فصل: تفسير الآيات رقم (20- 41)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 41‏]‏

‏{‏تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ‏(‏20‏)‏ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏21‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏22‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ‏(‏23‏)‏ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ‏(‏24‏)‏ أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ‏(‏25‏)‏ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ ‏(‏26‏)‏ إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ‏(‏27‏)‏ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ‏(‏28‏)‏ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ‏(‏29‏)‏ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏30‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ‏(‏31‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏32‏)‏ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ‏(‏33‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ‏(‏34‏)‏ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ‏(‏35‏)‏ وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ‏(‏36‏)‏ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏37‏)‏ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ ‏(‏38‏)‏ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏39‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏40‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ‏(‏41‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تَنزِعُ الناس‏}‏ معناه‏:‏ تقلعهم من مواضعهم قَلْعاً فتطرحهم، ورُوِيَ عن مجاهد أَنَّ الريحَ كانت تُلْقِي الرجلَ على رأسه؛ فيتفتت رأسُهُ وعُنُقُهُ، وما يلي ذلك من بدنه، قال *ع *‏:‏ فلذلك حسن التشبيه بأعجاز النخل؛ وذلك أَنَّ المنقلع هو الذي ينقلع من قعره، وقال قوم‏:‏ إنَّما شَبَّههم بأعجاز النخل؛ لأَنَّهُمْ كانوا يحتفرون حفراً ليمتنعوا فيها من الريح، فكأَنَّه شَبَّهَ تلك الحُفَرَ بعد النزع بحفر أعجاز النخل، والنَّخْلُ‏:‏ تُذَكَّرُ وتُؤَنَّثُ، وفائدة تكرار قوله‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ‏}‏ التخويفُ وَهَزُّ النفوسِ، وهذا موجود في تَكْرَارِ الكلام؛ كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ‏"‏ ونحوه، و‏[‏قول‏]‏ ثمود لصالح‏:‏ ‏{‏أَبَشَراً مِّنَّا واحدا نَّتَّبِعُهُ‏}‏‏:‏ هو حسد منهم، واستبعادٌ منهم أنْ يكونَ نوعَ البشر يفضل هذا التفضيلَ، ولم يعلموا أَنَّ الفضلَ بيدِ اللَّه يؤتيه مَنْ يشاء، ويفيض نورَ الهدى على مَنْ رَضيَهُ، وقولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا إِذاً لَّفِى ضلال‏}‏ أي‏:‏ في ذهاب وانتلاف عن الصواب، ‏{‏وَسُعُرٍ‏}‏ معناه‏:‏ في احتراق أنفس واستعارها حنقاً، وقيل‏:‏ في جنون؛ يقال‏:‏ ناقة مسعورة إذا كانت خفيفةَ الرأس هائمةً على وجهها، والأَشَرُ‏:‏ البَطَرُ، وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏سَيَعْلَمُونَ‏}‏ بالياء، وقرأ حمزة وحفص‏:‏ «سَتَعْلَمُونَ» بالتاء من فوق؛ على معنى‏:‏ قل لهم يا صالح‏.‏

ثم أمر اللَّه صالحاً بارتقاب الفَرَجِ والصبر‏.‏

* ت *‏:‏ وقال الثعلبيُّ‏:‏ ‏{‏فارتقبهم‏}‏ أي‏:‏ انتظرهم؛ ما يصنعون، ‏{‏وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الماء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ‏}‏ وبين الناقة، لها شِرْبٌ ولهم شِرْبٌ يوم معلوم، و‏{‏مُّحْتَضَرٌ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ محضور مشهود متواسى فيه، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏كُلُّ شِرْبٍ‏}‏ أي‏:‏ من الماء يوماً ومن لبن الناقة يوماً محتضر لهم، فكأَنَّه أنبأهم بنعمة اللَّه سبحانه عليهم في ذلك، و‏{‏صاحبهم‏}‏‏:‏ هو قدار بن سالف، و‏{‏تعاطى‏}‏ مطاوع «عاطى» فكأَنَّ هذه الفعلة تدافعها الناس، وأعطاها بعضُهم بعضاً فتعاطاها هو، وتناول العَقْرَ بيده؛ قاله ابن عباس، وقد تقدم قَصَصُ القوم، و«الهشيم»‏:‏ ما تفتَّت وتَهَشَّمَ من الأشياء، و‏{‏المحتظر‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ الذي يصنع حظيرة، قاله ابن زيد وغيره، وهي مأخوذة من الحَظَرِ وهو المنع، والعرب وأهلُ البوادي يصنعونها للمواشي وللسُّكْنَى أيضاً من الأَغصان والشجر المُورِقِ، والقصب، ونحوه، وهذا كُلُّه هشيمٌ يتفتت، إمَّا في أَوَّل الصنعة، وإمَّا عند بِلى الحظيرة وتساقُطِ أجزائها، وقد تقدم قَصَصُ قوم لوط، والحاصب‏:‏ مأخوذ من الحصباء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَتَمَارَوْاْ‏}‏ معناه‏:‏ تشككوا، وأهدى بعضُهم الشَّكَّ إلى بعض بتعاطيهم الشُّبَهِ والضلالِ، و‏{‏النذر‏}‏‏:‏ جمع نذير، وهو المصدر، ويحتمل أَنْ يُرَادَ بالنذر هنا وفي قوله‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر‏}‏ جمع نذير، الذي هو اسم فاعل‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ‏}‏ قال قتادة‏:‏ هي حقيقةً؛ جَرَّ جبريل شيئاً من جناحه على أعينهم فاستوت مع وجوههم، قال أبو عُبَيْدَةَ‏:‏ مطموسة بجلدة كالوجه، وقال ابن عباس والضَّحَّاك‏:‏ هذه استعارة؛ وإنَّما حجب إدراكهم فدخلوا المنزل ولم يروا شيئاً فجعل ذلك كالطمس‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بُكْرَةً‏}‏ قيل‏:‏ عند طلوع الفجر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَذُوقُواْ‏}‏‏:‏ يحتمل أنْ يكون من قول اللَّه تعالى لهم، ويحتمل أَنْ يكونَ من قول الملائكة، وَنُذُرِي‏:‏ جمع المصدر، أي‏:‏ وعاقبة إنذاري، و‏{‏مُّسْتَقِرٌّ‏}‏ أي‏:‏ دائم استقر فيهم حَتَّى يُفْضِيَ بهم إلى عذاب الآخرة، و‏{‏آلَ فِرْعَوْنَ‏}‏‏:‏ قومه وأتباعه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 48‏]‏

‏{‏كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ‏(‏42‏)‏ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ‏(‏43‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ‏(‏44‏)‏ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ‏(‏45‏)‏ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ‏(‏46‏)‏ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ‏(‏47‏)‏ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَذَّبُواْ بئاياتنا كُلِّهَا‏}‏ يحتمل أنْ يريد آل فرعونَ، ويحتمل أَنْ يكون قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءَ ءَالَ فِرْعَوْنَ النذر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 41‏]‏ كلاماً تامًّا، ثم يكون قوله‏:‏ ‏{‏كَذَّبُواْ بئاياتنا كُلِّهَا‏}‏ يعود على جميع من ذُكِرَ من الأمم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ‏}‏ خطاب لقريش على جهة التوبيخ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ‏}‏ أي‏:‏ من العذاب ‏{‏فِى الزبر‏}‏ أي‏:‏ في كتب اللَّه المُنَزَّلَةِ؛ قاله ابن زيد وغيره‏.‏

ثم قال تعالى لنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ‏}‏‏:‏ واثقون بجماعتنا، منتصرون بقوَّتِنا على جهة الإعجاب؛ سَيُهْزَمُونَ، فلا ينفع جمعُهم، وهذه عِدَةٌ من اللَّه تعالى لرسوله أَنَّ جَمْعَ قريشٍ سَيُهْزَمُ، فكان كما وعد سبحانه؛ قال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه‏:‏ كنت أقول في نفسي‏:‏ أَيُّ جَمْعٍ يُهْزَمُ‏؟‏‏!‏ فَلَمَّا كان يومُ بدرٍ رأيتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، وهو يقول‏:‏ ‏{‏سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر‏}‏ والجمهور على أَنَّ الآية نزلت بِمَكَّةَ، وقول مَنْ زعم أَنَّها نزلت يومَ بدر ضعيف، والصواب أَنَّ الوعد نُجِّزَ يوم بدر، قال أبو حيان‏:‏ ‏{‏وَيُوَلُّونَ‏}‏‏:‏ الجمهور بياء الغيبة، وعن أبي عمرو بتاء الخطاب، والدُّبُرُ‏:‏ هنا اسم جنس، وحسن إفرادَهُ؛ كونُهُ فاصلةً، وقد جاء مجموعاً في آية أُخرى، وهو الأصل، انتهى‏.‏

ثم أضرب سبحانه تهميماً بأمر الساعة التي هي أَشَدُّ عليهم من كُلِّ هزيمة وقَتْلٍ، فقال‏:‏ ‏{‏بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ‏}‏ و‏{‏أدهى‏}‏‏:‏ أفعل من الداهية، وهي الرَّزِيَّةُ العُظْمَى تنزل بالمرء، ‏{‏وَأَمَرُّ‏}‏ من المرارة‏.‏

* ت *‏:‏ وقال الثعلبيُّ‏:‏ الداهية الأَمَرُّ‏:‏ الشديد الذي لا يُهْتَدَى للخلاص منه، انتهى‏.‏

ثم أخبر تعالى عن المجرمين أَنَّهم في الدنيا في حيرة وانتلاف، وفقد هدى، وفي الآخرة في احتراق وتسعُّر، وقال ابن عباس‏:‏ المعنى‏:‏ في خسران وجُنُونٍ، والسُّعُرُ‏:‏ الجنون، وأكثر المفسرين على أَنَّ المجرمين هنا يُرَادُ بهم الكُفَّارُ، والسَّحْبُ‏:‏ الجَرُّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 55‏]‏

‏{‏إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ‏(‏49‏)‏ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ‏(‏50‏)‏ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏51‏)‏ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ‏(‏52‏)‏ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ‏(‏53‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ‏(‏54‏)‏ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ‏(‏55‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُلَّ شَئ خلقناه بِقَدَرٍ‏}‏ قرأ جمهور الناس‏:‏ ‏{‏كُلَّ‏}‏ بالنصب، وقالوا‏:‏ المعنى‏:‏ إنَّا خلقنا كُلَّ شيء بقدر سابق، وليست خلقنا في موضع الصفة لشيء، وهذا مذهب أهل السُّنَّةِ وهذا المعنى يقتضى أَنَّ كُلَّ شيء مخلوق إلاَّ ما قام عليه الدليل أَنَّه ليس بمخلوق؛ كالقرآن والصفات‏.‏

* ت *‏:‏ قال الثعلبيُّ‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ خَلَقَ اللَّه الخَلْقَ كُلَّهم بقدر، وَخَلَقَ الخيرَ والشَّرَّ، فخيرُ الخير‏:‏ السعادةُ، وَشَرُّ الشَّرِّ‏:‏ الشقاوة‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة‏}‏ قال * ع *‏:‏ أي‏:‏ إلاَّ قولة واحدة، وهي «كن»‏.‏

* ت *‏:‏ قوله‏:‏ إلاَّ قوله فيه قَلَقٌ ما، وكأَنَّه فَهِمَ أَنَّ معنى الآية راجع إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 40‏]‏ وعبارة الثعلبيِّ‏:‏ أي‏:‏ وما أمر الساعة إلاَّ واحدة، أي‏:‏ إلاَّ رجفة واحدة، قال أبو عبيد هي نعت للمعنى دون اللفظ، مجازه‏:‏ وما أمرنا إلاَّ مرة واحدة كن فيكون ‏{‏كَلَمْحٍ بالبصر‏}‏، أي‏:‏ كخطف بالبصر، فقيل له‏:‏ إنَّه يعني الساعةَ، فقال‏:‏ الساعة وجميع ما يريد، انتهى، وكلام أبي عبيد عندي حَسَنٌ‏.‏

والأشياع‏:‏ الفِرَقُ المتشابهة في مذهب، أو دين، ونحوهِ، الأَوَّلُ شيعةٌ للآخر، والآخرُ شيعة للأَوَّلِ، وكُلُّ شيء فعلته الأُمَم المُهْلَكَةُ في الزبر، أي‏:‏ مكتوب محفوظ عليهم إلى يوم الحساب؛ قاله ابن عباس وغيره، و‏{‏مُّسْتَطَرٌ‏}‏ أي‏:‏ مُسَطَّر، وقرأ الجمهور‏:‏ و‏{‏وَنَهَرٍ‏}‏ بفتح النون والهاء؛ على أَنَّه اسم الجنس يريد به الأنهار، أو على أَنَّه بمعنى‏:‏ وَسَعَةٍ في الأرزاق والمنازل، قال أبو حيان‏:‏ وقرأ الأعمش «وَنُهُرٍ» بضم النون والهاء جمع نَهْرٍ؛ ك«رَهُنٍ» وَ«رَهْنٍ» انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ‏}‏ يحتمل أنْ يريدَ به الصّدقَ الذي هو ضِدُّ الكَذِبِ، أي‏:‏ المقعد الذي صدقوا في الخبر به، ويحتمل أنْ يكون من قولك‏:‏ عود صدق، أي‏:‏ جيد، وَرَجُلٌ صِدْقٌ، أي‏:‏ خير، والمليك المقتدر‏:‏ اللَّه تعالى‏.‏

