فصل: الجزء الثالث

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***


الجزء الثالث

سورة مريم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏كهيعص ‏(‏1‏)‏ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ‏(‏2‏)‏ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ‏(‏3‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ‏(‏4‏)‏ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ‏(‏5‏)‏ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ‏(‏6‏)‏ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ‏(‏7‏)‏ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ‏(‏8‏)‏ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ‏(‏9‏)‏ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ‏(‏10‏)‏ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله عزَّ وجل‏:‏ ‏{‏كهيعص‏}‏ قد تقدَّمَ الكلامُ في فواتح السوَرِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ‏}‏ مرتَفِعٌ بقولهِ‏:‏ ‏{‏كهيعص‏}‏ في قَوْلِ فرقَةٍ‏.‏

وقيل‏:‏ إنَّهُ ارتفعَ على أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدأ محذوفٍ تَقْديرُهُ‏:‏ هذا ذكر وحكَى أبو عمرو الدَّانِي عن ابن يعمر أَنَّه قرأ‏:‏ «ذَكِّر رَحْمَة رَبِّكَ»‏:‏ بفتح الذَّالِ، وكسر الكافِ المشدَّدة، ونصبِ الرَّحمة‏.‏

وقوله ‏{‏نادى‏}‏‏:‏ مَعناه بالدُّعَاءِ والرغبَةِ؛ قاله ابنُ العربيِّ في «أحكامه»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً‏}‏‏:‏ يناسِبُ قَوْلَهْ‏:‏ ‏{‏ادعوا ربَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 55‏]‏‏.‏

وفي «الصحيح» عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قَال‏:‏ ‏"‏ خيرُ الذَّكْرِ الخفيُّ، وخيرُ الرِّزقِ ما يَكْفِي ‏"‏ وذلك؛ لأَنَّهُ أَبْعَدُ مِن الرياء، فأَمَّا دُعاءُ زكرياء عليه السلام فإنما كان خفيّاً لوجهين‏:‏

أَحدُهُما‏:‏ أَنَّهُ كان ليلاً‏.‏

والثاني‏:‏ أَنَّهُ ذَكَرَ في دُعَائه أَحوالاً تفتقرُ إلى الإخفَاءِ؛ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي‏}‏‏.‏ وهذا مما يُكْتَمُ‏.‏ انتهى‏.‏

و ‏{‏وَهَنَ العظم‏}‏ معناه ضَعُفَ، ‏{‏واشتعل‏}‏ مُسْتَعَارٌ للشيْب منِ اشتعال النَّار‏.‏

وقولهُ‏:‏ ‏{‏وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً‏}‏ شُكْر للّه عز وجل على سالف أياديه عنده، معناه‏:‏ قد أَحسنتَ إليَّ فيما سلَف، وسعدتُ بدعائي إيَّاك؛ فالإنعامُ يقتضي أَنْ يشفع أَوله آخره‏.‏

* ت *‏:‏ وكذا فسَّر الدَّاوُودِيُّ، ولفظه‏:‏ «ولم أَكنْ بدُعائِك رَبِّ شقيّاً»، يقولُ‏:‏ كنْتَ تعرفني الإجابَة فيما مضى، وقاله قتادةُ‏:‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنِّي خِفْتُ الموالي‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قيل‏:‏ معناه خاف أَن يرثَ الموَالي مَالَهُ، والموالي‏:‏ بنو العمّ، والقرابةُ‏.‏

وقولُه ‏{‏مِن وَرَآئِي‏}‏ أَيْ‏:‏ من بعدي‏.‏

وقالت فرقةٌ‏:‏ إنما كان مواليه مهمِلينَ للدِّين؛ فخاف بموته أَنْ يضَيع الدينُ؛ فطلب وليّاً يقومُ بالدين بعده؛ حَكَى هذا القولَ‏:‏ الزَّجَّاجُ، وفيه‏:‏ أَنه لا يجوزُ أَن يسأل زَكَرِيَّاءُ من يرث ماله؛ إذاِ الأَنبيَاءِ لا تُورَثُ‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهذا يُؤَيّده قولُه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا، فَهُو صَدَقَة ‏"‏ والأَظهرُ الأَلْيق بزكرياء عليه السلام أَن يريدَ وِرَاثةَ العِلْم والدِّينِ، فتكون الوارثةُ مستعارةً، وقد بلغه اللّه أَمَلَهُ‏.‏

قال ابنُ هِشَامٍ‏:‏ و‏{‏مِنْ وَرآئِي‏}‏ متعلّقٌ ب ‏{‏الموالي‏}‏، أو بمحذوفٍ هو حالٌ من الموالي، أو مُضَاف إليهم، أَيْ‏:‏ كائِنِينَ مِنْ وَرَائي، أو فعَل الموالي مِنْ ورائي، ولا يصحّ تعلقه ب «خِفْتُ»؛ لفساد المعنى‏.‏ انتهى‏.‏ من «المغني»‏.‏

و ‏{‏خِفْتُ الموالي‏}‏، هي قراءةُ الجمهور، وعليها هو هذا التفسير‏.‏

وقرأ عثمانُ بنُ عَفَّانَ، وزيدُ بنُ ثابتٍ، وابنُ عباسٍ، وجماعةٌ «خَفَّتِ» بفتح الخاء، وفتح الفاء، وشدِّها، وكَسْر التَّاء، والمعنى على هذا‏:‏ قد انقَطَع أَوْلِيَائِي، وماتُوا، وعلى هذه القراءة، فإنما طلب وَليَّا يقوم بالدين‏.‏

قال ابنُ العربي في «أحكامه»‏:‏ ولم يخف زكرياءُ وارثَ المالِ، وإنما أَراد إرْثَ النبوءة، وعليها خاف أَن تخرج عن عَقِبه، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال‏:‏

‏"‏ إنَّا معَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة ‏"‏ انتهى‏.‏

وقرأ عليُّ بنُ أَبي طَالِبٍ، وابنُ عباسٍ، وغيرُهما رضي اللّه عنهم «يرِثُنِي وَارِثٌ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ»‏.‏

* ت *‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَهَبْ لِي‏}‏ قال ابنُ مَالكٍ في «شرح الكافية» اللامُ هنا‏:‏ هي لامُ التعدِيَة؛ وقاله ولدُه في «شرح الخلاصة»‏.‏

قال ابنُ هشام‏:‏ والأولى عندي أن يمثل للتعدية بنحو‏:‏ ما أكرم زيداً لعمرو، وما أحبه لبكر، انتهى‏.‏

وقولُه‏:‏ ‏{‏مِن ءَالِ يَعْقُوبَ‏}‏ يريدُ يرث منهم الحِكْمة، وكذلك العاقرُ من الرجال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً‏}‏ معناه في اللغة‏:‏ لم نجعل له مُشَارِكاً في هذا الاسم، أي‏:‏ لم يسم به قبل يحيى، وهذا قول ابن عباس وغيره‏.‏

وقال مجاهدُ‏:‏ وغيره‏:‏ ‏{‏سَمِيّاً‏}‏ معناه‏:‏ مثيلاً، ونظيراً، وفي هذا بعدٌ‏:‏ لأَنه لا يفضل على إبرَاهِيم وموسى عليهما السلام إلا أن يفضل في خاص؛ كالسودد، والحصر‏.‏

والعتي، والعُسِيُّ‏:‏ المبالغة في الكبر، أو يُبْس العود، أو شيْب الرأس، أو عقيدة ما، وزكرياء‏:‏ هو من ذرية هارون- عليهما السلام- ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏سَوِيّاً‏}‏ فيما قال الجمهور، صحيحاً من غير عِلَّة، ولا خرس‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ذلك عائدٌ على الليالي، أراد‏:‏ كاملات مستويات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فأوحى إِلَيْهِمْ‏}‏ قال قتادة، وغيره‏:‏ كان ذلك بإشارة‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ بل بكتابة في التراب‏.‏

قال * ع *‏:‏ وكِلاَ الوجهين وَحْي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَنْ سَبِّحُواْ‏}‏ قال قتادة‏:‏ معناه صلوا السُّبْحة، والسُّبحةْ‏:‏ الصلاة، وقالت فرقة‏:‏ بل أَمرهم بذكر اللّه، وقول‏:‏ سُبْحان اللّه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 16‏]‏

‏{‏يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ‏(‏12‏)‏ وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ‏(‏13‏)‏ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ‏(‏14‏)‏ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ‏(‏15‏)‏ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ عز وجل‏:‏ ‏[‏‏{‏يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ‏}‏ المعنى‏:‏ قال اللّهُ له‏:‏ يا يحيى‏]‏ خذ الكتابَ، وهو التوراةُ، وقوله‏:‏ ‏{‏بِقُوَّةٍ‏}‏ أَيْ‏:‏ العلم به، والحفظ له، والعمل به، والالتزام للوازمه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏صَبِيّاً‏}‏ يريد‏:‏ شاباً لم يبلُغْ حدّ الكهولة، ففي لفظ صبي على هذا، تجوّزٌ، واستصحابُ حال‏.‏

وروى مَعْمَرُ أَنَّ الصِّبْيَانَ دعوا يحيى إلى اللَّعب، وهو طِفْل، فقال‏:‏ إني لم أُخلقْ للعب، فتلك الحِكْمة الَّتي آتاه اللّهُ عز وجل وهو صَبِيٌّ، وقال ابن عباس‏:‏ من قرأ القرآن قبل أن يحتلم، فهو ممن أوتي الحِكْمة صَبِيّاً‏.‏ «والحنان»‏:‏ الرحمةُ، والشفقةُ، والمحبّة؛ قاله جمهورُ المفسرين، وهو تَفْسِير اللغة؛ ومن الشواهد في «الحَنَان» قولُ النابغة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

أَبَا مُنْذِرٍ، أَفْنَيْتَ فاستبق بَعْضَنَا *** حَنَانَيْكَ بْعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ

وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ «حَنَاناً مِنْ لَدُنَّا» بمعنى تعظيماً مِنْ لدنا‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهو أَيضاً ما عظم من الأَمر لأَجل اللّه عز وجل ومنه قولُ زيدِ بن عَمْر بن نُفَيْل في خبر بِلاَلٍ‏:‏ واللّهِ، لَئِنْ قَتَلْتُمْ هَذَا العَبْدَ لاَتَّخَذْنَ قَبْرَهُ حَنَاناً‏.‏

قال * ص *‏:‏ قال أَبو عبيدة‏:‏ وأَكْثَر ما يُسْتَعمل مثنى‏.‏ انتهى، والزكاةُ التنميةُ، والتَّطْهير في وُجُوه الخير‏.‏

قال مجاهدٌ‏:‏ كان طعامُ يَحْيَى العُشب، وكان للدمع في خَدّه مجار ثابتة‏.‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً‏}‏ روي أن يحيى عليه السلام لم يواقع معصية قَطُّ صغيرة، ولا كبيرة والبَر كثير البرّ، والجبار‏:‏ المُتكبّر، كأَنه يجبر الناس على أَخلاقه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وسلام عَلَيْهِ‏}‏ قال الطَّبرِيُّ، وغيرُه‏:‏ معناه وأَمانٌ عليه‏.‏

قال * ع *‏:‏ والأَظهرُ عندي‏:‏ أَنها التّحيةُ المتعارفة، فهي أَشرف، وأَنبه من الأَمان؛ لأَن الأَمان متحصَّلٌ له بنفي العِصْيان عنه، وهو أَقلّ درجاته، وإنما الشرف في أن سلم اللّهُ عليه، وحيَّاه في المواطن الَّتي الإنسان فيها في غاية الضعْفِ، والحاجةِ، وقلَّةِ الحيلة‏.‏

‏{‏واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ‏}‏، الكتاب‏:‏ هو القُرْآنُ والاِنْتباذ‏:‏ التنحِّي‏.‏

قال السُّدِّيُّ‏:‏ انتبذت؛ لتطهر من حيض، وقال غيره‏:‏ لتعبد اللّه عز وجل‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهذا أحْسن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏شَرْقِيّاً‏}‏ يريد‏:‏ في جهة الشرق من مساكن أهلها، وكانوا يعظمون جهة المَشْرق؛ قاله الطبري‏.‏

وقال بعضُ المفسرين‏:‏ اتخذت المكانَ بشرقي المحرابَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 19‏]‏

‏{‏فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ‏(‏17‏)‏ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ‏(‏18‏)‏ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ‏(‏19‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً‏}‏، أيْ‏:‏ لتستتر به عن الناس؛ لعبادتها‏.‏ «والروح»‏:‏ جبريلُ عليه السلام‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً‏}‏، المعنى‏:‏ قالت مريمُ للملك الذي تمثل لها بشراً، لما رأَتْهُ قد خرق الحِجَاب الَّذي اتخذته؛ فأساءت به الظن‏:‏ أَعود بالرحمن منك إن كنت ذا تُقًى، فقال لها جبريلُ عليه السلام‏:‏ ‏{‏إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غلاما زَكِيّاً‏}‏‏.‏

وقرأ أَبو عمرو، ونافعٌ بخلاف عنه «لِيَهَبَ»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 23‏]‏

‏{‏قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ‏(‏20‏)‏ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ‏(‏21‏)‏ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ‏(‏22‏)‏ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غلام وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً‏}‏، والبغي‏:‏ الزانية، وروي‏:‏ أن جبريلَ عليه السلام حين قاولها هذه المقاولة، نفخ في جيب دِرْعها؛ فسرت النفخة بإذن اللّه تعالى حتَّى حملت منها؛ قاله وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وغيرُهُ‏.‏

