فصل: سورة الصف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***


سورة الصف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏2‏)‏ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ قد تقدَّمَ تفسيرُه، واخْتُلِفَ في السببِ الذي نزلتْ فيه‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ‏}‏ فقال ابن عباس وغيره‏:‏ نزلتْ بسببِ قَوْمٍ قالوا‏:‏ لَوْ عَلِمْنَا أَحَبَّ العَمَلِ إلى اللَّهِ تعالى لسَارَعْنَا إليه، ففرضَ اللَّهُ الجهادَ وأعلَمَهُمْ بفَضْلِه؛ وأَنَّهُ يُحِبُّ المقَاتِلينَ في سبيله كالبنيانِ المَرْصُوصِ، فَكَرِهَهُ قَوْمٌ منهم، وفَرُّوا يومَ الغزوِ فَعَاتَبَهُمُ اللَّهُ تعالى بهذه الآية، وقال قتادة والضحاك‏:‏ نزلتْ بسببِ جماعةٍ من شبابِ المسلمينَ كانوا يَتَحَدَّثُونَ عن أنفسِهم في الغزو بما لم يفعلوا، قال * ع *‏:‏ وحُكْمُ هذهِ الآيةِ بَاقٍ غَابِرَ الدهرِ، وكلَّ مَنْ يقولُ ما لا يفعلُ فهو مَمْقُوتُ الكلامِ، والقولُ الأولُ يَتَرَجَّح بِمَا يأتي ‏[‏من أمْرِ‏]‏ الجهادِ والقتالِ، والمقتُ البغضُ، مِن أجل ذنبٍ، أو رِيبَةٍ، أو دَنَاءَةٍ يَصْنَعُها الممقوتُ، وقول المرءِ مَا لا يفعلُ مُوجِبٌ مَقْتَ اللَّهِ تعالى، ولذلك فرَّ كثيرٌ من العلماءِ عَنِ الوَعْظِ والتذكيرِ وآثرُوا السكوتَ، * قلت *‏:‏ وهَذا بحسَبِ فِقْهِ الحالِ؛ إنْ وَجَدَ الإنْسانُ مَنْ يكفِيه هذه المَؤُنَةَ في وقتهِ، فَقَدْ يَسَعُه السكوتُ وإلا فَلاَ يسعُه، قال الباجي في «سنن الصالحين» له‏:‏ قال الأصمعي‏:‏ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الحكماءِ كَانَ يقول‏:‏ إني لأَعظكُم وإنّي لَكَثيرُ الذنوبِ، وَلَوْ أن أحَداً لاَ يَعِظُ أخاه حَتَّى يُحْكِمَ أَمْرَ نَفْسِهِ لتُرِكَ الأَمْرُ بالخيرِ، واقْتُصِرَ عَلى الشَّرِّ، ولكنَّ محادثةَ الإخوانِ حياةُ القلوبِ وجَلاَء النُّفُوسِ وتَذْكِيرٌ مِنَ النسيانِ، وقال أبو حازم‏:‏ إني لأعظ الناسَ وما أنا بموضعٍ للوَعْظِ، ولكنْ أريدُ به نَفْسِي، وقَالَ الحسنُ لمطرف‏:‏ عِظْ أصْحَابَكَ، فَقَالَ‏:‏ إنِّي أخافُ أنْ أقولَ ما لا أفعل فقالَ‏:‏ رحمك اللَّه؛ وأيُّنَا يَفْعَلُ ما يقول، وَدَّ الشيطانُ أنه لَو ظَفَرَ منكم بهذهِ فَلَمْ يأمُرْ أحدٌ منكم بمعروفٍ، وَلَمْ يَنْهَ عن منكر، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 9‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ‏(‏4‏)‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏5‏)‏ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏6‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏8‏)‏ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون فِى سَبِيلِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال معاذ بن جبل‏:‏ سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ مَنْ قَاتَلَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ فَقَدْ وَجَبَتْ له الجنة، وَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ القَتْلَ مِنْ نَفْسِهِ صَادِقاً، ثُمَّ مَاتَ أوْ قُتِلَ فَإنَّ لَهُ أجْرَ شَهِيدٍ ‏"‏، مختصر رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، واللفظ لأبي داود، وقال الترمذي‏:‏ هَذَا حديثٌ صحيحٌ انتهى من «السلاح»، ثُمَّ ذَكَرَ تعالى مقَالَةَ مُوسَى، وذلك ضربُ مَثَلٍ للمؤمنينَ؛ ليحذَرُوا مَا وَقَعَ فيه هؤلاء من العصيانِ وقولِ الباطل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لِمَ تُؤْذُونَنِى‏}‏ أي‏:‏ بتعنيتِكم وعصيانِكم واقْتِرَاحَاتِكُم، وأسْنَدَ الزيغَ إليهم؛ لكونهِ فعلَ حطيطَةٍ، وهذا بخلافِ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 118‏]‏ فَأَسْنَدَ التَّوْبَةَ إليه سبحانَه؛ لِكَوْنِهَا فعلَ رِفْعَةٍ، و«زاغ» معناه مَالَ وصَارَ عُرْفُهَا في الميلِ عن الحق، و‏{‏أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ‏}‏ معناه طَبَعَ عليْهَا وكثُرَ مَيْلُها عنِ الحقِّ؛ وهذهِ هي العُقُوبَةُ عَلَى الذَّنْبِ بِالذَّنْبِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسمه أَحْمَدُ‏}‏ قال عياض في «الشفا»‏:‏ سَمَّى اللَّه تعالى نبيَّه في كتابه محمداً وأحمدَ؛ فأما اسمه أحمد، ف«أَفْعَلُ» مبالغةً من صفةِ الحَمْدِ، ومُحَمَّد «مُفَعَّل» من كثرةِ الحمدِ، وسمى أمَّته في كتب أنبيائِه بالحمَّادينَ؛ ثم في هذين الاسمين من عجائب خصائصِه سبحانه وبدائع آياته؛ أنه سبحانه حَمَى أن يتسمَّى بهما أَحَدٌ قَبْلَ زمانِه، أما أحمد الذي أتى في الكتب وبشَّرَتْ به الأنبياء؛ فمنع سبحانه أن يَتَسَمَّى به أحد غيرُه؛ حتى لا يدخلَ بذلكَ لَبْسٌ عَلى ضعيفِ القلبِ؛ وكذلك محمَّد أيضاً لم يَتَسَمَّ به أحد من العرب ولا غيرهم إلى أن شَاعَ قبيلَ وجودِه صلى الله عليه وسلم وميلادِه أَنَّ نبيًّا يبعثُ اسمهُ محمد؛ فسمَّى قومٌ قليلٌ من العرب أبناءَهم بذلك؛ رجاءَ أَنْ يكونَ أحدُهم هو، وهُم محمد بن أحيحة الأوسي، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، ومحمد بن براء البكري، ومحمد بن سفيان باليمن، ويقولون‏:‏ بل محمد بن اليحمد من الأزد، ومحمد بن سوادة منهم؛ لا سابعَ لهم، ولم يَدَّعِ أحد من هؤلاء النبوَّة أو يظهرْ عليْهِ سببٌ يشكِّكُ الناس، انتهى، وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قَالَ‏:‏ ‏"‏ لاَ تُسَمُّوا أَوْلاَدَكُمْ مُحَمَّداً ثُمَّ تَلْعَنُونَهُمْ ‏"‏، رواه الحاكم في «المستدركِ»، انتهى من «السلاح»‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ يحتملُ أن يريدَ «عيسى» ويحتملُ أن يريدَ محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه تقدَّمَ ذكرُه، * ت *‏:‏ والأول أظهر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 12‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏10‏)‏ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏11‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏12‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ نَدْبٌ وَحَضٌّ على الجِهادِ بهذهِ التجارةِ التي بَيَّنَهَا سبحانه، وهي أن يبذلَ المرءُ نفسَه ومالَه، ويأخذ ثمناً جنةَ الخلدِ، وقرأ ابن عامر وحده‏:‏ «تُنَجِّيكُمْ» بفتحِ النونَ وَشَدِّ الجيم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تُؤْمِنُونَ‏}‏ معناه‏:‏ الأمر، أي‏:‏ آمنوا، قال الأخفش‏:‏ ولذلكَ جاء «يَغْفِرْ» مجزُوماً، وفي مصحفِ ابن مسعودٍ‏:‏ «آمِنُوا باللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجَاهِدُوا»‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ إشارةٌ إلى الجهاد والإيمان، و‏{‏خَيْرٌ‏}‏ هنا يحتملُ أَن يكونَ للتفضِيل، فالمَعْنَى‏:‏ من كل عمل، ويحتملُ أن يكون إخباراً أنَّ هذا خيرٌ في ذاتهِ، ‏{‏ومساكن‏}‏ عَطْفٌ عَلَى ‏{‏جنات‏}‏ وَطِيبُ المسَاكِنِ‏:‏ سِعَتُها وجمالُها، وقيل‏:‏ طِيبُها المعرفةُ بدوام أمرِها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏13‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وأخرى تُحِبُّونَهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال الأخفش، ‏{‏وأخرى‏}‏ هي في موضع خَفْضٍ عطفاً على ‏{‏تجارة‏}‏، وهَذَا قَلِقٌ، وقد ردَّه الناس، لأنَّ هذه الأُخْرَى ليستْ مِمَّا دَلَّ عليه سبحانه إنما هي مما أُعْطِيَ ثمناً وجزاءً على الإيمانِ والجهادِ بالنفس والمَالِ، وقَالَ الفَرَّاء‏:‏ ‏{‏وأخرى‏}‏ في موضِع رفعٍ، وقيل‏:‏ في موضع نصبٍ بإضمار فعل تقديرُه‏:‏ ويدخلكم جناتٍ ويمنحْكُم أُخْرَى؛ وهي النصرُ والفتحُ القريب، وقصةُ عِيسَى مع بني إسرائيل قد تقدَّمت‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ‏}‏ قِيلَ ذلك قبل محمد عليه السلام وَبَعْدَ فترةٍ منْ رفعِ عِيسَى؛ رَدَّ اللَّهُ الكَرَّةَ لمنْ آمن بهِ فَغَلبُوا الكَافرينَ الذين قَتَلُوا صَاحِبَه الذي ألقيَ عَلَيْهِ الشَّبَهُ، وقيل‏:‏ المعنى فأصبحوا ظاهرين بالحجةِ‏.‏

سورة الجمعة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏2‏)‏ وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏3‏)‏ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏4‏)‏ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ تقدَّم القولُ في مثلِ ألفاظِ الآيةِ، والمرادُ بالأمِّيِّينَ جميعُ العربِ، واخْتُلِفَ في المَعْنِيِّين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ‏}‏ فقال أبو هريرةَ وغيره‏:‏ أراد فارس ‏"‏ وَقَد سُئِلَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ مَنِ الآخَرُونَ‏؟‏ فَأَخَذَ بيدِ سُلَيْمَانَ، وقال‏:‏ لَوْ كَانَ الدِّينُ في الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلاَءِ ‏"‏ خرَّجه مسلم والبخاريّ، وقال ابن زيدٍ ومجاهدٌ والضحاكُ وغيرهم‏:‏ أرادَ جميعَ طوائِفِ الناس، فقوله‏:‏ ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ على هذين القولين إنما يُرِيدُ في البشريةِ والإيمانِ، وقال مجاهد أيضاً وغيره‏:‏ أراد التابعين من أبناء العرب، فقوله‏:‏ ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ يُرِيدُ في النَّسَبِ والإيمان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَمَّا يَلْحَقُواْ‏}‏ نَفْيٌ لما قَرُبَ مِنَ الحَالِ، والمَعْنَى أنهم مُزْمِعُونَ أنْ يلحقوا، فهي «لَمْ» زِيدَتْ عَلَيْهَا «ما» تأكِيداً‏.‏

و ‏{‏الذين حُمِّلُواْ التوراة‏}‏ هم بنو إسرائيل الأحبارُ المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم، و‏{‏حُمِّلُواْ‏}‏ معناه كُلِّفُوا القيامَ بأوامرِها ونواهيها، فهذا كما حُمِّلَ الإنسانُ الأمانَةَ، وذكر تعالى أنهم لم يحملوها، أي‏:‏ لم يُطِيعُوا أمْرَها ويَقِفُوا عند حدودِها حين كذَّبُوا نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم، والتوراةُ تنطقُ بنبوتهِ، فكان كلُّ حَبْرٍ لم ينتَفِعْ بما حُمِّلَ كَمَثَلِ حِمَارٍ عليه أسفارٌ، وفي مصحف ابن مسعود «كَمَثَلِ حِمَارٍ» بِغَيْرِ تعريفٍ، والسِّفْرُ الكتَابُ المجتمعُ الأوراقِ منضدة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بِئْسَ مَثَلُ القوم‏}‏ التقدير‏:‏ بِئْسَ المثلُ مثلُ القومِ الذين كذبوا بآياتِ اللَّه، * ص *‏:‏ وَرُدَّ بأَنَّ فيه حدفَ الفاعلِ ولا يجوزُ، والظاهرُ أنَّ ‏{‏مَثَلُ القوم‏}‏ فَاعِلُ ‏{‏بِئْسَ‏}‏، و‏{‏الذين كَذَّبُواْ‏}‏ هو المخصوصُ بالذَّمِّ على حذف مضافٍ؛ أي‏:‏ مثَلُ الذينَ كذَّبوا، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏6‏)‏ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

