فصل: سورة القلم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***


سورة القلم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ‏(‏1‏)‏ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ‏(‏2‏)‏ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ‏(‏3‏)‏ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ‏(‏4‏)‏ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ‏(‏5‏)‏ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ‏}‏ ‏{‏ن‏}‏ حَرْفٌ مقطع في قول الجمهور، فيدخُلُه من الاخْتِلاَفِ ما يَدْخُلُ أوائِلَ السُّورِ، ويختصُّ هذَا الموضعُ مِنَ الأقوال، بأنْ قَالَ مُجاهِدٌ وابن عباس‏:‏ ‏{‏ن‏}‏ اسْمُ الحوتِ الأعْظَمِ الَّذِي عَلَيْه الأَرضُونَ السَّبْعُ فِيما يُرْوَى، وقال ابن عباس أيضاً وغيره‏:‏ ‏{‏ن‏}‏ اسمُ الدَّوَاةِ، فَمَنْ قَال بأنه اسْمُ الحوتِ جَعَلَ ‏[‏القَلَمَ‏]‏ القَلَمَ الذي خلقَه اللَّهُ وأمَرَهُ بِكَتْبِ الكائناتِ، وجَعَلَ الضميرَ في ‏{‏يَسْطُرُونَ‏}‏ للملائِكَةِ، ومَنْ قَال بأنَّ ‏{‏ن‏}‏ اسْمٌ للدَّوَاةِ جَعَلَ القَلم هَذَا القلمَ المتعارفَ بأيْدِي الناسِ؛ نَصَّ على ذَلِكَ ابنُ عَبّاسٍ وَجَعَل الضميرَ في ‏{‏يَسْطُرُونَ‏}‏ للنَّاسِ فَجَاء القَسَمُ على هذا بمجموع أمْرِ الكِتَابِ الذي هو قِوَامٌ للعلومِ والمعَارِفِ، وأمورِ الدنيا، والآخِرَةِ، فَإنَّ القَلَمَ أخُو اللسانِ، وعَضُدُ الإنْسَانِ، ومَطِيَّةُ الفِطْنَةِ، ونِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَامَّة، ورَوَى معاويةُ بن قرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ ‏{‏ن‏}‏ لَوحٌ من نُورٍ ‏"‏‏.‏ وقالَ ابنُ عباسٍ أيضاً وغيره‏:‏ ‏{‏ن‏}‏ هو حَرْفٌ من حروفِ الرحمن، وقالوا إنَّه تَقَطَّع في القرآن ‏{‏الر‏}‏ و‏{‏حم‏}‏ و‏{‏ن‏}‏، و‏{‏يَسْطُرُونَ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ يكْتُبُونَ سُطُوراً، فإنْ أرَادَ الملائكةَ فهُوَ كَتْبُ الأَعْمَالِ وَمَا يؤْمَرُون به، وإنْ أرادَ بني آدم؛ فهي الكُتُبُ المنزلةُ والعلومَ وما جَرَى مَجْرَاهَا، قال ابن العربي في «أحكامه»‏:‏ رَوَى الوليدُ بن مُسْلِمٍ عَنْ مالكٍ عَنْ سُمَيٍّ مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة قال‏:‏ سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقولُ‏:‏ ‏"‏ أوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ القَلَمَ، ثُمَّ خَلَق النّونَ، وهي الدوَّاةُ، وذَلِكَ قَوْلُه‏:‏ ‏{‏ن والقلم‏}‏ ثم قَالَ لَهُ‏:‏ اكتب؛ قَالَ‏:‏ وَمَا أَكْتُبُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَا كَانَ وَمَا هُو كَائِنٌ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، قال‏:‏ ثُمَّ خَتَمَ العَمَلَ، فَلَمْ يَنْطِقْ وَلاَ يَنْطِقُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، ثُمَّ خَلَقَ العَقْلَ، فَقَالَ الجَبَّارُ‏:‏ مَا خَلَقْتُ خَلْقاً أعْجَبَ إليَّ مِنْكَ، وعِزَّتِي لأكَمِّلَنَّكَ فِيمَنْ أَحْبَبْتُ، وَلأَنْقُصَنَّكَ فِيمَنْ أَبْغَضْتُ، قَالَ‏:‏ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَكْمَلُ النَّاسِ عَقْلاً أَطْوَعُهُمْ لِلَّهِ وأعْمَلُهُمْ بِطَاعَتِهِ ‏"‏ انتهى، * ت *‏:‏ وهذا الحديثُ هُوَ الذي يُعَوَّلُ عليهِ في تفسير الآيةِ، لصحته، واللَّه سبحانه أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ‏}‏ هُوَ جَوابُ القَسَمِ، و‏{‏مَا‏}‏ هُنَا عَاملةٌ لها اسْمٌ وَخَبَرٌ، وكذلِك هي متَى دَخَلَتِ البَاءُ في الخَبَرِ، وقوله‏:‏ ‏{‏بِنِعْمَةِ رَبِّكَ‏}‏ اعْتِرَاضٌ، كما تقولُ لإنْسَانٍ‏:‏ أنْتَ بِحَمْدِ اللَّهِ فاضلٌ، وسَبَبُ الآيةِ هُوَ مَا كَانَ من قريشٍ في رَمْيِهِم النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالجُنُونِ، فَنَفَى اللَّهُ تعالى ذلك عنه، وأخبره بأنَّ له الأَجْرَ، وأنَّه على الخُلُقِ العظيمِ تَشْريفاً له، وَمَدْحاً واخْتُلِفَ في معنى ‏{‏مَمْنُونٍ‏}‏ فَقَال أكْثَرُ المفسرينَ‏:‏ هو الوَاهِنُ المنْقَطِعُ، يقال‏:‏ حَبْل مَنِينُ أي‏:‏ ضعيفٌ، وقال آخرون‏:‏ معناه‏:‏ غير مَمْنُونٍ عَلَيْكَ، أي‏:‏ لا يُكَدِّرُه مَنٌّ بِه، وفي الصحيحِ‏:‏ سُئِلَتْ عائشةُ رضي اللَّه عنها عن خلقِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقَالَتْ‏:‏ «كَانَ خُلقُهُ القُرْآنَ»، وقال الجُنَيْدُ‏:‏ سمّي خلقُه عَظِيماً؛ إذ لَمْ تَكُنْ له همةٌ سِوَى اللَّهِ تعالى؛ عَاشَرَ الخَلْقَ بخُلُقِه، وزَايَلَهُمْ بِقَلْبهِ فكانَ ظاهرُه مَعَ الخلقِ، وباطِنهُ مع الحق، وفي وَصِيَّةِ بعض الحكماء‏:‏ عليكَ بالخُلُقِ مَعَ الخَلْقِ، وبالصِّدقِ مَعَ الحقِّ، وحسْنُ الخلقِ خيرٌ كلّه، وقال عليه السلام‏:‏

‏"‏ إنَّ المؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ قَائِمِ اللَّيْلِ، صَائِمِ النَّهَارِ ‏"‏ وَجَاءَ في حُسْنِ الخُلُقِ آثارٌ كثيرةٌ مَنَعَنَا مِنْ جَلْبِها خَشْيَةُ الإطَالةِ، وقد رَوَى الترمذيُّ عَنْ أبي هريرةَ قال‏:‏ ‏"‏ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ‏؟‏ فقَال‏:‏ تَقْوَى اللَّهِ وحُسْنُ الخُلُقِ، وسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ الفَمُ وَالْفَرْجُ ‏"‏، قَالَ أبو عيسى‏:‏ هذَا حديثٌ صحيحٌ غَرِيبٌ، انتهى، ورَوى الترمذيُّ عَنْ أبي الدرداءِ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلَ في مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ من خُلُقٍ حَسَنٍ، وإنَّ اللَّهَ لَيَبْغَضُ الفَاحِشَ البَذِيَّ ‏"‏، قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ، انتهى، قَال أبو عُمَرَ في «التمهيد»‏:‏ قال اللَّه عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ‏}‏ قَال المفسرونَ‏:‏ كان خلقُهُ مَا قَالَ اللَّهُ سبحانَه‏:‏ ‏{‏خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 199‏]‏ انتهى‏.‏

