحْصِ التيه، وقاتلوا الجَبَّارين، وإذ كان جميعُهم في التيه، قالوا لموسى‏:‏ من لنا بالطعامِ‏؟‏ قال‏:‏ اللَّه، فأنزل اللَّه عليهم المَنَّ والسلوى، قالوا‏:‏ مَنْ لنا من حَرِّ الشمس‏؟‏ فظلَّل عليهم الغمامَ، قالوا‏:‏ بِمَ نستصْبِحُ بالليل، فضَرَبَ لهم عمودَ نُورٍ في وَسَطَ مَحَلَّتهم، وذكر مكِّيٌّ عمود نار، قالوا‏:‏ من لنا بالماء‏؟‏ فأمر موسى بضرب الحَجَرِ، قالوا‏:‏ من لنا باللباس، فَأُعْطُوا ألاَّ يبلى لهم ثوبٌ، ولا يَخْلَقَ، ولا يَدْرَنَ، وأن تنمو صِغَارُهَا حَسَب نُمُوِّ الصبيانِ، والمَنُّ صَمْغَةٌ حُلْوَةٌ؛ هذا قول فرقةٍ، وقيل‏:‏ هو عسل، وقيل‏:‏ شراب حُلْوٌ، وقيل‏:‏ الذي ينزل اليوْمَ على الشجَر، وروي أنَّ المَنَّ كان ينزل عليهم من طُلُوع الفَجْر إلى طُلُوع الشمس؛ كالثلج، فيأخذ منه الرجُلُ ما يكفيه ليومه، فإِنِ ادَّخَرَ، فسد عليه إِلا في يوم الجمعة؛ فإِنهم كانوا يدَّخرون ليوم السبْتِ، فلا يفسد عليهم؛ لأن يوم السبت يومُ عبادةٍ‏.‏

والسلوى طيرٌ؛ بإِجماع المفسِّرين، فقيل‏:‏ هو السُّمَّانا‏.‏

وقيل‏:‏ طائر مثل السُّمَّانَا‏.‏

وقيل‏:‏ طائر مثل الحمام تحشره عليهم الجَنُوب‏.‏

* ص *‏:‏ قال ابن عطيَّة‏:‏ وغلط الهُذَلِيُّ في إِطلاقه السلوى على العَسَلِ؛ حيث قال‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وَقَاسَمَهَا بِاللَّهِ عَهْداً لأنْتُمُ *** أَلَذُّ مِنَ السلوى إِذَا مَا نَشُورُهَا

* ت *‏:‏ قد نقل صاحبُ المختصر؛ أنه يطلق على العَسَلِ لغةً؛ فلا وجه لتغليظه؛ لأنَّ إِجماع المفسِّرين لا يمنع من إِطلاقِهِ لغةً بمعنى آخر في غير الآية‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ معناه‏:‏ وقلنا‏:‏ كلوا، فحذف اختصارا لدلالة الظاهر عليه، والطَّيِّبَاتُ، هنا جَمَعَتِ الحلال واللذيذ‏.‏

* ص *‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا ظَلَمُونَا‏}‏‏:‏ قدَّر ابن عطية قبل هذه الجملةِ محذوفًا، أي‏:‏ فَعَصوْا، وما ظَلَمُونا، وقدَّر غيره‏:‏ فظَلَمُوا، ومَا ظَلَمُونَا، ولا حاجَة إِلى ذلك؛ لأن ما تقدَّم عنهم من القبائِح يُغْنِي عنه‏.‏ انتهى‏.‏

* ت *‏:‏ وقول أبي حَيَّان‏:‏ «لا حاجة إلى هذا التقدير‏.‏‏.‏‏.‏» إِلى آخره‏:‏ يُرَدُّ بأن المحذوفاتِ في الكلام الفصيحِ هذا شأنها؛ لا بد من دليل في اللفظ يدلُّ عليها إلا أنه يختلف ذلك في الوضوحِ والخفاءِ، فأما حذف ما لا دليل عليه، فإِنه لا يجوزُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 60‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏58‏)‏ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏59‏)‏ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ المحسنين فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ‏}‏‏.‏

‏{‏القَرْيَةَ‏}‏‏:‏ المدينةُ؛ سمِّيت بذلك؛ لأنها تَقَرَّتْ، أي‏:‏ اجتمعت؛ ومنه‏:‏ قَرَيْتُ المَاءَ في الحَوْضِ، أي‏:‏ جمعته، والإِشارة بهذه إِلى بيت المقْدِسِ في قول الجمهور‏.‏

وقيل‏:‏ إلى أَرِيحَاء، وهي قريبٌ من بيت المَقْدِس، قال عمر بن شَبَّة‏:‏ كانت قاعدةً، ومسْكنَ ملوكٍ، ولما خرج ذريةُ بني إِسرائيل من التِّيه، أُمِرُوا بدخول القرية المشار إِلَيْها، وأما الشيوخ، فماتوا فيه، وروي أن موسى وهارون عليهما السلام ماتا في التِّيه، وحكى الزجَّاج عن بعضهم أنهما لم يكونا في التِّيه؛ لأنه عَذَابٌ، والأول أكْثَرُ‏.‏

* ت *‏:‏ لكن ظاهر قوله‏:‏ ‏{‏فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 25‏]‏ يقوِّي ما حكاهُ الزجَّاج، وهكذا قال الإِمام الفَخْر‏.‏ انتهى‏.‏

وَ ‏{‏كُلُواْ‏}‏‏:‏ إِباحة، وتقدَّم معنى الرَّغَد، وهي أرض مباركة عظيمة الغَلَّة، فلذلك قال‏:‏ ‏{‏رَغَدًا‏}‏‏.‏

و ‏{‏الباب‏}‏‏:‏ قال مجاهد‏:‏ هو باب في مدينة بَيْت المَقْدِسِ يُعْرَفُ إِلى اليوم بباب حِطَّة، و‏{‏سُجَّدًا‏}‏‏:‏ قال ابن عبَّاس‏:‏ معناه‏:‏ ركوعاً، وقيل‏:‏ متواضعين خضوعاً، والسجودُ يعم هذا كلَّه، وحِطَّة‏:‏ فِعْلَةٌ؛ من حَطَّ يَحُطُّ، ورفعه على خبر ابتداء؛ كأنهم قالوا‏:‏ سؤالُنَا حِطَّة لذنُوبِنَا، قال عكرمة وغيره‏:‏ أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوا‏:‏ «لا إِله إِلاَّ اللَّهُ»؛ لتحطَّ بها ذنوبُهُمْ، وقال ابن عَبَّاس‏:‏ قيل لهم‏:‏ استغفروا، وقولوا ما يحطُّ ذنوبكم‏.‏

* ت *‏:‏ قال أحمد بن نصرٍ الدَّاوُودِيُّ في «تفسيره»‏:‏ ‏"‏ وَرُوِيَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سَارَ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي سَفَرٍ، فَقَالَ‏:‏ قُولُوا‏:‏ نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَالُوا ذَلِكَ، فَقَالَ‏:‏ وَاللَّهِ، إِنَّهَا للْحِطَّةُ الَّتِي عُرِضَتْ على بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمْ يَقُولُوهَا ‏"‏ انتهى‏.‏

وحكي عن ابن مَسْعود وغيره؛ أنهم أمروا بالسُّجود، وأن يقولوا‏:‏ حِطَّةٌ، فَدَخَلُوا يزْحفُونَ على أَسْتَاهِهِمْ، ويَقُولُونَ‏:‏ حِنْطَةٌ حَبَّةٌ حَمْرَاءُ فِي شَعْرَةٍ، ويروى غير هذا من الألفاظ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَنَزِيدُ المحسنين‏}‏ عِدَةٌ‏:‏ المعنى‏:‏ إِذا غُفِرَتِ الخطايا بدخولكم وقولِكُمْ، زِيدَ بعد ذلك لمن أحسن، وكان من بني إسرائيل من دخل كما أُمِرَ، وقال‏:‏ لا إله إلا اللَّه، فقيل‏:‏ هم المراد ب ‏{‏المحسنين‏}‏ هنا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ‏}‏ الآية‏.‏

روي أنهم لما جاءوا الباب، دخلوا من قبل أدبارهم القهقرى، وفي الحديث‏:‏ أنهم دَخَلوا يَزْحَفُونَ على أَسْتَاهِهِمْ، وبدَّلوا، فقالوا‏:‏ حَبَّة في شَعْرَة، وقيل‏:‏ قالوا‏:‏ حِنْطَة حبَّة حمراء في شَعْرة، وقيل‏:‏ شعيرة، وحكى الطبريُّ؛ أنهم قالوا‏:‏ «هَطِّي شَمْقَاثَا أَزْبَه» وتفسيره ما تقدَّم وفي اختصار الطبريِّ، وعن مجاهد قال‏:‏ أمر موسى قومَهُ أنْ يدخلوا الباب سُجَّداً، ويقولُوا‏:‏ حِطَّة، وطُؤْطِئ لهم البابُ؛ ليسجدوا، فلم يسجدوا، ودخلوا على أدبارهم، وقالوا‏:‏ حِنْطَة‏.‏

