فصل: تفسير الآية رقم (52)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏52‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

قلت‏:‏ قال القاضي أبو الفضل عياض‏:‏ وقد توجهت ها هنا لبعض الطاعنين سُؤَالاتٍ منها ما رُوِيَ مِنْ ‏"‏ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة «والنجم» وقال‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 19، 20‏]‏ قال‏:‏ تِلْكَ الْغَرَانِيقُ العلى، وإنَّ شَفَاعَتَهَا لترتجى ‏"‏‏.‏ قال عياض‏:‏ اعلم ‏(‏أكرمك اللّه‏)‏ أَنَّ لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين‏:‏ أحدهما‏:‏ في توهين أصله‏.‏

والثاني‏:‏ على تقدير تسليمه‏.‏

أما المأخذ الأَوَّلُ‏:‏ فيكفيك أنَّ هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولاَ رَوَاهُ ثقة بسند مُتَّصِلٍ سليم؛ وإنما أولع به وبمثله المُفَسِّرُون والمؤرِّخُونَ المُولَعُونَ بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، وصدق القاضي أبو بكر ابن العلاء المالكيُّ ‏(‏رحمه اللّه تعالى‏)‏ حيث يقول‏:‏ لقد بُلِيَ الناسُ ببعض أهل الأهواء والتفسير، ثم قال عياض‏:‏ قال أبو بكر البَزَّارُ‏:‏ هذا الحديث لا نعلمه يُرْوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد مُتَّصل يجوزُ ذكرُه؛ وإنَّما يُعْرَفُ عن الكلبيِّ، قال عياض‏:‏ والكلبيُّ مِمَّنْ لا تجوز الرواية عنه ولا ذِكْرُهُ؛ لقوَّةِ ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البَزَّارُ، وقد أجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذا، انتهى، ونحو هذا لابن عطية قال‏:‏ وهذا الحديث الذي فيه‏:‏ هن الغرانقة وقع في كتب التفسير ونحوها، ولم يُدْخِلْهُ البخاريُّ ولا مسلم، ولا ذكره في علمي مُصَنِّفٌ مشهور؛ بل يقتضي مذهبُ أهل الحديث أَنَّ الشيطان ألقى ولا يعينون هذا السَّبَبَ ولا غيره‏.‏

قال * ع *‏:‏ وحدثني أَبي ‏(‏رحمه اللّه تعالى‏)‏ أَنَّهُ لَقِيَ بالمشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين مَنْ قال‏:‏ هذا لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم في التبليغ؛ وإنَّما الأمرُ يعني على تقدير صحَّته أَنَّ الشيطان نَطَقَ بلفظ أُسْمِعَهُ الكُفَّارُ عند قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 19، 20‏]‏‏.‏

وقَرَّبَ صوته من صوتِ النبي صلى الله عليه وسلم حتى التبس الأمر على المشركين، وقالوا‏:‏ محمد قرأها، هذا على تقدير صحته، وقد رُوِيَ نحوُ هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي‏.‏

قلت‏:‏ قال عياض‏:‏ وقد أعادنا اللّه من صِحَّتِهِ، وقد حكى موسى بن عقبة في «مغازيه» نحوَ هذا، وقال‏:‏ إنَّ المسلمين لم يسمعوها، وإنما ألقى الشيطانُ ذلك في أسماع المشركين، ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تمنى‏}‏ أي‏:‏ تلا ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 78‏]‏‏.‏ أي‏:‏ تلاوة، ‏{‏فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان‏}‏ أي‏:‏ يُذْهِبُهُ، ويزيل اللبس به ويُحكمُ آياته، وعبارة البخاريِّ‏:‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ‏}‏، أي‏:‏ إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل اللّه ما يلقى الشيطان ويحكم آياته، ويقال‏:‏ ‏{‏أُمْنِيَّتِهِ‏}‏‏:‏ قراءته انتهى‏.‏

قال عياض‏:‏ وقيل‏:‏ معنى الآية هو ما يقع للنبي صلى الله عليه وسلم من السهو إذا قرأ فيتنبه لذلك، ويرجعُ عنه، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 57‏]‏

‏{‏لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏53‏)‏ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏54‏)‏ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ‏(‏55‏)‏ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏56‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏57‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً‏}‏ الفتنة‏:‏ الامتحانُ والاختبار، والذين في قلوبهم مرض‏:‏ عامَّةُ الكُفَّارِ، ‏{‏والقاسية قُلُوبُهُمْ‏}‏ خواصُّ منهم عتاة‏:‏ كأبي جهل وغيره، والشقاق‏:‏ البعد عن الخير والكونُ في شقٍّ غيرِ شقِّ الصلاح، و‏{‏الذين أُوتُواْ العلم‏}‏‏:‏ هم أصحاب نَبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في ‏{‏أَنَّهُ‏}‏‏:‏ عائد على القرآن، ‏{‏فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ تتطامن وتَخْضَعُ، وهو مأخوذ من الخبت وهو المطمئن من الأرض كما تقدم‏.‏

‏{‏وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ‏}‏ أي‏:‏ من القرآن، والمريةُ‏:‏ الشَّكُّ، ‏{‏حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة‏}‏ يعني يوم القيامة، ‏{‏أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ‏}‏ قيل‏:‏ يوم بدر، وقيل‏:‏ الساعةُ سَاعَةُ موتهم، واليوم العقيم يومُ القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 62‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏58‏)‏ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ‏(‏59‏)‏ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ‏(‏60‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏61‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏62‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ابتداءُ معنى آخرُ؛ وذلك أَنَّهُ لما مات عثمانُ بن مظعون، وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس‏:‏ مَنْ قُتِلَ من المهاجرين أَفْضَلُ مِمَّنْ ماتَ حَتْفَ أنفه‏.‏ فنزلت هذه الآية مُسَوِّيَةً بينهم في أنَّ اللّه تعالى يرزقُ جميعهم رِزْقاً حسناً، وليس هذا بقاضٍ بتساويهم في الفضل، وظاهِرُ الشريعة أَنَّ المقتول أفضل، وقد قال بعض الناس‏:‏ المقتول والميت في سبيل اللّه شهيدَانِ، ولكن للمقتول مَزِيَّةُ ما أصابه في ذات اللّه، والرزق الحسن يحتمل‏:‏ أن يريد به رزق الشهداءِ عند ربهم في البرزخ، ويحتمل أن يريد بعد يوم القيامة في الجنة، وقرأت فرقة‏:‏ «مُدْخَلاً»- بضم الميم-؛ من أدخل؛ فهو محمولٌ على الفعل المذكور، وقرأت فرقة‏:‏ «مَدْخَلاً» بفتح الميم؛ من دخل؛ فهو محمول على فعل مُقَدَّرٍ تقديره‏:‏ فَيَدْخُلُونَ مَدْخَلاً، ثم أخبر سبحانه عَمَّنْ عاقب من المؤمنين مَنْ ظلمه من الكفرة، وَوَعَدَ المَبْغِيَّ عليه بأنه ينصره، وذلك أن هذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين لقيهم كُفَّارٌ في الأشهر الحُرْم؛ فأبى المؤمنون من قتالهم، وأبى المشركون إلاَّ القتال، فلمَّا اقتتلوا، جَدَّ المؤمنون ونصرهم اللّه تعالى؛ فنزلت الآية فيهم، وجَعَلَ تقصيرَ الليلِ وزيادَة النهار وعكسهما إيلاجاً؛ تجوُّزاً وتشبيهاً، وباقي الآية بيّن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 64‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ‏(‏63‏)‏ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏64‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض وَإِنَّ الله لَهُوَ الغني الحميد‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَتُصْبِحُ‏}‏ عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء؛ وروي عن عكرمة أنه قال‏:‏ هذا لا يكونُ إلاَّ ب «بمكَّة» وتهامة‏.‏

قال * ع *‏:‏ ومعنى هذا أنه أخذ قوله‏:‏ ‏{‏فَتُصْبِحُ‏}‏ مقصوداً به صباحُ ليلة المطر، وذهب إلى أَنَّ ذلك الاخضرار في سائر البلاد يتأخر‏.‏

قال * ع *‏:‏ وقد شاهدتُ هذا في السُّوسِ الأقصى، نزل المطرُ ليلاً بعد قَحْطٍ، وأصبحت تلك الأرض الرملة التي تسفيها الرياح قد اخضَرَّت بنبات ضعيف دقيق‏.‏

قلت‏:‏ وقد شاهدتُ أنا ذلك بصحراء سواكن بالمشرق، وهي في حكمُ مكةَ إلاَّ أَنَّ البحر قد حال بينهما؛ وذلك أَنَّ التعدية من جده إلى «سواكنَ» مقدار يومين في البحر أو أقلَّ بالريح المعتدلة، وكان ذلك في أَوَّلِ الخريف، وأجرى اللّه العادة أَنَّ أَمطارَ تلك البلاد تكونُ بالخريف فقط، هذا هو الغالب، ولَمَّا شاهدتُ ذلك تذكرتُ هذه الآية الكريمة، فسبحان اللّه ما أعظم قدرته‏!‏ واللطيف‏:‏ المُحَكَّمُ للأمور برفق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 67‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏65‏)‏ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ‏(‏66‏)‏ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ‏(‏67‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض والفلك تَجْرِي فِي البحر بِأَمْرِهِ‏}‏ أي‏:‏ سَخَّرَ لنا سبحانه ما في الأرض من الحيوان والمعادِنِ وسائر المرافق، وباقي الآية بيّن مِمَّا ذُكِرَ في غير هذا الموضع‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً‏}‏ المنسك‏:‏ المصدر، فهو بمعنى‏:‏ العبادة والشِّرْعَةُ، وهو أيضاً موضع النسك، وقوله‏:‏ ‏{‏هُمْ نَاسِكُوهُ‏}‏ يعطى أَنَّ المنسكَ‏:‏ المصدر، ولو كان الموضعَ لقال‏:‏ هم ناسكون فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 71‏]‏

‏{‏وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏68‏)‏ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏69‏)‏ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏70‏)‏ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ‏(‏71‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِن جادلوك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية مُوَادَعَةٌ مَحْصَنَةٌ نسختها آية السيف، وباقي الآية وعيد‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ ذلك فِي كتاب‏}‏ يعني‏:‏ اللوح المحفوظ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ‏}‏ يحتمل أنْ تكونَ الإشارة إلى الحكم في الاختلاف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 74‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏72‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ‏(‏73‏)‏ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏74‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بينات تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر‏}‏ يعني‏:‏ أَنَّ كُفَّارَ قريش كانوا إذا تُلِيَ عليهم القرآنُ، وسمعوا ما فيه من رفض آلهتهم والدعاءِ إلى التوحيدُ عُرِفَتِ المساءةُ في وجوههم والمنكرُ من معتقدهم وعداوتهم، وأنهم يريدون ويتسرعون إلى السطوة بالتَّالِينَ، والسطو إيقاع ببطش، ثم أمر تعالى نَبِيَّه عليه السلام أن يقول لهم على جهة الوعيد والتقريع‏:‏ ‏{‏أَفَأُنَبِّئُكُم‏}‏ أي‏:‏ أخبركم‏.‏ ‏{‏بِشَرٍّ مِّن ذلكم‏}‏‏.‏ والإشارة بذلكم إلى السطو، ثم ابتدأ بخبر؛ كأن قائلاً قال له‏:‏ وما هو‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏النار‏}‏ أي‏:‏ نار جهنم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ‏}‏ يحتمل أَنْ يكون أراد‏:‏ أَنَّ اللّه تعالى وعدهم بالنار، فيكونُ الوعد في الشر، ويحتمل أَنَّهُ أراد‏:‏ أَنَّ اللّه سبحانه وعد النارَ بأن يُطْعِمَهَا الكُفَّارَ، فيكون الوعد على بابه، إذ الذي يقتضي قولها‏:‏ ‏{‏هَلْ مِنْ مَزِيدٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 30‏]‏ ونحو ذلك أَنَّ ذلك من مَسَارِّها‏.‏