وقَوْلهُ تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَتُبْصِرُ‏}‏ أي‏:‏ أنْتَ وأمَّتكَ، ‏{‏وَيُبْصِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ هُمُ، ‏{‏بِأَييِّكُمُ المفتون‏}‏ قال الأخفش‏:‏ والعاملُ في الجملةِ المسْتَفْهَمُ عَنْها الإبصَارُ، وأمّا البَاءُ فقال أبو عبيدةَ معمر وقتادةُ‏:‏ هي زائدةٌ والمعنى‏:‏ أيكم المفتونُ، قال الثعلبيّ‏:‏ المفْتُونُ المَجْنُونُ الذي فَتَنَهُ الشيطانُ، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 11‏]‏

‏{‏فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏8‏)‏ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ‏(‏9‏)‏ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ‏(‏10‏)‏ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تُطِعِ المكذبين‏}‏ يعني‏:‏ قريشاً، وذلك أنهم قَالُوا في بعضِ الأوْقَاتِ للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لَوْ عَبَدْتَ آلهتَنَا وعَظَّمْتَها لَعَبَدْنَا إلهك وعظمناه، وَوَدُّوا أنْ يُدَاهِنَهم النبي صلى الله عليه وسلم ويميلَ إلى مَا قالوا، فَيمِيلُوا هُمْ أيضاً إلى قَولهِ ودِينِهِ، والإدْهَانُ الملايَنَةُ فيما لاَ يَحِلُّ، والمُدَارَاةُ الملاينة فيما يحل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَيُدْهِنُونَ‏}‏ معطوفٌ وليس بجَوابٍ، لأنَّه لَوْ كَانَ لَنُصِبَ، والحلاّفُ المردِّد لِحَلفِهِ الذي قد كثرَ منه، والمُهينُ الضَّعِيفُ الرأيِ، والعَقْلِ؛ قاله مجاهد، وقال ابن عباس‏:‏ المهينُ الكذَّابُ، والهمَّازُ الذي يَقَعُ في النّاسِ بلسَانِه، قال منذر بن سعيد‏:‏ وبعَيْنِهِ وإشارَتِه، والنَّمِيمُ مَصْدَرٌ كالنَّمِيمَةِ، وهو نَقْلَ مَا يَسْمَعُ مما يسوءُ ويُحَرِّشُ النفوسَ، قال أبو عمر بن عبد البر في كتابهِ المسمَّى ب«بهجةِ المجالس» قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَنْ كَفَّ عَنْ أعْرَاضِ المُسْلِمِينَ لِسَانَه؛ أقَالَه اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَثَرَتَه ‏"‏، وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلام‏:‏ ‏"‏ شِرَارُكُمْ أيُّهَا النَّاسُ المشَّاؤُونَ بالنَّمِيمَةِ، المُفَرِّقُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، البَاغُونَ لأَهْلِ البِرِّ العَثَرَاتِ ‏"‏ انتهى، ورَوَى حذيفةُ أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتَّاتٌ ‏"‏، وهو النَّمَّامُ، وذَهَبَ كثيرٌ مِنَ المفسِّرِينَ إلى أنَّ هذهِ الأوْصَافَ هي أجْنَاس لَمْ يُرَدْ بها رجلٌ بعينهِ، وقالت طائفة‏:‏ بَلْ نزلت في معيَّنٍ، واختلفوا فيه، فقال بعضهم‏:‏ هو الوليدُ بن المغيرةِ، وقيل هو‏:‏ الأخْنَسُ بن شريق، ويؤيد ذلكَ أنه كانَتْ له زَنَمَةٌ في حَلْقِه كَزَنَمَةِ الشَّاةِ، وأيضاً فكانَ من ثَقِيفٍ مُلْصَقاً في قُرَيْشٍ، وقيل‏:‏ هو أبو جهلٍ، وقيل‏:‏ هو الأسودُ بن عَبْدِ يَغُوثَ، قال * ع *‏:‏ وظاهرُ اللفظ عمومُ مَنِ اتَّصَفَ بهذهِ الصفاتِ، والمخاطبَةُ بهذا المعنى مستمرة بَاقِيَ الزَّمانِ، لا سيما لِوُلاَةِ الأُمور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 15‏]‏

‏{‏مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ‏(‏12‏)‏ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ‏(‏13‏)‏ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ‏(‏14‏)‏ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ‏}‏ قَالَ كثيرٌ مِنَ المفسرينَ‏:‏ الخيرُ هُنَا المالُ فَوَصَفه بالشُّحِّ، وقال آخرونَ‏:‏ بل هُوَ عَلى عُمُومهِ في الأموالِ والأَعْمَالِ الصالحاتِ، والمُعْتَدِي المتجاوِزُ لحدودِ الأَشْيَاءِ، والأثِيمُ فَعِيلٌ مِن الإثْمِ، والعُتُلُّ‏:‏ القويُّ البنيةِ، الغَليظُ الأَعْضَاءِ، القَاسِي القَلْبِ، البَعيدُ الفَهْمِ، الأَكُولُ الشَّرُوبُ، الذي هو بالليلِ جِيفَةٌ وَبِالنَّهارِ حِمَارُ، وكلُّ ما عبر به المفسرونَ عَنه مِنْ خِلاَلِ النقصِ، فَعَنْ هذه الَّتِي ذَكَرْتُ تَصْدُرُ، وقد ذكر النقاشُ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم فَسَّر العتلَّ بِنَحْوِ هذا، وهذهِ الصفاتُ كثيرةُ التَّلازُمِ، والزَّنِيمُ في كلام العرب‏:‏ المُلْصَقُ في القومِ ولَيْسَ منهم؛ ومنه قول حَسَّان‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وَأَنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ في آلِ هَاشِمٍ *** كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ القَدَحُ الفَرْدُ

فَقَالَ كثيرٌ من المفسرينَ‏:‏ هو الأخْنَسُ بن شريقٍ، وقال ابن عباس‏:‏ أرادَ بالزنيم؛ أنَّ له زَنَمَةً في عُنُقِهِ، وكان الأَخنسُ بهذه الصفةِ، وقيل‏:‏ الزَّنِيمُ‏:‏ المُرِيبُ القبيحُ الأَفْعَالِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 32‏]‏