* ت *‏:‏ وقال الثعلبيُّ‏:‏ ‏{‏فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ‏}‏ أي‏:‏ في مجلس حَقٍّ لا لَغْوَ فيه ولا تأثيمَ، وهو الجنة عند مليك مقتدر، و‏{‏عِندَ‏}‏‏:‏ إشارة إلى القربة والرُّتْبَةِ، انتهى‏.‏

* ص *‏:‏ قال أبو البقاء‏:‏ ‏{‏فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ‏}‏‏:‏ بدل من قوله‏:‏ ‏{‏فِي جنات‏}‏ انتهى، قال المُحَاسِبِيُّ‏:‏ وإذا أخذ أهلُ الجنة مجالسَهم، واطمأنوا في مقعد الصدق الذي وعده اللَّه لهم، فهم في القُرْبِ من مولاهم سبحانه على قدر منازلهم عنده، انتهى من كتاب «التَّوَهُّمِ» ثم قال المُحَاسِبيُّ بإثْرِ هذا الكلام‏:‏ فلو رأيتهم، وقد سمعوا كلامَ ربهم، وقد داخل قلوبَهم السرورُ، وقد بلغوا غايةَ الكرامة ومنتهى الرضا والغِبْطَةِ، فما ظَنُّك بنظرهم إلى العزيز العظيم الجليل الذي لا تقع عليه الأوهام؛ ولا تحيطُ به الأفهام، ولا تحده الفِطَنُ، ولا تكيِّفه الفِكَرُ، الأَزَلِيُّ القديم، الذي حارت العقول عن إدراكه، وكَلَّتِ الألسن عن كُنْهِ صفاته‏؟‏‏!‏انتهى‏.‏

سورة الرحمن

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏الرَّحْمَنُ ‏(‏1‏)‏ عَلَّمَ الْقُرْآَنَ ‏(‏2‏)‏ خَلَقَ الْإِنْسَانَ ‏(‏3‏)‏ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ‏(‏4‏)‏ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الرحمن * عَلَّمَ القرءان‏}‏ الرحمن‏:‏ بناء مبالغة من الرحمة، وقوله‏:‏ ‏{‏عَلَّمَ القرءان‏}‏ تعديد نعمةٍ، أي‏:‏ هو مَنَّ به، وعَلَّمَهُ الناسَ، وخَصَّ حُفَّاظَهُ وَفَهَمَتَهُ بالفضل؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»، ومن الدليل على أَنَّ القرآنَ غيرُ مخلوقٍ، أَنَّ اللَّه تعالى ذكر القرآن في كتابه في أربعة وخمسين موضعاً ما فيها موضِعٌ صَرَّحَ فيه بلفظ الخلق، ولا أشار إليه، وذكر الإنسانَ على الثُّلُثِ من ذلك في ثمانيةَ عَشَرَ موضعاً كُلُّها نَصَّتْ على خلقه، وقد اقترن ذكرُهُمَا في هذه السورة على هذا النحو، والإنسان هنا اسم جنس؛ قاله الزَّهْرَاوِيُّ وغيره، قال الفخر‏:‏ ‏{‏الرحمن‏}‏‏:‏ مبتدأ خبره الجملة الفعلية التي هي ‏{‏عَلَّمَ القرءان‏}‏، انتهى، و‏{‏البيان‏}‏‏:‏ النُّطْقُ والفهم والإبانة عن ذلك بقولٍ؛ قاله الجمهور، وبذلك فُضِّلَ الإنسان من سائر الحيوان، وكل المعلومات داخلة في البيان الذي عَلّمه الإنسان، فمن ذلك البيان‏:‏ كونُ ‏{‏الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ‏}‏‏:‏ وهذا ابتداء تعديد نِعَمٍ، قال قتادة‏:‏ ‏{‏بِحُسْبَانٍ‏}‏‏:‏ مصدر كالحساب، وقال أبو عبيدةَ معمر بن المثنى والضَّحَّاك‏:‏ هو جمع حساب، والمعنى‏:‏ أَنَّ هذين لهما في طلوعهما وغروبهما وقطعهما البروجَ وغيرِ ذلك حساباتٌ شَتَّى، وهذا مذهب ابن عباس وغيرِهِ، وقال قتادة‏:‏ الحسبان‏:‏ الفلك المستدير، شَبَّهَهُ بحُسْبَان الرَّحَى، وهو العود المستدير الذي باستدارته تستدير المطحنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 13‏]‏

‏{‏وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ‏(‏6‏)‏ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ‏(‏7‏)‏ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ‏(‏8‏)‏ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ‏(‏9‏)‏ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ ‏(‏10‏)‏ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ ‏(‏11‏)‏ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ‏(‏12‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والنجم والشجر يَسْجُدَانِ‏}‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ النجم‏:‏ النباتُ الذي لا ساقَ له‏.‏ قال * ع *‏:‏ وسُمِّيَ نَجْماً؛ لأَنَّه نَجَمَ، أي‏:‏ ظَهَر، وهو مناسب للشجر نسبةً بَيِّنَةً، وقال مجاهد وغيره‏:‏ النجم‏:‏ اسم الجنس من نجومِ السماءِ‏:‏ قال * ع *‏:‏ والنسبة التي لها من السَّمَاءِ هي التي للشَّجَرِ من الأرض؛ لأَنَّهُمَا في ظاهرهما، وسُمِّيَ الشَّجَرَ؛ من اشتجار غصونه، وهو تداخُلُها، قال مجاهد‏:‏ وسجودُهُمَا عبارةٌ عن التذلُّلِ والخضوعِ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَوَضَعَ الميزان‏}‏‏:‏ يريد به العدل؛ قاله أكثرُ الناسَ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الميزان‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان‏}‏ يريد به الميزانَ المعروفَ وأَلاَّ هو بتقدير لئلاَّ، أو مفعول من أجله، وفي مصحف ابن مسعود‏:‏ «لاَ تَطْغَوا في المِيزَانِ» وقرأ بلال بن أبي بُردَةَ‏:‏ «تَخْسِرُوا» بفتح التاء وكسر السين؛ من خَسَرَ، ويقال‏:‏ خَسَرَ وَأَخْسَرَ بمعنى نَقَصَ، وأفسد؛ كَجَبَرَ وأَجْبَرَ‏.‏

والأنام‏:‏ قال الحسن بن أبي الحَسَنِ‏:‏ هم الثقلان، الإنْسُ والْجِنُّ، وقال ابن عباس، وقتادة وابن زيد والشَّعْبِيُّ‏:‏ هم الحيوانُ كلُّه‏.‏

‏{‏والنخل ذَاتُ الأكمام‏}‏ وذلك أَنَّ طَلْعَهَا في كُمٍّ وفروعَها أيضاً في أكمامٍ مِنْ ليفِهَا، والكُمُّ من النَّبَاتِ‏:‏ كلُّ ما التف على شَيْءٍ وَسَتَرَهُ‏:‏ ومنه كمائم الزَّهْرِ، وبه شُبِّهَ كُمُّ الثوب‏.‏

‏{‏والحب ذُو العصف‏}‏‏:‏ هو الْبُرُّ والشَّعِيرُ وما جرى مجراه، قال ابن عباس‏:‏ العَصْفُ‏:‏ التِّبْنُ، واخْتُلِفَ في الرَّيْحَان، فقال ابن عَبَّاس وغيره‏:‏ هو الرِّزْق، وقال الحسن‏:‏ هو رَيْحَانُكُمْ هذا، وقال ابن زيد وقتادة‏:‏ الريحانُ هو كُلُّ مشمومٍ طَيِّبٍ، قال * ع *‏:‏ وفي هذا النوع نعمة عظيمة، ففيه الأزهار، والمِنْدَلُ والعقاقير، وغير ذلك، وقرأ الجمهور‏:‏ «وَالرَّيْحَانُ» بالرفع؛ عطفاً على «فاكهة» وقرأ حمزة والكسائيُّ‏:‏ «وَالرَّيْحَانِ» بالخفض؛ عطفاً على «العَصْف»، ف«الريحان» على هذه القراءة‏:‏ الرزق، ولا يدخل فيه المشمومُ إلاَّ بتكَلُّفٍ، و«ريحان» أصله «رَوْحَان»؛ فهو من ذوات الواو؛ و«الآلاء»‏:‏ النِّعَمُ، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏رَبِّكُمَا‏}‏ للجن والإنس اللَّذَيْن تضمَّنهما لفظُ الأَنامِ، وأيضاً ساغ تقديمُ ضميرهما عليهما؛ لذكر الإنسان والجانِّ عَقِبَ ذلك، وفيه اتساع، وقال منذر بن سَعِيدٍ‏:‏ خُوطِبَ مَنْ يعقِلُ؛ لأَنَّ المخاطبة بالقرآن كُلِّه هي للإنس والجن، وعن جابر قال‏:‏ ‏"‏ قرأ علينا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سُورَةَ الرحمن، حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ‏:‏ «مَالي أَرَاكُمْ سُكُوتاً‏؟‏‏!‏ لَلْجِنُّ كَانُوا أَحْسَنَ رَدًّا مِنْكُمْ؛ مَا قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الآيةَ مِنْ مَرَّةٍ‏:‏ ‏{‏فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ إلاَّ قَالُوا‏:‏ لاَ بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبّنَا نُكَذِّبُ ‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 21‏]‏

‏{‏خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ‏(‏14‏)‏ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ‏(‏15‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏16‏)‏ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ‏(‏17‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏18‏)‏ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ‏(‏19‏)‏ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ‏(‏20‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏21‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الإنسان مِن صلصال كالفخار * وَخَلَقَ الجان مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ‏}‏ الآية‏:‏ اخْتُلِفَ في اشتقاقِ «الصَّلْصَال»؛ فقيل‏:‏ هو من صَلَّ‏:‏ إذا أَنْتَنَ، فهي إشارةٌ إلى الحَمْأَةِ، وقال الجمهور‏:‏ هو من صَلَّ‏:‏ إذَا صَوَّتَ، وذلك في الطين لجودته، فهي إشارة إلى ما كان في تربة آدم من الطين الحُرِّ؛ وذلك أَنَّ اللَّه تعالى خلقه من طين مختلِفٍ، فمرَّةً ذكر في خلقه هذا، ومرَّةً هذا، وكُلُّ ما في القرآن صفاتٌ ترددتْ على التراب الذي خُلِقَ منه، و«الفَخَّارُ»‏:‏ الطين الطَّيِّبُ إذا مَسَّهُ الماء فخر، أي‏:‏ رَبَا وَعَظُمَ، والجانُّ‏:‏ اسم جنس كالجِنَّةِ، قال الفخر‏:‏ وفي الجانِّ وجه آخر‏:‏ أنَّه أبو الجنِّ، كما أَنَّ الإنسان هنا أبو الإنْسِ خُلِقَ من صَلْصَالٍ، ومَنْ بعده خُلِقَ من صُلْبِهِ؛ كذلك الجَانُّ هنا أبو الجَنِّ خُلِقَ من نارٍ، ومَنْ بعده من ذرِّيَّتِهِ، انتهى، و«المارج»‏:‏ اللهب المُضْطَرِبْ من النار، قال ابن عباس‏:‏ وهو أحسنُ النَّارِ المختلِطِ من ألوانٍ شتى، قال أبو حيَّان‏:‏ المَارِجُ المختلِطُ من أصْفَر، وأخضَرَ، وأحْمَرَ، انتهى‏.‏

وكَرَّرَ سبحانه قوله‏:‏ ‏{‏فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تِكَذِّبَانِ‏}‏؛ تأكيداً وتنبيهاً للنفوس، وتحريكاً لها، وهذه طريقة من الفصاحة معروفة، وهي من كتاب اللَّه في مواضع؛ وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كلام العرب، وذهب قوم إلى أَنَّ هذا التكرار إنَّما هو لما اختلفت النعم المذكورة كَرَّرَ التوقيفَ مع كُلِّ واحدة منها، قال * ع *‏:‏ وهذا حسَنٌ، وقال الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ‏:‏ التكرار لِطَرْدِ الغَفْلَةِ، وللتأكيد، وخَصَّ سبحانه ذكرَ المَشْرِقَيْنِ والمغربين بالتشريف في إضافة الرب إليهما؛ لعظمهما في المخلوقات‏.‏

* ت *‏:‏ وتحتمل الآية أَنْ يرادَ المشرقين والمغربين وما بينهما كما هو في «سورة الشعراء» واختلف الناس في ‏{‏البحرين‏}‏؛ قال * ع *‏:‏ والظاهر عندي أَنَّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏البحرين‏}‏ يريد بهما نَوْعَي الماءِ العَذْبِ والأُجِاجِ، أي‏:‏ خلطهما في الأرض، وأرسلهما متداخلين في وضعهما في الأرض، قريب بعضهما من بعض، ولا بَغْيَ، قال * ع *‏:‏ وذكر الثعلبيُّ في ‏{‏مَرَجَ البحرين‏}‏ ألغازاً وأقوالاً باطنةً يجب أَلاَّ يُلْتَفَتَ إلى شَيْءٍ منها‏.‏

