فصل: تفسير الآيات رقم (16- 18)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 18‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ‏(‏17‏)‏ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ خطابٌ للمؤمنين؛ كقوله‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 142‏]‏ ومعنى الآية‏:‏ أظننتم أن تتركوا دون اختبار وامتحانٍ، والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا يَعْلَمِ الله‏}‏، أي‏:‏ لم يعلم اللَّه ذلك موْجُوداً؛ كما عَلِمَهُ أَزلاً بشرط الوجود، وليس يَحْدُثُ له علْم تبارك وتعالى عن ذلك، و‏{‏وَلِيجَةً‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ بِطَانَة ودَخِيلة، وهو مأخوذ من الوُلُوج، فالمعنى‏:‏ أَمْراً باطناً مما يُنْكَر، وفي الآيةِ طَعْنٌ على المنافقين الذين اتخذوا الوَلاَئِجَ، قال الفَخْر‏:‏ قال أبو عُبَيْدَة‏:‏ كلّ شيءٍ أدخلْتَه في شيءٍ ليس منه، فهو وَلِيجةٌ، وأصله من الوُلُوج، قال الواحديُّ يقال‏:‏ هو وَلِيجَةٌ، للواحدِ والجمع‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللهِ‏}‏، إِلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله مَنْ آمَنَ بالله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، لفظ هذه الآية الخَبَرُ، وفي ضمنها أمر المُؤمنين بِعَمارة المساجد، وروي أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ؛ أَن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ المَسَاجِدَ، فاشهدوا لَهُ بالإِيمان ‏"‏‏.‏ * ت *‏:‏ زاد ابن الخَطِيبِ في روايته‏:‏ «فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الأخر‏}‏‏.‏ انتهى من ترجمة محمَّد بنِ عبدِ اللَّهِ، وفي الحديثِ عَنْه صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لِمَنْ كَانَتْ المَسَاجِدُ بَيْتَهُ الأَمْنَ، والأَمَانَ، وَالجَوَازَ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ القِيَامَةِ ‏"‏ خَرَّجه عليُّ بن عبد العزيز البَغَوِّيُّ في «المُسْنَد المُنْتَخَب» له، وروى البغويُّ أيضاً في هذا «المسند»، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ إِذَا أَوْطَنَ الرَّجُلُ المَسَاجِدَ بِالصَّلاَةِ، وَالذِّكْرِ، تَبَشْبَش اللَّهُ لَهُ كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الغَائِبِ لِغَائِبِهمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ ‏"‏ انتهى من «الكَوْكَب الدُّرِّيِّ»، قيل‏:‏ ومعنى «يَتَبَشْبَشُ»‏:‏ أي يفرح به‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله‏}‏، يريد‏:‏ خشيةَ التعظيمِ والعبادةِ، وهذه مرتبةُ العَدْل من الناس، ولا محالة أَنَّ الإِنسان يخشَى غيره، ويخشَى المحاذيرَ الدنيويَّة، وينبغي أن يخشَى في ذلك كلِّه قضاءَ اللَّهِ وتصريفَهُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 22‏]‏

‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏19‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏20‏)‏ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ‏(‏21‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج‏}‏ ‏{‏سِقَايَةَ الحاج‏}‏‏:‏ كانَتْ في بني هَاشِمٍ، وكان العبَّاس يتولاَّها، قال الحسن‏:‏ ولما نزلَتْ هذه الآيةُ، قال العبَّاس‏:‏ ما أَراني إلاَّ أتركُ السقايةَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أُقِيمُوا عَلَيْهَا فَهِيَ خَيْرٌ لَكُمْ» ‏{‏وَعِمَارَةَ المسجد الحرام‏}‏‏:‏ قيلَ‏:‏ هي حِفْظه ممَّن يظلم فيه، أو يقول هُجْراً، وكان ذلك إِلى العبَّاس، وقيل‏:‏ هي السّدَانَة وَخِدْمَةِ البَيْت خَاصَّة، وكان ذلك في بني عَبْد الدَّار، وكان يتولاَّها عثمانُ بنُ طَلْحَة، وابنُ عمه شَيْبَةُ، وأقرَّها النبيُّ صلى الله عليه وسلم لهما ثَانِيَ يَوْمِ الفتحِ، وقال‏:‏ «خُذَاهَا خَالِدَةً تَالِدَةً لاَ يُنَازِعُكُمُوهَا إِلاَّ ظَالِمٌ»‏.‏

واختلف الناس في سبب نزولِ هذه الآية، فقال مجاهدٌ‏:‏ أُمرُوا بالهجرة، فقال العبَّاس‏:‏ أنا أسقي الحاجَّ، وقال عثمانُ بن طلحة‏:‏ أنا حاجبُ الكَعْبَة، وقال محمدُ بنُ كَعْب‏:‏ إِن العبَّاس وعليًّا وعثمان بن طلحة تَفَاخَرُوا فنزلَتِ الآية، وقيل غير هذا‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِى سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ لما حكم سبحانه في الآية المتقدِّمة بأن الصِّنفين لا يستوون، بيَّن ذلك في هذه الآية الأخيرة، وأوضحه، فعدَّد الإِيمان والهجرة والجهاد بالمال والنفْس، وحَكَم عَلَى أنَّ أهل هذه الخصالِ أَعظمُ درجةً عند اللَّه مِنْ جميع الخَلْقِ، ثم حَكَمَ لهم بالفَوْزِ بِرَحْمَتِهِ ورضْوانه، والفَوْزُ‏:‏ بلوغُ البُغْيَةْ، إمَّا في نيل رَغِيبَة، أو نجاةٍ من هَلَكَة، ويَنْظُرُ إِلى معنَى هذه الآية الحديثُ‏:‏ ‏"‏ دَعُوا لي أَصْحَابِي؛ فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً، مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نِصِيفَهُ ‏"‏؛ ولأن أصحاب هذه الخِصَال علَى سيوفهم انبنى الإِسلام، وتمهَّد الشرْعُ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ ورضوان‏}‏، هذا وعْدٌ كريمٌ مِنْ ربٍّ رحيمٍ، وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏ إِذَا استقر أَهْلُ الجَنَّةِ في الجَنَّة، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ‏:‏ هَلْ رَضِيتُمْ‏؟‏ فَيَقُولُونَ‏:‏ وَكَيْفَ لاَ نَرْضَى، يَا رَبَّنَا‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ إِنِّي سَأُعْطِيَكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِك‏!‏ رِضْوَانِي أَرْضَى عَلَيْكُمْ؛ فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ أَبَداً‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ الحديثَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏23‏)‏ قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان‏}‏، ظاهر هذه المخاطبة‏:‏ أنها لجميع المؤمنين كافَّة، وهي باقيةُ الحُكْمِ إلى يوم القيامة، وروتْ فرقة أنها نزلَتْ في الحَضِّ على الهجرة، ورفضِ بلادِ الكُفْر‏.‏

قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذه الآيةُ تقوِّي مذهب مَنْ رأى أن هذه الآية والَّتي قبلها إنما مقصودُهُما الحَضِّ على الهجْرة، وفي ضمْن قوله‏:‏ ‏{‏فَتَرَبَّصُواْ‏}‏‏:‏ وعيدٌ بيِّن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بِأَمْرِهِ‏}‏، قال الحَسَنُ‏:‏ الإشارة إلى عذابٍ أو عقوبةٍ من الله تعالى‏.‏

وقال مجاهدٌ‏:‏ الإِشارة إِلى فتح مكَّة، وذكر الأَبناء في هذه الآية دون التي قَبْلَها، لما جلبتْ ذِكرهم المَحَبَّة، والأبناء‏:‏ صَدْرٌ في المحبة وليسوا كذلك، في أن تتبع آراؤهم؛ كما في الآية المتقدمة، واقترفتموها‏:‏ معناه‏:‏ اكتسبتموها، ومساكِنُ‏:‏ جَمْعُ مَسْكَنٍ- بفتح الكاف‏:‏، مَفْعَلٌ من السُّكْنَى، وما كان من هذا معتلَّ الفاءِ، فإِنما يأتي على مَفْعِلٍ ‏(‏بكسر العين‏)‏؛ كموعِدٍ ومَوْطِنٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 27‏]‏

‏{‏لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ‏(‏26‏)‏ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏27‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏، هذه مخاطبةٌ لجميع المؤمنين يعدِّد الله تعالى نِعَمَهُ عليهم، والمواطِنُ المُشَارُ إلَيْها بَدْرٌ والخَنْدَق والنَّضير وقُرَيْظة وخَيْبَر وغيرها، وحُنَيْنٌ وادٍ بين مكَّة والطائِف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ‏}‏، رُوِيَ أَن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ رَأَى جملته اثني عَشَرَ أَلْفاً‏:‏ «لَنْ تُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ»، وروي أَنَّ رجلاً من أصحابه قالها فأَراد الله تعالى إظهار العجز؛ فظهر حين فَرَّ الناسُ‏.‏

* ت *‏:‏ العجب جائزٌ في حقِّ غير النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو معصومٌ منه صلى الله عليه وسلم، والصوابُ في فَهْمِ الحديث، أَنه خَرَجَ مَخْرَجَ الإِخبار، لا على وجه العُجْب؛ وعلى هذا فَهِمُه ابنُ رُشْدٍ وغيره، وأَنه إِذا بلغَ عَدَدُ المسلمين اثني عشر ألفاً حُرِمَ الفِرَارُ، وإن زاد عددُ المُشْرِكين على الضِّعْف؛ وعليه عَوَّلَ في الفتوى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ‏}‏، معناه‏:‏ بِرُحْبها؛ كأنه قال‏:‏ عَلَى ما هي عليه في نَفْسها رَحْبةً واسعةً، لشدَّة الحال وَصُعوبتها؛ ف «مَاء»‏:‏ مصدرية‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ‏}‏، أي‏:‏ فراراً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم واختصار هذه القصَّة‏:‏ أنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فتَحَ مكَّة، وكان في عَشَرة ألفاً منْ أصحابه، وانضاف إِليهم ألفانِ من الطُّلَقَاءِ، فصار في اثني عَشَرَ أَلافٍ، سمع بذلك كفَّار العرب، فشَقَّ عليهمِ، فجمعتْ له هوازنُ وألفافها، وعليهم مَالِكُ بن عوفٍ النصريُّ، وثقيفٌ، وعليهم عبْد يَالِيلَ بْنُ عَمْرُو وانضاف إِليهم أَخلاطٌ مِنَ الناس حتى كانوا ثلاثينَ أَلْفاً، فخرج إِليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين اجتمعوا بحُنَيْنٍ، فلما تصافَّ الناسُ، حمل المشركون من مَحَانِي الوادِي، وانهزم المُسْلِمون، قال قتادة‏:‏ وكان يقال‏:‏ إِن الطلقاء مِنْ أَهْل مكَّةَ فرُّوا، وقصدوا إِلقَاءَ الهَزيمة في المُسْلمين، وكان رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بغلته البَيْضَاء قد اكَتَنَفَهُ العَبَّاس عمُّه، وابنُ عَمِّه أبو سفيانَ بْنُ الحارثِ بنِ عبد المُطَّلبِ، وبَيْنَ يدَيْهِ أَيْمَنُ بْنُ أُمِّ أَيْمَنَ، وثَمَّ قتل رحمه اللَّه والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقولُ

أَنَا النَّبيُّ لاَ كَذِبْ *** أَنا ابن عَبْدِ المُطَّلِبْ

فلما رأَى نبيُّ صلى الله عليه وسلم شدَّةَ الحالِ، نَزَلَ عن بَغْلَتِهِ إِلى الأرض؛ قاله البَرَاءُ بنُ عازب، واستنصر اللَّه عَزَّ وجلَّ، فأَخَذَ قبضةً مِنْ ترابٍ وحصًى، فرمَى بها في وُجُوه الكُفَّار، وقال‏:‏ «شَاهَت الوُجُوه»، ونادَى رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالأنصارِ، وأمَرَ العبَّاسَ أنْ ينادِيَ‏:‏ «أَيْنَ أَصْحَابُ الشَّجَرَةِ‏؟‏ أَيْنَ أَصْحَابُ سُورَةِ البَقَرةِ‏؟‏» فَرَجَعَ النّاسُ عَنَقاً واحداً للحَرْبِ، وتصافحوا بالسُّيوفِ والطَّعْنِ والضرب، وهناك قال عليه السلام‏:‏ «الآنَ حَمِيَ الوَطِيسُ» وهزم اللَّهُ المشركين، وأَعْلَى كلمةَ الإِسلام إِلى يَوْمِ الدينِ، قال يَعْلَى بن عطاءٍ‏:‏ فحدَّثني أبناءُ المنهزمين عَنْ آبائهم، قالوا‏:‏ لم يَبْقَ منَّا أحَدٌ إِلا دخَلَ عينيه مِنْ ذلك التُّرَابِ واستيعابُ هذه القصة في كتب «السِّيَر»‏.‏