‏{‏سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ‏(‏16‏)‏ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ‏(‏17‏)‏ وَلَا يَسْتَثْنُونَ ‏(‏18‏)‏ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ‏(‏19‏)‏ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ‏(‏20‏)‏ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ‏(‏21‏)‏ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ ‏(‏22‏)‏ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ‏(‏23‏)‏ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ‏(‏24‏)‏ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ ‏(‏25‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ‏(‏26‏)‏ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ‏(‏27‏)‏ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ‏(‏28‏)‏ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏29‏)‏ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ‏(‏30‏)‏ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ‏(‏31‏)‏ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم‏}‏ معناه‏:‏ على الأَنْفِ‏.‏ قَالَ ابنُ عَبّاسٍ‏:‏ هُو الضَّرْب بالسَّيْفِ في وَجْهِهِ وعَلَى أنْفِه، وَقَدْ حَلَّ ذَلِكَ به يومَ بَدْرٍ، وقيل‏:‏ ذلك الوَسْمُ هو في الآخرةِ، وقال قتادة وغيره‏:‏ معناه سَنَفْعَلُ به في الدنيا مِنَ الذَّمِّ لهُ والمَقْتِ والاشْتِهَارِ بالشر، ما يَبْقَى فِيه وَلاَ يَخْفَى به، فيكونُ ذلكَ كالْوَسِمِ عَلَى الأنف‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّا بلوناهم‏}‏ يريد‏:‏ قريشاً، أي‏:‏ امْتَحَنَّاهُم، و‏{‏أصحاب الجنة‏}‏ فيما ذُكِرَ كانوا إخوةً، وكانَ لأَبِيهم جَنَّةٌ وحَرْثٌ يَغْتَلُّه، فَكَان يُمْسِكُ منه قُوتَه، وَيَتَصَدَّقُ على المساكين بِبَاقِيهِ، وقيل‏:‏ بلْ كَانَ يَحْمِلُ المساكِينَ مَعَه في وَقْتِ حَصَادِهِ وجَذِّه فَيُجْدِيهم منه، فماتَ الشيخُ، فقال ولدُه‏:‏ نَحْنُ جَماعَةٌ وفِعْلُ أبينَا كَانَ خطأً فَلْنَذْهَبْ إلى جنَّتِنَا، ولا يَدْخُلَنَّها عَلَيْنَا مِسْكِينٌ، ولا نُعْطِي منها شيئاً، قَال‏:‏ فَبَيَّتُوا أمْرَهُمْ وَعَزْمَهُمْ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهَا طائفاً من نارِ أو غيرِ ذلكَ، فاحْتَرَقَتْ، فقيلَ‏:‏ فأصْبَحَتْ سَودَاء، وقيل‏:‏ بَيْضَاء كالزَّرْعِ اليَابِسِ المَحْصُودِ، فلما أصْبَحوا إلى جنتهم؛ لم يَرَوْهَا فَحسبوا أنهم قَد أَخْطَؤُوا الطريقَ، ثم تَبَيَّنُوها فعلموا أنَّ اللَّهَ أَصَابَهُم فِيها، فتَابوا حينئذٍ فَكَانُوا مُؤمنِينَ أهْلَ كِتَابٍ، فَشَبَّه اللَّهُ قُرَيْشاً بهم في أنّه امتحنهم بالمصَائِبِ، في دُنْيَاهُمْ لِعَدَمِ اتّبَاعِهِمْ للنبي صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ التوبةُ مُعَرَّضَةٌ لِمَنْ بَقِيَ منهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيَصْرِمُنَّهَا‏}‏ أي‏:‏ ليَجُذُّنَّهَا، و‏{‏مُصْبِحِينَ‏}‏ معناه‏:‏ دَاخِلينَ في الصباح‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَسْتَثْنُونَ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ لا يَنْثَنُونَ‏]‏ عن رأْيِ مَنْعِ المساكين، وقَالَ مجاهد‏:‏ معناه ولاَ يَقُولُونَ إنْ شَاءَ اللَّه‏.‏ والصَّرِيمُ، قال جماعة‏:‏ أرادَ بهِ اللَّيْلَ مِنْ حيثُ اسْوَدَّتْ جَنَّتُهم، وقَالَ ابن عباس‏:‏ الصَّرِيمُ‏:‏ الرَّمَادُ الأسْوَدُ بِلُغَةِ خُزَيْمَةَ، وقولهم‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صارمين‏}‏ يَحْتَمِلُ أنْ يكُونَ مِنْ صرام النخلِ، ويحتملُ أنْ يريدَ إنْ كُنْتُمْ أهْلَ عزم وإقْدَامٍ على رأيكم، من قولك سَيْفٌ صارم، و‏{‏يتخافتون‏}‏‏:‏ معناه يَتَكَلَّمُونَ كَلاَماً خَفِيًّا، وكان هذا التخافتُ خَوْفاً مِنْ أنْ يَشْعُرَ بهمُ المساكينُ، وكان لفظُهم الذي يتخافتون به‏:‏ ‏{‏أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏على حَرْدٍ‏}‏ يَحْتَمِلُ أنْ يريدَ عَلى مَنْعٍ، من قولهم‏:‏ حَارَدَتِ الإبِلُ إذا قَلَّتْ ألبانُها فمنَعتْهَا، وحَارَدَتِ السنةُ إذا كَانَتْ شَهْبَاء لاَ غَلَّةَ لها، ويحتملُ أن يريدَ بالحَرْدِ الغَضَبَ، يقال حَرَدَ الرجلُ حَرْداً إذَا غَضِبَ، قال البخاريّ قَالَ قتادة‏:‏ ‏{‏على حَرْدٍ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ على جدٍّ‏]‏ في أنفسهم، انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قادرين‏}‏ يحتملُ أن يكون من القُدْرَةِ، أي‏:‏ قادرون في زعمهِم ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مِن التَّقْدِيرِ الذي هو تَضْيِيقٌ، كأنّهم قَدْ قَدَرُوا عَلَى المسَاكِينِ، أي ضَيَّقُوا عليهم، ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهَا‏}‏ أي‏:‏ مُحْتَرِقَةً ‏{‏قَالُواْ إِنَّا لَضَالُّونَ‏}‏ طريقَ جَنَّتِنَا فَلَما تَحقَّقُوها عَلِمُوا أَنها قَدْ أصيبتْ فقالوا‏:‏ ‏{‏بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ‏}‏ أي‏:‏ قَدْ حُرِمْنَا غَلَّتَها وبَرَكَتها، فقال لهم أعدلهُم قَوْلاً وعَقْلاً وخُلُقاً وهو الأوسَط؛ ‏{‏أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ‏}‏ قِيلَ هي عبارةٌ عَنْ تعظيمِ اللَّهِ والعَمَلِ بطاعتهِ سبحانَه، فَبادَرَ القَوْمُ عَنْدَ ذَلِكَ وَتَابُوا وسبَّحُوا، واعترفُوا بظلمِهم في اعتقادهم مَنْعَ الفقراءِ، ولاَمَ بعضُهم بَعْضاً واعترفوا بأنهم طَغَوا، أي‏:‏ تَعَدَّوْا مَا يَلْزَم مِنْ مُوَاسَاةِ المساكينِ، ثم انصرفوا إلى رَجَاءِ اللَّه سبحانَه وانتظارِ الفَضْلِ من لَدُنْهُ في أن يُبْدِلَهُمْ، بِسَبَبِ تَوْبَتِهم، وإنابتِهم خَيْراً من تلك الجنة، قال الثعلبي‏:‏ قال ابن مسعود‏:‏ بلغني أن القومَ لما أخْلَصُوا وَعَلِمَ اللَّهُ صدقَهم أبْدَلَهُمْ اللَّهُ عز وجل بها جنةً يقال لها الحَيَوَانُ، فيها عِنَبٌ يَحْمِلُ البغلُ العنقُودَ منها، وعن أبي خالد اليماني أَنه رأَى تلكَ الجنةَ ورَأَى كُلَّ عُنْقُودٍ منها كالرَّجُلِ الأسْوَدِ القائِم، انتهى،، وقدرةُ اللَّه أعْظَمُ فلا يُسْتَغْرَبُ هذا إنْ صَحّ سنده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 43‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏34‏)‏ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ‏(‏35‏)‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏36‏)‏ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ‏(‏37‏)‏ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ‏(‏38‏)‏ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ‏(‏39‏)‏ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ ‏(‏40‏)‏ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ‏(‏41‏)‏ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏42‏)‏ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ العذاب‏}‏ أي‏:‏ كَفِعْلِنَا بأهْلِ الجنةِ نَفْعَلُ بِمَنْ تعدَّى حدودَنا‏.‏

‏{‏وَلَعَذَابُ الأخرة أَكْبَرُ‏}‏ أي‏:‏ أعْظَم مما أصَابَهُمْ، إنْ لَمْ يَتُوبُوا في الدنيا‏.‏