وقال أُبيُّ بنُ كَعْبٍ‏:‏ دخل الروح المنفوخُ من فمها؛ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَحَمَلَتْهُ‏}‏ أي‏:‏ فحملت الغلام، ويذكر أَنها كانت بنت ثلاث عشرة سنة، فلمَّا أحسَّت بذلك، وخافت تعنيفَ الناس، وأَن يُظنَّ بها الشَّرُ ‏{‏انتَبَذَتْ‏}‏ أيْ‏:‏ تنحت مكاناً بعيداً؛ حياء وفراراً على وجهها، و‏{‏أَجَآءَهَا‏}‏ معناه‏:‏ اضْطرّها، وهو تعدية ‏[‏جاء‏]‏ بالهمزة‏.‏

و ‏{‏المخاض‏}‏‏:‏ الطّلْقُ، وشدةُ الولادة، وأَوْجَاعُها، وروي‏:‏ أَنّها بلغت إلى موضعٍ كان فيه جِذْع نخلة بالٍ يابس، في أَصْله مِذْود بقرة، على جرية ماء، فاشتدَّ بها الأَمْرُ هنالك، واحتضنت الجِذْع؛ لشدة الوجع، وولدت عيسى عليه السلام فقالت عند ولادتها؛ لما رأته من صعُوبة الحال مِنْ غير ما وجهَ‏:‏ ‏{‏ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا‏}‏ فتمنت الموتَ من جهة الدّين؛ أَن يُظَنّ بها الشر، وخوفَ أَن تُفْتَتَن بتعْيِير قومها، وهذا مُباحٌ؛ وعلى هذا الحدِّ تمناه عمرُ- رضي اللّه عنه-‏.‏

‏{‏وَكُنتُ نَسْياً‏}‏ أيْ‏:‏ شَيْئاً مَتْرُوكاً محتقراً، والنَّسِيُّ في كلام العرب؛ الشيءُ الحقير الذي شأنه أَن يُنْسَى، فلا يُتَأَلَّمُ لفقده؛ كالوتد، والحبل للمسافر، ونحوه‏.‏

وهذه القصةُ تقتضي أَنها حملت واستمرَّت حامِلاً على عُرْف البشر، واستحْيَتْ من ذلك؛ ومرّت بسببه، وهي حاملٌ، وهو قولُ جمهور المتأوِّلين‏.‏

وروى عن ابن عباسٍ أَنه قال‏:‏ ليس إلا أَن حملت، فوضعت في ساعةٍ واحدة؛ والله أعلم‏.‏

وظاهر قوله‏:‏ ‏{‏فَأَجَاءَهَا المخاض‏}‏ أَنها كانت على عُرْف النساء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 28‏]‏

‏{‏فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ‏(‏24‏)‏ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ‏(‏25‏)‏ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ‏(‏26‏)‏ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ‏(‏27‏)‏ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ‏(‏28‏)‏‏}‏

وقولُهُ سبحانه‏:‏ ‏{‏فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ‏}‏ قرأ ابنُ كَثِير، وأبو عَمْرو، وابن عامرٍ، وعَاصِمٌ‏:‏ «فناداها مَنْ تحتها» على أَن «مَنْ» فاعل بنادى، والمراد بِ «مَنْ» عيسى؛ قاله مجاهدٌ، والحسنُ، وابنُ جُبَيْرٍ، وأَبي بنَ كَعْب‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ المراد ب «مَنْ» جِبْرِيلُ ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها‏.‏

والقول الأولُ أَظهر وأبْيَنُ، وبه يتبيّن عُذْر مريم، ولا تبقى بها استرابة‏.‏

وقرأ نافعٌ، وحمزةُ، والكِسَائِيُّ، وحَفْصٌ، عن عَاصِمٍ‏:‏ «مِنْ تَحْتِهَا» بكسر الميم، واختلفوا أَيضاً فقالت فرقةٌ‏:‏ المرادُ عيسى، وقالت فِرْقَةٌ‏:‏ المراد جِبْرِيلُ المحاور لها قَبْلُ‏.‏

قالوا‏:‏ وكان في بُقْعة أَخفضَ من البُقْعة الَّتي كانت هي عليها؛ والأَول أَظهَرُ‏.‏

وقرأ ابنُ عباس‏:‏ «فَنَادَاهَا مَلَكٌ مِن تَحْتِهَا»‏.‏

والسَّرِيُّ‏:‏ من الرجال العظيمُ السيّد، والسري‏:‏ أَيضاً الجدولُ مِنَ الماء؛ وبحسَبِ هذا اختلف النّاسُ في هذه الآية‏.‏

فقال قتادةُ، وابنُ زيدٍ‏:‏ أَراد جعل تحتك عَظِيماً من الرجال، له شأنٌ‏.‏

وقال الجمهورُ‏:‏ أَشار لها إلى الجَدْول، ثم أَمرها بهز الجِذْع اليابِس؛ لترى آيَةً أُخْرى‏.‏

وقالت فرقةٌ‏:‏ بل كانت النخْلة مطعمة رطباً، وقال السُّدِّيُّ‏:‏ كان الجِذْع مقطوعاً، وأجري تحتها النهر لحينه‏.‏

قال * ع *‏:‏ والظاهر من الآية‏:‏ أَن عيسى هو المكلِّم لها، وأَن الجِذْع كان يَابِساً؛ فهي آيات تسليها، وتسكن إليها‏.‏

قال * ص *‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏وهُزِّي إلَيْكِ‏}‏ تقرر في عِلْم النحو أَن الفِعْل لا يتعدَّى إلى ضمير مُتّصلٍ، وقد رفع المتصل، وهما لمدلول واحد، وإذا تقرر هذا؛ ف «إِليك» لا يتعلق ب «هُزِّي»، ولكن يمكن أَن يكون «إلَيْك» حالاً من جِذْع النخلة؛ فيتعلَّق بمحذْوفٍ؛ أَيْ‏:‏ هزي بجذْع النخلة مُنْتهياً إليك‏.‏ انتهى‏.‏

والباءُ في قوله‏:‏ ‏{‏بِجِذْعِ‏}‏‏:‏ زائدةٌ موكّدة، و‏{‏جَنِيّاً‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ قد طابت وصلحَتْ لِلاجْتناء، وهو من جَنَيْتُ الثمرةَ‏.‏

وقال عَمْرُو بْنُ مَيْمُون‏:‏ ليس شيءٌ للنُّفَسَاءِ خيراً من التَّمر، والرُّطَب‏.‏

وقرةُ العَيْن مأْخُوذةَ من القُرِّ؛ وذلك، أَنَّهُ يحكى‏:‏ أَن دمعَ الفرح باردُ المسِّ، ودمعَ الحُزْن سخن المس، وقِيلَ‏:‏ غير هذا‏.‏

قال * ص *‏:‏ ‏{‏وَقَرِّي عَيْناً‏}‏ أَيْ‏:‏ طِيبي نفساً‏.‏ أَبو البَقَاءِ‏:‏ «عيناً»‏:‏ تمييز‏.‏ اه‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، المعنى‏:‏ أَن اللّه عز وجل أمرها على لسان جِبْرِيلَ عليه السلام أو ابنها؛ على الخلاف المتقدم‏:‏ بأن تُمْسك عن مخاطبة البشر، وتحيل على ابنها في ذلك؛ ليرتفع عنها خجلها، وتبين الآية؛ فيقوم عذرها‏.‏

وظاهر الآية‏:‏ أَنها أُبِيح لها أن تقولَ مضمن هذه الألفاظ الّتي في الآية؛ وهو قولُ الجمهور‏.‏

وقالت فرقةٌ‏:‏ معنى ‏{‏قُولِي‏}‏ بالإشارة، لا بالكلام‏.‏

قال * ص *‏:‏ وقولُه‏:‏ ‏{‏فَقُولِي‏}‏ جوابُ الشرط، وبينهما جملةٌ محذوفةٌ يدل عليها المعنى؛ أيْ فَإمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحداً، وسألك أو حاورك الكلام، فقولي‏.‏

انتهى‏.‏

و ‏{‏صَوْماً‏}‏ معناه عن الكلام؛ إذ أَصلُ الصوم الإمساكُ‏.‏

وقرأَتْ فرقةٌ‏:‏ «إني نَذَرْتُ للرحمن صَمْتاً» ولا يجوز في شَرْعِنا نذرُ الصمتِ؛ فروي‏:‏ أَن مريم عليها السلام لمَّا اطمأنَّت بما رأت مِنَ الآياتِ، وعلمت أَن اللّه تعالى سيبيِّنُ عذرَها، أَتَتْ به تحمله مدلة من المكان القَصِيّ الذي كانت مُنْتبذةً به، والفَرِيُّ‏:‏ العظيمُ الشَّنِيعُ؛ قاله مجاهد، والسُّدِّيُّ، وأكثرُ استعماله في السُّوء‏.‏

واختُلِف في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأخت هارون‏}‏، فقيل‏:‏ كان لها أَخٌ اسمه هارون؛ لأَن هذا الاِسْم كان كَثِيراً في بني إسْرَائِيل‏.‏

ورَوَى المغيرةُ بن شُعْبة‏:‏ أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أَرسله إلى أَهْلِ نَجْرَانَ في أمْرٍ من الأُمُور، فقالتْ له النصارى‏:‏ إن صَاحِبَك يزعم أَنَّ مريمَ هي أُخْت هارون، وبينهما في المدّةِ ستُّ مائةِ سنة‏.‏

قال المغيرةُ‏:‏ فلم أَدر ما أقول، فلما قَدِمْتُ على النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكرتُ ذلك له، فقال‏:‏ أَلَمْ يَعْلَمُوا أنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياءِ والصّالحين‏.‏

قال * ع *‏:‏ فالمعنى أَنه اسم وافق اسما‏.‏

وقيل‏:‏ نسبُوها إلى هَارُون أَخِي مُوسَى؛ لأَنها مِنْ نَسْله؛ ومنه قولُه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن أَخَا صُدَاءٍ أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ، فَهُوَ يُقِيمٌ ‏"‏‏.‏ وقال قتادةُ‏:‏ نسبوها إلى هَارُونَ اسم رَجُلٍ صَالِحٍ في ذلك الزمان‏.‏

وقالتْ فرقةٌ‏:‏ بل كان في ذلك الزمان رجلٌ فاجِرٌ اسمه هَارُون نسبُوها إليه؛ على جهة التَّعْيِير‏.‏

* ت *‏:‏ واللّهُ أعلمُ بصحّة هذا، وما رواه المُغِيرة إنْ ثبت هو المعوَّلُ عليه، وقولهم‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ‏}‏ المعنى‏:‏ ما كان أَبُوك، ولا أمّك أهلاً لهذه الفِعْلة، فكيف جِئْت أنت بها‏؟‏ والبَغِيّ‏:‏ الّتي تبغِي الزَّنَا، أي‏:‏ تطلبه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 33‏]‏

‏{‏فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ‏(‏29‏)‏ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ‏(‏30‏)‏ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ‏(‏31‏)‏ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ‏(‏32‏)‏ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ‏(‏33‏)‏‏}‏

وقولُه تعالى‏:‏ ‏{‏فأَشَارَتْ إِلَيْهِ‏}‏ يقوى قولَ مَنْ قال‏:‏ إنَّ أمرها ب ‏{‏قُولي‏}‏، إنما أريد به الإشارة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ءاتاني الكتاب‏}‏ يعني الإنْجِيل، ويحتمل أن يريد التوراةَ والإنجيل، و«آتاني» معناه‏:‏ قضى بذلك سُبْحَانه وأَنْفذه في سَابِق حُكْمه، وهذا نحو قولِه تعالى‏:‏ ‏{‏أتى أَمْرُ الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏‏.‏

‏{‏وأوصاني بالصلاة والزكاوة‏}‏ قيل‏:‏ هما المشرُوعتانِ في البدن، والمال‏.‏

وقيل‏:‏ الصلاةُ‏:‏ الدعاءُ، والزكاة‏:‏ التطهُّرُ من كُلِّ عيْبٍ، ونقصٍ، ومعصيةٍ‏.‏ والجبارُ؛ المتعَظِّمُ؛ وهي خلق مقرونة بالشقاء؛ لأَنَّها مناقضة لجميع الناس، فلا يلقى صاحبها من كل أحد إلا مكروهاً، وكان عيسى عليه السلام في غاية التَّوَاضُعِ؛ يأكلُ الشجر، ويلبَسُ الشَّعْر، ويجلس على الأَرض، ويَأْوِي حيث جَنَّة الليلُ‏.‏ لاَ مَسْكَن له‏.‏

قال قتادة‏:‏ وكان يقولُ‏:‏ سَلُوني؛ فإني ليّن القلب، صَغِيرٌ في نفسي‏.‏

وقالت فرقةٌ‏:‏ إنَّ عيسى عليه السلام كان أُوتي الكتابَ وهو في سِنِّ الطفولِيّة، وكان يصومُ، ويُصَلّي‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهذا في غاية الضَّعْف‏.‏