و ‏{‏مُّدْبِرِينَ‏}‏‏:‏ نصب على الحال المؤكِّدة؛ كقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الحق مُصَدِّقًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 91‏]‏، والمؤكِّدة هي التي يدلُّ ما قبلها عليها كدلالة التولِّي على الإِدبار‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ السكينةُ‏:‏ النَّصْر الذي سَكَنَتْ إِليه ومعه النفُوسُ، والجنودُ‏:‏ الملائكةُ، والرُّعْبُ؛ قال أبو حاجز يزيدُ بنُ عامرٍ‏:‏ كان في أجوافنا مثلُ ضَرْبَةِ الحَجَرِ في الطَّسْتِ من الرُّعْبِ، ‏{‏وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ‏}‏، أيْ‏:‏ بالقتل والأسْرِ، ‏"‏ وروَى أبو داود، عن سهل بن الحَنْظَلِيَّة أنهم سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ، فأَطْنَبُوا السَّيْرَ حَتَّى كَانَ عشِيَّةً، فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ مع رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ رَجُلٌ فَارِسٌ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي انطلقت بَيْنَ أَيْدِيكُمْ حتى طَلَعْتُ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَنا بِهَوَازِنَ عَلَى بَكْرَةِ أَبِيهِم بظُعُنِهِمْ وَنَعَمِهِمْ، وشِيَاهِهِمْ، اجتمعوا إِلَى حُنَيْنٍ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ‏:‏ «تِلْكَ غَنِيْمَةُ المُسْلِمِينَ غَداً، إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏» ‏"‏ الحديثَ‏.‏ انتهى، فكانوا كذلك غنيمةً بحَمْد اللَّه، كما أخبر صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏28‏)‏ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ‏}‏، قال ابن عباس وغيره‏:‏ معنى الشِّرْكَ هو الذي نَجَّسهم؛ كنجاسة الخَمْر، ونصَّ اللَّه سبحانه في هذه الآية على المُشْرِكِينَ، وعلى المَسْجِد الحرام، فقاسَ مالكٌ رحمه اللَّه وغيره جَميعَ الكُفَّار من أهْلِ الكتاب وغيرهم؛ على المشركين، وقَاسَ سائرَ المساجِدِ على المَسْجِدِ الحرامِ، وَمَنَعَ مِنْ دخولِ الجميعِ في جميعِ المساجدِ، وقوَّةُ قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلاَ يَقْرَبُواْ‏}‏ يقتضي أمْرَ المسلمين بمَنْعهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بَعْدَ عَامِهِمْ هذا‏}‏، يريد‏:‏ بعد عامِ تِسْعٍ من الهجرة، وهو عَامُ حَجَّ أبو بَكْرٍ بالنَّاس‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً‏}‏، أي‏:‏ فقْراً، ‏{‏فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ‏}‏، وكان المسلمون، لَمَّا مُنِعَ المشركون من المَوْسِم، وهم كانوا يجلبون الأطعمةَ والتجاراتِ، قَذَفَ الشيطان في نفوسهم الخَوْفَ من الفَقْر، وقالوا‏:‏ مِنْ أيْنَ نعيش‏؟‏ فوعَدَهم اللَّه سبحانه بأنْ يغنيهم مِنْ فَضْله، فكان الأمر كما وعد اللَّه سبحانه، فأسلَمَتِ العربُ، فتمادَى حجُّهم وتَجْرُهم، وأغنى اللَّه من فضله بالجهادِ والظهورِ على الأُمَمِ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الأخر‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذه الآيةُ تضمَّنت قتالَ أهْلَ الكتاب، قال مجاهد‏:‏ وعند نزول هذه الآية أخَذَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في غَزْوَ الرُّومِ، ومشَى نحو تَبُوكَ، ونفَى سبحانه عن أَهل الكتاب الإِيمان باللَّه واليوم الآخر؛ حيث تركوا شَرْعَ الإِسلام؛ وأَيضاً فكانَتِ اعتقاداتهم غيْرَ مستقيمةٍ، لأنهم تشعّبوا، وقالوا عُزَيْرٌ ابن اللَّهِ، واللَّهُ ثالِثُ ثلاثةٍ، وغَيْرَ ذلك؛ ولهم أيضاً في البعث آراءٌ فاسدةٌ؛ كشراءِ منازِلِ الجنَّة من الرُّهْبَانِ؛ إِلى غير ذلك من الهَذَيان، ‏{‏وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق‏}‏، أي‏:‏ لا يطيعون، ولا يمتثلون؛ ومنْه قولُ عائشة‏:‏ «مَا عَقَلْتُ أَبَوَيَّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ»، والدِّينُ هنا‏:‏ الشريعةُ، قال ابن القاسِمِ وأشْهَبُ وسَحْنُون‏:‏ وتؤخذ الجزيةُ منْ مجوس العربِ والأمم كلِّها، وأما عَبَدة الأَوثان والنِّيران وغيرِ ذلك، فجمهور العلماء على قبولِ الجزيةِ منهم، وهو قولُ مالكٍ في «المدوَّنة»‏.‏

وقال الشافعيُّ وأبو ثور‏:‏ لا تؤخذ الجزيةُ إِلا مِنَ اليهودِ والنصارَى والمجوسِ فقطْ، وأما قَدْرها في مذْهَب مالك وغيره، فأربعةُ دنَانِير عَلَى أهْلِ الذَّهَبِ، وأربعون درْهماً عَلَى أَهْل الفضَّة، وهذا في العَنْوة، وأما الصُّلْح، فهو ما صالحوا عَلَيْه، قليلٌ أو كثيرٌ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عَن يَدٍ‏}‏ يحتمل وجوهاً‏:‏

منها‏:‏ أنْ يريد عن قُوَّة منكم عليهم، وقَهْرٍ، واليدُ في كلام العرب‏:‏ القُوَّة‏.‏

ومنها‏:‏ أَنْ يريد سَوْقَ الذِّميِّ لها بِيَدِهِ، لا أنْ يبعثها معَ رَسُولٍ؛ ليكون في ذلك إِذلالٌ لهم‏.‏

ومنها‏:‏ أنْ يريد نَقْدَهَا ناجزاً، تقول‏:‏ بِعْتُهُ يَداً بِيَدٍ، أي‏:‏ لا يؤخِّروا بها‏.‏

ومنها‏:‏ أنْ يريد عن استسلام، يقال‏:‏ أَلْقَى فلانٌ بيده، إِذَا عَجَز واستسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 33‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏30‏)‏ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏31‏)‏ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏32‏)‏ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله‏}‏‏:‏ الذي كثر في كُتُب أهْل العلم؛ أنَّ فرقةً من اليهود قالَتْ هذه المقالة وروي أنه قالها نَفَرٌ يسير منهم فِنحْاص وغيره، قال النَّقَّاش‏:‏ ولم يبق الآن يهودي يقولها، بل انقرضوا‏.‏

قال * ع *‏:‏ فإِذا قالها ولو واحدٌ من رُؤسَائهم، توجَّهت شنعة المقالة علَى جماعتهم، وحكَى الطبريُّ وغيره؛ أن بني إِسرائيل أصابتهم فتن وجلاء، وقيل‏:‏ مَرَض، وأذهب اللَّه عنهم التَّوْراة في ذلك، ونَسُوها، وكان علماؤهم قد دَفَنُوها أول ما أحسُّوا بذلك البلاء، فلما طالَتْ المدة، فُقِدَت التوراة جملةً، فحفَّظها اللَّهُ عُزَيْراً؛ كرامةً منه له، فقال لبني إِسرائيل‏:‏ إِن اللَّهَ قد حفَّظني التوراةَ، فجعلوا يَدْرُسُونها من عنْده، ثم إِن التوراة المدْفُونَة وِجِدَتْ، فإِذا هي مساويةٌ لما كان عَزَيْرٌ يدرِّس، فضَلُّوا عند ذلك، وقالوا‏:‏ إِن هذا لم يتهيَّأْ لعُزَيْرٍ إِلاَ وهو ابن اللَّه، نعوذُ باللَّه من الضَّلال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بأفواههم‏}‏، أي‏:‏ بمجرَّد الدعوَى من غير حُجَّة ولا برهان، و‏{‏يضاهئون‏}‏، قراءةُ الجماعة، ومعناه‏:‏ يحاكُون ويماثلون، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ‏}‏‏:‏ إِما لمشركي العرب؛ إِذ قالوا‏:‏ الملائكة بناتُ اللَّهِ؛ قاله الضَّحَّاك، وإِما لأممٍ سالفةٍ قبلها، وإِما للصَّدْر الأول من كَفَرة اليهودِ والنَصَارَى، ويكون ‏{‏يضاهئون‏}‏ لمعاصرِي النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وإِن كان الضمير في ‏{‏يضاهئون‏}‏ للنصارَى فقطْ، كانت الإِشارة ب ‏{‏الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ‏}‏ إلى اليهود؛ وعلى هذا فسَّر الطبريُّ، وحكاه غيره عن قتادة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قاتلهم الله‏}‏‏:‏ دعاءٌ عليهم عامٌّ لأنواع الشَّر، وعن ابن عباس؛ أن المعنَى‏:‏ لعنهم اللَّه‏.‏ قال الداووديُّ‏:‏ وعن ابن عباس قاتلهم اللَّه‏:‏ لعنهم اللَّه، وكلُّ شيء في القُرآن‏:‏ قَتَلَ، فهو لَعْن‏.‏ انتهى‏.‏ و‏{‏أنى يُؤْفَكُونَ‏}‏، أَي‏:‏ يُصْرَفُون عن الخَيْر‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏اتخذوا أَحْبَارَهُمْ ورهبانهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذه الآية يفسِّرها ما حكاه الطَّبريُّ؛ أن عدي بن حاتم قال‏:‏ «جئْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وفي عُنُقي صَلِيبُ ذَهَب، فَقَالَ‏:‏ يَا عَدِيُّ اطرح هَذَا الصَّلِيبَ مِنْ عُنُقِكَ، فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ‏:‏ ‏{‏اتخذوا أَحْبَارَهُمْ ورهبانهم أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله‏}‏، فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وكَيْفَ ذَلِكَ، وَنَحْنُ لَمْ نَعْبُدْهُمْ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ أَلَيْسَ تَسْتَحِلُّونَ مَا أَحَلُّوا وَتُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمُوا‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ فَذَلِكَ»‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ تنزيهاً له، و‏{‏نُورَ اللَّهِ‏}‏؛ في هذه الآية‏:‏ هُدَاه الصادرُ عن القرآن والشَّرْع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بأفواههم‏}‏؛ عبارةٌ عن قلَّةِ حيلتهم وضَعْفها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بالهدى‏}‏‏:‏ يعم القرآن وجميعَ الشَّرْع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ‏}‏، وقد فعل ذلك سبحانه، فالضمير في ‏{‏لِيُظْهِرَهُ‏}‏‏:‏ عائدٌ على الدِّين، وقيل‏:‏ على الرسول، وهذا وإِنْ كان صحيحاً، فالتأويل الأول أبْرَعُ منه، وأَلْيَقُ بنظامِ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 35‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏34‏)‏ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل‏}‏، المراد بهذه الآية‏:‏ بيانُ نقائصِ المذكورين، ونَهْيُ المؤمنين عن تلك النقائصِ مترتِّب ضِمْنَ ذلك، واللام في ‏{‏لَيَأْكُلُونَ‏}‏‏:‏ لامُ التوكيدِ، وصورةُ هذا الأكْلِ هي بأنهم يأخذونَ من أموال أتباعهم ضرائِبَ وفُرُوضاً باسم الكنائسِ والبِيَعِ وغَيْرِ ذلك ممَّا يوهمونهم أنَّ النفقة فيه مِنَ الشَّرْعَ والتَقرُّب إِلى اللَّهَ، وهم خلاَلَ ذلك يحتجنون تلك الأموالَ، كالذي ذكره سليمان في كتاب «السير»، عن الراهِبِ الذي استخرج كَنْزَهُ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏، أي‏:‏ عن شريعة الإِسلام والإيمان بنبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والذين‏}‏ ابتداءٌ، وخبره ‏{‏فَبَشِّرْهُم‏}‏ والذي يظهر من ألفاظ الآية‏:‏ أنه لما ذَكَر نَقْصَ الأحبار والرهبانِ الآكلين للمَالِ بالباطل، ذَكَرَ بعد ذلك بقَوْلٍ عامٍّ نَقْصَ الكانزين المانعين حقَّ المال، وقرأ طلحةُ بْنُ مُصَرِّف‏:‏ «الَّذِينَ يَكْنِزُونَ» بغير واو،؛ وعلى هذه القراءة يجري قولُ معاوِيَةَ‏:‏ أنَّ الآية في أهْل الكتَاب، وخالفه أبو ذَرٍّ، فقال‏:‏ بل هِيَ فينا‏.‏