قلت‏:‏ والظاهر الأَوَّل‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ذكر تعالى أمر سالب الذباب، وذلك أنهم كانوا يضمخون أوثانهم بأنواع الطِّيبِ فكان الذبابُ يتسلط ويذهب بذلك الطيب، وكانوا يتألّمُون من ذلك، فَجُعِلَتْ مثلاً، واخْتَلَفَ المتأوَّلُون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضَعُفَ الطالب والمطلوب‏}‏ فقالت فرقة‏:‏ أراد بالطالب‏:‏ الأصنامَ، وبالمطلوبِ‏:‏ الذبابَ، أي‏:‏ أنهم ينبغي أن يكونوا طالبين لما يسلب من طيبهم على معهود الأنفة في الحيوان، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ ضَعُفَ الكُفَّارُ في طلبهم الصوابَ والفضيلةَ من جهة الأصنام، وضَعُفَ الأصنامُ في إعطاء ذلك وإنالته‏.‏

قال * ع *‏:‏ ويحتمل أنْ يريد‏:‏ ضعف الطالب وهو الذبابُ في استلابه ما على الأصنامِ، وضعف الأصنام في أنْ لا منعة لهم، وبالجملة فدلتهم الآيةُ على أَنَّ الأصنام في أَحَطِّ رُتْبَةٍ، وأَخَسِّ منزلة لو كانوا يعقلون‏.‏ و‏{‏مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ المعنى‏:‏ ما وَفَّوْهُ حَقَّه سبحانه من التعظيم والتوحيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 77‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏75‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏76‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ نزلت بسبب قول الوليد بن المُغِيرَةِ‏:‏ ‏{‏أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 8‏]‏‏.‏

* ص *‏:‏ أبو البقاء‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس‏}‏ أي‏:‏ رسلاً، انتهى، ثم أمر سبحانه بعبادته وخَصَّ الركوعَ والسجودَ بالذكر؛ تشريفاً للصلاة، واختلف الناسُ‏:‏ هل في هذه الآية سجدة أم لا‏؟‏‏.‏

قال ابنُ العربيّ في «أحكامه»‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ اركعوا واسجدوا‏}‏ تَقَبَّلَهَا قوم على أَنَّها سجدةُ تلاوة؛ فسجدوها‏.‏

وقال آخرون‏:‏ هو سجود الصلاة فقصروه عليه، ورأى عمرُ وابنُه عبدُ اللّه رضي اللّه عنهما‏:‏ أنها سجدةُ تلاوة، وإنِّي لأَسجُدُها وأراها كذلك؛ لما رَوَى ابنُ وهب، وغيره عن مالك، وغيره، انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وافعلوا الخير‏}‏ نَدْبٌ فيما عدا الواجبات‏.‏

قلت‏:‏ وهذه الآية الكريمةَ عَامَّةٌ في أنواع الخيرات، ومن أعظمها الرأفةُ والشفقة على خَلْقِ اللّه، ومُوَاساةُ الفقراء وأهلِ الحاجة، وقد روى أبو داود والترمذيُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ أَيُّمَا مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِماً ثَوْباً عَلَى عُرْيٍ، كَسَاهُ اللّهُ مِنْ خُضْرِ الجَنَّةِ،، وأَيُّما مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِماً عَلَى جُوعٍ، أَطْعَمَهُ اللّهُ مِنْ ثِمَارِ الجَنَّةِ، وأَيُّمَا مُسْلِمٍ سقى مُسْلِماً عَلَى ظَمَإٍ، سَقَاهُ اللّهُ مِنْ الرَّحِيقِ المَخْتُوم ‏"‏ انتهى‏.‏ وروى علي بن عبد العزيز البغوي في «المسند المُنْتَخَب» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ أَيُّمَا مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِماً ثَوْباً، كَانَ فِي حِفْظِ اللّهِ مَا بَقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْهُ رُقْعَةٌ ‏"‏ وروى ابن أبي شيبة في «مسنده» عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال‏:‏ ‏"‏ أَيُّمَا أَهْلِ عَرْصَةٍ ظَلَّ فِيهُمُ امرؤ جَائِعاً، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللّهِ ‏"‏ انتهى‏.‏ من «الكوكب الدري»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ‏(‏78‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وجاهدوا فِي الله حَقَّ جهاده‏}‏ قالت فرقة‏:‏ الآية في قتال الكُفَّارِ‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ بل هي أَعَمُّ من هذا، وهو جهاد النفس، وجهادُ الكفار والظَّلَمَةِ، وغيرِ ذلك، أمر اللَّه عباده بأَنْ يفعلوا ذلك في ذات اللّه حَقَّ فعله‏.‏

قال * ع *‏:‏ والعموم أحسن، وبَيِّنٌ أَنَّ عُرْفَ اللفظة يقتضي القتال في سبيل اللّه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ اجتباكم‏}‏ أي‏:‏ تخيَّرَكم، ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ‏}‏ أي‏:‏ من تضييقٍ، وذلك أَنَّ المِلَّةَ حنيفية سَمْحَةٌ، ليست كشدائد بني إسرائيل وغيرهم، بل فيها التوبة والكَفَّارَاتُ، والرُّخَصُ، ونحو‏.‏ هذا مِمَّا يكثر عَدُّهُ، ورفع الحرج عن هذه الأمة لمن استقام منهم على منهاج الشرع، وأَمَّا السُّلابة والسُّرَّاقُ وأصحابُ الحدود فهم أَدخلوا الحَرَجَ على أنفسهم بمفارقتهم الدِّين، وليس في الدِّين أَشَدُّ من إلزام رجل لاثنين في سبيل اللّه، ومع صحة اليقين، وجودة العزم ليس بِحَرَج و‏{‏مِّلَّةَ‏}‏ نُصِبَ بفعل مُضْمَرٍ من أفعال الإغراء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ سماكم المسلمين‏}‏ قال ابن زيد‏:‏ الضمير ل ‏{‏إبراهيم‏}‏- عليه السلام- والإشارة إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 128‏]‏، وقال ابن عباس، وقتادة، ومجاهد‏:‏ الضمير للَّه عز وجل‏:‏ و‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ معناه‏:‏ في الكتب القديمة، ‏{‏وَفِي هذا‏}‏ أي‏:‏ في القرآن، وهذه اللفظة تُضْعِفُ قولَ مَنْ قال‏:‏ الضمير لإبراهيم عليه السلام، ولا يتوجه إلاَّ على تقدير محذوف من الكلام مستأنف‏.‏

قال * ص *‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ قيل‏:‏ يعود على اللّه تعالى، وقيل‏:‏ على إبراهيم، وعلى هذا فيكون‏:‏ ‏{‏وَفِي هذا‏}‏‏:‏ القرآن، أي‏:‏ وسميتم بسببه فيه، انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ بالتبليغ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس‏}‏ أي‏:‏ بتبليغ رسلهم إليهم على ما أخبركم نَبِيُّكم، ثم أمر سبحانه بالصلاة المفروضة أَنْ تُقَامَ ويُدَامَ عليها بجميع حدودها، وبالزكاة أَنْ تُؤَدَّى، ثم أمر سبحانه بالاعتصام به، أي‏:‏ بالتعلُّق به والخلوص له وطَلَبِ النجاة منه، ورَفْضِ التَوَكُّلِ على سواه‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هُوَ مولاكم فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير‏}‏ المولى‏:‏ في هذه الآية معناه‏:‏ الذي يليكم نصره وحفظه، وباقي الآية بيّن‏.‏

سورة المؤمنون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏1‏)‏ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ‏(‏2‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ‏(‏3‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون * الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ‏}‏ أخبر اللّه سبحانه عن فلاح المؤمنين، وأنهم نالوا البُغْيَةَ، وأحرزوا البقاءَ الدائم‏.‏

قلت‏:‏ وعن عُمرَ بن الخطاب رضي اللّه عنه قال‏:‏ ‏"‏ كان رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم إذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ، يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ صلى الله عليه وسلم دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النحْلِ، فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ يَوْماً، فَمَكَثْنَا سَاعَةً، وَسُرِّيَ عَنْهُ، فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ، زِدْنَا وَلاَ تَنْقُصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلاَ تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلاَ تَحْرِمْنَا، وَآثِرُنَا وَلاَ تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وأرْضِنَا وارض عَنَّا ‏"‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏"‏ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ عَشْرُ آياتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الجَنَّةَ ‏"‏، ثُمَّ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون‏}‏ حتى ختم عشر آيات؛ رواه الترمذي واللفظ له والنسائيُّ والحاكم في «المستدرك»، وقال‏:‏ صحيح الإسناد، انتهى من «سلاح المؤمن»‏.‏

قلت‏:‏ وقد نَصَّ بعض أئمتنا على وجوب الخشوع في الصلاة، قال الغزاليُّ رحمه اللّه‏:‏ ومِنْ مكائد الشيطان أن يَشْغَلَكَ في الصلاة بفكر الآخرة وتدبيرِ فِعْلِ الخيرات؛ لتمتنعَ عن فَهْمِ ما تقرأه، واعلم أَنَّ كلَّ ما أشغلك عن معاني قراءتك فهو وسواس؛ فإنَّ حركة اللسان غيرُ مقصودة؛ بل المقصود معانيها، انتهى من «الإحياء»‏.‏

وروي عن مجاهد‏:‏ أَنَّ اللّه تعالى لما خلق الجَنَّةَ، وأتقن حُسْنَها قال‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون‏}‏ ثم وصف تعالى هؤلاء المفلحين‏:‏ فقال‏:‏ ‏{‏الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ‏}‏ والخشوع التطامُنُ، وسكونُ الأعضاءِ، والوقارُ، وهذا إنَّما يظهر في الأعضاء مِمَّنْ في قلبه خوف واستكانة؛ لأَنَّه إذا خشع قلبُه خشعت جوارِحُه، ورُوِيَ أَنَّ سبب الآية أَنَّ المسلمين كانوا يلتفتون في صلاتهم يُمْنَةً ويُسْرَةً؛ فنزلت هذه الآيةُ، وأُمِرُوا أن يكون بصرٍ المُصَلِّي حِذَاءَ قِبْلَتِه أو بين يديه، وفي الحرم إلى الكعبة، و‏{‏اللغو‏}‏‏:‏ سقط القول، وهذا يَعُمُّ جميع ما لا خيرَ فيه، ويجمع آداب الشرع، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أي‏:‏ يُعْرِضُونَ عن اللغو، وكأنَّ الآية فيها موادعة‏.‏

