فصل: تفسير الآيات رقم (16- 22)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 22‏]‏

‏{‏تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏16‏)‏ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏17‏)‏ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ‏(‏18‏)‏ أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏20‏)‏ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، تَجافَى الجنبُ عن موضِعِه إذا تَرَكه قال الزجاج وغيره‏:‏ التَّجافِي التَّنَحِّي إلى فوق‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهذا قول حسن، والجنوبُ جَمْعُ جَنْبٍ، والمضاجِعُ مَوْضِع الاضْطجَاع للنوم‏.‏

* ت *‏:‏ وقال الهرَوِيُّ‏:‏ ‏{‏تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع‏}‏ أي‏:‏ ترتفعُ وتَتَباعَدُ والجَفاء بَيْن النَّاسِ هُو التَّبَاعُدُ، انتهى‏.‏ وَرَوَى البُخَاري بسنَدِهِ عن أبي هريرة أن عَبدَ اللّه بن رَوَاحَةَ رَضِيَ اللّه عنه قَالَ‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وَفِينَا رَسُولُ اللّهِ يَتلُو كِتَابَه *** إذَا انشق مَعْرُوفٌ مِنَ الفَجْرِ سَاطِعُ

أَرَانَا الهدى بَعْدَ العمى فَقُلُوبُنَا *** بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ

يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ *** إذَا استثقلت بِالْكَافِرِينَ المَضَاجِعُ

انتهى‏.‏ وجمهور المفسرين‏:‏ على أن المرادَ بهذا التجافي صلاةُ النوافلِ بالليلِ‏.‏

قال * ع *‏:‏ وعلى هذا التأويل أكثَرُ الناسِ، وهو الذي فيه المدحُ وفيه أحاديثُ عن النبي صلى الله عليه وسلم يَذكر عليه السلام قِيامَ الليل؛ ثم يستشهدُ بالآية؛ ففي حديثِ معاذٍ ‏"‏ أَلاَ أَدُلُّكَ على أَبْوَابِ الخَيْرِ‏:‏ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئ الخَطِيئَةَ كَمَا تُطْفِئ المَاءُ النَّارَ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، ثم قَرَأ ‏{‏تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع‏}‏، حَتَّى بَلَغَ ‏{‏يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏"‏ رَواه الترمذي، وقال‏:‏ حديث حسن صحيح؛ ورَجَّحَ الزَّجَاجُ ما قاله الجمهور بأنهم‏:‏ جُوزُوا بإخفاءٍ، فَدَلَّ ذلك على أن العَمَلَ إخْفَاءٌ أيضاً، وهو قيامُ الليل ‏{‏يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً‏}‏ أي‏:‏ من عذابه ‏{‏وَطَمَعاً‏}‏، أي‏:‏ في ثوابه‏.‏

قال * ص *‏:‏ ‏{‏تتجافى‏}‏ أَعربه أبو البقاء‏:‏ حالاً، و‏{‏يَدْعُونَ‏}‏‏:‏ حالٌ أو مُسْتَأنَفٌ و‏{‏خَوْفاً وطَمَعاً‏}‏‏:‏ مَفْعُولاَن من أجله أو مصدران في موضع الحال؛ انتهى‏.‏ وفي الترمذي عن معاذ بن جَبَلٍ قال‏:‏ قلتُ‏:‏ يَار رَسُولَ اللّهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ، وَيُبَاعِدُنِي عَنِ النَّارِ، قَالَ‏:‏ ‏"‏ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإنَّهُ لَيَسِيرٌ على مَنْ يَسَّرَهُ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ؛ تَعْبُدُ اللّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رمضَانَ، وتَحُجُّ البَيْتَ، ثمَّ قَالَ‏:‏ أَلاَ أَدُلُّكَ على أَبْوَابِ الخَيْرِ‏؟‏ الصَّوْمُ جِنَّةٌ، والصَّدَقَةُ تُطْفِئ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئ المَاءُ النَّارَ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، ثم تَلاَ‏:‏ ‏{‏تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع‏}‏ حَتَّى بَلَغَ ‏{‏يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏ ثم قال‏:‏ أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْر وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ بلى، يَا رَسُولَ اللّهِ‏.‏ قال‏:‏ رَأْسُ الأَمْرِ الإسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ بلى يَا رَسُولَ اللّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، وَقَالَ‏:‏ كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا‏.‏ قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللّهِ، وَإنَّا لَمُؤَاخِذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ به‏؟‏ا فَقَالَ‏:‏ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبَّ النَّاسَ فِي النَّارِ على وُجُوهِهِمْ إلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ‏؟‏‏!‏ ‏"‏ قال الترمذيُّ‏:‏ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ انتهى‏.‏

وقرأ حمزةُ وحده‏:‏ «أُخْفِيْ» بسكون الياء كأنه قال‏:‏ أُخْفِيْ أَنَا‏.‏

وقرأ الجمهور «أُخْفِيَ» بفتح الياء، وفي معنى هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ قال اللّه- عز وجل-‏:‏ أعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ ذُخْراً بَلْهَ مَا اطلعتم عَلَيْهِ، واقرءوا إنْ شِئْتُمْ‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏"‏ انتهى‏.‏

قال القرطبيُّ في «تذكرته»‏:‏ «وبَلْهَ» معناه‏:‏ غَيْر، وقيل‏:‏ هو اسم فِعْلٍ بمعنى دَعْ، وهذا الحديث خَرَّجَه البخاري، وغيره‏.‏

* ت *‏:‏ وفي رواية للبخاري قال أبو هريرة‏:‏ واقرءوا إنْ شِئْتُمْ‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن مسعودٍ‏:‏ في التوراة مكتوبٌ «عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ»، وباقي الآية بَيِّن؛ والضمير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنُذِيقَنَّهُمْ‏}‏ لكفار قريش، ولا خلافَ أن العذابَ الأكبرَ هو عذابُ الآخرةِ، واخْتُلِفَ في تَعْيين العذاب الأَدْنَى؛ فقيل هو السنون التي أجاعَهم اللّه فيها، وقيل هو مصائبُ الدنيا من الأمراض؛ ونحوها، وقيل هو القَتْل بالسَّيْف كَبَدْرِ وغيرها‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ‏}‏ ظاهر الإجرام هنا أنه الكفر، وروى معاذ بن جبل عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏"‏ ثَلاَثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ، فَقَدْ أَجْرَمَ‏:‏ مَنْ عَقَدَ لِوَاءً فِي غَيْرِ حَقٍّ، وَمَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ، وَمَنْ نَصَرَ ظَالِماً ‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 25‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏23‏)‏ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ‏(‏24‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الكتاب فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ‏}‏ اخْتُلِفَ فِي الضمير الذي في ‏{‏لِّقَائِهِ‏}‏ على من يعود‏؟‏ فقال قتادة وغيره‏:‏ يعود على موسى، والمعنى‏:‏ فلا تكن يا محمد، في شك من أنك تلقى موسى، أي‏:‏ في ليلة الإسراء، وهذا قول جماعة من السلف، وقالت فرقة‏:‏ الضميرُ‏:‏ عائد على الكتابِ، أي‏:‏ فلا تكن في شك من لقاء موسى للكتاب‏.‏

* ص *‏:‏ وقيل‏:‏ يعود على الكتابِ على تقدير مُضْمَرٍ، أي‏:‏ من لقاء مثله، أي‏:‏ أتيناك مثلَ مَا آتينا موسى، والتأويل الأول هو الظاهر، انتهى‏.‏ والمِرْيَةُ‏:‏ الشَّكُّ، والضميرُ فِي جَعَلْنَاهُ‏:‏ يُحْتَمَلُ أَنْ يعودَ على الكتابِ أو على موسى؛ قاله قتادة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ‏}‏، حُكْم يَعُمّ جميعَ الخلق، وذهب بعضهم إلى تخصيص الضمير وذلك ضعيف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 30‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ ‏(‏26‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ‏(‏27‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏28‏)‏ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏29‏)‏ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَهْدِ‏}‏ معناه يُبَيِّنْ؛ قاله ابن عباس، والفاعل ب ‏{‏يَهْدِ‏}‏ هو اللّه؛ في قول فرقة، والرسولُ؛ في قول فرقة، وقرأ أبو عبد الرحمن‏:‏ «نهد» بالنون وهي قراءة الحَسَنْ وقتادة، فالفاعلُ اللّهُ تعالى، والضميرُ في ‏{‏يَمْشُونَ‏}‏ يُحْتَمَلُ أن يكونَ للمخاطَبِينَ أو للمُهْلَكِينَ، و‏{‏الجرز‏}‏‏:‏ الأرض العاطِشَةُ التي قد أكلت نباتها من العطشِ والقيظِ؛ ومنه قيل للأكول جَرُوزٌ‏.‏ وقال ابن عباس وغيره‏:‏ ‏{‏الأرض الجرز‏}‏‏:‏ أرض أبين من اليمن وهي أرض تشرب بسيولٍ لا بِمَطَرٍ، وفي «البخاري»‏:‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏الجرز‏}‏‏:‏ التي لم تُمْطَرْ إلا مَطَراً لاَ يُغْنِي عنها شَيْئاً‏.‏ انتهى‏.‏

ثم حكى سبحانه عن الكفرةِ أنهم يَسْتَفْتِحُونَ؛ ويستعجلون فَصْلَ القضاءِ بينهم وبين الرُّسُلِ على معنى الهُزْءِ‏.‏ والتكذيب، و‏{‏الفتحُ‏}‏‏:‏ الحُكْمُ، هذا قول جماعةٍ من المفسرينَ، وهو أقوى الأقوال‏.‏

قال مجاهد و‏{‏الفتح‏}‏ هنا هو حُكْم الآخرة‏.‏ ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بالإعراض عن الكفرةِ وانْتِظَار الفَرَجِ، وهذا مما نَسَخَتْه آية السَّيْفِ‏.‏

وقولُه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ العذابَ بمعنى هذا حُكْمُهُمْ وإن كانوا لا يَشْعُرونَ‏.‏