و ‏{‏يَكْنِزُونَ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ يجمعون ويحفظون في الأَوعية، وليس مِنْ شرط الكَنْز‏:‏ الدفْنُ، والتوعُّد في الكنز، إِنما وقع عَلَى منع الحقوق منه، وعلى هذا كثيرٌ من العلماء، وقال عليٌّ رضي اللَّه عنه‏:‏ أربعةُ آلاف دِرْهَمٍ فما دُونَهَا نفقةٌ، وما زاد علَيْهَا فهو كَنْز، وإِن أَدَّيْتُ زَكَاتَهُ‏.‏

وقال أبو ذَرٍّ وجماعةٌ معه‏:‏ ما فَضَلَ مِنْ مالِ الرَّجُل على حاجةِ نَفْسِه، فهو كَنْز، وهذان القولان يقتضيان أنَّ الذمَّ في حبس المال، لا في منع زكاته فقطْ‏.‏

* ت *‏:‏ وحدَّث أبو بَكْرِ بْنُ الخَطِيبِ بسنده، عن عليِّ بن أبي طالب، وابنِ عُمَرَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ للفُقَرَاءِ في أَمْوَالِ الأَغْنِيَاءِ قَدْرَ مَا يَسَعُهُمْ، فَإِنْ مَنَعُوهُمْ حَتَّى يَجُوعُوا وَيَعْرَوْا وَيَجْهَدُوا، حَاسَبَهُمُ اللَّهُ حِسَاباً شَدِيداً، وعَذَّبَهُمْ عَذَاباً نُكْراً ‏"‏ انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال ابنُ مَسْعود‏:‏ واللَّه، لاَ يَمَسُّ دينارٌ ديناراً، بل يُمَدُّ الجلدُ حتى يكوَى بكلِّ دينار، وبكلِّ درهم قال الفخر‏:‏ قال أبو بكر الوَرَّاقُ‏:‏ وخُصَّتْ هذه المواضعُ بالذكْرِ؛ لأن صاحِب المال، إِذا رأى الفقيرَ، قَبَضَ جبينه، وإِذا جلَس إِلى جَنْبه، تباعد عَنْه، وولاَّه ظَهْره‏.‏ انتهى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كتاب الله‏}‏، هذه الآيةُ والتي بعدها تتضمَّن ما كانت العربُ عليه في جاهليَّتها من تحريم شُهُورِ الحلِّ، وتحليلِ شهورِ الحُرْمَةَ، وإِذا نصَّ ما كانت العرب تفعله، تبيَّن معنى الآيات، فالذي تظاهرَتْ به الرواياتُ، ويتخلَّص من مجموع ما ذَكَره النَّاسُ‏:‏ أن العرب كانَتْ لا عَيْشَ لأكْثَرها إِلا من الغارات وإِعمالِ سِلاَحِها، فكانوا إِذا توالَتْ عليهم حُرْمَةُ الأشهر الحُرُمِ، صَعُبَ عليهم، وأَمْلقوا وكان بنو فُقَيْمٍ من كِنانة أهْلَ دينٍ في العرب، وتَمَسُّكٍ بشرعِ إبراهيمَ عليه السلام، فانتدب منهم القلمس، وهو حُذَيْفَةُ بْنُ عَبْدِ فُقَيْمٍ، فنَسِيَ الشهورَ للعربِ، ثم خَلَفَهُ عَلَى ذلك بنوه، وذكر الطبريُّ وغيره؛ أن الأمر كان في عدوانٍ قبل بني مالكِ بن كنانةً، وكانتْ صورة فعلهم‏:‏ أن العرب كانَتْ إِذا فرغَتْ من حَجِّها، جاء إِليه مَنْ شاء منهم مجتمعين، فقالوا‏:‏ أَنْسَانَا شَهْراً، أيْ‏:‏ أخّرْ عنا حرمةَ المُحَرَّم، فاجعلها في صَفَرٍ، فيحلُّ لهم المُحَرَّمَ، فيغيرون فيه، ثم يلتزمُونَ حُرْمَةَ صَفَرٍ؛ ليوافقوا عدَّة الأشهرِ الحُرُمِ الأربعة قال مجاهد‏:‏ ويسمُّون ذلك الصَّفَرَ المُحرَّم، ثم يسمون ربيعاً الأوَّل صفراً وربيعاً الآخِرَ ربيعاً الأَوَّل، وهكذا في سائِرِ الشهورِ، وتجيء السنةُ مِنْ ثلاثةَ عَشَرَ شهراً أولها‏:‏ المحرَّم المُحَلَّل، ثم المحرَّم الذي هو في الحقيقة صَفَرٌ، وفي هذا قال اللَّهُ عزَّ وجَلَّ‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً‏}‏، أيْ‏:‏ ليستْ ثلاثةَ عَشَرَ، ثم كانَتْ حِجَّةُ أبي بَكْرٍ في ذي القَعْدة حقيقةً، وهم يسمُّونه ذَا الحِجَّة، ثم حَجَّ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَنَةَ عَشْرٍ في ذي الحِجَّة حقيقةً، فذلك قوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ استدار كَهَيْئتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السموات وَالأَرْضِ؛ السَّنَةُ اثنا عَشَرَ شَهْراً، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ‏:‏ ذُو القَعْدَةِ، وذُو الحِجَّة والمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَان ‏"‏‏.‏ وقوله في ‏{‏كتاب الله‏}‏، أَيْ‏:‏ فيما كتبه، وأثبته في اللَّوْحِ المحفوظ، أو غيرِهِ، فهي صفةُ فِعْلٍ مثل خَلْقِهِ وَرِزْقِهِ، وليستْ بمعنى قضاءه وتقديره؛ لأن تلكَ هي قَبْلَ خلْق السموات والأرض‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ‏}‏‏:‏ نصٌّ على تفضيلِ هذه الأربعة وتشريفها، قال قتادة‏:‏ «اصطفى اللَّه مِنَ الملائكةِ والبَشَرِ رُسُلاً، ومِنَ الشَهور المُحَرَّمَ ورمَضَانَ، ومِنَ البُقَعِ المساجَدِ، ومِنَ الأيام الجمعةَ، ومِنَ الليالِي ليلةَ القَدْرِ، ومِنَ الكلام ذِكْرُهُ، فينبغي أَنْ يعظَّم ما عَظَّمُ اللَّه»‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ذلك الدين القيم‏}‏، قالتْ فرقة‏:‏ معناه‏:‏ الحسابُ المُسْتَقيم، وقال ابن عباس، فيما حكى المَهْدَوِيُّ‏:‏ معناه‏:‏ القضاءُ المستقيم‏.‏

قال * ع *‏:‏ والأصوب عندي أنْ يكون ‏{‏الدين‏}‏ ههنا عَلَى أشهر وجوهه، أي‏:‏ ذلك الشَّرْعُ والطَّاعة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ‏}‏، أي‏:‏ في الاثني عَشَرَ شَهْراً، أي‏:‏ لا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في الزمان كلِّه، وقال قتادة‏:‏ المرادُ الأربعةُ الأشْهُرِ، وخُصِّصتْ تشريفاً لها‏.‏

قال سعيدُ بن المسيِّب‏:‏ كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يحرِّم القتَالَ في الأشْهُرِ الحُرُم؛ بما أنزل اللَّه في ذلك؛ حتَّى نزلَتْ «براءة»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُواْ المشركين‏}‏، معناه‏:‏ فيهنَّ فأحْرَى في غيرهن، وقوله‏:‏ ‏{‏كَافَّةً‏}‏، معناه‏:‏ جميعاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 39‏]‏

‏{‏إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏37‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ‏(‏38‏)‏ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا النسيء‏}‏، يعني‏:‏ فِعْلُ العرب في تأخيرهم الحُرْمَةَ، ‏{‏زِيَادَةٌ فِي الكفر‏}‏، أي‏:‏ جارٍ مع كفرهم باللَّهِ، وخلافِهِمْ للحقِّ، فالكفر متكثِّر بهذا الفِعْلِ الذي هو باطلٌ في نفْسهِ؛ وممَّا وُجِدَ في أشعارهم قَوْلُ جِذْلٍ الطَّعَانِ‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

وَقَدْ عَلِمَتْ مَعَدٌّ أَنَّ قَوْمِي *** كِرَامُ النَّاسِ إِنَّ لَهُمْ كِرَامَا

أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدٍّ *** شُهُورَ الحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامَا

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا‏}‏، معناه‏:‏ عاماً من الأعوام، وليس يريد أنَّ تلك كانَتْ مداولةً‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله‏}‏، معناه‏:‏ ليوافقُوا، والمواطَأَةُ‏:‏ الموافَقَةُ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض‏}‏، هذه الآيةُ بلا خلافٍ أنها نزلَتْ عتاباً على تخلُّف من تخلَّف عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في غزوة تَبُوكَ، وكانَتْ سنةَ تسْعٍ من الهجرةِ بعد الفَتْح بعامٍ، غزا فيها الرُّوم في عِشْرينَ ألْفاً بين راكبٍ وراجلٍ، والنَّفْر‏:‏ هو التنقُّل بسرعة من مكانٍ إلى مكانٍ، وقوله‏:‏ «أثاقلتم» أصله تَثَاقَلْتُمْ، وكذلك قرأ الأعمش وهو نحو قوله‏:‏ ‏{‏أَخْلَدَ إِلَى الأرض‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 176‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَرَضِيتُم‏}‏ تقريرٌ، والمعنى‏:‏ أرضيتمْ نَزْرَ الدنيا، عَلى حظيرِ الآخرةِ، وحَظِّها الأَسْعَد‏.‏

قَالَ ابنُ هِشامٍ ف «مِنْ» من قوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الأخرة‏}‏ للبدل‏.‏ انتهى‏.‏ ثم أخبر سبحانه، أنَّ الدنيا بالإِضافة إِلى الآخرة قليلٌ نَزْرٌ، فتعطي قُوةُ الكلام التعجُّبَ مِنْ ضلالِ مَنْ يرضَى النزْرَ الفانِيَ بَدَل الكثير الباقي‏.‏

* ت *‏:‏ وفي «صحيح مُسْلم» و«الترمذيِّ»، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَا الدُّنْيَا في الآخرة إِلاَّ مَثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَاذَا تَرْجعٌ ‏"‏ قال أبو عيسَى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ‏}‏‏:‏ شرطٌ وجوابٌ، ولفظُ «العذاب» عامٌّ يدخل تخته أنواعُ عذابِ الدنيا والآخرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ‏}‏‏:‏ تَوعُّدٌ بأن يبدل لرسوله عليه السلام قوماً لا يقعدون عند استنفاره إِياهم، والضميرُ في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا‏}‏ عائدٌ على اللَّه عز وجل، ويحتملُ أنُ يعود على النبيِّ صلى الله عليه وسلم هو أَلْيَقُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 41‏]‏