* ت *‏:‏ وضعفُه مِنْ جهة سنده؛ وإلا فالعقلُ لا يحِيلُه؛ لا سِيَّما وأمره كله خرق عادة، وفي قصص هذه الآية؛ عن ابن زيد، وغيره‏:‏ أَنهم لما سَمِعُوا كلام عيسى أَذْعنوا وقالوا‏:‏ إن هذا الأمر عظيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 36‏]‏

‏{‏ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ‏(‏34‏)‏ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏35‏)‏ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏36‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ‏}‏ المعنى‏:‏ قل يا محمدُ، لمعاصريكَ من اليَهُود والنَّصَارَى ذلك الذي هذه قِصَّته؛ عيسى ابن مريم‏.‏

وقرأَ نافعٌ، وعَامّةُ الناس‏:‏ «قَوْلُ الحَقِّ» برفع القول؛ على معنى هذا هو قول الحق‏.‏

وقرأ عاصمٌ، وابنُ عَامِرٍ‏:‏ «قولَ الحقِّ» بنصب اللام؛ على المصدر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، هذا من تمام القول الّذي أمِر به محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَن يقولَه، ويحتمل أنْ يكون من قول عيسى عليه السلام ويكون قوله‏:‏ «أَنَّ» بفتح الهمزة، عطفاً على قوله‏:‏ «الكتاب»‏.‏

وقد قال وَهْبُ بنُ مُنَبِّه‏:‏ عهد عيسى إليهم‏:‏ أَن اللّه ربي وربُّكُمْ‏.‏

* ت *‏:‏ وما ذكره وَهْبُ ‏[‏مصرح به في القرآن، ففي آخر المائدة‏:‏ ‏{‏مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 117‏]‏‏.‏ وامتراؤهم‏]‏ في عيسى هو اختلافهم؛ فيقول بعضُهم‏:‏ لَزَنْيَةٌ، وهم اليهُود، ويقول بعضُهم‏:‏ هو اللّهُ؛ تعالى اللّهُ عن قولهم عُلُوّاً كبيراً، فهذا هو امتراؤُهم، وسيأتِي شرحُ ذلك بإثْرِ هذا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 39‏]‏

‏{‏فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏37‏)‏ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ‏}‏ هذا ابتداء خبر من الله تعالى لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم بأَن بني إسْرَائِيلَ اختلفوا أَحزاباً، أيْ‏:‏ فرقاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مِن بَيْنِهِمْ‏}‏ بمعنى‏:‏ من تلقَائِهم، ومن أَنْفسِهم ثار شرُّهم، وإنّ الاِخْتلاف لم يخرج عنهم؛ بل كانوا هم المختلفين‏.‏

وروي في هذا عن قتادةَ‏:‏ أَنَّ بني إسْرَائِيلَ جمعوا من أَنفسهم أَربعة أحبار غاية في المَكَانةِ والجَلاَلة عندهم وطلبوهم أن يبيِّنُوا لهم أَمْرَ عيسى فقال أَحَدُهم‏:‏ عيسى هو اللّهُ؛ تعالى اللّه عن قولهم‏.‏

وقال له الثلاثة‏:‏ كذبتَ، واتبعه اليعقوبيةُ، ثم قِيلَ للثلاثة؛ فقال أحدهم‏:‏ عيسى ابنُ اللّه، ‏[‏تعالى اللّه عن قولهم‏]‏ فقال له الاِثنان‏:‏ كذبت، واتبعه النُّسْطُورِيَّةُ، ثم قيل للاِثنين؛ فقال أَحدهما‏:‏ عيسى أحد ثلاثةٍ‏:‏ اللّه إله، ومريم إله، وعيسى إله؛ ‏[‏تعالى اللّه عن قولهم عُلوّاً كبيراً‏]‏ فقال له الرباعُ‏:‏ كذبت، واتَّبَعَتْهُ الإِسْرَائِيلية فقِيلَ للرابع؛ فقال‏:‏ عيسى عبدُ اللّه، وكلمتُه أَلقاها إلى مريم، فاتّبعَ كلَّ واحد فريقٌ من بني إسْرَائِيل، ثم اقْتَتلُوا فغُلِبَ المؤمنون، وقُتِلوا، وظَهَرَت اليَعْقُوبيّة على الجميع‏.‏

و «الويل»‏:‏ الحزنُ، والثُّبور، وقِيلَ‏:‏ «الويل»‏:‏ وَادٍ في جَهَنَّم، و‏{‏مَّشْهدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏‏:‏ هو يوم القيامة‏.‏

وقولُه سبحانه‏:‏ ‏{‏أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ‏}‏ أي‏:‏ ما أَسْمَعَهم، وأبصرهم يوم يرجعُون إلَيْنا، ويرَوْن ما نصنع بهم، ‏{‏لكن الظالمون اليوم‏}‏ أَيْ‏:‏ في الدنيا في ‏{‏ضلال مُّبِينٍ‏}‏ أَيْ بيِّنٍ، ‏{‏وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة‏}‏ وهو يوم ذَبْحِ الموت؛ قاله الجمهورُ‏.‏

وفي هذا حَدِيثٌ صحيحٌ خرجه البُخَاريُّ وغيرُه عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَنَّ المَوْتَ يُجَاءُ بِهِ في صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُذْبَحُ عَلَى الصِّرَاطِ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، ويُنَادِى‏:‏ يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، خُلُودٌ لاَ مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ لاَ مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الآية‏]‏‏.‏

قال * ع *‏:‏ ‏[‏وعند ذلك تُصِيب أَهلَ النار حسرةٌ لا حَسْرة مثلها‏.‏

وقال ابنُ زيد، وغيره‏:‏ يَوْمَ الحَسْرَةِ‏]‏‏:‏ هو يَوْمَ القِيَامَةِ‏.‏

قال * ع *‏:‏ ويحتمل أَن يكونَ يوم الحسرة اسمُ جِنْسٍ شاملٌ لحسَرَاتٍ كَثِيرَةٍ؛ بحسب مواطن الآخرة‏:‏ منها يومَ مَوْتِ الإنسان، وأَخْذِ الكتاب بالشِّمال، وغير ذلك، ‏{‏وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ‏}‏ يريد‏:‏ في الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 46‏]‏

‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ‏(‏40‏)‏ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ‏(‏41‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ‏(‏42‏)‏ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ‏(‏43‏)‏ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ‏(‏44‏)‏ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ‏(‏45‏)‏ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ‏(‏46‏)‏‏}‏

قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، عبارةٌ عن بقائهِ- جل وعلا- بعد فناء مَخْلُوقاتِه، لا إله غَيْرَه‏.‏

وقوله‏:‏- عزَّ وجل-‏:‏ ‏{‏واذكر فِي الكتاب إبراهيم إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قوله‏:‏ ‏{‏واذكر‏}‏ بمعنى اتل وشهر؛ لأَن اللّه تعالى هو الذاكِرُ؛ و‏{‏الكتاب‏}‏‏:‏ هو القرآن، والصديق‏:‏ بناءُ مبالغَةٍ فكان إبراهيمُ عليه السلام ‏[‏يُوصَفُ‏]‏ بالصِّدْقِ في أَفْعَالِهِ وأَقْوالِهِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ياأبت إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمن‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال الطّبرِيُّ‏:‏ «أخاف» بمعنى أعلمُ‏.‏

قال * ع *‏:‏ والظَّاهِرُ عندي أَنه خوفٌ على بابه؛ وذلك أَن إبراهيم عليه السلام في وقْتِ هذه المقالة لم يَكُن آيِساً من إيمان أَبِيه‏.‏

* ت *‏:‏ ونحو هذا عبارة المهدوي، قال‏:‏ قيل‏:‏ «أَخافُ» معناه‏:‏ أَعْلَمُ، أيْ‏:‏ إِنِّي أَعْلَمُ إن متَّ عَلَى ما أَنْتَ عليه‏.‏

ويجوزُ أَن يكون «أَخَافُ» على بابهِ، ويكونَ المعنى‏:‏ إِنِّي أَخاف أَن تمُوتَ على كُفْرك؛ فيمسَّكَ العذابُ‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لأَرْجُمَنَّك‏}‏ قال الضَّحَّاكُ، وغيرُه‏:‏ معناه بالقوْلِ، أَي‏:‏ لأَشْتمنَّك‏.‏

وقال الحسَنُ‏:‏ معناه‏:‏ لأَرْجمنَّك بالحجارة‏.‏

وقالتْ فرقةٌ‏:‏ معناه لأَقْتُلَنَّكَ، وهذان القولان بمعنًى واحدٍ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏واهجرني‏}‏ على هذا التَّأْوِيل إنما يترتب بأَنه أَمْرٌ على حياله؛ كأَنه قال‏:‏ إن لم تَنْتَهِ قتْلتُك بالرَّجم، ثم قال له‏:‏ واهجرني، أيْ‏:‏ مع انتهائك، و‏{‏مَلِيّاً‏}‏ معناه‏:‏ دهراً طوِيلاً مأَخوذٌ من المَلَويْنِ؛ وهما اللَّيْلُ والنَّهارُ؛ هذا قول الجمهور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 50‏]‏

‏{‏قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ‏(‏47‏)‏ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ‏(‏48‏)‏ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ‏(‏49‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ‏(‏50‏)‏‏}‏

وقولهُ‏:‏ ‏{‏قَالَ سلام عَلَيْكَ‏}‏ اختُلِف في معنى تَسْلِيمه على أَبِيهِ، فقال بعضُهم‏:‏ هي تحيةُ مفارقٍ وجوَّزوا تحيةَ الكَافِر وأَن يُبْدَأ بها‏.‏

وقال الجمهورُ‏:‏ ذلك السلامُ بمعنى المُسَالمةِ، لا بمعنى التَّحِيَّة‏.‏

وقال الطبريّ‏:‏ معناه أَمَنَة مِنّي لك؛ وهذا قول الجمهُورِ؛ وهم لا يَروْن ابتداءَ الكافِرِ بالسَّلاَم‏.‏

وقال النَّقَّاشُ‏:‏ حليمٌ خاطب سَفِيهاً؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سلاما‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي‏}‏ معناه‏:‏ سأَدْعُو اللّه تعالى في أَن يَهْدِيَكَ فيغفِرَ لك بإيمانك، ولمّا تبيَّن له أَنه عدوٌّ للَّه تبرّأَ منه‏.‏

والحِفيُّ‏:‏ المهتبلُ المتلطِّف، وهذا شُكْر من إبراهيمَ لنعم اللّه تعالى عليه، ثم أَخبر إبراهيمُ عليه السلام بأَنه يعتزلهم، أَيْ‏:‏ يصيرعنهم بمعْزِل ويروى‏:‏ أَنهم كانوا بأَرض كُوثَى، فرحل عليه السلام حتى نزل الشامَ، وفي سفرته تلك لقِي الجبَّار الَّذي أَخْدم هاجرَ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديثَ الصحيح بطوله، و‏{‏تَدْعُونَ‏}‏ معناه‏:‏ تعبدون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عَسَى&

1648‏;‏‏}‏‏:‏ تَرَجٍّ في ضمنه خَوْفٌ شديد‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا اعتزلهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى آخر الآية‏:‏ إخبار من اللّه تعالى لنبِيّه صلى الله عليه وسلم أَنَّه لما رَحَل إبراهيم عن بلد أَبِيه وقومه، عوّضَهُ اللّهُ تعالى من ذلك ابنَهُ إسحاق، وابنَ ابنه يعقوبَ- على جميعهم السلام- وجعلَ الولدَ له تَسْلِيةً، وشَدًّا لِعَضُدِهِ‏.‏

وإسحاقُ أَصغر من إسماعيل، ولما حملت هاجرِ بإسْمَاعِيل، غارَتْ سَارَةُ؛ فحملت بإسحاقِ، هكذا فيما روي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِّن رَّحْمَتِنَا‏}‏ يريد‏:‏ العِلْم، والمنزِلَة، والشَّرَف في الدنيا، والنَّعيم في الآخرة؛ كُلُّ ذلك مِنْ رَحْمة اللّه عز وجل، ولِسَانُ الصَّدْق‏:‏ هو الثَّناءُ البَاقِي عليهم آخر الأَبد؛ قاله ابنُ عباس وإبراهيمُ الخليل صلى الله عليه وسلم وذريته مُعظَّمة في جميع الأُمم والمِلَل‏.‏

قال * ص *‏:‏ و‏{‏كُّلاً جَعَلْنَا نَبِيّاً‏}‏ أَبو البقاء‏:‏ هو منصوبٌ ب ‏{‏جَعَلْنَا‏}‏ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 53‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ‏(‏51‏)‏ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ‏(‏52‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ‏(‏53‏)‏‏}‏

وقوله عزَّ وجل‏:‏ ‏{‏واذكر فِي الكتاب موسى‏}‏، أي‏:‏ على جهة التَّشْرِيف له، ‏{‏وناديناه‏}‏ هو تَكْلِيمُ اللّه له، والأَيْمن‏:‏ صفةُ لجَانِب، وكان على يَمِينِ موسى، وإلا فالجبل نفسُه لاَ يَمْنةً له ولا يَسْرة، ويحتمل أَن يكون الأَمن مأْخُوذاً من الأَيمن ‏{‏وقربناه‏}‏، أَيْ‏:‏ تقريب تَشْرِيف، والنِّجِيّ‏:‏ من المُنَاجَاةِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 58‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ‏(‏54‏)‏ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ‏(‏55‏)‏ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ‏(‏56‏)‏ وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ‏(‏57‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ‏(‏58‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر فِي الكتاب إسماعيل‏}‏ هو أيضاً من لسانِ الصِّدْقِ المضمون بقاؤه على إبراهيمَ عليه السلام وإسماعيلُ عليه السلام‏:‏ هو أَبو العربِ اليومَ؛ وذلك أَنَّ اليَمَنِية والمُضَرِية ترجع إلى ولد إسماعيل، وهو الذِّبِيحُ في قول الجمهُور‏.‏