وله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ ياأيها الذين هَادُواْ إِن زَعمْتُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، رُوِيَ أنها نزلتْ بسبب أنَّ يهودَ المدينةِ لَمَّا ظَهَرَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، خَاطَبُوا يهودَ خيبرَ في أمره، وذكرُوا لهم نبوَّتَه، وقالوا إن رأيتم اتَّبَاعَهُ أطَعْنَاكُمْ وإنْ رأيتم خِلاَفَه خَالَفْنَاه معكم، فجاءهَم جوابُ أهْلِ خيبرَ يقولونَ‏:‏ نحن أبناءُ إبراهيمَ خليلِ الرحمن؛ وأبناءُ عزيرِ بنُ اللَّهِ ومنا الأنبياءُ، ومتى كَانَتْ النبوةُ في العرب، نحن أحقُّ بالنبوةِ من محمدِ، ولا سبيلَ إلى اتباعهِ، فنزلتِ الآيةَ بمعنى‏:‏ أنكم إذا كنتم منَ اللَّهِ بهذه المنزلةِ فَقُرْبُهُ وفراقُ هذه الحياةِ الخسيسةِ أحبُّ إليكم، فَتَمَنَّوْا الموتَ إن كنتم تَعْتَقِدُون في أنفسِكم هذه المنزلة، ثم أخبر تعالى أنهم لا يتمنونه أبداً لعلمِهم بسوءِ حالِهم، ورَوَى كثيرٌ من المفسرينَ أن اللَّه جَلَّتْ قُدْرَتُه جَعَلَ هذه الآيةَ معجزةً لمحمدٍ نبيِّه صلى الله عليه وسلم فِيهم، فَهِيَ آيةٌ باهرةٌ؛ وأعلَمَه أنه إن تمنى أحدٌ منهمُ الموتَ في أيام معدوداتٍ مَاتَ وفَارَقَ الدنيا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تَمَنّوُا الموتَ، على جهةِ التعجيزِ وإظهار الآيةِ، فما تَمَنَّاهُ أحد منهم خَوْفاً من الموتِ وثقةً بصدقِ نبيِّنَا محمدٍ صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏9‏)‏ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة‏}‏ الآية، النداءُ‏:‏ هو الأذانُ، وكان على الجِدَارِ في مسجدِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفي مصنف أبي داودَ‏:‏ كَانَ بَيْنَ يَدَي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وهو عَلى المنبر أذَانُ، ثم زادَ عثمانُ النداءَ عَلَى الزوراء ليسمعَ الناسُ‏.‏

* ت *‏:‏ وفي البخاريّ والترمذيِّ وصححه عن السائبِ بن يزيد قَالَ‏:‏ كَانَ النداءُ يومَ الجمعةِ أوَّلُه إذا جَلَسَ الإمام على المنبر؛ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعمرَ، فلما تَوَلَّى عثمانُ وكثرَ الناسُ، زَادَ الأذَانَ الثالثَ فأَذَّنَ به على الزَّورَاءِ، فَثَبَتَ الأَمْرُ على ذلك، قِيل‏:‏ فقوله «الثالثَ» يَقْتَضِي أنَّهمُ كَانُوا ثلاثةً، وفي طريقٍ آخرَ «الثاني» بدَلَ «الثالث» وهو يَقْتَضِي أَنَّهُمَا اثنانِ، انتهى، وخرَّجَ مسلم عن أبي هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ مَنِ1649‏;‏غْتَسَلَ، ثمَّ أَتَى الجُمُعَةَ، فصلى مَا قُدِّرَ لَهُ، ثم أَنْصَتَ لِلإمَامِ حتى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأخرى، وَفَضَلُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ‏"‏ انتهى، وخرَّجَهُ البخاريُّ من طريقِ سُلَيْمَان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مِن يَوْمِ الجمعة‏}‏ قال ابن هشام‏:‏ «من» مرادفةِ «في»، انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاسعوا إلى ذِكْرِ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، السعِيُ في الآيةِ لاَ يُرَادُ به الإسْرَاعُ في المشي، وإنما هو بمعنى قوله‏:‏ ‏{‏وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 39‏]‏ فالسَّعْيُ هو بالنِّيةِ والإرَادَةِ والعَمَلِ؛ مِنْ وُضُوءٍ، وغُسْلٍ، وَمَشْيٍ، ولُبْسِ ثوبٍ؛ كُلُّ ذلكَ سَعْيٌ، وَقَدْ قَالَ مالكٌ وغيره‏:‏ إنما تُؤْتَى الصلاةُ بالسَّكِينَةِ، * ت *‏:‏ وهو نصُّ الحديثِ الصحيحِ، وهُوَ قوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة‏:‏ ‏"‏ فَلاَ تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا ‏[‏و‏]‏ عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ ‏"‏، * ت *‏:‏ والظاهرُ أنَّ المرادَ بالسعيِ هُنا المُضِيُّ إلى الجمعةِ، كما فسَّره الثعلبيُّ، ويدلُّ على ذلكَ إطلاقُ العلماءِ لفظَ الوجوبِ عَلَيْهِ، فيقولونَ السَّعْيُ إلَى الجمعةِ واجبٌ، ويدلُّ عَلَى ذلك قراءةُ عمرَ وعليٍّ وابنِ مسعودٍ وابن عمر وابنِ عباس وابن الزبير وجماعة من التابعين‏:‏ «فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ» وقال ابن مسعود‏:‏ لَوْ قَرَأْتُ‏:‏ ‏{‏فاسعوا إلى ذِكْرِ الله‏}‏ لأَسْرَعْتُ حَتَّى يَقَع رِدَائي، وقال العِرَاقِيُّ‏:‏ ‏{‏فاسعوا‏}‏ معناه بَادِروا، انتهى، وقوله‏:‏ ‏{‏إلى ذِكْرِ الله‏}‏ هو وعظُ الخطبةِ؛ قاله ابن المسيب، ويؤيدُه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏ إذَا كَانَ يومُ الجمعةِ، كَانَ على كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ المَسْجِدِ مَلاَئِكَةٌ يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فالأَوَّلَ، فَإذَا جَلَسَ ‏[‏الإمَامُ‏]‏ طَوُوُا الصُّحُفَ، وجَاؤُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ ‏"‏ الحديثُ خَرَّجَهُ البخاريُّ ومسلم، واللفظُ لمسلمٍ، والخُطْبَةُ عِنْدَ الجمهورِ شَرْطٌ في انعقادِ الجمعةِ، وعن أبي موسى الأشعري أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏

‏"‏ إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يَبْعَثُ الأيَّامَ يومَ القيامةِ على هَيْئَتِهَا، وَيْبَعَثُ الجُمُعَةَ زَهْرَاءَ مُنِيرَةً، أَهْلُهَا مُحِفُّونَ بِهَا؛ كالْعَرُوسِ تهدى إلَى كرِيمَها، تُضِيءُ لهم؛ يَمْشُونَ في ضَوْئِهَا؛ أَلْوَانُهُمْ كالثَّلْجِ بَيَاضاً، وَرِيحُهُمْ يَسْطَعُ كَالْمِسْكِ، يَخُوضُونَ في جِبَالِ الكَافُورِ، يَنْظُرُ إلَيْهِمُ الثَّقَلاَنِ، مَا يَطْرِفُونَ تَعَجُّباً، يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ لاَ يُخَالِطُهُمْ إلاَّ المُؤَذِّنُونَ المُحْتَسِبُونَ ‏"‏ خَرَّجَهُ القاضِي الشريفُ أبو الحسنِ علي بن عبد اللَّهِ بن إبراهيمَ الهاشميّ، قال صاحبُ «التذكرة»‏:‏ وإسنادهُ صحيح، انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ إشارةٌ إلى السعي وتَرْكِ البَيْعِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فانتشروا‏}‏ أجمعَ الناسُ على أنَّ مُقْتَضَى هذا الأمْرِ الإباحةُ، وكذلك قوله‏:‏ «وابتَغُوا من فضل اللَّه» أنَّه الإبَاحَة في طلب المعاش، مثلَ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏ إلا مَا رُوِيَ عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ ذلكَ الفضْلُ المُبْتَغى هو عيادةُ مريضٍ، أو صِلَةُ صديقٍ، أو اتِّباعُ جنازةٍ ‏"‏، قال * ع *‏:‏ وفي هذا ينبغي أنْ يكونَ المرءُ بقيةَ يومِ الجمعةِ، ونحوه عن جعفر بن محمد، وقال مكحول‏:‏ الفضلُ المبْتَغَى‏:‏ العلمُ فينبغي أن يُطْلَبَ إثْرَ الجمعةِ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا الله كَثِيراً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال معاذ بن جبل‏:‏ مَا شَيْءٌ أنجى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ‏:‏ رواه الترمذي واللفظُ له، وابنُ ماجَه، والحاكمُ في «المستدرك»؛ وقال صحيحُ الإسناد، انتهى من «السلاح»‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، نزلتْ بسبب أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كانَ قائِماً على المنبرِ يَخْطُبُ يومَ الجمعةِ، فأقبلت عِيرٌ مِنَ الشَامِ تحملُ مِيرةً، وصاحبُ أمْرِهَا دِحْيَةُ بن خليفةَ الكلبي، قال مجاهد‏:‏ وكانَ مِن عُرْفِهِمْ أن تَدْخُلَ عِيرُ المدينةِ بالطَّبْلِ والمعازفِ، والصياحِ سروراً بها، فدخلتْ العيرُ بمثلِ ذلكَ، فانْفَضَّ أهْلُ المسجدِ إلى رؤيةِ ذلكَ وسماعِه؛ وتركُوا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قائماً عَلَى المنبرِ، ولم يَبْقَ معه غَيْر اثنَيْ عَشَرَ رَجُلاً، قال جابر بن عبد اللَّه‏:‏ أنا أحَدُهُم، قال * ع *‏:‏ ولم تَمُرَّ بِي تَسْمِيتُهم في ديوانٍ فيما أذْكُرُ الآنَ، إلا أنِّي سمعتُ أبي رحمه اللَّه يقولُ‏:‏ همُ العشرةُ المشهودُ لهم بالجنةِ، واخْتُلِفَ في الحادِيَ عَشَرَ، فقيل‏:‏ عمارُ بن ياسر، وقيل‏:‏ ابن مسعودٍ، * ت *‏:‏ وفي تقييد أبي الحسنِ الصغير‏:‏ والاثْنَا عَشَر الباقون همُ الصحابةُ العَشَرَةُ، والحادِيَ عَشَرَ‏:‏ بلالٌ، واخْتُلِفَ في الثاني عشر، فَقِيل‏:‏ عمار بن ياسرِ، وقيل‏:‏ ابن مسعود، انتهى، قال السهيلي‏:‏ وجَاءَتْ تسميةُ الاثْنَي عَشَرَ في حديثِ مُرْسَلٍ رواه أسد بن عمرو والدُ موسى بن أسد، وفيه أنَّ‏:‏ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لَمْ يَبْقَ معه إلا أبو بكرٍ وعُمَرُ وعثمانُ؛ حتى العشرةِ، وقَال‏:‏ وبلالٌ وابن مسعود، وفي روايةٍ‏:‏ عمارُ بَدلَ ابنِ مسعودٍ، وفي «مَرَاسِيلِ أبي داودَ» ذكر السببَ الذي من أجله تَرَخَّصُوا، فقال‏:‏ إن الخطبةَ يوم الجمعةِ كَانَتْ بعدَ الصلاةِ فَتَأَوَّلُوا رضي اللَّه عنهم أنهم قَدْ قَضَوْا مَا عَلَيْهِمْ، فَحوِّلَتْ الخطبةُ بعدَ ذلك قبلَ الصلاةِ، فهذا الحديثُ وإن كانَ مُرْسَلاً فالظن الجميلُ بأصْحَابِ النبي صلى الله عليه وسلم يُوجِبُ أنْ يكونَ صحيحاً، واللَّه أعلم؛ انتهى، ورُوِيَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَال‏:‏