‏{‏إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏40‏)‏ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله‏}‏ هذا أيضاً شرطٌ وجوابٌ، ومعنى الآية‏:‏ إِنكم إِن تركتم نَصْره، فاللَّه متكفِّل به؛ إِذ قد نصره في موضع القلَّة والانفراد وكثرةِ العدو، ولَنْ يترك نَصْرَهُ الآن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ‏}‏، أسند الإخراج إِليهم؛ تذنيباً لهم، ولما كان مَقْصِدُ أبي سفيان بن الحارثِ الفَخْرَ في قوله‏:‏ من طردت كل مطرد، لم يقرَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ما عُلِمَ في كتب «السِّيرَةِ»، والإِشارةُ إِلى خروجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مكَّة إلى المدينة، وفي صحبته أبو بَكْر، واختصار القصَّة أَنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر إِذْنَ اللَّه سبحانه في الهِجْرة من مكَّة، وكان أبو بَكْر حينَ تَرَكَ ذمَّة ابنِ الدِّغِنَّةِ قد أراد الخروجَ، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اصبر، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُسَهِّلَ الصُّحْبَةَ» فَلَمَّا أَذِنَ اللَّه لنبيِّه في الخروج، تجهَّز مِنْ دار أبي بَكْر، وخَرَجَا، فبقيا في الغار الذي في جَبَلِ ثَوْرٍ في غَرْبِيِّ مَكَّة ثلاثَ ليالٍ، وخرج المشركُونَ في إِثرهِمْ؛ حتى انتهوا إِلى الغار، فَطَمَسَ اللَّهُ عَلَيْهِم الأَثَرَ، وقال أبو بَكْرٍ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ لَوْ نَظَر أَحَدُهُمْ إِلى قدمه، لرآنَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَا ظَنُّكَ باثنين اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» هكذا في الحديث الصحيحِ، ويروَى أن العنكبوتَ نَسَجَتْ على باب الغَار‏.‏

ويُرْوَى أن الحمامة عشَّشَتْ عند باب الغارِ، وكان يروحُ عليهما باللَّبَنِ عامرُ بْنُ فُهَيْرَةَ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثَانِيَ اثنين‏}‏، معناه‏:‏ أحد اثنين، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله مَعَنَا‏}‏، يريد‏:‏ بالنصر والنجاة واللُّطْف‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا‏}‏، قيل‏:‏ يريد‏:‏ لا إله إِلا اللَّه، وقيل‏:‏ الشرْعَ بأسره‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏انفروا خِفَافًا وَثِقَالاً‏}‏ معنى الخِفَّة والثِّقَلِ ههنا‏:‏ مستعار لمن يمكنه السفَرُ بسهولة، ومن يمكنه بصُعُوبة، وأما من لا يمكنه، كالعُمْيِ ونحوهم، فخارجٌ عن هذا‏.‏

وقال أبو طلحة‏:‏ ما أسْمع اللَّه عذر أحد، وخرج إِلى الشامِ، فجاهد حتَّى ماتَ‏.‏

وقال أبو أيُّوب‏:‏ ما أَجدني أبداً إِلا خفيفاً أو ثقيلاً‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏‏:‏ تنبيهٌ وهزٌّ للنفوس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 45‏]‏

‏{‏لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏42‏)‏ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏43‏)‏ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ‏(‏44‏)‏ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ‏}‏، هذه الآية في المنافقين المتخلِّفين في غزوة تَبُوكَ، وكَشْفِ ضمائرهم، وأما الآيات التي قبلها، فعامَّة فيهم وفي غيرهم، والمعنى‏:‏ لو كان هذه الغزوَ لِعَرَضٍ، أي‏:‏ لمال وغنيمةٍ تنالُ قريباً؛ بسَفرٍ قاصدٍ يسيرٍ، لبادروا لا لوجه اللَّه، ‏{‏ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة‏}‏ وهي المسافةُ الطويلة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَسَيَحْلِفُونَ بالله‏}‏، يريد‏:‏ المنافقينَ، وهذا إِخبار بغَيْب‏.‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ‏}‏، هذه الآيةُ هي في صِنْفٍ مُبَالِغٍ في النفاق، استأذنوا دون اعتذار، منهم‏:‏ الجَدُّ بْنُ قَيْسٍ وَرِفَاعَةُ بْنُ التأبوت وَمنِ اتبعهم؛ قال مجاهدٌ‏:‏ وذلك أَنَّ بعضهم قال‏:‏ نَسْتَأْذنه، فإِن أَذِنَ في القعودِ قعدنا، وَإِلاَّ قعدنا، وقَدَّم له العَفْوَ قبل العتاب‏:‏ إِكراماً له صلى الله عليه وسلم، وقالت فرقة‏:‏ بل قوله سبحانه ‏{‏عَفَا الله عَنكَ‏}‏‏:‏ استفتاح كلامٍ كما تقولُ‏:‏ أصْلَحَكَ اللَّهُ، وأَعَزَّكَ اللَّهُ، ولم يكنْ منه عليه السلام ذَنْبٌ يعفَى عنه؛ لأن صورة الاستنفار وقَبُول الأَعْذَار مصروفةٌ إِلى اجتهاده‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ‏}‏، يريد‏:‏ في استئذانك، وأنك لو لم تأذن لهم، خرجوا معك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَعْلَمَ الكاذبين‏}‏، أي‏:‏ بمخالفتكَ، لَوْ لم تأذن؛ لأنهم عَزَمُوا على العِصْيَان، أذنتَ لهم أو لم تأذن، وقال الطبريُّ‏:‏ معناه‏:‏ حتى تعلم الصَّادقين؛ في أَنَّ لهم عُذْراً، والكاذبين، في أن لا عُذْرَ لهم، والأول أصْوبُ، واللَّه أعلم، وأمَّا قوله سبحانه‏:‏ في سورة‏:‏ ‏{‏فَإِذَا استئذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 62‏]‏ الآية، ففي غزوة الخندَقِ نزلَتْ‏:‏ ‏{‏وارتابت قُلُوبُهُمْ‏}‏، أيْ‏:‏ شكَّت و‏{‏يَتَرَدَّدُونَ‏}‏، أي‏:‏ يتحيَّرون؛ إِذ كانوا تخطر لهم صِحَّة أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم أحياناً، وأنه غير صحيحٍ أحياناً، فهم مذبذبُونَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 49‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ‏(‏46‏)‏ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏47‏)‏ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ‏(‏48‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً‏}‏، أيْ‏:‏ لو أرادوا الخروجَ بنيَّاتهم، لنظروا في ذلك واستعدوا له‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ‏}‏‏.‏

* ص *‏:‏ و‏{‏ولكن‏}‏‏:‏ أصلها أَن تقع بَيْنَ نقيضَيْن أَو ضِدَّيْنِ، أَوْ خَلافَيْن، على خلاف فيه‏.‏ انتهى‏.‏ و‏{‏انبعاثهم‏}‏‏:‏ نفوذَهُمْ لهَذِهِ الغزوة، والتثبيطُ‏:‏ التَّكْسِيلُ وكَسْر العزم‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ اقعدوا‏}‏، يحتمل أنْ يكون حكايةً عن اللَّه، أي‏:‏ قال اللَّه في سابق قضائِهِ‏:‏ اقعدوا مع القاعدين، ويحتملُ أنْ يكون حكايةً عنهم، أي‏:‏ كانَتْ هَذِهِ مقالَةَ بَعْضِهِمْ لبعضٍ، ويحتملُ أنْ يكون عبارةً عن إِذْنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لهم في القعود، أيْ‏:‏ لما كره اللَّه خروجهم، يَسَّر أَنْ قلْتَ لهم‏:‏ اقعدوا مع القاعدين، والقعودُ؛ هنا‏:‏ عبارةٌ عن التخلُّفِ، وكراهيةُ اللَّهِ انبعاثهم‏:‏ رِفْقٌ بالمؤمنين‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً‏}‏ الخبالُ‏:‏ الفسادُ في الأشياء المؤتَلِفة؛ كالمودات، وبَعْضِ الأجرامِ، ‏{‏لأَوْضَعُواْ‏}‏ معناه‏:‏ لأسرعوا السَّيْر، و‏{‏خلالكم‏}‏ معناه‏:‏ فيما بينكم‏.‏

قال * ص *‏:‏ ‏{‏خلالكم‏}‏ جمع خَلَلٍ، وهو الفُرْجَة بين الشيئين، وانتصب على الظَّرف ب ‏{‏لأَوْضَعُواْ‏}‏، و‏{‏يَبْغُونَكُمُ‏}‏‏:‏ حالٌ، أي‏:‏ باغين‏.‏ انتهى‏.‏ والإِيضاع‏:‏ سُرْعَةُ السير، ووقَعْتُ ‏{‏لأَوْضَعُواْ‏}‏ بألف بَعْدَ «لا» في المصحف، وكذلك وقعتْ في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 21‏]‏ ‏{‏يَبْغُونَكُمُ الفتنة‏}‏، أي‏:‏ يطلبون لكم الفتْنَة، ‏{‏وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ‏}‏، قال مجاهد وغيره‏:‏ معناه‏:‏ جواسيسُ يسمعون الأخبار، ويَنْقُلُونها إِليهم، وقال الجمهور‏:‏ معناه‏:‏ وفيكم مُطِيعُونَ سامعون لهم‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ‏}‏، في هذه الآية تحقيرٌ لشأنهم، ومعنَى قوله‏:‏ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏‏:‏ ما كان من حالهم في أُحُدٍ وغيرها، ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور‏}‏‏:‏ دبَّروها ظهراً لبطْنٍ، وسعوا بكُلِّ حيلةٍ ‏{‏وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي‏}‏، نزلَتْ في الجَدِّ بْنِ قَيْسٍ، وأسند الطبريُّ أَنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قالَ‏:‏ ‏"‏ اغْزُوا تَبُوكَ، تَغْنَمُوا بَنَاتِ الأصْفَرِ ‏"‏ فقال الجَدُّ‏:‏ ائذن لَنَا وَلاَ تَفْتِنَّا بالنِّسَاءِ، وقال ابن عبَّاس‏:‏ إِن الجَدَّ قال‏:‏ ولكنِّي أُعِينُكَ بِمَالِي‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ‏}‏، أي‏:‏ في الذي أظْهَرُوا الفِرَارَ منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 52‏]‏

‏{‏إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ‏(‏50‏)‏ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏51‏)‏ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ الحسنَةُ هنا بحسب الغَزْوَة‏:‏ هي الغنيمةُ والظفرُ، والمصيبةُ‏:‏ الهزيمة والخيبةُ، واللفظ عامٌّ بعد ذلك في كلِّ محبوب ومكروه، ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ‏}‏، أَيْ‏:‏ قد أخذنا بالحَزْمِ في تخلُّفنا وَنَظَرْنَا لأنفسنا، ثم أمر تعالَى نبيَّه، فقال‏:‏ قل لهم يا محمَّد‏:‏ ‏{‏لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا‏}‏، وهو إِما ظفراً وسروراً عاجلاً، وإما أن نستشهد فَنَدْخُلَ الجنة، وباقي الآية بيِّن‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين‏}‏، أي‏:‏ قل للمنافقين، و‏{‏الحسنيين‏}‏‏:‏ الظَّفَرُ، والشَّهادة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ بِأَيْدِينَا‏}‏، يريد‏:‏ القَتْلَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 54‏]‏

‏{‏قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏53‏)‏ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً‏}‏ الآية‏:‏ سَبَبُها أَنَّ الجَدَّ بْنَ قَيْسٍ حين قال‏:‏ ائذن لي ولا تفتنِّي، قال‏:‏ إِني أعينك بمالي، فنزلَتْ هذه الآية فيه، وهي عامَّة بعده‏.‏

وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نفقاتهم إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ‏}‏‏.‏ وفي «صحيح مسلم» عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال‏:‏ ‏"‏ إِنَّ ثَوَابَ الكَافِرِ عَلَى أَفْعَالِهِ البَرَّةِ هُوَ في الطُّعْمَةِ يَطْعَمُهَا ‏"‏ وَنَحْوَ ذلك، وهذا مَقْنَعٌ لا يحتاج معه إِلى نَظَرٍ، وأما أَنْ ينتفع بها في الآخرة فلا، و‏{‏كسالى‏}‏‏:‏ جمع كَسْلاَن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 57‏]‏