سورة الأحزاب

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏1‏)‏ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏2‏)‏ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏3‏)‏ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ‏(‏4‏)‏ ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها النبي اتق الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏اتق‏}‏ معناه‏:‏ دُمْ على التَّقْوَى، ومتى أُمر أحدُ بشيء وهو به مُتَلَبِّسٌ؛ فإنما معناه الدوامُ في المستقبلِ على مثل الحالةَ الماضِيةَ‏.‏ وحذره تعالى من طاعة الكافرين والمنافقين تنبيهاً على عداوتِهم، وأَلاَّ يَطْمَئِنَّ إلى ما يُبْدُونَه من نَصَائِحِهم‏.‏ والباء في قوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله‏}‏ زائدةٌ على مذهب سِيبَوَيْهِ، وكأنه قال وكفى اللّه، وغيرُهُ يَرَاهَا غَيْرَ زائدةٍ متعلقَة ب «كفى» على أنه بمعنى‏:‏ اكتف باللّه‏.‏ واختلف في السبب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ‏}‏ فقال ابن عباس‏:‏ سببُهَا أن بعضَ المنافقينَ قَال‏:‏ إن محمداً له قلبَانِ، وقيل غير هذا‏.‏

قال * ع *‏:‏ ويظهَرُ مِنْ الآية بِجُمْلَتِهَا أنَّها نَفيٌ لأشْيَاءَ كانت العربُ تعتقِدُها في ذلك الوقتِ، وإعلام بحقيقةِ الأمرِ، فمنها أن العربَ كانتْ تَقُول‏:‏ إن الإنسانَ له قلبٌ يأمره، وقلب ينهاه، وكان تضادُّ الخواطِر يحملُها على ذلك، وكذلك كانت العربُ تعتقد الزوجة إذا ظاهر منها بمنزلة الأم، وتراه طلاقاً، وكانت تعتقد الدَّعِيَّ المُتَبَنَّى ابْناً، فَنَفَى اللّه ما اعتقدوه من ذلك‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ‏}‏ سببُها أمرُ زيد بن حارثة كانوا يَدْعُونَه‏:‏ زيدَ بن مَحَمدٍ و‏{‏السبيل‏}‏ هنا سبيلُ الشرع والإيمان‏.‏ ثم أمر تعالى في هذه الآية بدعاء الأدعياء لآبائهم، أي‏:‏ إلى آبائهم للصُّلْبِ، فمن جُهل ذلك فيه؛ كان مولىً وأَخاً في الدين، فقال الناسُ زيد بن حارثة وسالم مولى أبي حذيفة، إلى غير ذلك و‏{‏أَقْسَطُ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ أعدل‏.‏

وقوله عزَّ وجل‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ رَفَعَ الحرجَ عَمَّنْ وَهِمَ وَنَسِيَ وأخْطَأَ، فَجَرَى على العَادَةِ من نسبة زيدٍ إلى محمدٍ، وغير ذلك‏.‏ مما يشبهه، وأبقى الجناح في المُتَعَمِّدِ، والخطأُ مرفوعٌ عَنْ هذهِ الأمة عقابُه؛ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسْيَانُ وَمَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ ‏"‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ مَا أخشى عَلَيْكُمُ الخَطَأَ وَإنَّمَا أَخْشَى العَمْدُ ‏"‏‏.‏ قال السُّهَيْلِيُّ‏:‏ ولَمَّا نزلت الآيةُ وامتثَلَهَا زيدُ فقال‏:‏ أنا زيد بن حارثة؛ جَبَرَ اللّه وَحْشَتَهُ وشَرَّفَه بأن سَمَّاه باسْمِه في القرآن فقال‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏ ومَنْ ذَكَرَهُ سبحَانه باسْمِه في الذِّكْرِ الحكيم، حتى صَار اسمُه قرآناً يتلى في المحاريبِ، فقد نَوَّه بهِ غَايَةَ التَّنْوِيهِ، فَكَانَ فِي هذا تأنيسٌ له وَعِوَضٌ مِن الفَخْرِ بَأُبُوَّةِ سيِّدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم له؛ أَلاَ ترى إلى قول أُبي بن كعب حين قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنَّ اللّهَ تعالى أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ سُورَةَ كَذَا، فبكى أُبَيٌّ وَقَالَ‏:‏ أَوَ ذُكِرْتُ هُنَالِكَ ‏"‏، وكان بكاؤه من الفرح حِينَ أخْبِرَ أن اللّه تعالى ذَكَرَهُ؛ فكَيْفَ بمَنْ صَار اسمُه قرآناً يتلى مخَلَّداً لا يَبِيدُ، يتلُوهُ أهْلُ الدُّنْيَا إذا قرؤوا القرآن، وأهْل الجَنَّةِ كذلِكَ فِي الجِنَانِ، ثم زَادَهُ فِي الآية غَايةَ الإحْسَانِ أنْ قال‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏ يعني بالإيمان؛ فدلَّ على أنه عند اللّه من أهل الجِنَانِ، وهذه فضيلةٌ أخرى هي غايةُ منتهى أمنية الأنْسَان، انتهى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ أزالَ اللّه بهذه الآية أحكاماً كانت في صدر الإسلام منها أن النّبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين، فذَكَرَ اللّهُ تعالى؛ أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فجمع هذا أن المؤمن يلزم أن يُحِبَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أكثرَ من نَفسِهِ، حَسَبَ حديثِ عمر بن الخطاب، ويلزمُ أن يَمْتَثِلَ أوامرَهُ، أحبت نفسُهُ ذلك أو كرِهَتْ، وَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية‏:‏ ‏"‏ أَنَاْ أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ مِنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنَاً أَوْ ضِيَاعاً فإلَيَّ وَعَلَيَّ، أَنا وَلِيُّهُ، اقرءوا إنْ شِئْتُم‏:‏ ‏{‏النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏"‏‏.‏ * ت *‏:‏ ولفظ البخاريِّ من رواية أبي هريرةَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلاَّ وَأَنَا أولى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اقرءوا إنْ شِئْتُمْ‏:‏ ‏{‏النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالاً فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا، فَإنْ تَرَكَ دَيْناً أَوْ ضِيَاعاً، فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلاَهِ ‏"‏‏.‏ قال ابن العربيِّ‏:‏ في «أحكامه»‏:‏ فهذا الحديث هو تفسير الولاية في هذه الآية‏.‏ انتهى‏.‏

قال * ع *‏:‏ وقال بعض العارفين‏:‏ هو صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ لأنَّ أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، وهو يدوعهم إلى النجاة‏.‏

قال * ع *‏:‏ ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُون فِيهَا تَقَحَّمَ الفَرَاشِ ‏"‏‏.‏ قال عياض في «الشفا»‏:‏ قال أهل التفسير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ ما أنفذه فيهم من أمر؛ فهو ماضٍ عليهم؛ كما يمضي حكمُ السيد على عبده، وقيل اتباع أمره أولى من اتباع رأي النفس‏.‏ انتهى، وشَرَّفَ تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهاتِ المُؤْمِنِينَ في المَبَرَّةِ وحُرْمَةِ النِّكَاحِ، وفي مصحف أُبَيّ بن كعبٍ‏:‏ «وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ» وقرأ ابن عباس «مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ» ووافقه أُبَيٌّ على ذلك‏.‏ ثم حكم تعالى‏:‏ بَأَن أُولى الأرْحَامِ بَعْضُهم أولى ببعض في التوارُث، مما كانت الشريعة قررته من التوارث بأخوه الإسلام، و‏{‏فِي كتاب الله‏}‏ يُحْتَمَلُ أَن يُرِيْدَ القُرْآن أو اللوح المحفوظ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مِنَ المؤمنين‏}‏ متعلق ب ‏{‏أَوْلى‏}‏ الثانية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إلى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً‏}‏ يريدُ الأحسانَ في الحياةِ والصِّلَة والوَصِيَّةِ عند الموتِ و«الكتابُ المسطورُ»‏:‏ يحتَمِلُ الوجْهَين اللذين ذكرنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏7‏)‏ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين ميثاقهم‏}‏ المعنى واذكر إذ أخذنا من النبيين، وهذا الميثاق‏.‏