ثم أخْبَر تعالى ب ‏{‏إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جنات النعيم‏}‏ فَرُوِيَ أنه لما نزلت هذه الآيةُ قَالَتْ قريشٌ‏:‏ إنْ كَانَ ثَمَّ جَنَّاتِ نعيمٍ فَلَنَا فِيها أكْبَرُ الحَظِّ، فنزلتْ ‏{‏أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين‏}‏ الآية؛ تَوْبِيخاً لهم‏.‏

‏{‏أَمْ لَكُمْ كتاب‏}‏ مُنَزَّلٌ من عندِ اللَّهِ تَدْرُسُونَ فيه أنَّ لَكُمْ مَا تَخْتَارُونَ مِنَ النعيمِ، ف ‏{‏إِنَّ‏}‏ معمولة ل ‏{‏تَدْرُسُونَ‏}‏ وكُسِرَتِ الهمزَةُ مِنْ ‏{‏إِنَّ‏}‏ لدخولِ اللامِ في الخبرِ، وهي في معنى ‏(‏أن‏)‏ بفتح الألِف وقرئ شاذاً‏:‏ «أنَّ لَكُمْ» بالفتح، وقرأ الأعرج‏:‏ «أنّ لَكُمْ فِيهِ» على الاستفهام، ثم خَاطَب تعالى الكفارَ بقولهِ‏:‏ ‏{‏أَمْ لَكُمْ أيمان عَلَيْنَا بالغة‏}‏ كأنه يقُولُ هل أقْسَمْنَا لكم قَسَماً فهو عَهْدٌ لكم بأنَّا نُنَعِّمُكُمْ في يومِ القيامة، وما بعدَه، وقرأ الأعرج‏:‏ «آن لكم لما تحكمون» على الاستفهامِ، أيضاً‏.‏

‏{‏سَلْهُمْ أَيُّهُم بذلك زَعِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ ضَامِنٌ * ت *‏:‏ قال الهروي‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أيمان عَلَيْنَا بالغة‏}‏ أي مُؤكَّدَة، انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ‏}‏ قيل‏:‏ هو استدعاءٌ وتوقيفٌ في الدنيا، أي‏:‏ لِيُحْضِرُوهُم حَتَّى يُرَى هلْ هُمْ بحالِ مَنْ يَضُرُّ وينفعُ أم لا‏؟‏ وقيلَ‏:‏ هو استدعاءٌ وتوقيف على أن يأتوا بهم يومَ القيامةِ ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ‏}‏ وقرأ ابن عباس‏:‏ «تُكْشَفُ» بضم التاء على مَعْنَى‏:‏ تُكْشَفُ القيامةُ والشدةُ والحالُ الحاضرة، وقرأ ابن عباس أيضاً‏:‏ «تَكْشِفُ» بفتح التاء على أنَّ القيامةَ هي الكاشِفَةُ، وهذه القراءة مفسِّرَة لقراءَةِ الجماعةِ، فما وَرَدَ في الحديثِ والآيةِ مِنْ كَشْفِ الساقِ فهو عبارة عَنْ شدةِ الهول‏.‏

وقوله جلت عظمته‏:‏ ‏{‏وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ وفي الحديثِ الصحيحِ‏:‏ ‏"‏ فَيَخِرُّونَ للَّهِ سُجّداً أجْمَعونَ ولا يبقى أحَدٌ كَانَ يسجدُ في الدنيا رياءً ولا سمعةً ولاَ نِفَاقاً إلا صَارَ ظهرُهُ طَبَقاً وَاحِداً؛ كُلَّما أرَادَ أنْ يَسْجُدَ خَرَّ على قفاه ‏"‏، الحديثَ، وفي الحديثِ‏:‏ ‏"‏ فَيَسْجُدُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَتَرْجِعُ أصْلاَبُ المُنَافِقِينَ والكُفَّارِ، كَصَيَاصِي البَقَرِ، عَظْماً وَاحِداً؛ فَلا يَسْتَطِيعُونَ سُجُودًا ‏"‏ الحديث‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود‏}‏ يريد في دَارِ الدنيا، ‏{‏وَهُمْ سالمون‏}‏ مما نالَ عَظَامَ ظهورِهم مِنَ الاتِّصَال والعُتُوِّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 52‏]‏

‏{‏فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏44‏)‏ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ‏(‏45‏)‏ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ‏(‏46‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏47‏)‏ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ‏(‏48‏)‏ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ‏(‏49‏)‏ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏50‏)‏ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ‏(‏51‏)‏ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث‏}‏ الآية، وَعِيدٌ وتهديدٌ والحديثُ المشَارُ إليه هو القرآن، وباقي الآية بيّن مِمّا ذُكِرَ في غير هذا الموضع، ثم أمَرَ اللَّه تعالى نبيَّه بالصَّبْرِ لِحُكْمِهِ وأنْ يَمْضِيَ لِمَا أُمِرَ بهِ من التبليغِ واحْتِمالِ الأذَى والمشقة، ونُهِيَ عَنِ الضَّجَرِ والعَجَلَةِ التي وَقَعَ فيها يونُسَ صلى الله عليه وسلم ثم اقْتَضَبَ القصَّةَ وذَكَرَ ما وَقَعَ في آخرها من ندائِه من بطن الحوت، ‏{‏وَهُوَ مَكْظُومٌ‏}‏ أي‏:‏ وَهُو كَاظِمٌ لحُزْنِه ونَدَمِه، وقال الثعلبيّ، ونحوُه في البخاري‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مَكْظُومٌ‏}‏ أي‏:‏ مملوءٌ غَمًّا وكَرْبَاً، انتهى وهُوَ أقْرَبُ إلى المعنى، وقال النَّقَّاشُ‏:‏ المكظومُ الذي أُخِذَ بِكَظْمِه، وهي مَجَارِي القلبِ، وقرأ ابن مسعود وغيره‏:‏ «لَوْلاَ أَنْ تَدَارَكَتْهُ نِعْمَةُ» والنعمة التي تداركته هي الصَّفْحُ والاجتباء الذي سَبَقَ له عَنْدَ اللَّهِ عز وجل ‏{‏لَنُبِذَ بالعراء‏}‏ أي‏:‏ لَطُرِحَ بالعرَاءِ وهُوَ الفَضَاءُ الَّذِي لاَ يُوارِي فيه جَبَلٌ ولاَ شَجَرٌ وَقَدْ نُبِذَ يونس عليه السلام بالعَرَاءِ وَلَكِنْ غَيْر مَذْمُومٍ، وجاء في الحديث عن أسماء بِنْتِ عُمَيْسٍ قالَتْ‏:‏ ‏"‏ عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ عِنْدَ الكَرْبِ أَوْ في الكَرْبِ، اللَّهُ اللَّهُ رَبِّي لاَ أَشْرِكُ بِه شَيْئاً ‏"‏ رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وأخرجَهُ الطبرانيُّ في كتاب «الدعاء»، انتهى من «السلاح»، ثم قال تعالى لنبيه‏:‏ ‏{‏وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بأبصارهم‏}‏ المعنى يكادُوْنَ مِنَ الغَيْظِ والعداوةِ يُزْلِقُونَه فَيُذْهِبُونَ قدمَه مِنْ مَكَانِها، ويُسْقِطُونَه، قال عياض‏:‏ وقَدْ رُوِيَ عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كلُّ مَا في القرآن‏:‏ «كاد» فَهُو مَا لاَ يَكُونُ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأبصار‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 43‏]‏ وَلَمْ يُذْهِبْهَا و‏{‏أَكَادُ أُخْفِيهَا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 15‏]‏ وَلَمْ يَفْعَلْ، انتهى؛ ذكره إثرَ قَوْلِه تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 73‏]‏‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ «لَيُزْلِقُونَكَ» بِضَمِّ اليَاءِ مِنْ‏:‏ أزْلَقَ، ونَافِعٌ بِفَتْحِها، من‏:‏ زُلِقَتِ الرّجْلُ، وفي هذا المعنى قولُ الشاعر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