وذكر عزَّ وجلَّ فعل سلفهم؛ تنبيهاً أنَّ تكذيبهم لمحمَّد صلى الله عليه وسلم جَارٍ على طريق سلَفهم في خلافهم على أنبيائهم، واستخفافهم بهم، واستهزائهم بأمر ربِّهم‏.‏ انتهى‏.‏

والرِّجْز العَذَابُ، قال ابن زيد وغيره‏:‏ فبعث اللَّه على الذينَ بدَّلوا الطاعونَ، فأذهب منهم سبْعِينَ أَلْفاً، وقال ابن عبَّاس‏:‏ أمات اللَّه منهم في ساعةٍ واحدةٍ نيِّفاً على عشرينَ ألْفاً‏.‏

و ‏{‏استسقى‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ طلب السُّقْيَا، وَعُرْفُ «استفعل» طلَبُ الشيءِ، وقد جاء في غير ذلك؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستغنى الله‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 6‏]‏، وكان هذا الاستسقاءُ في فحْصِ التيه، فأمره اللَّه تعالى بضرب الحَجَر آيةً منه، وكان الحَجَرُ من جبل الطور على قدر رأسِ الشاة، يلقى في كِسْر جُوَالِقَ، ويرحل به، فإذا نزلُوا وضع في وَسَط محلَّتهم، وضربه موسى، وذكر أنهم لم يكونوا يحملون الحَجَر لكنَّهم كانوا يجدُونه في كلِّ مرحلة في منزلته من المرحَلَة الأولى، وهذا أعظم في الآية، ولا خلاف أنه كان حجراً مربَّعاً منْفَصِلاً تطَّرد من كلِّ جهة منه ثلاثُ عُيُونٍ، إِذا ضربه موسى، وإِذا استغنَوْا عن الماءِ، ورحَلُوا، جفَّت العيون، وفي الكلام حذفٌ؛ تقديره‏:‏ فضربه، فانفجرت، والانفجار‏:‏ انصداع شيء عن شَيْء؛ ومنه‏:‏ الفَجْر، والانبجاس في الماء أقلُّ من الانفجار‏.‏

و ‏{‏أُنَاسٍ‏}‏‏:‏ اسم جمعٍ، لا واحد له من لفظه، ومعناه هنا‏:‏ كلُّ سِبْطٍ؛ لأن الأسباط في بني إِسرائيل كالقبائل في العرب، وهم ذرِّية الاثْنَيْ عَشَرَ أولادُ يعقُوبَ عليه السلام‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

* ت *‏:‏ رُوِّينَا من طريق أنس بن مالك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّه قال‏:‏ ‏"‏ إنَّ اللَّهَ ليرضى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا ‏"‏ رواه مُسْلِمٌ، والترمذيُّ، والنسائِيُّ‏.‏ انتهى‏.‏

والمَشْرَبُ‏:‏ موضع الشُّرْب، وكان لكلِّ سبطٍ عَيْنٌ من تلك العيون، لا يتعداها‏.‏

‏{‏وَلاَ تَعْثَوْاْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ ولا تُفْرِطُوا في الْفَسَادِ‏.‏

* ص *‏:‏ ‏{‏مُفْسِدِينَ‏}‏‏:‏ حالٌ مؤكِّدة؛ لأن‏:‏ «لاَ تَعْثَوْا»‏:‏ معناه‏:‏ لا تفسدوا‏.‏ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 64‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏61‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏62‏)‏ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏63‏)‏ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ كان هذا القول منهم في التيه حينَ ملُّوا المَنَّ والسلوى، وتذكَّروا عيشهم الأول بمصْرَ، قال ابنُ عَبَّاس وأكثر المفسِّرين‏:‏ الفُومُ‏:‏ الحِنْطَة، وقال قتادة، وعطاء‏:‏ الفوم‏:‏ جميع الحبوب التي يمكن أن تختبز، وقال الضحَّاك‏:‏ الفوم‏:‏ الثُّوم، وهي قراءة عبد اللَّه بن مسعود، وروي ذلك عن ابن عبَّاس، والثاء تُبْدَلُ من الفاءِ؛ كما قالوا‏:‏ مَغَاثِيرُ ومَغَافِير‏.‏

* ت *‏:‏ قال أحمد بن نصر الدَّاوُوديُّ‏:‏ وهذا القولُ أشبه لما ذكر معه، أي‏:‏ من العَدَسِ والبَصَلِ‏.‏ انتهى‏.‏

‏{‏وَأَدْنَى‏}‏‏:‏ قال عليُّ بن سليمان الأخْفَشُ‏.‏ مأخوذٌ من الدَّنِيءِ البيِّنِ الدناءةِ؛ بمعنى‏:‏ الأَخَسِّ، إلا أنه خُفِّفَت همزته، وقال غيره‏:‏ هو مأخوذ من الدُّون، أي‏:‏ الأحط فأصله أَدْوَن، ومعنى الآية‏:‏ أَتَسْتَبْدِلُونَ البَقْلَ، والْقِثَّاءَ، والفُومَ، وَالعَدَسَ، والبَصَلَ الَّتي هى أدنى بالمَنِّ والسلْوَى الذي هو خيرٌ‏.‏

وجمهور النَّاس يقرءون «مِصْراً» بالتنوين، قال مجاهدٌ وغيره‏:‏ أراد مِصْراً من الأمصار غير معيَّن، واستدلُّوا بما اقتضاه القرآن من أمرهم؛ بدخول القرية، وبما تظاهَرَتْ به الرواياتُ؛ أنهم سكنوا الشَّام بعد التيه، وقالت طائفة‏:‏ أراد مِصْرَ فِرْعَونَ بعينها، واستدلوا بما في القرآن من أنَّ اللَّه أورَثَ بني إسْرائيل ديار آل فرعون وآثارهم، قال في «مختصر الطبريِّ»‏:‏ وعلى أن المراد مصْر التي خرجُوا منها، فالمعنى‏:‏ إنَّ الذي تطلُبُونَ كان في البَلَد الَّذي كان فيه عذابُكُم، واستعبادكم، وأسْركم، ثمَّ قال‏:‏ والأظهر أنهم مُذْ خرجوا من مصْر، لم يرجعوا إليها، واللَّه أعلم‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ‏}‏ يقتضي أنه وَكَلَهُمْ إِلى أنفسهم، و‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة‏}‏ معناه‏:‏ الزموها؛ كما قالت العربُ‏:‏ ضَرْبَةُ لاَزِبٍ، ‏{‏وَبَاءُوا بِغَضَبٍ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ مروا متحمِّلين له، قال الطبري‏:‏ باءوا به، أي‏:‏ رجعوا به، واحتملوه، ولا بد أن يوصل بَاءَ بخير أو بشرٍّ‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق‏}‏ الأشارة ب ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ضرب الذلَّة وما بعدهُ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِغَيْرِ الحق‏}‏ تعظيمٌ للشنعة، والذَّنْب، ولم يجرم نبيٌّ قطُّ ما يوجبُ قتله، وإنما التسليطُ عليهم بالقَتْل كرامةٌ لهم، وزيادةٌ لهم في منازلهم صلى اللَّه عليهمْ؛ كَمَثَلِ مَنْ يُقْتَلُ في سبيلِ اللَّهِ من المؤمنين، والباء في «بِمَا» باء السبب‏.‏

و ‏{‏يَعْتَدُونَ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ يتجاوزون الحُدُود، والاعتداء هو تجاوُزُ الحدِّ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

اختلف في المراد ب ‏{‏الذين ءَامَنُواْ‏}‏ في هذه الآية‏.‏

فقالت فرقة‏:‏ الذين آمنوا هم المؤمنون حقًّا بنبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقوله‏:‏ ‏{‏مَنْ ءَامَنَ بالله‏}‏ يكون فيهم بمعنى مَنْ ثَبَتَ ودَامَ، وفي سائر الفرق‏:‏ بمعنى‏:‏ مَنْ دخَلَ فيه، وقال السُّدِّيُّ‏:‏ هم أهل الحنيفيَّة ممَّن لم يلحق محمَّداً صلى الله عليه وسلم، والذين هَادُوا، ومن عطف عليهم كذلك ممَّن لم يلحق محمَّداً صلى الله عليه وسلم، ‏{‏والذين هَادُواْ‏}‏ هم اليهودُ، وسُمُّوا بذلك؛ لقولهم‏:‏

‏{‏هُدْنَا إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏، أي‏:‏ تبنا، ‏{‏والنصارى‏}‏ لفظةٌ مشتقَّة من النَّصْرِ‏.‏