* ت *‏:‏ ولا شَكَّ في اطِّرَاحِهَا، فمنها نقله عن الثوريِّ ‏{‏مَرَجَ البحرين‏}‏‏:‏ فاطمة وعليٌّ، ‏{‏الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ‏}‏‏:‏ الحَسَنُ والحُسَيْنُ، ثم تمادى في نحو هذا مِمَّا كان الأولى به تركُهُ، ومَرِجَ الشَّيْءُ، أي‏:‏ اختلط، و«البَرْزَخُ»‏:‏ الحاجز، قال البخاريُّ ‏{‏لاَّ يَبْغِيَانِ‏}‏‏:‏ لا يختلطان، انتهى، قال ابن مسعود‏:‏ ‏{‏وَالمَرْجَانُ‏}‏‏:‏ حجر أحمر، وهذا هو الصواب، قال عطاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ‏:‏ وهو البُسذ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 25‏]‏

‏{‏يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ‏(‏22‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏23‏)‏ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ‏(‏24‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏25‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ‏}‏ قال جمهور من المتأولين‏:‏ إنما يخرُج ذلك من «الأُجَاجِ» في المواضع التي تقع فيها الأنهار والمياه العذبة؛ فلذلك قال‏:‏ ‏{‏مِنْهُمَا‏}‏‏.‏

* ت *‏:‏ وهذا بناء على أَنَّ الضمير في ‏{‏مِنْهُمَا‏}‏ للعذب وللمالح، وأَمَّا على قول مَنْ قال‏:‏ إنَّ البحرين بَحْرُ فَارِسَ والرُّومِ، أو بَحْر القُلْزُمِ وبَحْرُ الشَّامِ فلا إشكالَ؛ إذْ كُلُّها مالحةٌ، وقد نقل الأخفش عن قوم؛ أَنَّهُ يخرج اللؤلؤ والمرجان من المالح ومن العذب، وليس لِمَنْ رَدَّهُ حُجَّةٌ قاطعة، ومَنْ أَثْبَتَ أولى مِمَّنْ نفى، قال أبو حيَّان‏:‏ والضمير في ‏{‏مِنْهُمَا‏}‏ يعود على البحرين، يعني‏:‏ العَذْبَ والمَالِحَ، والظاهرُ خروجُ اللؤلؤِ والمَرْجَانِ منهما، وحكاه الأخفَشُ عن قوم، انتهى، والجَوَارِي‏:‏ جمع جارية، وهي السُّفُنُ، وقرأ حمزة وأبو بكر‏:‏ «المنْشِئَاتُ» بكسر الشين، أي‏:‏ اللواتي أنشأْنَ جَرْيَهُنَّ، أي‏:‏ ابتدأْنَهُ، وقرأ الباقون بفتح الشين، أي‏:‏ أنشأها اللَّهُ أو الناسُ، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏المنشئات‏}‏‏:‏ ما رُفِعَ قِلْعُهُ من السفن ‏{‏كالأعلام‏}‏، أي‏:‏ كالجبال‏.‏

* ت *‏:‏ ولفظ البخاريِّ‏:‏ ‏{‏المنشئات‏}‏‏:‏ ما رُفِعَ قِلْعُهُ من السفن، فأَمَّا ما لا يرفعُ قِلْعُهُ، فليس بمنشآت، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 28‏]‏

‏{‏كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ‏(‏26‏)‏ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ‏(‏27‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏28‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا‏}‏ أي‏:‏ على الأرض ‏{‏فَانٍ‏}‏ والإشارة بالفناء إلى جميع الموجودات على الأرض من حيوان وغيره، والوجه‏:‏ عبارة عن الَّذَاتِ، لأَنَّ الجارحة منفيَّةٌ في حَقِّه سبحانه؛ قال الداوديُّ‏:‏ وعن ابن عباس ‏{‏ذُو الجلال‏}‏‏:‏ قال‏:‏ ذو العظمة والكبرياء، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 36‏]‏

‏{‏يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ‏(‏29‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏30‏)‏ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ ‏(‏31‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏32‏)‏ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ‏(‏33‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏34‏)‏ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ ‏(‏35‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏36‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُهُ مَن فِى السموات والأرض‏}‏ أي‏:‏ مِنْ مَلَكٍ، وإنس، وجنٍّ، وغيرهم، لا غنى لأحد منهم عنه سبحانه، كُلُّهم يَسْأَله حاجَتَهُ، إمَّا بلسانِ مقاله، وإمَّا بلسانِ حاله‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ‏}‏ أي‏:‏ يُظْهِرُ شأناً من قدرته التي قد سبقت في الأَزَلِ في ميقاته من الزمان، من إحياءٍ وإماتةٍ، ورِفْعَةٍ وخَفْضٍ، وغيرِ ذلك من الأمور التي لا يعلم نهايتها إلاَّ هو سبحانه، و«الشأن»‏:‏ هو اسم جنس للأمور، قال الحسين بن الفضل‏:‏ معنى الآية‏:‏ سَوْقُ المقادير إلى المواقيت؛ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَرَأَ هذه الآيَةَ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ مَا هذا الشَّأْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ يَغْفِرُ ذَنْبَاً، وُيُفَرِّجُ كَرْباً، وَيَرْفَعُ قَوْماً، وَيَضَعُ آخَرِينَ ‏"‏ وذكر النَّقَّاش أَنَّ سبب هذه الآيةِ قولُ اليهود‏:‏ استراح اللَّهُ يَوْمَ السَّبْتِ، فَلاَ يُنَفِّذُ فِيهِ شَيْئاً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان‏}‏‏:‏ عبارة عن إتيان الوقت الذي قَدَّرَ فيه، وقضى أَنْ ينظرَ في أُمور عباده، وذلك يوم القيامة، وليس المعنى‏:‏ أَنَّ ثَمَّ شغلاً يتفرَّغ منه؛ إذْ لا يشغله سبحانه شأنٌ عن شأن، وإنَّما هي إشارةُ وعيدٍ وتهديدٍ، قال البخاريُّ‏:‏ وهو معروفٌ في كلام العرب؛ يقال‏:‏ لأَفْرُغَنَّ لَكَ، وما به شُغُلٌ، انتهى، و‏{‏الثقلان‏}‏‏:‏ الإِنس والجن؛ يقال‏:‏ لكل ما يَعْظُمُ أمرُه‏:‏ ثَقَلٌ، وقال جعفرُ بْنُ محمَّدٍ الصَّادِقُ‏:‏ سُمِّيَ الإنْسُ والجِنُّ ثَقَلَيْنِ؛ لأَنَّهما ثَقُلاَ بالذنوبِ، قال * ع *‏:‏ وهذا بارعٌ ينظر إلى خلقهما من طين ونار، واختلف الناسُ في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ فقال الطبريُّ‏:‏ قال قوم‏:‏ المعنى‏:‏ يُقَالُ لهم يومَ القيامة‏:‏ ‏{‏يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال الضَّحَّاك‏:‏ وذلك أَنَّهُ يَفِرُّ الناسُ في أقطار الأرض، والجِنُّ كذلك؛ لما يَرَوْنَ من هول يوم القيامة، فيجدون سَبْعَةَ صفوف من الملائكة، قد أحاطَتْ بالأرض، فيرجعون من حيثُ جاؤوا، فحينئذٍ يقال لهم‏:‏ ‏{‏يامعشر الجن والإنس‏}‏، وقال بعض المفسِّرين‏:‏ هي مخاطبةٌ في الدنيا، والمعنى‏:‏ إنِ استطعتم الفِرَارَ مِنَ المَوْتِ بأنْ تَنْفُذُوا من أقطار السموات والأرض، فانفذوا‏.‏

* ت *‏:‏ والصوابُ الأول‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فانفذوا‏}‏‏:‏ صيغة أمر، ومعناه‏:‏ التعجيز، و«الشُّوَاظُ»‏:‏ لَهَبُ النار؛ قاله ابن عباس وغيره، قال أبو حَيَّان‏:‏ الشُّوَاظُ‏:‏ هو اللهب الخالصُ بغَيْرِ دُخَانٍ، انتهى، و«النُّحَاسُ»‏:‏ هو المعروف؛ قاله ابن عباس وغيره، أي‏:‏ يُذَابُ ويُرْسَلُ عليهما، ونحوه في البخاريِّ، قال * ص *‏:‏ وقال الخليل‏:‏ «النُّحَاسُ» هنا هو‏:‏ الدُّخَانُ الذي لا لَهَبَ له، ونقله أيضاً أبو البقاء وغيره، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 45‏]‏

‏{‏فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ‏(‏37‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏38‏)‏ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ ‏(‏39‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏40‏)‏ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ ‏(‏41‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏42‏)‏ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ‏(‏43‏)‏ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ ‏(‏44‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏45‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِذَا انشقت السماء‏}‏‏:‏ جواب «إِذا»محذوفٌ مقصودٌ به الإِبهام؛ كأَنَّه يقول‏:‏ فإذا انشقَّتِ السماءُ، فما أَعْظَمَ الهَوْلَ‏!‏ قال قتادة‏:‏ السماءُ اليومَ خَضْرَاءُ، وهي يوم القيامة حَمْرَاءُ، فمعنى قوله‏:‏ ‏{‏وَرْدَةً‏}‏ أي‏:‏ مُحْمَرَّةً كالوَرْدَةِ، وهي النُّوَّارُ المعروفُ؛ وهذا قول الزَّجاجِ وغيره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كالدهان‏}‏ قال مجاهدٌ وغيره‏:‏ هو جمع دُهْنٍ؛ وذلك أَنَّ السماء يعتريها يومَ القيامة ذَوْبٌ وتَمَيُّعٌ من شِدَّةِ الهَوْلِ، وقال ابن جُرَيْجٍ‏:‏ من حَرِّ جَهَنَّمَ، نقله الثعلبيُّ، وقيل غير هذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ‏}‏ قال قتادة وغيره‏:‏ هي مواطنُ؛ فلا تعارُضَ بين الآيات‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَيُؤْخَذُ بالنواصى والأقدام‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يُؤْخَذُ كُلُّ كافر بناصيته وقدَمَيْهِ، ويطوى، ويُجمَعُ كالحَطَبِ، ويلقى كذلك في النار، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ أَنَّ بعضَ الكفرة يُؤْخَذُونَ بالنواصي، وبعضُهم يُسْحَبُونَ، ويُجَرُّون بالأقدام‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذه جَهَنَّمُ‏}‏ أي‏:‏ يقال لهم على جهة التوبيخ، وفي مصحف ابن مسعود‏:‏ «هذه جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمَا بِهَا تُكَذِّبَانِ لاَ تَمُوتَانِ فِيهَا وَلاَ تَحْيَيَانِ»‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ‏}‏ المعنى‏:‏ أَنَّهم يتردَّدون بين نارِ جهنَّم وَجَمْرِهَا، وبين حميمٍ، وهو ما غُلِيَ في جهنَّم من مائع عذابها، وآنَ الشَّيْءُ‏:‏ حَضَرَ، وآنَ اللَّحْمُ أو ما يُطْبَخُ أوْ يغلى‏:‏ نَضِجَ وتناهى حَرُّهُ، وكونُهُ من الثاني أَبْيَنُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 57‏]‏

‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ‏(‏46‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏47‏)‏ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ‏(‏48‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏49‏)‏ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ‏(‏50‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏51‏)‏ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ‏(‏52‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏53‏)‏ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ‏(‏54‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏55‏)‏ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ‏(‏56‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏57‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ‏}‏ أي‏:‏ موقِفَهُ بينَ يَدَيْ ربه، وقيل في هذه الآية‏:‏ إنَّ كُلَّ خائف له جَنَّتَانِ‏.‏

* ت *‏:‏ قال الثعلبيُّ‏:‏ قال محمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الترمذيُّ‏:‏ جَنَّةٌ لخوفه من ربِّه، وجنَّةٌ لتركه شهوَته، و«الأَفْنَان»‏:‏ يحتمل أنْ تكون جمع «فَنَنٍ»، وهو الغُصْن، وهذا قولُ مجاهد، فكأَنَّهُ مدَحَهَا بظلالِهَا وتَكَاثُفِ أغصانها، ويحتمل أنْ تكونَ جمع «فَنٍّ»، وهو قول ابن عباس، فكأَنَّه مدحها بكثرة فواكِهِهَا ونعيمِهَا، و‏{‏زَوْجَانِ‏}‏ معناه‏:‏ نَوْعَانِ‏.‏

* ت *‏:‏ ونقل الثعلبيُّ عنِ ابنِ عَبَّاس قال‏:‏ ما في الدنيا شجرةٌ حُلْوَةٌ ولا مُرَّةٌ إلاَّ وهي في الجنة، حتى الحَنْظَلُ إلاَّ أَنَّهُ حُلْوٌ انتهى‏.‏