يَتَقَارَضُونَ إذَا التقوا في مَجْلِس *** نَظَراً يَزِلُّ مَوَاطِئ الأَقْدَامِ

وَذَهَبَ قَوْمٌ من المفسرينَ على أن المعنى‏:‏ يأخذونَك بالعَيْنِ، وقال الحسَنُ‏:‏ دَوَاءُ مَنْ أَصَابَتْهُ العينُ أن يقرأَ هذهِ الآيةَ، والذِّكْرُ في الآيةِ‏:‏ القرآنُ‏.‏

سورة الحاقة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏الْحَاقَّةُ ‏(‏1‏)‏ مَا الْحَاقَّةُ ‏(‏2‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ‏(‏3‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الحاقة * مَا الحاقة‏}‏ المُرَادُ بالحاقَّةِ‏:‏ القيامةُ، وهي اسْمُ فاعلٍ مِنْ حَقَّ الشَّيءُ يَحِقُّ؛ لأنَها حَقَّتْ لِكُل عَامِلٍ عملَه، قال ابن عباس وغيره‏:‏ سُمِّيَت القيامةَ حَاقَّةً لأنَّها تُبْدِي حَقَائِقَ الأشْياء، و‏{‏الحاقة‏}‏‏:‏ مبتدأ و‏{‏مَا‏}‏ مبتدأُ ثانٍ، والحاقَّةُ الثانية خَبَرُ ‏{‏مَا‏}‏ والجملةُ خَبَرُ الأُولى، وهذا كما تقول‏:‏ زَيْدٌ مَا زَيْدٌ على معنى التعظيمِ له، وإبْهام التعظيمِ أيضاً ليتخَيَّلَ السّامِعُ أقْصَى جُهْدَه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحاقة‏}‏ مبالغة في هذا المعنى‏:‏ أي‏:‏ أن فيها مَا لَمْ تَدْرِه مِنْ أهْوَالِها، وتَفَاصِيلِ صِفَاتِها، ثم ذكرَ تعالى تكذيبَ ثَمُودَ وَعَادٍ بهذَا الأَمْرِ الذي هو حَقُّ مشيراً إلى أنْ مَنْ كَذَّبَ بِذَلِكَ يَنزلُ به ما نزلَ بأولئك، و‏{‏بالقارعة‏}‏‏:‏ من أسماء القيامة أيضاً؛ لأنها تَقْرَعُ القلوبَ بصدمتها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 17‏]‏

‏{‏فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ‏(‏5‏)‏ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ‏(‏6‏)‏ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ‏(‏7‏)‏ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ‏(‏8‏)‏ وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ ‏(‏9‏)‏ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً ‏(‏10‏)‏ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ‏(‏11‏)‏ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ‏(‏12‏)‏ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ‏(‏13‏)‏ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ‏(‏14‏)‏ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ‏(‏15‏)‏ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ‏(‏16‏)‏ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية‏}‏ قال قتادة‏:‏ معناه‏:‏ بالصَّيْحَةِ التي خَرَجَتْ عن حدِّ كل صيحةٍ، وقيل‏:‏ المعنى بسَبَبِ الفِئَةِ الطاغيةِ، وقيل‏:‏ بسببِ الفعلة الطاغية، وقال ابن زيد ما معناه‏:‏ الطاغيةُ مصدرٌ كالعَاقِبة، فكأنه قال بطُغيانهم؛ وقاله أبو عبيدة، وَيُقَوِّي هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 11‏]‏ وأوْلَى الأقوال وأصوبُها الأوَّلُ، وباقي الآيةِ تقدم تفسيرُ نظيرهِ، وما في ذلك من القصص، والعَاتِيَةُ‏:‏ معناه الشديدةُ المخالِفَة، فكانت الريحُ قد عَتَتْ على خُزَّانِها بخلافِها، وعلى قومِ عادٍ بشدتها، ورُوِيَ عن عليٍّ وابن عباس أنهما قَالا‏:‏ لَمْ ينزلْ من السماء قطرةُ ماءٍ قط إلا بمكيالٍ عَلَى يدِ مَلَكٍ، ولا هبتْ ريحٌ إلاَّ كذلك؛ إلاَّ ما كَانَ مِنْ طوفانِ نوحٍ، وريحِ عادٍ، فإنَّ اللَّه أَذِنَ لهما في الخروج دونَ إذْنِ الخُزَّانِ، و‏{‏حُسُوماً‏}‏‏:‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ معناه كَامِلَةً تِبَاعاً لم يتخللْها غيرُ ذلك، وقال ابن زيد‏:‏ ‏{‏حُسُوماً‏}‏ جمعُ حَاسِمٍ، ومعناه أنَّ تلكَ الأَيامَ قطعَتْهُم بالإهلاكِ، ومنه حَسَمَ العِلَلَ، ومنه الحُسَامُ، والضميرُ في قوله‏:‏ ‏{‏فِيهَا صرعى‏}‏ يُحتملُ عُوْدُه على الليالي والأيامِ، ويُحْتَمَلُ عودُه على ديارِهم، وقيل‏:‏ على الريح، * ص *‏:‏ «ومن قِبَلَه» النْحويانِ وعاصمٌ في روايةٍ بكَسْرِ القافِ وفَتْحِ الباء أي‏:‏ أجنادُه وأهلُ طاعتهِ، وقرأ الباقون‏:‏ «قَبْلَه» ظَرْفَ زمانٍ، انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بِالْخَاطِئَةِ‏}‏ صفةٌ لمحذوفٍ، أي‏:‏ بالفعلةِ الخاطئةِ، وال«رابية» النَّامِيَة التي قد عَظُمَتْ جِدًّا، ومنه رِبَا المالِ، ومنه ‏{‏اهتزت وَرَبَتْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏، ثم عدد تعالى على الناس نِعَمَه في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمَّا طَغَا الماء‏}‏ يعني في وقتِ الطوفانِ الذي كانَ على قومِ نوح، و‏{‏الجارية‏}‏ سفينةُ نوحٍ؛ قاله منذر بن سعيد، والضميرُ في‏:‏ ‏{‏لِنَجْعَلَهَا‏}‏ عائِدٌ على الجاريةِ أو على الفعلة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَعِيَهَا أُذُنٌ واعية‏}‏‏:‏ عبارةٌ عن الرجلِ الفَهِمِ المُنَوَّرِ القلبِ الذي يسمعُ القرآنَ؛ فيتلقاه بِفَهْمٍ وتدبُّرٍ، قال أبو عمران الجوني‏:‏ ‏{‏واعية‏}‏ عَقَلَتْ عَنِ اللَّهِ تعالى، وقال الثعلبيُّ‏:‏ المعنى‏:‏ لِتَحْفَظَهَا كلُّ أذُنٍ فتكونَ عِظَةً لِمَنْ يأتي بعدُ، تقول وَعَيْتَ العِلْمَ إذا حَفِظْتَه، انتهى، ثم ذَكَّر تعالى بأمر القيامةِ، وقرأ الجمهور‏:‏ «وَحُمِلَتْ» بتخفيفِ الميمِ بمعنى‏:‏ حَمَلَتْهَا الريحُ أو القدرةُ، و‏{‏فَدُكَّتَا‏}‏ معناه سُوِّيَ جميعُها، وانشقاقُ السماءِ هو تَفَطُّرُهَا وتميُّزُ بعضِها من بعضٍ، وذلك هو الوَهْيُ الذي ينالُها، كما يقال في الجدرات الباليةِ المتشققةِ واهيةٌ، والملَكُ اسْمُ الجنسِ يريدُ به الملائكةَ، وقال جمهور من المفسرين‏:‏ الضميرُ في ‏{‏أَرْجَائِهَا‏}‏ عائدٌ على السَّمَاءِ أي‏:‏ الملائِكَة على نَوَاحِيهَا، والرَّجَا الجَانِبُ مِنْ البئر أو الحائط؛ ونحوه، وقال الضحاكُ وابنُ جبير وغيرهما‏:‏ الضميرُ في‏:‏ ‏{‏أَرْجَائِهَا‏}‏ عائدٌ عَلى الأرْضِ، وإنْ كان لم يتقدم لها ذكرٌ قريبٌ؛ لأنَّ القصةَ واللفظَ يَقْتَضِي إفهَام ذلك، وفَسَّرُوا هذه الآيةَ بما رُوِيَ من أن اللَّه تعالى يأمر ملائِكَةَ سَمَاءِ الدنيا، فيقفونَ صَفًّا على حَافَّاتِ الأرضِ، ثم يأمرُ ملائكة السماءِ الثانية؛ فَيَصُفُّونَ خلفَهم، ثم كذلك ملائكةُ كُلّ سماءٍ، فكلما نَدَّ أحدٌ من الجنِ أو الإنسِ، وَجَدَ الأرضَ قد أُحِيطَ بها، قالوا‏:‏ فهذا تفسير هذه الآية؛ وهو أيضاً معنى قوله‏:‏