قال‏:‏ * ص *‏:‏ ‏{‏والصابئين‏}‏‏:‏ قرأ الأكثر بالهمز؛ صَبَأَ النَّجْمُ، والسِّنُّ، إِذا خرج، أي‏:‏ خَرَجُوا من دينٍ مشهورٍ إِلى غيره، وقرأ نافع بغير همز، فيحتمل أن يكون من المهموز المُسَهَّل، فيكون بمعنى الأول، ويحتمل أن يكون مِنْ صَبَا غيْرَ مهموزٍ، أي‏:‏ مَالَ؛ ومنه‏:‏ ‏[‏الهزج‏]‏

إلى هِنْدٍ صَبَا قَلْبِي *** وَهِنْدٌ مِثْلُهَا يُصْبِي

انتهى‏.‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ والصَّابِئ؛ في اللغة‏:‏ من خرج من دين إلى دين‏.‏

وأما المشار إليهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والصابئين‏}‏ فقال السديُّ‏:‏ هم فرقة من أهل الكتاب، وقال مجاهد‏:‏ هم قوم لا دِينَ لهم، وقال ابنُ جْرَيْج‏:‏ هم قوم تركب دينهم بين اليهوديَّة والمجوسيَّة، وقال ابنُ زَيْد‏:‏ هم قومٌ يقولون لا إله إلا اللَّه، وليس لهم عمل ولا كتابٌ كانوا بجزيرةِ المَوْصِلِ، وقال الحسنُ بْنُ أبي الحسن، وقتادة‏:‏ هم قوم يعبدون الملائكةَ، ويصلُّون الخمْسَ إلى القبلة، ويقرءون الزَّبُور رَآهُمْ زيادُ بن أبي سفيان، فأراد وضع الجزْيَة عنْهم حتَّى عُرِّفَ أنهم يعبدون الملائكَةَ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ‏{‏الطور‏}‏‏:‏ اسم الجبلِ الَّذي نُوجِيَ موسى عليه السلام قاله ابنُ عبَّاس، وقال مجاهدٌ وغيره‏:‏ ‏{‏الطور‏}‏‏:‏ اسمٌ لكلِّ جبلٍ، وقصص هذه الآية أنَّ موسى عليه السلام، لما جاء إلى بني إسرائيل من عنْد اللَّه تعالى بالألواح، فيها التوراة، قال لهم‏:‏ خُذُوهَا، والتزموها، فقَالُوا‏:‏ لا، إِلاَّ أنْ يكلَّمنا اللَّهُ بهَا كما كلَّمك، فصُعِقُوا، ثم أُحْيُوا، فقال لهم‏:‏ خُذُوها، فقالوا‏:‏ لاَ، فأمر اللَّه الملائكَةَ، فاقتلعت جَبَلاً من جبالِ فِلَسْطِينَ طولُه فَرْسَخٌ في مثله، وكذلك كان عسْكَرهم، فجعل عليهم مثْلَ الظُّلَّة، وأخرج اللَّه تعالى البَحْرَ من ورائهم، وأضرم نَاراً من بين أيديهم، فأحاط بهم غضبه، وقيل لهم‏:‏ خذوها، وعليكُم الميثَاقُ، ولا تضيِّعوها، وإِلا سقط علَيْكم الجبَلُ، وأغرقكم البَحْر، وأحرقتكم النارُ، فَسَجَدُوا؛ توبةً للَّه سبحانه، وأخذوا التوراةَ بالميثاقِ، قال الطبريُّ عن بعض العلماء‏:‏ لو أخذوها أوَّلَ مرَّة، لم يكُنْ عليهم ميثاقٌ، وكانت سجدتهم على شِقٍّ؛ لأنهم كانوا يرقبون الجَبَل؛ خوْفاً، فلما رحمهم اللَّه سبحانه، قالوا‏:‏ لا سجدَةَ أفضلُ من سَجْدة تقبَّلها اللَّه، ورَحِمَ بها، فأَمَرُّوا سجودَهم على شِقٍّ واحدٍ‏.‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ والذي لا يصحُّ سواه أن اللَّه تعالى اخترع وقْتَ سجودهم الإِيمان في قلوبهم، لا أنهم آمنوا كُرْهاً، وقلوبهم غيرُ مطمئنة، قال‏:‏ وقد اختصرْتُ ما سرد في قصصِ هذه الآية، وقصدت أَصَحَّهُ الذي تقتضيه ألفاظُ الآية، وخلط بعْضُ الناس صَعْقَةَ هذه القصَّة بصَعْقة السبعين‏.‏

وَ ‏{‏بِقُوَّةٍ‏}‏‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ معناه‏:‏ بجِدٍّ واجتهاد‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ معناه‏:‏ بتصديق وتحقيق‏.‏

‏{‏واذكروا مَا فِيهِ‏}‏، أي‏:‏ تدبُّروه واحْفَظُوا أوامره ووعيدَهُ، ولا تنسوه، ولا تضيِّعوه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ تَوَلَّيْتُم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ تولَّى‏:‏ أصله الإِعراض والإِدبار عن الشيء بالجِسْمِ، ثم استعمل في الإعراض عن الأمورِ، والأديانِ، والمعتقداتِ؛ اتِّساعاً ومجازاً، وتَوَلِّيهِمْ من بعد ذلك‏:‏ إما بالمعاصِي، فكان فضل اللَّه بالتوبة والإِمهال إِلَيْها، وإما أن يكون تَوَلِّيهم بالكُفْر، فلم يعاجلْهم سبحانه بالهَلاَكِ؛ لِيَكُونَ من ذرِّيَّتهم من يُؤْمِنُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 66‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ‏(‏65‏)‏ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنكُمْ فِى السبت‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ علمتمْ‏:‏ معناه‏:‏ عرفتم، والسَّبْتُ مأْخوذٌ من السُّبُوت الَّذِي هو الراحةُ والدَّعَة، وإِما من السبت، وهو القَطْع؛ لأن الأشياء فيه سَبَتَتْ وتمَّت خِلْقَتُها، وقصَّة اعتدائهم فيه أن اللَّه عز وجلَّ أمر موسى عليه السلام بيَوْمِ الجُمُعَةِ، وعرَّفه فَضْلَه، كما أمر به سائر الأنبياءِ صلواتُ اللَّه عَلَيْهِمْ، فذكر موسى ذلك لبني إِسرائيل عن اللَّه سبحانه، وأمرهم بالتشرُّع فيه، فأبوا وتعدَّوْه إلى يوم السَّبْت، فأوحى اللَّه إلى موسى؛ أنْ دَعْهم، وما اختاروا من ذلك، وامتحنهم بأنْ أمرهم بترك العَمَل فيه، وحرَّم عليهم صَيْدَ الحِيتَانِ، وشدَّد عليهم المِحْنَة؛ بأن كانت الحِيتَانُ تأتي يوم السبْتِ؛ حتى تخرج إلى الأفنية، قاله الحسن بن أبي الحسن‏.‏

وقيل حتى تخرج خراطيمُهَا من الماء، وذلك إِما بإِلهامٍ من اللَّه تعالى، أو بأمر لا يعلَّل، وإما بأن ألهمها معنى الأَمَنَةِ التي في اليومِ، مع تكراره؛ كما فَهِمَ حمام مَكَّة الأَمَنَةَ، وكان أمر بني إِسرائيل بِأَيْلَةَ على البحْر، فَإِذا ذهب السَّبْت، ذهبت الحيتان، فلم تظهر إلى السبت الآخر، فبقُوا على ذلك زماناً؛ حتى اشْتَهَوُا الحُوتَ، فعَمَدَ رجُلٌ يوم السبْتِ، فربط حوتاً بخزمة، وضرب له وَتِداً بالساحل، فلما ذهب السَّبْتُ، جاء، فأخذه، فسَمِع قومٌ بفعْلِهِ، فصنعوا مثْلَ ما صنع‏.‏

وقيل‏:‏ بل حفر رجُلٌ في غير السَّبْت حَفِيراً يخرج إِلَيْه البحر، فإِذا كان يوم السبت، خرج الحوت، وحصل في الحفير، فإذا جزر البحر، ذهب الماء من طريق الحفير، وبقي الحوت، فجاء بعد السبت، فأخذه، ففعل قَوْمٌ مثْلَ فعله، وكَثُرَ ذلك؛ حتى صادوه يوم السبت علانيةً، وباعوه في الأسواقِ، فكان هذا من أعظم الاعتداء، وكانت من بني إِسرائيل فرقةٌ نهَتْ عن ذلك، فنجَتْ من العقوبة، وكانت منهم فرقةٌ لم تَعْصِ، ولم تَنْهَ، فقيل‏:‏ نجت مع الناهين، وقيل‏:‏ هلَكَتْ مع العاصينَ‏.‏

وَ ‏{‏كُونُواْ‏}‏‏:‏ لفظةُ أمر، وهو أمر التكوينِ؛ كقوله تعالى لكُلِّ شَيْءٍ‏:‏ ‏{‏كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏ قال ابن الحاجب‏.‏‏.‏‏.‏ في مختصره الكَبِيرِ المسمى ب «منتهى الوُصُولِ»‏:‏ صيغةُ‏:‏ افعل، وما في معناها قد صَحَّ إِطلاقها بإزاء خمسةَ عَشَرَ محملاً‏.‏