قال الزجاج وغيره‏:‏ إنه الذي أخذ عليهم وَقْتَ استخراج البَشَرِ من صلب آدم‏.‏ كالذر، بالتبليغ وبجميعِ ما تَضَمَّنَتْهُ النبوَّة‏.‏ وروي نحوُه عَنْ أُبَيِّ بْنُ كعب‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ بل أشار إلى أَخذ الميثاقِ عليهم وَقْتَ بَعْثِهِم وإلقاءِ الرسالة إليهم، وذكر تَعَالَى النبيينَ جملةً، ثم خَصَّصَ أولِي العَزْمِ منهم تشريفاً لهم، واللام في قوله ‏{‏لِّيَسْئَلَ‏}‏ يحتمل أن تَكونَ لاَم كَي، أو لامَ الصَّيْرُورَة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 12‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ‏(‏9‏)‏ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ‏(‏10‏)‏ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ‏(‏11‏)‏ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيات إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها النبي قُل لأزواجك‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 28‏]‏ نزلتْ في شأنِ غزوةِ الخندقِ، وما اتَّصَلَ بها مِن أمر بني قُرَيْظَةَ، وذلك أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم أجلى بَنِي النَّضِيرِ مِنْ مَوْضِعِهِمْ عِنْدَ المَدِينَةِ إلى خَيْبَر، فاجْتَمَعَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ اليَهُودِ، وَخَرَجُوا إلى مَكَّةَ مُسْتَنْهِضِينَ قُرَيْشاً إلى حَرْبِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَسَّرُوهُمْ على ذَلِكَ، وَأَزْمَعَتْ قُرَيْشُ السَّيْرَ إلَى المَدِينَةِ، وَنَهَضَ اليَهُودُ إلى غَطَفَانَ، وبَنِي أَسَدٍ، وَمَنْ أَمْكَنَهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ وتِهَامَةَ، فاستنفروهم إلى ذَلِكَ وَتَحَزَّبُوا وَسَارُوا إلَى المَدِينَةِ، واتصل خَبَرُهُمْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَحَفَرَ الخَنْدَقَ حَوْلَ المَدِينَةِ، وَحَصَّنَهَا، فَوَرَدَتِ الأحْزَابُ، وحَصَرُوا المدينةَ، وذلك في شَوَّال سنة خمسٍ، وقيل‏:‏ أرْبَعٍ مِن الهجرةِ، وكانت قريظة قَدْ عَاهَدُوا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وعَاقدوه أَلاَّ يَلْحَقَهُ منهم ضَرَرٌ، فلمَّا تمكَّن ذلك الحِصَارُ، ودَاخَلَهم بَنُو النضيرِ غَدَرُوا رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم وَنَقَضُوا عهده، وضاق الحال على المؤمنين، ونَجَمَ النفاقُ وساءَت ظُنُون قَوْمٍ، ورسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم مع ذلك يُبَشِّرُ وَيَعِدُ النَّصْرَ، فألقَى اللّه عز وجل الرُّعْبَ في قُلوب الكافرينَ، وتخاذلوا ويَئِسوا من الظَّفْرِ، وأرسل اللّه عليهم ريحاً وهي الصَّبَا، وملائكةً تُسَدِّدُ الرِّيحَ، وتفعل نحو فعلها، وتُلْقِي الرُّعْبَ في قلوب الكفرةِ، وهي الجنودُ التي لَم تُرَ، فارتَحَلَ الكَفَرَةُ وانقلبوا خائبين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ جَاءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ‏}‏ يريد‏:‏ أهل نَجْدٍ مع عيينة بن حِصْن ‏{‏وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ‏}‏‏:‏ يريد أهل مكة وسائر تِهَامَة قاله مجاهد‏:‏ ‏{‏وَزَاغَتِ الأبصار‏}‏ معناه مَالَتْ عن مواضِعَها وذلك فِعْلُ الوالِه الفزِع المُخْتَبِلِ‏.‏ ‏{‏وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر‏}‏ عبارة عَمّا يَجِدُهُ الهَلِعُ من ثَوَرَانِ نَفْسِه وتفرقها ويجد كأَنَّ حُشْوَتَهُ وَقَلْبَهُ يَصَّعَّدُ عُلُوّاً، وَرَوَى أبو سعيد أن الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا يَوْمَ الخَنْدَق‏:‏ يَا نَبِيَّ اللّه، بَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ؛ فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ؛ قُولُوا‏:‏ «اللَّهُمَّ، استر عَوْرَاتِنَا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا» فَقَالُوهَا؛ فَضَرَبَ اللّهُ وُجُوهَ الكُفَّارِ بِالرِّيحِ فَهَزَمَهُمْ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ عبارةٌ عن خواطر خطرَتْ للمؤمنين لا يمكن البشرَ دفعُها، وأما المنافِقونَ فنَطَقُوا، ونَجَمَ نفاقُهم‏.‏ و‏{‏ابتلي المؤمنون‏}‏ معناه‏:‏ اخْتُبِرُوا ‏{‏وَزُلْزِلُواْ‏}‏‏:‏ مَعْنَاه‏:‏ حُرِّكُوا بعنف‏.‏ ثم ذكر تعالى قول المنافقين والمَرْضَى القلوبِ؛ على جِهَةِ الذَّمِّ لَهُمْ ‏{‏مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً‏}‏ فَرُوِيَ عَنْ يزِيدَ بْنِ رُومَانَ أن مُعَتِّبَ بن قُشَيْرٍ قال‏:‏ يَعِدُنَا مُحَمَّدٌ أن نَفْتَتِحَ كنوز كِسْرَى وقيصر ومكة؛ ونحن الآن لا يقدر أحدنا أن يذهب إلى الغائط؛ ما يعدنا إلا غروراً، وقال غيره من المنافقين نحو هذا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 21‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ‏(‏13‏)‏ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ‏(‏14‏)‏ وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ‏(‏15‏)‏ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏16‏)‏ قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏17‏)‏ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏18‏)‏ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏19‏)‏ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏20‏)‏ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ من المنافقين ‏{‏لاَ مُقَامَ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لا موضعَ قيام ومُمَانَعة، فارْجِعوا إلى منازِلكم وبيوتِكم، وكان هذا على جِهَة التخذيل عن رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم، والفريقُ المتسأذِنُ هو أوسُ بن قيظي؛ استأذنَ في ذلك على اتِّفَاقِ من أصحابهِ المنافقين؛ فقالَ‏:‏ ‏{‏إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ‏}‏ أيْ‏:‏ مُنْكَشِفَة للعدو فأكذَبَهم اللّه- تعالى- ولو دخلت المدينة ‏{‏مِّنْ أَقْطَارِهَا‏}‏ أي‏:‏ من نواحيها، واشتد الخوف الحقيقي، ثم سُئِلوا الفتنةَ والحَرْبَ لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه لبادروا إليها وآتوها محبين فيها ولم يَتَلَبَّثُوا في بُيوتهم لحفظها إلاَّ يسيراً‏.‏

قيل‏:‏ قَدْرَ ما يأخذون سلاحَهم‏.‏ ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قد كانوا عاهدوا اللّه إثْر أُحُدٍ لاَ يُولُّونَ الأدْبَارَ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْؤُولاً‏}‏ تَوَعُّدٌ وباقي الآية بَيِّن‏.‏ ثم وبَّخَهُمْ بقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ‏}‏ وهم الذين يُعَوِّقُونَ الناسَ عن نُصْرة الرسولِ ويمنعونهم بالأقوال والأفعال من ذلك ويَسْعَوْنَ على الدين، وأما القائلون لإخوانهم هَلُمَّ إلينا فقال ابن زيد وغيره‏:‏ أراد من كان من المنافقين يقول لإخوانه في النَّسَب وقَرَابته هلُم، أَي‏:‏ إلى المنَازِل والأكل والشربِ، واترك القتالَ‏.‏ ورُوِيَ‏:‏ أَنَّ جماعةً فَعَلَتْ ذلك وأصلُ ‏{‏هَلُمَّ‏}‏‏:‏ ها المم‏.‏ وهذا مِثْلُ تعليل «رَدَّ» من «ارْدُدْ» والبأسُ‏:‏ القتالُ‏:‏ و‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ معناه إلا إتياناً قليلاً، و‏{‏أَشِحَّةً‏}‏ جمع شَحِيحٍ والصَّوَابِ تَعْمِيمُ الشُّحِّ أنْ يكون بِكُلّ ما فيه للمؤمنين منفعة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ الخوف‏}‏ قيل‏:‏ معناه‏:‏ فإذا قوي الخوفُ رأيتَ هؤلاءِ المنَافقين ينظرونَ إليك نَظَرَ الهَلِعِ المُخْتَلِطِ؛ الذي يُغْشَى عَليه، فإذا ذهب ذلك الخوفُ العظيمُ وَتَنَفَّسَ المختَنِقُ‏:‏ ‏{‏سَلَقُوكُم‏}‏ أي‏:‏ خاطبوكم مخاطبة بليغة، يقال‏:‏ خطيب سَلاَّقٌ ومِسْلاَقٌ ومِسْلَقٌ ولِسَان أيضاً كذلك إذا كان فصيحاً مقتدراً ووصف الألسِنة بالحدّة لقَطْعِها المعاني ونفوذِها في الأقوال، قالت فرقةٌ‏:‏ وهذا السَّلْقُ هو في مخادعةِ المؤمنِين بما يُرْضيهِم من القول على جهة المصانعة والمخاتلة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَشِحَّةً‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏سَلَقُوكُم‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عَلَى الخير‏}‏ يدل على عموم الشح في قوله أولاً‏:‏ ‏{‏أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ‏}‏ وقيل‏:‏ المراد بالخير‏:‏ المال، أي‏:‏ أشحة على مال الغنائِم، واللّه أعلم‏.‏ ثم أخبرَ تعالى عنهم أنهم لم يؤمنوا، وجمهورُ المفسرينَ على أن هذه الإشارةَ إلى منافقينَ لم يكن لهم قط إيمان، ويكونُ قولهُ‏:‏ ‏{‏فَأَحْبَطَ الله أعمالهم‏}‏ أي‏:‏ أنها لم تُقْبَل قط، والإشارة بذلك في قوله ‏{‏وَكَانَ ذلك‏}‏ إلى حبط أعمال هؤلاء المنافقين، والضميرُ في قوله‏:‏ ‏{‏يَحْسَبُونَ الأحزاب‏}‏ للمنافقين، والمعنى‏:‏ أنهم من الفزع والجزع بحيثُ رَحَلَ الأحزابُ وهزمهَم اللّه تعالى، وهؤلاء يظنون أنها من الخُدَعِ؛ وأنَّهم لم يَذْهَبوا، ‏{‏وَإِن يَأْتِ الأحزاب‏}‏، أي‏:‏ يرجعوا إليهم كرةً ثانية ‏{‏يَوَدُّواْ‏}‏ من الخوف والجبن ‏{‏لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ‏}‏ أي‏:‏ خارجون إلى البادية‏.‏

‏{‏فِي الأعراب‏}‏ وهم أهل العَمُودِ لِيَسْلَمُوا من القتال‏.‏ ‏{‏يَسْأَلُونَ‏}‏ أي من وَرَدَ عليهم‏.‏ ثم سَلَّى سبحانه عَنْهُم وحَقَّر شَأْنَهُم بِأَنْ أخْبَرَ أنهمْ لَو حَضَرُوا لَمَا أَغْنَوا وَلَمَا قَاتَلُوا إلا قِتَالاً قَلِيلاً؛ لا نفعَ لَه‏.‏ ثُم قال تعالى على جهة الموعظة‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏ حين صَبَرَ وجَادَ بنفسهِ، و‏{‏أُسْوَةٌ‏}‏ معناه قُدْوَة، وَرَجَاءُ اللّه تَابع للمَعْرِفة به ورجاء اليومِ الآخر؛ ثمرة العمل الصالح، وذكرُ اللّه كثيراً من خَير الأعمال فَنَبَّه عليه‏.‏

* ت *‏:‏ وعن أبي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إنَّ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ‏:‏ أَنا مَعَ عَبْدِي إذَا هُوَ ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ ‏"‏ رواه ابن ماجه، واللفظ له وابن حِبَّانَ في «صحيحه» ورواه الحاكم في «المستدرك» من حديث أبي الدرداء‏.‏

وروى جابرُ بن عبد اللّه؛ قال‏:‏ خرج علينا النبيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ ياأيها النَّاسُ، إن لِلَّهِ سَرَايا مِنَ المَلاَئِكَةِ تَحُلُّ وَتَقِفُ على مَجَالِسِ الذِّكْرِ فِي الأَرْضِ، فارتعوا فِي رِيَاضِ الجَنَّةِ، قَالُوا‏:‏ وأَيْن رِيَاضُ الجَنَّةِ يَا رَسُولَ اللّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَجَالِسُ الذِّكْرِ؛ فاغدوا وَرُوحُوا فِي ذِكْرِ اللّهِ؛ وذَكِّرُوهُ أنْفُسَكُمْ مَنْ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللّهِ؛ فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ مَنْزِلَةُ اللّهِ عِنْدَهُ؛ فَإنَّ اللّهَ يُنْزِلُ العَبْدَ مِنْهُ، حَيثُ أَنْزَلَهُ مِنْ نَفْسِهِ ‏"‏ رواه الحاكم في «المستدرك» وقال‏:‏ صحيحُ الإسناد‏.‏