‏{‏والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ‏}‏ ذهب الطبريُّ وغيره إلى‏:‏ أَنَّها الزكاة المفروضة في الأموال، وهذا بَيِّنٌ، ويحتمل اللفظُ أَن يريد بالزكاة‏:‏ الفضائلَ، كأنه أراد الأزكى من كل فعل؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏خَيْراً مِّنْهُ زكواة وَأَقْرَبَ رُحْماً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 81‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 12‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ‏(‏5‏)‏ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ‏(‏6‏)‏ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ‏(‏7‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ‏(‏8‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏9‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏11‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ‏(‏12‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏هُمُ العادون‏}‏ يقتضي تحريمَ الزِّنا والاستمناءِ ومواقعةِ البهائم، وكُلُّ ذلك داخل في قوله‏:‏ ‏{‏وَرَآءَ ذلك‏}‏ ويريد‏:‏ وراءَ هذا الحَدِّ الذي حُدَّ، والعادي‏:‏ الظالم، والأمانة والعهد يَجْمَعُ كُلَّ ما تحمَّله الإنسان من أمر دينه ودُنياه قولاً وفعلاً‏.‏ وهذا يعمُّ معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك، ورعاية ذلك حِفْظُهُ والقيام به، والأمانة أعمُّ من العهد؛ إذ كل عهد فهو أمانة، وقرأ الجمهور‏:‏ «صَلَوَاتِهِمْ» وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ «صلاتهم» بالإفراد، و‏{‏الوارثون‏}‏ يريد الجنة، وفي حديث أَبي هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنَّ اللّهَ تعالى جَعَلَ لِكُلِّ إنْسَانٍ مَسْكَناً فِي الجَنَّةِ، وَمَسْكَناً فِي النَّارِ، فَأَمَّا المُؤْمِنُونَ فَيَأْخُذُونَ مَنَازِلَهُمْ، وَيَرِثُونَ مَنَازِلَ الكُفَّارِ، وَيَحْصُلُ الكُفَّارُ فِي مَنَازِلِهِمْ فِي النَّارِ ‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ وَخَرَّجَهُ ابن ماجه أيضاً بمعناه عن أَبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَا مِنْكُمْ إلاَّ مَنْ لَهُ مَنْزِلاَنِ‏:‏ مَنْزِلٌ فِي الجَنَّةِ، وَمَنْزِلٌ في النَّارِ، فَإذَا مَاتَ يعني الإنسان وَدَخَلَ النَّارَ، وَرِثَ أَهْلُ الجَنَّةِ مَنْزِلَهُ؛ فَذَلِكَ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُولَئكَ هُمُ الوارثون‏}‏ ‏"‏ قال القرطبي في «التذكرة»‏:‏ إسناده صحيح، انتهى من التذكرة‏.‏

قال * ع *‏:‏ أَنْ يُسَمِّيَ اللّه تعالى حصولَهم في الجنة وارثةً من حيثُ حصَّلُوهَا دون غيرهم، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال‏:‏ ‏"‏ إنَّ اللّه أَحَاطَ الجَنَّةِ‏:‏ لَبِنَةً مِنْ ذَهَبٍ، وَلَبِنَةً مِنْ فِضَّةٍ، وَغَرَسَ غَرَاسَهَا بِيَدِهِ، وَقَالَ لَهَا‏:‏ تَكَلَّمِي، فقالت‏:‏ «قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ» فقال‏:‏ طُوبَى لَك مَنْزِلُ المُلُوكِ ‏"‏ خرجه البَغويُّ في «المسند المنتخب» له، انتهى من «الكوكب الدُّرِّيِّ»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ‏(‏13‏)‏ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مِّن طِينٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ اخْتُلِفَ في قوله‏:‏ «الإنسان» فقال قتادة وغيره أراد آدم- عليه السلام-؛ لأنه استُلَّ من الطين‏.‏

وقال ابن عباس وغيره‏:‏ المراد ابنُ آدم، والقرارُ المكينِ من المرأة‏:‏ هو مَوْضِعُ الولد، والمكين‏:‏ المُتَمَكِّنُ، والعَلَقَةُ‏:‏ الدَّمُ الغليظ، والمُضْغَةُ‏:‏ بضعة اللحم قدرَ ما يُمْضَغُ، واختلف النَّاسُ في الخلق الآخر، فقال ابنُ عباس وغيره‏:‏ هو نفخ الرُّوح فيه‏.‏

وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ هو خروجه إلى الدنيا‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ تَصَرُّفُهُ في أمور الدنيا، وقيل‏:‏ هو نباتُ شعره‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهذا التخصيص كُلُّهُ لا وجهَ له، وإنما هو عامٌّ في هذا وغيرِه‏:‏ من وجوه النطق، والإدراك، وحُسْنِ المحاولة، و‏{‏تَبَارَكَ‏}‏ مطاوع بارك، فكأنها بمنزلة تعالى وَتَقَدَّسَ من معنى البركة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَحْسَنُ الخالقين‏}‏ معناه‏:‏ الصانعين‏:‏ يقال لمن صنع شيئاً‏:‏ خَلَقَهُ،، وذهب بعضُ الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس؛ فقال ابن جريج‏:‏ إنَّما قال‏:‏ ‏{‏الخالقين‏}‏؛ لأَنَّهُ تعالى أَذِنَ لعيسى في أَنْ يخلق، واضطرب بعضُهم في ذلك‏.‏

قال * ع *‏:‏ ولا تُنْفَى اللفظةُ عن البشر في معنى الصنع؛ وإنما هي منفيَّةٌ بمعنى الاختراع والإيجاد من العدم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 19‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ‏(‏15‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ‏(‏16‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ‏(‏17‏)‏ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ‏(‏18‏)‏ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيّتُونَ‏}‏ أي‏:‏ بعد هذا الأحوال المذكورة، ويريد بالسبع الطرائق‏:‏ السموات، والطرائق‏:‏ كُلِّ ما كان طبقاتٍ بعضه فوق بعض؛ ومنه طارقت نعلي‏.‏ ويجوزُ أَنْ تكونَ الطرائق بمعنى المَبْسُوطاتِ؛ من طرقت الشيء‏.‏

قلت‏:‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء بِقَدَرٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ظاهر الآية أَنَّهُ ماءُ المطر، وأسند أبو بكر ابن الخطيب في أول «تاريخ بغداد» عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ الجَنَّةِ إلَى الأَرْضِ خَمْسَةَ أَنْهَارٍ‏:‏ سَيْحُونَ‏:‏ وَهُو نَهْرُ الهِنْدِ، وجَيْحُونَ‏:‏ وَهُوَ نَهْرُ بَلْخَ، ودِجْلَةَ والفُرَاتَ‏:‏ وَهمَا نَهَرَا العِرَاقِ، والنِّيلَ‏:‏ وَهُوَ نَهْرُ مِصْرَ، أَنْزَلَهَا اللّهُ تعالى مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ مِنْ عُيُونِ الجَنَّةِ مِنْ أَسْفَلِ دَرَجَةٍ مِنْ دَرَجَاتِهَا عَلَى جَنَاحَيْ جِبْرِيلَ، فَاسْتَوْدَعَهَا الجِبَال، وَأَجْرَاهَا فِي الأَرْضِ، وَجَعَلَ فِيهَا مَنَافِعَ لِلنَّاسِ فِي أَصْنَافِ مَعَايِشِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض‏}‏ فَإذَا كَانَ عِنْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، أَرْسَلَ اللّهُ تعالى جِبْرِيلَ فَرَفَعَ مِنَ الأَرْضِ القُرْآنَ، وَالْعِلْمَ كُلَّهُ، وَالْحَجَرَ مِنْ رُكْنِ البَيْتِ، وَمَقَامَ إبْرَاهِيمَ، وَتَابُوتَ موسى عليه السلام بما فِيهِ، وَهَذِهِ الأَنْهَارَ الخَمْسَةَ، فَيَرْفَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ إلَى السَّمَاءِ؛ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لقادرون‏}‏، فَإذَا رُفِعَتْ هَذِهِ الأَشْيَاءُ مِنَ الأَرْضِ، فَقَدَ أَهْلُهَا خَيْرَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ‏"‏ وفي رواية‏:‏ «خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»‏.‏ انتهى، فَإنْ صَحَّ هذا الحديث، فلا نظرَ لأحد معه، ونقل ابن العربي في «أحكامه» هذا الحديثَ أيضاً عن ابن عباس وغيره، ثم قال في آخره‏:‏ وهذا جائز في القدرة إنْ صَحَّتْ به الرواية، انتهى‏.‏

قال * ع *‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَاء بِقَدرٍ‏}‏ قال بعض العلماء‏:‏ أَراد المطر‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إنَّما أراد الأنهار الأربعة سيحان وجَيْحَانَ والفرات والنيل‏.‏

قال * ع *‏:‏ والصواب أَنَّ هذا كُلَّهُ داخل تحت الماء الذي أنزله الله تعالى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَكُم فِيهَا فواكه كَثِيرَةٌ‏}‏ يحتمل‏:‏ أنْ يعود الضمير على الجنات؛ فيشمل أنواع الفواكه، ويحتمل أَنْ يعود على النخيل والأعناب خاصَّةً؛ إذ فيهما مراتبُ وأنواع، والأَوَّلُ أعمُّ لسائر الثمرات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 26‏]‏

‏{‏وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ ‏(‏20‏)‏ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏21‏)‏ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ‏(‏22‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏23‏)‏ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ‏(‏24‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ‏(‏25‏)‏ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَشَجَرَةً‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏جنات‏}‏ ويريد بها الزيتونة، وهي كثيرة في طور سيناء من أرض الشام، وهو الجَبَلُ الذي كُلِّمَ فيه موسى عليه السلام؛ قاله ابن عباس، وغيره، وال ‏{‏طُورِ‏}‏‏:‏ الجبلُ في كلام العرب، واخْتُلِفَ في ‏{‏سَيْنَآءَ‏}‏ فقال قتادة‏:‏ معناه الحُسْنُ، وقال الجمهور‏:‏ هو اسم الجبل، كما تقول جبل أُحُدٍ، وقرأ الجمهور‏:‏ «تَنْبُتُ» بفتح التاء وضم الباء، فالتقدير تنبت ومعها الدُّهْنُ؛ كما تقول خرج زيد بسلاحه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ «تُنْبِتُ» بضم التاء وكسر الباء واخْتُلِفَ في التقدير على هذه القراءة، فقالت فرقة‏:‏ الباءُ زائدة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 195‏]‏، وقالت فرقة‏:‏ التقدير تُنْبِتُ جناها ومعه الدُّهْنُ، فالمفعول محذوف، وقيل‏:‏ نبت وأَنْبَتَ بمعنى؛ فيكونُ المعنى كما مضى في قراءة الجمهور، والمراد بالآية تعديدُ النعم على الإنسان، وباقي الآية بَيِّنٌ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله مَالَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * فَقَالَ الملؤا الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذا ابتداءُ تمثيلٍ لكُفَّارِ قريش بأُممٍ كفرت بأنبيائها فأُهْلِكُوا، وفي ضمن ذلك الوعيدُ بأَنْ يَحُلَّ بهؤلاء نحوُ ما حَلَّ بأولئك، والملأ‏:‏ الأشراف، والجِنَّةُ، الجنون، و‏{‏حتى حِينٍ‏}‏ معناه إلى وقت يريحكم القَدَرُ منه، ثم إن نوحاً عليه السلام دعا على قومه حين يَئِسَ منهم، وإنْ كان دعاؤُهُ في هذه الآية ليس بِنَصٍّ؛ وإنَّما هو ظاهر من قوله‏:‏ ‏{‏بِمَا كَذَّبُونِ‏}‏ فهذا يقتضي طلبَ العقوبة، وأَمَّا النصرة بمجردها فكانت تكون بردِّهم إلى الإيمان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 30‏]‏