‏{‏فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏55‏)‏ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ‏(‏56‏)‏ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحياة الدنيا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ حقَّر في الآية شأْنَ المنافقين، وعلَّل إِعطاء اللَّه لهم الأَمْوَالَ والأولاد؛ بإِرادته تعذيبهم بها في الحياةِ الدنيا، وفي الآخرة‏.‏

قال ابنُ زَيْد وغيره‏:‏ تعذيبُهم بها في الدُّنْيَا هو بمصائبها ورزايَاهَا، هِيَ لهم عذابٌ؛ إذ لا يُؤْجَرُونَ عليها، ومِنْ ذلك قَهْرُ الشَّرعِ لهم على أداء الزكاةِ والحقوقِ والواجبات‏.‏

قال الفَخْرُ‏:‏ أمَّا كون كثرة الأموال والأولادِ سَبَباً للعذاب في الدنيَا، فحاصَلٌ من وجوه‏:‏ مِنْهَا‏:‏ أن كلَّما كان حُبُّ الإِنسان للشيء أَشَدَّ وأقوَى، كان حزنُهُ وتألُّم قلبِهِ علَى فراقه أعظَمَ وأصعَبَ، ثم عند الموتِ يَعْظُمُ حزنه، وتشتدُّ حسرته، لمفارقته المحبوبَ، فالمشغوفُ بحبِّ المال والولدِ لا يزالُ في تَعَبٍ، فيحتاج في اكتساب الأموالِ وتحصيلها إِلى تعبٍ شديدٍ ومشقَّة عظيمةٍ، ثم عند حصولِهَا يحتاجُ إِلى متاعِبَ أَشدَّ وأصعَبَ في حفظها وصونِها؛ لأن حفظ المَالِ بَعْد حصوله أصْعَبُ من اكتسابه، ثم إِنه لا ينتفع، إِلاَّ بالقليلِ مِنْ تلك الأموال، فالتعبُ كثيرٌ، والنفعُ قليلٌ، ثم قالَ‏:‏ واعلم أنَّ الدنْيَا حلوةٌ خَضِرةٌ، والحواسُّ الخمسُ مائلةٌ إِليها، فإِذا كَثُرت وتوالَتْ استغرقت فيها، وانصرف الإِنسان بكلِّيته إِليها، فيصير ذلك سبباً لحرمانه من ذكْرِ اللَّهِ، ثم إِنه يحْصُلُ في قلبه نَوْعُ قسوةٍ وقوةٍ وقهْرٍ، وكلَّما كان المال والجاهُ أَكثر، كَانَتْ تلك القسوةُ أَقوَى، وإِلى ذلك الإِشارةُ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّءَاهُ استغنى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 6، 7‏]‏ فظهر أن كثرة الأموال والأولاد سَبَبٌ قويٌّ في زوال حُبِّ اللَّه تعالى وحبِّ الآخرة مِنَ القَلْبِ، وفي حصول الدنْيَا وشهواتِهَا في القَلْبِ وعنْدَ الموت؛ كأَنَّ الإِنسان ينتقلُ من البستان إلى السِّجْن، ومِنْ مجالسة الأقرباءِ والأحبَّة إِلَى موضعِ الغُرْبَة والكُرْبة، فيعظُمُ تألمُّه، ويقوَى حزنه، ثم عند الحَشْر‏:‏ حَلاَلُهَا حسابٌ، وحرامُها عِقَابٌ، فثبت أن كثرة الأمْوَالِ والأولادِ سَبَبٌ لحصولِ العَذَاب في الدُّنْيا والآخرة‏.‏ انتهى‏.‏

ثم أخبر سبحانه؛ أنهم ليسوا مِنَ المؤمنين، وإِنما هم يَفزَعُونَ مِنْهم، والفَرَقُ‏:‏ الخوف‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً‏}‏‏:‏ الملجأ مِنْ لَجَأَ يَلْجَأُ، إِذا أَوَى واعتصم، وقرأ الجمهور‏:‏ «أَوْ مَغَارَاتٍ»- بفتح الميم-، وهي الغيران في أعراض الجبالِ، ‏{‏أَوْ مُدَّخَلاً‏}‏، معناه‏:‏ السَّرَبُ والنَّفَقُ في الأرض، وهو تفسير ابن عبَّاس في هذه الألفاظ، وقرأ جمهور الناس‏:‏ «يَجْمَحُونَ»‏:‏ ومعناه يُسْرِعُون‏.‏

قال الفَخْر‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَجْمَحُونَ‏}‏ أي‏:‏ يسرعون إِسراعاً لا يرد وجوههم شَيْء، ومِنْ هذا يقال‏:‏ جَمَعَ الفَرَسُ، وفَرَسٌ جَمُوحٌ، وهو الذي إِذا حَمَلَ، لم يردَّه اللجَامُ، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 59‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ‏(‏58‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ أَيْ‏:‏ ومن المنافقين مَنْ يلمزك، أيْ‏:‏ يعيبُكَ ويأخذ منك في الغَيْبة؛ ومنه قولُ الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

إِذَا لَقِيتُكَ تُبْدِي لِي مُكَاشَرَة *** وَإِنْ أَغِيبُ فَأَنْتَ الهَامِزُ اللُّمَزَهْ

ومنه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ‏}‏ ‏[‏الهمزة‏:‏ 1‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُواْ مَا ءاتاهم الله وَرَسُولُهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ المعنى‏:‏ لو أن هؤلاء المنافقين رَضُوا قِسْمَةَ اللَّهِ الرزْقَ لهم، وما أعطاهم على يدِ رَسُولِهِ، وأقرُّوا بالرغْبَةِ إِلى اللَّهِ، لكان خَيْراً لهم، وحُذِفَ الجوابُ، لدلالة ظاهر الكَلاَمِ عليه، وذلك مِنْ فصيحَ الكلامِ وإِيجازه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏60‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاءِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا‏}‏ في هذه الآيةِ حاصرةٌ تقتضي وقوفَ الصَدقاتِ على الثمانيةِ الأصناف، وإِنما أُخْتُلِفَ في صُورَة القِسْمَةِ، ومَذْهَب مالكٍ وغيره؛ أَنَّ ذَلِكَ عَلى قَدْر الاجتهاد، وبحسب الحاجة، وأما الفقيرُ والمِسْكين، فقال ابن عبَّاس والحسن ومجاهدٌ والزُّهْرِيُّ وابن زَيْد وغيرهم‏:‏ المَسَاكِينُ‏:‏ الذين يَسْعَوْنَ وَيَسْأَلُونَ، والفقراء‏:‏ الذين يتصَاوَنُون، وهذا القولُ أحسنُ ما قيل في هذا، وتحريره أن الفقيرَ هو الذي لا مَالَ له إِلا أنه لم يذلَّ نفسه، ولا يذلُّ وجهه؛ وذلك إِما لتعفُّفٍ مُفْرِطٍ، وإِما لِبُلغَةٍ تكون له، كالحَلُوبة وما أشبهها، والمسكينُ هو الذي يقترن بفقره تذلُّل وخضوعٌ وسؤالٌ، فهذه هي المَسْكَنَة؛ ويقوِّي هذا أن اللَّه سبحانه قد وَصَف بني إِسرائيل بالمَسْكَنة، وقَرَنها بالذِّلَّة مع غناهم، وإِذا تأمَّلت ما قلناه، بَانَ أنهما صِنْفان موجُودَان في المسلمين‏.‏

* ت *‏:‏ وقد أكْثر الناس في الفَرْق بين الفَقِير والمِسْكِين، وأوْلَى ما يعوَّل عليه ما ثَبَتَ في ذلك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد رَوَى مالكٌ، عن أبي الزِّنَادِ عن الأعرج عن أبي هريرة؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ لَيْسَ المِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، إِنَّمَا المِسْكِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلاَ يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَقُومُ فَيَسْأَلَ النَّاسَ ‏"‏، انتهى‏.‏ وأوَّل أبو عمر في «التمهيد» هذا الحديثَ، فقال‏:‏ كأنه أراد- واللَّه أعلم- ليس المسكينُ على تمامِ المَسْكَنة، وعلى الحقيقة إِلا الذي لا يَسْأَلُ النَّاس‏.‏ انتهى‏.‏

وأَمَّا العاملون‏:‏ فهم جُبَاتها يستنيبهم الإِمامُ في السعْي على الناس، وجَمْعِ صَدَقَاتهم، قال الجُمْهور‏:‏ لَهُمْ قَدْر تعبهم ومؤنتهم، وأما ‏{‏المؤلفة قُلُوبُهُمْ‏}‏، فكانوا مُسْلِمين وكافرينَ مستَتِرِينَ مُظْهرين للإِسلام؛ حتى وثَّقه الاستئلاف في أكثرهم، واستئلافهم إِنما كان لِتُجْلَبَ إلى الإِسلام مَنْفَعة، أو تُدْفَعَ عنه مَضَرَّة، والصحيحُ بَقَاءُ حكمهم؛ إِن احتيج إِليهم، وأَما ‏{‏الرقاب‏}‏، فمذْهَبُ مالك وغيره هو ابتداء عِتْق مؤْمِن، وأما الغَارِمُ‏:‏ فهو الرجُلُ يرْكَبه دَيْن في غير مَعْصِيَة ولا سَفَه، كذا قال العلماء، وأما ‏{‏فِي سَبِيلِ الله‏}‏، فهو الغازِي، وإِن كانَ مَلِيًّا ببَلَده، وأمَّا ‏{‏ابن السبيل‏}‏، فهو المسافِرُ، وإِن كان غنيًّا ببلده، وسمي المُسَافِرِ ابْنَ السبيلِ لملازمته السبيلِ‏.‏

ومَنِ ادعى الفقْر صُدِّق إِلاَّ لريبة؛ فيكلَّف حينئذٍ البيِّنة، وأمَّا إِن ادعى أنه غارمٌ أو ابن السبيل أو غازٍ، ونحو ذلك مما لا يُعْلَم إِلا منه، فلا يعطَى إِلا ببينة، وأهلُ بلد الصَّدقة أَحقُّ بها إِلا أن تَفْضُل فضلةٌ، فتنقل إِلى غيرهم‏.‏

قال ابنُ حَبِيب‏:‏ وينبغي للإِمام أن يأمِر السُّعَاة بتَفْريقها في المواضِعِ التي جُبِيَتْ فيها، ولا يحمل منها شيْءٌ إِلى الإِمام، وفي الحديثِ‏:‏ ‏"‏ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ‏"‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَرِيضَةً مِّنَ الله‏}‏‏:‏ أي‏:‏ موجبةً محدودةً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 62‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏61‏)‏ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

وقول سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ ومن المنافقين، و‏{‏يُؤْذُونَ‏}‏‏:‏ لفظٌ يعمُّ أنواع إذَاءتهم له صلى الله عليه وسلم، وخص بعد ذلك مِنْ قولهم‏:‏ ‏{‏هُوَ أُذُنٌ‏}‏، وروي أن قائل هذه المقالة نَبْتَلُ بْنُ الحارثِ، وكان من مَرَدَةِ المنافقين، وفيه قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الشَّيْطَانِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى نَبْتَلِ بْنِ الحَارِثِ»، وكان ثائر الرأس، منتفشَ الشَّعْر، أحمر العينَيْن، أسْفَع الخدَّيْن، مشوَّهاً ‏"‏ قال الحسن البصريُّ ومجاهد‏:‏ قولهم‏:‏ ‏{‏هُوَ أُذُنٌ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ يسمع معاذيرنا ويقبلها، أي‏:‏ فنحن لا نُبَالِي من الوقوع فيه، وهذا تنقُّص بقلَّة الحزم، وقال ابن عبَّاس وغيره‏:‏ إِنهم أرادوا بقولهم‏:‏ ‏{‏هُوَ أُذُنٌ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ يسمع كلَّ ما ينقَلُ إِليهِ عنا، ويصغَي إِليه ويقبله، فهذا تَشَكٍّ منه عليه السلام، ومعنى ‏{‏أُذُنُ‏}‏‏:‏ سماع، وهذا من باب تسمية الشيْء بالشيء، إِذا كان منْهُ بسبب؛ كما يقال للرؤية‏:‏ عيْن؛ وكما يقال للمسنَّة من الإِبل التي قد بَزَلَ نابها‏:‏ نَاب‏.‏