و ‏{‏مُتَّكِئِينَ‏}‏‏:‏ حالٌ، وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏عَلَى فُرُشٍ‏}‏ بضم الراء، ورُوِيَ في الحديث ‏"‏ أَنَّه قيل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ هَذِهِ الْبَطَائِنُ مِنْ إسْتَبْرَقٍ، فَكَيْفَ الظَّوَاهِرُ‏؟‏‏!‏ قَالَ‏:‏ هِيَ مِنْ نُورٍ يَتَلأَلأُ ‏"‏، والإِستبرقُ‏:‏ ما خَشُنَ وحَسُنَ من الدِّيبَاجِ، والسُّنْدُسُ‏:‏ ما رَقَّ منه، وقد تقدَّم القولُ في لفظ الإِسْتَبَرقِ، والضميرُ في قوله‏:‏ ‏{‏فِيهِنَّ‏}‏ لِلْفُرُشِ، وقيل‏:‏ للجنات، إذِ الجنتان جناتٌ في المعنى، و«الجنى»‏:‏ ما يجنى من الثمار، ووصفه بالدُّنُوِّ؛ لأَنَّه يدنو إلى مشتهيه، فيتناوله كيف شاء من قيام، أو جلوس، أو اضطجاع، رُوِيَ معناه في الحديث، و‏{‏قاصرات الطرف‏}‏‏:‏ هُنَّ الحور، قَصَرْنَ ألحاظَهُنَّ على أزواجهن‏:‏ ‏{‏لَمْ يَطْمِثْهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ لم يفتضَّهنَّ؛ لأَنَّ الطَّمْثَ دَمُ الفَرْجِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ جَانٌّ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ الجن قد تُجَامِعُ نساءَ البَشَرِ مع أزواجهن إذا لم يذكر الزوجُ اسمَ اللَّه، فنفى سبحانَهُ في هذه الآية جميعَ المجامعاتِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 61‏]‏

‏{‏كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ‏(‏58‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏59‏)‏ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ‏(‏60‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏61‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان‏}‏ الآية، الياقوتُ والمَرْجَان هي من الأشياء التي قد بَرَعَ حُسْنُهَا، واستشْعَرَتِ النفوسُ جلالتها، فوقع التشبيه بها فيما يشبه، ويحسن بهذه المُشَبَّهَاتِ، فالياقوتُ في املاسه وشُفُوفِهِ، ولو أدخلْتَ فيه سِلْكاً، لرأيته من ورائه، وكذلك المرأة من نساء الجنة يُرَى مُخُّ ساقها من وراء العَظْم، والمَرْجَانُ في املاسِّه وجمالِ منظره‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هَلْ جَزَاءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان‏}‏‏:‏ آيةُ وَعْدٍ وبَسْطٍ لنفوسِ جميعِ المؤمنين؛ لأَنَّها عامَّةٌ؛ قال ابن المُنْكَدِرِ، وابن زيد، وجماعةٍ من أهْلِ العلم‏:‏ هي لِلْبَرِّ والفاجر، والمعنى‏:‏ أَنَّ جزاءَ مَنْ أحْسَنَ بالطاعةِ أَنْ يُحْسَنَ إليه بالتنْعِيمِ، وحكى النَّقَّاشُ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَّرَ هذه الآية‏:‏ هَلْ جَزَاءُ التَّوْحِيدِ إلاَّ الجَنَّةُ‏.‏

* ت *‏:‏ ولو صَحَّ هذا الحديثُ، لوجَبَ الوقوفُ عنده، ولكنَّ الشأن في صِحَّتِهِ، قال الفخر‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ جَزَاءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان‏}‏ فيه وجوهٌ كثيرةٌ، حتى قيل‏:‏ إنَّ في القرآن ثلاثَ آيات، في كل واحدة منها مائةُ قَوْلٍ، إحداها‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاذكرونى أَذْكُرْكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 152‏]‏ وثانيتُهَا‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 8‏]‏ وثالثتها‏:‏ ‏{‏هَلْ جَزَاءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان‏}‏ ولنذكر الأشهر منها والأقرب‏:‏

أما الأشهر فوجوه‏.‏

أحدها‏:‏ هل جزاء التوحيدِ إلاَّ الجنةُ، أي‏:‏ هل جزاءُ مَنْ قال‏:‏ لا إله إلا اللَّه إلاَّ دخولُ الجَنَّةِ‏.‏

ثانيها‏:‏ هل جزاءُ الإحسان في الدنيا إلاَّ الإحسانُ في الآخرة‏.‏

ثالثها‏:‏ هل جزاء مَنْ أحسنَ إليكم بالنعم في الدنيا إلاَّ أَنْ تَحْسِنُوا له العبادَةَ والتقوى‏.‏

وأمَّا الأقرب فهو التعميم، أي‏:‏ لأنَّ لفظ الآية عامٌّ، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 78‏]‏

‏{‏وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ‏(‏62‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏63‏)‏ مُدْهَامَّتَانِ ‏(‏64‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏65‏)‏ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ‏(‏66‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏67‏)‏ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ‏(‏68‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏69‏)‏ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ‏(‏70‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏71‏)‏ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ‏(‏72‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏73‏)‏ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ‏(‏74‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏75‏)‏ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ‏(‏76‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏77‏)‏ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ‏(‏78‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ‏}‏ قال ابْنُ زَيْدٍ وغيره‏:‏ معناه أَنَّ هاتين دون تَيْنِكَ في المنزلة والقُرْبِ، فالأُولَيَانِ للمقرَّبين، وهاتان لأصْحَابِ اليَمِينِ، وعن ابن عباس‏:‏ أَنَّ المعنى‏:‏ أَنَّهُمَا دونهما في القرب إلى المُنَعَّمِينَ، وأَنَّهُما أفضلُ من الأُولَيَيْنِ، قال * ع *‏:‏ وأكثر الناس على التأويل الأول‏.‏

* ت *‏:‏ واختار الترمذيُّ الحكيمُ التأويلَ الثاني، وأطنب في الاحتجاج له في «نوادر الأصول» له، وخَرَّجَ البخاريُّ هنا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ الحديث، وفيه‏:‏ ‏"‏ إنَّ في الجَنَّةِ خَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ، عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلاً، في كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْل مَا يَرَوْنَ الآخَرِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ ‏"‏ انتهى، و‏{‏مُدْهَامَّتَانِ‏}‏ معناه‏:‏ قد علا لَوْنَهُمَا دُهْمَةٌ وَسَوَادٌ في النَّظْرَةِ والخُضْرَة، قال البخاريُّ‏:‏ ‏{‏مُدْهَامَّتَانِ‏}‏‏:‏ سودَاوَانِ من الرِّيِّ، انتهى، والنَّضَّاخَةُ‏:‏ الفَوَّارَةُ التي يَهِيجُ ماؤُها، وكَرَّرَ النخلَ والرُّمَّانَ، وهما من أفضل الفاكهة؛ تشريفاً لهما، وقالت أُمُّ سَلَمَةَ‏:‏ «قلتُ‏:‏ يا رسول اللَّه، أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏خيرات حِسَانٌ‏}‏ قالَ‏:‏ خَيْرَاتُ الأَخْلاَقِ، حِسَانُ الْوُجُوهِ» وَقُرِئ شاذّاً‏:‏ «خَيِّرَاتٌ» بِشَدِّ الياء المكسورة‏.‏

* ت *‏:‏ وفي «صحيح البخاريِّ» من حديث أنس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لَرَوْحَة في سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ في الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قَيْدِ سَوْطِهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امرأة مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطلعت إلَى أَهْلِ الأَرْضِ لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلأَتْهُ رِيحاً، وَلَنَصِيفُهَا على رَأْسِهَا يعني الخِمَارَ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ‏"‏ وقوله سبحانه ‏{‏مقصورات‏}‏ أي‏:‏ محجوبَاتٌ مَصُونَاتٌ في الخيام، وخيامُ الجَنَّةِ بُيُوتُ اللؤلؤ، قال عمر بن الخَطَّاب رضي اللَّهُ عنه‏:‏ هي دُرٌّ مُجَوَّفٌ، ورواه ابن مَسْعَودٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال الداوديُّ‏:‏ وعن ابن عباس‏:‏ والخيمة لؤلؤة مجوَّفة فَرْسَخٌ في فَرْسَخٍ، لها أربعة آلاف مِصْرَاعٍ، انتهى‏.‏

و«الرَّفْرَفُ»‏:‏ ما تدلى من الأَسِرَّةِ من عالي الثياب والبُسُطِ، وقاله ابن عَبَّاس وغيره، وما يتدلى حول الخِبَاءِ مِنَ الْخِرْقَةِ الهَفَّافَةِ يُسَمَّى رَفْرَفاً، وكذلك يُسَمِّيه الناسُ اليومَ، وقيل غَيْرُ هذا، وما ذكرناه أصْوَبُ، والعَبْقَرِيُّ‏:‏ بُسُطٌ حِسَانٌ، فيها صُوَرٌ وغَيْرُ ذلك، تُصْنَعُ بعَبْقَر، وهو موضعٌ يُعْمَلُ فيه الوشْيُ والدِّيبَاجُ ونحوه، قال ابن عباس‏:‏ العَبْقَرِيُّ‏:‏ الزَّرَابِيُّ، وقال ابن زيد‏:‏ هي الطَّنَافِس، قال الخليل والأصمعيُّ‏:‏ العَرَبُ إذا استحسنَتْ شيئاً واستجادَتْهُ قالَتْ‏:‏ عَبْقَرِيٌّ، قال * ع *‏:‏ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في عُمَرَ‏:‏ ‏"‏ فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِي فَرِيَّهُ ‏"‏‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏تبارك اسم رَبِّكَ ذِى الجلال والإكرام‏}‏‏:‏ هذا الموضعُ مِمَّا أُرِيدَ فيه بالاسم مُسَمَّاهُ، والدعاءُ بهاتَيْنِ الكلمتَيْنِ حَسَنٌ مَرْجُوُّ الإجابةِ، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أَلِظُّوا ب«يَاذَا الْجَلاَلِ وَالإكْرَامِ» ‏"‏

سورة الواقعة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ‏(‏1‏)‏ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ‏(‏2‏)‏ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ‏(‏3‏)‏ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ‏(‏4‏)‏ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ‏(‏5‏)‏ فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ‏(‏6‏)‏ وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِذَا وَقَعَتِ الواقعة‏}‏ الآية، الواقعةُ‏:‏ اسْمٌ من أسماء القيامة؛ قاله ابن عباس، وقال الضَّحَّاكُ‏:‏ الواقعة‏:‏ الصيحة، وهي النفخة في الصور، و‏{‏كَاذِبَةٌ‏}‏‏:‏ يحتمل أَنْ يكون مصدراً، فالمعنى‏:‏ ليس لها تكذيب ولا رَدٌّ ولا مَثْنَوِيَّةٌ؛ وهذا قول مجاهد والحسن، ويحتمل أَنْ يكونَ صفة لِمُقَدَّر، كأَنَّهُ قال‏:‏ ليس لوقعتها حال كاذبة‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ‏}‏ قال قتادة وغيره‏:‏ يعني القيامة تَخْفضُ أقواماً إلى النار، وترفع أقواماً إلى الجنة، وقيل‏:‏ إنَّ بانفطار السموات والأرض والجبال وانهدام هذه البنية، ترتفعُ طائفةٌ من الأجرام، وتَنْخَفِضُ أُخْرَى، فكأَنَّها عبارة عن شِدَّةِ هول القيامة‏.‏

* ت *‏:‏ والأَوَّلُ أبين، وهو تفسير البخاريِّ، ومعنى ‏{‏رُجَّتِ‏}‏‏:‏ زُلْزِلَتْ وَحُرِّكَتْ بعنف؛ قاله ابن عباس، ومعنى ‏{‏وَبُسَّتِ‏}‏‏:‏ فُتَّتْ كما تُبَسُّ البَسِيسَةُ وهي السَّوِيقُ؛ قاله ابن عباس وغيره، وقال بعض اللغويين‏:‏ «بست» معناه‏:‏ سيِّرَتْ، والهباء‏:‏ ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة، ولا يكادُ يُرَى إلاَّ في الشمس إذا دخلتْ من كُوَّةٍ؛ قاله ابن عباس وغيره، والمُنْبَثُّ بالثاء المثلثة‏:‏ الشائع في جميع الهواء، والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏وَكُنتُمْ‏}‏ لجميع العالم، والأزواج‏:‏ الأنواع، قال قتادة‏:‏ هذه منازل الناس يومَ القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 12‏]‏

‏{‏فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ‏(‏8‏)‏ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ‏(‏9‏)‏ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ‏(‏10‏)‏ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ‏(‏11‏)‏ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏12‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فأصحاب الميمنة‏}‏‏:‏ ابتداء، و‏{‏مَا‏}‏ ابتداء ثانٍ، ‏{‏فأصحاب الميمنة‏}‏‏:‏ خبرُ ‏{‏مَا‏}‏، والجملة خبر الابتداء الأوَّلِ، وفي الكلام معنى التعظيم؛ كما تقول‏:‏ زيد ما زيد، ونظير هذا في القرآن كثير، والميمنة أظهر ما في اشتقاقها أَنَّها من ناحية اليمين، وقيل من اليمْن، وكذلك المشأمة‏:‏ إمَّا أَنْ تكونَ من اليد الشُّؤْمى، وإمَّا أَنْ تكونَ من الشؤم، وقد فُسِّرَتِ الآيةُ بهذين المعنيين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسابقون‏}‏‏:‏ ابتداء، و‏{‏السابقون‏}‏ الثاني‏:‏ قال سيبويه‏:‏ هو خبر الأَوَّلِ، وهذا على معنى تفخيم الأمر وتعظيمه، وقال بعض النحاة‏:‏ السابقون الثاني نَعْتٌ للأوَّلِ، ومعنى الصفة أَنْ تقولَ‏:‏ والسابقون إلى الإيمان السابقونَ إلى الجنة والرحمة أَولئك، وَيَتَّجِهُ هذا المعنى على الابتداء والخبر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ المقربون‏}‏‏:‏ ابتداء وخبر، وهو في موضع الخبر؛ على قول مَنْ قال‏:‏ ‏{‏السابقون‏}‏ الثاني صِفَةٌ، و‏{‏المقربون‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ مِنْ اللَّه سبحانه في جَنَّةِ عَدَنٍ، فالسابقون معناه‏:‏ الذين قد سبقت لهم السعادة، وكانت أعمالُهُمْ في الدنيا سبقاً إلى أعمال البِرِّ وإلى ترك المعاصي، فهذا عمومٌ في جميع الناس، وخَصَّصَ المفسرون في هذه أشياء تفتقر إلى سند قاطع، ‏"‏ ورُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ السَّابِقِينَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ «هُمُ الَّذِينَ إذَا أُعْطُوا الْحَقَّ قَبِلُوهُ، وَإذَا سُئِلُوهُ بَذَلُوهُ، وَحَكَمُوا لِلنَّاسِ بِحُكْمِهِمْ لأَنْفُسِهِمْ» ‏"‏ والمقربون عبارة عن أعلى منازل البشر في الآخرة، قال جماعة من أهل العلم‏:‏ هذه الآية متضمنة أَنَّ العالم يومَ القيامة على ثلاثة أصناف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 25‏]‏