الوجوبُ‏:‏ ‏{‏أَقِمِ الصلاة‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏ والنَّدْبُ‏:‏ ‏{‏فكاتبوهم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏‏.‏

والإِرشادُ‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ والإِباحةُ‏:‏ ‏{‏فاصطادوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

والتأديب‏:‏ «كُلْ مِمَّا يَلِيكَ»‏.‏ والامتنانُ‏:‏ ‏{‏كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 142‏]‏‏.‏

والإِكرامُ‏:‏ ‏{‏ادخلوها بِسَلامٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 34‏]‏ والتَّهديد‏:‏ ‏{‏اعملوا مَا شِئْتُمْ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏ والإِنذار‏:‏ ‏{‏تَمَتَّعُواْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم30‏:‏‏]‏ والتسخيرُ‏:‏ ‏{‏كُونُواْ قِرَدَةً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 166‏]‏ والإِهانة‏:‏ ‏{‏كُونُواْ حِجَارَةً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 50‏]‏ والتَّسويةُ‏:‏ ‏{‏فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 16‏]‏ والدعاءُ‏:‏ ‏{‏اغفر لَنَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 147‏]‏ والتمنِّي‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

‏.‏‏.‏‏.‏ أَلاَ انجلي‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ *** وكمالُ القدرة‏:‏ ‏{‏كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏‏.‏ انتهى‏.‏

وزاد غيره كونها للتعجيزِ، أعني‏:‏ صيغةَ «افعل»‏.‏

قال ابن الحاجِبِ‏:‏ وقد اتفق على أنها مجازٌ فيما عَدَا الوُجُوبَ والنَّدْبَ والإِباحةَ والتهديدَ، ثم الجمهورُ على أنها حقيقةٌ في الوجوب‏.‏ انتهى‏.‏

و ‏{‏خاسئين‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ مُبْعَدِينَ أذلاَّء صاغِرِينَ؛ كما يقال للكَلْب، وللمطْرُود‏:‏ اخسأ، وروي في قصصهم؛ أنَّ اللَّه تعالى مسخ العاصِينَ قردَةً في الليل، فأصبح الناجُونَ إلى مساجِدِهِمْ، ومجتمعاتِهِمْ، فلم يروا أحداً من الهالكينَ، فقالوا‏:‏ إِن للنَّاس لشأناً، ففتحوا عليهم الأبوابَ لما كانت مغْلَقة باللَّيْل، فوجدوهم قردَةً يعرفون الرجُلَ والمرأة‏.‏

وقيل‏:‏ إن الناجينَ كانُوا قد قسموا بينهم وبين العاصين القريَةَ بجِدَارٍ؛ تَبَرِّياً منهم، فأصبحوا، ولم تفتحْ مدينةُ الهالكين، فتسوَّروا عليهم الجدارَ، فإِذَا هم قردةٌ يثبُ بعضُهم على بعْضٍ‏.‏

وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وثبت أنَّ المُسُوخَ لا تنسل، ولا تأكل، ولا تشرَبُ، ولا تعيشُ أكثَرَ من ثلاثة أيامٍ، ووقع في كتاب مسْلِمٍ عنه صلى الله عليه وسلم «أنَّ أُمَّةً من الأُمَمِ فُقِدَتْ، وَأُرَاهَا الفأر»، وظاهر هذا أنَّ المسوخ تنسل، فإن كان أراد هذا، فهو ظَنٌّ منه صلى الله عليه وسلم في أمر لا مَدْخَلَ له في التبليغِ، ثم أوحي إِلَيْه بعد ذلك،؛ أنَّ المسوخ لا تنسل؛ ونظير ما قُلْناه نزولُهُ صلى الله عليه وسلم على مياهِ بَدْرٍ وأمره باطراح تذكير النخل، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا أخبرتكم عنِ اللَّهِ تعالى، فهو كما أخبرتكم، وإذا أخبرتكم برأْيِي في أمور الدنيا، فإِنما أنا بشَرٌ مثلُكُم»، والضمير في ‏{‏جَعَلْنَاهَا‏}‏ يَحتَمِلُ عوده على المسخة والعقوبة، ويحتمل علَى الأُمَّة الَّتِي مُسِخَتْ، ويحتمل على القِرَدَةِ، ويحتمل على القرية؛ إِذ معنى الكلام يقتضيها، والنَّكال‏:‏ الزجْرُ بالعقاب، و‏{‏لَّمَّا بَيْنَ يَدَيْهَا‏}‏‏.‏ قال السُّدِّيُّ‏:‏ ما بين يَدَيِ المسخة مَا قَبْلَهَا من ذنوب القَوْم، وما خَلْفها لمن يذنب بعدها مثل تلك الذنوب، وقال غيره‏:‏ ما بين يدَيْها من حضرها من الناجين، وما خلفها، أي‏:‏ لمن يجيءُ بعدها، وقال ابن عبَّاس‏:‏ لما بين يديها وما خلْفَها من القرى‏.‏

‏{‏وَمَوْعِظَةً‏}‏‏:‏ من الاتعاظ، والازدجار، و‏{‏لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ الذين نَهَوْا وَنَجَوْا، وقالتْ فرقةٌ‏:‏ معناه‏:‏ لأمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم، واللفظ يَعُمُّ كُلَّ مُتَّقٍ من كلِّ أُمَّةٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 73‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏67‏)‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ‏(‏68‏)‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ‏(‏70‏)‏ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏71‏)‏ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ‏(‏72‏)‏ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ المراد تذكيرهم بنقْضِ سلفهم للميثاقِ، وسبب هذه القصَّة على ما روي أن رجلاً من بني إسرائيل أَسَنّ، وكان له مالٌ، فاستبطأ ابن أخيه موته، وقيل‏:‏ أخوه، وقيل‏:‏ ابنا عمه، وقيل‏:‏ ورثةٌ غيْرُ معيَّنين، فقتله؛ ليرثه، وألقاه في سبط آخر غير سبطه؛ ليأخذ ديته، ويلطِّخهم بدمه‏.‏

وقيل‏:‏ كانت بنو إسرائيل في قريتين متجاورتين، فألقاهُ إِلى باب إِحدى القريتَيْن، وهي التي لم يُقْتَلْ فيها، ثم جعل يطلبه هو وسبطه؛ حتى وجده قتيلاً، فتعلَّق بالسبط، أوْ بسكَّان المدينة التي وجد القتيل عندها، فأنكروا قتله، فوقع بين بني إسرائيل في ذلك لحاء؛ حتى دخلوا في السِّلاح، فقال أهل النهى، منهم‏:‏ أَنَقْتَتِلُ ورسُولُ اللَّهِ معنا، فذهبوا إلى موسى عليه السلام، فقصُّوا علَيْهِ القصَّة، وسألوهُ البيانَ، فأوحى اللَّه تعالى إِليه أن يذبحوا بقرةً، فيُضْرَبُ القتيل ببعضها، فيحيى ويُخْبِرُ بقاتله، فقال لهم‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً‏}‏، فكان جوابهم أنْ ‏{‏قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا‏}‏ وهذا القول منهم ظاهره فسادُ اعتقادٍ مِمَّنْ قاله، ولا يصحُّ إيمان من يقول لِنبيٍّ قد ظهرتْ معجزته، وقال‏:‏ إن اللَّه يأمرُ بكذا‏:‏ أنتخذُنَا هُزُواً، ولو قال ذلك اليوْمَ أحدٌ عن بعض أقوال النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لوجب تكفيره‏.‏

وذهب قوم إلى أنَّ ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء، وقول موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين‏}‏ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ‏:‏

أحدهما‏:‏ الاستعاذةُ من الجهل في أن يخبر عن اللَّه تعالى مستهزئاً‏.‏

والآخر‏:‏ من الجهل؛ كما جهلوا في قولهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ هذا تعنيتٌ منهم، وقلَّةُ طواعية، ولو امتثلوا الأمر، فاستعرضوا بقرةً فذبحُوها، لَقَضَوْا ما أمروا به، ولكن شدَّدوا، فشَدَّدَ اللَّهُ علَيْهم؛ قاله ابن عَبَّاسٍ وغيره‏.‏

والفارض‏:‏ المسنَّة الهَرِمَة، والبِكْر؛ من البقر‏:‏ التي لم تلدْ من الصغر، ورفعت «عَوَانٌ» على خبر ابتداءِ مضمرٍ، تقديره‏:‏ هي عَوَانٌ، والعَوَانُ التي قد وَلَدَتْ مرَّةً بعد مرّة‏.‏

قال‏:‏ * م *‏:‏ قال الجَوْهَرِيُّ‏:‏ والعَوَانُ‏:‏ النَّصَفُ في سِنِّها من كل شيْء، والجمعُ عُونٌ‏.‏ انتهى‏.‏