وقيل‏:‏ معنى الكلامِ‏:‏ ذو أُذُنٍ، أَي‏:‏ ذو سماع، وقيل‏:‏ إِنه مشتقٌّ من قولهم‏:‏ أَذِنَ إِلَى شَيْءٍ؛ إِذا استمع؛ ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

> صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْراً ذُكِرْتُ بِه *** وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا

وقرأ نافع‏:‏ «أذن»- بسكون الذال فيهما-، وقرأ الباقون بضمِّها فيهما، وكلُّهم قرأ بالإِضافة إِلى «خير» إِلا ما رُوِيَ عن عاصمٍ، وقرأ الحسن وغيره‏:‏ «قُلْ أُذُنٌ خَيْرٌ»- بتنوين «أُذن»، ورفع «خير»-، وهذا جار على تأويله المتقدِّم، والمعنى‏:‏ من يقبل معاذيركم خيرٌ لكم، ورُوِيَتْ هذه القراءة عن عاصمٍ، ومعنى «أذن خيرٍ» على الإِضافة‏:‏ أي سَمَاعُ خيرٍ وحقٍّ، و‏{‏يُؤْمِنُ بالله‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ يصدِّق باللَّه، ‏{‏وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏:‏ قيل‏:‏ معناه‏:‏ ويصدِّق المؤمنين، واللام زائدة، وقيل‏:‏ يقال‏:‏ آمَنْتُ لك، بمعنى‏:‏ صدَّقتك؛ ومنه‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 17‏]‏‏.‏

قال * ع *‏:‏ وعندي أن هذه التي معها اللامُ في ضِمْنها بَاءٌ، فالمعنَى‏:‏ ويصدِّق للمؤمنين بما يخبرونه به، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا‏}‏ بِمَا نَقُوله‏.‏

* ت *‏:‏ ولما كانَتْ أخبار المنافقين تصلُ إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم تارةً بإِخبار اللَّه له، وتارةً بإِخبار المؤمنين، وهم عدولٌ، ناسب اتصال قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏؛ بما قبله، ويكون التصديقُ هنا خاصًّا بهذه القضيَّة، وإِن كان ظاهر اللفْظِ عامًّا؛ إِذ من المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يَزَلْ مصدِّقاً باللَّه، وقرأ جميع السبعة إِلاَّ حمزة و«رَحْمَةٌ»- بالرفع-؛ عطفاً على «أُذُن»، وقرأ حمزة وحْده‏:‏ و«رَحْمَةٍ»- بالخفض-؛ عطفاً على «خَيْرٍ»، وخصَّص الرحمة للذين آمنوا؛ إِذ هم الذين فازوا ونَجْوا بالرسول عليه السلام، ‏{‏يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ‏}‏‏:‏ يعني‏:‏ المنافقين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ‏}‏‏:‏ التقدير عند سيبَوَيْهِ‏:‏ واللَّه أحقُّ أَن يرضوه، ورسوله أحَقُّ أن يرضُوه، فحذف الخَبَر من الجملة الأولَى، لدلالة الثانية عليه‏.‏

وقيل‏:‏ الضمير في «يرضوه» عائدٌ على المذكور؛ كما قال رُؤْبَةُ‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ *** كَأَنَّهُ فِي الجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ

أي‏:‏ كَأَنَّ المذكور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 64‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ‏(‏63‏)‏ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ‏{‏يُحَادِدِ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ يخالفُ ويشاقُّ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِم‏}‏‏:‏ ‏{‏يَحْذَرُ‏}‏‏:‏ خبرٌ عن حال قلوبهم‏.‏

وقال الزَّجَّاج وغيره‏:‏ «يحذر»‏:‏ الأمْرُ، وإِن كان لفظه لفْظَ الخبر؛ كأنه قال‏:‏ «لِيَحْذَرْ»‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلِ استهزءوا‏}‏‏:‏ لفظه لفظُ الأمر، ومعناه التهديدُ، ثم أخبر سبحانه؛ أنَّه مخرجٌ لهم ما يحذَرُونه إِلى حِينِ الوجودُ، وقد فعل ذلك تَبَارَكَ وتعالى في «سورة بَرَاءَةَ»، فهي تُسمَّى «الفَاضِحَةَ»؛ لأنها فَضَحَتِ المنافقين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 66‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏65‏)‏ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ نَزلَتْ على ما ذكر جماعةٌ من المفسِّرين في وديعةَ بْنِ ثابِتٍ؛ وذلك أنه مع قَوْمٍ من المنافقين كانوا يَسِيرُونَ في غزوة تَبُوكَ، فقال بعضهم‏:‏ هذا يريدُ أن يَفْتَحَ قُصُور الشام، ويأخذ حصون بني الأصْفَرِ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ‏!‏ فوقَفهم رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقال لهم‏:‏ قلتم كذا وكذا، فقالوا‏:‏ إِنما كنا نخُوضُ وَنَلْعَب، وذكر الطبريُّ عن عبد اللَّه بن عمر؛ أنه قَالَ‏:‏ رَأَيْتُ قائل هذه المقالة «وديعةَ» متعلِّقاً بحقب نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يماشيها، والحجارةُ تَنْكُبُه، وهو يقول‏:‏ إِنما كنا نخوض ونَلُعَب، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقوله‏:‏ ‏{‏أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ‏}‏، ثم حكم سبحانه عَلَيْهم بالكُفْر، فقال لهم‏:‏ ‏{‏لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم‏}‏ الآية‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ‏}‏، يريد؛ فيما ذكره المفسِّرون، رجلاً واحداً، قيل‏:‏ اسمه مَخْشِيُّ بْنُ حِمْيَر، قاله ابنُ إِسحاق، وذكر جميعهم أنَّه استشهد باليَمَامَةِ، وقد كان تَابَ، وتسمَّى عبد الرحمن، فدعا اللَّه أنْ يَسْتَشْهِدَ، ويُجْهَلَ أمره، فكان كذلك، ولم يوجَدْ جَسَده، وكان مَخْشِيٌّ مع المنافقين الذين قالوا‏:‏ إِنما كنا نخوضُ وَنَلْعَبُ، فقيل‏:‏ كان منافقاً، ثم تاب توبةً صحيحةً، وقيل‏:‏ كان مسلماً مُخْلِصاً إِلا أنه سمع المنافقينَ، فَضَحِكَ لهم، ولم يُنْكِرْ عليهم، فعفا اللَّه عنْه في كلا الوجْهَيْن، ثم أوجب العذاب لباقي المنافقين الَّذين قالوا ما تقدَّم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 68‏]‏

‏{‏الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏67‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏68‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏المنافقون والمنافقات بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ‏}‏‏:‏ يريد‏:‏ في الحُكْم والمَنْزلة في الكُفْر، ولمَّا تقدَّم قبلُ‏:‏ ‏{‏وَمَا هُم مِّنكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 56‏]‏ حَسُن هذه الإِخبار، و‏{‏وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ عن الصدقة، وفعْلِ الخير، ‏{‏نَسُواْ الله‏}‏‏:‏ أَيْ‏:‏ تركوه؛ حِينَ تَرَكُوا اتباع نَبيِّه وشَرْعِهِ، ‏{‏فَنَسِيَهُمْ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ فتركَهم حين لم يَهْدِهِمْ، والكُفَّار؛ في الآية‏:‏ المُعْلِنُونَ، وقوله‏:‏ ‏{‏هِيَ حَسْبُهُمْ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ كافيتهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 72‏]‏

‏{‏كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏69‏)‏ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏70‏)‏ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏71‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏72‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كالذين مِن قَبْلِكُمْ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ أنتم، أيها المنافقُونَ، كالذين مِنْ قبلكم كانوا أشدَّ منكم قوةً، فَعَصَوْا؛ فأهلكوا؛ فأنتم أولَى بالإِهلاك لمعصيتكم وضَعْفِكم، والخَلاَقُ‏:‏ الحَظُّ من القَدْرِ والدينِ وجميعِ حال المَرْءِ، فخلاقُ المَرْء‏:‏ الشيء الذي هُوَ به خليقٌ، والمعنى‏:‏ عَجَّلوا حَظَّهم في دنياهم، وتركُوا الآخِرَة، فاتبعتموهم أنتُمْ، ‏{‏أولئك حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والأخرة‏}‏‏:‏ المعنى‏:‏ وأنتم أيضاً كذلك، ويحتمل أنْ يريد ب ‏{‏أولئك‏}‏‏:‏ المنافقين‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ المعنى ألم يأتِ هؤلاءِ المنافقين خَبَرُ الأُمم السالفة التي عَصَتِ اللَّه؛ بتكْذيب رسله، فأهلكها، و‏{‏قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ‏}‏‏:‏ نُمْرُود وأصحابه وأَتْبَاعَ دَوْلَته، ‏{‏وأصحاب مَدْيَنَ‏}‏ قومُ شُعَيْب، ‏{‏والمؤتفكات‏}‏‏:‏ أهلُ القرى الأربعةِ أو السَّبْعة التي بعث إِليهم لوطٌ عليه السلام، ومعنى ‏{‏والمؤتفكات‏}‏‏:‏ المنصرفَاتُ والمنْقَلِبَاتُ أُفِكَتْ فَأْتَفَكَتْ لأنها جعل عاليها سافلها، ولفظ البخاريِّ‏:‏ ‏{‏والمؤتفكات‏}‏‏:‏ ائتفكت‏:‏ انقلبت بهم الأرضُ‏.‏ انتهى‏.‏

والضمير في ‏{‏أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم‏}‏‏:‏ عائدٌ على هذه الأمم المذكورة، ثم عقَّب سبحانه بذكْر المؤمنين، وما مَنَّ به علَيْهِمْ مِنْ حُسْن الأعمال؛ ترغيباً وتنشيطاً؛ لمبادرة ما به أَمَرَ؛ لطفاً منه بعباده سبحانه، لا ربَّ غيْرُهُ، ولا خَيْر إِلا خيره‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيُقِيمُونَ الصلاة‏}‏‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ هي الصلوات الخمس‏.‏

قال * ع *‏:‏ وبحسب هذا تكون الزَّكَاةُ هي المفروضةُ، والمَدْحُ عندي بالنوافلُ أبلغُ؛ إِذ من يقيم النوافِلَ أحْرَى بإِقامة الفَرْض، والسين في قوله‏:‏ ‏{‏سَيَرْحَمُهُمُ‏}‏‏:‏ مُدْخِلَةٌ في الوَعْدِ مُهْلَةً؛ لتكون النفوسُ تنعم برجائه سبحانه، وفَضْلُه سبحانه زعيمٌ بالإِنجاز، وذكَر الطبريُّ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومساكن طَيِّبَةً‏}‏، عن الحسن أنَّه سأل عنها عِمْرَانَ بنَ حُصَيْن وأبا هريرة، فقالا‏:‏ على الخَبِيرِ سَقَطَت‏!‏ سَأَلْنَا عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ «قَصْرٌ فِي الجَنَّةِ مِنَ اللُّؤْلُؤِ، فِيهِ سَبْعُونَ دَاراً مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاء، في كُلِّ دَارٍ سَبْعُونَ بَيْتاً مِنْ زُمُرُّذةٍ خَضْرَاءَ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيراً» ونحو هذا مما يشبه هذه الألفاظ، ويقرب منها، فاختصرتها طَلَبَ الإِيجاز‏.‏