‏{‏وَجَاءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 22‏]‏ وهو تفسير‏:‏ ‏{‏يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 32-33‏]‏ على قراءةِ من شَدَّدَ الدال، وهو تفسيرُ قوله‏:‏ ‏{‏يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنْسِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 33‏]‏ واختلفَ الناسُ في الثمانيةِ الحاملينَ للعرشِ، فقال ابن عباس‏:‏ هي ثمانيةُ صفوفٍ مِنَ الملائكة لا يَعْلَم أَحَدٌ عِدَّتَهم، وقال ابن زيدِ‏:‏ هُمْ ثمانيةُ أمْلاَكٍ على هيئةِ الوُعُولِ، وقال جماعة من المفسرين‏:‏ هم على هيئة الناسِ أرجلُهم تَحْتَ الأرْضِ السابعةِ، ورؤوسهم وكواهلهم فَوْقَ السماءِ السابعةِ، قال الغَزَّالِيُّ في «الدرة الفاخرة»‏:‏ هم ثمانيةُ أمْلاَكٍ قَدَمُ المَلَكِ منهم مسيرةُ عشرينَ ألْفَ سنةٍ، انتهى، والضميرُ في قوله‏:‏ ‏{‏فَوْقَهُمُ‏}‏ قيل‏:‏ هو للملائكَةِ الحَمَلَةِ، وقيل‏:‏ للعالم كلّه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 29‏]‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ‏(‏18‏)‏ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ‏(‏19‏)‏ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ‏(‏20‏)‏ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ‏(‏21‏)‏ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ‏(‏22‏)‏ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ‏(‏23‏)‏ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ‏(‏24‏)‏ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ‏(‏25‏)‏ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ‏(‏26‏)‏ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ‏(‏27‏)‏ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ‏(‏28‏)‏ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ‏(‏29‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ‏}‏ خطابٌ لجميعِ العَالَمِ، وفي الحديثِ الصحيحِ‏:‏ ‏"‏ يُعْرَضُ النَّاسُ ثَلاَثَ عَرْضَاتٍ، فَأَمَّا عَرْضَتَانِ؛ فَجِدَالٌ وَمَعَاذِيرُ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ، فَعِنْدَهَا تَتَطَايَرُ الصُّحُفُ في الأَيْدِي، فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ، وآخِذٌ بِشِمَالِهِ ‏"‏، قال الغَزَّالِيُّ‏:‏ يَجِبُ على كُلِّ مُسْلِمٍ البِدَارُ، إلى مُحَاسَبَةِ نفسِه؛ كما قال عمرُ رضي اللَّه عنه‏:‏ حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوهَا قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وإنَّمَا حِسَابُهُ لِنَفْسِهِ، أَنْ يَتُوبَ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ قَبْلَ المَوْتِ تَوْبَةً نَصُوحاً، وَيَتَدَارَكَ مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ تَقْصِيرٍ في فَرَائِضِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ويردَّ المظالمَ حَبَّةً حَبَّةً، ويستحلَّ كلَّ مَنْ تَعَرَّضَ له بلسانِه ويدِه، وسوء ظِنّه بقلبِه، ويُطَيِّبَ قلوبَهم حتى يموتَ، ولم يَبْقَ عليه فريضةٌ ولاَ مظلمةٌ، فَهَذَا يدخلُ الجنةَ بغيرِ حِسَابٍ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى، انتهى من آخِر «الإحياء»، ونَقَلَ القرطبيُّ في «تذكرَتِه» هذه الألفاظَ بعينها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هَاؤُمُ اقرؤا كتابيه‏}‏ معناه تَعَالُوا، وقَوْله‏:‏ ‏{‏اقرؤا كتابيه‏}‏ هُو استبشارٌ وسرورٌ * ص *‏:‏ ‏{‏هَاؤُمُ‏}‏ «ها» بمعنَى خُذْ، قَالَ الكسائي‏:‏ والعربُ تقول‏:‏ هَاءِ يَا رَجُلُ، وللاثنين؛ رجلين أو امرأتين‏:‏ هَاؤُمَا، وللرجال‏:‏ هَاؤُمْ، وللمرأَةِ‏:‏ هَاءِ بهمزة مكسورة من غير ياء، وللنساء‏:‏ هَاؤُنَّ، وزعم القُتَبِيُّ أَنَّ الهمزةَ بَدَلٌ من الكافِ، وهو ضعيفٌ، إلا أنْ يعني أنها تحلُّ محلَّها في لغةِ مَنْ قال‏:‏ هَاكَ وهَاكِ، وهَاكُمَا وهَاكُمْ وَهَاكُنَّ، فذلكَ مُمْكِنٌ، لا أَنَّه بَدَلٌ صناعيٌّ؛ لأَنّ الكافَ لاَ تُبْدَلُ من الهمزةِ ولا الهمزةُ منها‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنّى ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ‏}‏ عبارةٌ عن إيمانِه بالبعثِ وغيرهِ، و‏{‏ظَنَنتُ‏}‏ هنا واقَعةٌ موقع‏:‏ تَيَقَّنْتُ، وهي في مُتَيَقَّنٍ لم يقعْ بَعْدُ ولا خرج إلى الحسِّ، وهذا هُو باب الظنِّ الذي يوقع موقعَ اليقين، و‏{‏رَّاضِيَةٍ‏}‏ بمعنى مَرْضِيَّة، والقُطُوفُ‏:‏ جمع قَطْفٍ وهو ما يُجْتَنَى من الثمارِ، ويقطفُ، ودنوُّها هُوَ أَنهَا تأتي طَوْعَ التَّمَنِّي فيأكلُها القائِمُ والقاعدُ والمضطجعُ بفِيه من شجرتها، و‏{‏بِمَا أَسْلَفْتُمْ‏}‏ معناه بِمَا قَدَّمْتُمْ من الأَعْمَالِ الصالحةِ، و‏{‏الايام الخالية‏}‏ هي أيام الدنيا‏:‏ لأنها في الآخرة قَدْ خَلَتْ وذَهَبَتْ، وقال وكيع وغيره‏:‏ المرادُ ب«ما أسلفتم» من الصوم، وعموم الآية في كل الأعمال أوْلى وأحسن، * ت *‏:‏ ويدلُّ على ذلك الآيةُ الأخرى ‏{‏كُلُواْ واشربوا هنيائا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 43‏]‏ قال ابن المبارك في «رقائقه»‏:‏ أخبرنا مالك بن مغول أنّه بلغَه أنّ عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قال‏:‏ حَاسِبُوا أنفُسَكم قبل أن تحاسَبُوا؛ فإنَّه أهْونُ أو أيْسَرُ لحسابِكم، وزنوا أنفسَكم قبل أن تُوزَنُوا، وتجهَّزُوا للعرْضِ الأَكْبَرِ ‏{‏يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ‏}‏ قال ابن المبارك‏:‏ أخبرنا معمر عن يحيى بن المختارِ، عن الحسن قال‏:‏ إن المؤمِنَ قَوَّامٌ على نفسه، يحاسبُ نفسَه للَّه، وإنما خَفَّ الحسابُ يوم القيامة عَلَى قومٍ حَاسَبُوا أنفسهم في الدنيا، وإنَّما شَقَّ الحسابُ يومَ القيامةِ على قومٍ أَخَذُوا هذا الأَمْرَ عن غير محاسبةٍ، انتهى، والذينَ يُؤتَوْنَ كتبَهم بشمائِلهم هم المخلَّدُونَ في النارِ أهلُ الكفرِ، فيتمنَّوْن أن لو كانوا مَعْدُومِينَ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ياليتها كَانَتِ القاضية‏}‏ إشارةٌ إلى مؤنةِ الدنيا، أي‏:‏ ليتها لم يكن بعدها رجُوع، * ص *‏:‏ ‏{‏مَا أغنى‏}‏ «ما» نافيةٌ أو استفهاميةٌ انتهى، والسلطانُ في الآيةِ الحجةُ، وقيل‏:‏ إنه يَنْطِقُ بذلكَ مُلُوكُ الدنيا، والظاهر أنَّ سلطانَ كلِّ أحَدٍ حَالُه في الدنيا من عَدَدٍ وعُدَدٍ، ومنْه قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لاَ يُؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلْطَانِهِ، وَلاَ يَجْلِسُ على تَكْرِمَتِهِ إلاَّ بِإذْنِهِ ‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 33‏]‏