‏{‏فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ‏(‏27‏)‏ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏28‏)‏ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ‏(‏29‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

وقوله عزَّ وجل‏:‏ ‏{‏فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التنور فاسلك فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ * فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك فَقُلِ الحمد للَّهِ‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏بِأَعْيُنِنَا‏}‏‏:‏ عبارة عن الإدراك هذا مذهبُ الحُذَّاقِ، ووقفتِ الشريعةُ على أعين وعين، ولا يجوزُ أَنْ يُقال‏:‏ عينان من حيثُ لم توقف الشريعة على التثنية، و‏{‏وَحْيِنَا‏}‏ معناه في كيفية العمل، ووجهُ البيان لجميع حكم السفينة وما يحتاج إليه، و‏{‏أَمْرُنَا‏}‏ يحتمل أنْ يكونَ واحد الأوامر، ويحتمل أن يريد واحد الأمور، والصحيح من الأقوال في ‏{‏التنور‏}‏ أنه تَنُّورُ الخبز، وأَنَّها أمارة كانت بين اللّه تعالى وبين نوح عليه السلام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فاسلك‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ فأدخل؛ يقال سلك وأسلك بمعنىً، وقرأ حفص عن عاصم‏:‏ ‏{‏مِنْ كُلٍّ‏}‏ بالتنوين، والباقون بغير تنوين، والزوجان‏:‏ كُلَّ ما شأنه الاصطحابُ من كل شيءٍ؛ نحو‏:‏ الذكر، والأنثى من الحيوان، ونحو‏:‏ النعال وغيرها، هذا موقع اللفظة في اللغة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأهْلَكَ‏}‏ يريد‏:‏ قرابته، ثم استثنى من سبق عليه القولُ بأَنَّهُ كافر، وهو ابنه وإمرأته، ثم أُمِرَ نوحٌ ألاَّ يراجعَ رَبَّه، ولا يخاطبَه شافعاً في أحد من الظالمين، ثم أُمِرَ بالدعاء في بركة المنزل‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ إِنَّ فِي ذلك لآيات» خطاب لِنَبِيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم ثم أخبر سبحانه أنه يبتلي عباده الزمنَ بعد الزمنِ على جهة الوعيد لِكُفَّارِ قريشٍ بهذا الإخبار، واللام في ‏{‏لَمُبْتَلِينَ‏}‏ لامُ تأكيدٍ، و«مبتلين»‏:‏ معناهُ‏:‏ مُصِيبِينَ ببلاء، ومختبرين اختباراً يؤدي إلى ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 39‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ‏(‏31‏)‏ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏32‏)‏ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ‏(‏33‏)‏ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏34‏)‏ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ‏(‏35‏)‏ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ‏(‏36‏)‏ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ‏(‏37‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏38‏)‏ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ‏}‏‏.‏

قال الطبريُّ- رحمه اللّه-‏:‏ إنَّ هذا القرنَ هم ثمودُ، قومُ صالح‏.‏

قال * ع *‏:‏ وفي جُلِّ الروايات ما يقتضي أن قوم عاد أقدمٌ إلاَّ أنَّهم لم يُهْلَكُوا بصيحة‏.‏

قلت‏:‏ وهو ظاهر ترتيب قَصَصِ القرآن أَنَّ عاداً أقدم، ‏{‏وأترفناهم‏}‏ معناه نَعَّمْنَاهم، وبسطنا لهم الأموالَ والأَرْزَاقَ وقولهم‏:‏ ‏{‏أَيَعِدُكُمْ‏}‏ استفهام على جهة الاستبعادِ و‏{‏أَنَّكُمْ‏}‏‏:‏ الثانية بَدَلٌ من الأُولَى عند سيبويه، وقولهم‏:‏ ‏{‏هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ‏}‏ استبعادٌ، وهيهات أحياناً تلي الفاعل دونَ لام تقول هيهاتَ مجيءُ زيد، أي‏:‏ بعد ذلك ومنه قول جرير ‏[‏الطويل‏]‏

فَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ الْعَقِيقُ وَمَنْ بِهِ *** وَهَيْهَاتَ خِلٌّ بِالْعَقِيقِ نُوَاصِلُهْ

وأحياناً يكون الفاعل محذوفاً، وذلك عند وجود اللام كهذه الآية، التقدير‏:‏ بعد الوجود؛ لما توعدون قال صلى الله عليه وسلم ورد بأن فيه حذف الفاعل وحذف المصدر وهو الوجود وذلك غير جائز عند البصريين، وذكر أبو البقاء‏:‏ أَنَّ اللام زائدة «وما» فاعل، أي‏:‏ بعد ما توعدون‏.‏

قال أبو حيان‏:‏ وهذا تفسير معنى لا إعراب؛ لأَنَّهُ لم تَثبُتْ مصدرِيَّةُ «هيهات»، انتهى‏.‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا‏}‏ أرادوا‏:‏ أَنَّهُ لا وجودَ لنا غيرَ الوجودِ؛ وإنَّمَا تموتُ مِنَّا طائفة فتذهب، وتجيء طائفة جديدة، وهذا هو كُفْرُ الدَّهْرِيَّةِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 48‏]‏

‏{‏قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ‏(‏40‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏41‏)‏ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ ‏(‏42‏)‏ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ‏(‏43‏)‏ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏44‏)‏ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏45‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ‏(‏46‏)‏ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ‏(‏47‏)‏ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نادمين‏}‏ المعنى‏:‏ قال اللّه لهذا النَّبِيِّ الدَّاعي‏:‏ عَمَّا قليل يندمُ قومُك على كفرهم حين لا ينفعهم الندم، ومن ذكر الصَّيْحَة ذهب الطبريُّ إلى أَنَّهم قوم ثمود‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بالحق‏}‏ أي‏:‏ بما استحقوا بأفعالهم وبما حَقَّ مِنَّا في عقوبتهم، والغثاء‏:‏ ما يحمله السَّيْلُ من زُبَدِهِ الذي لا يُنْتَفَعُ به، فَيُشَبَّهُ كُلُّ هامد وتالف بذلك‏.‏

قال أبو حيان‏:‏ «وبعداً» منصوبٌ بفعل محذوف، أي‏:‏ بَعُدُوا بُعْداً، أي‏:‏ هلكوا، انتهى، ثم أخبر سبحانه‏:‏ إنَّه أنشأ بعد هؤلاء أمماً كثيرةً، كلَّ أَمَّةٍ بأجل، وفي كتاب لا تتعداه في وجودها وعند موتها، وتترى‏:‏ مصدر من تَوَاتَر الشيءُ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَأتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً‏}‏ أي‏:‏ في الإهلاك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ‏}‏ يريد أحاديث مَثَلٍ، وقَلَّمَا يُسْتَعْمَلُ الجَعْلُ حديثاً إلاَّ في الشر، و‏{‏عَالِينَ‏}‏ معناه‏:‏ قاصدين لِلْعُلُوِّ بالظلم، وقولهم‏:‏ ‏{‏وَقَوْمُهُمَا لَنَا عابدون‏}‏ معناه‏:‏ خادمون متذللون، والطريق المُعَبَّدُ المُذَلَّلُ، و‏{‏مِنَ المهلكين‏}‏‏:‏ يريد بالغرق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏49‏)‏ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ‏(‏50‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ التوراة، و‏{‏لَعَلَّهُمْ‏}‏ يريد‏:‏ بني إسرائيل؛ لأَنَّ التوراة إنَّما نزلت بعد هلاكِ فرعونَ والقِبْطِ، والربوة‏:‏ المُرْتَفِعُ من الأرض، والقرار‏:‏ التَّمَكُّنُ، وَبَيِّنٌ أَنَّ ماء هذه الربوة يرى معيناً جارياً على وجه الأرض؛ قاله ابن عباس، والمعين‏:‏ الظاهِرُ الجري للعينِ، فالميم زائدة، وهو الذي يُعَايَنُ جريُه، لا كالبئرِ ونحوِهِ، ويحتمل أن يكون من قولهم‏:‏ معن الماء إذَا كَثُرَ، وهذه الربوة هي الموضع الذي فَرَّتْ إليه مريمُ وقتَ وضع عيسى عليه السلام هذا قولُ بعضِ المفسرين، واختلف الناسُ في موضع الربوة، فقال ابن المُسَيِّبِ‏:‏ هي الغُوطَةُ بدمشق وهذا أشهر الأقوال؛ لأَنَّ صفة الغُوطَةِ أَنَّها ذات قرار ومعين على الكمال‏.‏

وقال كَعْبُ الأَحْبَارِ‏:‏ الربوة بيت المَقْدِسِ، وزعم أَنَّ في التوراة أَنَّ بيتَ المقدس أَقْرَبُ الأرض إلى السماء وأَنَّهُ يزيد على الأرض ثمانية عشر ميلاً‏.‏

قال * ع *‏:‏ ويترجَّحُ‏:‏ أَنَّ الربوة في بَيْتِ لَحْمٍ من بيت المقدس؛ لأَنَّ ولادة عيسى هنالك كانت، وحينئذٍ كان الإيواءُ، وقال ابن العربيِّ في «أحكامه»‏:‏ اختلف الناس في تعيين هذه الربوة على أقوال منها‏:‏ ما تُفسِّرُ لغةً ومنها‏:‏ ما تُفَسَّرُ نقلاً، فيفتقر إلى صحة سندهِ إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلاَّ أَنَّ ها هنا نُكْتَةً، وذلك أَنَّه إذا نُقِلَ لِلنَّاسِ نَقْلَ تواتر أَنَّ هذا موضِعُ كذا، وأَنَّ هذا الأَمرَ جرى كذا وقع العلم به، ولَزِمَ قبولهُ لأَنَّ الخبر المتواتر ليس من شرطه الإِيمانُ، وخبرَ الآحاد لا بدَّ من كون المُخْبِرِ به بصفة الإيمان؛ لأَنَّهُ بمنزلة الشاهد، والخَبَرَ المتواتر بمنزلة العيانِ، وقد بَيَّنَا ذلك في «أصول الفقه»، والذي شاهدتُ عليه الناسَ ورأيتهم يعينونه تعيينَ تواترٍ مَوْضِعٌ في سفح الجبل في غربيِّ دمشق، انتهى، وما ذكره‏:‏ من أَنَّ التواتُرَ ليس من شرطه الإيمانُ هذا هو الصحيح، وفيه خلاف إلاَّ أَنَّا لا نُسَلِّم أَنَّ هذا متواتر؛ لاختلال شرطه، انظر «المنتهى» لابن الحاجب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 60‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏51‏)‏ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ‏(‏52‏)‏ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏(‏53‏)‏ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏54‏)‏ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ‏(‏55‏)‏ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏56‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏58‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ‏(‏59‏)‏ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏ يحتمل أنْ يكون معناه‏:‏ وقلنا يا أيها الرسلُ، وقالت فرقة‏:‏ الخطاب بقوله‏:‏ ‏{‏ياأيها الرسل‏}‏ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال * ع *‏:‏ والوجه في هذا أَنْ يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وخرج بهذه الصيغة، لِيُفْهَمَ وجيزاً أَنَّ المقالة قد خُوطِبَ بها كُلُّ نبيٍّ، أو هي طريقتُهم التي ينبغي لهم الكونُ عليها؛ كما تقول لعالم‏:‏ يا علماءٌ إنَّكُم أَئمَّةٌ يُقْتَدَى بكم؛ فتمسكوا بعلمكم، وقال الطبريُّ‏:‏ الخطاب لعيسَى عليه السلام‏.‏