وهو الرَّاجِحُ؛ من وجوهٍ‏:‏ منها قولُه تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 71‏]‏‏.‏

فَوَلَدٌ بُشِّر أَبواه بأن سَيَكُونُ منه ولدٌ كيف يُؤْمَرُ بذبحه‏؟‏‏!‏‏.‏

ومنها أَن أَمْرَ الذبح كان بِمِنًى بلا خِلاَفٍ، وما روي قَطُّ أَن إسحاقَ دخل تلك البلاد، وإسماعيلُ بها نَشَأ، وكان أَبوه يزُورُه مِرَاراً كَثِيرةً يأْتي من الشام، ويرجِعُ من يَوْمِهِ على البُرَاق؛ وهو مركَبُ الأَنْبياء‏.‏

ومنها قولُه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أَنَا ابن الذَّبِيحَيْنِ ‏"‏ وهو أَبُوهُ عبدُ اللّهِ، والذَّبِيحُ الثَّانِي هو إسْماعِيلُ‏.‏

ومنها ‏[‏تَرْتِيبُ‏]‏ آيات سورة «والصَّافَّاتِ» يكاد ينصُّ على أَنَّ الذبيح غيرُ إسحاق، ووصفه اللّهُ تعالى بصِدْق الوَعْد؛ لأَنه كان مُبَالِغاً في ذلك؛ وروي أَنَّه وعد رَجُلاً أَنْ يلقاه في مَوْضِعٍ، فبقي في انْتِظاره يَوْمَهُ ولَيلَتَهُ، فلما كان في اليوْمِ الآخر جاء الرجُلُ، فقال له إسماعيلُ‏:‏ ما زِلْتُ هنا في انتظارك منذ أَمْسِ، وقد فعل مِثْلَهُ نبيُّنَا محمدٌ صلى الله عليه وسلم قبل مَبْعَثِه، خرَّجه التّرمِذِيّ وغيرُه‏.‏

قال سُفْيان بن عُيَيْنَةَ‏:‏ أَسْوَأُ الكَذِبِ إخْلاَفُ المِيعَادِ، ورَمْي الأَبْرِيَاءِ بالتُّهِمِ‏.‏

و ‏{‏أَهْلَهُ‏}‏ المرادُ بهم قومه، وأُمَّته؛ قاله الحسنُ‏.‏

وفي مُصْحَف ابنِ مَسْعُود‏:‏ «كَانَ يَأْمُرُ قَوْمَهُ»‏.‏

وإدْريسُ عليه السلام من أَجْدَاد نُوح عليه السلام‏.‏

و ‏{‏وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً‏}‏ قالت فرقةٌ من العلماء‏:‏ رُفِع إلى السماءِ‏.‏

قال ابنُ عَبَّاسٍ‏:‏ كان ذلك بأَمْرِ اللّه تعالى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَبُكِيّاً‏}‏ قالت فرقةٌ‏:‏ جمع بَاكٍ، وقالت فرقةٌ‏:‏ هو مَصْدَرٌ بمعنى البُكَاء؛ التقديرُ‏:‏ وبَكُوا بُكِيّاً‏.‏

واحتجَّ الطَّبِرِيُّ، ومَكّي لهذا القول؛ بأَن عُمَر رضي اللّه عنه قرأ سُورةٍ مريم، فسجد ثُمَّ قال‏:‏ هذا السُّجُودُ، فأَيْنَ البُكَى‏؟‏ يَعْنِي‏:‏ البُكَاء‏.‏

قال * ع *‏:‏ ويحتمل أَن يريد عُمر رضي اللّه عنه فأَين البَاكُون‏؟‏ وهذا الذي ذكروه عن عُمَر، ذكره أَبُو حَاتِمٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 63‏]‏

‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ‏(‏59‏)‏ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ‏(‏60‏)‏ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ‏(‏61‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ‏(‏62‏)‏ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ‏(‏63‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، الخَلْفُ، ‏[‏بسكون‏]‏ اللام مُسْتعمل إذا كان الآتي مَذْمُوماً؛ هذا مشهورُ كَلامِ العَرَبِ، والمرادُ بالخلْف‏:‏ مَنْ كفر وعَصَى بعدُ مِنْ بني إسرائيل، ثم يتناول معنى الآية مَنْ سِوَاهُم إلَى يوم القيامة، وإضاعة الصَّلاَةِ يكون بترْكِهَا وبجحْدِها، وبإضاعة أَوْقَاتِهَا‏.‏

وروى أَبُو دَاوُدَ الطيالسي «في مسنده» بسنده عن عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ قال‏:‏ قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذا أَحْسَنَ الرَّجُلُ الصَّلاَةَ، فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا، وَسُجُودَهَا، قَالَتِ الصَّلاَةُ‏:‏ حَفِظَكَ اللّهُ؛ كَمَا حَفِظْتَنِي، وَتُرْفَعُ، وإذَا أَسَاءَ الصَّلاَةَ؛ فَلَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهَا، وَلاَ سُجُودَهَا، قَالَتِ الصَّلاَةُ‏:‏ ضَيَّعَكَ اللّهُ؛ كَمَا ضَيَّعْتَنِي، وَتُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الخَلقُ، فَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُهُ ‏"‏ انتهى من «التذكرة» والشَّهَوَاتُ‏:‏ عُمُومُ، والغَيُّ‏:‏ الخُسْران؛ قاله ابنُ زيد‏.‏

وقد يكُونُ ‏[‏الغي بمعنى الضَّلاَلِ، والتقديرُ‏:‏ يُلْقون جَزَاءَ الغَيِّ‏.‏

وقال عبدُ اللّه بن عمرو، وابنُ مسعودٍ‏:‏ الغَيُّ‏:‏ وَادٍ في‏]‏ جَهنَّم، وبه وَقَعَ التوعُّدُ في هذه الآية‏.‏

وقال * ص *‏:‏ الغي عندهم كُلُّ شرّ؛ كما أن الرشاد كلُّ خيرٍ‏.‏ ‏[‏انتهى‏]‏‏.‏

و ‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏‏:‏ بدلٌ من الجنَّةِ في قوله ‏{‏يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ‏}‏‏.‏

وقولُه ‏{‏بالغيب‏}‏، أيْ أخبرهم من ذلك بما غَابَ عنهم، وفي هذا مَدْحٌ لهم على سرعة إيمانهم وبدارهم إذْ لم يعاينوا، و‏{‏مَأْتِيّاً‏}‏ مفعولٌ على بابه‏.‏

وقال جماعةٌ من المفسرين‏:‏ هو مفعولٌ في اللفظ؛ بمعنى فاعل؛ ف ‏{‏مَأْتِيّاً‏}‏ بمعنى آتٍ، وهذا بَعِيدٌ‏.‏

* ت *‏:‏ بل هو الظَّاهِرُ، وعليه اعتمد * ص *‏.‏

واللَّغْوُ‏:‏ السَّقْطُ من القول‏.‏

وقوله ‏{‏بُكْرَةً وَعَشِيّاً‏}‏ يريدُ في التقدِير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 65‏]‏

‏{‏وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ‏(‏64‏)‏ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ‏(‏65‏)‏‏}‏

وقولُه عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال ابنُ عباس، وغيرُه‏:‏ سبب هذه الآية‏:‏ أَن النبي صلى الله عليه وسلم أَبْطَأَ عنه جِبْرِيلُ عليه السلام مدَّةَ فَلما جاءه قال‏:‏ ‏"‏ يَا جِبْرِيلُ، قَدِ اشتقت إلَيْكَ، أَفلاَ تزورَنا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورَنَا ‏"‏ فنزلت هذه الآية‏.‏

وقال الضَّحَّاكُ، ومجاهدٌ‏:‏ سببها أَن جِبْريلَ تأخَّر عن النبي صلى الله عليه وسلم عند قَوْلِه في السؤالات المتقدِّمَةِ في سُورةِ الكَهْفِ‏:‏ «غَداً أُخْبِرُكُمْ»‏.‏

وقال الدَّاوُودِيُّ عن مجاهدٍ‏:‏ أَبطأت الرسل عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثم أَتى جِبْرِيلُ عليه السلام قال‏:‏ ما حَبَسَكَ‏؟‏ قال‏:‏ وكَيْفَ نَأْتِيكُم‏.‏ وأَنْتُمْ لاَ تَقُصُّونَ أَظْفَارَكُمْ‏.‏ وَلاَ تَأْخُذُونَ شَوَارِبَكُمْ وَلاَ تَسْتَاكُونَ، وَمَا نَتَنَزَّلُ إلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ‏.‏ انتهى‏.‏

وقد جاءت في فَضْل السواك آثَارٌ كثيرة، فمنها‏:‏ ما رواه البزارُ في «مسنده» عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال‏:‏ ‏"‏ إنَّ العَبْدَ إذَا تَسوَّكَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَامَ المَلَكُ خَلْفه، فَيَسْمَعُ لِقَرَاءَتِهِ، فَيَدْنُو مِنْهُ حتى يَضَعَ فَاهُ على فِيهِ، فما يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ إلاَّ صَارَ فِي جَوْفِ المَلَكِ ‏"‏ انتهى من «الكوكب الدري»‏.‏

وفيه‏:‏ عن ابنِ أَبِي شَيْبَة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال‏:‏ ‏"‏ صَلاَةٌ عَلَى إثْرِ سِوَاكٍ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ صَلاَةٍ بِغَيْرِ سِوَاكٍ ‏"‏ انتهى‏.‏

وفي «البخاري»‏:‏ أَنَّ السِّوَاكَ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاة لِلرَّبِّ‏.‏ اه‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، المقصودُ بهذه الآية الإشعارُ بملك اللّه تعالى لملائكته، وأن قَلِيلَ تصرُّفِهِم، وكَثِيرَه إنما هو بأَمْره وانتقالهم مِنْ مَكانٍ إلى مَكانٍ إنَّما ‏[‏هو‏]‏ بحدٍّ منه‏.‏

وقولُه‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً‏}‏ أَيْ‏:‏ ممن يلحقُه نِسيانٌ لبعثنا إليك، ف ‏{‏نَسِيّاً‏}‏‏.‏ فَعِيلٌ من النّسْيانِ، وهو الذُّهُولُ عن الأُمور‏.‏

وقرأ ابنُ مسْعودٍ‏:‏ «وَمَا نَسِيَكَ رَبُّكَ»‏.‏

وقوله ‏{‏سَمِيّاً‏}‏ قال قوم‏:‏ معناه مُوَافِقاً في الاِسْم‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهذا يحسنُ فيهِ أَن يريد بالاِسْم ما تقدم مِنْ قوله ‏{‏رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ أَيْ‏:‏ هل تعلم من يسمى بهذا، أَو يوصف بهذه الصفة؛ وذلك أَن الأُمم والفِرَق لا يسمون بهذا الاِسْم وَثَناً، ولا شَيْئاً سِوَى اللّه تعالى‏.‏

قال القُشَيْرِيُّ في «التحبير»‏:‏ قولهُ تعالى‏:‏ ‏{‏واصطبر لعبادته‏}‏‏:‏ الاصْطبارُ‏:‏ نهايةُ الصَّبْرِ ومَنْ صَبَر، ظَفَرَ، ومَنْ لاَزَمَ، وَصَلَ؛ وفي مَعْناه أَنْشدُوا‏:‏ ‏[‏البَسيط‏]‏‏.‏

لاَ تَيْئَسَنَّ وَإنْ طَالَتْ مُطَالَبَةٌ *** إذَا استعنت بِصَبْرٍ أَنْ ترى فَرَجَا

أَخْلِقْ بِذِي الصَّبْرِ أَنْ يحظى بِحَاجَتِه *** وَمُدْمِنِ الْقَرْعِ لِلأَبْوَابِ أَنْ يَلجَا

وأَنشدوا‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

إنِّي رَأَيْتُ وَفِي الأَيَّامِ تَجْرِبَةٌ *** لِلصَّبْرِ عَاقِبَةً مَحْمُودَةَ الأَثَرِ

وَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِي شَيْءٍ يُحَاوِلُهُ *** واستصحب الصَّبْرَ إلاَّ فَازَ بالظَّفَرِ

انتهى‏.‏

وقال ابنُ عباسٍ، وغيرُه‏:‏ ‏{‏سَمِيّاً‏}‏ معناه‏:‏ مَثِيلاً، أَو شَبِيهاً، ونحو ذلك؛ وهذا قوْلٌ حَسَنٌ، وكأن السمي بمعنى‏:‏ المسامي، والمضاهي؛ فهو من السُّموِّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 70‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ‏(‏66‏)‏ أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ‏(‏67‏)‏ فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ‏(‏68‏)‏ ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ‏(‏69‏)‏ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا ‏(‏70‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ الإنسان أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً‏}‏، الإنسان‏:‏ اسمُ جِنْس يرادُ به الكافرون، وروي أَنَّ سببَ نزُولِ هذه الآية هو‏:‏ أَن رجالاً من قريشٍ كانُوا يقولون هذا ونحوه، وذكر‏:‏ أَن القائِلَ هو أُبيُّ بْنُ خَلَفٍ‏.‏