‏"‏ لَوْلاَ هؤلاءِ لَقَدْ كَانَتِ الحِجَارَةُ سُوِّمَتْ على المُنَفضِّينَ من السماءِ ‏"‏، وفي حديثٍ آخر‏:‏ ‏"‏ والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ تَتَابَعْتُمْ حتى لاَ يبقى أَحَدٌ لسَالَ بِكُمُ الوَادِي نَاراً ‏"‏، قَالَ البخاريُّ‏:‏ ‏{‏انفضوا‏}‏ معناه تَفَرَّقُوا، انتهى، وقرأ ابن مسعود‏:‏ «وَمِنَ التِّجَارَةِ لِلَّذِينَ اتقوا، وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» وإنما أعاد الضميرَ في قوله‏:‏ ‏{‏إِلَيْهَا‏}‏ على التجارةِ وَحْدَهَا لأنَّهَا أهَمُّ، وهي كَانَتْ سَبَبَ اللَّهوِ، * ص *‏:‏ وقرئ «إلَيْهِمَا» بالتثنيةِ‏.‏

سورة المنافقون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ‏(‏1‏)‏ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏2‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية فَضَحَ اللَّهُ سرائرَ المنافقين بهذهِ الآيةِ، وذلكَ أنهم كَانُوا يقولُون للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ نَشْهَد إِنَّكَ لَرَسُولِ اللَّهِ؛ وهم في إخبارِهم هَذَا كَاذِبُونَ؛ لأَنَّ حَقِيقَةَ الكذبِ أن يُخْبِرَ الإنْسَانُ بِضِدِّ مَا في قَلْبِهِ، وهذِه كَانَتْ حالُهُم؛ وقَرَأَ الناس‏:‏ «أيْمَانِهِم» جمعُ يمينٍ، وقرأ الحسنُ‏:‏ «إيَمَانَهُمْ» بِكَسْرِ الهمزةِ، والجُنَّةُ‏:‏ مَا يُتَسَتَّرُ به في الأَجْرَامِ والمعَانِي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشَارَةٌ إلى فعلِ اللَّهِ بِهِمْ في فَضْحِهُم وتَوْبِيخِهم، ويحتملُ أنْ تكونَ الإشارةُ إلى سوء ما عَمِلوا، فالمعنَى سَاءَ عَمَلُهُمْ بأنْ كَفَرُوا بَعْدَ إيمانٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏4‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ‏(‏5‏)‏ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ‏}‏ هذا توبيخٌ لهم؛ إذ كَانَ مَنْظَرُهم يَرُوقُ جَمَالاً وقولُهُم يَخْلِبُ بَيَاناً؛ لكنَّهم كالخشبِ المُسَنَّدَة؛ إذْ لاَ أفْهَامَ لهم نافعةً، وكانَ عبدُ اللَّه بْنُ أُبَي ابن سَلُولَ مِنْ أبْهَى المنافقينَ، وأطولِهِم، ويدلّ على ذلك أنه لَمْ يوجَدْ قميصٌ يكْسُو العباسَ غيرُ قَميصِه، قال الثعلبيُّ‏:‏ ‏{‏تُعْجِبُكَ أجسامهم‏}‏ لاسْتِوَاءِ خَلْقِهَا وطُول قَامَتِهَا وحُسْنِ صُورَتِها، قَال ابن عباس‏:‏ وَكَانَ عَبْدُ اللَّه بن أُبَيٍّ جَسِيماً صَبِيحاً فَصِيحاً ذَلِقَ اللِّسَانِ، فَإذَا قَالَ سَمِعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ووصفهم اللَّه تعالى بتمام الصورةِ وحُسْنِ الإبَانَةِ، ثم شبَّهَهُم بالخُشُبِ المسنَّدَةِ إلى الحائِط، لا يَسْمَعُونَ وَلاَ يَعْقِلُونَ أشْبَاحٌ بِلاَ أَرْوَاحٍ، وأجْسَامٌ بِلاَ أحْلاَم، انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ‏}‏ هَذَا أيضاً فَضْحٌ لِمَا كَانُوا يُسِرُّونَه مِنَ الخَوْفِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَقَّعَونَ أنْ يأمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللَّهِ بِقَتْلِهِمْ، قال مقاتل‏:‏ فكانوا متَى سَمِعُوا نُشْدَانَ ضالةٍ، أو صِيَاحاً بأيِّ وَجْهِ، أو أُخْبِرُوا بِنُزُولِ وَحْيٍ طَارَتْ عقُولُهم حتَى يسْكُنَ ذِلَك ويكونَ في غَيْرِ شأنهم، ثم أخبرَ تعالى بأنهم همُ العدوُّ وحَذَّرَ منهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قاتلهم الله‏}‏ دُعَاء يَتَضَمَّنُ الإقْصَاءَ والمُنَابَذَةَ لهم، و‏{‏أنى يُؤْفَكُونَ‏}‏ معناهُ كَيْفَ يُصْرَفُونَ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، ‏"‏ سَبَبُ نُزُولِها أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَزَا بني المُصْطَلِق، فَازْدَحَمَ أَجيرٌ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ يُقَالُ لَهُ «جَهْجَاهٌ» مَعَ سِنَانِ بْنِ وَبَرَةَ الجُهَنِيِّ، حَلِيفٌ لِلأَنْصَارِ، عَلَى الْمَاءِ فَكَسَعَ جَهْجَاهٌ سِنَاناً فَتَشاوَرَا، ودَعَا جَهْجَاهُ‏:‏ يَا للْمُهَاجِرِينَ، وَدَعَا سِنَانٌ‏:‏ يَا لِلأَنْصَارِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَقَال‏:‏ مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ‏؟‏ فَلَمَا أُخْبِرَ بالقصةِ، قال‏:‏ دَعُوهَا؛ فَإنَّهَا مُنْتِنَةٌ، فقال عبد اللَّه بن أُبَيٍّ‏:‏ أَوَقَدْ فَعَلُوهَا‏؟‏ واللَّهِ، مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُ جَلاَبِيبِ قُرَيْشٍ إلاَّ كَما قَال الأوَّلُ‏:‏ سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، وقال‏:‏ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْها الأَذَلَّ، ثُمَّ قَال؛ لِمَنْ معه مِنَ المنافقينَ‏:‏ إنَّما يُقيمُ هؤلاءِ المهاجرونَ مَعَ محمدٍ بِسَبَبِ مَعُونَتِكمْ لَهم، ولَوْ قَطَعْتُمْ ذَلِكَ عنهم؛ لَفَرُّوا، فَسَمِعَهَا منه زيدُ بن أرقم، فأخْبَرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فَعَاتَبَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عبدَ اللَّه بن أُبَيٍّ عِنْدَ رجالٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فبلغَه ذلك، فَجَاءَ وَحَلَفَ مَا قَالَ ذلك، وحَلَفَ معَهُ قَوْمٌ مِنَ المُنَافِقِينَ، وكَذَّبُوا زيداً، فَصَدَّقَهُمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَقِيَ زَيْدٌ في منزلهِ لاَ ينصرفُ حَيَاءً مِنَ الناسِ فَنَزَلَتْ هذهِ السورةُ عِنْد ذَلِكَ، فبعثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى زَيْدٍ وقال لهُ‏:‏ لَقَدْ صَدَقَكَ اللَّهُ يَا زَيْدُ ‏"‏، فَخَزِيَ عِنْدَ ذَلِكَ عبدُ اللَّه بن أُبَيٍّ ومَقَتَه الناسُ ولاَمه المؤْمِنونَ من قومِه، وقال له بعضهم‏:‏ امْضِ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واعْتَرِفْ بذنبكَ يَسْتَغْفِرْ لَكَ، فلوى رَأْسَهُ إنْكَاراً لهذا الرَّأْيِ، وقال لهم‏:‏ لقد أشَرْتُمْ علي بالإيمان فآمنتُ، وأَشَرْتُمْ علي بأنْ أعطِيَ زَكَاةَ مالِي فَفَعَلتُ، وَلَمْ يَبْقَ لكم إلا أن تأمروني بالسجود لِمحمَّدٍ، فهذا قَصَصُ هذه السورة مُوجَزاً، وقَرأَ نافعٌ والمفضَّل عن عاصم‏:‏ «لَوَوْا» بتخفيف الواوِ وقرأ الباقون بتشديدِها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، رويَ أنه لما نزلتْ ‏{‏إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 80‏]‏ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ لأَزِيدَنَّ على السبعينَ، وفي حديثٍ آخَرَ‏:‏ لَوْ عَلِمْتُ أنِّي لَوْ زِدْتُ على السبعينَ لَغَفَرَ لَهُمْ لَزِدْتُ، وفي هذا الحديثِ دليلٌ عَلَى رَفْضِ دليلِ الخطابِ، فَلَمَّا فعل ابْنُ أُبَيٍّ وأصحابهُ مَا فَعَلُوا شَدَّدَ اللَّه عليهم في هذه الآيةِ، وأَعْلَم أَنَّه لَنْ يَغْفِرَ لهم دونَ حَدٍّ في الاسْتِغْفَارِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏7‏)‏ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُمُ الذين‏}‏ إشارةٌ إلى ابن أُبَيٍّ ومَنْ قَالَ بقوله، ثم سفه تعالى أحلامَهم في أن ظَنُّوا أنَّ إنْفَاقَهم هو سَبَبُ رزقِ المهاجرينَ، ونَسَوا أن جَرَيَانِ الرزقِ بِيَدِ اللَّهِ تعالى؛ إذَا انْسَدَّ بابٌ انْفَتَحَ غَيْرُه ثم أعْلَمَ تعالى أنَّ العزةَ لِلَّهِ ولرسولهِ وللمؤمنِين، وفي ذلكَ وعيدٌ وَرُوِي أن عبدَ اللَّه بن عبدِ اللَّه بن أُبَيٍّ وكَانَ رَجُلاً صَالِحاً لَمَّا سَمِعَ الآيةَ، جَاءَ إلى أبيه فَقَالَ له‏:‏ أنْتَ واللَّهِ يا أبَتِ الذليلُ، ورَسُولُ اللَّهِ العزيزُ، وَوَقَفَ عَلَى بَابِ السِّكَّةِ التي يَسْلُكُها أبوه، وجَرَّدَ السَّيْفَ وَمَنَعَهُ الدُّخُولَ، وقال‏:‏ واللَّهِ لاَ دَخَلْتَ إلى مَنْزِلِكَ إلاَّ أنْ يأْذَنَ في ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ في أذَلِّ حَالٍ، وَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ إلَيْهِ أنْ خَلِّهِ يَمْضِي إلى مَنْزِلِهِ، فَقَالَ‏:‏ أمَّا الآنَ، فَنَعَمْ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏9‏)‏ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏10‏)‏ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أموالكم وَلاَ أولادكم عَن ذِكْرِ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، الإلهاءُ‏:‏ الاشْتِغَالُ بِمَلَذ وَشَهْوَةٍ، وذكرُ اللَّه هنا عامٌّ في الصلوات، والتوحيدِ، والدعاء، وغيرِ ذلكَ مِنْ مَفْرُوضٍ، ومنْدُوبٍ، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رزقناكم‏}‏ عامٌّ من المفرُوضِ والمندوبِ؛ قاله جماعة من المفسرينَ، قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب «عيوب النفس»‏:‏ وَمِنْ عيوبِها تضييعُ أوقاتِها بالاشْتِغَالِ بما لا يَعْنِي مِنْ أُمورِ الدُّنْيا، والخَوْضِ فيها مَعَ أهلِها، ومُدَاوَاتُها أنْ يَعْلَمَ أنَّ وَقْتَه أعزُّ الأشياءِ فَيَشْغَلَه بِأَعَزّ الأَشْيَاءِ، وهو ذِكْرُ اللَّهِ، والمُدَاوَمَةُ على الطاعةِ ومطالبةُ الإخْلاَصِ من نفسهِ؛ فإنَّه رُوِيَ عنِ النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال‏:‏ ‏"‏ مِنْ حُسْنِ إسْلاَمِ المَرْءِ تَرْكُه مَالاَ يَعْنِيهِ ‏"‏ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ مَنْصُورٍ‏:‏ عَلَيْكَ بنفسِكَ فَإنْ لَمْ تَشْغَلْها شَغَلَتْكَ، انتهى‏.‏

وقولهُ‏:‏ ‏{‏لَوْلا أَخَّرْتَنِى إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ‏}‏ طَلَبٌ لِلْكَرَّةِ والإمهَالِ، وسَمَّاه قَرِيباً لأنّه آتٍ، وأيْضاً فإنَّما يتمنى ذلك لِيقْضِيَ فيه العملَ الصالحَ فَقَطْ وليس يتَّسِعُ الأَمَلُ حينئذٍ لِطَلَبِ العَيْشِ ونضرته‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَكُن مِّنَ الصالحين‏}‏ ظاهرَه العمُومُ، وقال ابن عباس‏:‏ هو الحج وَرَوَى الترمذيُّ عنه أنَّه قال‏:‏ مَا مِنْ رَجُلٍ لاَ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ وَلاَ يَحُجُّ إلاَّ طَلَبَ الْكَرَّةَ عِنْدَ مَوْتِهِ، قَال الثعلبيُّ‏:‏ قَال ابن عباس‏:‏ ‏{‏إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ‏}‏ يريدُ مِثْلَ آجالِنَا في الدنيا، انتهى، وقرأ أبو عمرو‏:‏ «وَأَكُونَ»، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا‏}‏ حَضٌّ عَلَى المُبَادَرَةِ ومُسَابَقَةِ الأَجَلِ بالعملِ الصالحِ‏.‏