قلت‏:‏ والصحيح في تأويل الآية‏:‏ أَنَّه أمر للمُرْسَلِينَ كما هو نَصٌّ صريح في الحديث الصحيح؛ فلا معنى للتردد في ذلك وقد روى مسلم والترمذيُّ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنَّ اللّهَ طَيِّب وَلاَ يَقْبَلُ إلاَّ طَيِّباً، وَإنَّ اللّهَ أَمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ الآية51‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رزقناكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 172‏]‏‏.‏ ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَر، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ‏:‏ يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حرامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وغُذِّيَ بِالْحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ‏؟‏‏!‏ ‏"‏ اه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحدة وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون * فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏، وهذه الآية تُقَوَّى أَنَّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الرسل كُلُواْ‏}‏ إنَّما هو مخاطبة لجميعهم، وأَنَّه بتقدير حضورهم، وإذا قُدِّرَتْ‏:‏ ‏{‏ياأيها الرسل‏}‏ مخاطبةً للنبي صلى الله عليه وسلم قَلِقَ اتصالُ هذه واتصال وقولِهِ‏:‏ ‏{‏فَتَقَطَّعُواْ‏}‏، ومعنى الأُمَّةِ هنا‏:‏ المِلّةُ والشريعة، والإِشارة بهذه إلى الحنيفية السمحة مِلَّةِ إبراهيم عليه السلام، وهو دين الإِسلام‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَتَقَطَّعُوا‏}‏ يريد الأمم، أي‏:‏ افترقوا، وليس بفعل مُطَاوِعٍ؛ كما تقول‏:‏ تقطع الثوبُ؛ بل هو فعل مُتَعَدٍّ بمعنى قطعوا، وقرأ نافع‏:‏ «زُبُراً» جمع زبور، وهذه القراءة تحتمل معنيين‏.‏

أحدهما‏:‏ أَنَّ الأممَ تنازعت كتباً مُنَزَّلَةً فَاتَّبَعَتْ فرقة الصُّحُفَ، وفرقة التوراة، وفرقة الإنجِيلَ، ثم حَرَّفَ الكُلُّ وَبَدَّلَ، وهذا قول قتادة والثاني‏:‏ أنَّهم تنازعوا أمرهم كتباً وضعوها وضلالةً ألَّفُوها؛ قاله ابن زيد، وقرأ أبو عمرو بخلاف‏:‏ «زُبَراً» بضم الزاي وفتح الباء، ومعناها‏:‏ فرقاً كزبر الحديد، ومن حيث كان ذكرُ الأمم في هذه الآية مثالاً لقريش خاطب اللّه سبحانه نَبِيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم في شأنهم مُتَّصلاً بقوله‏:‏ ‏{‏فَذَرْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ فذِرْ هؤلاء الذين هم بمنزلة مَنْ تقدم، والغمرة‏:‏ ما عَمَّهُمْ من ضلالهم وفُعِلَ بهم فعلَ الماء الغمر بما حصل فيه، والخيراتُ هنا نَعِمُ الدنيا‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والذين يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ‏.‏

‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ أسند الطبريُّ عن عائشة أنها قالت‏:‏ ‏"‏ قلتُ‏:‏ يا رسولَ اللّه، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُؤْتُونَ مَا آتَوا‏}‏ أَهي في الذي يَزْنِي وَيَسْرِقُ‏؟‏ قال‏:‏ لا، يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، بَلْ هِيَ في الرَّجُلِ يَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَقَلْبُهُ وَجِلٌ، يَخَافُ أَلاَّ يُتَقَبَّلَ مِنْهُ ‏"‏

قال * ع *‏:‏ ولا نظرَ مع الحديث، والوَجَلُ‏:‏ نحو الاشفاق والخوف، وصورة هذا الوَجِلِ إمَّا المُخَلِّطُ؛ فينبغي أنْ يكونَ أبداً تحت خوف من أنْ يكونَ ينفذ عليه الوعيد بتخليطه، وإمَّا التَّقِيُّ أوِ التائب، فخوفه أمرَ الخاتمة وما يطلع عليه بعد الموتِ، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ راجعون‏}‏‏:‏ تنبيهٌ على الخاتمة، وقال الحسن‏:‏ معناه الذين يفعلون ما يفعلون من البِرِّ، ويخافون أَلاَّ يُنْجِيَهُم ذلك من عذاب رَبِّهِم، وهذه عبارة حسنة، ورُوِيَ عن الحَسَنِ أيضاً أَنَّهُ قال‏:‏ المؤمن يجمع إحساناً وشفقةً، والمنافِقُ يجمع إساءَةً وأمناً‏.‏

قلت‏:‏ ولهذا الخَطْبِ العظيم أطال الأولياءُ في هذه الدار حُزْنَهُمْ وأجروا على الوجنات مدامعهم‏.‏

قال ابن المبارك في «رقائقه»‏:‏ أخبرنا سفيان قال‏:‏ إنما الحُزْنُ على قَدْرِ البصيرة‏.‏

قال ابن المبارك‏:‏ وأخبرنا مالك بن مغول عن رجل عن الحسن قال‏:‏ ما عُبِدَ اللّهُ بمثل طُولِ الحُزْنِ، وقال ابن المبارك أيضاً‏:‏ أخبرنا مسعر عن عبد الأعلى التَّيْمِيِّ قال‏:‏ أَنَّ مَنْ أُوتي من العلم ما لا يُبْكِيهِ لَخَلِيقٌ أَلاَّ يكونَ أُوتِيَ علماً ينفعه؛ لأَنَّ اللّه تعالى نَعَتَ العلماءَ فقال‏:‏ ‏{‏إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 107-109‏]‏، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 65‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ‏(‏61‏)‏ وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏62‏)‏ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ‏(‏63‏)‏ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ‏(‏64‏)‏ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ‏}‏ أي‏:‏ إليها سابقون، وهذا قول بعضهم في قوله‏:‏ «لها»، وقالت فرقةٌ‏:‏ معناه وهم من أَجْلِها سابقون، وقال الطبريُّ عنِ ابن عباس‏:‏ المعنى‏:‏ سبقتْ لهم السعادَةُ في الأَزَلِ؛ فهم لها، وَرَجَّحَهُ الطبريُّ بأنَّ اللام متمكنة في المعنى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق‏}‏ أظهر ما قيل فيه أنَّه أراد كتابَ إحصاءِ الأعمال الذي ترفعه الملائكة، وقيل‏:‏ الإشارة إلى القرآن، والأول أظهر‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هذا‏}‏ اخْتُلِفَ في الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏مِّنْ هذا‏}‏ هل هي‏:‏ إلى القرآن، أو إلى كتاب الإحصاءِ، أو إلى الدِّينِ بجملته، أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ ‏{‏وَلَهُمْ أَعْمَالٌ‏}‏ أي‏:‏ من الفساد ‏{‏هُمْ لَهَا عَامِلُونَ‏}‏‏:‏ في الحال والاستقبالِ والمُتْرَفُ‏:‏ المُنَعَّمُ في الدُّنيا، الذي هو منها في سَرَفٍ، و‏{‏يَجْأَرُونَ‏}‏ معناه‏:‏ يستغيثون بصياح كصياح البقر، وكَثُرَ استعمال الجُؤَار في البَشَرِ؛ ومنه قول الأعشى‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ المَلِيك *** طَوْراً سُجُوداً وَطَوْراً جُؤَارَا

وقال *ص*‏:‏ جأر الرجل إلى اللّه تعالى، أي‏:‏ تَضَرَّعَ؛ قاله الحُوفِيُّ، انتهى وذهب مجاهد وغيره إلى أَنَّ هذا العذابَ المذكورَ هو الوعيدُ بيوم بَدْرٍ، وقيل‏:‏ غيرُ هذا‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَ تَجْأَرُواْ اليوم‏}‏ أي‏:‏ يقال لهم يوم العذاب‏:‏ لا تجأروا اليوم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 76‏]‏

‏{‏قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ ‏(‏66‏)‏ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ‏(‏67‏)‏ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏68‏)‏ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏69‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ‏(‏70‏)‏ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏71‏)‏ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏72‏)‏ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏73‏)‏ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ‏(‏74‏)‏ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏75‏)‏ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني القرآن و‏{‏تَنكِصُونَ‏}‏ معناه‏:‏ ترجعون وراءَكُم، وهذه استعارة للإعراض والإدبار عن الحَقِّ و‏{‏مُسْتَكْبِرِينَ‏}‏ حال والضمير في ‏{‏بِهِ‏}‏‏:‏ عائد على الحَرَم والمسجد وإنْ لم يَتَقَدَّمْ له ذكر؛ لشهرته، والمعنى‏:‏ إنكم تعتقدون في نفوسكم أَنَّ لكم بالمسجد الحرام أعظَم الحقوق على الناسِ والمنزلةَ عند اللَّه، فأنتم تستكبرون لذلك، وليس الاستكبار من الحق‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ الضمير عائد على القرآن والمعنى‏:‏ يُحْدِثُ لكم سماعُ آياتي كبراً وطغياناً، وهذا قولٌ جَيِّدٌ، وذكر منذر ابن سعيد‏:‏ أن الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم وهو مُتَعَلِّقٌ بما بعده، كأن الكلام تَمَّ في قوله‏:‏ ‏{‏مُسْتَكْبِرِينَ‏}‏ ثم قال‏:‏ بمحمد عليه السلام سامراً تهجرون، و‏{‏سَامِراً‏}‏ حال، وهو مفرد بمعنى الجمع؛ يقال‏:‏ قوم سُمَّرٌ وسَمَرةٌ وسَامِرٌ، ومعناهُ‏:‏ سُهَّرُ الليل مأخوذ من السَّمَرِ وهو ما يقع على الأشخاص من ضوء القمر، وكانت العرب تجلس للسمر تتحدث وهذا أَوْجَبَ معرفَتها بالنجوم؛ لأَنَّها تجلس في الصحراء فترى الطوالِعَ من الغوارب، وقرأ أبو رجاء‏:‏ «سُمَاراً» وقرأ ابن عباس وغيره‏:‏ «سمرا» وكانت قريش تَسْمُرَ حول الكعبة في أباطيلها وكفرها، وقرأ السبعة غيرَ نافع‏:‏ «تَهْجُرُونَ»‏:‏ بفتح التاء وضم الجيم؛ قال ابن عباس معناه‏:‏ تهجرون الحَقَّ وذِكْرَ اللَّه، وتقطعونه؛ من الهجران المعروف، وقال ابن زيد‏:‏ هو من هجر المريض‏:‏ إذا هذى، أي‏:‏ تقولون اللغوَ من القول؛ وقاله أبو حاتم، وقرأ نافع وحده‏:‏ «تُهْجِرونَ»‏:‏ بضم التاء وكسر الجيم وهي قراءة أهل المدينة، ومعناه‏:‏ تقولون الفُحْشَ والهجر من القول، وهذه إشارة إلى سَبِّهِمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ قال ابن عباس أيضاً وغيره، ثم وبخهم سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول‏}‏ لأنهم بعد التدبر والنظر الفاسد قال بعضهم‏:‏ شِعْرٌ، وبعضهم‏:‏ سِحْرٌ وغير ذلك، أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأوَّلين أي‏:‏ ليس بِبِدْعٍ بل قد جاء آباءهم الأَوَّلِينَ، وهم سالف الأمم الرُّسُلُ؛ كنوح، وإبراهيم، وإسماعيلَ وغيرهم، وفي هذا التأويل من التَّجَوُّزِ أَنَّ جَعْلَ سالف الأمم، آباء؛ إذِ الناس في الجملة آخِرُهم من أَوَّلِهِم‏.‏