‏{‏خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ‏(‏30‏)‏ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ‏(‏31‏)‏ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ‏(‏32‏)‏ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ‏(‏33‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏خُذُوهُ فَغُلُّوهُ‏}‏ الآية، المعنى يقول اللَّه تعالى، أو الملك بأمره للزبانيةِ‏:‏ خذوه واجْعَلُوا في عنقه غلاًّ، قال ابن جُرَيْجٍ‏:‏ نزلَتْ في أبي جَهْلٍ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْلُكُوهُ‏}‏ معناه‏:‏ أدْخِلوه، ورُوِيَ أن هذه السلسلةَ تدخلُ في فَمِ الكافرِ وتخرجُ من دُبُرِه، فهي في الحقيقةِ التي تَسْلُكُ فيه، لكنَّ الكلامَ جَرَى مَجْرَى‏:‏ أدْخَلْتُ القَلَنْسُوةَ في رَأْسِي، ورُوي أن هذه السلسلةَ تلوى حَوْلَ الكافرِ حتى تعمَّه وتَضْغَطَه، فالكلامُ على هذا على وجهه وهو المسلوكُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 37‏]‏

‏{‏وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ‏(‏34‏)‏ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ‏(‏35‏)‏ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ‏(‏36‏)‏ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين‏}‏ خُصَّتْ هذه الخلةُ بالذكرِ، لأنَّها من أضَرِّ الخِلاَلِ بالبشر؛ إذا كثُرَتْ في قوم هَلَكَ مساكينُهم، * ت *‏:‏ ونَقَلَ الفخرُ عن بعض الناس أنه قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين‏}‏‏:‏ دليلانِ قويَّانِ على عِظَمِ الجرْمِ في حِرْمَانِ المساكين، أحدهما‏:‏ عَطْفُه على الكفرِ وجَعْلُه قريناً له، والثاني‏:‏ ذِكْرُ الحضِّ دُونَ الفِعْلِ ليعلمَ أنَّه إذا كانَ تاركَ الحضِّ بهذه المنزلةِ، فكيفَ بمن ترك الفِعْل، قال الفخر‏:‏ ودلتِ الآية على أنَّ الكفارَ يُعَاقَبُونَ على ترك الصلاةِ والزكاةِ، وهو المرادُ من قولنا‏:‏ إنهم مخاطَبُون بفروعِ الشريعة وعن أبي الدَّرْدَاءِ أنه‏:‏ كانَ يَحُضُّ امرأتَه على تكثيرِ المَرَقِ؛ لأجْلِ المساكينِ، ويقول‏:‏ خَلَعْنَا نصفَ السلسلةِ بالإيمَانِ، أَفَلاَ نَخْلَعُ النصفَ الثاني، انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَيْسَ لَهُ اليوم هاهنا حَمِيمٌ‏}‏ أي صَدِيقٌ لطيفُ المودةِ؛ قاله الجمهور، وقيلَ‏:‏ الحميمُ الماءُ السُّخْنُ، فكأنه تعالى أخبرَ أنَّ الكافرَ ليس له ماءٌ ولا شيءٌ مائعٌ ولا طَعَامٌ إلا مِنْ غِسْلينٍ، وهو ما يَجْرِي من الجَرَاحِ، إذا غَسِلَتْ، وقال ابن عباس‏:‏ الغسلينُ هو صَدِيدُ أهْلِ النار، وقال قَوم‏:‏ الغسلينُ‏:‏ شيءٌ يجري من ضَرِيع النارِ، * ص *‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ‏}‏ أبو البقاء النونُ في‏:‏ ‏(‏غسلين‏)‏ زائدةٌ‏:‏ لأنه غُسَالَةُ أهلِ النار، انتهى، والخاطئ الذي يفعل ضدَّ الصوابِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ‏(‏38‏)‏ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ‏(‏40‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ أُقْسِمُ‏}‏ قيل‏:‏ «لا» زائدةٌ وقيل‏:‏ «لا» رَدٌّ لما تَقَدَّمَ من أَقوالِ الكفار، والبَدْأَة‏:‏ أقْسِمُ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ قَال قتادة‏:‏ أرادَ اللَّه تعالى أن يَعُمَّ بهذا القسمِ جميعَ مخلوقاتهِ، والرسولُ الكريمُ قيل‏:‏ هو جبريلٌ، وقيل‏:‏ هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

‏{‏وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ‏(‏41‏)‏ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏42‏)‏ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏43‏)‏ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ‏(‏44‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ‏}‏ نَفى سبحانه أن يكونَ القرآن من قولِ شاعرٍ؛ كما زعمَتْ قريشٌ، و‏{‏قَلِيلاً‏}‏ نَصْبٌ بفعلِ مَضْمَر يدل عليه ‏{‏تُؤْمِنُونَ‏}‏ و«ما» يحتملُ أنْ تكونَ نافيةً فينتفي إيمَانُهم أَلْبَتَّةَ، ويحتملُ أَن تكونَ مصدريةً فيتَّصِفُ إيمانهم بالقلةِ، ويكونُ إيماناً لُغَوِيًّا؛ لأنهم قَدْ صَدَّقُوا بأشياءَ يسيرةٍ لاَ تُغْنِي عَنْهم شيئاً، ثم أخبرَ سبحانه أن محمداً عليه السلام لَوْ تَقَوَّلَ عليه لعَاقَبَه بما ذكر، * ص *‏:‏ الأَقَاويلُ جمع أقوالٍ، وأقْوَالٌ جَمْعُ قَوْلٍ، فهو جَمْع الجمعِ، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 52‏]‏