‏{‏ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏13‏)‏ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ ‏(‏14‏)‏ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ ‏(‏15‏)‏ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ‏(‏16‏)‏ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ‏(‏17‏)‏ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ‏(‏18‏)‏ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ ‏(‏19‏)‏ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ‏(‏20‏)‏ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏21‏)‏ وَحُورٌ عِينٌ ‏(‏22‏)‏ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ‏(‏23‏)‏ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏24‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين * وَقَلِيلٌ مِّنَ الأخرين‏}‏ الثُّلَّةُ‏:‏ الجماعة، قال الحسن بن أبي الحسن وغيره‏:‏ المراد‏:‏ السابقون من الأمم والسابقون من هذه الأُمَّةِ، ورُوِيَ أَنَّ الصحابة حَزِنُوا لِقِلَّةِ سابقي هذه الأُمَّةِ على هذا التأويل، فنزلت الآية‏:‏ ‏{‏ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين * وَثُلَّةٌ مِّنَ الأخرين‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 39-40‏]‏ فَرَضُوا، ورُوِيَ عن عائشة أَنَّها تأوَّلَتْ‏:‏ أَنَّ الفرقتين في أُمَّةِ كُلِّ نبيٍّ هي في الصدر ثلة وفي آخر الأمة قليل، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه‏:‏ «الفِرْقَتَانِ في أُمَّتِي، فَسَابِقُ أَوَّلِ الأُمَّةِ ثُلَّةٌ، وَسَابِقُ سَائِرِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قليلٌ» قال السهيليُّ‏:‏ وَأَمَّا آخِرُ مَنْ يدخل الجنة، وهو آخِرُ أهل النار خروجاً منها، فرجل اسمه جُهَيْنَةُ، فيقول أهل الجنة‏:‏ تعالوا نسأَله فعند جهينةَ الخبر اليقين، فيسألونه‏:‏ هل بَقِيَ في النار أَحَدٌ بعدك مِمَّنْ يقول‏:‏ لا إله إلا اللَّه‏؟‏ وهذا حديث ذكره الدَّارَقُطْنِيُّ من طريق مالك بن أنس، يرفعه بإسناد إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ذكره في كتاب رواة مالك بن أنس رحمه اللَّه، انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ‏}‏ أي‏:‏ منسوجة بتركيب بعض أجزائها على بعض، كحلق الدِّرْعِ، ومنه وَضِينُ الناقة وهو حِزَامُهَا؛ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏مَّوْضُونَةٍ‏}‏‏:‏ مرمولة بالذهب، وقالَ عِكْرَمَةُ‏:‏ مُشَبَّكَةٌ بالدُّرِّ والياقوت ‏{‏يَطُوفُ عَلَيْهِمْ‏}‏‏:‏ للخدمة ‏{‏ولدان‏}‏‏:‏ وهم صغار الخَدَمَةِ، ووصفهم سبحانه بالخلد، وإنْ كان جميعُ ما في الجنة كذلك، إشارةً إلى أَنَّهُم في حال الولدان مُخَلَّدُونَ، لا تكبر لهم سِنٌّ، أي‏:‏ لا يحولون من حالة إلى حالة؛ وقاله ابن كيسان، وقال الفَرَّاء‏:‏ ‏{‏مُّخَلَّدُونَ‏}‏ معناه‏:‏ مقرطون بالخلدات وهي ضرب من الأقراط والأَوَّلُ أصوب، لأَنَّ العربَ تقول للذي كَبُرَ ولم يَشِبْ‏:‏ إِنَّهُ لَمُخَلَّدٌ، والأكواب‏:‏ ما كان من أواني الشرب لا أَذُنَ له ولا خُرْطُومَ، قال قتادة‏:‏ ليست لها عُرًى، والإبريق‏:‏ ماله خرطوم، والكأس‏:‏ الآنية المُعَدَّةُ للشرب بشريطةِ أَنْ يكونَ فيها خمر، ولا يقال لآنية فيها ماء أو لبن كأس‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مِّن مَّعِينٍ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ معناه من خمر سائلة جارية معينة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا‏}‏ ذهب أكثر المفسرينَ إلى أَنَّ المعنى‏:‏ لا يلحق رءوسَهم الصداعُ الذي يَلْحَقُ من خمر الدنيا، وقال قوم‏:‏ معناه‏:‏ لا يفرقون عنها بمعنى لا تقطعُ عنهم لَذَّتُهُمْ بسببٍ من الأسباب، كما يفرق أهل خمر الدنيا بأنواعٍ من التفريق، ‏{‏وَلاَ يُنزِفُونَ‏}‏ معناه‏:‏ لا تذهب عقولُهم سكراً؛ قاله مجاهد وغيره، والنزيف‏:‏ السكران، وباقي الآية بَيِّنٌ، وَخصَّ المكنون باللؤلؤ؛ لأَنه أصفى لوناً وأبعدُ عن الغير، وسألتْ أُمُّ سَلَمَةَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذَا التَّشْبِيهِ، فَقَالَ‏:‏ «صَفَاؤُهُنَّ كَصَفَاءِ الدُّرِّ في الأَصْدَافِ الَّذِي لاَ تَمَسُّهُ الأَيْدِي» و‏{‏جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ إنَّ هذه الرتبَ والنعيمَ هي لهم بحسب أعمالهم؛ لأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ المنازل والقسم في الجنة هي مقتسمة على قَدْرِ الأعمال، ونَفْسُ دخول الجنة هو برحمة اللَّه وفضله، لا بعمل عامل؛ كما جاء في الصحيح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 38‏]‏

‏{‏إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ‏(‏26‏)‏ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ ‏(‏27‏)‏ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ‏(‏28‏)‏ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ‏(‏29‏)‏ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ‏(‏30‏)‏ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ ‏(‏31‏)‏ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ‏(‏32‏)‏ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ ‏(‏33‏)‏ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ‏(‏34‏)‏ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً ‏(‏35‏)‏ فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ‏(‏36‏)‏ عُرُبًا أَتْرَابًا ‏(‏37‏)‏ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ ‏(‏38‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما‏}‏ قال أبو حيان‏:‏ «إلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً» الظاهر أَنَّ الاستثناءَ مُنْقَطِعٌ؛ لأَنَّهُ لا يَنْدَرِجُ في اللغو والتأثيم، وقيل مُتَّصِلٌ، وهو بعيد، انتهى، قال الزَّجَّاجُ‏:‏ و‏{‏سَلاَماً‏}‏ مصدر، كأَنَّهُ يذكر أَنَّهُ يقول بعضهم لبعض‏:‏ سلاماً سلاماً‏.‏

* ت *‏:‏ قال الثعلبيُّ‏:‏ والسِّدْرُ‏:‏ شجر النَّبْقِ و‏{‏مَّخْضُودٍ‏}‏ أي‏:‏ مقطوع الشوك، قال * ع *‏:‏ ولأهل تحرير النظر هنا إشارةٌ في أَنَّ هذا الخضد بإزاء أعمالهم التي سلموا منها؛ إذ أهل اليمين تَوَّابُونَ لهم سلام، وليسوا بسابقين، قال الفخر‏:‏ وقد بان لي بالدليل أَنَّ المراد بأصحاب اليمين‏:‏ الناجون الذين أذنبوا وأسرفوا، وعفا اللَّه تعالى عنهم بسبب أدنى حَسَنَةٍ؛ لا الذين غلبت حسناتُهُم وكَثُرَتْ، انتهى‏.‏

والطلح ‏(‏من العِضَاهِ‏)‏ شَجَرٌ عظيم، كثيرُ الشوك، وصفه في الجنة على صفة مباينة لحال الدنيا، و‏{‏مَّنْضُودٍ‏}‏ معناه‏:‏ مُرَكَّبٌ ثمره بعضُه على بعض من أرضه إلى أعلاه، وقرأ علي رضي اللَّه عنه وغيره‏:‏ «وَطَلْعٍ» فقيل لعليِّ‏:‏ إنَّما هو‏:‏ «وطَلْحٍ» فقال‏:‏ ما للطلح والجنة‏؟‏‏!‏ قيل له‏:‏ أَنُصْلِحُهَا في المصحف‏؟‏ فقال‏:‏ إنَّ المصحفَ اليومَ لا يُهَاجُ ولا يُغَيِّرُ‏.‏ وقال عليُّ أيضاً وابن عباس‏:‏ الطلح الموز، والظل الممدود‏:‏ معناه‏:‏ الذي لا تنسخه شمس، وتفسير ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنَّ في الْجَنَّةِ شَجْرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الجَوَاد المُضَمَّر في ظِّلِّهَا مِائَةَ سَنَةٍ لاَ يَقْطَعْها ‏"‏، وَاقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ‏:‏ ‏{‏وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ‏}‏، إلى غير هذا من الأحاديث في هذا المعنى‏.‏

* ت *‏:‏ وفي «صحيحي البخاريِّ ومسلم» عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنَّ في الجَنَّةِ شَجْرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّهَا مِائَةَ سَنَةٍ لاَ يَقْطَعُهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ في الجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أوْ تَغْرُبُ ‏"‏ انتهى‏.‏

‏{‏وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ‏}‏ أي‏:‏ جارٍ في غير أُخْدُودٍ‏.‏

‏{‏لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ‏}‏ أي‏:‏ لا مقطوعة بالأزمان كحال فاكهة الدنيا، ولا ممنوعةٌ بوجه من الوجوه التي تمتنع بها فاكهةُ الدنيا، والفُرُشُ‏:‏ الأَسِرَّةُ؛ وعن أبي سعيد الخُدْرِيِّ‏:‏ إنَّ في ارْتِفَاعِ السَّرِيرِ مِنْهَا مَسِيرَةَ خَمْسِ مِائَةِ سَنَةٍ‏.‏

* ت *‏:‏ وهذا إنْ ثبت فلا بُعْدَ فيه، إذْ أحوال الآخرة كلها خَرْقُ عادة، وقال أبو عبيدةَ وغيره‏:‏ أراد بالفرش النساء، و‏{‏مَّرْفُوعَةٍ‏}‏ معناه‏:‏ في الأقدار والمنازل، و‏{‏أنشأناهن‏}‏ معناه‏:‏ خلقناهن شيئاً بَعْدَ شيء؛ وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية‏:‏ ‏"‏ هُنَّ عّجائِزُكُنَّ في الدُّنْيَا عُمْشاً رُمْصاً جَعَلَهُنَّ اللَّهُ بَعْدَ الْكِبَرِ أَتْرَاباً ‏"‏، وَقَالَ لِلْعَجُوزِ‏:‏ ‏"‏ إنَّ الْجَنَّةَ لاَ يَدْخُلُهَا الْعَجُوزُ، فَحَزِنَتْ، فَقَالَ‏:‏ إنَّكِ إذَا ‏[‏دَخَلْتِ الْجَنَّةَ أُنْشِئْتِ خَلْقاً آخَرَ ‏"‏‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فجعلناهن أبكارا‏}‏ قيل‏:‏ معناه‏:‏ دائمة البكارة، متى عاود الوطء‏]‏ وجدها بكراً، والعُرُبُ‏:‏ جمع عَرُوبٍ، وهي المُتَحَبِّبَةُ إلى زوجها بإِظهار محبته؛ قاله ابن عباس، وعبر عنهنَّ ابن عباس أيضاً بالعواشق، وقال زيد‏:‏ العروب‏:‏ الحسنة الكلام‏.‏

* ت *‏:‏ قال البخاريُّ‏:‏ والعروب يسميها أَهْلُ مَكَّةَ العَرِبَةَ، وأهل المدينة‏:‏ الغَنِجَة، وأَهل العراق‏:‏ الشَّكِلَة، انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَتْرَاباً‏}‏ معناه‏:‏ في الشكل والقَدِّ، قال قتادة‏:‏ ‏{‏أَتْرَاباً‏}‏ يعني‏:‏ سِنًّا واحدة، ويُرْوَى أَنَّ أَهل الجنة هم على قَدِّ ابن أربعةَ عَشَرَ عاماً في الشباب، والنُّضْرَةِ، وقيل‏:‏ على مثال أبناء ثلاثٍ وثلاثين سنةً، مُرْداً بيضاً، مُكَحَّلِينَ، زاد الثعلبيُّ‏:‏ على خَلْقِ آدَم، طولُه ستون ذراعاً في سبعة أذرع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 50‏]‏