وعن معاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ‏:‏ سَأَلْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إلَى اللّهِ تعالى‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللّهِ ‏"‏ رواه ابن حِبَّانَ في «صحيحه»، انتهى من «السِّلاَحِ»‏.‏ ولَولاَ خشيةُ الإطالةِ، لأتَيْتُ في هذا الباب بأحاديثَ كَثِيرَةٍ، وروى ابنُ المُبَاركَ في «رقائِقه» قال أخبرنا سُفْيانُ ابن عيينة عن ابن أبي نجِيحٍ عن مجاهدٍ قَالَ‏:‏ لاَ يَكُونُ الرَّجُلُ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللّهَ كَثِيراً والذَّاكرَاتِ؛ حَتَّى يَذْكُرَ اللّهَ قَائِماً وَقَاعِداً وَمُضْطَجِعاً، انتَهى‏.‏ وفي «مصحف ابن مسعود» «يَحْسَبُونَ الأحزاب قَدْ ذَهَبُواْ فَإِذَا وَجَدُوهُمْ لَمْ يَذْهَبُوا وَدُّوا أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعراب»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 25‏]‏

‏{‏وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ‏(‏22‏)‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ‏(‏23‏)‏ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏24‏)‏ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ قالت فرقة‏:‏ لما أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بحفر الخندقِ أعلمهم بأنهم سَيُحْصَرَون، وأمرهم بالاستعدادِ لذلك، وأعْلمهم بأنهم سَيُنْصَرُوْنَ بعد ذلك فلما رأوا الأحزاب‏:‏ ‏{‏قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ‏}‏ الآية، وقالت فرقة‏:‏ أرادوا بوعد اللّه ما نَزَل في سورة البقرة من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم‏}‏ إلى قوله ‏{‏قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏‏.‏

قال * ع *‏:‏ وَيُحْتَمَلُ أنهم أرادوا جميعَ ذلك‏.‏ ثم أثنى سُبحانه على رجالٍ عَاهدوا اللّه على الاسْتِقَامَةِ فَوَفَّوْا، وَقَضَوْا نَحْبُهُمْ، أي‏:‏ نَذْرَهُمْ، وَعَهَدَهُمْ، «والنَّحْبُ» فِي كَلاَمِ العَرَبِ‏:‏ النَّذْرُ والشَّيءُ الذي يلتزمُهُ الإنسان، وقَد يُسَمَّى المَوْتُ نَحْباً، وبهِ فسَّر ابن عبَّاس وغيرُه هذه الآيةَ، ويقال للذي جاهد في أمرٍ حتى ماتَ‏:‏ قضى فيه نحبه، ويقالُ لمن مات‏:‏ قَضَى فلانُ نَحْبَه؛ فمن سَمَّى المفسرون أنّه أُشِيرَ إليه بهذه الآية أنس بن النضر عَمُّ أنسِ بن مالكٍ، وذلك أنه غَابَ عن بَدْرِ فساءَه ذلك، وقال لَئِنْ شَهدت مع رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم مَشْهَداً ليَرَيَنَّ اللّهُ ما أصْنَعُ‏.‏ فلما كان أحَدٌ أبلَى بلاءً حَسَناً حَتَّى قُتِلَ وَوُجِدَ فيه نَيِّفٌ على ثمانينَ جُرْحاً، فكانوا يَروْنَ أن هذه الآيةَ في أنس بن النضر ونظرائه‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ الموصوفون بقَضَاء النَّحْبِ؛ هم جماعةٌ من أصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفَّوْا بِعُهُودِ الإسْلاَمِ عَلَى التَّمَامِ، فالشُّهَداءُ منهم، والعَشَرَةُ الذين شَهِدَ لهم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم بالجنّةِ منْهم، إلى مَن حَصَل في هذه المرتبةِ مِمَّنْ لَم يُنَصَّ عليه، ويُصَحَّحُ هذه المقالةَ أيضاً مَا رُوِيَ ‏"‏ أن رَسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم كان عَلَى المِنْبَرِ، فَقَالَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ‏:‏ يَا رَسُولَ اللّهِ، مَنِ الَّذِي قضى نَحْبَهُ‏؟‏ فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاعَةً، ثُمَّ دَخَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ على بَابِ المَسْجِدِ، وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أَيْنَ السَّائِلُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ هَأَنَذَا، يا رسُولَ اللّه، قَالَ‏:‏ هَذَا مِمَّنْ قضى نَحْبهُ» ‏"‏‏.‏ قال * ع *‏:‏ فهذا أدل دليل على أَن النَّحْبَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِه المَوْتُ‏.‏

وقال معاوية بن أبي سفيان‏:‏ إني سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ طَلْحَةُ مِمَّنْ قضى نَحْبَهُ، وَرَوَتْ عَائِشَة نَحوَه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ‏}‏ يريدُ ومنهم من ينتظر الحصولَ في أعلى مَراتِب الإيمان والصلاحِ، وهم بسبيل ذلك ومَا بدّلوا ولا غيّرُوا واللامُ في‏:‏ ‏{‏لِّيَجْزِيَ‏}‏ يحتمل أن تكونَ لامَ الصيرورة أو «لامَ كي»، وتعذيبُ المنافقينَ ثمرةُ إدامتِهم الإقامةَ على النفاقِ إلى مَوْتِهم، والتوبَة موازيةُ لتلك الإدامة، وثمرة التوبة تركهُمْ دونَ عذاب، فهما درجتان‏:‏ إدامَةُ على نفاقٍ أو تَوْبَةُ منه، وعَنْهُمَا ثمرتان‏:‏ تعذيبٌ أو رحمة‏.‏ ثم عدَّدَ سبحانه نعمه على المؤمنين في هَزْمِ الأحزَاب؛ فقال‏:‏ ‏{‏وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ‏(‏26‏)‏ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ‏(‏27‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلَ الذين ظاهروهم‏}‏ يريد‏:‏ بني قُرَيْظَةَ، وذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا غَدَرُوا وَظَاهَرُوا الأحْزَابَ، أرادَ اللّهُ النِّقْمَة مِنْهُمْ فَلَمَّا ذَهَبَ الأَحْزَابُ؛ جَاءَ جِبْرِيلُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقْتَ الظُّهْرِ؛ فَقَالَ‏:‏ يَا مْحَمَّدُ، إنَّ اللّهَ يَأْمُرُكَ بِالخُرُوجِ إلى بَنِي قُرَيْظَةَ، فنادى رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ، وَقَالَ لَهُمْ‏:‏ ‏"‏ «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»، فَخَرَجَ النَّاسُ إلَيْهِمْ، وَحَصَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَمْساً وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ نَزَلُوا على حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ؛ فَحَكَمَ فِيهِمْ سَعْدٌ بِأَنْ تُقْتَلَ المُقَاتَلَةُ وَتُسْبَى الذُّرِّيَّةُ وَالْعِيَالُ وَالأَمْوَالُ، وَأَنْ تَكُونَ الأَرْضَ وَالثِمَارُ لِلْمُهَاجِرِينَ دُونَ الأَنْصَارِ، فَقَالَتْ لَهُ الأَنْصَارُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ‏:‏ أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُهَاجِرِينَ أَمْوَالٌ كَمَا لَكُمْ أَمْوَالٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ المَلِكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقَعَةٍ» ‏"‏ فَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم بِرِجَالِهِمْ فَضُرِبَتْ أَعْنَاقِهُمْ، وَفِيهِمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ النَّضِيرِيُّ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ أَدْخَلَهُمْ فِي الْغَدْرِ، و‏{‏ظاهروهم‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ عاوَنُوهم، و«الصياصي»‏:‏ الحُصُون، واحدُها صيصيةٍ وهي كل ما يَتَمَنَّعُ به ومنه يقال لقرون‏:‏ البقر الصياصي، والفريقُ المقتولُ‏:‏ الرجالُ والفريقُ المأسور‏:‏ العيالُ والذُّرِّيَّة‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَرْضاً لَّمْ تطؤُوهَا‏}‏ يريد بها‏:‏ البلاد التي فتحت على المسلمين بعدُ كالعراقِ والشامِ واليمنِ وغيرها، فوعَدَ اللّه تعالى بها عند فتح حصون بني قريظة، وأخبر أنه قد قضى بذلك قاله عكرمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 34‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏28‏)‏ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏29‏)‏ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏30‏)‏ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ‏(‏31‏)‏ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏32‏)‏ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ‏(‏33‏)‏ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ‏(‏34‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها النبي قُل لأزواجك إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، ذَكَرَ جُلُّ المفسرين أن أزواج النَّبِي صلى الله عليه وسلم سَأَلْنَه شَيْئاً من عَرَضِ الدنيا، وآذَيْنَه بزيادة النَفَقَة والغَيْرَة، فَهَجَرَهُنَّ وآلى أَلاَّ يقربَهن شَهْراً، فنزلت هذه الآية، فبدأَ بعائشة، وقال‏:‏ ‏"‏ يا عَائشَةُ، إنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْراً وَلاَ عَلَيْكِ أَلاَّ تَعْجَلِي حتى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ، ثُمَّ تَلاَ عَلَيْهَا الآيةَ، فَقَالَتْ لَهُ‏:‏ وَفِي أَيِّ هَذَا أُسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ‏؟‏ فَإنِّي أُرِيدُ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ ثم قَالَتْ‏:‏ وَقَدْ علِمَ أَن أَبَوَيَّ لاَ يَأْمُرَانِي بِفُراقِهِ، ثُمَّ تَتَابَع أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم على مِثْلِ قَوْلِ عَائِشَةَ فاخترن اللّهَ وَرَسُولَهُ رَضِيَ اللّه عنهن ‏"‏‏.‏ قالتْ فِرْقَةٌ قَوْله‏:‏ ‏{‏بفاحشة مُّبَيِّنَةٍ‏}‏ يَعُمُّ جَمِيعَ المَعَاصِي ولزمهنَّ رضي اللّه عنهنَّ بحَسْبِ مَكَانَتُهُنَّ، أَكْثَرَ مِمَّا يَلْزَمَ غيرَهن، فَضُوعِفَ لهنَّ الأجْرُ والعذابُ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ضِعْفَيْنِ‏}‏ معناه‏:‏ يكونُ العذابُ عذابَين، أي‏:‏ يضاف إلى عذابِ سائِر النَّاس عذابٌ آخرُ مِثْلهُ و‏{‏يَقْنُتْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ يُطِيعُ ويَخْضَعُ بالعبُوديَّة؛ قاله الشعبي وقتادة والرزقُ الكريمُ‏:‏ الجنة‏.‏ ثم خاطَبَهُنَّ اللّهُ سبحانه بأنّهنّ لَسْنَ كأحدٍ مِن نساءِ عَصْرِهنَّ؛ فَمَا بَعْدُ، بَلْ هُنَّ أَفْضَلُ بشرطِ التَّقْوَى، وإنما خصصنا النساء لأَن فيمن تقدم آسية ومريم فتأملْهُ؛ وقد أشار إلى هذا قتادة‏.‏ ثم نَهَاهُنَّ سبحانه عما كانت الحالُ عليه في نساء العرَب من مكالَمَةِ الرجال برَخيمِ القولِ؛ و‏{‏لاَ تَخْضَعْنَ‏}‏ معناه‏:‏ لا تُلِنَّ‏.‏