* ت *‏:‏ قال الشيخُ زين الدين عبد الرحيم بن حُسَيْنٍ العَراقيُّ في نظمه لغريب القُرآن جمع أبي حيان‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

معنى «عَوَانٌ» نَصَفٌ بَيْنَ الصِّغَرْ *** وَبَيْنَ مَا قَدْ بَلَغَتْ سِنَّ الْكِبَرْ

وكل ما نقلته عن العِرَاقِيِّ منظوماً، فمن أرجوزته هذه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فافعلوا مَا تُؤْمَرونَ‏}‏ تجديدٌ للأمر، وتأكيدٌ وتنبيهٌ على ترك التعنُّت، فما تركوه‏.‏ قال ابنُ زَيْد‏:‏ وجمهورُ الناسِ في قوله‏:‏ ‏{‏صَفْرَاءُ‏}‏؛ أنَّها كانت كلُّها صفراء، وفي «مختصر الطبريِّ»‏:‏ ‏{‏فَاقِعٌ لَّوْنُهَا‏}‏ أي‏:‏ صافٍ لونُها‏.‏ انتهى‏.‏

والفقوعُ مختصٌّ بالصفرة؛ كما خُصَّ أحمرُ بِقَانِئ، وأسْوَدُ بحالِك، وأبْيَضُ بناصِع، وأخْضَرُ بناضِرٍ، قال ابن عبَّاس وغيره‏:‏ الصفرة تسر النفْسَ، وسأَلُوا بعد هذا كلِّه عن ما هي سؤال متحيِّرين، قد أحسُّوا مقْتَ المعصية‏.‏

وفي استثنائهمْ في هذا السؤالِ الأخيرِ إنابةٌ مَّا، وانقيادٌ، ودليلُ ندمٍ وحِرْصٌ على موافقة الأمر ورُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ لَوْلاَ مَا استثنوا، مَا اهتدوا إِلَيْهَا أَبَداً ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض‏}‏، أي‏:‏ غير مذللة بالعمل والرياضة، و‏{‏تُثِيرُ الأرض‏}‏ معناه‏:‏ بالحراثة، وهي عند قوم جملةٌ في موضعِ رفعٍ على صفة البقرة، أي‏:‏ لا ذلول مثيرة، وقال قوم‏:‏ «تُثِيرُ» فعلٌ مستأنفٌ والمعنى إيجاب الحرث، وأنها كانت تحرُثُ، ولا تسقي، و‏{‏مُسَلَّمَةٌ‏}‏‏:‏ بناء مبالغة من السلامة؛ قال ابن عبَّاس وغيره‏:‏ معناه‏:‏ من العيوب، وقال مجاهد‏:‏ معناه‏:‏ من الشِّيَاتِ والألوانِ، وقيل‏:‏ من العمل‏.‏

و ‏{‏لاَّ شِيَةَ فِيهَا‏}‏، أي‏:‏ لا خلاف في لونها؛ هي صفراء كلُّها؛ قاله ابن زيد وغيره، والمُوَشَّى المختلِطُ الألوان، ومنه‏:‏ وَشْيُ الثَّوْب‏:‏ تزينه بالألوان، والثَّوْرُ الأَشْيَهُ الذي فيه بلقة؛ يقال‏:‏ فرس أَبْلَقُ، وكبش أَخْرَجُ، وتَيْسٌ أَبْرَق، وكَلْبٌ أَبْقَعُ، وثَوْرٌ أَشْيَهُ؛ كل ذلك بمعنى البلقة‏.‏

وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شدَّدوا، فشدَّد اللَّه عليهم، ودينُ اللَّه يُسْر، والتعمُّق في سؤال الأنبياء مذمومٌ، وقصَّة وجود هذه البقرة على ما روي؛ أنَّ رجلاً من بني إِسرائيل ولد له ابنٌ، وكانت له عِجْلَةٌ، فأرسلها في غيضة، وقال‏:‏ اللهم، إني قد استودعتُكَ هذه العِجْلَةَ لهذا الصبيِّ، ومات الرجُلُ، فلما كبر الصبيُّ، قالت له أمه‏:‏ إِن أباك كان قد استودع اللَّه عِجْلَةً لكَ، فاذهب، فخذْها، فلما رأَتْه البقَرَة، جاءت إلَيْه؛ حتى أخذ بقرنَيْها، وكانت مستوحشةً، فجعل يقودها نحو أمه، فلقيه بنو إسرائيل، ووجدوا بقرته على الصِّفَة التي أمروا بها، فلمَّا وجدت البقرة، ساموا صاحبها، فاشتط عليهم، فَأَتَوْا به موسى عليه السلام وقالوا له‏:‏ إِن هذا اشتطَّ علينا، فقال لهم موسى‏:‏ أرضُوهُ في مِلْكِه‏.‏ فاشتروها منه بِوَزْنِهَا مرَّةً؛ قاله عَبِيدة السَّلْمَانِيُّ،‏.‏‏.‏‏.‏ وقيل‏:‏ بوزنها مرتَيْنِ‏.‏ وقيل‏:‏ بوزنها عشْرَ مرَّات، وقال مجاهد‏:‏ كانت لرجل يبَرُّ أمه، وأخذت منه بملْء جلْدها دنانير‏.‏

و ‏{‏الئان‏}‏‏:‏ مبنيٌّ على الفتح، معناه‏:‏ هذا الوقت، وهو عبارة عما بين الماضِي والمستقبلِ، و‏{‏جِئْتَ بالحق‏}‏‏:‏ معناه؛ عند من جعلهم عُصَاةً‏:‏ بيَّنْتَ لنا غاية البيانِ، وهذه الآية تعطي أن الذَّبْح أصل في البقر، وإن نحرت أَجْزَأَ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ‏}‏‏:‏ عبارة عن تثبُّطهم في ذَبْحِها، وقلَّة مبادرتهم إلى أمر اللَّه تعالى، وقال محمَّد بن كَعْب القُرَظِيُّ‏:‏ كان ذلك منهم لغلاء البَقَرة، وقيل‏:‏ كان ذلك خوف الفَضيحة في أمر القاتل‏.‏

و ‏{‏ادارءتم‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ تدافَعْتُم قتْلَ القتيل، و‏{‏فِيهَا‏}‏، أي‏:‏ في النَّفْس‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اضربوه بِبَعْضِهَا‏}‏‏:‏ آية من اللَّه تعالى على يدَيْ موسى عليه السلام أن أمرهم أن يضربوا ببعض البقرة القتيلَ، فيحيى ويخبر بقاتله، فقيل‏:‏ ضربوه، وقيل‏:‏ ضربوا قبره؛ لأن ابن عباس ذكر أنَّ أمر القتيل وقع قَبْل جواز البَحْر، وأنهم داموا في طلب البقرة أربعين سنَةً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك يُحْيِ الله الموتى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ في هذه الآية حض على العبرة، ودلالةٌ على البعث في الآخرة، وظاهرها أنها خطاب لبني إسرائيل حينئذ، حُكِيَ لمحمَّد صلى الله عليه وسلم؛ ليعتبر به إلى يوم القيامة‏.‏

وذهب الطبريُّ إلى أنها خطاب لمعاصِرِي محمَّد صلى الله عليه وسلم، وأنها مقطوعة من قوله‏:‏ ‏{‏اضربوه بِبَعْضِهَا‏}‏، وروي أن هذا القتيل لما حَيِيَ، وأخبر بقاتله، عاد ميتاً كما كان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 75‏]‏

‏{‏ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏74‏)‏ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ أي‏:‏ صلبت وجفَّت، وهي عبارة عن خلوِّها من الإنابة والإذعان لآيات اللَّه تعالى، قال قتادة وغيره‏:‏ المراد قلوب بني إسرائيل جميعاً في معاصيهم، وما ركبوه بعد ذلك، و«أَوْ»‏:‏ لا يصحُّ أن تكون هنا للشكِّ، فقيل‏:‏ هي بمعنى «الواو»، وقيل‏:‏ للإضراب، وقيل‏:‏ للإبهام، وقيل غير ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنَ الحجارة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ معذرةٌ للحجارة، وتفضيلٌ لها على قلوبهم، قال قتادة‏:‏ عذر اللَّه تعالى الحجارة، ولم يعذِر شقيَّ بني آدم‏.‏

* ت *‏:‏ وروى البَزَّار عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال‏:‏ ‏"‏ أَرْبَعَةٌ مِنَ الشَّقَاءِ‏:‏ جُمُودُ العَيْنِ، وَقَسَاوَةُ القَلْبِ، وَطُولُ الأَمَلِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا ‏"‏ انتهى من «الكوكبِ الدُّرِّيِّ» لأبي العباس أحمد بن سَعْد التُّجِيبِيِّ، قال الغَزَّاليُّ في «المِنْهَاج»‏:‏ واعلم أن أول الذنب قسوةٌ، وآخره، والعياذ باللَّه، شؤمٌ وشِقْوَةٌ، وسوادُ القلْب يكون من الذنوب، وعلامةُ سواد القلب ألاَّ تجد للذنوب مفزعاً، ولا للطاعات موقعاً، ولا للموعظة منجعاً‏.‏ انتهى‏.‏