ورُوِي أَن القائل هو العَاصِي بْنُ وَائِل، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُ شَيْئاً‏}‏ دَلِيلٌ على أَنَّ المعدومَ لا يسمى شَيْئاً‏.‏

وقال‏:‏ أَبو علي الفارسي‏:‏ أَراد شَيْئاً موجُوداً‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهذه من أبي علي نزعةٌ اعتزالية؛ ‏[‏فتأملها‏]‏، والضمير في ‏{‏لَنَحْشُرَنَّهُمْ‏}‏ عائدٌ على الكفَّارِ القائلين ما تقدم، ثم أَخبر تعالى‏:‏ أَنه يقرن بهمِ الشياطِينَ المغوين لهم، و‏{‏جِثِيّاً‏}‏ جمعُ جَاثٍ، فأخبر سبحانه‏:‏ أَنه يحضر هؤلاءِ المُنْكِرينَ البعْثَ مع الشياطين ‏[‏المغوِينَ‏]‏، فيجثُون حول جهنَّم؛ وهو قعودُ لخائفِ الذَّلِيل على رُكْبتيْهِ كالأَسِير، ونحوهِ‏.‏

قال ابنُ زيدٍ‏:‏ الجَثْيُ‏:‏ شَرُّ الجلُوسَ، و«الشيعة»‏:‏ الفِرْقَةُ المرتبطة بمذهبٍ وَاحدٍ، المتعاونةِ فيه، فأخبر سبحانه أَنه ينزع مِنْ كُلِّ شيعةٍ أَعْتاها وأَولاَها بالعذاب، فتكون مقدمتها إلى النَّار‏.‏

قال أَبو الأَحْوص‏:‏ المعنى‏:‏ نبدأُ بالأَكَابِر جرماً، وأيّ وهنا بُنِيَتْ لمَّا حُذِف الضميرُ العَائِدُ عليها مِنْ صَدْر صِلَتها، وكان التقدِيْرُ‏:‏ أَيَّهم هو أشَدُّ، و‏{‏صِلِيّاً‏}‏‏:‏ مصدَرٌ صَليَ يَصْلَى إذَا باشَرَهُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 74‏]‏

‏{‏وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ‏(‏71‏)‏ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ‏(‏72‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ‏(‏73‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا ‏(‏74‏)‏‏}‏

وقوله عزَّ وجل‏:‏ ‏{‏وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا‏}‏ قَسَمٌ، والواو تَقْتَضِيه، ويفسّره قولهُ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلاَثَةُ أَوْلاَدٍ، لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ إلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ ‏"‏ وقرأ ابن عباس، وجماعَةٌ‏:‏ «وإنْ مِنْهُمْ» بالهَاءِ على إرَادة الكُفَّار‏.‏

قال * ع *‏:‏ ولا شغب في هذه القراءة، وقالت فِرْقَةٌ من الجمهور القارئين «منكم»‏.‏ المعنى‏:‏ قُلْ لهم يا محمَّدُ، فالخِطَاب ب ‏{‏مِنْكُمْ‏}‏ للكفرةِ، وتأويل هؤلاءِ أَيضاً سَهْلُ التناوُلِ‏.‏

وقال الأكثرُ‏:‏ المخاطَبُ العَالَمُ كلّه، ولا بُدّ مِنْ وُرُودِ الجميع، ثم اختلفوا في في كَيْفِيَّةِ ورود المُؤْمِنِينَ، فقال ابنُ عباسٍ، وابنُ مسعودٍ، وخالدُ بن مَعْدَانَ، وابنُ جُرَيْجٍ، وغيرُهم‏:‏ هو ورودُ دخولٍ، لكنَّها لا تعدو عليهم، ثم يُخْرِجَهم اللّهُ عز وجل منها بعدَ مَعْرِفتهم حَقِيقَةَ ما نَجَوْا منه‏.‏

وروى جابرُ بنُ عبدِ اللّهِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنه قال‏:‏ ‏"‏ الوُرُودُ فِي هَذِهِ الآيَةِ هُوَ الدُّخُولُ ‏"‏، وقد أَشْفَقَ كَثِيرٌ من العلماء من تحقُّقِ الورودِ مع الجَهْلِ بالصَّدَرِ جعلنا اللّه تعالى من الناجين بفضله ورحمته-، وقالت فِرْقَة‏:‏ بَلْ هُو ورودُ إشْرَافٍ، واطِّلاعٍ، وقُرْبٍ، كما تقول‏:‏ وردتُ الماءَ؛ إذا جِئْتَه، وليس يلزم أَن تدخل فيه، قالوا‏:‏ وحَسْبُ المُؤْمِن بهذا هَوْلاً؛ ومنه قولُه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ الآية23‏]‏‏.‏

وروت فرقة أثراً‏:‏ أنّ الله تعالى يجعلُ النَّار يوم القيامة جامدةَ الأعلى كأنها إهالةٌ فيأتي الخلقُ كلُّهم؛ برُّهم وفاجرُهم فيقفون عليها ثم تسوخُ بأهلِها ويخرجُ المؤمنون الفائزون لم ينلهم ضرٌّ قالوا فهذا هو الورودُ‏.‏

قال المهدوي‏:‏ وعن قتادةَ قال‏:‏ يرد النَّاسُ جهنَّمَ وهي سَوْدَاءُ مظلِمةٌ، فأَما المؤْمنُونَ فأَضَاءَتْ لهم حَسَناتُهم، فَنَجَوْا منها، وأما الكفارُ فأوبقتهم سَيِّئَاتُهم، واحتبسوا بذنوبهم‏.‏ ‏[‏انتهى‏]‏‏.‏

وروت حَفْصَةُ- رضي اللّه عنها- أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَالحُدَيْبِيَةِ قَالَتْ‏:‏ فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللّه، وأَيْنَ قَوْلُ اللّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَإنْ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُهَا‏}‏ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ فَمَهْ، ‏{‏ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا‏}‏ ‏"‏ ورجح الزجاجُ هذا القَوْلَ؛ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏‏.‏

* ت *‏:‏ وحديثُ حفصةَ هذا أَخرجهُ مُسْلِم، وفيه‏:‏ «أَفلم تَسْمَعِيهِ يقولُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا‏}‏‏.‏

وروى ابنُ المبارك في «رُقائقه» أنه لما نزلت هذه الآية ‏{‏وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا‏}‏ ذهب ابن رواحة إلى بيته فبكى‏:‏ ‏[‏فَجَاءَتِ امرأته، فَبَكَتْ‏]‏، وَجَاءَتْ الخَادِمُ فَبَكَتْ، وجَاءَ أَهْلُ البَيْبِ فَجَعَلُوا يَبْكُونَ، فَلَمَّا انْقَضَتْ عَبْرَتُهُ، قَالَ‏:‏ يَا أَهْلاَهُ، مَا يُبْكِيكُمْ، قَالُوا‏:‏ لاَ نَدْرِي، وَلَكِنْ رَأَيْنَاكَ بَكَيْتَ فَبَكَيْنَا، فَقَالَ‏:‏ آيَةٌ نَزَلَتْ على رَسُولِ اللّه صلى الله عليه وسلم يُنْبِئُنِي فِيهَا رَبِّي أَنِي وَارِدُ النَّارَ، وَلَمْ يُنْبِئْنِي أَنِّي صَادِرٌ عَنْهَا، فَذَلِكَ الَّذِي أبْكَانِي‏.‏

انتهى‏.‏

وَقال ابنُ مَسْعُودٍ‏:‏ ورودُهُمْ‏:‏ هو جَوَازُهُمْ على الصِّراطِ، وذلك أَنَّ الحديث الصَّحيحَ تضمن أَنَّ الصراط مَضْرُوبٌ على مَتْنِ جهنم‏.‏

والحَتْمُ‏:‏ الأَمْر المنفدُ المجْزُوم، و‏{‏الذين اتقوا‏}‏‏:‏ معناه اتَّقَوْا الكُفْر ‏{‏ونَذَرُ‏}‏ دالةٌ على أَنهم كَانُوا فيها‏.‏

قال أَبُو عُمَر بنُ عَبْدِ البَرِّ في «التمهيد» بعد أَن ذكر روَاية جابِر، وابنِ مَسْعُودٍ في الوُرُودِ، وروي عن كَعْبٍ أَنه تَلاَ‏؟‏ ‏{‏وإنْ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُهَا‏}‏ فقال‏:‏ أَتَدْرُونَ مَا وُرُودُهَا‏؟‏ إنه يُجَاءُ بجهنَّم فتُمْسكُ للناس كأَنها متْن إهَالَة‏:‏ يعني‏:‏ الوَدَك الذي يجمد على القِدْر من المرقَةِ، حَتَّى إذا استقرت عليها أَقدَام الخَلائِق‏:‏ بَرّهم وفَجارُهم، نَادَى مُنَادٍ‏:‏ أَنْ خُذِي أَصْحَابِك، وذَرِي أَصْحَابِي، فيُخْسَفُ بكلِّ وليٍّ لها، فَلَهِيَ أَعلَمُ بهم مِنَ الوَالِدَة بولَدِهَا، وينجو المُؤْمِنُونَ نَدِيَّة ثيابهم‏.‏

وروي هذا المعنى عن أَبي نَضْرَةَ، وزاد‏:‏ وهو معنى قولِه تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فاستبقوا الصراط فأنى يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 66‏]‏‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بينات قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَيُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، هذا افتخارٌ من كفار قريش؛ وأَنه إِنما أَنعم اللّه عليهم؛ لأَجْلِ أَنهم على الحقِّ بزعمهم‏.‏ والنَّدِيّ، والنَّادِي‏:‏ المجْلِسُ، ثم رد اللّه تعالى حُجَّتَهم وحقَّر أَمْرهم؛ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أثاثا وَرِءْياً‏}‏ أيْ‏:‏ فلم يُغْن ذلك عنهم شَيْئاً، والأَثَاث‏:‏ المال بالعين، والعَرْض والحيوان‏.‏

وقرأَ نافِعٌ وغيرُه‏:‏ «ورءيا» بهمزةٍ بعدها ياءٌ؛ من رُؤْية العَيْنِ‏.‏

قال البخاري‏:‏ ورءياً‏:‏ منظراً‏.‏

وقرأ نافعٌ أيضاً، وأَهل المدينة‏:‏ «وَرِيّاً» بياء مشددة، فقيل‏:‏ هي بمعنى القِرَاءةِ الأُولى، وقيل‏:‏ هي بمعنى الرِّيِّ في السُّقْيَا؛ إذْ أَكْثر النعمة مِنَ الريِّ والمطر‏.‏

وقرأ ابنُ جُبَيْر، وابنُ عباسٍ، ويزيدُ البريري‏:‏ «وَزِيّاً» بالزاي المعجمة؛ بمعنى‏:‏ المَلْبَسَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 76‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا ‏(‏75‏)‏ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا ‏(‏76‏)‏‏}‏

قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً‏}‏، فيحتمل أَنْ يكون بمعنى الدُّعَاءِ والاِبْتِهَال؛ كأَنه يقولُ‏:‏ الأَضَلّ مِنّا ومنكم مد اللّه له، أَيْ‏:‏ أملى له؛ حَتَّى يؤول ذلك إلَى عذابِه، ويحتمل أَنْ يكون بمعنى الخبر؛ أنه سبحانه هذه عَادَتُه‏:‏ الإمْلاَءُ للضَّالِينْ‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العذاب‏}‏، أَيْ‏:‏ في الدنيا بنصر اللّه لِلْمُؤْمِنينَ عليهم، ‏{‏وَإِمَّا الساعة‏}‏ فيصيرون إلى النارِ، والجندُ النَّاصِرُون‏:‏ القَائِمُون بأَمْر الحرب، و‏{‏شَرٌّ مَّكَاناً‏}‏ بإزاء قَوْلهِم ‏{‏خَيْرٌ مَّقَاماً‏}‏ و‏{‏أَضْعَفُ جُنداً‏}‏ بإزاء قولهم‏:‏ ‏{‏أَحْسَنُ نَدِيّاً‏}‏ ولما ذكر سبحانه ضَلاَلَةَ الكَفَرةِ وافتخارَهُم بنِعَم الدنيا عَقَّبَ ذلك بذكر نِعْمة اللّه على المؤْمِنينَ في أَنه يزيدهم هُدَىً في الارْتِبَاط بالأَعمالِ الصَّالحة، والمعرفة بالدَّلائل الوَاضِحَة، وقد تقدَّم تَفْسِيرُ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وأنها‏:‏ سُبْحَانَ اللّهِ، والحمُدْ لِلَّهِ وَلاَ إله إلاَّ اللّهُ واللّهُ أَكْبَرُ» وقد قال صلى الله عليه وسلم لأَبِي الدَّرْدَاءِ‏:‏ «خُذْهُنَّ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ، وَبَيْنَهُنَّ؛ فَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، وَهُنَّ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ» وعنه صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ‏:‏ «خُذُوا جُنَّتِكُم، قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللّهِ، أَمِنْ عَدُوٍّ حَضَرَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مِنَ النَّارِ، قَالُوا‏:‏ مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ سُبْحَانَ اللّهِ، والحمُدْ لِلَّهِ وَلاَ إله إلاَّ اللّهُ واللّهُ أَكْبَرُ، وَهُنَّ البَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ»‏.‏ وكَان أَبو الدرداء يقولُ إذَا ذكر هذا الحدِيثَ‏:‏ لأُهَلِّلنّ، ولأُكَبِّرنَّ اللّهَ، ولأُسَبِّحَنَّهُ حَتَّى إذَا رَآنِي الجَاهِلُ ظنِّنِي مَجْنُوناً‏.‏