سورة التغابن

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏2‏)‏ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏3‏)‏ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ‏}‏ أي‏:‏ في أصْلِ الخِلْقَةِ، وهذا يَجْرِي مع قول المَلَكِ‏:‏ يَا رَبِّ، أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، الحَدِيثَ، وذَلِكَ في بطنِ أمهِ، وقيل‏:‏ الآيةُ تعديدُ نِعَمٍ، فقولُه‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى خَلَقَكُمْ‏}‏ هَذِهِ نعمةُ الإيجَاد، ثم قال‏:‏ ‏{‏فَمِنكُمْ كَافِرٌ‏}‏ أي‏:‏ بهذِه النِّعْمَةِ؛ لجهلهِ باللَّهِ، ‏{‏وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ‏}‏ باللَّهِ، والإيمانُ بهِ شُكْرٌ لنعمتِه، فالإشَارةُ عَلى هذَا التأويلِ في الإيمانِ والكفرِ، هي إلى اكتسابِ العَبْدِ؛ وهذا قولُ جماعة، وقيلَ غيرُ هذا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَقَ السموات والأرض بالحق‏}‏ أي‏:‏ لم يخلقْها عَبَثاً ولاَ لغيرِ مَعْنى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ‏}‏ هو تعديدُ نِعَمٍ، والمرادُ الصورةُ الظاهرة، وقيل‏:‏ المرادُ صورةُ الإنسانِ المعنويَّةِ من حيثُ هو إنسانٌ مُدْرِكٌ عاقلٌ، والأولُ أجْرَى على لغةِ العرب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 10‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏5‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏6‏)‏ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏7‏)‏ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏8‏)‏ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏9‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏10‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ‏}‏ جَزْمٌ أصْلُه «يأتيكم» والخطابُ في هذهِ الآيةِ لقريشٍ، ذُكِّرُوا بِمَا حَلَّ بِعَادٍ وثمودَ، وغيرهم ممن سَمِعَتْ قريشٌ بِأخبارِهم، وَوَبَالُ الأمْرِ‏:‏ مكروهُه وما يسوء منه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بِأَنَّهُ‏}‏ إشارة إلى ذَوْقِ الوَبَالِ، وباقي الآية بَيِّنٌ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏زَعَمَ الذين كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ‏}‏ يريدُ قُريشاً، ثم هِي بَعْدُ تَعُمّ كلَّ كافرٍ بالبعثِ، ولا تُوجَدُ ‏(‏زَعَمَ‏)‏ مستعملةً في فصيحِ الكلامِ إلا عبَارَةً عَنِ الكَذِبِ، أو قولِ انْفَرَدَ به قائلُه‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَئَامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والنور الذى أَنزَلْنَا‏}‏ هذه الآيةُ دعاء من اللَّهِ، وتبليغٌ وتحذيرٌ مِنْ يَوْمِ القِيَامَةِ، والنُّورُ القرآنُ ومعانيه، ويومُ الجَمْعِ هو يومَ القيامَةِ، وهُو يومُ التغابُنِ يَغْبِنُ فِيهِ المؤمِنُونَ الكافرينَ، نَحا هذا المَنْحَى مُجَاهِد وغيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 13‏]‏

‏{‏مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏12‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ‏}‏ يحتملُ أَنْ يريدَ المصائِبَ التي هي رَزَايا، ويحتملُ أنْ يريدَ جميعَ الحوادثِ من خيرِ وشر، والكلُّ بإذْنِ اللَّهِ، والإذنُ هنا عبارةٌ عَنِ العلمِ والإرَادَةِ وتَمْكِينُ الوقوع‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ‏}‏ قال فيه المفسرون‏:‏ المعنَى ومَنْ آمنَ وعَرَفَ أنَّ كلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءِ اللَّه وقَدَرَه وَعِلْمِهِ، هانتْ عَلَيْهِ مصيبتُه وسلَّم لأمْرِ اللَّه تعالى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن تَوَلَّيْتُمْ‏}‏ إلى آخر الآية، وعيدٌ وتَبْرِئَةٌ لِلنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏14‏)‏ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِنَّ مِنْ أزواجكم‏}‏ إلى آخر السورةِ قرآنٌ مدنيٌّ واخْتُلِفَ في سَبَبهِ، فقال عطاء بن أبي ربَاح‏:‏ إنَّه نَزَلَ في عَوْفِ بن مَالكٍ الأشّجَعِيِّ؛ وذلك أَنَّهُ أراد غَزْواً مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فاجْتَمَعَ أَهْلُهُ وأولاده، وتَشَكَّوْا إلَيْه فِرَاقَهُ، فَرَقَّ لهُمْ فَثَبَّطُوهُ ولم يَغْزُ، ثم إنّه نَدِمَ وهَمَّ بمعاقبتِهم، فنزلتِ الآية بسببه محذِّرةً مِن الأَزْوَاجِ والأولاد وفتنتِهم‏.‏ ثم صَرَفَ تَعالَى عَنْ معاقبتهِم بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ‏}‏ وقال بعضُ المفسرينَ‏:‏ سببُ الآيةِ أنَّ قوماً آمنُوا وثَبَّطَهُمْ أزْوَاجُهم وأولادُهم عَنْ الهِجرةِ فَلَمْ يُهَاجِروا إلا بَعْدَ مدةٍ، فَوَجَدُوا غيرَهم قد تَفَقَّه في الدين، فَنَدِمُوا وهَمُّوا بمعاقبةِ أزواجِهِم وأولادِهم، ثم أَخْبَرَ تعالى أن الأمْوَالَ والأولادَ فتنةٌ تَشْغَلُ المرءَ عَنْ مَرَاشِدِهِ، وتَحْمِلُه مِنَ الرَّغْبَةِ في الدنيا عَلَى مَا لاَ يَحْمَدُه في آخرتِه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الوَلَدُ مَبْخَلَةٌ مُجْبَنَةٌ»، وخَرَّجَ أبو داود حديثاً في مصنفه «أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كانَ يَخْطُبُ يَوْمَ الجمعةِ عَلى المِنْبَرِ حَتَّى جَاءَ الحَسَنُ والحسينُ عليهما قميصان أحمرانَ يجرانِهما، يعْثُرَانِ ويَقُومَانِ، فَنَزَلَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عَنِ المنبرِ حَتَّى أخَذَهُمَا، وصَعِدَ بِهِمَا، ثم قَرَأَ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، وقَال‏:‏ إني رأيتُ هذينِ فَلَمْ أصْبِرْ، ثم أخَذَ في خُطْبَتِهِ»، قال * ع *‏:‏ وهذهِ ونحوُها هِي فتنةُ الفُضَلاَءِ، فأما فتنةُ الجُهَّالِ الفَسَقَةِ؛ فَمُؤَدِّيَةٌ إلى كلِ فعلٍ مُهْلِكٍ، وفي صَحِيحَي البخاري ومسلم، عن أبي ذرٍ قال‏:‏ انتهيتُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُول‏:‏ «هم الأخْسَرُونَ، وَرَبِّ الكَعْبَةِ، هُمُ الأخْسَرُونَ، وَرَبِّ الكَعْبَةِ، قُلْتُ‏:‏ مَا شَأْنِي أيرى فيَّ شَيْئاً‏؟‏ فَجَلَسْتُ وَهُوَ يَقُولُ؛ فَمَا استطعت أنْ أسْكُتَ وتَغَشَّانيَ مَا شَاء اللَّهُ فَقُلْتُ‏:‏ مَنْ هُمْ بأبي أنتَ وأمي يا رسولِ اللَّهِ‏؟‏ قال‏:‏ هُمُ الأكْثَرُونَ مَالاً إلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وهَكَذَا وَهَكَذَا» وفي رواية‏:‏ «إن الأَكْثَرينَ هم الأقَلُّونَ يَوْمَ القِيَامَةِ إلاَّ مَنْ قَال بِالمَالِ، هَكَذَا وهَكَذَا، وأشَارَ ابنُ شِهَابٍ بَيْنَ يَدَيْهِ وعن يمينه وعَنْ شماله، وقَلِيلٌ مَاهُمْ» انتهى، واللفظ للبخاريّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 18‏]‏

‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏16‏)‏ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏17‏)‏ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله مَا استطعتم‏}‏ تَقَدَّمَ الخلافُ هَلْ هذه الآيةُ نَاسِخَةٌ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتَّقُواْ الله حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏ أو لَيْسَتْ بناسخةٍ، بل هي مُبَيِّنَةٌ لها، وأن المَعْنَى‏:‏ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ؛ وهذا هو الصحيح، قال الثعلبي‏:‏ قال الربيع بن أنس‏:‏ ‏{‏مَا استطعتم‏}‏ أيْ‏:‏ جَهْدَكُمْ، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ إذا أمْكَنَكُمْ الجهادُ والهجرةُ، فَلا يُفْتِنَنَّكُمُ المَيْلُ إلى الأمْوالِ والأوْلاَدِ، واسْمَعُوا ما تُوعظونَ به، وأطِيعُوا فيما تؤمَرُون به، انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ‏}‏ تَقَدَّم الكلامُ عليه، وأسْنَد أبو بكر بن الخطيب من طريقِ أبي هريرةَ وأبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «السَّخَاءُ شَجَرَةٌ في الجَنَّةِ، وأَغْصَانُها في الدُّنْيَا، فَمَنْ كَانَ سَخِيًّا أَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْهَا؛ فَلَمْ يَتْرُكْهُ الغُصْنُ حتى يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، والشُّحُّ شَجَرَةٌ في النَّارِ وَأَغْصَانُهَا في الأَرْضِ، فَمَنْ كَانَ شَحِيحاً، أَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، فَلَمْ يَتْرُكْهُ الغُصْنُ حتى يُدْخِلَهُ النَّارَ» انتهى، وَباقِي الآية بيِّنٌ‏.‏