‏{‏ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏39‏)‏ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ ‏(‏40‏)‏ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ ‏(‏41‏)‏ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ‏(‏42‏)‏ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ‏(‏43‏)‏ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ ‏(‏44‏)‏ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ ‏(‏45‏)‏ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ‏(‏46‏)‏ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ‏(‏47‏)‏ أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ‏(‏48‏)‏ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ ‏(‏49‏)‏ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ‏(‏50‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين * وَثُلَّةٌ مِّنَ الأخرين‏}‏ قال الحسن بن أبي الحسن وغيره‏:‏ الأولون سالف الأُمَمِ، منهم جماعةٌ عظيمة أصحابُ يمين، والآخِرُونَ‏:‏ هذه الأُمَّةُ، منهم جماعة عظيمة أهلُ يمين، قال * ع *‏:‏ بل جميعهم إلاَّ مَنْ كان مِنَ السابقين، وقال قوم من المتأولين‏:‏ هاتان الفرقتان في أُمَّةِ محمد، ورَوَى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال‏:‏ ‏"‏ الثُّلَّتَانِ مِنْ أُمَّتِي ‏"‏، وروى ابن المبارك في «رقائقه» عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال‏:‏ ‏"‏ إنَّ أُمَّتِي ثُلُثَا أَهْلِ الجَنَّةِ، وَالنَّاسُ يَوْمَئِذٍ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، وَإنَّ أُمَّتِي مِنْ ذَلِكَ ثَمَانُونَ صَفًّا ‏"‏ انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وأصحاب الشمال‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ في الكلام معنى الإنحاء عليهم وتعظيم مصائبهم، والسَّمُومُ‏:‏ أشد ما يكون من الحَرِّ اليابس الذي لا بَلَلَ معه، والحميم‏:‏ السخن جِدًّا من الماء الذي في جهنم، واليَحْمُومُ‏:‏ هو الدخانُ الأسودُ يُظِلُّ أهلَ النار؛ قاله ابن عباس والجمهور، وقيل‏:‏ هو سرادق النار المحيط بأهلها؛ فإنَّهُ يرتفع من كل ناحية حتى يُظِلَّهُم، وقيل‏:‏ هو جبل في النار أسود‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ كَرِيمٍ‏}‏ معناه‏:‏ ليس له صفة مدح، قال الثعلبيُّ‏:‏ وعن ابن المُسَيِّبِ ‏{‏وَلاَ كَرِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ ولا حسن نظيره من كل زوج كريم، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏لاَّ بَارِدٍ‏}‏‏:‏ النزل ‏{‏وَلاَ كَرِيمٍ‏}‏‏:‏ المنظر، وهو الظِلُّ الذي لا يغني من اللهب، انتهى، والمُتْرَفُ‏:‏ المُنَعَّمُ في سَرَفٍ، وتخوض، و‏{‏يُصِرُّونَ‏}‏ معناه‏:‏ يعتقدون اعتقاداً لا ينزعون عنه، و‏{‏الحنث‏}‏‏:‏ الإثم، وقال الثعلبيُّ‏:‏ ‏{‏وَكَانُواْ يُصِرُّونَ‏}‏‏:‏ يقيمون ‏{‏عَلَى الحنث العظيم‏}‏ أي‏:‏ الذنب، انتهى، ونحوهُ للبخاريِّ، وهو حَسَنٌ نحو ما في الرسالة، قال قتادة وغيره‏:‏ والمراد بهذا الإثم العظيم‏:‏ الشركُ، وباقي الآية في استبعادهم للبعث، وقد تقدم بيانه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 57‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ‏(‏51‏)‏ لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ ‏(‏52‏)‏ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ‏(‏53‏)‏ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ‏(‏54‏)‏ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ‏(‏55‏)‏ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ‏(‏56‏)‏ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالون‏}‏‏:‏ مخاطبة لِكُفَّار قريش ومَنْ كان في حالهم، و‏{‏مِّن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مِّن زَقُّومٍ‏}‏ لبيان الجنس، والضمير في ‏{‏مِنْهَا‏}‏ عائد على الشجر، والضمير في ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ عائد على المأكول، و‏{‏الهيم‏}‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ جمع «أهيم» وهو الجمل الذي أصابه الهُيَامُ بضم الهاء، وهو داء مُعْطِشٌ يشرب الجملُ حتى يموتَ أو يسقمَ سَقَماً شديداً، وقال قوم هو‏:‏ جمع «هائم» وهو أيضاً من هذا المعنى؛ لأَنَّ الجملَ إذا أصابه ذلك الداءُ، هام على وجهه وذهب، وقال ابن عباس أيضاً وسفيان الثوري‏:‏ ‏{‏الهيم‏}‏‏:‏ الرمال التي لا تُرْوَى من الماء، والنُّزُلُ أول ما يأكل الضيف، و‏{‏الدين‏}‏‏:‏ الجزاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 63‏]‏

‏{‏أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ‏(‏58‏)‏ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ‏(‏59‏)‏ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ‏(‏60‏)‏ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏61‏)‏ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏62‏)‏ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ‏}‏ الآية‏:‏ وليس يوجد مفطورٌ، يخفى عليه أَنَّ المَنِيَّ الذي يخرُجُ منه ليس له فيه عمل ولا إرادة ولا قدرة، وقرأ الجمهور‏:‏ «قَدَّرْنَا» وقرأ ابن كثير وحده‏:‏ «قَدَرْنَا» بتخفيف الدال، فيحتمل أَنْ يكونَ المعنى فيهما‏:‏ قضينا وأثبتنا، ويحتمل أَنْ يكون بمعنى‏:‏ سَوَّيْنَا، قال الثعلبيُّ عنِ الضحاك‏:‏ أي‏:‏ سَوَّيْنَا بين أهل السماء وأهل الأرض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ‏}‏ أي‏:‏ على تبديلكم إنْ أردناه، وأَنْ نُنْشِئَكُمْ بأوصاف لا يصلها علمُكُم، ولا يُحيطُ بها فكركم، قال الحسن‏:‏ من كونهم قردةً وخنازيرَ؛ لأَنَّ الآية تنحو إلى الوعيد، و‏{‏النشأة الأولى‏}‏‏:‏ قال أكثر المفسرين‏:‏ إشارة إلى خلق آدم، وقيل‏:‏ المراد‏:‏ نشأة الإنسان في طفولته، وهذه الآية نَصٌّ في استعمال القياس والحَضِّ عليه، وعبارة الثعلبي‏:‏ ويقال‏:‏ ‏{‏النشأة الأولى‏}‏ نطفة، ثم عَلَقَةٌ، ثم مُضْغَةٌ، ولم يكونوا شيئاً ‏{‏فَلَوْلا‏}‏ أي‏:‏ فهلا تذكرون أَنِّي قادر على إعادتكم كما قَدَرْتُ على إبدائكم، وفيه دليل على صِحَّةِ القياس؛ لأَنَّهُ عَلَّمَهُمْ سبحانه الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الأُخْرَى، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 74‏]‏

‏{‏أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ‏(‏64‏)‏ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ‏(‏65‏)‏ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ‏(‏66‏)‏ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ‏(‏67‏)‏ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ‏(‏68‏)‏ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ‏(‏69‏)‏ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ‏(‏70‏)‏ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ‏(‏71‏)‏ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ ‏(‏72‏)‏ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ ‏(‏73‏)‏ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ‏(‏74‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ‏}‏ أي‏:‏ زرعاً يتم ‏{‏أَمْ نَحْنُ‏}‏‏:‏ وروى أبو هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال‏:‏ ‏"‏ لاَ تَقُلْ‏:‏ زَرَعْتُ، وَلَكِنْ قُلْ حَرَثْتُ، ثُمَّ تَلاَ أَبُو هُرَيْرَةَ هَذِهِ الآية ‏"‏ والحطام‏:‏ اليابس المُتَفَتِّتُ من النبات الصائر إلى ذهاب، وبه شُبِّهَ حُطَامُ الدنيا و‏{‏تَفَكَّهُونَ‏}‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ معناه تعجبون، أي‏:‏ مِمَّا نزل بكم، وقال ابن زيد‏:‏ معناه‏:‏ تتفجعون، قال * ع *‏:‏ وهذا كله تفسير لا يَخُصُّ اللفظة، والذي يخص اللفظةَ هو تطرحون الفكاهةَ عن أنفسكم، وقولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمُغْرَمُونَ‏}‏ قبله محذوف تقديره‏:‏ يقولون، وقرأ عاصم الجَحْدَرِيُّ‏:‏ «أَإنَّا لَمُغْرَمُونَ» بهمزتين على الاستفهام، والمعنى يحتمل أَنْ يكونَ‏:‏ إنا لمغرمون من الغرام، وهو أَشَدُّ العذاب، ويحتمل‏:‏ إنَّا لمحملون الغرم، أي‏:‏ غرمنا في النفقةَ، وذَهَبَ زَرْعُنَا، وقد تَقَدَّمَ تفسيرُ المحروم، وأَنَّهُ الذي تبعد عنه مُمْكِنَاتُ الرزق بعد قُرْبها منه، وقال الثعلبيُّ‏:‏ المحروم ضد المرزوق، انتهى، و‏{‏المزن‏}‏‏:‏ هو السحاب، والأُجَاجُ‏:‏ أشدُّ المياه ملوحةً، و‏{‏تُورُونَ‏}‏ معناه‏:‏ تقتدحون من الأزند؛ تقول‏:‏ أوريتُ النارَ من الزِّنَادِ، والزنادُ‏:‏ قد يكون من حجر وحديدة، ومن شجر، لا سيما في بلاد العرب، ولا سيما في الشجر الرَّخْوِ؛ كالمَرَخِ والعفار والكلخ، وما أشبهه، ولعادة العرب في أزنادهم من شجر قال تعالى‏:‏ ‏{‏ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا‏}‏ أي‏:‏ التي تقدح منها ‏{‏أَمْ نَحْنُ المنشئون * نَحْنُ جعلناها‏}‏‏:‏ يعني نار الدنيا ‏{‏تَذْكِرَةً‏}‏ للنار الكبرى، نارِ جهنم؛ قاله مجاهد وغيره، والمتاع‏:‏ ما يُنْتَفَعُ به، والمُقْوِينَ‏:‏ في هذه الآية الكائنين في الأرض القَوَاءِ، وهي الفَيَافي، ومن قال معناه‏:‏ للمسافرين فهو نحو ما قلناه، وهي عبارة ابن عباس رضي اللَّه عنه تقول‏:‏ أَقْوَى الرَّجُلُ‏:‏ إذا دَخَلَ في الأرض القَوَاءِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 80‏]‏

‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ‏(‏75‏)‏ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ‏(‏76‏)‏ إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ ‏(‏77‏)‏ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ‏(‏78‏)‏ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ‏(‏79‏)‏ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم‏}‏ الآية‏:‏ قال بعض النحاة‏:‏ «لا» زائدة، والمعنى‏:‏ فأقسم، وزيادتها في بعض المواضع معروفة، وقرأ الحسن وغيره‏:‏ «فَلأُقْسِمُ» من غير ألف، وقال بعضهم‏:‏ «لا» نافية كأَنَّهُ قال‏:‏ فلا صِحَّةَ لما يقوله الكفار، ثم ابتدأ‏:‏ أقسم بمواقع النجوم، والنجوم‏:‏ هنا قال ابن عباس وغيره‏:‏ هي نجوم القرآن؛ وذلك أَنَّهُ روي أَنَّ القرآن نزل في ليلة القدر إلى سماء الدنيا، وقيل‏:‏ إلى البيت المعمور جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم نُجُوماً مُقَطَّعَةً مدة من عشرين سنةً، قال * ع*‏:‏ ويؤيده عودُ الضمير على القرآن في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ‏}‏ وقال كثير من المفسرين‏:‏ بلِ النجوم هنا هي الكواكب المعروفة، ثم اختلف هؤلاء في مواقعها، فقيل‏:‏ غروبها وطلوعها، وقيل‏:‏ مواقعها عند انقضاضها إثْرَ العفاريت‏.‏

‏[‏وقوله‏:‏‏]‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ‏}‏‏:‏ تأكيد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَّوْ تَعْلَمُونَ‏}‏‏:‏ اعتراض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ‏}‏‏:‏ هو الذي وقع القسم عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فِى كتاب مَّكْنُونٍ‏}‏ الآية‏:‏ المكنون‏:‏ المصون؛ قال ابن عباس وغيره‏:‏ أراد الكتابَ الذي في السماء، قال الثعلبيُّ‏:‏ ويقال‏:‏ هو اللوح المحفوظ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة، وليس في الآية على هذا التأويل تَعَرُّضٌ لحكم مَسِّ المصحف لسائر بني آدم، وقال بعض المتأولين‏:‏ أراد بالكتاب مصاحِفَ المسلمين، ولم تكن يومئذ، فهو إخبار بغيب مضمنه النهي، فلا يَمَسُّ المصحفَ من بني آدم إلاَّ الطاهرُ من الكفر والحَدَثِ؛ وفي كتاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حَزْمٍ‏:‏ ‏"‏ لاَ يَمَسَّ القرآنَ إلاَّ طَاهِرٌ ‏"‏، وبِهِ أخذ مالك، وقرأ سليمان‏:‏ «إلاَّ المُطَهِّرُونَ» بكسر الهاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 84‏]‏