* ت *‏:‏ ولو ذكرنا ما ورد مِنْ صَحِيح الأَحادِيث في هذا الباب، لخرجنا بالإطالة عن مقصُودِ الكتاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 79‏]‏

‏{‏أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا ‏(‏77‏)‏ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ‏(‏78‏)‏ كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ‏(‏79‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بآياتنا‏}‏ هو العَاصِي بْنِ وَائِل السَّهْمِيُّ؛ قاله جمهورُ المفسرين، وكان خبره أَنْ خَبَّابَ بْنَ الأَرَتّ كان قَيْناً في الجاهلية، فعمل له عملاً، واجتمع له عنده دَيْن؛ فجاءه يَتَقاضَاهُ، فقال له العاصِي‏:‏ لا أقضيك حتَّى تكفُرَ بمحمدٍ، فقال خَبَّابٌ‏:‏ لا أكفرُ بمحمّدٍ حتى يُميتَكَ اللّهُ، ثم يبعثك؛ فقال العاصي‏:‏ أَوَ مبعُوثٌ أنا بعد الموت‏؟‏‏!‏ فقال‏:‏ نعم، فقال‏:‏ فإنه إذَا كان ذلك، فسيكُونُ لِي مَالٌ، ووَلَدٌ، وعند ذلك أَقضيكَ دَيْنَكَ؛ فنزلت الآيةُ في ذلك‏.‏

وقال الحسنُ‏:‏ نزلتْ في الْوَلِيدِ بنِ المُغِيرة‏.‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ وقد كانت لِلْوَلِيدِ أَيْضاً، أَقْوَالٌ تشبه هذا الغرض‏.‏

* ت *‏:‏ إلاَّ أَنَّ المسند الصحيح في «البخاري» هو الأَول‏.‏

وقولُه‏:‏ ‏{‏أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً‏}‏ معناه بالأَيْمان، والأَعْمال الصالحات‏.‏

‏{‏وكَلاَّ‏}‏ زَجْرٌ، وردٌّ، وهذا المعنى لاَزِمٌ ل «كَلاَّ»، ثم أَخبر سبحانه‏:‏ أَن قولَ هذا الكافر سَيُكْتب على معنى حِفْظه عليه، ومعاقبته وبه ومدّ العذاب؛ هو إطالتُه وتَعْظِيمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 83‏]‏

‏{‏وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ‏(‏80‏)‏ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ‏(‏81‏)‏ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ‏(‏82‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ‏(‏83‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ‏}‏ أَيْ‏:‏ هذه الأَشياء التي سمّى أنه يُؤْتَاها في الآخرة، يرث اللّهُ ماله منها في الدنيا؛ بإهلاكه، وتَرْكِه لها، فالوراثة مستعارةٌ‏.‏

وقال النحاسُ‏:‏ ‏{‏نَرِثُهُ مَا يَقُولُ‏}‏ معناه‏:‏ نحفظه عليه؛ لنعاقبه به؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «العُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ» أي‏:‏ حفظة ما قالوا‏.‏

قال * ع *‏:‏ فكأَنَّ هذا المجرمُ يورث هذه المقالة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً‏}‏ معناه‏:‏ يجدونهم خِلاَف ما كانوا أمّلُوه في مَعْبُودَاتِهم؛ فَيَؤولُ ذلك بهم إلى ذِلَّة، وضِدِّ ما أملوه من العِزّ، وغيره، وهذه صفة عامة‏.‏

و ‏{‏تَؤُزُّهُمْ‏}‏ معناهُ‏:‏ تُقْلِقُهم وتحرِّكُهم إلى الكفر والضلالِ‏.‏

قال قتادةُ‏:‏ تزعِجُهم إزْعاجاً، وقال ابنُ زيد‏:‏ تُشْلِيهم إشْلاَءً، ومنه‏:‏ أَزِيزُ القِدر، وهو غَلَيَانُه وحَرَكَتُه؛ ومنه الحديثُ‏:‏ «أَتَيْتُ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، وهُو يَبْكِي، ولِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كأَزِيزِ المِرْجَلِ»‏.‏ * ت *‏:‏ هذا الحديثُ خرَّجه مسلمٌ، وأَبُو دَاوُدَ عن مُطَرِّف عن أَبِيه‏.‏

وقال العِرَاقِيّ‏:‏ ‏{‏تَؤُزُّهُمْ‏}‏ أيْ‏:‏ تدفعهم‏:‏ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 87‏]‏

‏{‏فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ‏(‏84‏)‏ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ‏(‏85‏)‏ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ‏(‏86‏)‏ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ‏(‏87‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ‏}‏ أَيْ‏:‏ لاَ تَسْتَبطِئ عَذَابهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً‏}‏‏.‏

قال * ع *‏:‏ وظاهر هذه الوفادة أَنها بعد انقضاء الحساب، وإنما هي النهوضُ إلَى الجنَّة، وكذلك سوقُ المجرمين إنما هو لدخُولِ النَّارِ‏.‏

و ‏{‏وَفْداً‏}‏ قال المفسرون‏:‏ معناه رُكْباناً، وهي عادةُ الوفود؛ لأَنهم سَرَاةُ الناسِ، وأَحسنهم شَكْلاً، وإنما شَبَّههم بالوفْدِ هيئة، وكرامة‏.‏

وروي عن عَلِيِّ- رضي اللّه عنه- أَنهم يَجِيئُونَ رُكْباناً على النُّوقِ المحلاَّة بحِلْيةِ الجنَّة‏:‏ خطمُها من يَاقُوتٍ، وزَبَرْجَدٍ، ونحو هذا‏.‏

وروى عمرو بْنُ قيس المَلاَّئِي‏:‏ أنهم يركبون على تماثيل مِنْ أَعمالهم الصَّالِحة، وهي في غَاية الحُسْن‏.‏

وروي‏:‏ أَنه يركب كُلُّ واحدٍ منهم ما أَحبَّ؛ فمنهم‏:‏ مَنْ يركبُ الإبلَ، ومنهم‏:‏ مَنْ يركب الخَيْلَ، ومنهم مَنْ يركب السُّفُنَ، فتجيء عَائِمةٌ بهم، وقد ورد في «الضَّحَايَا»‏:‏ أَنها مَطَايَاكُمْ إلَى الجَنَّةِ؛ وأَكْثَر هذه فيها ضَعْفٌ مِنْ جهة الإِسْناد، والسَّوْقُ‏:‏ يتضمن هَوَاناً، والورودُ‏:‏ العطاش؛ قاله ابن عباس وأَبُو هريرة، والحَسَنُ‏.‏

واختُلِفَ في الضَّمِير في قوله‏:‏ ‏{‏لاَّ يَمْلِكُونَ‏}‏ فقالت فِرْقةٌ‏:‏ هو عائد على ‏{‏المجرمين‏}‏ أي‏:‏ لا يملكون أَنْ يَشْفَعَ لهم؛ وعلى هذا فالاِسْتِثْنَاءُ مُنقَطِع، أيْ‏:‏ لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً يشفعُ له‏.‏

والعهدُ عَلَى هذا الأَيْمان، وقال ابنُ عباسٍ‏:‏ العهدُ‏:‏ لاَ إلَهَ إلاَّ اللّهُ، وفي الحدِيث‏:‏ يقول اللّهُ تعالى يَوْمَ القِيَامة‏:‏ ‏"‏ مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدِي عَهْدٌ، فَلْيَقُمْ ‏"‏‏.‏ قال * ع *‏:‏ ويحتمل‏:‏ أَنْ يكون المجرمون يعمُّ الكَفَرَةَ والعُصَاة، أيْ‏:‏ إلاَّ من اتخذ عند الرحمن عَهْداً من عُصَاةِ المؤْمِنِينَ؛ فإنه يشفع لهم، ويكون الاِسْتِثْناء مُتَّصِلاً‏.‏

وقالت فِرْقَةٌ‏:‏ الضميرُ في ‏{‏لاَّ يَمْلِكُونَ‏}‏ للمتقين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنِ اتخذ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية أيْ‏:‏ إلاَّ من كان له عملٌ صَالِحٌ مبرورٌ؛ ‏[‏فيشفَعُ‏]‏ فيُشَفَّع، وتحتملُ الآية أَنْ يُرادَ ب «مَنْ» النبي صلى الله عليه وسلم وبالشَّفَاعَة الخاصَّة له العامة في أَهل الموقِفِ، ويكون الضميرُ في ‏{‏لاَّ يَمْلِكُونَ‏}‏ لجميع أَهْل الموقف؛ أَلا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الأَنبياء يتدافعون الشفاعةَ إذْ ذَاكَ، حَتَّى تصيرَ إليه صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ‏(‏88‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً‏}‏‏.‏

قال البَاجِيُّ في «سنن الصالحين» له رُوِيَ عن ابن مَسْعُودٍ، أَنه قال‏:‏ إنَّ الجبل ليقولُ للجبل‏:‏ يا فلانُ، هل مَرَّ بِكَ اليومَ ذَاكِرٌ لله تعالى‏؟‏ فإنْ قال‏:‏ نعم، سُرَّ بِهِ، ثُمَّ قرأ عبدُ اللّهِ‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً‏}‏ إلى قولهِ‏:‏ ‏{‏وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً‏}‏ قال‏:‏ أَتروْنَها تسمع الزُّورَ، ولا تسْمَعُ الخيْرَ‏.‏ انتهى‏.‏

وهكذا رواه ابنُ المُبَارك في «رقائقه» وما ذكره ابنُ مسعودٍ لا يقالُ من جهة الرأْيِ، وقد رُوِيَ عن أَنسٍ، وغيرهِ نحوه‏.‏

قال الباجي بِإثْرِ الكَلاَمِ المتقدم‏:‏ وروى جعفرُ بْنُ زَيْدٍ، عن أَنَسِ بن مَالِكٍ‏:‏ أَنه قالَ‏:‏ مَا مِنْ صَبَاحٍ وَلاَ رَوَاحٍ إلاَّ وتُنَادِي بِقَاعُ الأَرض بعضها بعضاً‏:‏ أَيْ جَارَةُ، هَلْ مَرَّ بِكِ اليَوْمَ عَبْدٌ يُصَلِّي أَو يَذْكُر اللّه‏؟‏ فَمِن قائلةٍ‏:‏ لاَ، ومِنْ قَائِلَةٍ‏:‏ نَعَمْ، فإذا قَالَتْ‏:‏ نَعَمْ، رأت لها فَضْلاً بذلك‏.‏ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 96‏]‏

‏{‏لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ‏(‏89‏)‏ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ‏(‏90‏)‏ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ‏(‏91‏)‏ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ‏(‏92‏)‏ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ‏(‏93‏)‏ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ‏(‏94‏)‏ وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ‏(‏95‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ‏(‏96‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً‏}‏ الآية، الإدُّ‏:‏ الأَمرُ الشنِيعُ الصَّعْبُ‏.‏

* ت *‏:‏ وقال العِرَاقِي‏:‏ «إدّاً»، أَيْ‏:‏ عَظِيماً، انتهى‏.‏

والانْفِطَارُ‏:‏ الاِنْشِقَاقُ، والهَدُّ‏:‏ الاِنْهِدَامُ، قال محمدُ بنُ كَعْبٍ‏:‏ كاد أَعداءُ اللّه أَنْ يُقِيمُوا علينا السَّاعَةَ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِن كُلُّ مَن فِي السماوات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، إنْ نافيةٌ بمعنى مَا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَرْدَاً‏}‏ يتضمنُ عَدَمَ النصير، والحَوْلِ والقُوّةِ، أيْ‏:‏ لا مُجِير له مما يُريد اللّهُ به‏.‏

وعبارة الثَّعْلَبِيّ‏:‏ «فرداً» أيْ‏:‏ وحيداً بعمله، ليس معه من الدنيا شيءٌ‏.‏ اه‏.‏