سورة الطلاق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ‏(‏1‏)‏ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ‏(‏2‏)‏ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء‏}‏ أي‏:‏ إذا أرَدْتُم طلاقَهُنَّ؛ قاله الثعلبيّ وغيره‏:‏ ‏{‏فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ وطَلاَقُ النساء حَلُّ عِصْمَتِهِنَّ، وصورَةُ ذلك وتَنْويعِه مِما لا يَخْتَصُّ بالتفسيرِ، ومعنى ‏{‏فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ أي‏:‏ لاسْتِقْبَالِ عِدَّتِهِن، وعبارةُ الثعلبيِّ‏:‏ أي‏:‏ لِطُهْرِهِنَّ الذي يُحْصِينَه مِنْ عِدَّتِهِنَّ، وهُو طُهْرٌ لَمْ يجامعْهَا فيه، انتهى، قال * ع *‏:‏ ومعنى الآيةِ أنْ لاَ يُطَلِّقَ أحَدٌ امرأتَه إلا في طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّها فِيهِ، وهَذَا على مَذْهَبِ مالكٍ ومن قال بقوله؛ القائلينَ بأن الأَقْرَاءَ عندَهم هي الأطْهَارُ، فَيُطَلِّقُ عَنْدَهم المُطَلِّقُ في طُهْرٍ لم يمسَّ فيه، وتَعْتَدُّ به المرأةُ، ثم تَحِيضُ حَيْضَتَيْنِ تَعْتَدّ بالطهْرِ الذي بَيْنَهُمَا ثُمَّ تُقِيمُ في الطُّهْرِ الثَّالِثِ مُعَتَدَّةً بِهِ، فإذا رأت أوّلَ الحَيْضَةِ الثالثةِ حَلَّتْ، وَمَنْ قَالَ بأنَّ الأَقْرَاءَ‏:‏ الحَيْضُ وَهُمْ العِرَاقِيُّونَ، قَالَ‏:‏ ‏{‏لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ مَعْنَاهُ أنْ تُطَلَّقَ طَاهِراً فَتَسْتَقْبِلُ بِثَلاَثِ حَيْضٍ كَوامِلٌ فإذَا رَأَتْ الطُّهْرَ بَعْدَ الثالثة، حَلَّتْ، والأَصْلُ في مَنْعَ طَلاَقِ الحَائِضِ حَدِيثِ ابنِ عمرَ، ثم أمر تَعَالى بإحْصَاء العِدَّةِ لِمَا يَلْحَقُ ذلك من أحكام الرَّجْعَةِ والسُّكْنَى، والميراثِ، وغيرُ ذلك، وعبارة الثعلبي‏:‏ ‏{‏وَأَحْصُواْ العدة‏}‏ أي‏:‏ احْفَظُوا عَدَدَ قُرُوئِها الثلاثةِ وَنَحْوَه تفسيرُ ابن العربيّ؛ قال‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَحْصُواْ العدة‏}‏ معْنَاهُ احْفَظُوا الوَقْتَ الَّذِي وَقَعَ فِيه الطَّلاَقُ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذلكَ من الأحكامِ، انتهى من «أحكامه»، ثم أخبرَ تعالى بأنهنّ أحَقُّ بسكنى بيوتِهن التي طُلِّقْنَ فيها فَنَهَى سبحانَه عن إخراجِهنَّ وعَنْ خُروجِهنّ، وسنةُ ذلك ألا تَبِيتَ عَن بيتِها ولا تَغِيبَ عنهُ نهاراً إلا في ضرورةٍ ومَا لا خَطْبَ لَه من جائِز التصرُّفِ، وذلك لحفظِ النَّسَبِ والتحرُّزِ بالنسَاء، واختُلِفَ في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ‏}‏ فقال الحسن وغيره‏:‏ ذلك الزِّنَا فَيُخْرَجْنَ للحَدِّ، وقال ابن عباس‏:‏ ذلك البَذَاءُ عَلَى الأَحْمَاءِ، فَتَخْرُجَ ويَسْقُطَ حَقُّها مِنَ المسكنِ، وتلزم الإقامَة في مسكنٍ تَتَّخِذُه حفظاً للنسبِ، وفي مصحف أبَيٍّ «إلا أنْ يَفْحُشْنَ عَلَيْكُمْ» وعبارةُ الثعلبيّ‏:‏ عن ابن عباسٍ‏:‏ «إلا أنْ تَبْذُوَ عَلَى أهْلِهَا فَيَحِلُّ لَهُمْ إخْرَاجُهَا»، انتهى، وهو معنى ما تقدم، وقرأ الجمهور‏:‏ «مُبَيِّنَة» بكسر الياءِ، تقول بَانَ الشيءُ وَبَيَّنَ بمعنًى واحدٍ إلا أن التضعيفَ للمبَالَغَةِ، وقرأ عاصم‏:‏ «مُبَيَّنة» بفتح الياءِ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ حُدُودُ الله‏}‏ إشارَةٌ إلى جميع أوامِرِه في هذه الآيةِ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً‏}‏ قال قتادة وغيره‏:‏ يريد به الرَّجْعَةَ، أي‏:‏ أحْصُوا العدةَ وامْتَثِلُوا مَا أُمِرْتُمْ به تَجِدُوا المُخَلِّصَ إن ندمتم؛ فإنكم لا تدرونَ لعلّ الرَّجْعَةَ تكونُ بَعْدُ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ‏}‏ يريدُ به آخر القروء، ‏{‏فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ وهُو حُسْنُ العِشْرَةِ، ‏{‏أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ ‏[‏وهُو‏]‏ أداء جَميعِ الحقوقِ، والوَفاءُ بالشُّروطِ حَسَبَ نَازِلَةٍ نَازِلَةٍ، وعبارة الثعلبي‏:‏ ‏{‏فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ أشْرَفْنَ على انْقِضَاء عدتهن، انتهى وهو حسن‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مِّنْكُمْ‏}‏ يريدُ‏:‏ على الرَّجْعَةِ وذلك شَرْطٌ في صحة الرَّجْعَةِ، وتَمْنَعُ المرأةُ الزَّوْجَ مِنْ نَفْسِهَا حَتّى يُشْهِدَ، وقال ابن عباس‏:‏ عَلَى الرَّجْعَةِ والطلاقِ مَعَاً، قال النخعي‏:‏ العَدْلُ مَنْ لم تظهرْ منه رِيبة، والعدلُ حَقِيقَة الذي لا يخاف إلا اللَّهَ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ‏}‏ أمْرٌ للشهودِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ‏}‏ إشارةٌ إلى إقامة الشهادةِ؛ وذلك أنّ فُصُولَ الأَحْكَامِ تدور على إقامة الشهادةِ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ‏}‏ قال بعض رواة الآثار، ‏"‏ نزلتْ هذه الآيةُ في عَوْفِ بن مالك الأشجعي؛ أُسِرَ ولدُه وقُدِرَ عليه رزقُه، فَشَكَا ذلكَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَه بالتَّقْوَى، فلم يلبثْ أن تَفَلَّتَ ولدُه وأخَذَ قطيعَ غَنَمٍ للقومِ الذين أسَرُوه، فَسَأَلَ عَوْف النبيَّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أتَطِيبُ لَهُ تِلْكَ الغَنَمُ‏؟‏ فقال‏:‏ نَعَمْ، قال أبو عمر بن عبد البر‏:‏ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم «أبى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أنْ يَجْعَلَ أرْزَاقَ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ إلاَّ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُونَ» ‏"‏ وقال عليه السلام لابن مسعود‏:‏ ‏"‏ لاَ يَكْثَرْ هَمُّكَ، يَا عَبْدَ اللَّهِ؛ مَا يُقَدَّرْ يَكُنْ وَمَا تُرْزَقْ يأتِيكَ ‏"‏، وعنه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اسْتَنْزِلُوا الرِّزْقَ بالصَّدَقَة ‏"‏، انتهى من كتابه المسمى ب«بهجة المجالس وأنس المجالس»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ‏}‏ هذهِ الآياتُ كلُّها عِظةٌ لجميعِ الناسِ، ومعنى حَسْبُهُ‏:‏ كَافِيهِ‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ هذه أكْثَرَ الآيات حَضًّا على التفويضِ للَّه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله بالغ أَمْرِهِ‏}‏ بَيَانٌ، وَحَضٌّ عَلى التوكلِ، أي‏:‏ لا بُدَّ مِنْ نفوذِ أمرِ اللَّهِ؛ توكلتَ أيُّهَا المرءُ أوْ لَمْ تَتَوَكَّلْ؛ قاله مسروق؛ فإنْ توكلتَ على اللَّهِ كَفَاكَ وَتَعَجَّلَتِ الراحةُ والبَرَكةُ، وإن لم تتوكَّلْ وَكَلَكَ إلى عَجْزِكَ وَتَسَخَّطَكَ، وأمرُه سبحانَه في الوجهين نَافِذٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ‏(‏4‏)‏ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ‏(‏5‏)‏ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ‏(‏6‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، «اللائي» جمعُ «التي» واليائساتُ من المحيض على مراتبَ؛ مَحَلُّ بَسْطِها كُتُبُ الفِقْهِ، وروى إسماعيلُ بْنُ خالدٍ؛ أنَّ قَوْماً منهم أُبَيُّ بن كعبٍ وخَلاَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ، لما سمعوا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلاثة قُرُوءٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏ قَالُوا‏:‏ يا رسولَ اللَّه؛ فما عِدَّةُ مَنْ لاَ قَرْءَ لَهَا؛ مِنْ صِغَرٍ أو كِبَرٍ، فنزلَتْ هذه الآية، فقالَ قائلٌ منهم‏:‏ فَمَا عِدَّةُ الحَامِلِ فنزلَتْ‏:‏ ‏{‏وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ‏}‏ وهُو لفظٌ يَعُمُّ الحواملَ المطلقاتِ والمعْتَدَّاتِ من الوَفَاةِ، والارتيابُ المذكورُ قيلَ‏:‏ هو بأمر الحَمْلِ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، أمْرٌ بإسكانِ المطلقاتِ ولاَ خِلاَفَ في ذلك؛ في التي لَمْ تُبَتَّ وأمَّا المَبْتُوتَةُ؛فَمَالكٌ يَرَى لَها السُّكْنَى لمكانِ حِفْظِ النسب، ولا يَرَى لها نَفَقَةً؛ لأنَّ النفقةَ بإزَاء الاسْتِمْتَاعِ، وقال الثعلبيُّ‏:‏ ‏{‏مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم‏}‏ أي‏:‏ في مساكِنِكم التي طلقتموهنَّ فِيها، انتهى، والوُجْدُ السِّعَةُ في المالِ، وأما الحَامِلُ فَلا خِلاَفَ في وُجُوبِ سُكْنَاها ونفقتِها؛ بُتَّتْ أوْ لَمْ تُبَتَّ؛ لأَنَّها مُبَيَّنة في الآيةِ، وأَنما اخْتَلَفُوا في نفقةِ الحامِل المُتَوفَّى عَنْهَا زوجُها، هَلْ يُنْفَقُ عَلَيْهَا مِنْ التِّرْكَةِ، أمْ لاَ، وكذلكَ النَّفَقَةُ على المُرْضِعِ المطلقةِ وَاجِبَةٌ، وبَسْطُ ذلك في كتبِ الفقه‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ أي ليأمُرْ كلُّ واحدٍ صاحبَه بخيرٍ، ولْيَقْبَلْ كلُّ أحَدٍ مَا أُمِرَ بهِ من المعروف‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِن تَعَاسَرْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ تَشَطَّطت المرأة في الحدِّ الذي يكونُ أُجْرَةً على الرِّضَاعِ، فللزَّوْجِ أن يسترضِع بما فيه رِفْقُه إلا أَلاَّ يقبلَ المولودُ غَيْرَ أمِّه، فَتُجْبَرُ هِي حِينَئِذٍ عَلى رَضَاعِه بأجْرَةِ مثلها ومثل الزوجِ في حالهما وغناهما‏.‏

* ت *‏:‏ وهذا كله في المطلقة البائِنِ، قال ابن عبد السلام من أصحابنا‏:‏ الضميرُ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏ عائِدٌ على المطلقاتِ وكَذَلِكَ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏ وأمَّا ذَاتُ الزوج أو الرَّجْعِية، فَيَجِبُ عليها أنْ ترضِعَ مِنْ غَيْر أجْرٍ إلا أنْ تَكونَ شريفَةً فلا يلزمُها ذلك، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 11‏]‏

‏{‏لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ‏(‏7‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا ‏(‏8‏)‏ فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ‏(‏9‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ‏(‏10‏)‏ رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، عَدَلَ بَيْنَ الأزواج لِئَلاَّ تَضِيعَ هي ولا يُكَلَّفَ هو ما لا يُطِيقُ، ثُم رجَّى تعالى باليُسْرِ تِسْهِيلاً على النفوس وتطييباً لها‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَكَأَيِّن‏}‏ الثعلبي‏:‏ وكأين‏:‏ أي‏:‏ وَكَمْ مِنْ قَرْيَة، ‏{‏عَتَتْ‏}‏ أي‏:‏ عَصَتْ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فحاسبناها‏}‏ قال * ع *‏:‏ قال بعضُ المتأولينَ‏:‏ الآيةُ في أحوالِ الآخِرَةِ، أي‏:‏ ثمَّ هُو الحسابُ والتعذيبُ والذَوْقُ وخَسَارُ العَاقِبَةِ، وقال آخرونَ‏:‏ ذلك في الدنيا، ومعنى ‏{‏فحاسبناها حِسَاباً شَدِيداً‏}‏ أي‏:‏ لم تُغْتَفَرْ لهم زَلَّةٌ، بل أُخِذَتْ بالدقائق من الذنوب، ثم نَدَبَ تعالى أولي الألباب إلى التقوى تحذيراً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَّسُولاً‏}‏ اخْتُلِفَ في تقديرِه، وأبْيَنُ الأقوالِ فيه معنى أنْ يكونَ الذكرُ القرآنُ، والرسولَ محمداً صلى الله عليه وسلم، والمِعْنَى وأرْسَلَ رسولاً لكنَّ الإيجازَ اقتضَى اختصارَ الفعلِ الناصب للرسول؛ ونحا هذا المنحى السدي، وسائرُ الآيةِ بيِّن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الله الذى خَلَقَ سَبْعَ سموات وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ‏}‏ لا خلافَ بين العلماءِ أن السموات سَبْعٌ وأمّا الأرْضُ فالجمهورُ‏:‏ على أنها سَبْع أَرْضِينَ، وهو ظاهرُ هذهِ الآيةِ، وإنما المُمَاثَلَةُ في العددِ، ويُبَيِّنُه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصحيحِ‏:‏ «مَنْ غَصَبَ شِبْراً مِنْ أرْضٍ طَوَّقَه اللَّه مِنْ سَبْعِ أرضِينَ»، إلى غير هذا مما وردت به الرواياتُ، ورُوِيَ عن قومٍ مِنَ العلماءِ أنهم قَالوا‏:‏ الأرضُ واحِدَةٌ وهي مماثلةٌ لكلِّ سَماءٍ بانْفِرَادِها في ارتفاع جُرْمِها، وفي أن فيها عَالماً يعبُدُ اللَّهَ كما في كلِّ سَمَاءٍ عَالَمٌ يعبُد اللَّه‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ‏}‏ الأمْرُ هنا يعُمُّ الوحيَ وجميعَ ما يأمُرُ به سبحانه من تَصْرِيف الرياحِ، والسحابِ، وغير ذلك من عجائب صنعه؛ لاَ إله غيرُه، وبَاقِي السُّورَةِ وَعْظٌ وحَضٌ على توحيدِ اللَّه عز وجل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ عُمُومٌ معناه الخُصُوصُ في المقدوراتِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بِكُلِّ شَئ عِلْمَا‏}‏ عمومٌ عَلى إطْلاَقِه‏.‏