قال ابن زيد‏:‏ خَضْعُ القَوْل ما يُدْخل في القُلُوبَ العزَل؛ والمرضُ في هذه الآية قال قتادة‏:‏ هو النفاق‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ الفِسْق، والغزل، والقولُ المعروفُ هو الصوابُ الذي لا تنكره الشريعةُ ولا النفوسُ‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ «وقِرْن» بكسر القَافِ، وقرأ نافعُ وعاصِمُ‏:‏ «وقَرْن» بالفتح، فأما الأولى فيصح أن تكونَ من الوَقار، ويصحُّ أن تَكُونَ من القَرَارِ، وأما قراءة الفتح فعلى لغة العرب قَرِرْتُ بِكَسْرِ الرَّاءِ، أَقِرَ بفتح القاف في المكان، وهي لغة ذكرها أبو عبيد في «الغريب» المصنف وذكرها الزَّجاجُ وغيره، فأمرَ اللّه تعالى في هذه الآية نسَاءَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بملازَمةِ بيُوتِهن، ونَهاهُنَّ عن التبرجِ؛ والتبرّجُ إظهَارُ الزينَةِ والتَّصَنُّعُ بِهَا، ومنه الروجُ لظهُورها وانكشافِها للعيون، واخْتَلَفَ الناسُ في ‏{‏الجاهلية الأولى‏}‏ فقالَ الشعبي‏:‏ ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام، وقيل‏:‏ غيرُ هذا‏.‏

قال * ع *‏:‏ والذي يظهر عندي؛ أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقنها فَأَمِرْنَ بالنَّقْلَةِ عن سِيرَتِهنَّ فِيها، وهي ما كانَ قَبْل الشَّرْعِ مِن سِيرةِ الكَفَرَةِ، وجَعْلِها أولى بالإضافة إلى حالةِ الإسْلام، وليس المعنى‏.‏ أن ثُمَّ جاهليةً أخِرَة، و‏{‏الرجس‏}‏ اسم يقعُ على الإثم وعلى العذابِ وعلى النَجَاسَات والنقائِص، فأذْهَبَ اللّه جميعَ ذلك عن أهْل البَيْتِ، قالت أم سلمةَ نزلت هذه الآية في بَيْتي؛

‏"‏ فدعا رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم عليّا وفاطِمَةَ وحَسَنَا وحُسَيْنا فَدَخَلَ مَعَهم تَحْت كساءِ خيبري، وقال «هؤلاءِ أهل بيتي، وقرأ الآية، وقَال اللَّهمَّ أَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ‏:‏ فَقُلْتُ‏:‏ وَأَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ، فَقَالَ‏:‏ أَنْتِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنْتِ إلى خَيْرَ» ‏"‏ والجمهورُ على هذا، وقال ابن عباس وغيره‏:‏ أهل البيتِ‏:‏ أزواجه خاصة، والجمهور على ما تقدم‏.‏

قال * ع *‏:‏ والذي يظهر لي‏:‏ أن أهل البيت أزواجه وبنتُه وبنوها وزوجُها أعنى عليّاً، ولفظ الآية‏:‏ يقتضي أن الزوجات من أهل البيت؛ لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن‏.‏

قال * ص *‏:‏ و‏{‏أَهْلَ البيت‏}‏‏:‏ منصوبٌ على النداءِ أو على المدْحِ أو على الاخْتِصَاصِ وَهُوَ قَلِيلٌ في المخاطب، وأكْثَرُ ما يكونُ في المتكلِّم، كقوله ‏[‏الرجز‏]‏

نَحْنُ بَنَاتِ طَارِقْ *** نَمْشِي عَلَى النَّمَارِقْ

انتهى‏.‏

واسْتَصْوَبَ ابنُ هشامٍ نصبَه على النداء، قاله في «المغني»‏:‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكرن‏}‏ يُعْطِي أنْ أهْل البيتِ نساؤه، وعلى قول الجمهور‏:‏ هي ابتداء مخاطبةِ والحكمةُ السّنّةُ، فقولُه‏:‏ ‏{‏واذكرن‏}‏ يحتمل مَقْصِدَيْنِ‏:‏ كِلاهما مَوْعِظَة أحدُهمَا‏:‏ أن يريدَ تَذَكَّرْنَه، واقْدِرْنَه قَدْرَه، وفَكِّرْنَ فِي أنّ مَنْ هذِهِ حَالُه يَنْبَغِي أن تَحْسُنَ أَفْعَالُه، والثاني‏:‏ أن يُرِيْدَ‏:‏ ‏{‏اذكرن‏}‏ بمعنى‏:‏ احْفَظْنَ واقْرَأْنَ وَأَلْزِمْنَهُ أَلسنتَكنَّ‏.‏

* ت *‏:‏ ويحتمل أن يُرَادَ ب ‏{‏اذكرن‏}‏ إفشاؤه ونشرُه للناس، واللّه أعلم‏.‏ وهذا هو الذي فهمُه ابنُ العربيِّ من الآية، فإنَّه قال‏:‏ أمر اللّه أزواجَ رسولهِ أن يُخْبرن بما ينزل من القرآن في بيوتهن وبما يَرَيْنَ من أفعالِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وأقواله، حتى يبلغَ ذلك إلى الناسِ، فيعملوا بما فيه ويَقْتَدُوا به، انتهى‏.‏ وهوَ حسن وهو ظاهر الآية وقد تقدم له نحو هذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امرأة خافت مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 128‏]‏ الآية‏.‏

ذكره في «أحكام القرآن»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏35‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ المسلمين والمسلمات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ رُوِي في سَبَبهَا؛ أَنَّ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولُ اللّهِ، يَذْكُرُ اللّهُ تَعَالَى الرِّجَالَ فِي كِتَابِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلاَ يَذْكُرُنَا، فَنَزَلَتْ الآيةُ فِي ذَلِكَ، وألفاظ الآية في غاية البيان‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وفي الحديث‏:‏ الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ سَبَقَ المُفَرِّدُون قالُوا‏:‏ وَمَا المُفَرِّدُونَ، يَا رَسُولَ اللّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الذَّاكِرُونَ اللّهَ كَثِيراً والذَّاكِرَاتُ ‏"‏ رواه مسلم، واللفظ له والترمذيُّ، وعنده‏:‏ قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللّهِ، وَمَا المُفَرِّدُونَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ المُسْتَهْتِرُونَ فِي ذِكْرِ اللّهِ، يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أَثْقَالَهُمْ فَيَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِفَافاً ‏"‏‏.‏ قال عياض‏:‏ «والمُفَرِّدون» ضَبَطْنَاهُ على مُتْقِني شيوخِنا بفتح الفَاء وكَسرِ الراء‏.‏

وقال ابن الأعرابي‏:‏ فَرَّدَ الرجلُ إذا تَفَقَّهَ وَاعْتَزَلَ النَّاسَ، وخلا لمُرَاعاة الأمر والنهي، وقال الأزهريُّ‏:‏ هم المُتَخَلُّونَ مِنَ النَّاسِ بذكْرِ اللّه تعالى، وقوله المُسْتَهْترون في ذكر اللّه هو بفتح التاءين المثناتين يعني‏:‏ الذين أُولِعُوا بذكْرِ اللّه، يقال‏:‏ استهتر فلانٌ بكَذَا، أي‏:‏ أُولِعَ به، انتهى، من «سلاح المؤمن»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ‏(‏36‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ‏}‏ لفظه النفي، ومعناه الحظرُ والمنعُ والخيرةُ مصدرُ بمعنى التَّخَيُّر‏.‏

قال ابن زيد‏:‏ نزلت هذه الآية بسبب أن أم كُلثُوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهبت نفسها للنبي، فزوجها من زيد بن حارثة، فكرهت ذلك هي وأخوها، فنزلت الآية بسبب ذلك، فأجابا إلى تزويج زيد، وقيل غير هذا، والعصيانُ هنا يعم الكفرَ فما دون، وفي حديث الترمذيِّ؛ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّه قال‏:‏ «مِنْ سَعَادَةِ ابن آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَاهُ اللّهُ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ سَخَطُهُ بِمَا قَضَاهُ اللّهُ لَهُ» انتهى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ‏(‏37‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ذهَب جماعة من المتأوِّلينَ إلى أن الآيةَ لا كَبيرَ عَتْبٍ فيها على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَرُوِي عن علي بن الحسين‏:‏ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان قد أُوحِيَ إليه أنَّ زيداً يطلق زينب، وأنه يتزوجها بتزويج اللّه إياها له، فلما تشكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خُلُقَ زينبَ، وأنَّها لا تطيعه، وأعلمَه بأنه يريد طلاقها، قال له النَّبِي صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصيةِ‏:‏ «اتَّقِ اللّهَ- أي‏:‏ فِي قَوْلِكَ- وأمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيُفَارِقُهَا وَهَذَا هو الذي أخفى صلى الله عليه وسلم فِي نفسهِ ولم يردْ أن يأمره بالطلاق لِمَا عَلِمَ مِنْ أَنَّه سيتزوجها وخَشِي صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قولٌ من النَّاس، في أن يتزوجَ زينب بعدَ زيد، وهو مولاه وقد أمره بطلاقها، فعاتبه اللّه على هذا، القدر من أن خَشِي الناس في شيء؛ قد أباحه اللّه تعالى له‏.‏