‏{‏أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ ‏(‏81‏)‏ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ‏(‏82‏)‏ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ‏(‏83‏)‏ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفبهذا الحديث‏}‏‏:‏ يعني القرآن المتضمن البعثَ، و‏{‏مُّدْهِنُونَ‏}‏ معناه‏:‏ يلاينُ بعضُكم بعضاً، ويتبعه في الكفر؛ مأخوذ من الدُّهْنِ للينه واملاسِّه، وقال ابن عباس‏:‏ المُدَاهَنَةُ‏:‏ هي المهاودة فيما لا يَحِلُّ، والمُدَارَاةُ‏:‏ هي المهاودة فيما يَحِلُّ، ونقل الثعلبيُّ أَنَّ أدهن وداهن بمعنى واحد، وأصله من الدُّهْنِ، انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ‏}‏‏:‏ أجمع المفسرون على أَنَّ الآيةَ توبيخ للقائلين في المطر الذي ينزله اللَّه تعالى رزقاً للعباد‏:‏ هذا بِنَوْءِ كذا، والمعنى‏:‏ وتجعلون شُكْرَ رزقكم، وحكى الهيثم بن عدي أَنَّ من لغة أزد شنوءة‏:‏ ما رزق فلان بمعنى ما شكر، وكان عليٌّ يقرأ‏:‏ «وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ» وكذلك قرأ ابن عباس، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخبر اللَّه سبحانه فقال‏:‏ ‏{‏وَنَزَّلْنَا مِنَ السماء مَاءً مباركا فَأَنبَتْنَا بِهِ جنات وَحَبَّ الحصيد * والنخل باسقات لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 9، 10، 11‏]‏ فهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ‏}‏ أي‏:‏ بهذا الخبر، قال * ع *‏:‏ والمنهيُّ عنه هو أَنْ يعتقد أَنَّ للنجوم تأثيراً في المطر‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم‏}‏ يعني‏:‏ بلغت نفسُ الإنسان، والحُلْقُومُ‏:‏ مجرى الطعام، وهذه الحال هي نزع المرء للموت‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ‏}‏ إشارة إلى جميع البشر حينئذ، أي‏:‏ وقتَ النزع ‏{‏تَنظُرُونَ‏}‏‏:‏ إليه، وقال الثعلبيُّ‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ‏}‏ إلى أمري وسلطاني، يعني‏:‏ تصريفه سبحانه في الميت، انتهى، والأَوَّلُ عندي أحسن، وعَزَاهُ الثعلبيُّ لابن عباس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 87‏]‏

‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ ‏(‏85‏)‏ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ‏(‏86‏)‏ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ‏}‏ أي‏:‏ بالقدرة والعلم، ولا قدرةَ لكم على دفع شيء عنه، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ وملائكتنا أقربُ إليه منكم، ولكن لا تبصرونهم، وعلى التأويل الأَوَّل من البصر بالقلب‏.‏

‏{‏فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ‏}‏ أي‏:‏ مملوكين أَذِلاَّءَ، والمدين‏:‏ المملوك، هذا أَصَحُّ ما يقال في هذه اللفظة هنا، ومَنْ عبَّرَ عنها بمُجَازَى أو بُمُحَاسَبٍ، فذلك هنا قلق، والمملوك مُقَلَّبٌ كيف شاء المالكُ، ومن هذا الملك قول الأخطل‏:‏ الأخطل ‏[‏الطويل‏]‏

رَبَتْ وَرَبَا فِي حَجْرِهَا ابن مَدِينَةٍ *** تَرَاهُ على مِسْحَاتِهِ يَتَرَكَّلُ

أراد ابن أَمَةٍ مملوكة، وهو عبد يخدم الكرم، وقد قيل في معنى البيت‏:‏ ‏[‏إِنَّه‏]‏ أراد أَكَّاراً حضرياً، فنسبه إلى المدينة، فمعنى الآية‏:‏ فهل لا ترجعون النفسَ البالغة الحلقوم إِنْ كنتم غير مملوكين مقهورين‏؟‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تَرْجِعُونَهَا‏}‏ سَدَّ مَسَدَّ الأجوبة، والبيانات التي تقتضيها التحضيضات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 90‏]‏

‏{‏فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏88‏)‏ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ‏(‏89‏)‏ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ‏(‏90‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين‏}‏ الآية، ذكر سبحانه في هذه الآيةِ حال الأزواج الثلاثةَ المذكورين في أَولِ السورة، وحال كُلِّ امرئ منهم، فَأَمَّا المرءُ من السابقين المقربين، فَيَلْقَى عند موته رَوْحاً وريحاناً، والرَّوْحَ‏:‏ الرحمة والسعة والفرح؛ ومنه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ الله‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 87‏]‏ والريحان‏:‏ الطيب، وهو دليل النعيم، وقال مجاهد‏:‏ الريحان‏:‏ الرزق، وقال الضَّحَّاكُ‏:‏ الريحان الاستراحة، قال * ع *‏:‏ الريحان ما تنبسط إليه النفوس، ونقل الثعلبيُّ عن أبي العالية قال‏:‏ لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يُؤْتَى بغصنٍ من ريحان الجنة فَيَشُمُّهُ، ثم يُقْبَضُ روحه فيه، ونحوه عن الحسن، انتهى‏.‏

فإنْ أردت يا أخي اللحوق بالمقربين؛ والكون في زمرة السابقين، فاطرح عنك دنياك؛ وأقبلْ على ذكر مولاك، واجعل الآن الموت نصب عينيك، قال الغزاليُّ‏:‏ وإنَّما علامةُ التوفيق أَنْ يكون الموت نصبَ عينيك، لا تغفل عنه ساعة، فليكنِ الموتُ على بالك يا مسكين؛ فإنَّ السير حاثٌّ بك، وأنت غافل عن نفسك، ولعلك قد قاربت المنزلَ، وقطعت المسافة فلا يكن اهتمامُك إلاَّ بمبادرة العمل، اغتناماً لكل نَفَسٍ أمهلتَ فيه، انتهى من «الإحياء»، قال ابن المبارك في «رقائقه»‏:‏ أخبرنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال‏:‏ ما مِنْ مَيِّتٍ يموت، إلاَّ عرض عليه أهل مجلسه‏:‏ إنْ كان من أهل الذِّكْرِ فمن أهل الذكر، وإِنْ كان من أهل اللهو فمن أهل اللهو، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 96‏]‏

‏{‏فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ‏(‏91‏)‏ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ‏(‏92‏)‏ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ ‏(‏93‏)‏ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ‏(‏94‏)‏ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ‏(‏95‏)‏ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ‏(‏96‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين‏}‏‏:‏ عبارة تقتضي جملةَ مدحٍ وصفةَ تخلُّصٍ، وحصولَ عالٍ من المراتب، والمعنى‏:‏ ليس في أمرهم إلاَّ السلامُ والنجاةُ من العذاب؛ وهذا كما تقول في مدح رجل‏:‏ أَمَّا فلان فناهيك به، فهذا يقتضي جملةً غيرَ مفصلة من مدحه، وقدِ اضطربت عباراتُ المُتَأَوِّلِينَ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسلام لَّكَ‏}‏ فقال قوم‏:‏ المعنى‏:‏ فيقال له سلام لك إنَّكَ من أصحاب اليمين، وقال الطبريُّ‏:‏ ‏{‏فسلام لَّكَ‏}‏‏:‏ أنت من أصحاب اليمين، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ فسلام لك يا محمد، أي‏:‏ لا ترى فيهم إلاَّ السلامة من العذاب‏.‏

* ت *‏:‏ ومن حصلت له السلامةُ من العذاب فقد فاز دليله ‏{‏فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 185‏]‏ قال * ع *‏:‏ فهذه الكاف في ‏{‏لَّكَ‏}‏ إمَّا أنْ تكونَ للنبي صلى الله عليه وسلم وهو الأظهر، ثم لكل مُعْتَبِرٍ فيها من أُمَّتِهِ، وإمَّا أَنْ تكونَ لمن يخاطب من أصحاب اليمين، وغيرُ هذا مِمَّا قيل تَكَلُّفٌ، ونقل الثعلبيُّ عن الزَّجَّاج‏:‏ ‏{‏فسلام لَّكَ‏}‏ أي‏:‏ إنَّك ترى فيهم ما تحب من السلامة، وقد علمتَ ما أَعَدَّ اللَّه لهم من الجزاء بقوله‏:‏ ‏{‏فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ‏}‏ الآيات‏.‏‏.‏‏.‏

والمكذبون الضالُّون‏:‏ هم الكفار، أصحابُ الشمال والمشأَمة، والنُّزُلُ‏:‏ أول شيء يقدم للضيف، والتصلية‏:‏ أنْ يباشر بهم النار، والجحيم معظم النار وحيث تراكمها‏.‏

‏{‏إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين‏}‏ المعنى‏:‏ إنَّ هذا الخبرَ هو نفس اليقين وحقيقتُه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم‏}‏ عبارة تقتضي الأمر بالإِعراض عن أقوال الكفار وسائر أمور الدنيا المختصة بها، وبالإقبال على أمور الآخرة وعبادة اللَّه تعالى، والدعاء إليه‏.‏

* ت *‏:‏ وعن جابر بن عبد اللَّه قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ ‏[‏الْعَظِيمِ‏]‏ وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ في الْجَنَّةِ ‏"‏ رواه الترمذي، والنسائيُّ، والحاكم، وابن حبان في «صحيحيهما»، وقال الحاكم‏:‏ صحيح على شرط مسلم، وعند النسائِيِّ‏:‏ «شَجَرَةَ» بدل «نَخْلَةَ»، وعنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قال‏:‏ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنَّ مِمَّا تَذْكُرُونَ مِنْ جَلاَلِ اللَّهِ التَسْبِيحَ، وَالتَّهْلِيلَ، وَالتَّحْمِيدَ يَنْعَطِفْنَ حَوْلَ الْعَرْشِ، لَهُنَّ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، تُذَكِّرُ بِصَاحِبِهَا، أَمَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ أَوْ لاَ يَزَالَ لَهُ مَنْ يُذَكِّرُ بِهِ ‏"‏، ورواه أيضاً ابن المبارك في «رقائقه» عن كعب، وفيه أيضاً عن كعب أَنَّهُ قال‏:‏ «إنَّ لِلْكَلاَمِ الطَّيِّبِ حَوْلَ الْعَرْشِ دَوِيًّا كَدَوِيِّ النَّحْلِ يُذَكِّرْنَ بِصَاحِبِهِنَّ» انتهى، وعن أبي هريرةَ ‏"‏ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِهِ وَهُوَ يَغْرِسُ غَرْساً فَقَالَ‏:‏ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا الَّذِي تَغْرِسُ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ غِرَاساً، قَالَ‏:‏ أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى غِرَاسٍ خَيْرٍ مِنْ هذا‏؟‏ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إله إلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ؛ يُغْرَسْ لَكَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ شَجَرَةٌ في الجَنَّةِ ‏"‏

روى هذين الحديثين ابن ماجه واللفظ له، والحاكم في «المستدرك»، وقال في الأول‏:‏ صحيح على شرط مسلم، انتهى من «السلاح»، ورَوَى عُقْبَةُ بن عامر قال‏:‏ ‏"‏ لَمَّا نزلتْ‏:‏ ‏{‏فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم‏}‏ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ اجْعَلُوهَا في رُكُوعِكُمْ؛ فَلَمَّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى‏}‏ قَالَ‏:‏ اجْعَلُوهَا في سُجُودِكُمْ ‏"‏، فيحتمل أنْ يكونَ المعنى‏:‏ سبح اللَّه بذكر أسمائه العلا، والاسم هنا بمعنى‏:‏ الجنس، أي‏:‏ بأسماء ربك، والعظيم‏:‏ صفة للرب سبحانه، وقد يحتمل أَنْ يكون الاسم هنا واحداً مقصوداً، ويكون «العظيم» صفة له، فكأَنَّه أمره أَنْ يسبِّحَهُ باسمه الأعظم، وإنْ كان لم يَنُصَّ عليه، ويؤيِّدُ هذا ويشير إليه اتصالُ سورة الحديد وأوَّلُها فيها التسبيح، وجملة من أسماء اللَّه تعالى، وقد قال ابن عباس‏:‏ اسم اللَّه الأعظم موجود في سَتِّ آيات من أَوَّلِ سورة الحديد، فتأمَّل هذا، فإنَّهُ من دقيق النظر، وللَّه تعالى في كتابه العزيز غوامضُ لا تكاد الأذهانِ تدركها‏.‏