‏{‏أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ‏}‏ المعنى‏:‏ ألم يعرفوا صدقه وأمانته مدَّةَ عمره صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ‏}‏‏.‏

قال ابن جريج، وأبو صالح‏:‏ الحقُّ‏:‏ اللَّه تعالى‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهذا ليس من نَمَطِ الآية، وقال غيرهما‏:‏ الحق هنا‏:‏ الصواب والمستقيم‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهذا هو الأحرى، ويستقيمُ على هذا فسادُ السمواتِ والأرض ومَنْ فيهن لو كان بحكم هوى هؤلاءِ؛ وذلك أَنَّهُم جعلوا للَّه شركاءَ وأولاداً، ولو كان هذا حَقّاً لم تكن للَّه عز وجل الصفاتُ العِلَيَّةُ، ولو لم تكن له سبحانه لم تكن الصَّنْعَةُ، ولا القُدْرَةُ كما هي، وكان ذلك فسادُ السمواتِ والأرض ومَنْ فيهن‏:‏

‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بوعظهم، ويحتمل‏:‏ بشرفهم، وهو مَرْويٌّ‏.‏

‏{‏أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً‏}‏ الخَرْجُ والخراج بمعنًى، وهو‏:‏ المال الذي يُجْبَى ويؤتى به لأوقات محدودة‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ‏}‏ يريد ثوابَهُ، ويحتمل أن يريد بخراج ربك‏:‏ رِزْقَه، ويُؤَيِّدُهُ قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الرازقين‏}‏‏.‏

و «الصراط المستقيم» دين الإسلام، «وناكبون»‏:‏ أَي‏:‏ مجادلون ومُعْرِضُون، وقال البخاريُّ‏:‏ ‏{‏لَنَاكِبُونَ‏}‏‏:‏ لعادلون، انتهى‏.‏

قال أبو حيان‏:‏ يقال‏:‏ نكب عن الطريقِ ونَكَّبَ بالتشديد، أي‏:‏ عَدَلَ عنه، انتهى، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم لو زال عنهم القَحْطُ، ومَنَّ اللَّه عليهم بالخصب، ورَحِمَهُم بذلك لبقوا على كفرهم ولَجُّوا في طغيانهم، وهذه الآية نزلت في المُدَّةِ التي أصاب فيها قريشاً السِّنُونَ الجَدْبَةُ والجُوعُ الذي دعا به النبيُّ صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏"‏ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِيُ يُوسُفَ ‏"‏، الحديث‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب‏}‏، قال ابن عباس وغيره‏:‏ هو الجوعُ والجَدْبُ حَتَّى أكلوا الجلود وما جرى مجراها، ورُوِيَ أَنَّهم لما بلغهم الجَهْدُ رَكِبَ أبو سفيانُ، وجاءَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقال‏:‏ يا محمد، ألستَ تزعمُ أَنَّك بُعِثْتَ رحمةً للعالمين‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قَالَ‏:‏ قَدْ قَتَلْتَ الآباءَ بِالسَّيْفِ، واْلأَبْنَاءَ بِالْجُوعِ، وَقَدْ أكلنا العِلْهِز؛ فنزلت الآية، و‏{‏استكانوا‏}‏ معناه‏:‏ تواضعوا وانخفضوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 83‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ‏(‏77‏)‏ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏78‏)‏ وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏79‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏80‏)‏ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ ‏(‏81‏)‏ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ‏(‏82‏)‏ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية تَوُعُّدُ بعذاب غير مُعَيَّنٍ، وهذا هو الصواب، وهذه المَجَاعَةُ إنَّما كانت بعد وقعة بدر، والمُبْلِسُ الذي قد نزل به شَرٌّ وَيئِسَ من زواله ونَسُخِهِ بخير، ثم ابتدأ تعالى بتعديد نِعَمٍ في نفس تعديدها استدلالٌ بها على عِظَمِ قدرته سبحانه، فقال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية أنشأ بمعنى‏:‏ اخترع، والأفئدة‏:‏ القلوبُ، وذرأ‏:‏ بَثَّ وخلق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بَل‏}‏ إضرابٌ، والجَحْدُ قبله مُقَدَّر كأنه قال‏:‏ ليس لهم نظر في هذه الآيات أو نحو هذا، و‏{‏الأولون‏}‏‏:‏ يشير به إلى الأُمَمِ الكافرة‏:‏ كعاد وثمود‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هذا مِن قَبْلُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية قولهم‏:‏ ‏{‏وَءَابَاؤُنَا‏}‏ إنْ حُكِيَ المقالة عن العرب فمرادُهُم مَنْ سَلَفَ من العالم، جعلوهم آباءَ من حيث النوعُ واحدٌ، وكونهم سلفاً، وفيه تَجُوزٌ، وإنْ حُكِيَ ذلك عن الأَوَّلِينَ فالأَمر مستقيم فيهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 91‏]‏

‏{‏قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏84‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏85‏)‏ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏86‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏87‏)‏ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏88‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ‏(‏89‏)‏ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏90‏)‏ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السموات السبع وَرَبُّ العرش العظيم * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ‏}‏ أَمَر اللَّه تعالى نَبِيَّهُ عليه السلام بتوقيفهم على هذه الأشياء التي لا يمكنهم إلاَّ الإقرارُ بها، ويلزم من الإقرار بها توحيدُ اللَّه وإذعانهم لشرعه ورسالة رسله، وقرأ الجميع في الأَوَّل‏:‏ «للَّه» بلا خلاف، واخْتُلِفَ في الثاني والثالث، فقرأ أبو عمرو وحدَه‏:‏ «اللَّه» جواباً على اللفظ، وقرأ باقي السبعة‏:‏ «للَّه» جواباً على المعنى، كأنه قال في السؤال‏:‏ لمن ملك السموات السبع‏؟‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَأَنَّى تُسْحَرُونَ‏}‏ استعارة وتشبيه لما وقع منهم من التخليط وَوَضْعِ الأفعالِ والأَقوالِ غيرِ مواضعها ما يقع من المسحور؛ عَبَّرَ عنهم بذلك‏.‏

وقالتَ فرقة‏:‏ ‏{‏تُسْحَرُونَ‏}‏ معناه‏:‏ تمنعون، وحكى بعضهم ذلك لُغَةً، والإجارة‏:‏ المنع، والمعنى‏:‏ أَنَّ اللَّه تعالى إذا أراد منع أحد فلا يقدر عليه، وإذا أراد أخذَه فلا مانِعَ له‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ‏}‏ أي‏:‏ فيما ذكروه من الصاحبة، والولد، والشريك، تعالى اللَّه عن قولهم عُلُوّاً كبيراً، وفي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إله‏}‏ الآية‏.‏

دليلُ التمانع وهذا هو الفسادُ الذي تَضَمَّنَهُ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏‏.‏

والجزءُ المُخْتَرَعُ مُحَالٌ أَنْ تَتَعَلَّقَ به قدرتان فصاعداً، وقد تقدم الكلامُ على هذا الدليل؛ فَأَغنى عن إعادته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِذاً‏}‏ جوابٌ لمحذوف تقديره‏:‏ لو كان معه إله إذاً لذهب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 98‏]‏

‏{‏عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏92‏)‏ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ‏(‏93‏)‏ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏94‏)‏ وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ‏(‏95‏)‏ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ‏(‏96‏)‏ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ‏(‏97‏)‏ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ‏(‏98‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عالم الغيب‏}‏ المعنى‏:‏ هو عالم الغيب، وقرأ أبو عمرو وغيره‏:‏ «عَالِمِ» بالجر؛ اتباعاً للمكتوبة‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي القوم الظالمين‏}‏ أمَرَ اللَّه تعالى نَبِيَّه- عليه السلام- أنْ يدعوَ لنفسه بالنجاة من عذاب الظلمة إنْ كان قُضِيَ أنْ يَرَى ذلك، «وإن» شرطية و«ما» زائدة و«تريني» جزم بالشرط لزمته النونُ الثقيلة وهي لا تُفَارِقُ، «أَمَّا» عند المُبَرِّدِ، ويجوزُ عند سيبويه أنْ تفارقَ، ولكن استعمالَ القرآن لزومها، فمن هنالك ألزمه المبرد، وهذا الدعاء فيه استصحاب الخشية والتحذير من الأمر المعذب من أجله، ثم نظيره لسائر الأُمَّةِ دُعَاءٌ في حسن الخاتمة، وقوله ثانياً‏:‏ «رب» اعتراض بين الشرط وجوابه‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة‏}‏ أمْرٌ بالصفح ومكارِمِ الأخلاق، وما كان منها لهذا فهو مُحْكَمٌ باقٍ في الأُمَّةِ أبداً، وما كان بمعنى الموادعة فمنسوخ بآية القتال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ‏}‏ يقتضي أَنَّها آية مُوَادَعَةٍ‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ الدفع بالتي هي أحسن‏:‏ هو السلامُ، تُسَلِّمُ عليه إذا لَقِيتَه‏.‏

وقال الحسن واللَّه لا يُصِيبُهَا أَحَدٌ حَتَّى يَكْظِمَ غيظه، وَيَصْفَحَ عَمَّا يكره، وفي الآية عِدَةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، أي‏:‏ اشتغل أنت بهذا وكل أمرهم إلينا، ثم أمره سبحانه بالتَّعَوُّذِ من همزات الشياطين، وهي سورات الغضب التي لا يملك الإنسانُ فيها نفسه؛ وكأنها هي التي كانت تصيب المؤمنين مع الكُفَّارِ فتقع المجادلة، ولذلك اتَّصَلَتْ بهذه الآية، وقال ابن زيد‏:‏ هَمْزُ الشيطان‏:‏ الجنونُ، وفي «مُصَنَّفِ أَبي داودَ»‏:‏ أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ‏:‏ هَمْزِهِ، وَنَفْخِهِ، ونَفْثِهِ ‏"‏ قال أبو داودَ‏:‏ همزه‏:‏ المُوتة، ونفخه‏:‏ الكِبْرُ، ونَفْثُهُ‏:‏ السحر‏.‏