قال عياض‏:‏ وتأويل علي بن الحسين أحسن التأويلات وأصحها، وهو قول ابن عطاء، وصححه واستحسنه، انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَنعَمَ الله عَلَيْهِ‏}‏ يعني بالإسلام وغير ذلك ‏{‏وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ‏}‏ يعني بالعِتْقِ، وهو زيد بن حارثة وزينب هي بنت جحش بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ ثم أعلم تعالى نبيه أنه زَوَّجَها منه لما قَضَى زيدُ وطرَه منها؛ لتكون سنةً للمسلمينَ في أزواج أدعيائهم وليُبَيِّنَن أنها ليست كحرمة البنوة، والوطرُ‏:‏ الحاجَةُ والبُغْيَةُ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً‏}‏‏:‏ فيه حذفُ مضافٍ تقديرُه وكانَ حكمُ أمرِ اللّه أو مُضَمّنْ أمْرِ اللّه وإلاّ فالأمر قديمٌ لا يوصف بأنه مفعول، ويحتمل أن يكون الأمر واحد الأمور التي شأنها أن تفعل وعبارة الواحديِّ‏:‏ ‏{‏وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً‏}‏ أي‏:‏ كائناً لا محالةَ، وكان قَد قضى فِي زينبَ أن يتزوجها رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ‏(‏38‏)‏ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذه مخاطبةٌ من اللّهِ تعالى لجميعِ الأمة؛ أَعلمهم أَنه لا حرجَ على نبيه في نَيْل ما فَرَضَ اللّهُ له وأباحَهُ من تزويجهِ لزينبَ بَعْد زيد، ثم أعلم أن هذا ونحوه هو السنن الأقدم في الأنبياء، من أن ينالوا ما أحله اللّه لهم، وعبارة الواحدي‏:‏ ‏{‏مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ‏}‏ أي‏:‏ أحل اللّه له من النساء‏.‏ ‏{‏سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ‏}‏، يقول‏:‏ هذه سنة قَد مضت لغيركِ؛ يعني كثرةُ أزواج داودَ وسليمان، عليهما السلام، ‏{‏وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً‏}‏ قضاءٍ مقضياً‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يُبَلّغُونَ رسالات الله‏}‏ من نَعْتِ قوله‏:‏ ‏{‏فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ‏}‏، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 44‏]‏

‏{‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏40‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ‏(‏41‏)‏ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏42‏)‏ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ‏(‏43‏)‏ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ‏}‏ إلى قوله ‏{‏كَرِيماً‏}‏ أذهَب اللّه بهذه الآية مَا وَقَعَ في نفوسِ المنافقين وغيرِهم؛ لأنهم استعظموا أن يَتَزَوَّجَ زَوْجَة ابْنِه، فنفى القرآنُ تلكَ البُنُوَّةَ، وقوله‏:‏ ‏{‏أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ‏}‏ يعني المعاصرين له وباقي الآية بيِّن‏.‏ ثم أمر سبحانه عباده بأن يذكروه ذكراً كثيراً، وجعل تعالى ذلك دون حَدٍّ ولا تقدير؛ لسهولته على العبد، ولعظم الأجر فيه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لم يُعْذَرْ أَحدٌ فِي تركِ ذكر اللّهِ عز وجل إلاَّ مَنْ غُلِبَ عَلى عَقْلِهِ، وقال‏:‏ الذكرُ الكثيرُ أن لا تنساه أبداً‏.‏

ورَوَى أبو سعيد عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أَكْثِرُوا ذِكْرَ اللّهِ؛ حتى يَقُولُوا‏:‏ مَجْنُونٌ ‏"‏ * ت *‏:‏ وهذا الحديثُ خرَّجه ابن حِبَّان في «صحيحه»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً‏}‏ أراد في كل الأوقاتِ فحدَّد الزمَنَ بطرَ في نهارِه ولَيْلِه، والأصيل من العَصْر إلى الليلِ، وعن ابن أبي أوفى قال‏:‏ قال، رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنَّ خِيَارَ عِبَادِ اللّهِ الَّذِينَ يُرَاعُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالأَظِلَّةَ لِذِكْرِ اللّهِ ‏"‏ رواه الحاكم في «المستدرك»، انتهى من «السلاح»‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وملائكته‏}‏‏:‏ صلاةُ اللّه على العبدِ هي رحمتُه له، وصلاة الملائكة هي دعاؤهم للمؤمنين‏.‏ ثم أخبر تعالى برحمته بالمؤمنين تأنيساً لَهُم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام‏}‏ قيل‏:‏ يوم القيامة تُحَيِّ الملائكةُ المؤمنين بالسلامِ، ومعناه‏:‏ السلامةُ من كل مكروهٍ، وقال قتادة‏:‏ يوم دُخولِهم الجنَّةِ يحي بعضُهم بعضاً بالسلامِ، والأجرُ الكريمُ‏:‏ جنة الخلدِ في جوار اللّه تبارك وتعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 49‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏45‏)‏ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ‏(‏46‏)‏ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ‏(‏47‏)‏ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏48‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها النبي إِنَّا أرسلناك شَاهِداً وَمُبَشِّراً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، هذه الآيةُ فيها تأنيسٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وتكريم لجميعهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ‏}‏ أي‏:‏ بأمره ‏{‏وَسِرَاجاً مُّنِيراً‏}‏ استعارةُ للنور الذي تَضَمَّنهُ شرعُه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً‏}‏‏.‏

قال * ع *‏:‏ قال لنا أبي رحمه اللّه‏:‏ هذه الآيةُ من أرجى آية عندي في كتاب اللّه عز وجل‏.‏

قال أبو بكر الخطيب أخبرنا أبو نعيم الحافظ ثم ذكر سنده إلى ابن عباس قَال‏:‏ قَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أنَزَلت علي آية ‏{‏ياأيها النبي إِنَّا أرسلناك شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً‏}‏ قال‏:‏ شاهداً‏:‏ على أمتك، ومبشراً‏:‏ بالجنة، ونذيراً‏:‏ من النار، وداعياً‏:‏ إلى شهادة أن لا إله إلا اللّه، بإذنه‏:‏ بأمره، وسراجاً منيراً‏:‏ بالقرآن ‏"‏ انتهى، من «تاريخ بغداد» له، من ترجمة «محمد بن نصر»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَدَعْ أَذَاهُمْ‏}‏ يحتمل أن يريدَ أن يأمره تعالى بترك أن يؤذِيهم هو ويعاقبهم، فالمصدر على هذا مضافٌ إلى المفعول، ويُحْتَمَلُ أن يريدَ‏:‏ أعْرِض عَن أقوالهم وما يؤذونك به، فالمصدر على هذا التأويل مضاف إلى الفاعل؛ وهذا تأويل مجاهدٍ، وباقي الآية بيّن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها النبي إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، ذهب ابن زيد والضحاكُ في تفسير هذه الآية إلى‏:‏ أن اللّه تعالى أحل لنبيه أن يتزوجَ كل امرأة يؤتيها مَهْرَها، وأباح له كلَّ النساء بهذا الوجه، وإنما خَصَّصَ هؤلاءِ بالذكر تشريفا لهن فالآيةُ على هذا التأويلِ فيها إباحةٌ مُطلقةُ في جميع النساء، حاشى ذوات المحارم المذكور حُكْمُهُنَّ‏:‏ في غير هذه الآية‏.‏ ثم قال بعد هذا ‏{‏تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ من هذه الأصناف كلها، ثم تجرى الضمائرُ بعد ذلك على العُموم إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 52‏]‏ فيجيءُ هذا الضميرُ مقطوعاً من الأول عائداً على أزواجه التسعِ فقط؛ على الخلاف في ذلك وتَأَوَّيل غير ابن زَيْدٍ في قوله‏:‏ ‏{‏أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك‏}‏ مَنْ فِي عِصْمَتِهِ ممن تَزَوَّجَها بِمَهْرٍ؛ وَأَنَّ مِلْكَ اليمينِ بَعْدُ حلالٌ؛ وأن اللّهَ أباحَ له مع المذكُوراتِ بَنَاتِ عَمِّهِ وعماتِه، وخاله، وخالاته، ممن هاجرَ معَه، والواهباتِ خَاصَّةً، فيجيءُ الأمرُ على هذا التأويل أَضْيَقَ عَلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيدُ هذَا التأويلَ ما قَالَه ابنُ عباس‏:‏ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَزَوَّجُ في أَيِّ النِّسَاءِ شَاءَ، وَكَانَ ذَلِكَ يَشُقُّ على نِسَائِهِ، فلما نَزلَتْ هذه الآيةُ، وحُرِّم عَلَيْهِ بِهَا النِّسَاءُ؛ إلاَّ مَنْ سُمِّيَ سُرَّ نِسَاؤه بذلك‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال السُّهَيْلِيُّ‏:‏ ذكرَ البخاريُّ عَن عائشَة رضي اللّه عنها أنَّها قَالَتْ‏:‏ كَانَتْ خَوْلَةُ بنتُ حَكِيمٍ مِن اللاتي وَهَبْنَ أنفسَهن؛ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فدَلَّ على أنهن كُنْ غَيْرَ واحدة، انتهى‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏خَالِصَةً لَّكَ‏}‏ أي‏:‏ هبة النساء أنفسهن خاصةٌ بك دونَ أمَّتِكَ‏.‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ ويظهرُ من لفظِ أُبَيِّ بن كَعْبِ أن معنى قوله‏:‏ «خالصة لك» يُرَادُ بهِ جميعُ هذهِ الإبَاحَة؛ لأن المؤمنين لم يُبَحْ لهم الزيادةُ على أربعٍ‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أزواجهم‏}‏ يريدُ هو كونَ النكاح بالولي والشاهدين، والمهر، والاقتصارَ على أربع؛ قاله قتادة ومجاهد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لّكَيْ لاَ‏}‏ أي‏:‏ بَيِّناً هذا البيان‏.‏ ‏{‏لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ‏}‏ ويظن بك أنك قد أثمتَ عند ربّك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ‏(‏51‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تُرْجِ مَن تَشَاء مِنْهُنَّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، ترجي معناه‏:‏ تُؤَخِّرُ و‏{‏تُؤْوِي‏}‏ معناه‏:‏ تَضُمُّ وتُقَرب، ومعنى هذه الآية‏:‏ أن اللّه تعالى فَسَحَ لنبيِّه فيما يفعله في جِهَة النساء، والضميرُ في ‏{‏مِنْهُنَّ‏}‏ عائدٌ على مَن تَقَدَّمَ ذكرُه من الأصْنَافِ؛ حَسْبَ الخِلافِ المذكورِ في ذلك، وهذا الإرجاء والإيواء يحتمل معاني؛ منها؛ أن المعنى في القَسْمِ، أي‏:‏ تُقرِّبُ مَنْ شِئْتَ فِي القسمةِ لَها مِن نَفْسِكَ وَتُؤَخِّرُ عَنْكَ مِن شِئْتَ وتُكْثِر لمن شئت وتُقِلُّ لمن شئت، لا حرجَ عليكَ في ذلك، فإذا عَلِمْنَ هنَّ أنّ هذا هو حكم اللّه لك؛ رَضِينَ وقَرَّت أعينُهن؛ وهذا تأويل مجاهد وقتادةَ والضحاك‏.‏