وقيل في هبوط الحجارة‏:‏ تفيُّؤ ظلالها، وقيل‏:‏ إن اللَّه تعالى يخلُقُ في بعض الأحجار خشيةً وحياةً، يهبط بها من عُلْوٍ تواضعاً، وقال مجاهد‏:‏ ما تردى حجرٌ من رأسِ جبلٍ، ولا تَفَجَّرَ نهر من حَجَر، ولا خَرَج ماء منه، إلا من خشية اللَّه عز وجلَّ؛ نزل بذلك القرآن، وقال مثله ابْنُ جُرَيْجٍ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ الخطاب للمؤمنين من أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلْف والجِوَار الذي كان بينهم، ومعنى هذا الخطابِ التقرير على أمر فيه بُعْد؛ إذ قد سلف لأسلاف هؤلاء اليهودِ أفاعيلُ سوءٍ، وهؤلاء على ذلك السَّنَن‏.‏

وتحريفُ الشيء‏:‏ إِمالته من حالٍ إلى حال، وذهب ابن عبَّاس إلى أن تحريفهم وتبديلهم؛ إِنما هو بالتأويل، ولفْظُ التوراة باق، وذهب جماعة من العلماء؛ إلى أنهم بدَّلوا ألفاظاً من تلقائهم، وأنَّ ذلك ممكن في التوراة؛ لأنهم استحفظوها، وغير ممكن في القرآن؛ لأن اللَّه تعالى ضَمِنَ حفظه‏.‏

قلْتُ‏:‏ وعن ابن إسحاق؛ أن المراد ب «الفريقِ» هنا طائفةٌ من السبعين الذين سمعوا كلامَ اللَّه مع موسى‏.‏ انتهى من «مختصر الطبريِّ»؛ وهذا يحتاج إلى سند صحيح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 78‏]‏

‏{‏وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏76‏)‏ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏77‏)‏ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا لَقُواْ الذين ءَامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ المعنى‏:‏ وهم أيضاً، إذا لُقُوا يفعلون هذا، فكيف يُطْمَع في إيمانهم، ويحتمل أن يكون هذا الكلام مستأنَفاً؛ فيه كشف سرائرهم؛ وَرَدَ في التفسير؛ ‏"‏ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لاَ يَدْخُلَنَّ عَلَيْنَا قَصَبَةَ المَدِينَةِ إِلاَّ مُؤْمِنٌ»، فقال كَعْبُ بن الأشْرَفِ وأشباهه‏:‏ اذهبوا وتحسَّسوا أخبارَ من آمَنَ بمحمَّد، وقولوا لهم‏:‏ آمنا، واكفروا إِذا رجعتم ‏"‏، فنزلتْ هذه الآية، وقال ابن عبَّاس‏:‏ نزلَتْ في المنافقين من اليهود، وروي عنه أيضاً أنها نزلَتْ في قومٍ من اليهود، قالوا لبعض المؤمنين‏:‏ نحن نؤمن أنه نبيٌّ، ولكن ليس إلَيْنا، وإنما هو إِليكم خاصَّة، فلما خلوا، قال بعضهم‏:‏ لم تُقِرُّونَ بنبوءته، وقال أبو العالية وقتادةُ‏:‏ إِن بعض اليهود تكلَّم بما في التوراة من صفة النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال لهم كفرةُ الأحبار‏:‏ ‏{‏أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ عرَّفكم من صفة محمَّد- صلى الله عليه وسلم-‏.‏

و ‏{‏يُحَاجُّوكُم‏}‏‏:‏ من الحجة، و‏{‏عِندَ رَبِّكُمْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ في الآخرة‏.‏

وقول تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏‏:‏ قيل‏:‏ هو من قول الأحبار لَلأتباعِ، وقيل‏:‏ هو خطابٌ من اللَّه تعالى للمؤمنين، أي‏:‏ أفلا تعقلون أن بني إِسرائيل لا يؤمنون، وهم بهذه الأحوال‏.‏

و ‏{‏أُمِّيُّونَ‏}‏ هنا‏:‏ عبارةٌ عن عامَّة اليهود، وجهلتهم، أي‏:‏ أنهم لا يطمع في إيمانهم لما غمرهم من الضَّلاَل، والأُمِّيُّ في اللغة‏:‏ الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتابٍ؛ نُسِبَ إلى الأُمِّ؛ إِما لأنه بحالِ أمِّه من عَدَمِ الكتب، لا بحال أبيه؛ إذ النساء ليس من شغلهن الكَتْبُ؛ قاله الطبريُّ؛ وإما لأنه بحال ولدته أمه فيها، لم ينتقل عنها‏.‏

و ‏{‏الكتاب‏}‏‏:‏ التوراة‏.‏

والأَمَانِيُّ‏:‏ جمع أُمْنِيَّة، واختلف في معنى ‏{‏أَمَانِيَّ‏}‏، فقالت طائفة‏:‏ هي ههنا من‏:‏ تمنَّى الرجل، إذا ترجى، فمعناه أن منهم من لا يكْتُب ولا يقرأ، وإنما يقول بظنِّه شيئاً سمعه، فيتمنى أنه من الكتاب‏.‏

وقال آخرون‏:‏ هي من تمنى إذا تلا، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

تمنى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ *** وَآخِرَهُ لاقى حِمَامَ المَقْادِرِ

فمعنى الآية‏:‏ أنهم لا يَعْلَمُون الكتاب إِلاَّ سماع شيْءٍ يتلى، لا عِلْمَ لهم بصحَّته‏.‏

وقال الطبريُّ‏:‏ هي من تَمَنَّى الرجُلِ، إذا حدَّث بحديث مختلَقٍ كذبٍ، أي‏:‏ لا يعلمون الكتاب إِلا سماعَ أشياء مختلَقَةٍ من أحبارهم، يظنُّونها من الكتاب‏.‏

* ص *‏:‏ ‏{‏وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ‏}‏‏:‏ «إِنْ»‏:‏ نافية؛ بمعنى «مَا»‏.‏ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 82‏]‏

‏{‏فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ‏(‏79‏)‏ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏80‏)‏ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏81‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ الله‏}‏‏.‏

قال الخليلُ‏:‏ «الوَيْلُ»‏:‏ شِدَّةُ الشر، وهو مصدر، لا فِعْلَ له، ويجمع على وَيْلاَتٍ، والأحسن فيه إِذا انفصل‏:‏ الرفْعُ؛ لأنه يقتضي الوقُوعَ، ويصحُّ النصب على معنى الدُّعَاء، أي‏:‏ ألزمه اللَّه وَيْلاً، ووَيْلٌ ووَيْحٌ ووَيْسٌ تتقاربُ في المعنى، وقد فرق بينها قوم‏.‏

وروى سفيانُ، وعطاءُ بنُ يَسارٍ؛ أن الوَيْلَ في هذه الآية وادٍ يجري بفناءِ جهنَّم من صديد أهل النار‏.‏

وروى أبو سعيد الخُدْرِيُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أنه وادٍ في جهنَّم بيْن جبَلَيْنِ يَهْوِي فيه الهاوِي أربعِينَ خَرِيفاً ‏"‏ وروى عثمانُ بن عفَّانَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أنه جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ النَّار ‏"‏، والذين يكْتُبُونَ‏:‏ هم الأَحْبَارُ والرؤساءُ‏.‏

و ‏{‏بِأَيْدِيهِمْ‏}‏ قال ابن السَّرَّاج‏:‏ هي كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم، والذي بدَّلوه هو صفة النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ ليستديمُوا رياستهم ومكاسبهم، وذكر السُّدِّيُّ؛ أنهم كانوا يكتبون كتباً يبدِّلون فيها صفةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ويبيعونَهَا من الأَعراب، ويبثُّونها في أتباعهم، ويقولون هي من عند اللَّه، والثَّمَنُ‏:‏ قيل‏:‏ عَرَضُ الدنيا، وقيل‏:‏ الرُّشَا والمآكلُ التي كانتْ لهم، و‏{‏يَكْسِبُونَ‏}‏ معناه‏:‏ من المعاصي، وقيل‏:‏ من المال الذي تضمنه ذكر الثَّمَن‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏:‏ روى ابن زَيْد وغيره؛ أنَّ سببها ‏"‏ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْيَهُودِ‏:‏ «مَنْ أَهْلُ النَّارِ‏؟‏» فَقَالُوا‏:‏ نَحْنُ، ثُمَّ تَخْلُفُونَا أَنْتُمْ، فَقَالَ لَهُمْ‏:‏ «كَذَبْتُمْ؛ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّا لاَ نَخْلُفُكُمْ» ‏"‏ فنزلَتْ هذه الآية‏.‏