* ت *‏:‏ وهذه الآيةُ تُنظر إلى قوله تعالى ‏{‏وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً‏}‏ ذهب أكثرُ المفسرين إلى‏:‏ أن هذا الوُدّ هو القبول الذي يضعه اللّهُ لمن يحب مِنْ عباده؛ حَسْبَما في الحديث الصَّحيح المأثور، وقال عُثْمان بن عَفّان- رضي اللّه عنه-‏:‏ أَنها بمنزلة قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من أسَرَّ سَرِيرةً ألْبَسُهُ اللّهُ رِدَاءَها ‏"‏‏.‏ * ت *‏:‏ والحديثُ المتقدِّمُ المُشَارُ إليه أَصلُهُ في «الموطإ» ولفظه‏:‏ مالك، عن سُهَيْل بن أبي صالح السَّمان، عن أَبيه، عن أَبِي هريرَةَ؛ أَنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إذَا أَحَبَّ اللّهُ العَبْدَ قَالَ لِجِبْريلُ، يا جبريل قَدْ أَحْبَبْتُ فُلاَناً فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي في أَهْلِ السَّمَاءِ‏:‏ إنَّ اللّهَ أَحَبَّ فُلاَناً، فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يَضَعُ لَهُ القَبُولَ فِي الأَرْضِ ‏"‏‏.‏ وَإذَا أَبْغَضَ الْعَبْدَ، قَالَ مالكٌ‏:‏ لا أَحْسبُه إلاَّ قال في البُغْضِ مثلَ ذلك‏.‏

قال أَبُو عُمرَ بن عبد البرِّ في «التمهيد»، وممن رَوَى هذا الحدِيثَ عن سُهَيْل، بإسناده هذا فذكر البُغْضَ من غير شَكٍّ معمرُ وعبدُ العزيز بن المختار، وحماد بنُ سَلَمة، قالوا في آخره‏:‏ وإذَا أَبْغَض بمثل ذلك، ولم يشكوا‏.‏

قال أَبو عُمَر‏:‏ وقد قال المفسِّرُون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً‏}‏‏:‏ يُحِبُّهم ويُحبِّبُهم إلى الناس، وقاله مُجَاهِدٌ، وابنُ عباس، ثم أَسند أَبو عُمَرَ عن كْعبٍ أَنه قال‏:‏ واللّهِ مَا اسْتَقَر لعبدٍ ثَنَاءٌ في أَهْل الدُّنْيَا حتى يَسْتَقِرَّ له في أَهْل السماء‏.‏

قال كعبٌ‏:‏ وقرأتُ في التوراة أنه لم تكن مَحَبَّةٌ لأَحَدٍ من أَهْل الأَرْضِ إلاَّ كان بَدّأَها مِنَ اللّه عز وجل ينزلها على أَهْل السماء، ثم ينزلها على أهْل الأرض، ثم قرأت القرآن، فوجدتُ فيهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً‏}‏ وأَسْنَد أَبو عمر، عن قتادة قال‏:‏ قال هَرِمَ بْنُ حَيَّان‏:‏ ما أَقْبَلَ عبدٌ بقلبه إلى اللّهِ تعالى إلاَّ أَقبل اللّهُ بقلوب أَهْل الإيمان عليه حَتَّى يرزُقَه مودَّتَهُمْ ورحْمَتَهُمْ‏.‏ انتهى‏.‏

قال ابنُ المُبَارَك في «رقائقه»‏:‏ أَخبرنا سُلَيْمَان بُنِ المُغِيرة، عن ثابت قال‏:‏ ‏"‏ قِيلَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللّهِ، مَنْ أَهْل الجَنَّة‏؟‏ قال‏:‏ مَنْ لاَ يَمُوتُ حَتَّى يَمْلأَ اللّهُ سَمْعَهُ مِمَّا يُحِبُّ قال‏:‏ فقيل‏:‏ يا رسول اللّهِ، مَنْ أَهْلُ النَّارِ‏؟‏ قال‏:‏ مَنْ لاَ يَمُوتُ حتى يَمْلأَ اللّهُ سَمْعَهُ مِمَّا يَكْرَهُ ‏"‏ انتهى‏.‏

قال * ع *‏:‏ وفي حَدِيثِ أبي هريرة قال‏:‏ قَالَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَا مِنْ عَبْدٍ إلاَّ وَلَهُ في السَّمَاء صِيتٌ، فَإنْ كَانَ حَسَناً، وُضِعَ فِي الأَرْضِ حَسَناً، وإنْ كَانَ سَيِّئاً وُضِعَ في الأَرْضِ سَيِّئاً ‏"‏‏.‏ * ت *‏:‏ وهذا الحديثُ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ في كتاب «الزهد»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 98‏]‏

‏{‏فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ‏(‏97‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ‏(‏98‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا يسرناه بِلِسَانِكَ‏}‏ أَيْ‏:‏ القرآن ‏{‏لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين‏}‏ أيْ‏:‏ بالجنة، والنَّعِيم الدائم، والعِزّ في الدنيا‏.‏

و ‏{‏قَوْماً لُّدّاً‏}‏ هم‏:‏ قريشٌ، ومعناه‏:‏ مُجَادِلِينَ مُخَاصِمِينَ، والأَلَدُّ‏:‏ المُخَاصِمُ المبالِغُ في ذلك، ثم مثَّل لهم بإهلاَكِ مَنْ قبلهم إذْ كانوا أَشَدَّ مِنْهُم، وأَلَدَّ وأَعْظَم قدْراً، و«الركز»‏:‏ الصَّوْتُ الخَفِيّ‏.‏

سورة طه

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏طه ‏(‏1‏)‏ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى ‏(‏2‏)‏ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ‏(‏3‏)‏ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا ‏(‏4‏)‏ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ‏(‏5‏)‏ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ‏(‏6‏)‏ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ‏(‏7‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ‏(‏8‏)‏‏}‏

قولُه سبحانه وتعالَى‏:‏ ‏{‏طه * مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى‏}‏ قيل‏:‏ طه‏:‏ آسْمٌ من أَسْمَاءِ نَبِيِّنَا محمّدٍ صلى الله عليه وسلم وقِيلَ‏:‏ معناه‏:‏ يا رَجُلُ؛ بالسُّرْيَانِيّة، وقِيلَ‏:‏ بغيرها مِنْ لُغَاتِ العَجَمِ‏.‏

قال البخاريُّ‏:‏ قال ابن جُبَيْرٍ‏:‏ ‏{‏طه‏}‏‏:‏ يا رجلُ، بالنَّبطِيَّة‏.‏ انتهى‏.‏

وقيل‏:‏ إنها لغةٌ يَمَانِيةٌ في «عَكَّ»؛ وأَنشد الطبريُّ في ذلك‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

دَعَوْتُ ب «طَه» فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُجِب *** فَخِفْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُوَائِلاَ

وقال آخرُ‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

إنَّ السَّفَاهَةِ طه مِنْ خَلاَئِقِكُم *** لاَ بَارَكَ اللّهُ فِي الْقَوْمِ المَلاَعِينِ

وقالت فِرْقَةٌ من العُلَمَاءِ‏:‏ سَبَبُ نزولِ هذه الآية أَن قريشاً لما نظرت إلى عيش النبي صلى الله عليه وسلم وشَظَفِه وكَثْرة عِبَادَته؛ قالت‏:‏ إن محمداً مع ربِّه في شقاءٍ فنزلت الآيةُ؛ رادَّةً عليهم‏.‏

وأسند عِيَاضٌ في «الشفا» من طريق أَبِي ذَرٍّ الهروي، عن الرَّبِيعِ بن أَنَسٍ قال‏:‏ كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا صَلَّى، قَامَ عَلَى رِجْلٍ وَرَفَعَ الأخرى، فأنْزَل اللّه؛ ‏{‏طه‏}‏ يعني‏:‏ طَإ الأَرْضَ يَا محمدُ، ‏{‏مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لتشقى‏}‏ ولاَ خَفاءَ بمَا في هذا كله من الإكْرام له صلى الله عليه وسلم وحُسْن المعاملة‏.‏ انتهى‏.‏

قال * ص *‏:‏ ‏{‏لتشقى * إِلاَّ تَذْكِرَةً‏}‏ عِلَّتانِ لِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏مَا أَنزَلْنَا‏}‏‏.‏ انتهى‏.‏

وقد تقدم القولُ في مَسْأَلَةِ الاسْتِوَاء، وباقي الآية بيّن‏.‏

قال ابنُ هِشَام‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تَجْهَرْ بالقول‏}‏ أيْ‏:‏ فاعلم أَنه غَنِيٌّ عن جهرك؛ ‏{‏فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى‏}‏، فالجوابُ مَحذُوفٌ‏.‏ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 14‏]‏

‏{‏وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ‏(‏9‏)‏ إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ‏(‏10‏)‏ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى ‏(‏11‏)‏ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ‏(‏12‏)‏ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ‏(‏13‏)‏ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ‏(‏14‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى * إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدىً‏}‏ هذا الاِسْتفهام توقيفٌ مضمنه‏:‏ تَنْبِيه النفس إلى استماع ما يورد عليها، وهذا كما تبدَأُ الرجل إذا أَردْتَ إخْبَارَه بأَمْرٍ غَرِيبٍ؛ فتقول‏:‏ أعلمْتَ كذا، وكذا، ثم تبدأ تخبره‏.‏

وكان من قصّة موسى- عليه السلام- أنه رحل من مَدْيَن بأهله بِنْت شُعَيْب- عليه السلام- وهو يريدُ أَرض مِصْر، وقد طالت مُدَّة جِنَايته هُنَالِكَ، فَرَجَا خَفَاءَ أمْره، وكان فيما يزعمون رَجُلاً غَيُوراً، فكان يَسِيرُ الليلَ بأهْلِهِ، وَلاَ يَسِيرُ بالنهار مخافةَ كشفة الناسِ، فَضَلَّ عن طريقه في لَيْلَةٍ مُظْلمة، فبينما هو هو كذلك، وقد قَدَحَ بزنده، فلم يُورِ شَيْئاً ‏{‏إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا‏}‏، أيْ‏:‏ أقِيموا، وذهب هو إلى النار، فإذا هي مُضْطَرِمةٌ في شَجَرةٍ خَضْرَاءَ يانِعةٍ، قيل‏:‏ كانت من عُنَّابٍ، وقِيلَ‏:‏ من عَوْسَج، وقِيلَ‏:‏ من عُلَّيْقٍ، فكلَّما دَنَا مِنْها، تباعَدَتْ منه، ومَشَتْ فإذا رجع عنها اتَّبعَتْهُ، فلما رأَى ذَلِكَ أَيقنَ أَنَّ هذا مِنْ أُمُورِ اللّه الخَارِقَةِ للعادة، ونُودِي، وانقضى أَمْرُه كُلّه في تلك الليلة؛ هذا قول الجُمْهُورِ، وهو الحقُّ، وما حُكِيَ عن ابنِ عباسٍ‏:‏ أنَّه قال‏:‏ أَقامَ في ذلك الأَمْرِ حَوْلاً، فغيرُ صَحِيحٍ عن ابن عباس‏.‏

وآنَسْتُ‏:‏ معناه‏:‏ أَحْسَسْتُ، والقَبَسُ‏:‏ الجذْوةُ من النار، تكون على رَأْس العُودِ‏.‏

والهُدَى‏:‏ أراد هُدَى الطريقِ، أَيْ‏:‏ لعلي أَجِدُ مرشداً لي، أوْ دليلاً‏.‏

وفي قِصَّة موسى بأسْرها في هذه السورة تسْلِيةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم عما لَقِيَ في تَبْلِيغه من المَشَقَّاتِ صلى الله عليه وسلم والضميرُ في قوله‏:‏ ‏{‏أتَاهَا‏}‏‏:‏ عائِدٌ على النار‏.‏

وقوله‏:‏ «نُودي»‏:‏ كنايةٌ عن تَكْلِيم اللّه تعالى له ‏(‏عليه السلام‏)‏‏.‏

وقرأَ نَافِعٌ وغيرُه‏:‏ إنِّي بكسر الهمزة على الابْتداءِ، وقرأَ أَبُو عَمْرو، وابن كَثِير‏:‏ «أَنِّي» بفتحها على معنى‏:‏ لأَجل أَنِّي أَنا رَبُّك، فَاخْلَعْ نعليك‏.‏

واخْتُلِفَ في السبب الذي مِنْ أَجْله أُمِرَ بخلْعِ النعلين‏:‏ فقالتْ فِرْقَةٌ‏:‏ كَانَتَا من جِلْد حَمِارٍ مَيِّتٍ، فأُمِرَ بِطَرْحِ النَّجَاسَةِ‏.‏

وقالت فرقةٌ‏:‏ بل كَانَتْ نَعْلاَهُ مِنْ جِلْدِ بقَرَةٍ ذَكِيّ؛ لكن أُمِر بخلعهما لينَالَ بركَةَ الوَادِي المُقدَّسِ، وتمَسَّ قَدَماهُ تُرْبَةَ الوَادِي‏.‏

قال * ع *‏:‏ وتحتمل الآيةُ مَعْنًى آخَرَ، هو الأَليقُ بها عِنْدِي؛ وهو‏:‏ أَن اللّه تعالى أمرِه أنْ يتأدَّبَ، ويتَوَاضَعَ؛ لعظم الحَالِ الَّتي حَصَلَ فيها، والعُرْف عِنْد المُلُوكِ‏:‏ أَنْ تُخلَعَ النَّعْلاَنِ، ويبلغُ الإنْسان إلَى غاية تَوَاضُعِهِ، فكأَنَّ موسى- عليه السلام- أُمِر بذلك عَلَى هذا الوجه، وَلاَ نُبَالِي كيفَ كَانَتْ نَعْلاَهُ من ميتة أوْ غيرها‏.‏