سورة التحريم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏1‏)‏ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏2‏)‏ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏3‏)‏ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ‏(‏4‏)‏ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها النبى لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، وفي الحديثِ مِنْ طُرُقٍ ما معناه؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جاءَ إلى بيتِ حَفْصَةَ، فوجَدَها قد مرَّتْ لزيارةِ أبيهَا، فَدَعَا صلى الله عليه وسلم جاريَتَهُ مَارِيَّةَ، فَقَالَ مَعَها، فَجَاءَتْ حَفْصَةُ وَقَالَت‏:‏ يا نبيَّ اللَّه‏!‏ أفِي بَيْتِي وعلى فِرَاشِي‏؟‏ فَقَالَ لَهَا صلى الله عليه وسلم‏:‏ مترضِّياً لها‏:‏ «أيُرْضِيكِ أنْ أُحَرِّمَها‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ نَعَمْ؛ فقال‏:‏ إنِّي قَدْ حَرَّمْتُهَا»، قال ابن عباس‏:‏ وقالَ مَعَ ذلكَ‏:‏ واللَّهِ، لاَ أَطَؤُهَا أَبَداً، ثم قال لها‏:‏ لاَ تُخْبِرِي بِهَذَا أَحَداً، ثم إنَّ حَفْصَةَ قَرَعَتْ الجِدَارَ الَّذِي بَيْنَهَا وَبْيْنَ عَائِشَةَ، وَأَخْبَرَتْهَا لِتُسِرَّهَا بالأَمْرِ، وَلَمْ تَرَ في إفْشَائِهِ إلَيْهَا حَرَجاً، واستكتمتها، فَأَوْحَى اللَّهُ بِذَلِكَ إلى نَبِيِّهِ، ونزلَتِ الآيةُ، وفي حديثٍ آخَرَ عن عائشةَ أنَّ هذا التحْرِيمَ المذكورَ في الآية؛ إنَّما هُو بِسَبَبِ العَسَلِ الذي شَرِبَه صلى الله عليه وسلم عِنْدَ زينبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَتَمالأتْ عائشةُ وحفصةُ وسَوْدَةُ عَلى أنْ تَقُولَ له؛ مَنْ دَنَا مِنْهَا‏:‏ إنّا نَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أأكَلْتَ مَغَافِيرَ يَا رَسُولَ اللَّه‏؟‏ والمَغَافِيرَ‏:‏ صَمْغُ العُرْفُطِ، وَهُوَ حُلْوٌ كَرِيهُ الرَّائِحَةِ، فَفَعَلْنَ ذَلِكَ، فَقَالَ رسولُ اللَّه‏:‏ ما أَكَلْتُ مَغَافِيرَ، وَلَكِنِّي شَرِبْتُ عَسَلاً، فقلْنَ له‏:‏ جَرَسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُط‏؟‏ فقال‏:‏ صلى الله عليه وسلم لاَ أشْرَبُه أبَداً، وكانَ يَكْرَهُ أنْ تُوجَدَ مِنْهُ رَائحةٌ كَرِيهةٌ، فدخلَ بعد ذلك على زينبَ فَقَالَتْ‏:‏ أَلا أسْقِيكَ مِنْ ذَلِكَ العَسَلِ‏؟‏ فَقَال‏:‏ لاَ حَاجَةَ لِي بِهِ، قالتْ عائشةُ‏:‏ تَقُولُ سَوْدَةُ حِينَ بَلَغَنَا امتناعه‏:‏ وَاللَّهِ، لَقَدْ حَرَمْنَاهُ، فَقُلْتُ لَها‏:‏ اسكتي، قال * ع *‏:‏ والقولُ الأوَّلُ أن الآيةِ نزلتْ بسبب مارية أصَحُّ وأوْضَحُ، وعليه تَفَقَّه الناسُ في الآية، ومَتَى حَرَّمَ الرَّجُلُ مَالاً أو جاريةً فليسَ تحريمُه بشيءٍ، * ت *‏:‏ والحديثُ الثَّانِي هو الصحيحُ خَرَّجَه البخاريُّ ومسلمُ وغيرهما، ودَعَا اللَّهُ تعالى نبيَّه باسْم النبوَّةِ الذي هو دالٌّ على شَرَفِ مَنْزِلَتِه وَفَضِيلَتِه التي خَصَّهُ بِهَا، وقرَّره تعالى كالمُعَاتِبِ له على تحريمِه عَلى نفسِه مَا أحلَّ اللَّهُ له، ثم غَفَرَ لَه تَعَالَى مَا عَاتَبه فيه ورَحِمَه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ فَرَضَ الله‏}‏ أي‏:‏ بيَّنَ وأثْبَتَ، فقال قوم من أهل العلم‏:‏ هذه إشارَةٌ إلى تَكْفِيرِ التَّحْرِيمِ، وقال آخرونَ هي‏:‏ إشارَةٌ إلى تكفيرِ اليمينِ المُقْتَرِنَةِ بالتحريمِ، والتَّحِلَّةُ مَصْدَرُ وزنها «تَفْعِلَة» وأدْغِمَ لاِجْتِمَاعِ المثلينِ، وأحالَ في هذه الآيةِ على الآيةِ التي فسَّر فِيها الإطْعَامَ في كفارةِ اليمينِ باللَّهِ تَعَالى، والمَوْلَى المُوَالِي النَّاصِرُ‏.‏

‏{‏وَإِذَ أَسَرَّ النبى إلى بَعْضِ أزواجه‏}‏ يعني حَفْصَةَ ‏{‏حَدِيثاً‏}‏ قال الجمهورُ الحديثُ هو قولُهُ في أمر ماريةَ، وقال آخرونَ‏:‏ بلْ هو قولُه‏:‏ إنَّمَا شَرِبْتُ عَسَلاً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَرَّفَ بَعْضَهُ‏}‏ المَعْنَى مَعَ شَدِّ الراءِ‏:‏ أعْلَمَ بِهِ وأَنَّب عليه وأعْرَض عن بعض، أي‏:‏ تَكُرُّماً وَحَيَاءً وحُسْنَ عشرةٍ، قال الحسن‏:‏ ما اسْتَقْصَى كريمٌ قط، والمخاطبة بقوله‏:‏ ‏{‏إِن تَتُوبَا إِلَى الله‏}‏ هي لحفصةَ وعائشةَ، وفي حديثِ البخاريّ، وغيره عن ابن عباس قال‏:‏ قلت لعمر‏:‏ من اللتان تَظَاهَرَتَا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ قال‏:‏ حفصةُ وعائشةُ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏صَغَتْ قُلُوبُكُمَا‏}‏ معناه مَالَتْ، والصُّغْيُ الميلُ، ومنه أَصْغَى إليه بأُذُنِه، وأصْغَى الإنَاءَ، وفي قراءة ابن مسعود‏:‏ «فَقَدْ زَاغَتْ قُلُوبُكُما» والزيغُ‏:‏ الميلُ وعُرْفُه في خِلاَفِ الحَقّ، وجَمَعَ القلوبَ مِن حيثُ الاثنانِ جَمْعٌ، * ص *‏:‏ ‏{‏قُلُوبُكُمَا‏}‏ القياسُ فيه‏:‏ قلباكما مُثَنَّى، والجمعُ أكْثَرُ استعمالاً وحسْنُه إضافَتُه إلى مثنًى، وهو ضميرُهما؛ لأنَّهُمْ كَرِهُوا اجتماعَ تَثْنِيَتَيْنِ، انتهى، ومعنى الآيةِ إن تُبْتُما فَقَدْ كَانَ مِنكُمَا مَا يَنْبَغِي أنْ يُتَابَ منه، وهذا الجوابُ الذي للشَّرْطِ هُو متقدمٌ في المعنى، وإنما تَرتَّبَ جَوَاباً في اللفظِ، ‏{‏وَإِن تَظَاهَرَا‏}‏ معناه‏:‏ تَتَعَاوَنَا وأصل‏:‏ ‏{‏تَظَاهَرَا‏}‏ تَتَظَاهَرَا، و‏{‏مَوْلاهُ‏}‏ أي‏:‏ ناصرُه، ‏{‏وَجِبْرِيلُ‏}‏ ومَا بعدَه يحتملُ أنْ يكونَ عَطْفاً على اسمِ اللَّهِ، ويحتملُ أنْ يكونَ جبريلُ رَفْعاً بالابتداءِ وَمَا بَعْدَهُ عَطْفٌ عَلَيْهِ و‏{‏ظَهِيرٌ‏}‏ هُو الخَبَرُ، وخَرّجَ البخاريّ بسنده عن أنس قال‏:‏ قال عمر‏:‏ اجْتَمَع نساءُ النبي صلى الله عليه وسلم في الغِيرَةِ عليه فقلتُ لَهُنَّ‏:‏ عسى ربُّه إنْ طَلَّقَكُنَّ أنْ يبدله أزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ، فنزلت هذه الآية، انتهى، و‏{‏قانتات‏}‏ معناه مُطِيعَات، والسائحاتُ قِيل‏:‏ معناه‏:‏ صَائِمَاتٌ، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ مُهَاجِرَاتٌ، وقيل‏:‏ معناه ذَاهِبَاتٌ في طَاعَةِ اللَّهِ، وشُبِّه الصَّائِمُ بالسائِحِ من حيثُ يَنْهَمِلُ السائِحُ وَلا يَنْظُرُ في زادٍ ولاَ مَطْعَمٍ، وكذلك الصائم يُمْسِك عن ذلك، فيستوي هو والسائِح في الامْتِنَاعِ، وشَظَفِ العَيْشِ لِفَقْدِ الطَّعَام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 9‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ‏(‏6‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏7‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏8‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةُ، ‏{‏قُواْ‏}‏ معناه اجْعَلُوا وِقَايَةً بينكم وبينَ النارِ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَهْلِيكُمْ‏}‏ معناه بالوَصِيَّةِ لهم والتقويم والحَمْلِ على طاعةِ اللَّه، وفي الحديثِ‏:‏ ‏"‏ رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً قَال‏:‏ يا أهْلاَهُ صَلاَتَكُمْ، صِيَامَكُمْ، ‏[‏زَكَاتَكُمْ‏]‏، مِسْكِينَكُمْ، يَتِيمَكُمْ ‏"‏ * ت *‏:‏ وفي «العتبية» عن مالكٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إنَّ اللَّهَ أذِنَ لي أنْ أتَحَدَّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ، إنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ وَعَاتِقِهِ لَمَخْفِقَ الطَّيْرِ سَبْعِينَ عَاماً ‏"‏، انتهى، وباقي الآية في غَايَةِ الوضوحِ، نَجَانَا اللَّهُ مِنْ عَذَابه بِفَضْلِه، والتوبةُ فَرْضٌ على كلِّ مسلمٍ، وهي الندمُ على فَارِطِ المعصيةِ، والعَزْمُ عَلى تَرْكِ مِثلِها في المستقبل، هذا من المتمكن، وأما غيرُ المتمكِّنِ كالمَجْبُوبِ في الزِّنَا فالندمُ وحدَه يكفيه، والتوبةُ عِبادَةٌ كالصَّلاَةِ، وغيرها، فإذا تَابَ العبدُ وَحَصَلَتْ توبتُه بشروطِها وقبلت، ثم عَاوَدَ الذنبَ فتوبتُه الأولَى لا تفسدُها عَوْدَةٌ بل هي كسَائِرِ مَا تَحَصَّلَ من العباداتِ، والنَّصُوح بناءَ مبالغةٍ من النُّصْحِ، أي‏:‏ توبة نَصَحَتْ صَاحِبها، وأرْشَدَتْه، وعن عمرَ‏:‏ التوبةَ النصوحُ‏:‏ هي أن يتوبَ ثم لا يعودُ ولا يريدُ أن يعودَ، وقال أبو بكر الوَرَّاق، هي أن تَضِيقَ عليكَ الأرْضُ بما رَحُبَتْ كتوبةِ الذين خُلِّفُوا‏.‏ ‏"‏ ورُوِيَ في معنى قولِه تعالى‏:‏ «يوم لا يخزي اللَّه النبي» أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تَضَرَّعَ مَرَّةً إلى اللَّه عز وجل في أمْرِ أُمَّتِهِ، فأوحَى اللَّه إلَيْهِ إنْ شِئْتَ جَعَلْتُ حِسَابَهُمْ إلَيْكَ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَبِّ، أَنْتَ أَرْحَمُ بِهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ تعالى‏:‏ إذَنْ لاَ أُخْزِيَكَ فِيهِمْ ‏"‏‏.‏ وقولُه تَعَالَى‏:‏ ‏{‏والذين ءَامَنُواْ مَعَهُ‏}‏ يَحْتَمِل‏:‏ أن يكونَ معطوفاً عَلى النبيِّ فيخرجُ المؤمِنونَ من الخزي، ويحتملُ‏:‏ أنْ يَكُونَ مبتدأً، و‏{‏نُورُهُمْ يسعى‏}‏‏:‏ جملةٌ هِي خبرُه، وقولهم‏:‏ ‏{‏أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا‏}‏ قال الحسنُ بن أبي الحسن‏:‏ هو عِنْدَما يَرَوْنَ مِنِ انْطِفَاءِ نورِ المنافقين حَسْبَمَا تقدم تفسيرُه، وقيل‏:‏ يقوله من أُعْطِي منَ النور بقدر ما يَرَى موضعَ قدميه فقط، وباقي الآية بيَّن مما تقدم في غيرِ هذا الموضع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 12‏]‏

‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ‏(‏10‏)‏ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏11‏)‏ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، هذَانِ المَثَلاَنِ اللذانِ للكفارِ والمؤمنينَ معناهما‏:‏ أنَّ مَنْ كَفَرَ لا يُغْنِي عنه مِنَ اللَّهِ شيءٌ ولا ينفعُه سَبَبٌ، وإنَّ مَنْ آمنَ لا يدفعُه عَنْ رِضْوَانِ اللَّهِ دافعٌ وَلُوْ كَانَ في أسوأِ مَنْشَأٍ وأخسِّ حالٍ، وقول من قال‏:‏ إنَّ في المَثَلَيْنِ عبرةٌ لأَزْوَاجِ النبي صلى الله عليه وسلم بعيدٌ‏.‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ «خَانَتَاهُمَا»‏:‏ أي في الكُفْرِ، وفي أن امرأةَ نوحٍ كانَتْ تقول للناس‏:‏ إنَّه مجنُونٌ وأن امرأةَ لوطٍ كَانَتْ تَنُمُّ إلى قَوْمِها خَبَر أضْيَافِه، قال ابن عباس‏:‏ وَمَا بَغَتْ زَوْجَةُ نَبِيٍّ قَطُّ، وامرأة فرعون اسمُها آسية، وقولها‏:‏ ‏{‏وَعَمَلِهِ‏}‏ تعني كُفْرَهُ ومَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏التى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا‏}‏ الجمهورُ أنه فَرْجُ الدِّرْعِ، وقال قوم‏:‏ هو الفَرْجُ الجَارِحَةُ وإحْصَانُه صَوْنُه‏.‏

وقولُه سبحانه‏:‏ ‏{‏فَنَفَخْنَا فِيهِ‏}‏ عبارةٌ عَنْ فِعل جبريلَ، * ت *‏:‏ وقد عَكَسَ رحمه اللَّه نَقْلَ ما نَسَبَهُ للجمهورِ في سورةِ الأنبياءِ فقال‏:‏ المَعْنَى واذْكُرِ الَّتي أحصنتْ فَرْجَها وهو الجارِحَة المعروفةُ، هذا قولُ الجمهورِ، انظر بقيةَ الكلامِ هناك‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِن رُّوحِنَا‏}‏ إضافةُ مخلوقٍ إلى خالقٍ، ومملوك إلى مالكٍ، كما تقول بَيْتُ اللَّهِ، ونَاقَةُ اللَّهِ، وكذلك الرُّوحُ الجنسُ كلُّه هو روح اللَّه، وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وَصَدَّقَتْ بكلمات رَبَّهَا‏}‏ بالجَمْعِ فَيُقَوِّي أنْ يريدَ التوراةَ، ويحتملُ أنْ يريدَ أمْرَ عيسَى، وَقَرَأ الجحدري‏:‏ «بِكَلِمِة» فَيُقَوِّي أنْ يريدَ أمْرَ عيسى، ويحتملُ أنْ يريدَ التوراةَ، فتكونُ الكلمةُ اسْمُ جنسٍ، وقرأ نافع وغيره‏:‏ «وكِتَابِهِ» وقرأ أبو عمرو وغيره‏:‏ «وَكُتُبِهِ» بضم التاء وَالجَمْعِ، وذلك كلَّه مرادٌ بهِ التوراةُ والإنْجِيلُ، قال الثعلبيُّ‏:‏ واختار أبو حاتم قراءةَ أبي عمرٍو بالجَمْعِ لعمومِها، واختار أبو عبيدة قِراءَة الإفْرَادِ؛ لأن الكتَابَ يُرَادُ به الجنسُ، انتهى؛ وهو حَسَنٌ، ‏{‏وَكَانَتْ مِنَ القانتين‏}‏ أي‏:‏ من القوم القانتينَ؛ وهم المطيعونَ العابِدونَ، وقد تقدَّم بيانُه‏.‏

سورة الملك

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الذى بِيَدِهِ الملك‏}‏ ‏{‏تبارك‏}‏ مِنَ البركةِ وهي التَزَيُّدِ في الخيراتِ، الثعلبي‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الذى بِيَدِهِ الملك‏}‏ أي‏:‏ تَعَالَى وتَعَاظَمَ وَقَالَ الحسنُ‏:‏ تَقَدَّسَ الذي بيده الملكُ في الدنيا والآخرة، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏بِيَدِهِ الملك‏}‏‏:‏ يُعِزُّ مَنْ يَشاء ويذل من يشاء‏.‏ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 5‏]‏

‏{‏الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ‏(‏2‏)‏ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ‏(‏3‏)‏ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ‏(‏4‏)‏ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الذى خَلَقَ الموت والحياة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، الموتُ والحياةُ مَعْنَيَانِ يَتَعَاقَبَانِ جِسْمَ الحيوانِ، يَرْتَفِعُ أحدهما بحلُولِ الآخَرِ، وما جاء في الحديثِ الصحيحِ من قولهِ عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ يُؤتَى بِالمَوْتِ يَوْمَ القِيَامَةِ في صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُذْبَحُ عَلَى الصِّرَاطِ ‏"‏ الحديث، فقال أهْلُ العِلْمِ‏:‏ إنَّما ذَلِكَ تِمْثَالُ كَبْشٍ يُوقِعُ اللَّهُ العِلْمَ الضَّرُورِيَّ لأَهْلِ الدَّارَيْنِ أَنَّه الموتُ الذي ذَاقُوه في الدنيا، ويكونُ ذلك التمثالُ حَامِلاً للموتِ، لاَ عَلى أنه يَحُلُّ الموتُ فيه فَتَذْهَبُ عنهُ حياةٌ، ثم يَقْرِنُ اللَّه تعالى في ذلك التمثالِ إعْدَامَ الموتِ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ جَعَلَ لَكُمْ هاتينِ الحالتَيْنِ ليبلوَكم، أي‏:‏ ليختبرَكم في حالِ الحياةِ ويُجَازِيكُم بَعْدَ الممات، وقال أبو قتادة، ونحوه عن ابن عمر، ‏"‏ قلت‏:‏ يا رسول اللَّه، مَا مَعْنى قولِه تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ ‏؟‏ فَقَال‏:‏ يقول‏:‏ أَيُّكُمْ أحْسَنُ عَقلاً، وأشَدُّكم للَّهِ خَوْفاً، وأحْسَنُكم في أمْرِه ونهيهِ نَظَراً، وإن كَانُوا أقلَّكم تطوُّعاً ‏"‏، وقال ابن عباس وسفيان الثوري والحسن‏:‏ ‏{‏أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ أزْهَدُكُمْ في الدنيا، قال القرطبي‏:‏ وقال السدي‏:‏ ‏(‏أحْسَنُكُمْ عَمَلاً‏)‏، أي‏:‏ أكثَركم للموت ذِكْراً، وله أحْسَنُ استعداداً، ومِنْه أشَدُّ خوفاً وحذَراً، انتهى من «التذكرة»، وللَّه در القائل‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وَفِي ذِكْرِ هَوْلِ المَوْتِ وَالقَبْرِ والبلى *** عَنِ الشُّغْلِ باللَّذَّاتِ لِلْمَرْءِ زَاجِرُ

أَبَعْدَ اقتراب الأَرْبَعِينَ تَرَبُّصٌ *** وَشَيْبٌ فَذَاكَ مُنْذِرٌ لَكَ ذَاعِرُ

فَكَمْ في بُطُونِ الأَرْضِ بَعْدَ ظُهُورِهَا *** مَحَاسِنُهُمْ فِيهَا بَوَالٍ دَوَاثِرُ

وَأَنْتَ عَلَى الدّنْيَا مُكِبٌّ مُنَافِس *** لِخُطَّابِهَا فِيهَا حَرِيصٌ مُكَاثِرُ

على خَطَرٍ تُمْسِي وَتُصْبِحُ لاَهِياً *** أَتَدْرِي بِمَاذَا لَوْ عَقَلْتَ تُخَاطِرُ

وَإنَّ امرأ يسعى لِدُنْيَاه جَاهِداً *** وَيَذْهَلُ عَنْ أُخْرَاهُ لاَ شَكَّ خَاسِرُ

كَأَنَّكَ مُغْتَرٌّ بِمَا أَنْتَ صَائِرٌ *** لِنَفْسِكَ عَمْداً أوْ عَنِ الرُّشْدِ جَائِرُ

فَجِدَّ وَلاَ تَغْفُلْ فَعَيْشُكَ زَائِلٌ *** وَأَنْتَ إلى دَارِ المَنِيَّةِ صَائِرُ

وَلاَ تَطْلُبِ الدُّنْيَا فَإنَّ طِلاَبَهَا *** وَإنْ نِلْتَ مِنْهَا ثَرْوَةً لَكَ ضَائِرُ

وَكَيْفَ يَلَذُّ العَيْشَ مَنْ هُوَ مُوقِنٌ *** بِمَوْقِفِ عَدْلٍ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ

لَقَدْ خَضَعَتْ واستسلمت وَتَضَاءَلَتْ *** لِعِزَّةِ ذِي العَرْشِ المُلُوكُ الجَبَابِرُ

انتهى،، و‏{‏طِبَاقاً‏}‏ قال الزَّجَّاجُ‏:‏ هو مصدرٌ، وقيل‏:‏ جمعُ طَبَقَةٍ، أو جَمْعُ طَبَقِ، والمعنى‏:‏ بعضُها فوق بعض، وقال إبان بن ثعلب‏:‏ سمعتُ أعْرابياً يذُمّ رَجُلاً فقال‏:‏ شَرُّهُ طِبَاقُ وَخَيْرُه غَيْر باقٍ، وما ذَكره بعضُ المفسرينَ في السموات منْ أنَّ بعضَها مِن ذَهَبٍ وفضةٍ وياقوتٍ ونحوِ هذا، ضعيفٌ لم يَثْبُتْ بذلك حديث‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَّا ترى فِى خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت‏}‏ معناه من قِلَّةِ تَنَاسُبٍ، ومنْ خروجٍ عن إتقانٍ، قال بعض العلماء‏:‏ خَلْقُ الرحمن، معنيٌّ بهِ السموات وإيَّاها أرادَ بقوله‏:‏ ‏{‏هَلْ ترى مِن فُطُورٍ‏}‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، وقال آخرون‏:‏ بلْ يعني بهِ جَميعَ مَا خَلَقَ سبحانه من الأشياء فإنَّها لاَ تَفَاوُتَ فيها، ولا فطورَ جاريةً عَلى غَيْرِ إتْقَانٍ، قال منذر بن سعيد‏:‏ أمَرَ اللَّهُ تعالى بالنظرِ إلى السماءِ وخَلْقِها، ثم أمرَ بتكريرِ النظرِ، وكذلك جميعُ المخلوقاتِ مَتَى نَظَرَها ناظرٌ لِيَرَى فيها خَلَلاً أو نَقْصاً فإنَّ بصرَه ينقلبُ خَاسِئاً حَسِيراً، وَرَجْعُ البصرِ‏:‏ ترديدُه في الشيءِ المبْصَرِ، و‏{‏كَرَّتَيْنِ‏}‏ معناه مرتين، والخاسئ المبْعَدُ عن شيءٍ أرَادَه، وحَرَصَ عليه، ومنه قوله تعالى‏:‏