قال أهل التفسير‏:‏ العهد في هذه الآية‏:‏ الميثاقُ والموعد، و«بلى» رد بعد النفْيِ بمنزلة «نَعَمْ» بعد الإِيجاب، وقالت طائفة‏:‏ السيئة هنا الشرك؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ جَاءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النار‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 90‏]‏ والخَطِيئاتُ‏:‏ كبائر الذنوب، قال الحسن بن أبي الحسن، والسُّدِّيُّ‏:‏ كل ما توعد اللَّه عليه بالنار، فهي الخطيئة المحيطَةُ، والخلودُ في هذه الآية على الإِطلاق والتأبيد في الكُفَّار، ومستعار؛ بمعنى الطُّول في العُصَاة، وإِن علم انقطاعه‏.‏

قال محمَّد بن عبد اللَّه اللَّخْمِيُّ في مختصره للطبريِّ‏:‏ أجمعتِ الأمَّة على تخليد مَنْ مات كافراً، وتظاهرت الرواياتُ الصحيحةُ عن الرسُول صلى الله عليه وسلم والسلفِ الصالح، بأن عصاة أهل التوحيد لا يخلَّدون في النار، ونطق القرآن ب ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 116‏]‏ لكن من خاف على لَحْمه ودَمِه، اجتنب كل ما جاء فيه الوعيدُ، ولم يتجاسَرْ على المعاصي؛ اتكالا على ما يرى لنفسه من التوحيد، فقد كان السلف وخيار الأمة يخافُون سلْب الإِيمان على أنفسهم، ويخافون النفاقَ عليها، وقد تظاهرتْ بذلك عنهم الأخبار‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ يدلُّ هذا التقسيم على أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً‏}‏ الآية في الكفار، لا في العصاة؛ ويدل على ذلك أيضاً قوله‏:‏ ‏{‏وأحاطت‏}‏؛ لأن العاصي مؤمنٌ، فلم تحط به خطيئاته؛ ويدل على ذلك أيضاً أن الردَّ كان على كُفَّارٍ ادَّعَوْا أنَّ النَّارَ لا تَمَسُّهم إلا أياماً معدودةً، فهم المراد بالخلود، واللَّه أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 85‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏83‏)‏ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ‏(‏84‏)‏ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ أخذ اللَّه سبحانه الميثاق عليهم على لسان موسى- عليه السلام-وغيره من أنبيائهم، وأخْذ الميثاق قولٌ، فالمعنى‏:‏ قلنا لهم‏:‏ ‏{‏لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال سيبوَيْهِ‏:‏ «لا تعبدون‏:‏ متلق لقسم»؛ والمعنى‏:‏ وإذ استحلفناهم، واللَّهِ لا تعبدونَ إلاَّ اللَّه، وفي الإحسان تدخل أنواع بِرِّ الوالدين كلُّها، واليُتْم في بَنِي آدمَ‏:‏ فَقْدُ الأبِ، وفي البهائمِ فَقْدُ الأمِّ، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لاَ يُتْمَ بَعْدَ بُلُوغٍ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لاَ شَيْءَ لَهُ ‏"‏، وقيل‏:‏ هو الذي له بُلْغَةٌ، والآية تتضمَّن الرأفة باليتامى، وحيطة أموالهم، والحضّ على الصدقة، والمواساة، وتفقُّد المساكين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا‏}‏‏:‏ أمر عطف على ما تضمَّنه ‏{‏لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله‏}‏ وما بعده، وقرأ حمزة والكسَائِيُّ‏:‏ «حَسَناً»؛ بفتح الحاء والسين، قال الأخفش‏:‏ وهما بمعنى واحدٍ، وقال الزجَّاج وغيره‏:‏ بل المعنى في القراءة الثانية، وقولوا «قَوْلاً حَسَناً»؛ بفتح الحاء والسين، أو قولاً ذا حُسْن بضم الحاء وسكون السين في الأولى؛ قال ابن عبَّاس‏:‏ معنى الكلام قولُوا للنَّاس‏:‏ لا إله إلا اللَّه، ومُرُوهم بها، وقال ابن جُرَيْجٍ‏:‏ قولوا لهم حُسْناً في الإعلام بما في كتابكم من صفة محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقال سفيانُ الثَّوْرِيُّ‏:‏ معناه‏:‏ مروهم بالمَعْروف، وانهوهم عن المُنْكَر، وقال أبو العالية‏:‏ قولوا لهم الطيبَ من القول، وحاورُوهم بأحسن ما تُحِبُّونَ أن تحاوروا به، وهذا حضٌّ على مكارم الأخلاق، وزكاتُهم هي التي كانوا يَضعُونها، وتنزل النار على ما تُقُبّلَ منها، دون ما لم يتقبل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ خطابٌ لمعاصري النبيِّ صلى الله عليه وسلم أسند إليهم تولّي أسلافهم؛ إِذ هم كلُّهم بتلك السبيل، قال نحوه ابنُ عَبَّاس وغيره‏.‏ والمراد بالقليلِ المستثنى جميعُ مؤمنيهم قديماً من أسلافهم، وحديثاً كابن سَلاَمٍ وغيره، والقِلَّة على هذا هي في عدد الأشخاصِ، ويحتمل أن تكون القِلَّة في الإِيمان، والأول أقوى‏.‏

* ص *‏:‏ ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏‏:‏ منصوب على الاستثناء، وهو الأفصح؛ لأنه استثناءٌ من موجب، وروي عن أبي عَمرو‏:‏ «إلاَّ قَلِيلٌ»؛ بالرفع، ووجَّهه ابن عطية على بدل قليل من ضمير‏:‏ «تَوَلَّيتُمْ» على أن معنى «تَوَلَّيْتُم» النفي، أي‏:‏ لم يف بالميثاق إلا قليل، ورد بمنع النحويِّين البدل من الموجب؛ لأن البدل يحل محلَّ المبدل منه، فلو قلْت‏:‏ قام إلا زيد، لم يجز؛ لأن «إِلاَّ» لا تدخل في الموجب، وتأويله الإِيجاب بالنفْي يلزم في كل موجب باعتبار نفي ضده أو نقيضه؛ فيجوز إِذَنْ‏:‏ «قَامَ القَوْمُ إلاَّ زَيْدٌ»؛ على تأويل‏:‏ «لَمْ يَجْلِسُوا إِلاَّ زَيْدٌ» ولم تبن العَرَب على ذلك كلامها، وإِنما أجازوا‏:‏ «قام القَوْمُ إِلاَّ زَيْدٌ»؛ بالرفع على الصفة، وقد عقد سيبوَيْه لذلك باباً في كتابه‏.‏

انتهى‏.‏

و ‏{‏دِمَاءَكُمْ‏}‏‏:‏ جمع دَمٍ، وهو اسمٌ منقوصٌ‏.‏ أصله «دَمَيٌ»؛ ‏{‏وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِّن دياركم‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ ولا ينفي بعضكم بعضاً بالفتنة والبغْي، وكذلك حكم كلّ جماعة تخاطب بهذا اللفظ في القول‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ‏}‏، أي‏:‏ خَلفَاً بعد سَلَف، أن هذا الميثاق أخذ عليكم، وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ‏}‏ قيل‏:‏ الخطابُ يُرادُ به من سلف منهم، والمعنى‏:‏ وأنتم شهود، أي‏:‏ حُضور أخْذ الميثاق والإِقرار‏.‏

وقيل‏:‏ المراد‏:‏ من كان في مدة محمَّد صلى الله عليه وسلم والمعنى‏:‏ وأنتم شهداء، أي‏:‏ بيِّنةَ أن الميثاق أخذ على أسلافكم، فمنْ بعدهم منْكُمْ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏:‏ ‏{‏هؤلاء‏}‏ دالَّةٌ على أن المخاطبة للحاضرين لا تحتمل ردًّا إلى الأسلاف، قيل‏:‏ تقدير الكلام‏:‏ يا هؤلاءِ، فحذف حرف النداء، ولا يحسن حذفه عند سيبوَيْه، مع المبهمات‏.‏

وقال الأستاذ الأَجَلُّ أبو الحسن بْن أحمد شيخُنا‏:‏ ‏{‏هؤلاء‏}‏‏:‏ رفع بالابتداء، و‏{‏أَنتُمْ‏}‏‏:‏ خبر، ‏{‏تَقْتُلُونَ‏}‏، حال بها تَمَّ المعنى، وهي المقصود‏.‏

* ص *‏:‏ قال الشيخ أبو حَيَّان‏:‏ ما نقله ابن عطية عن شيخه أبي الحسن بن البَادْش من جعله ‏{‏هؤلاء‏}‏ مبتدأً، و‏{‏أَنتُمْ‏}‏ خبر مقدَّم، لا أدري ما العلَّة في ذلك، وفي عدوله عن جعل ‏{‏أَنتُمْ‏}‏ مبتدأ، ‏{‏هؤلاء‏}‏ الخبر، إلى عكسه‏.‏ انتهى‏.‏