و ‏{‏المقدس‏}‏‏:‏ معناه المطهَّرُ، و‏{‏طُوىً‏}‏‏:‏ معناه مَرَّتَيْنِ‏.‏

فقالت فرقةٌ‏:‏ معناه قُدِّسَ مرتيْنِ، وقالت فِرْقةٌ‏:‏ معناه طُوِيَتْ لك الأَرْضُ مَرَّتَيْنِ من ظنك‏.‏

قال الفَخْرُ‏:‏ وقِيلَ‏:‏ إنَّ طُوًى اسم وادٍ بالشام، وهو عند الطُّورِ الذي أَقْسم اللّه به في القرآن‏.‏

وقيل‏:‏ إنَّ ‏{‏طُوىً‏}‏ بمعنى‏:‏ يَا رَجُلُ، بالعَبْرَانِيَّةِ، كأنه قِيلَ‏:‏ يا رجل اذهب إلَى فِرْعون‏.‏ انتهى‏.‏

«من تفسيره لسورة والنازعات»‏.‏

قال * ع *‏:‏ وحدثني أَبِي- رحمه اللّه- قال‏:‏ سمعت أَبا الفضل بْنَ الجوهري- رحمه اللّه تعالى- يقول‏:‏ لما قِيل لموسى‏:‏ استمع لما يوحى، وقف على حَجَرٍ، واستند إلَى حَجَرٍ، ووضع يَمِينه عَلَى شِمَالِه وأَلْقى ذَقَنَهُ على صَدْرِه، ووقف يستمع، وكان كُلُّ لباسه صُوفاً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقِمِ الصلاة لِذِكْرِي‏}‏‏:‏ يحتمل أن يريدَ‏:‏ لِتَذْكُرَنِي فيها، أوْ يريد‏:‏ لأَذْكركَ في عِلِّيَينَ بها، فالمصدرُ محتمل الإضافة إلى الفَاعِل، أَوِ المفعول‏.‏

وقالت فِرْقةٌ‏:‏ معنى قولهِ ‏{‏لِذِكْرِي‏}‏ أيْ‏:‏ عند ذِكْرى، أَيْ‏:‏ إذا ذكرتني، وأمري لك بها‏.‏

* ت *‏:‏ وفي الحديث عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ مَنْ نَسِيَ صَلاَةً، فَلُيصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا؛ فَإنَّ ذَلِكَ وَقْتَهَا؛ قَالَ اللّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أقِمِ الصلاة لِذِكْرَي‏}‏ ‏"‏ انتهى‏.‏

فقد بيَّن له صلى الله عليه وسلم ما تحتمله الآيةُ، واللّهُ الموفِّقُ بفضله؛ وهكذا استدل ابنُ العربي هنا بالحديثِ، ولفظه‏:‏ وقد رَوَى مَالَكٌ وغيرُه‏:‏ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أوْ نسِيَهَا، فَلْيُصَلِّها إذَا ذَكَرَهَا؛ فَإنَّ اللّهَ تعالى يَقُولُ‏:‏ أَقِمِ الصلاة لِذِكْرَي ‏"‏ انتهى‏.‏

من «الأحكام»‏.‏ وقرأت فرقةٌ‏:‏ «للذكرى»، وقرأتْ فرقةٌ‏:‏ «لِلذِّكْرِ»، وقرأتْ فرقةٌ‏:‏ «لِذِكْرَى» بغيرِ تعرِيف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 36‏]‏

‏{‏إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ‏(‏15‏)‏ فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ‏(‏16‏)‏ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ‏(‏17‏)‏ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى ‏(‏18‏)‏ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى ‏(‏19‏)‏ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ‏(‏20‏)‏ قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ‏(‏21‏)‏ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى ‏(‏22‏)‏ لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى ‏(‏23‏)‏ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏24‏)‏ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ‏(‏25‏)‏ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ‏(‏26‏)‏ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ‏(‏27‏)‏ يَفْقَهُوا قَوْلِي ‏(‏28‏)‏ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ‏(‏29‏)‏ هَارُونَ أَخِي ‏(‏30‏)‏ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ‏(‏31‏)‏ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ‏(‏32‏)‏ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ‏(‏33‏)‏ وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ‏(‏34‏)‏ إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ‏(‏35‏)‏ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ‏(‏36‏)‏‏}‏

وقولُه تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الساعة‏}‏‏:‏ يريدُ‏:‏ القيامةَ آتيةٌ، فيه تحذيرٌ وَوَعِيدٌ‏.‏

وقرأ ابنُ كَثِير، وعاصِمٌ‏:‏ «أَكَاد أَخفيها»- بفتح الهمزة- بمعنى‏:‏ أظْهرها، أيْ‏:‏ إنها من تيقُّن وقُوعِهَا تَكاد تَظْهَرُ، لكن تَنْحَجِبُ إلى الأَجل المعلومِ، والعربُ تقولُ‏:‏ خَفَيْتُ الشَّيْءَ بمعنى‏:‏ أَظْهَرْتُهُ‏.‏

وقرأ الجمْهورُ‏:‏ «أُخْفِيهَا»- بضم الهمزة- فقيل‏:‏ معناه‏:‏ أظهرها، وزعموا‏:‏ أَنَّ «أَخْفَيْتُ» من الأَضْدَادِ‏.‏

وقالت فرقةٌ‏:‏ ‏{‏أَكَادُ‏}‏ بمعنى أُرِيدُ، أيْ‏:‏ أرِيدُ إخْفَاءَها عنكم؛ لتجزى كل نفس بما تسعى، واسْتَشْهَدُوا بقول الشاعر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

كَادَتْ وَكِدْتَ وَتِلْكَ خَيْرُ إرَادَةٍ ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

وقالت فرقةٌ‏:‏ أَكاد‏:‏ على بَابها بمعنى‏:‏ بأَنها مقاربة ما لم يَقَعْ لكن الكلام جَارٍ على استعارة العَرَبِ، ومَجَازِهَا، فلما كانت الآيةُ عبارةٌ عن شِدَّةِ خَفَاءِ أَمْرِ القيامة ووقْتِها، وكان القَطْعُ بإتْيَانِها مع جَهْلِ الوَقْتِ أَهْيَبُ على النفوسِ؛ بالغ سُبْحَانَه في إبْهَامِ وقْتِها، فقال‏:‏ ‏{‏أَكَادُ أُخْفِيهَا‏}‏؛ حتَّى لاَ تظهرُ ألْبتةَ، ولكن ذلك لا يقعُ، ولا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهَا، وهذا التَّأْوِيلُ هو الأقوى عندي‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا‏}‏‏:‏ أيْ‏:‏ عن الإيمانِ بالسَّاعَةِ، ويحتمل عودُ الضمير على الصَّلاَةِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فتردى‏}‏‏:‏ معناه فتَهْلك، والردى‏:‏ الهلاكُ، وهذا الخطابُ كلَّه لموسى عليه السلام، وكذلك ما بعده‏.‏

وقال النقاشُ‏:‏ الخطابُ ب ‏{‏لاَ يَصُدَّنَّكَ‏}‏‏:‏ لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهذا بَعِيدٌ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى‏}‏ تقريرٌ مضمنه التَّنْبِيهُ، وجمعُ النفْسِ؛ لتلقى ما يورد عليها، وإلاَّ فقد علم سُبْحَانه مَا هِيَ في الأزَل‏.‏

قال ابنُ العَرَبِيُّ في «أحكامه»‏:‏ وأجابَ مُوسَى عليه السلام بقوله‏:‏ ‏{‏هِيَ عَصَايَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية بأَكْثَرَ مما وقَعَ السؤالُ عنه؛ وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ هو الطَّهُورُ مَاؤهُ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ ‏"‏ لمن سَأَلهُ عن طَهُوريَّةِ ماء البَحْر‏.‏ انتهى‏.‏

* ت *‏:‏ والمُسْتَحْسَنُ من الجواب‏:‏ أَنْ يكون مُطَابِقاً للسؤال، أو أَعَمَّ منه؛ كما في الآية، والحديث، أَمَّا كونُه أَخَصَّ منه، فَلاَ‏.‏ انتهى‏.‏

‏{‏وأَهُشَّ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ أخْبِطُ بِها الشَّجَر؛ حتى ينتشر الوَرَقُ لِلْغَنم، وعَصَا مُوسَى عليه السلام هي الَّتي كان أَخَذَها من بَيْتِ عِصِيِّ الأَنْبِيَاءِ عليهم السلام الَّذِي كان عند شُعَيْب عليه السلام حين اتَّفَقَا عَلَى الرَّعْيِ، وكانت عَصَا آدم عليه السلام، هبط بها من الجَنَّةِ، وكانت من العير الَّذِي في وَرَقه الرَّيْحَانِ، وهو الجِسْم المُسْتَطيل في وسطها، ولما أَراد اللّهُ سبحانه تَدْرِيب موسى في تلقي النبوءة، وتَكَالِيفها، أمره بإلْقَاءِ العَصَا، فألْقَاهَا، فإذا هي حَيَّةً تَسْعَى، أيْ تَنْتَقِلُ، وتَمْشِي، وكانت عَصاً ذَاتَ شُعْبَتَيْنِ، فصارت الشُّعْبَتَانِ فماً يلتقِمُ الحِجَارَةَ، فلما رآها مُوسَى رأى عِبْرةً؛ فولَّى مُدْبِراً ولم يُعَقِّبْ؛ فقال اللّهُ تعالى له‏:‏ ‏{‏خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ‏}‏ فأَخذَها بيده، فصارت عَصاً كما كانت أَوَّل مرةٍ؛ وهي سِيرَتُها الأُولَى، ‏{‏واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ‏}‏، أَيْ‏:‏ جَنْبِك‏.‏

قال * ع *‏:‏ وكُلُّ مَرْعُوبٍ من ظُلْمَةٍ ونحوها فإنه إذا ضَمَّ يده إلَى جناحه، فَتَر رُعْبُهُ، وربط جَأْشه، فجمع اللّه سبحانه لموسى عليه السلام تَفتِير الرُّعْبِ مع الآيةِ في اليَدِ‏.‏

ورُوِي أَنَّ يدَ مُوسَى خرجت بَيْضَاءَ تَشفّ وتُضِيء؛ كأَنَّها شَمْسٌ من غيرِ سُوءٍ، أَيْ‏:‏ من غير بَرَصٍ، ولا مثله، بل هو أمْر ينحسر، ويَعُود بحكم الحَاجَةِ إليه، ولما أَمَرُه اللَّه تعالى بالذَّهَابِ إلَى فِرْعَون، علم أنها الرسالة، وفهم قدر التَّكْلِيف؛ فدعا اللَّهَ في المَعُونة؛ إذْ لاَ حَوْلَ له إلاَّ به‏.‏

و ‏{‏اشرح لِي صَدْرِي‏}‏ معناه‏:‏ لفهم ما يرد عَلَيّ مِنَ الأُمور، والعُقْدة التي دَعَا في حَلِّها هي التي اعترته بالجَمْرةِ في فِيهِ، حين جَرَّبه فرعون، وروي في ذلك‏:‏ أَنَّ فِرْعون أراد قَتْلَ مُوسَى، وهو طِفْل حينَ مَدَّ يَدَهُ عليه السلام إلَى لِحْيَةِ فرعون، فقالت له امرأته‏:‏ إنه لا يَعْقِلُ، فقال‏:‏ بل هو يَعْقِلُ، وهو عَدُوِّي، فقالت له‏:‏ نجرِّبُه، فقال لها‏:‏ أَفْعَلُ، فدَعا بجمَراتٍ من النَّارِ، وبطبقٍ فيه يَاقُوتٌ، فقالا‏:‏ إنْ أَخذ الياقُوتَ، علِمْنَا أنه يعقِلُ، وإنْ أخذ النارَ، عَذَرْنَاهُ، فمدَّ مُوسَى يده إلى جمرة فأَخذها، فلم تعد على يده، فجعلها فِي فِيهِ، فأَحْرَقَتْهُ، وأوْرثت لِسَانَهُ عُقْدَةٌ، وموسى عليه السلام إنما طلب مِنْ حَلِّ العُقْدَة قدراً يُفْقَهُ معه قولُه، فجائز أَنْ تكون تِلْكَ العقدةُ قد زَالَتْ كُلُّها، وجائِزٌ أَن يكون قَدْ بَقِيَ منها القَلِيلُ، فيجتمع أن يؤتى هو سُؤْلَةٌ، وأنْ يقولَ فِرْعَون‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 52‏]‏‏.‏

ولو فرضنا زوالَ العُقْدة جملة، لكانَ قولُ فِرْعَون سَبّاً لمُوسَى بحالته القَدِيمةَ‏.‏

وَالوَزِير‏:‏ المُعِين القَائِمُ بوزر الأُمورِ وهو ثِقَلها فيحتمل الكَلاَمُ أَنَّ طلبَ الوَزِير من أَهْلِهِ على الجملة أَبْدَل هارون من الوزير المَطْلُوب، ويحتمل أنْ يريدَ‏:‏ واجعل هارون وَزِيراً، فيكون مفعولاً أَوّلاً ل ‏{‏اجعل‏}‏، وكان هارون عليه السلام أكْبر من موسى عليه السلام بأرْبع سنين، والأَزْرُ‏:‏ الظهرُ؛ قاله أَبُو عُبَيْدةَ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَثِيراً‏}‏ نعتٌ لمصدرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ‏:‏ تسبيحاً كثيراً‏.‏