سورة الحديد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏2‏)‏ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏3‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏4‏)‏ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏5‏)‏ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السموات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏‏:‏ قال أكثر المفسرين‏:‏ التسبيح هنا هو التنزيه المعروف في قولهم‏:‏ سبحان اللَّهِ، وهذا عندهم إخبار بصيغة الماضي مضمنه الدوامُ والاستمرارُ، ثم اختلفوا‏:‏ هل هذا التسبيح حقيقةٌ أو مجاز على معنى أَنَّ أثر الصنعة فيها تُنَبِّهُ الرائي على التسبيح‏؟‏ قال الزَّجَّاجُ وغيره‏:‏ والقول بالحقيقة أحسن، وهذا كله في الجمادات، وأَمَّا ما يمكن التسبيح منه فقول واحد‏:‏ إن تسبيحهم حقيقة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الأول‏}‏ ‏[‏أي‏]‏‏:‏ ‏[‏الذي‏]‏ ليس لوجوده بداية مُفْتَتَحَةٌ ‏{‏والأخر‏}‏‏:‏ الدائم الذي ليس له نهاية منقضية، قال أبو بكر الوَرَّاق‏:‏ ‏{‏هُوَ الأول‏}‏‏:‏ بالأزلية ‏{‏والأخر‏}‏‏:‏ بالأبديَّة‏.‏

‏{‏والظاهر‏}‏‏:‏ معناه بالأدِلَّةِ ونَظَرِ العقول في صنعته‏.‏

‏{‏والباطن‏}‏‏:‏ بلطفه وغوامضِ حكمته وباهِرِ صفاته التي لا تصل إلى معرفتها على ما هي عليه الأوهامُ، وباقي الآية تقدم تفسيرُ نظيره‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ‏}‏ معناه‏:‏ بقدرته وعلمه وإحاطته، وهذه آية أجمعت الأُمَّةُ على هذا التأويل فيها، وباقي الآية بَيِّنٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏7‏)‏ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ءَامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ أمر للمؤمنين بالثبوت على الإيمان، ويُرْوَى أَنَّ هذه الآية نزلت في غزوة العُسْرَةِ، قاله الضَّحَّاكُ، وقال‏:‏ الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏فالذين ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ‏}‏ إلى عثمانَ بن عفان، يريد‏:‏ ومَنْ في معناه؛ كعبد الرحمن بن عوف، وغيره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ‏}‏‏:‏ تزهيد وتنبيه على أَنَّ الأَموال إنَّما تصير إلى الإنسان من غيره، ويتركها لغيره، وليس له من ذلك إِلاَّ ما أكل فأفنى، أو تصدق فأمضى، ويروى أَنَّ رجلاً مَرَّ بأعرابيٍّ له إبل فقال له‏:‏ يا أَعرابيُّ، لِمَنْ هذه الإبل‏؟‏ قال‏:‏ هي للَّه عندي، فهذا مُوَفَّقٌ مصيب إنْ صحب قوله عمله‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ توطئةٌ لدعائهم ‏(‏رضي اللَّه عنهم‏)‏ لأَنَّهُمْ أهل هذه الرُّتَبِ الرفيعة، وإذا تقرر أَنَّ الرسولَ يدعوهم، وأَنَّهم مِمَّنْ أخذ اللَّه ميثاقهم فكيف يمتنعون من الإيمان‏؟‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ إنْ دُمْتُمْ على إيمانكم، و‏{‏الظلمات‏}‏‏:‏ الكفر، و‏{‏النور‏}‏‏:‏ الإيمان، وباقي الآية وعد وتأنيس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏10‏)‏ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض‏}‏ ‏[‏المعنى‏:‏ وما لكم أَلاَّ تنفقوا في سبيل اللَّه، وأَنتم تموتون وتتركون أموالكم، فناب منابَ هذا القول قوله‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض‏}‏‏]‏ وفيه زيادة تذكير باللَّه وعبرة، وعنه يلزم القولُ الذي قدرناه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ الأشهر في هذه الآية أَنَّها نزلت بعد الفتح، واخْتُلِفَ في الفتح المشار إليه؛ فقال أبو سعيد الخُدْرِيُّ والشَّعْبِيُّ‏:‏ هو فتح الحديبية، وقال قتادة، ومجاهد، وزيد بن أسلم‏:‏ هو فتح مكة الذي أزال الهجرة، قال * ع *‏:‏ وهذا هو المشهور الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ‏"‏، وحكم الآية باقٍ غابرَ الدهر؛ مَنْ أنفق في وقتِ حاجة السبيل، أعظم أجراً مِمَّن أنفق مع استغناء السبيل، و‏{‏الحسنى‏}‏‏:‏ الجنة، قاله مجاهد وقتادة، والقرض‏:‏ السلف، والتضعيفُ من اللَّه تعالى هو في الحسنات، وقد مَرَّ ذِكْرُ ذلك، والأجر الكريم الذي يقترن به رضى وإقبال، وهذا معنى الدعاء ب«يا كريم» العفو، أي‏:‏ إِنَّ مع عفوه رضى وتنعيماً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏12‏)‏ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، العامل في ‏{‏يَوْمَ‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ‏}‏ والرؤية هنا رؤية عينٍ، والجمهور أَنَّ النورَ هنا هو نور حقيقة، وقد روي في هذا عن ابن عباس وغيره آثار مضمنها‏:‏ أَنَّ كل مؤمن ومُظْهِرٍ للإيمان، يُعْطَى يومَ القيامة نوراً فَيُطْفَأُ نُورُ كُلِّ منافقٍ، ويبقى نورُ المؤمنين، حتى إِنَّ منهم مَنْ نورُه يضيء كما بين مَكَّةَ وصنعاءَ؛ رفعه قتادة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم مَنْ نوره كالنخلة السحوق، ومنهم مَنْ نورُه يضيء ما قَرُبَ من قدميه؛ قاله ابن مسعود، ومنهم مَنْ يَهُمُّ بالانطفاء مرة وَيَبِينُ مرة على قدر المنازل في الطاعة والمعصية، قال الفخر‏:‏ قال قتادة‏:‏ ما من عبد إلاَّ وينادى يوم القيامة‏:‏ يا فلان، هذا نورك، يا فلان، لا نورَ لك، نعوذ باللَّه من ذلك‏!‏ واعلم أَنَّ العلمَ الذي هو نور البصيرة أولى بكونه نوراً من نور البصر، وإذا كان كذلك ظهر أَنَّ معرفة اللَّه تعالى هي النورُ في القيامة، فمقادير الأنوار يومَ القيامة على حسب مقادير المعارف في الدنيا، انتهى، ونحوه للغزالي، وخَصَّ تعالى بين الأيدي بالذكر؛ لأَنَّهُ موضع حاجة الإنسان إلى النور، واخْتُلِفَ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبأيمانهم‏}‏ فقال بعض المتأولين‏:‏ المعنى‏:‏ وعن أيمانهم، فكأَنَّه خَصَّ ذكر جهة اليمين؛ تشريفاً، وناب ذلك مَنَابَ أَنْ يقول‏:‏ وفي جميع جهاتهم، وقال جمهور المفسرين‏:‏ المعنى‏:‏ يسعى نورُهم بين أيديهم، يريد الضوء المنبسط من أصل النور، ‏{‏وبأيمانهم‏}‏‏:‏ أصله، والشيءُ الذي هو مُتَّقَدٌ فيه، فتضمن هذا القولُ أَنَّهم يحملون الأنوار، وكونهم غير حاملين أكرم؛ أَلاَ ترى أَنَّ فضيلةَ عباد بن بشر وأسيد بن حضير إنَّما كانت بنور لا يحملانه، هذا في الدنيا، فكيف بالآخرة‏؟‏‏!‏ * ت *‏:‏ وفيما قاله * ع *‏:‏ عندي نظر، وأَيضاً فأحوال الآخرة لا تُقَاسُ على أحوال الدنيا‏!‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بُشْرَاكُمُ‏}‏ أي‏:‏ يقال لهم‏:‏ بشراكم ‏{‏جنات‏}‏ أي دخولُ جنات‏.‏

* ت *‏:‏ وقد جاءت بحمد اللَّه آثار بتبشير هذه الأُمَّةِ المحمديَّةِ، وخَرَّجَ ابن ماجة قال‏:‏ أخبرنا جُبَارة بن المغلِّس، قال‏:‏ حدثنا عبد الأعلى، عن أبي بردة، عن أبيه قال‏:‏ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذَا جَمَعَ ‏[‏اللَّهُ‏]‏ الخَلاَئِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَذِنَ لاٌّمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم في السُّجُودِ، فَسَجَدُوا طَوِيلاً، ثُمَّ يُقَالُ‏:‏ ارْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ، فَقَدْ جَعَلْنَا عِدَتَكُمْ فِدَاءَكُمْ مِنَ النَّارِ»، قال ابن ماجه‏:‏ وحدَّثنا جُبَارَةُ بْنُ المُغَلِّسِ، حدثنا كِثِيرُ بن سليمان‏:‏ عن أنس بن مالك، قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنَّ هذه الأُمَّةَ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، عَذَابُهَا بِأَيْدِيهَا، فَإذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دُفِعَ إلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ رَجُلٌ مِنَ المُشْرِكِينَ فَيُقَالُ‏:‏ هذا فِدَاؤُكَ مِنَ النَّارِ»

، وفي «صحيح مسلم»‏:‏ ‏"‏ دَفَعَ اللَّهُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَيَقُولُ‏:‏ هذا فِدَاؤُكَ مِنَ النَّارِ ‏"‏ انتهى من «التذكرة»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُولُ المنافقون‏}‏ قيل‏:‏ ‏{‏يَوْمَ‏}‏ هو بدل من الأول، وقيل‏:‏ العامل فيه «اذكر»، قال * ع *‏:‏ ويظهر لي أَنَّ العاملَ فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك هُوَ الفوز العظيم‏}‏ ويجيء معنى الفوز أَفْخَمَ؛ كأَنَّهُ يقول‏:‏ إنَّ المؤمنين يفوزون بالرحمة يومَ يعتري المنافقين كذا وكذا، لأَنَّ ظهورَ المرء يومَ خمول عَدُوِّه ومُضَادِّهِ أَبْدَعُ وأَفْخَمُ، وقول المنافقين هذه المقالةَ المحكية، هو عند انطفاء أنوارهم، كما ذكرنا قبل، وقولهم‏:‏ «انْظُرُونَا» معناه‏:‏ انتظرونا، وقرأ حمزة وحده‏:‏ ‏{‏انظرونا‏}‏ بقطع الألف وكسر الظاء ومعناه أَخِّرُونا؛ ومنه‏:‏ ‏{‏فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ‏}‏ ومعنى قولهم أَخِّرونا، أي‏:‏ أخِّروا مشيَكم لنا؛ حَتَّى نلتحق فنقتبسَ من نوركم، واقتبس الرجل‏:‏ أخذ من نور غيره قَبَساً، قال الفخر‏:‏ القَبَسُ‏:‏ الشعلة من النار والسراج، والمنافقون طَمِعُوا في شيء من أنوار المؤمنين، وهذا منهم جهل؛ لأَنَّ تلك الأنوار نتائج الأعمال الصالحة في الدنيا، وهم لم يقدموها، قال الحسن‏:‏ يُعْطَى يومَ القيامة كُلُّ أحد نوراً على قَدْرِ عمله، ثم يؤخذ من حجر جهنم ومِمَّا فيها من الكلاليب والحسك ويُلْقَى على الطريق، ثم تمضي زمرة من المؤمنينَ، وُجُوهُهُم كالقمر ليلةَ البدر، ثم تمضي زمرة أُخرى كأضوأ كوكب في السماء، ثم على ذلك، ثم تغشاهم ظلمة تُطْفِئ نورَ المنافقين، فهنالك يقول المنافقون للذين آمنوا‏:‏ ‏{‏انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ‏}‏، انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قِيلَ ارجعوا وَرَاءَكُمْ‏}‏ يحتمل أنْ يكون من قول المؤمنين ‏[‏لهم‏]‏، ‏[‏ويحتمل أنْ يكون من قول‏]‏ الملائكة، والقول لهم‏:‏ ‏{‏فالتمسوا نُوراً‏}‏‏:‏ هو على معنى التوبيخ لهم، أي‏:‏ إنَّكم لا تجدونه، ثم أعلم تعالى أَنَّهُ يضرب بينهم في هذه الحال بسورٍ حاجز، فيبقى المنافقون في ظُلْمَةٍ وعذاب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة‏}‏ أي‏:‏ جهة المؤمنين ‏{‏وظاهره‏}‏‏:‏ جهة المنافقين، والظاهر هنا‏:‏ البادي؛ ومنه قول الكُتَّابِ‏:‏ من ظاهر مدينة كذا، وعبارة الثعلبيِّ‏:‏ ‏{‏فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ‏}‏‏:‏ وهو حاجز بين الجنة والنار، قال أبو أمامة الباهليُّ‏:‏ فيرجعون إلى المكان الذي قُسِّمَ فيه النور فلا يجدون شيئاً فينصرفون إليهم، وقد ضُرِبَ بينهم بسور، قال قتادة‏:‏ حائط بين الجنة والنار، له باب ‏{‏بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة‏}‏، يعني‏:‏ الجنة، ‏{‏وظاهره مِن قِبَلِهِ العذاب‏}‏ يعني النار، انتهى، قال * ص *‏:‏ قال أبو البقاء‏:‏ الباء في ‏{‏بِسُورٍ‏}‏ زائدة، وقيل‏:‏ ليست بزائدة، قال أبو حيان‏:‏ والضمير في ‏{‏بَاطِنُهُ‏}‏ عائدٌ على الباب، وهو الأظهر لأَنَّهُ الأقرب، وقيل‏:‏ على سور، أبو البقاء‏:‏ والجملة صفة ل«باب» أو ل«سور»، انتهى‏.‏