قال * ع *‏:‏ لأن سبَبَ هذهِ الآيةِ تَغَابُرٍ وَقَعَ بَيْنَ زَوْجَاتِ النبي صلى الله عليه وسلم تَأَذَّى بِهِ‏.‏

وقَالَ ابن عباس‏:‏ المعنَى في طَلاق مَنْ شَاء وإمْسَاك مَن شاء‏.‏

وقال الحسنُ بن أبي الحسن‏:‏ المعنى في تَزَوُّج من شَاء؛ وترك مَنْ شَاء‏.‏

قال * ع *‏:‏ وعلى كلِّ مَعْنًى فالآيةُ معناها‏:‏ التَوْسِعَة على النبي صلى الله عليه وسلم والإباحة له وذهب هبة اللّه في «الناسخ والمنسوخ» له إلى أن قولَه ‏{‏تُرْجِي مَن تَشَاء‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، ناسخُ لقوله‏:‏ ‏{‏لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 52‏]‏ الآيةَ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ‏}‏ يحتمل معاني‏:‏ أحدها؛ أن تَكونَ «من» للتبعيض، أي‏:‏ من أردت؛ وطلبَتْه نفسُك ممن كنتَ قَدْ عزلتَه وأخَّرتَه؛ فلا جناح عليك في رده إلى نفسِكَ وإيوائه إليك، ووجه ثانٍ؛ وهو أن يكونَ مُقَوِّياً ومُؤكِداً لقوله‏:‏ ‏{‏تُرْجِي مَن تَشَاء‏}‏ و‏{‏تؤوي مَن تَشَاء‏}‏ فيقول بعدُ ومَن ابتغيتَ ومَنْ عَزَلْتَ فذلكَ سواءٌ؛ لا جناحَ عليك فِي ردِّه إلى نفسِكَ وإيوائه إليك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَرْضَيْنَ بِمَا ءَاتَيْتَهُنَّ‏}‏ أي مِنْ نفْسِك، ومالِك، واتفقتِ الرواياتُ على أنه عليه السلام معَ مَا جَعَلَ اللّه له من ذلكَ كان يُسَوِّي بينهن في القَسْمِ تَطْيِيباً لنفُوسِهنَّ؛ وأخْذاً بالفَضْلِ، وما خصه اللّه من الخَلق العظيم صلى اللّه عليه وعلى آله غَيْرَ أنْ سودةَ وَهَبَتْ يومَها العائشةَ تَقَمُّناً لمسَرَّةِ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 55‏]‏

‏{‏لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ‏(‏52‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ‏(‏53‏)‏ إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏54‏)‏ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ‏}‏ قيل كما قدمنا‏:‏ إنها حظَرَتْ عليه النساءَ إلا التسْعَ وما عُطِفَ عَليهِنَّ؛ على ما تقدم لابن عباس وغيره، قال ابن عباس وقتادة؛ جَازَاهُنَّ اللّه بذلك، لما اخترنَ اللّه وَرسوله، ومن قال‏:‏ بأن الإباحَةَ كانتْ له مُطْلَقَةً قَال هنا‏:‏ ‏{‏لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء‏}‏ معناه‏:‏ لا يحل لك اليهودياتُ ولا النصرانياتُ، ولا ينبغي أن يكنَّ أمهاتِ المؤمنين؛ ورُوِيَ هذَا عَن مجاهدَ وكذلك قَدَّرَ ولا أن تبدل اليهودياتِ والنصرانياتِ بالمسلماتِ؛ وهو قول أبي رزين وابن جبير وفيه بُعْدٌ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ ناظرين إناه‏}‏ هذهِ الآيةُ تُضمنتُ قِصَّتَيْنِ‏:‏ إحداهما‏:‏ الأدبُ في أمر الطَّعَامِ والجلوسِ، والثانيةُ‏:‏ أمرُ الحجَاب‏.‏

قال الجمهور‏:‏ سببُها أن النّبي صلى الله عليه وسلم لما تزوَّج زَيْنبَ بِنْتَ جَحْشٍ، أَوْ لَمْ عَلَيْها؛ ودَعَا النَّاسَ، فَلَمَّا طَعِمُوا، قَعَدَ نَفَرٌ فِي طَائِفَةٍ مِنَ البَيْتِ يَتَحَدَّثُونَ، فَثَقُلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَكَانُهُمْ، فَخَرَجَ؛ لِيَخْرُجُوا بِخُرُوجِهِ، وَمَرَّ على حِجْرِ نِسَائِهِ، ثُمَّ عَادَ فَوَجَدَهُمْ فِي مَكَانِهِمْ، وَزَيْنَبُ فِي البَيْتِ مَعَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلَ وَرَآهُمُ، انْصَرَفَ، فَخَرَجُوا عِنْدَ ذَلِكَ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ‏:‏ فَأُعْلِمَ أَوْ أَعْلَمْتُهُ بانصرافهم، فَجَاءَ، فَلَمَّا وَصَلَ الحُجْرَةَ، أَرْخَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ؛ وَدَخَلَ، وَنَزَلَتْ آيَةُ الحِجَابِ بِسَبَبِ ذَلِكَ‏.‏

قال إسماعيل بن أبي حكيم‏:‏ هذا أَدَّبَ اللّه به الثُّقَلاء، وَقَالَتْ عَائِشَةُ وجماعةٌ‏:‏ سببُ الحِجَابِ‏:‏ كلامُ عُمَر للنبي صلى الله عليه وسلم مراراً في أن يَحجُبَ نساءَه، و‏{‏ناظرين‏}‏ معناه‏:‏ مُنتَظِرينَ، و‏{‏إناه‏}‏‏:‏ مصدر «أنى» الشيءَ يَأْنِي أنيْ، إذا فَرَغَ وحَانَ، ولفظُ البخاري يُقَال‏:‏ إناه‏:‏ إدراكُه أنى يأنى إناءة، انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله لاَ يَسْتَحْيِ مِنَ الحق‏}‏ معناه‏:‏ لا يقع منه تركُ الحق، ولما كان ذلك يقعُ من البشر لِعلةِ الاسْتِحياءِ؛ نَفَى عنه تعالى العلةَ الموجِبةَ لذلكَ في البشر، وعن ثَوْبَانَ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ثَلاَثٌ لاَ يحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُنَّ؛ لاَ يَؤُمُّ رَجُلٌ قَوْماً؛ فَيَخُصَّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ دُونَهُمْ؛ فَإنْ فَعَلَ، فَقَدْ خَانهُمْ، وَلاَ يَنْظُرُ فِي قَعْرِ بَيْتٍ؛ قَبْلَ أنْ يَسْتَأْذِنَ؛ فَإنْ فَعَلَ، فَقَدْ خَانَ، وَلاَ يُصَلِّي وَهُوَ حَاقِنٌ حتى يَتَخَفَّفُ ‏"‏ رواه أبو داود واللفظ له، وابن ماجه، والترمذي، وقال الترمذي‏:‏ حديثٌ حسنٌ، ورواه أبو داود أيضاً من حديث أبي هريرة، انتهى من «السلاح»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ متاعا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، هي آية الحجَابِ، والمتَاعُ عام في جميع ما يمكن أن يُطْلَب من المَواعِينِ وَسائر المرَافِق، وباقي الآية بيِّنٌ‏.‏ وقد تقدَّم في سورة النور طَرْفٌ من بَيَانِه فَأَغْنَى عن إعادته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 59‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏(‏56‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏58‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبي‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، تضمَّنَتْ شَرَفَ النّبي صلى الله عليه وسلم وعظيمَ منزلتِه عندَ اللّهِ تَعالى‏.‏

قالتْ فِرقَة‏:‏ تقدير الآيةِ‏:‏ أن اللّه يُصَلِّي وملائكتُه يصلُّون فالضَّميرُ في قوله ‏{‏يُصَلُّونَ‏}‏‏:‏ للملائِكةِ فَقط‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ بل الضميرُ في ‏{‏يُصَلُّونَ‏}‏ لِلَّهِ والملائكة؛ وهذا قول من اللّه تعالى، شَرَّفَ به ملائكتَه؛ فَلاَ يُرِدُ عليه الاعتراضُ الذي جَاءَ في قَوْلِ الخَطِيبِ‏:‏ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِيهِمَا، فَقَدْ ضَلَّ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ بِئْسَ الخَطِيبُ أَنْتَ ‏"‏ وهذا القَدْرُ كَافٍ هُنَا، وصلاة اللّه تعالى‏:‏ رحمةٌ منه وبركةٌ، وصلاة الملاَئكةِ‏:‏ دعاء، وصلاةُ المؤمنين‏:‏ دعاء، وتعظيم، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل حينٍ؛ من الواجباتِ وجوبَ السُّنَنِ المؤكَّدَةِ التي لا يسعُ تَرْكُها؛ وَلاَ يُغْفِلُها إلاَّ مَن لاَ خيرَ فيه، وفي حديث ابن عباس‏:‏ أنه لما نزلت هذه الآية؛ قال قوم من الصحابة‏:‏ «هَذَا السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللّهِ؛ قَدْ عرفْنَاهُ، فكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ‏؟‏» الحديث‏.‏