قال * ع *‏:‏ والنَّزغَاتِ وسورات الغضبِ من الشيطان، وهي المُتَعَوَّذُ منها في الآية، وأصل الهمز‏:‏ الدَّفْعُ والوَكزُ بيدٍ وغيره‏.‏

قلت‏:‏ قال صاحب «سلاح المؤمن»‏:‏ وهَمَزَاتُ الشياطين‏:‏ خَطَرَاتُها التي تَخْطِرَهَا بقلب الإنسان، انتهى‏.‏

وقال الوَاحِدِيُّ‏:‏ همزات الشياطين‏:‏ نَزَغَاتُهَا وَوَسَاوِسُهَا، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 104‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ‏(‏99‏)‏ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏100‏)‏ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏101‏)‏ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏102‏)‏ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ‏(‏103‏)‏ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالحا فِيمَا تَرَكْتُ‏}‏ ‏{‏حَتَّى‏}‏ في هذا الموضع حَرْفُ ابتداءٍ، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏أَحَدَهُمُ‏}‏ للكفار، وقوله‏:‏ ‏{‏ارجعون‏}‏ أي‏:‏ إلى الحياة الدنيا، والنون في‏:‏ ‏{‏ارجعون‏}‏‏:‏ نونُ العَظَمَةِ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة‏:‏ ‏"‏ إذَا عَايَنَ المُؤْمِنُ المَوْتَ، قَالَتْ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ‏:‏ نُرْجِعُك‏؟‏ فيقول‏:‏ إلى دَارِ الهُمُومِ وَالأَحْزَانِ‏؟‏ بل قُدُماً إلى اللّهِ، وأَمَّا الكَافِرُ، فَيَقُولُ‏:‏ ‏{‏ارجعون * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً‏}‏ ‏"‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏‏:‏ رَدٌّ وزجر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا‏}‏ تحتمل ثلاثة معانٍ‏:‏

أحدها‏:‏ الإخبارْ المُؤكّدُ بأنَّ هذا الشيء يقع، ويقولُ هذه الكلمة‏.‏

الثاني‏:‏ أنْ يكون المعنى‏:‏ إنها كلمة لا تغنى أكثر من أَنَّه يقولها، ولا نفعَ له فيها ولا غَوْثَ الثالث‏:‏ أنْ يكون إشارةً إلى أَنَّهُ لو لو رُدَّ لعاد، والضمير في‏:‏ ‏{‏وَرَآئِهِم‏}‏ للكفار، والبرزخ في كلام العرب‏:‏ الحاجز بين المسافتين، ثَم يُسْتَعَارُ لما عدا ذلك، وهو هنا‏:‏ للمُدَّةِ التي بين موت الإنسان وبين بعثه؛ هذا، إجماعٌ من المفسرين‏.‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ قال ابن مسعود وغيرُه‏:‏ هذا عند النفخة الثانية وقيامِ الناس من القُبُورِ؛ فهم حينئذٍ لهول المَطْلَعِ واشتغال كل امرئ بنفسه قد انقطعت بينهم الوسائلُ، وزال انتفاعُ الأنساب؛ فلذلك نفاها سبحانه، والمعنى‏:‏ فلا أنسابَ نافعةٌ، ورُوِيَ عن قتادَة أَنَّهُ‏:‏ ليس أَحد أبغض إلى الإنسان في ذلك اليوم مِمَّن يَعْرِفُ، لأَنَّهُ يخاف أَنْ يكونَ له عنده مَظْلِمَةٌ، وفي ذلك اليوم يَفِرُّ المرء من أخيه؛ وأُمِّهِ وأبيه؛ وصاحبتِهِ وبَنِيْهِ، ويفرحُ كلُّ أحد يومئذٍ أنْ يكون له حَقُّ على ابنه وأبيه، وقد وَرَدَ بهذا حديثٌ، وكأنّ ارتفاع التساؤل لهذه الوجوه، ثم تأتي في القيامة مواطنُ يكون فيها السؤال والتعارف‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهذا التأويل حَسَنٌ، وهو مرويُّ المعنى عن ابن عباس، وذكر البزَّارُ من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِالْمِيزَانِ، فَيُؤْتَى بِابْنِ آدَمَ، فَيُوقَفُ بَيْنَ كَفَّتَيِ الْمِيزَانِ، فَإنْ ثَقُلَ مِيزانُهُ، نَادَى المَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمَعُ الخَلاَئِقَ‏:‏ سَعِدَ فُلاَنٌ سَعَادَةً لاَ يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَداً، وَإنْ خَفَّ مِيزَانُهُ، نَادَى المَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الخَلاَئِقَ‏:‏ شَقِيَ فُلاَنٌ شَقَاوَةً لاَ يَسْعَدُ بَعْدَهَا أبداً ‏"‏، انتهى من «العاقبة»‏.‏ وروى أبو داودَ في «سننه» عن عائشة رضي اللّه عنها أَنَّها ذَكَرَتِ النَّارَ فَبَكَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَا يُبْكِيكِ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ ذَكَرْتُ النَّارَ فَبَكَيْتُ، فَهَلْ تَذكُرُونَ أَهْلِيَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَمَّا في ثَلاَثَةِ مَوَاطِنَ، فَلاَ يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَداً، عِنْدَ الْمِيزَانِ حَتَّى يَعْلَم‏:‏ أَيِخِفُّ مِيزَانُهُ أَمْ يَثْقُلُ، وَعِنْدَ الكِتَابِ حَتَّى يَقُولَ‏:‏ ‏{‏هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَه‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 19‏]‏، حَتَّى يَعْلَمَ أَيْنَ يُعْطَى كِتَابَهُ‏:‏ أفِي يَمِينِهِ أَمْ فِي شَمَالِهِ، أَمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَعِنْدَ الصِّرَاطِ، إذَا وُضِعَ بَيْنَ ظَهْرَي جَهَنَّمَ ‏"‏

، انتهى‏.‏ ولفح النار‏:‏ إصابتها بالوهج والإحراق، والكلوح انكشافُ الشفتين عن الأسنان، وقد شبه ابنُ مسعود ما في الآية بما يعتري رؤوس الكِبَاشِ إذا شيطت بالنار؛ فإنَّها تكلح، ومنه كلوح الكلب والأسد‏.‏

قلت‏:‏ وفي «الترمذيِّ» عن أبي سعيد الخدريِّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَهُمْ فِيهَا كالحون‏}‏ قال‏:‏ تَشْوِيهِ النَّارُ، فَتَقْلُصُ شَفَتُهُ العُلْيَا حَتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأْسِهِ، وَتَسْتَرْخِي شَفَتُهُ السُّفْلَى حَتَّى تَضْرِبَ سُرَّتَهُ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ الحديث قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن صحيح غريب، انتهى‏.‏

وهذا هو المُعَوَّلُ عليه في فهم الآية، وأَمَّا قول البخاريِّ‏:‏ ‏{‏كالحون‏}‏ معناه‏:‏ عابسون فغيرُ ظاهر، ولَعَلَّهُ لم يقف على الحديث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 108‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ‏(‏105‏)‏ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ‏(‏106‏)‏ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ‏(‏107‏)‏ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ‏(‏108‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي‏}‏ أي‏:‏ يقال لهم، والآياتُ هنا القرآن، وقرأ حمزة‏:‏ «شَقَاوَتُنَا» ثم وقع جواب رغبتهِم بحسب ما حتمه اللّه من عذابهم بقوله‏:‏ ‏{‏اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ‏}‏ ويقال‏:‏ إنَّ هذه الكلمة إذا سمعُوها يئسوا من كل خير، فتنطبق عليهم جَهَنَّمُ، ويقع اليأسُ عافانا اللّه من عذابه بمنّه وكرمه-‏!‏

وقوله‏:‏ ‏{‏اخسئوا‏}‏ زجر، وهو مستعمل في زجر الكلاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 118‏]‏

‏{‏إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏109‏)‏ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ‏(‏110‏)‏ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏111‏)‏ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ‏(‏112‏)‏ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏114‏)‏ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ‏(‏115‏)‏ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ‏(‏116‏)‏ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ‏(‏117‏)‏ وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية الهاء في ‏{‏إنه‏}‏‏:‏ مُبْهَمَةٌ‏:‏ وهي ضمير الأمر والشأن، والفريقُ المُشَارُ إليه‏:‏ كُلُّ مُسْتَضْعَفٍ من المؤمنين يَتَّفِقُ أنْ تكون حالُه مع كُفَّارٍ مِثلَ هذه الحال، ونزلت الآية في كُفَّارِ قريشِ مع صُهَيْبٍ، وعَمَّار، وبلال، ونظرائهم، ثم هي عامة فيمَنْ جرى مجراهم قديماً وبقيةَ الدهر، وقرأ نافع وحمزة والكسائي‏:‏ «سُخْرِيّاً» بضم السين، والباقون بكسرها؛ فقيل هما بمعنى واحد؛ ذكر ذلك الطبريُّ‏.‏

وقال ذلك أبو زيد الأنصاريُّ‏:‏ إنهما بمعنى الهُزْءِ، وقال أبو عبيدَة وغيره‏:‏ إنَّ ضم السين من السخرة والاستخدام، وكسرها من السخر وهو الاستهزاء، ومعنى الاستهزاء هنا أليق؛ أَلاَ ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ‏}‏‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية قوله‏:‏ ‏{‏فِي الأرض‏}‏‏.‏

قال الطبريُّ معناه‏:‏ في الدنيا أحياءَ، وعن هذا وقع السؤال، ونَسُوا لفرط هول العذاب حَتَّى قالوا‏:‏ ‏{‏يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏، والغرضُ توقيفهم على أَنَّ أعمارهم قصيرة أَدَّاهُمُ الكُفْرُ فيها إلى عذاب طويل، عافانا اللّه من ذلك بِمَنِّهِ وكرمه‏!‏‏.‏

وقال الجمهور‏:‏ معناه‏:‏ كم لَبِثْتُمْ في جوف التراب أمواتاً‏؟‏ قال * ع *‏:‏ وهذا هو الأصوب من حيث أنكروا البعث‏.‏ وكان قولهم‏:‏ إنهم لا يقومون من التراب، وقوله آخراً‏:‏ ‏{‏وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ‏}‏ يقتضي ما قلناه‏.‏

قلت‏:‏ الآيات محتملة للمعنيين، واللّه أعلم بما أراد سبحانه؛ قال البخاريُّ‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَسْئَلِ العآدين‏}‏ أي‏:‏ الملائكة، انتهى‏.‏