‏{‏اخسئوا فِيهَا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏ وكذلكَ البصرُ يحرصُ على رؤيةِ فطورٍ أو تفاوتٍ، فلا يَجِدُ ذلك، فينقلبَ خاسِئاً، والحسيرُ العَيِيُّ الكالُّ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بمصابيح‏}‏ يعني‏:‏ النجومَ، قال الفخر‏:‏ ومعنى ‏{‏السماء الدنيا‏}‏ أي‏:‏ القريبةُ مِنَ الناسِ، وليسَ في هذهِ الآيةِ ما يدلُّ عَلى أنّ الكواكبَ مركوزةٌ في السماء الدنيا، وذلك لأَنَّ السموات إذا كَانَتْ شَفَّافَةً فالكواكبُ سَواءٌ كَانَتْ في السماءِ الدنيا، أو كانَتْ في سموات أخْرَى فَوقَها، فهي لا بد أنْ تَظْهَرَ في السماء الدنيا، وتَلُوحُ فِيها، فَعَلَى كِلاَ التَّقْدِيرَيْنِ فالسَّماء الدُّنْيَا مُزَيَّنَةٌ بها، انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وجعلناها‏}‏ معناه وجَعَلْنَا مِنْها ويُوجِبُ هذا التأويلُ في الآيةِ أنَّ الكواكبَ الثابتةَ، والبروجَ، وكلَّ ما يُهْتَدَى به في البرِّ والبحرِ؛ لَيْسَت براجمةٍ، وهذا نصّ في حديثِ السير قال الثعلبي‏:‏ ‏{‏رُجُوماً للشياطين‏}‏ يُرْجَمُونَ بِها إذَا اسْتَرَقُوا السّمْعَ فلا تُخْطِئُهُم، فمنهم مَنْ يُقْتَلُ ومنهم من يُخْبَلُ، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 11‏]‏

‏{‏وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏6‏)‏ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ‏(‏7‏)‏ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ‏(‏8‏)‏ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ‏(‏9‏)‏ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ‏(‏10‏)‏ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ ‏(‏11‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ‏}‏ قال * ع *‏:‏ تضمنتِ الآيةُ أنَّ عذابَ جهنمَ للكفارِ المُخَلّدِينَ، وقد جاءَ في الأثر‏:‏ أنه يَمُرُّ على جهنَم زَمانٌ تُخْفِق أبوابَها، قد أخْلَتْها الشفاعةُ، والذي يقال في هذا أن جهنَّمَ اسْمٌ تُخْتَصُّ به الطبقةُ العُلْيَا من النارِ، ثم قَدْ تُسَمَّى الطبقاتُ كلها باسْمِ بَعْضِها، فالتي في الأثرِ هي الطبقةُ العُلْيَا لأنَّها مَقَرُ العُصَاةِ من المؤمنينَ، وَالَّتي في هذهِ الآية هي جهنمَ بأسرها، أي‏:‏ جميعُ الطبقاتِ، والشَّهِيقُ أقْبَحُ ما يكونُ من صوتِ الحمارِ، فاشْتِعَالُ النار وغَلَيَانُها يُصَوِّتُ مِثْل ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تَكَادُ تَمَيَّزُ‏}‏ أي يُزَايِلُ بَعْضُها بَعْضاً لشِدَّةِ الاضْطِرَابِ، و‏{‏مِنَ الغيظ‏}‏ معناه‏:‏ على الكَفَرَةِ باللَّهِ، والفَوْجُ‏:‏ الفريقُ من الناس، وظاهر الآية أَنَّه لا يُلْقَى في جهنَّمَ أحَدٌ إلا سُئِلَ عَلى جهة التوبيخ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال كَبِيرٍ‏}‏ يحتملُ أنْ يكونَ من قولِ الملائكةِ، ويحتملُ أنْ يكونَ من تمامِ كَلاَمِ الكفارِ للنُّذُرِ، قال الفخر‏:‏ وقوله تعالى عنهم‏:‏ ‏{‏لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أصحاب السعير‏}‏ إنما جَمَعُوا بين السَّمْعِ والعَقْلِ؛ ‏[‏لأن مَدَارَ التكليفِ على أدلة السمعِ والعقلِ‏]‏، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 20‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏12‏)‏ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏13‏)‏ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ‏(‏14‏)‏ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ‏(‏15‏)‏ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ‏(‏16‏)‏ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ‏(‏17‏)‏ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏18‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ‏(‏19‏)‏ أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ ‏(‏20‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب‏}‏ يحتملُ معنيين‏:‏ أحدُهما بالغَيْبِ الذي أُخْبِروا بهِ مِن النَّشْرِ والحشر والجنة والنار، فآمنوا بذلك وخَشُوا ربَّهم فيه؛ ونحا إلى هذا قتادة، والمعنى الثاني‏:‏ أنهم يَخْشَوْنَ ربهم إذا غَابُوا عن أعْيُنِ الناس، أي‏:‏ في خلَواتِهم في صلاتهم وعباداتهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، خطابٌ لجميعِ الخَلْقِ، و‏{‏ذَلُولاً‏}‏ بمعنى مَذْلُولَةٍ، و‏{‏مَنَاكِبِهَا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ هي الطُّرُقُ والفجاجُ، وقال البخارِي‏:‏ ‏{‏مَنَاكِبِهَا‏}‏‏:‏ جَوَانِبُها، قال الغزالي رحمه اللَّه‏:‏ جَعَلَ اللَّهُ سبحانَه الأَرْضَ ذَلُولاً لِعِبَادِه لاَ لِيَسْتَقِرُّوا في مناكِبها، بلْ لِيَتَّخِذُوهَا مَنْزِلاً فَيَتزَوَّدُونَ منها مُحْتَرِزِينَ من مصائدِها ومَعَاطبِها، ويتحقَّقُون أنّ العُمْرَ يَسِيرُ بهم سَيْرَ السفينةِ بِرَاكِبِها، فالناسُ في هَذَا العَالَمِ سُفْرُ وأوَّلُ منازلِهم المَهْدُ، وآخرُها اللحدُ، والوَطَنُ هو الجنَّةُ أو النَّارُ، والعُمْرُ مسَاقَةُ السَّفَرِ، فَسِنُوه مَرَاحِلهُ، وشُهورُه فَرَاسِخُه، وأيامُه أمْيَالُه، وأنْفَاسُه خُطُواتُه، وطَاعَتُه بضاعتُه، وأوقَاتُه رؤوس أموالِه، وشَهَواتُه وأغْرَاضُه قطاع طريقِه، وربحُه الفوزُ بلقاءِ اللَّه عز وجل في دار السلام مع المُلْكِ الكبيرِ والنَّعِيمِ المُقِيمِ، وخسرانُه البُعْد من اللَّه عز وجل مع الأنْكَالِ والأَغْلاَلِ والعذاب الأليمِ في دَرَكَاتِ الجحيم، فالغافلُ عن نَفسِ واحدٍ من أنْفَاسِهِ، حتى يَنْقَضِيَ في غَيْرِ طاعةٍ تُقُرِّبُه إلى اللَّهِ تعالى زُلْفَى مُتَعَرِّضٌ في يوم التَّغابُن لغَبِينَةٍ وحَسْرَةٍ مَا لها مُنْتَهَى، ولهذا الخطرِ العظيمِ والخَطْبِ الهائلِ شَمَّر المُوفَّقُونَ عن ساقِ الجِدِّ، وَوَدَّعُوا بالكليةِ ملاذَّ النَّفْسِ، واغْتَنَمُوا بَقايَا العُمْرِ، فَعَمَّرُوها بالطاعاتِ، بِحَسَبِ تَكَرُّرِ الأوقَاتِ، انتهى، قال الشيخُ أبو مدين رحمه اللَّه‏:‏ عُمْرُكَ نَفَسٌ وَاحِدٌ فَاحْرِصْ ‏[‏أنْ يَكُونَ‏]‏ لَكَ لاَ عليك، انتهى، واللَّه الموفِّقُ بفضلِه، و‏{‏النشور‏}‏‏:‏ الحياةُ بعدَ الموتِ، و‏{‏تَمُورُ‏}‏ معناه‏:‏ تَذْهَبُ وتَجِيءُ، كما يَذْهَبُ التراب المَوَارُ في الرِّيحِ، والحَاصِبُ البَرْدُ ومَا جَرى مَجْرَاه، والنَّكِيرُ مَصْدَرٌ بمعنى الإنْكَارِ، والنَّذِيرُ كذَلِكَ ومنه قول حسان بن ثابت‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

فَأُنْذِرُ مِثْلَهَا نُصْحاً قُرَيْشاً *** مِنَ الرحمن إنْ قَبِلَتْ نَذِيرِي

ثم أحال سبحانه على العِبْرَةِ في أمْرِ الطير وما أحكمَ من خِلْقَتِها، وذلك بيَّنَ عَجْزَ الأصنامِ والأوثانِ عنه، و‏{‏صافات‏}‏ جَمْع صَافَّة، وهي التي تَبْسُطَ جَنَاحَها وتَصُفُّه، وقَبْضُ الجَنَاحِ ضَمُّه إلى الجنبِ، وهاتان حالتَان للطائر يَسْتَرِيحُ مِنْ إحْدَاهما إلى الأخرى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ‏(‏21‏)‏ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏22‏)‏ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏23‏)‏ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هذا الذى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ‏}‏ هذا أيضاً توقيفٌ على أمْرٍ لاَ مَدْخَل للأصنامِ فيه‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً على وَجْهِهِ‏}‏ قال ابن عباس والضحاك ومجاهد‏:‏ نزلَتْ مثَلاً للمؤمنينَ والكافرين؛ على العمومِ، وقال قتادةُ‏:‏ نزلت مُخْبِرةً عن حال القِيَامَةِ، وأنَّ الكفارَ يَمْشُونَ على وجوهِهم، والمؤمنينَ يمشُون على استقامةٍ، كما جاء في الحديث، ويُقالُ‏:‏ أكَبَّ الرجلُ إذا دَرَّ وَجْهَهُ إلَى الأَرْضِ، وكَبَّه غَيْرُهُ، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وُجُوهِهِمْ إلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ ‏"‏ فَهَذَا الفِعْلُ على خلافِ القَاعِدَة المعلومةِ؛ لأَنَّ «أَفْعَلْ» هنا لا يتعدّى، و«فَعَلَ» يَتَعَدَّى، ونظيرُه قَشَعَتِ الرِّيحُ السَّحَابَ فانْقَشَعَ، وقال * ص *‏:‏ ‏{‏مُكِبّاً‏}‏ حالٌ وهو مِنْ أَكَبَّ غَيْرَ مُتَعَدٍّ، وَكَبَّ متعدٍ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النار‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 90‏]‏ والهَمْزَةُ فيه للدخولِ في الشيءِ، أو للصيرورَةِ، ومطاوع كَبَّ‏:‏ انْكَبّ، تَقُولُ كَبَبْتُه فانْكَبَّ، قال بَعْضُ الناس‏:‏ ولاَ شَيْءَ من بناءِ «أفْعَلَ» مطاوعاً، انتهى، و‏{‏أهدى‏}‏ في هذه الآية أفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنَ الهُدَى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 30‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏26‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ‏(‏27‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏28‏)‏ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏29‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ‏(‏30‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد‏}‏ يريدونَ أمْرَ القيامةِ والعذابِ المتوعَّدِ به، ثم أمرَ سبحانَه نبيه عليه السلام أنْ يخبرَهم بأنَّ علمَ القيامةِ والوعدَ الصدقَ مما تفرَّدَ اللَّهُ سبحانه بعلمهِ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهُ‏}‏ الضميرُ للعَذَابِ الذي تَضَمَّنَه الوعدُ، وهذهِ حكايةُ حَالٍ تأتِي، والمَعْنى‏:‏ فإذا رأوه‏.‏

و ‏{‏زُلْفَةً‏}‏ معناه قريباً، قال الحسن‏:‏ عِيَاناً‏.‏

و ‏{‏سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ‏}‏ معناهُ‏:‏ ظَهَرَ فيها السوءُ‏.‏

و ‏{‏تَدَّعُونَ‏}‏ معناه‏:‏ تَتَدَاعَوْنَ أمْرَه بينكم، وقال الحسن‏:‏ تدعون أنَّه لاَ جَنَّةَ ولاَ نار، ورُوِيَ في تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ الله وَمَن مَّعِىَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، أنَّهم كانُوا يَدْعُونَ على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابَه بالهلاكِ، فقال اللَّه تعالى لنبيه‏:‏ قلْ لهم‏:‏ أرأيتم إنْ أهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ معي أو رحمَنا، فمن يُجِيرُكُم مِنْ العذاب الذي يُوجِبُه كفرُكم‏؟‏، ثم وَقَفَهم سبحانه على مِيَاهِهِم التي يَعيشُونَ منها، إنْ غَارَتْ، أي‏:‏ ذَهَبَتْ في الأرضِ، مَنْ يَجِيئُهم بماءٍ كثيرٍ كافٍ‏؟‏ * ص *‏:‏ والغَوْرُ‏:‏ مَصْدَرٌ بمعنى الغَائِر، انتهى، والمَعِينُ‏:‏ فَعِيلٌ مِنْ مَعَنَ المَاءُ إذا كَثُرَ، وقالَ ابن عباس‏:‏ مَعينٌ عَذْبٌ‏.‏