* ت *‏:‏ ولفظ البخاري‏:‏ عن كعب بن عُجْرَةَ قَالَ‏:‏ قِيلَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللّهِ؛ أَمَّا السَّلاَمُ عَلَيْكَ، فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فَكَيْفَ الصَّلاَةُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ قُولُوا‏:‏ اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ؛ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ؛ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ؛ كَمَا بَارَكْتَ على إبْرَاهِيمَ؛ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ‏"‏ انتهى؛ وفيه طرقٌ يَزِيدُ فيها بعضُ الرواةِ على بَعْضِ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الجمُعَةِ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلاَةِ فيه؛ فَإنَّ صَلاَتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ ‏"‏ الحديثُ رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، واللفظ لأبي داود، ورواه الحاكم في «المستدرك» من حديث أبي مسعود الأنصاري، وقال‏:‏ صحيح الإسناد، وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلاَّ رَدَّ اللّهُ عَلَيَّ رُوحِي؛ حتى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ ‏"‏ وعنْه قَالَ‏:‏ قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُم ‏"‏ رواهما أبو داود، وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلاَةً ‏"‏ رواه الترمذي، وابن حِبَّانَ‏.‏ في «صحيحيه»، ولفظهما سواء، وقال الترمذي حسن غريب‏.‏ انتهى من «السلاح»‏.‏

وقولُه سبحانه‏:‏ ‏{‏يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن‏}‏ الجلبابُ‏:‏ ثوبٌ أَكْبَرُ مِنْ الخِمَار، ورُوِي عَن ابن عباس وابن مسعود‏:‏ أَنَّهُ الخمارُ، واخْتُلِفَ في صورة إدنائه‏:‏ فقالَ ابنُ عباسٍ وغيره‏:‏ ذلك أن تَلْوِيَه المرأةُ حَتَّى لا يظهرَ منهَا إلاَّ عينٌ واحِدَةٌ تبصر بها، وقال ابن عباس أيضاً وقتادةُ‏:‏ ذلك أن تلويه الجبينِ وتشدُّهُ، ثم تَعْطِفَهُ على الأنفِ، وإن ظهرتُ عَيْنَاها؛ لكنَّه يستر الصدر ومعظمَ الوجهِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ‏}‏‏:‏ حتى لا يختلطّن بالإمَاءِ، فَإذَا عُرِفْنَ لم يقابَلْن بأذَى‏.‏ من المعارضة؛ مراقبةً لرتبةِ الحرائر، وليس المعنى أن تُعْرَفَ المرأةُ حتى يعلمَ من هي؛ وكان عمر إذا رأى أمَةً قد تقنعت قَنَّعَها بالدِّرَّةِ محافظةً على زِيِّ الحرائر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 71‏]‏

‏{‏لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏60‏)‏ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ‏(‏61‏)‏ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ‏(‏62‏)‏ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ‏(‏63‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ‏(‏64‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏65‏)‏ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ‏(‏66‏)‏ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ‏(‏67‏)‏ رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ‏(‏68‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ‏(‏69‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ‏(‏70‏)‏ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏71‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ اللام في قوله‏:‏ ‏{‏لَّئِن‏}‏ هي المؤذنة بمجيء القسم، واللام في ‏{‏لَنُغْرِيَنَّكَ‏}‏‏:‏ هي لامُ القسمِ‏.‏

قلت‏:‏ ورَوَى الترمذيُّ عن ابن عُمَرَ قال‏:‏ صَعِدَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم المِنْبَرَ، فنادى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ يَا مَعْشَرَ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ بلِسَانِهِ، وَلَمْ يَفُضْ الإيْمَانُ إلى قَلْبِهِ، لاَ تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ، وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ؛ يَتَبِعَ اللّهُ عَوْرَتَه؛ وَمَنْ يَتَّبِعِ اللّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْه، وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ الحديث‏.‏ انتهى‏.‏ ورواه أبو دَاودَ في «سننه» من طريق أبي برزة الأسلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم وتوعَّد اللّه سبحانه هذه الأصنافَ في هذه الآية‏.‏

وقوله سبحانه ‏{‏والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ المرض، هنا‏:‏ هو الغَزَل وحب الزنا؛ قاله عكرمة‏.‏ ‏{‏والمرجفون فِي المدينة‏}‏‏:‏ هم قوم كانوا يتحدثون بغزو العربِ المدينةَ؛ ونحوِ هذا مما يُرْجِفُونَ بهِ نُفُوسَ المؤمنينَ، فيحتمل أنْ تكونَ هذه الفِرَقُ دَاخِلَةً في جملة المنافقين، ويحتمل أن تكونَ متباينةً و‏{‏نغرينك‏}‏ معناه‏:‏ نحضك عليهم بعد تعيينهم لك‏.‏ في البخاري‏:‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏لَنُغْرِيَنَّكَ‏}‏‏:‏ لنسلطنك‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ‏}‏ أي‏:‏ بعد الإغراء لأنك تَنْفِيهم بالإخافَة والقَتْلِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ يحتمل‏:‏ أن يريد إلا جِوَاراً قليلاً، أو وقتاً قليلاً، أو عدداً قليلاً، كأنه قال‏:‏ إلا أقلاءَ، و‏{‏ثُقِفُواْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ حُصِرُوا وقُدِرَ عليهم و‏{‏أُخِذُوا‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ أُسِرُوا والأخِيذُ الأسِيرُ‏:‏ ‏{‏والذين خَلَوْاْ‏}‏ هم منافقوا الأمم، وباقي الآية مُتَّضِحُ المعنَى‏.‏ و‏{‏السبيلا‏}‏‏:‏ مفعولٌ ثَانٍ؛ لأَنَّ ‏{‏أَضلَّ‏}‏ متعدٍ بالهَمْزَةِ، وهي سبيلُ الإيمانِ والهُدَى، ‏{‏والذين ءَاذُوْاْ موسى‏}‏‏:‏ هم قومُ مِن بَنِي إسرائيل‏.‏ قال ابن عباس وأبو هريرة وجماعة‏:‏ الإشارةُ إلى ما تضمَّنه حديثُ النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من أَنَّ بَنِي إسرائيل كَانُوا يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، وَكَانَ موسى عليه السلام رَجُلاً سِتِّيراً حَيِّياً، لاَ يَكَادُ يرى مِنْ جَسَدِهِ شَيْءٌ؛ فَقَالُوا‏:‏ وَاللّهِ، مَا يَمْنَعُ موسى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إلاَّ أَنَّهُ آدَرُ أَوْ بِهِ بَرَصٌ، فَذَهَبَ يَغْتَسِلُ؛ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ على حَجَرٍ، فَفَرَّ الحَجَرُ بِثَوْبِهِ، فَلَجَّ موسى فِي إثْرِهِ يَقُولُ‏:‏ ثَوْبِي حَجَرُ، ثَوْبِي حَجَرُ، فَمَرَّ بِهِمْ فَنَظَرُوا إلَيْهِ؛ فَقَالُوا‏:‏ وَاللّهِ، مَا بموسى مِنْ بَأْسٍ ‏"‏ الحديثُ خرَّجه البُخَاريُّ وغيره، وقيل في إذَايتهم غيرُ هذا‏.‏ ‏{‏فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ‏}‏ والوجيهُ‏:‏ المكرَّمُ الوجهِ، والقولُ السَّدِيدُ‏:‏ يَعُمُّ جَميعَ الخيراتِ وقال عكرمة‏:‏ أراد «لا إله إلا اللّه» وباقي الآية بيِّن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 73‏]‏

‏{‏إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ‏(‏72‏)‏ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السموات والأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، ذهب الجمهور‏:‏ إلى أن الأمانةَ كلُّ شيء يُؤتمن الإنسانُ عليه من أمر؛ ونهي وشأن دين ودنيا؛ فالشرعُ كلّه أمانة؛ ومعنى الآية‏:‏ إنا عرضْنَا على هذه المخلوقاتِ العظامِ أنْ تحملَ الأوامرَ والنَّواهي ولهَا الثوابُ إن أحْسَنَتْ، والعقابُ إن أساءت فأبتْ هذه المخلوقاتُ وأشفقت، فيحتمل أن يكونَ هذا بِإدراكٍ يَخْلُقُه اللّهُ لَهَا ويُحْتَمَلُ أنْ يكونَ هذا العَرْضُ على مَنْ فِيها من الملائِكةِ، وحَمَلَ الإنسانُ الأمانةَ، أي‏:‏ التزَمَ القِيامَ بِحَقِّهَا، وهو في ذلك ظَلُومٌ لِنَفْسِهِ جَهُولٌ بقدر مَا دخَل فيه؛ وهذا هو تأويل ابنِ عباس وابن جبير‏.‏ قال ابن عباس وأصحابُه‏:‏ و‏{‏الإنسان‏}‏ آدم تَحمَّلَ الأَمانةَ؛ فَما تَمَّ لَهُ يَوْمٌ حَتَّى وَقَعَ فِي أمرِ الشَّجرةِ‏.‏ وقال بعضُهم‏:‏ ‏{‏الإنسان‏}‏‏:‏ النَّوعُ كلّه؛ فعلى تأويلِ الجمهور يكونُ قولُهما في الآية الأخرى ‏{‏أَتَيْنَا طائعين‏}‏ إجابةً لأَمْرٍ أُمِرْت بِهِ وتَكُونُ هذه الآيةُ إبايَةً وإشفاقاً مِنْ أَمْرٍ عُرِضَ عَلَيْهَا وخُيِّرَتْ فِيه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِّيُعَذِّبَ‏}‏‏:‏ اللامُ لامُ العَاقِبَة، وكذا قَال أبو حيان‏:‏ اللام في ‏{‏لِّيُعَذِّب‏}‏‏:‏ للصَّيْرُورَةِ؛ لأَنَّه لَمْ يَحْمِلْ الأَمَانَةَ ليُعَذَّبَ، ولكنْ آلَ أمره إلى ذلك‏.‏

* ص *‏:‏ أبو البقاء‏:‏ اللام تتَعلق ب‏:‏ ‏{‏حَمَلَهَا‏}‏ وقرأ الأعمش‏:‏ «ويتوبُ» بالرفع على الاسْتِئْنَافِ، واللّهِ أعلم‏.‏ انتهى‏.‏ وباقي الآية بيِّن‏.‏