* ص *‏:‏ قرأ الجمهور‏:‏ «العَادِّينَ»- بتشديد الدال- اسم فاعل من «عَدَّ»، وقرأ الحسن وفي رواية‏:‏ «العَادِينَ» بتخفيف الدال، أي‏:‏ الظَّلَمَةَ، و«إنْ» من قوله‏:‏ ‏{‏إِن لَّبِثْتُمْ‏}‏ نافيةٌ، أي‏:‏ ما لبثتم إلاَّ قليلاً، اه‏.‏ و‏{‏عَبَثاً‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ باطلاً، لغير غَايَةٍ مُرَادَةٍ، وخَرَّجَ أبو نُعَيْمٍ الحافظُ عن خش الصنعانيِّ عن ابن مسعود ‏"‏ أنه قرأ في أذن مبتلى‏:‏ ‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى آخر السورة، فأفاق فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما قرأتَ في أذنه‏؟‏ قال‏:‏ قرأت‏:‏ ‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى آخر السورة، فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ لَوْ أَنَّ رَجُلاً مُوقِناً قَرَأَهَا عَلَى جَبَلٍ لَزَال ‏"‏، انتهى، وخَرَّجَهُ ابن السُّنِّيُّ أيضاً، ذكره النووي‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَتَعَالَى الله الملك الحق‏}‏‏:‏ المعنى‏:‏ فتعالى اللّه عن مقالتهم في دعوى الشريك والصاحبة والولد، ثم تَوَعَّدُ سبحانه عَبَدَةَ الأوثان بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ‏}‏، وفي حرف عبد اللّه‏:‏ «عند ربك»، وفي حرف أُبَيِّ‏:‏ «عند اللّه» ثم أَمر تعالى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بالدعاء والذكر له فقال‏:‏ ‏{‏وَقُل رَّبِّ اغفر وارحم وَأنتَ خَيْرُ الراحمين‏}‏‏.‏

سورة النور

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏1‏)‏ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سُورَةٌ أنزلناها وفرضناها‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية معنى «فرضنا»‏.‏ أوجبنا وأثبتنا، وقال الثَّعْلَبِيُّ والواحِدِيُّ‏:‏ ‏{‏فرضناها‏}‏ أي‏:‏ أوجبنا ما فيها من الأحكامِ، انتهى، وقال البخاريُّ‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏سُورَةٌ أنزلناها‏}‏‏:‏ بَيَّنَّاها، انتهى‏.‏ وما تقدم أَبْيَنُ‏.‏

* ص *‏:‏ ‏{‏فَرَضْنَاهَا‏}‏ الجمهور‏:‏ بتخفيف الراء أي‏:‏ فرضنا أحكامها، وأبو عمرو وابن كثير‏:‏ بتشدِيْدِ الراء‏:‏ إما للمبَالَغَةِ في الإيجاب، وإما لأَنَّ فيها فرائضَ شَتَّى، انتهى، والآيات البَيِّنَاتُ‏:‏ أمثالُها ومواعِظُهَا وأحكامُها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية هذه الآية ناسخة لآية الحَبْسِ باتِّفاق، وحكم المُحْصَنِينَ منسوخٌ بآية الرجم والسُّنَّةِ المتواترة على ما تقدّم في سورة النساء، وقرأ الجمهور‏:‏ «رَأْفَةٌ» بهمزة ساكنة؛ من رَأَفَ إذا رَقَّ وَرَحِمَ، والرأفة المَنْهِيُّ عنها هي في إسقاط الحَدِّ، أي‏:‏ أقيموه ولا بُدَّ، وهذا تأويل ابنِ عمر وغيره‏.‏

وقال قتادة وغيره‏:‏ هي في تخفيف الضَّرْبِ عنِ الزُّنَاةِ، ومِنْ رأيهم أَنْ يُخَفَّفَ ضربُ الخمر، والفِرْيَةِ دون ضرب الزنا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين‏}‏ أي‏:‏ إغلاظاً على الزناة، وتوبيخاً لهم، ولا خلافَ أَنَّ الطائفة كُلَّمَا كَثُرَتْ فهو أليق بامتثال الأمر، واختلف في أَقَلِّ ما يجزِئ فقال الزُّهْرِيُّ‏:‏ الطائفة‏:‏ ثلاثةٌ فصاعداً، وقال عطاء‏:‏ لا بُدَّ من اثنين، وهذا هو مشهورُ قول مالك فرآها موضع شهادة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً‏}‏ مَقْصِدُ الآية تشنيعُ الزنا وتشنيع أمره، وأَنَّهُ مُحَرَّمٌ على المؤمنين ويريد بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَنكِحُ‏}‏ أي‏:‏ لا يَطَأُ، فالنكاح هنا بمعنى‏:‏ الجماع؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏‏.‏

وقد بَيَّنَهُ صلى الله عليه وسلم في الصحيح أَنَّه بمعنى الوطء، حيث قال‏:‏ ‏"‏ لا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ الحديث وتحتمل الآية وجوهاً هذا أحسنها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏4‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية نزلت بسبب القاذفين، وذكر تعالى في الآية‏:‏ قَذْفَ النساءِ من حيث هو أَهَمُّ وأبشعُ، وقذفُ الرجال داخلٌ في حكم الآية بالمعنى والإجماع على ذلك، و‏{‏المحصنات‏}‏ هنا‏:‏ العفائف، وشَدَّدَ تعالى على القاذف بأربعة شهداء؛ رحمةً بعباده، وستراً لهم، وحكم شهادة الأربعة أنْ تكونَ على معاينة مبالغة كالمِرْوَدِ في المَكْحَلَةِ في موطنٍ واحد، فإنِ اضطرب منهم واحد جُلِدَ الثلاثة، والجلد‏:‏ الضرب، ثم أمر تعالى‏:‏ أَلاَّ تُقْبَلَ للقَذَفَةِ المحدودين شهادةٌ أبداً، وهذا يقتضي مُدَّةَ أعمارهم، ثم حكم بفسقهم، ثم استثنى تعالى مَنْ تاب وأصلح من بعد القذف، فالاستثناء غيرُ عامل في جلده بإجماع، وعامل في فسقه بإجماع، واخْتُلِفَ في عمله في رَدِّ الشهادة، والجمهور أَنَّه عامل في رَدِّ الشهادة، فإذا تاب القاذف قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، ثم اختلفوا في صورة توبته، فقيل بأن يُكَذِّبَ نَفْسَه، وإلاَّ لم تُقْبَلُ وقالت فرقةٌ منها مالك‏:‏ توبته أن يَصْلُحَ وتَحْسُنَ حالُه‏.‏ وإنْ لم يرجع عن قوله بتكذيب واختلف فقهاءُ المالكيَّةِ متى تسقط شهادة القاذفِ فقال ابن الماجشون‏:‏ بنفس قَذَفِهِ، وقال ابن القاسم وغيره‏:‏ لا تَسْقُطُ حتى يُجْلَدَ، فإن مَنَعَ من جلده مانع عفو أو غيره لم تُرَدَّ شهادَتُه، قال اللَّخْمِيَّ‏:‏ شهادته في مدة الأجل للإثبات موقوفة، و‏{‏تَابُواْ‏}‏ معناه‏:‏ رجعوا، وقد رَجَّحَ الطبريُّ وغيرُهُ قولَ مالك، واخْتُلِفَ أَيضاً على القول بجواز شهادته، فقال مالك تجوزُ في كل شيء بإطلاق، وكذلك كُلُّ مَنْ حُدَّ في شيء‏.‏

وقال سحنون‏:‏ مَنْ حُدَّ في شيء فلا تجوز شهادته في مثل ما حُدَّ فيه، واتفقوا فيما أحفظ على ولد الزنا أَنَّ شهادته لا تجوزُ في الزنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 10‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏6‏)‏ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏7‏)‏ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏8‏)‏ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏9‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والذين يَرْمُونَ أزواجهم وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ لما رَمَى هلالُ بن أُمَيَّةَ الوَاقِفِيُّ زوجته بِشَرِيكِ بنِ سَحْمَاءَ عزم النبي صلى الله عليه وسلم على ضَرْبِهِ حَدَّ القَذْفِ؛ فَنَزَلَتْ هذه الآية حسبما هو مشروح في الصِّحَاحِ، فَجَمَعَهُمَا صلى الله عليه وسلم في الْمَسْجِدِ، وَتَلاَعَنَا، وجاء أَيضاً عُوَيْمِرُ العَجْلاَنِيُّ فرمى امرأته ولاعن، والمشهورُ‏:‏ أَنَّ نازلةَ هلالٍ قبلُ، وأَنَّها سَبَبُ الآية، والأزواج في هذه الآية‏:‏ يَعُمُّ المسلماتِ والكافرات والإماءِ؛ فكُلُّهن يُلاعِنُهُنَّ الزوجُ؛ للانتفاء من الحمل، وتختصُّ الحُرَّةُ بدفع حَدِّ القذف عن نفسها، وقرأ السبعة غيرَ نافعِ‏:‏ ‏{‏أَنَّ لَعْنَتَ‏}‏، و‏{‏أَنَّ غَضَبَ‏}‏ بتشديد «أَنَّ» فيهما ونَصْبِ اللعنة والغضب، والعذاب المُدْرَأَ في قول الجمهور‏:‏ هو الحَدُّ، وجُعِلَتْ اللعنة للرجل الكاذب؛ لأَنَّهُ مفترٍ مُبَاهِتٌ، فَأُبْعِدَ باللعنة، وجُعِلَ الغَضَبُ، الذي هو أَشَدُّ على المرأة التي باشرت المعصية بالفعل ثم كذبت وباهتت بالقول، والله أعلم، وأجمع مالك وأصحابه على وجوب اللعان بادِّعاء الرؤية زناً لا وطئاً من الزوج بعده، وذلك مشهور المذهب‏.‏

وقال مالك‏:‏ إنَّ اللعان يجب بنفي حمل يُدَّعَى قبله استبراءٌ والمُسْتَحَبُّ من ألفاظ اللعان أنْ يمشي مع ترتيب القرآن ولفظه، فيقول الزوج‏:‏ أشهد بالله لرأيتُ هذه المرأة تزني، وإنِّي في ذلك لمن الصادقين، ثم يقول في الخامسة‏:‏ أَنَّ لعنة الله علي إنْ كنتُ من الكاذبين، وأَمَّا في لعان نفي الحمل فيقول‏:‏ ما هذا الولدُ مِنِّي، وتقول المرأة‏:‏ أشهدُ بالله ما زنيتُ، وأَنَّهُ في ذلك لمن الكاذبين، ثم تقول‏:‏ غَضِبَ الله عَلَيَّ إنْ كان من الصادقين، فإنْ مَنَعَ جَهْلُهُمَا من ترتيب هذه الألفاظ، وأتيا بما في معناها أجزأ ذلك، ومشهور المذهب‏:‏ أَنَّ نفسَ تمام اللعان بينهما فُرْقَةٌ، ولا يحتاج معها إلى تفريق حاكم، وتحريم اللعان أَبَدِيٌّ باتفاق فيما أحفظ من مذهب مالك، وجواب ‏{‏لَوْلاَ‏}‏ محذوف تقديره‏:‏ لكشف الزناةَ بأيسر من هذا، أو لأخذهم بعقابه ونحو هذا‏.‏