* ت *‏:‏ وتمام الحديث من «الإِحياءِ»، وكتاب الآجُرِّيِّ المعروف ب «كتاب النصيحة»، عن الحسن عن عمرانَ بن حُصَيْن وأبي هريرة، قالا‏:‏ «على كُلِّ سَرِيرٍ سَبْعُونَ فِرَاشاً مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، عَلَى كُلِّ فِرَاشٍ زَوْجَةٌ مِنَ الحُورِ العِينِ، وفِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ مَائِدةٍ، عَلَى كُلِّ مَائِدَةٍ سَبْعُونَ لَوْناً مِنَ الطَّعَامِ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ وَصِيفَةً، وَيُعْطَى المُؤْمِنُ فِي كُلِّ غَدَاةٍ مِنَ القُوَّةِ مَا يَأَتِي عَلَى ذَلِكَ أَجْمَعَ»، وأما قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ورضوان مِّنَ الله أَكْبَرُ‏}‏، ففي الحديث الصحيح؛ ‏"‏ أَنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ يَقُولُ لِعِبَادِهِ إِذَا استقروا فِي الجَنَّةِ‏:‏ هَلْ رَضِيتُمْ‏؟‏‏!‏ فَيَقُولُونَ‏:‏ وَكَيْفَ لاَ نَرْضَى، يَا رَبَّنَا‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ إِنِّي سَأُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، رِضْوَانِي، أَرْضَى عَنْكُمْ؛ فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ أَبَدا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏

الحديث، وقوله‏:‏ ‏{‏أَكْبَرُ‏}‏‏:‏ يريد‏:‏ أَكْبَرُ من جميعِ ما تقدَّم، ومعنى الآيةِ والحديث مُتَّفِقٌ، وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ وصل إِلى قلوبهم برضْوَانِ اللَّهِ مِن اللَّذَّة والسُّرور ما هو أَلَذُّ عندهم وأقرُّ لأَعينهم من كل شيء أصابُوه من لَذَّة الجَنَّة، قال الإِمام الفَخْر‏:‏ وإِنما كان الرضوان أَكْبَرَ؛ لأَنه عند العارفين نَعِيمٌ رُوحَانِيٌّ، وهو أشرفُ من النعيم الجِسْمَانيِّ‏.‏ انتهى‏.‏ انظره في أوائل «آل عمران»‏.‏

قال * ع *‏:‏ ويظهر أن يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورضوان مِّنَ الله أَكْبَرُ‏}‏ إِشارةً إِلى منازل المقرَّبين الشاربين مِنْ تسنيمٍ، والذين يَرَوْنَ كما يُرَى النَّجْمُ الغَابِرُ في الأُفُق، وجميعُ من في الجنة رَاضٍ، والمنازل مختلفةٌ، وفضْلُ اللَّه مُتَّسِع، و‏{‏الفوز‏}‏‏:‏ النجاةُ والخَلاَصُ، ومن أُدْخِلَ الجنة فقد فاز، والمقرَّبونَ هم في الفوز العظيم، والعبارةُ عندي ب «سرور وكمالٍ» أجوَدُ من العبارة عنها ب «لذة»، واللَّذَّة أيضاً مستعملة في هذا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 74‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏73‏)‏ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏74‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ياأيها النبى جاهد الكفار‏}‏‏:‏ أي‏:‏ بالسيف و‏{‏المنافقين‏}‏، أي‏:‏ باللسان والتعنيفِ والاكفهرار في الوجْه، وبإِقامة الحدود عليهم‏.‏

قال الحَسَن‏:‏ وأكثر ما كَانَتِ الحدودُ يومئذٍ تصيبُ المنافقين، ومذْهَبُ الطبريِّ؛ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يعرفهم ويسترهم، وأما قوله‏:‏ ‏{‏واغلظ عَلَيْهِمْ‏}‏، فلفظةٌ عامَّة في الأفعال والأقوال، ومعنى الغِلَظِ‏:‏ خَشَنُ الجانب، فهو ضدُّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 215‏]‏، وقولُهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، نزلَتْ في الجُلاَسِ بْنِ سُوَيْدٍ، وقوله‏:‏ لَئِنْ كَانَ مَا يَقُولُ محمَّد حقًّا، لَنَحْنُ شر مِنَ الحُمُر، فسمعها منه رَبِيبُهُ أو رَجُلٌ آخر، فأخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فجاء الجُلاسُ، فَحَلَفَ باللَّه؛ مَا قالَ هذه الكلمة، فنزلَتِ الآية، فكلمة الكُفْر‏:‏ هي مقالته هذه؛ لأن مضمنها قَوِيٌّ في التكذيب، قال مجاهد‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ‏}‏‏:‏ يعني‏:‏ أنَّ الجُلاَس قد كان هَمَّ بقَتْل صاحبه الذي أخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة‏:‏ نزلَتْ في عبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبيٍّ ابن سَلُولَ، وقوله في غزوة المُرَيْسِيعِ‏:‏ مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُهُمْ إِلاَّ كَمَا قَالَ الأَوَّلُ‏:‏ سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، و‏{‏لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏، فبلَغَ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فوقفه، فَحَلفَ أَنَّه لم يقُلْ ذلك، فنزلَتِ الآية مكذِّبة له‏.‏

* ت *‏:‏ وزاد ابن العربيِّ في «أحكامه» قولاً ثالثاً؛ أنَّ الآية نزلَتْ في جماعة المنافقين؛ قاله الحسن، وهو الصحيحُ؛ لعموم القول ووجود المعنَى فيه، وفيهم، انتهى‏.‏

وحدَّث أبو بَكْرٍ بْنُ الخَطِيبِ بسنده، قال‏:‏ سُئِلَ سفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن الهَمِّ‏:‏ أيؤاخَذُ به صاحِبُهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، إِذَا كَانَ عَزْماً؛ أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، إِلى قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏، فجعل عليهم فيه التَّوْبَةِ، قال سفيانُ‏:‏ الهَمُّ يسوِّد القلْبَ انتهى‏.‏

قال * ع *‏:‏ وعلى تأويل قتادة، فالإِشارة ب ‏{‏كَلِمَةَ الكفر‏}‏ إِلى تمثيل ابنِ أُبَيٍّ «سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ»‏.‏

قال قتادة‏:‏ والإِشارة ب ‏{‏هَمُّواْ‏}‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وقال الحَسَنُ‏:‏ هُمَّ المنافِقُونَ من إِظهار الشرك ومكابرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بما لم ينالوا، وقال تعالَى‏:‏ ‏{‏بَعْدَ إسلامهم‏}‏، ولم يقل‏:‏ «بعد إِيمانهم»؛ لأن ذلك لم يتجاوزْ ألسنتهم‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا نَقَمُواْ إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ كأَنَّ الكلامَ، وما نقموا إِلا ما حقُّه أنْ يُشْكَرَ، وذُكِرَ رسولُ اللَّه في إِغنائهم منْ حَيْثُ كَثُرَتْ أموالهم من الغنائِمِ، ورسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبَبٌ في ذلك، وعلى هذا الحَدِّ قال عليه السلام للأنصارِ في غَزْوَةِ حُنَيْنٍ‏:‏ «كُنْتُمْ عَالَةً، فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ»، قال العراقيُّ‏:‏ ‏{‏نَقَمُواْ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ أنْكَرُوا‏.‏

وقال * ص *‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله‏}‏‏:‏ إِنْ وصلْتَها‏:‏ مفعولُ ‏{‏نَقَمُواْ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ ما كرهوا إِلا إِغْنَاء اللَّه إِياهم، وقيل‏:‏ هو مفعولٌ من أجله، والمفعولُ به محذوفٌ، أي‏:‏ ما كرهوا الإِيمانَ إِلاَّ للإِغناء‏.‏ انتهى‏.‏

ثم فتح لهم سبحانَهُ بابَ التَّوْبةِ؛ رفقاً بهم ولطفاً، فروي أن الجُلاَسَ تَابَ من النفاقِ، وقال‏:‏ إِن اللَّه قَدْ تَرَكَ لي بَابَ التَّوْبَة، فاعترف وأخْلَصَ، وحَسُنت توبته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 79‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏75‏)‏ فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏76‏)‏ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ‏(‏77‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏78‏)‏ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏79‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُم مَّنْ عاهد الله لَئِنْ ءاتانا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذه الآية نزلَتْ في ثَعْلَبَةَ بْنِ حاطب الأنصاريِّ، قال الحسن‏:‏ وفي مُعَتِّبِ بنِ قُشَيرٍ معه، واختصار ما ذكره الطبريُّ وغيره مِنْ أمره‏:‏ أنه جاء إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادع اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لِي مَالاً، فَإِنِّي لَوْ كُنْتُ ذَا مَالٍ، لَقَضَيْتُ حُقُوقَهُ، وَفَعَلْتُ فِيهِ الخَيْرَ، فَرَادَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ‏:‏ «قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لاَ تُطِيقُهُ» فَعَاوَدَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أَلاَ تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِثْلَ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَوْ دَعَوْتُ اللَّه أَنْ يُسَيِّرَ الجِبَالَ مَعِي ذَهَباً، لَسَارَتْ» فَأَعَادَ عَلَيْهِ حَتَّى دَعَا لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، فاتخذ غَنَماً، فَنَمَتْ كَمَا يَنْمُو الدُّودُ؛ حتى ضاقَتْ به المدينةُ، فتنحَّى عنها، وكَثُرت غنمه، حتَّى كان لا يُصَلِّي إِلا الجُمُعَةَ، ثم كَثُرَتْ حتى تَنَحَّى بعيداً، فترك الصَّلاَة، وَنَجَمَ نِفَاقه، وَنَزَلَ خلال ذلك فَرْضُ الزكاةِ، فبعَث النبيُّ صلى الله عليه وسلم مُصَدِّقِينَ بكتابه في أخْذ زكاة الغَنَمِ، فلما بلغوا ثَعْلَبَةَ، وقرأ الكِتَابَ، قالَ‏:‏ هَذِهِ أُخْتُ الجِزْيَةِ، ثم قال لهم‏:‏ دَعُونِي حَى أَرَى رَأْيي، فلما أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وأَخْبَروه، قال‏:‏ «وَيْح ثَعْلَبَة»ثَلاَثاً، ونزلَتْ الآية فيه، فحضر القصَّةَ قريبٌ لثعلبة، فخرج إِليه، فقال‏:‏ أَدْرِكْ أَمرك، فقد نَزَلَ فيك كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَرَغِبَ أَنْ يؤدِّي زكاتَهُ، فأعرض عنه رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَلاَّ آخُذَ زَكَاتَكَ»، فبقي كذلك حَتَّى تُوُفِّي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثم وَرَدَ ثَعلبةُ على أبي بَكْر، ثم على عمر، ثم على عثمان، يرغَبُ إِلى كلِّ واحد منهم أنْ يأخذ منه الزكاةَ، فكلُّهم رَدَّ ذلك وأباه؛ اقتداء بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فبقي ثعلبةُ كذلك حتى هَلَكَ في مدَّة عثمان‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَعْقَبَهُمْ‏}‏‏:‏ نصٌّ في العقوبة على الذَّنْب بما هو أشدُّ منه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ‏}‏‏:‏ يقتضي موافاتَهُمْ على النِّفَاق، قال ابنُ العربيِّ‏:‏ في ضمير ‏{‏يَلْقَوْنَهُ‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه عائدٌ على اللَّه تعالى‏.‏

والثاني‏:‏ أنه عائدٌ على النفاقِ مجازاً؛ على تقدير الجَزَاءِ؛ كأنه قال‏:‏ فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إِلى يَوْمِ يلقون جَزَاءَهُ‏.‏ انتهى من «الأحكام»‏.‏

و ‏{‏يَلْمِزُونَ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ ينالون بألسنتهم، وأكثر الروايات في سَبَبِ نُرُولِ الآية أَنَّ عبد الرحمن بْنِ عَوْفٍ تصدَّق بأربعة آلاف، وأمْسَكَ مثلها‏.‏

وقيل‏:‏ هو عمر بنُ الخطَّاب تصدَّق بِنِصْفِ مالِهِ، وقيل‏:‏ عاصمُ بْنُ عَدِيٍّ تصدَّق بمائَةِ وَسْقٍ، فقال المنافقون‏:‏ ما هذا إِلا رياء، فنزلَتِ الآية في هذا كلِّه، وأما المتصدِّق بقليل، فهو أبو عقيل تصدَّق بصاعٍ من تمرٍ، فقال بعضهم‏:‏ إِن اللَّه غنيٌّ عن صاعِ أبي عقيل، وخرَّجه البخاريُّ، وقيل‏:‏ إِن الذي لُمِزَ في القليلِ هو أبو خَيْثَمَةَ؛ قاله كعب بن مالك‏.‏