* ت *‏:‏ قيل‏:‏ العلة في ذلك دخولُ هاء التنبيه عليه؛ لاختصاصها بأول الكلام؛ ويدلُّ على ذلك قولهم‏:‏ «هَأَنَذَا قَائِماً»، ولم يقولوا‏:‏ «أَنَا هَذَا قَائِماً»، قال معناه ابنُ هِشَامٍ، ف «قَائِماً» في المثال المتقدِّم نصب على الحال‏.‏ انتهى‏.‏

وهذه الآية خطابٌ لقُرَيْظة، والنضير، وبني قَيْنُقَاع، وذلك أن النَّضِيرَ وقُرَيْظة حَالَفَت الأوسَ، وبني قَيْنُقَاع حالفتِ الخزرج، فكانوا إِذا وقعتِ الحربُ بين بني قَيْلَة، ذهبت كل طائفة من بني إسرائيل مع أحلافها، فقتل بعضهم بعضاً، وأخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وكانوا مع ذلك يفدي بعضهم أسرى بعض اتباعا لحكم التوراة، وهم قد خالَفُوها بالقتَالِ، والإِخراج‏.‏

والديارُ‏:‏ مباني الإِقامة، وقال الخليلُ‏:‏ «مَحَلَّةِ القَوْمِ‏:‏ دَارُهُمْ»‏.‏

ومعنى ‏{‏تظاهرون‏}‏‏:‏ تتعاونون، و‏{‏العُدْوَانِ‏}‏‏:‏ تجاوز الحدُودِ، والظلم‏.‏

وقرأ حمزة‏:‏ «أسرى تُفْدُوهُمْ»، و‏{‏أسارى‏}‏‏:‏ جمع أَسِيرٍ، مأخوذ من الأَسْر، وهو الشَّدُّ، ثم كثر استعماله؛ حتى لزم، وإن لم يكنْ ثَمَّ رَبْطٌ ولا شَدٌّ، وأَسِيرٌ‏:‏ فَعِيلِ‏:‏ بمعنى مفعول، و‏{‏تفادوهم‏}‏‏:‏ معناه في اللغة‏:‏ تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنهم شيئاً، وقَالَ الثَّعْلَبِيُّ‏:‏ يقال‏:‏ فدى، إِذا أعطى مالاً، وأخذ رجلاً، وفادى، إِذا أعطى رجلاً، وأخذ رجُلاً فتُفْدُوهم‏:‏ معناه بالمالِ، وتُفَادُوهم، أي‏:‏ مفادات الأسير بالأسير‏.‏ انتهى‏.‏

* ت *‏:‏ وفي الحديث من قوْل العَبَّاس رضي اللَّه عنه‏:‏ «فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وعَقِيلاً»، وظاهره لا فَرْق بينهما‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ والذي آمنوا به فداءُ الأسارى، والذي كَفَرُوا به قتْلُ بعضهم بعضاً، وإِخراجُهُمْ من ديارهم، وهذا توبيخٌ لهم وبيانٌ لقبح فعلهم، والخِزْيُ‏:‏ الفضيحة، والعقوبة، فقيل‏:‏ خزيهم‏:‏ ضرْبُ الجزية عليهم غابَر الدهر، وقيل‏:‏ قتل قريظة، وإِجلاءُ النضير، وقيل‏:‏ الخزْيُ الذي تتوعَّد به الأمة من الناسِ هو غلبةُ العدوِّ‏.‏

و ‏{‏الدنيا‏}‏‏:‏ مأخوذةٌ من دَنَا يدْنُو، وأصل الياء فيها واوٌ، ولكن أبدلتْ فرقاً بين الأسماء والصفات، وأَشَدّ العَذَابِ‏:‏ الخلودُ في جهنم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ قرأ نافعٌ، وابن كَثِير بياءٍ على ذِكْر الغائب، فالخطاب بالآية لأمة محمَّد صلى الله عليه وسلم والآية واعظةٌ لهم بالمعنى، إذ اللَّه تعالى بالمرصاد لكل كافر وعاص‏.‏

وقرأ الباقون بتاء؛ على الخطاب لمن تقدَّم ذكره في الآية قبل هذا؛ وهو قوله‏:‏ ‏{‏أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، وهو الأظهر، ويحتمل أن يكون لأمة محمَّد صلى الله عليه وسلم فقد رُوِيَ؛ أنَّ عمر بن الخَطَّاب- رضي اللَّه عنه- قال‏:‏ «إِنَّ بنِي إِسرائيل قد مضَوْا، وأنتم الذين تُعْنَوْنَ بهذا، يا أمة محمَّد»؛ يريد هذا، وما يجري مجراه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 88‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏86‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ‏(‏87‏)‏ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالأخرة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ جعل اللَّه ترك الآخرةِ، وأخْذَ الدنيا عوضاً عنها، مع قدرتهم على التمسُّك بالآخرة- بمنزلة من أخذها، ثم باعها بالدنيا، ‏{‏فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب‏}‏، في الآخرة، ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ‏}‏؛ لا في الدنيا، ولا في الآخرة‏.‏

* ص *‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب‏}‏‏:‏ «اللام» في «لَقَدْ»‏:‏ يحتمل أن تكون توكيداً، ويحتمل أن تكون جواب قسم، وموسى هو المفعول الأول، والكتاب الثانِي، وعكس السُّهَيْلِيُّ‏.‏

و ‏{‏مَرْيَمَ‏}‏‏:‏ معناه في السُّرْيانية‏:‏ الخَادَم، وسميت به أمُّ عيسى، فصار علماً عليها‏.‏ انتهى‏.‏

و ‏{‏الكتاب‏}‏‏:‏ التوراةُ‏.‏

‏{‏وَقَفَّيْنَا‏}‏‏:‏ مأخوذ من القَفَا؛ تقول‏:‏ قَفَيْتُ فُلاَناً بِفُلاَنٍ، إِذا جئْتَ به من قبل قَفَاه، ومنه‏:‏ قَفَا يَقْفُو، إِذا اتبع، وكلُّ رسول جاء بعد موسى، فإِنما جاء بإِثبات التوراة، والأمر بلزومها إلى عيسَى- عليهم السلام-‏.‏

و ‏{‏البينات‏}‏‏:‏ الحججُ التي أعطاها اللَّه عيسى‏.‏

وقيل‏:‏ هي آياته من إحياء، وإبراء، وخَلْق طَيْرٍ، وقيل‏:‏ هي الإِنجيل، والآية تعم ذلك‏.‏

‏{‏وأيدناه‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ قويْناه، والأَيْدُ القوة‏.‏

قال ابن عبَّاس‏:‏ ‏{‏رُوح القدس‏}‏‏:‏ هو الاسم الذي كان يُحْيِي به الموتى، وقال ابن زِيْد‏:‏ هو الإِنجيل؛ كما سمَّى اللَّه تعالَى القرآن رُوحاً، وقال السُّدِّيُّ، والضَّحَّاك، والربيع، وقتادة‏:‏ ‏{‏رُوحُ القدس‏}‏‏:‏ جبريلُ- عليه السلام-؛ وهذا أصحُّ الأقوال، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لِحَسَّان‏:‏ ‏"‏ اهج قُرَيْشاً، وَرُوحُ القُدُسِ مَعكَ ‏"‏ ومرةً قال له‏:‏ ‏"‏ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ ‏"‏، و‏{‏كُلَّمَا‏}‏‏:‏ ظرف؛ والعامل فيه‏:‏ ‏{‏استكبرتم‏}‏، وظاهر الكلامِ الاستفهامُ، ومعناه التوبيخُ؛ روي أن بني إِسرائيل كانوا يقتلون في اليومِ ثلاثمائة نبيٍّ، ثم تقوم سوقُهم آخر النهار، وروي سبعين نبيًّا، ثم تقومُ سوق بَقْلِهِمْ آخر النهار‏.‏

والهوى أكثر ما يستعمل فيما ليس بحقٍّ، وهو في هذه الآية من ذلك؛ لأنهم إنما كانوا يَهْوَوْنَ الشهوات، ومعنى‏:‏ ‏{‏قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏}‏، أي‏:‏ عليها غشاواتٌ، فهي لا تفقه، قال ابن عبَّاس‏.‏ ثم بيَّن تعالى سبب نُفُورهم عن الإِيمان إِنما هو أنهم لُعِنُوا بما تقدَّم من كفرِهِم واجترامهم، وهذا هو الجزاء على الذنْبِ بذنْب أعظم منه، واللعن‏:‏ الإبعاد والطرد‏.‏

و ‏{‏قَلِيلاً‏}‏‏:‏ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، تقديره‏:‏ فإِيماناً قَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ، والضميرُ في «يُؤْمِنُونَ» لحاضري محمَّد صلى الله عليه وسلم منْهُمْ؛ ومَا في قوله‏:‏ ‏{‏مَّا يُؤْمِنُونَ‏}‏ زائدةٌ موكِّدَة‏.‏