‏{‏فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ يستهزئون ويستخفُّونْ وروى مسلمٌ عن جَرِيرِ بنِ عبد اللَّهِ، قال‏:‏ كُنْتُ عند رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال‏:‏ فجاءَه قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ متقلِّدي السُّيُوف، عَامَّتِهِم مِنْ مُضَرَ، بلِ كلُّهم مِنْ مُضَرَ، فتمعَّر وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِمَا رَأَى بهم مِن الفَاقَةِ، فذخل ثُمَّ خرج، فأمر بلالاً، فأَذَّن وأقَام، فصلَّى ثم خَطَبَ، فقال‏:‏ ‏{‏ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحدة‏}‏ إِلى آخر الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏ والآية التي في سورة الحشر‏:‏ ‏{‏اتقوا الله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 18‏]‏ تَصَدَّقَ رَجُلٌ؛ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّه، مِنْ صَاعِ تَمْره؛ حَتَّى قَالَ‏:‏ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، قَالَ‏:‏ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجَزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ‏:‏ ثُمَّ تتابَعَ النَّاسُ، حَتَّى رأَيْتُ كُومَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ؛ حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ»‏.‏ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 81‏]‏

‏{‏اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏80‏)‏ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ‏}‏‏:‏ المعنى‏:‏ أَنَّ اللَّه خَيَّر نبيَّه في هذا، فكأنه قال له‏:‏ إِن شئْتَ فاستغفر لهم، وإِن شئت لا تستغفر، ثم أعلمه أنَّه لا يغفِرُ لهم، وإِن استغفر سبعين مرَّةً، وهذا هو الصحيحُ في تأويل الآية، لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعمر‏:‏ ‏"‏ إِنَّ اللَّهَ قَدْ خَيَّرَنِي فاخترت، وَلَوْ عَلِمْتُ أَنِّي إِذَا زِدتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُمْ لَزِدْتُ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ الحديث، وظاهرُ لفْظِ الحديثِ رفْضُ إِلزام دليل الخطَاب، وظاهرُ صلاته صلى الله عليه وسلم عَلَى ابن أُبَيٍّ أَنَّ كُفْره لم يكنْ يقيناً عنده، ومحالٌ أَنْ يُصلِّيَ على كافرٍ، ولكنه راعى ظواهره من الإِقرار ووَكَلَ سريرته إِلى اللَّه عزَّ وجلَّ، وعلَى هذا كان سَتْرُ المنافقين، وإِذا ترتَّب كما قلنا التخييرُ في هذه الآيةِ، صَحَّ أَنَّ ذلك التخييرَ هو الَّذِي نُسِخَ بقوله تعالى في «سورة المنافقين‏:‏ ‏[‏6‏]‏»‏:‏ ‏{‏سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ‏}‏

* ت *‏:‏ والظاهر أن الآيتين بمعنًى، فلا نَسْخ، فتأمَّله، ولولا الإِطالة لأَوْضَحْت ذلك‏.‏

قال * ع *‏:‏ وأما تمثيله بالسبعين دُونَ غيرها من الأعدادِ، فلأَنه عددٌ كثيراً مَّا يجيءُ غايةً ومقنعاً في الكَثْرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إِشارة إِلى امتناع الغُفْرَانِ‏.‏

وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خلاف رَسُولِ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذه آية تتضمَّن وصف حالِهِمْ، على جهة التوبيخ، وفي ضمنها وعيدٌ، وقوله‏:‏ ‏{‏المخلفون‏}‏‏:‏ لفظٌ يقتضي تحقيرَهُم، وأنهم الذين أبعدهم اللَّه مِنْ رضاه و«مقْعَد»‏:‏ بمعنى القُعُود، و«خِلاَف»‏:‏ معناه‏:‏ «بَعْدَ»؛ ومنه قولُ الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فَقُلْ للَّذِي يَبْغِي خِلاَفَ الَّذِي مَضَى *** تَأَهَّبْ لأُخْرَى مِثْلِهَا فَكَأَنْ قَد

يريد‏:‏ بعد الذي مَضَى‏.‏

وقال الطبريُّ‏:‏ هو مصدرُ‏:‏ خَالَفَ يُخَالِفُ، وقولهم‏:‏ ‏{‏لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر‏}‏‏:‏ كان هذا القول منهم؛ لأن غزوة تبوك كَانَتْ في شدَّة الحَرِّ وطِيب الثمار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 84‏]‏

‏{‏فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏82‏)‏ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ‏(‏83‏)‏ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً‏}‏؛ إِشارة إِلى مدة العُمر في الدنيا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا‏}‏؛ إِشارةٌ إِلى تأبيدِ الخلودِ في النَّارِ، فجاء بلَفْظ الأمر، ومعناه الخبر عن حالهم، وتقديرُ الكلام‏:‏ لِيَبْكُوا كثيراً؛ إِذ هم معذَّبون، جزاءً بما كانوا يكسبون، وخرَّج ابن ماجه بسنده، عن يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عن أنَسٍ، قال‏:‏ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يُرْسَلُ البُكَاءُ عَلَى أَهْلِ النَّارِ، فَيَبْكُونَ حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعُ، ثُمَّ يَبْكُونَ الدَّمَ حَتَّى تَصِيرَ في وُجُوهِهِمْ كَهَيْئَةِ الأُخْدُودِ لَوْ أُرْسِلَتْ فِيهَا السُّفُنُ لَجَرَتْ ‏"‏، وخرَّجه ابن المبارك أيضاً عن أنسٍ، قال‏:‏ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ يأيُّها النَّاسُ، ابكوا فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا، فَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ تَسِيلُ دُمُوعُهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ، كَأَنَّهَا جَدَاوِلُ حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعَ، فَتَسِيلُ الدِّمَاءُ، فَتُقَرِّحُ العُيُونَ، فَلَوْ أَنَّ سُفُناً أُجْرِيَتْ فِيهَا، لَجَرَتْ ‏"‏، انتهى من «التذكرة»‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ يشبه أنْ تكون هذه الطائفةُ قد حُتِمَ عليها بالموافاة على النفاق، وعُيِّنُوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَاتُواْ وَهُمْ فاسقون‏}‏‏:‏ نصٌّ في موافاتهم على ذلك؛ وممَّا يؤيِّد هذا ما روي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عَيَّنهم لحذيفةَ بْنِ اليمانِ، وكان الصحابة إِذا رأَوْا حذَيفةَ تأخَّر عن الصَّلاة على جنازة، تأَخَّرُوا هم عنها، وروِي عَنْ حذيفة؛ أَنه قَالَ يَوْماً‏:‏ بَقِيَ من المنافقين كَذَا وَكَذَا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوَّلُ‏}‏ هو بالإِضافة إِلى وَقْت الاستئذان، و«الخالفون»‏:‏ جَمْعُ مَنْ تخلَّف من نساءٍ، وصبيان، وأهْل عذر، وتظاهرت الرواياتُ أنه صلى الله عليه وسلم صلَّى على عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابن سَلُول، وأَنَّ قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم‏}‏ نزلَتْ بعد ذلك، وقد خرَّج ذلك البخاريُّ من رواية عمر بن الخَطَّاب‏.‏ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 89‏]‏

‏{‏وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏85‏)‏ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ‏(‏86‏)‏ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏87‏)‏ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏88‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏89‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وأولادهم‏}‏‏:‏ تقدم تفسير مثل هذه الآية، والطَّوْلُ في هذه الآية المالُ؛ قاله ابن عباس وغيره، والإِشارة بهذه الآيةِ إِلى الجَدِّ بْنِ قَيْسٍ ونظرائِهِ، و«القاعدون»‏:‏ الزَّمْنَى وأهْلُ العُذْر في الجُمْلَة، و‏{‏الخوالف‏}‏‏:‏ النساءُ جَمْعُ خالفةٍ؛ هذا قول جمهور المفسِّرين‏.‏

وقال أبو جعفر النَّحَّاس‏:‏ يقال للرجُلِ الذي لا خَيْرَ فيه‏:‏ خَالِفَةٌ، فهذا جمعه بحَسَبِ اللفظ، والمراد أخسَّةُ الناسِ وأخلافهم؛ ونحوه عن النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، وقالت فرقة‏:‏ الخوالفُ‏:‏ جمعُ خَالِفٍ؛ كفَارِسٍ وَفَوَارِس‏.‏

‏{‏وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ لا يفهمون، و‏{‏الخَيْرَاتُ‏}‏‏:‏ جمع خَيْرَة، وهو المستحْسَنُ من كلِّ شيء‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَعَدَّ الله لَهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ذلك الفوز العظيم‏}‏‏:‏ ‏{‏أَعَدَّ‏}‏‏:‏ معناه يَسَّر وَهَيَّأ، وباقي الآية بيِّن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 92‏]‏

‏{‏وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏90‏)‏ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏91‏)‏ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَجَاءَ المعذرون مِنَ الأعراب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال ابن عبَّاس وغيره‏:‏ هؤلاء كانوا مؤمنين، وكانَتْ أَعذارُهُم صادقة، وأصل اللفظة‏:‏ «المُعْتَذِرُونَ»، فقلبت التاءُ ذالاً وأدغمتْ، وقال قتادة، وفرقةٌ معه‏:‏ بل الذين جاؤوا كفرةٌ، وقولُهُمْ وعُذْرهم كَذِبٌ‏.‏

قال * ص *‏:‏ والمعنى‏:‏ تكلَّفوا العُذْر، ولا عذر لهم، و‏{‏كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ‏}‏، أي‏:‏ في إيمانهم‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية قوله‏:‏ ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ يؤيِّد أن المعذِّرين كانوا مؤمنين، فتأمَّله، قال ابنُ إِسحاق‏:‏ المعذِّرون‏:‏ نَفَرٌ من بني غِفَارٍ؛ وهذا يقتضي أنهم مؤمنون‏.‏

وقوله جلَّت عظمته‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ يقولُ‏:‏ ليس على أهل الأعذار مِنْ ضَعْف بدنٍ أو مرضٍ أو عدمِ نفقةٍ إِثمٌ؛ والحَرَجُ‏:‏ الإِثم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا نَصَحُواْ‏}‏‏:‏ يريد‏:‏ بنيَّاتهم وأقوالهم سرًّا وجهراً، ‏{‏مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ من لائمةٍ تناطُ بِهِمْ، ثم أكَّد الرجاءَ بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏، وقرأ ابنُ عبَّاس‏:‏ «وَاللَّهُ لأَهْلِ الإِسَاءَة غَفُورٌ رَحِيم»، وهذا على جهة التفسيرِ أشبهُ منه على جهةِ التلاوةِ؛ لخلافه المُصْحَفَ، واختلف فيمَنْ المرادُ بقوله‏:‏ ‏{‏الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ‏}‏‏:‏ فقالتْ فرقة‏:‏ نَزلَتْ في بَنِي مُقَرِّنٍ‏:‏ ستَّة إِخوة، وليس في الصحابة ستَّة إِخوة غيرهم، وقيل‏:‏ كانوا سبعةً‏.‏

وقيل‏:‏ نزلَتْ في عائِذِ بْنِ عمرو المُزَنيِّ؛ قاله قتادة، وقيل‏:‏ في عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَعْقِلٍ المزَنِّي‏.‏ قاله ابن عباس‏.‏

وقوله عَزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ‏}‏ هذه الآيةُ نزلَتْ في البَكَّائين، واختلف في تعيينهم، فقيل‏:‏ في أبي موسَى الأشعريِّ وَرَهْطِهِ، وقيل‏:‏ في بني مُقَرِّنٍ؛ وعلى هذا جمهور المفسِّرين، وقيل‏:‏ نزلَتْ في سبعة نَفَرٍ من بطونٍ شتَّى، فهم البَكَّاؤون، وقال مجاهد‏:‏ البَكَّاؤون هم بنو مُقَرِّن من مُزَيْنة، ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏لِتَحْمِلَهُمْ‏}‏‏:‏ أيْ‏:‏ عَلَى ظَهْر يُرْكَبُ، ويُحْمَل عليه الأثاثُ‏.‏

* ت *‏:‏ وقصة أبي موسَى الأشعريِّ ورَهْطِهِ مذكورةٌ في الصَّحيح، قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه»‏:‏ القول بأن الآية نزلَتْ في أبي موسَى وأصحابه هو الصحيحُ، انتهى‏.‏