‏{‏لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ‏(‏45‏)‏ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ‏(‏46‏)‏ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ ‏(‏49‏)‏ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏50‏)‏ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ‏(‏51‏)‏ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ المعنى لأَخَذْنا منه بالقوةِ، أي لَنِلْنَا منه عقَابَه بقوةٍ منا، وقيل‏:‏ معناه لأَخَذْنَا بيدهِ اليمنى؛ على جهةِ الهَوانِ، كما يقال لِمَنْ يسجنُ أو يقامُ لعقوبةٍ‏:‏ خُذُوا بيدِه أو بيمينه، والوَتِينُ نِيَاطُ القلبِ؛ قاله ابن عباس، وهُو عِرْقٌ غَلِيظٌ تصادفُه شفرةُ الناحِرِ، فمعنى الآيةِ‏:‏ لأَذْهَبْنَا حياتَه معجَّلاً، والحاجِزُ‏:‏ المانِعُ والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ‏}‏ عائدٌ على القرآنِ، وقيل‏:‏ على النبي صلى الله عليه وسلم، * ص *‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ‏}‏‏:‏ ضمير ‏(‏إنه‏)‏ يعودُ على التكذيبِ المفهومِ من ‏{‏مُّكَذِّبِينَ‏}‏، انتهى، وقال الفخر‏:‏ الضميرُ في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ‏}‏ فيه وجهانِ‏:‏ أحدهما أنه يعودُ على القرآن، أي‏:‏ هو على الكافرينَ حَسْرَةً، إمَّا يوم القيامةِ إذَا رَأَوا ثَوَابَ المصدِّقينَ به، أو في الدنيا إذا رأوا دَوْلَةَ المؤمنِين،، والثاني‏:‏ قال مقاتلٌ‏:‏ وإنَّ تكذيبَهم بالقرآن لَحَسْرَةٌ عليهم يَدلُّ عَلَيْه قوله‏:‏ ‏{‏أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ‏}‏، انتهى، ثم أمَرَ تعالى نبيه بالتسبيحِ باسْمِه العظيم، ولمّا نَزَلت قَال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ اجْعَلُوها في رُكُوعِكم‏.‏

سورة المعارج

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ‏(‏1‏)‏ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ‏(‏2‏)‏ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ‏}‏ قرأ جمهور السبعة‏:‏ ‏{‏سَأَلَ‏}‏ بهمزة محقَّقةٍ، قالوا‏:‏ والمعنى دَعَا داعٍ، والإشارةُ إلى مَنْ قال من قريشٍ‏:‏ ‏{‏اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السماء‏}‏، ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ الآية، وقولهم‏:‏ ‏{‏عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 16‏]‏ ونحو ذلك، وقال بعضهم‏:‏ المعنى بَحَثَ بَاحِثٌ واسْتَفْهَمَ مُسْتَفْهِم، قالوا‏:‏ والإشارةُ إلى قول قريشٍ‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 25‏]‏ وَمَا جَرى مَجْراه؛ قاله الحسن وقتادة، والباء على هذا التأويل في قوله‏:‏ ‏{‏بِعَذَابٍ‏}‏ بمعنى «عن» وقرأ نافع وابن عامر‏:‏ «سَال سَائِلٌ» ساكنَةَ الأَلِفِ، واختلفَ القراء بها فقال بعضهم‏:‏ هي «سأل» المهموزةُ إلاَّ أنَّ الهمزةَ سُهِّلَتْ، وقال بعضهم هي لغة من يقول‏:‏ سَلْتُ أَسَالُ وَيَتَسَاوَلاَنِ، وهي لغةٌ مشهورة، وقال بعضهم في الآية‏:‏ هي من سَالَ يَسِيلُ إذا جَرَى، وليست من معنى السؤال، قال زيد بن ثابت وغيره‏:‏ في جهنمَ وادٍ يسمَّى سَائِلاً؛ والإخبارُ هنا عنه، وقرأ ابن عباس‏:‏ «سَال سيل» بسكون الياءِ وسؤَال الكفارِ عن العذابِ حَسَبَ قراءة الجماعة إنما كانَ على أنه كَذِبٌ، فوصفَه اللَّه تعالى بأنهُ وَاقِعٌ وعيداً لهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏للكافرين‏}‏ قال بعض النحاة‏:‏ اللامُ بمعنى «على»، ورُويَ‏:‏ أنه كذلِكَ في مصحف أُبَيٍّ‏:‏ «على الكافرين» والمعارجُ في اللُّغةِ الدَّرَجُ في الأجْرَام، وهي هنا مستَعارَةٌ في الرُّتَبِ والفضائِل، والصفاتِ الحميدة؛ قاله ابن عباس وقتادة، وقال الحسن‏:‏ هي المَرَاقي في السماء، قال عياض، في «مشارق الأنوار»‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فَعَرَجَ بي إلى السَّماء ‏"‏، أي‏:‏ ارْتَقَى بي، والمعراجُ الدَّرَجُ وقيل‏:‏ سُلَّمٌ تَعْرُج فيه الأرواحُ، وقيل‏:‏ هو أحْسَنُ شيءٍ لا تتمالكُ النفسُ إذا رأته أنْ تَخْرُجَ، وإليه يَشْخَصُ بَصَرُ الميْتِ مِنْ حُسْنِهِ، وقيل‏:‏ هو الذي تَصْعَدُ فيه الأَعْمَالُ، وقيل‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏ذِي المعارج‏}‏ مَعَارِجِ الملائكةِ، وقيل‏:‏ ذي الفواضِلِ، انتهى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَعْرُجُ الملئكة‏}‏ معناه تَصْعَدُ، والرُّوحُ عِنْدَ الجمهورِ هو جبريلُ عليه السلام وقال مجاهد‏:‏ الرُّوحُ ملائِكَةٌ حَفَظَةٌ للملائِكَةِ الحافظين لبني آدم لا تَراهم الملائكةُ؛ كَمَا لا نرى نحن الملائكة، وقال بعض المفسرين‏:‏ هو اسم جنسِ لأرواحِ الحيوان‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ هو يومُ القيامةِ، ثم اختلفُوا؛ فقال بعضُهم‏:‏ قُدْرُه في الطولِ قَدْرَ خمسينَ ألفَ سَنَةٍ، وقال بعضهم‏:‏ بل قَدْرُه في الشدّة، والأولُ هو الظاهر، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما مِنْ رجلٍ لا يؤَدِّي زكاةَ مالِه إلا جُعِلَ له صفائحُ مِن نارٍ يوم القيامةِ تكْوَى بها جَبْهَتُه وظهرُه وجَنْبَاه في يومٍ كان مقدارُه خمسين ألفَ سنةٍ ‏"‏ قال أبو سعيدِ الخدريُّ‏:‏ ‏"‏ قيل‏:‏ يا رسولَ اللَّه‏!‏ مَا أطْوَلَ يَوْماً مِقْدَارُهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَة‏!‏ فقالَ‏:‏ والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنَّهُ لَيَخِفُّ عَلَى المُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ ‏"‏، قال ابن المبارك‏:‏ أَخبرنا معمر عن قتادة عن زُرَارَةَ بْنِ أوفى عن أبي هريرةَ قال‏:‏ يَقْصُرُ يومئذٍ على المؤْمِنِ حتى يكونَ كوقتِ الصَّلاَةِ، انتهى، قال * ع *‏:‏ وَقَدْ ورد في يوم القيامةِ أنه كألْفِ سنةٍ، وهذا يشبه أن يكونَ في طوائفَ دونَ طوائفَ، * ت *‏:‏ قال عبد الحق في «العاقبة» له‏:‏ اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ؛ أن يومَ القيامةِ لَيْسَ طولُه كما عَهِدْتَ من طول الأيامْ، بَلْ هو آلافٌ من الأعوامْ، يَتَصَرَّفُ فيه هذا الأنامْ، على الوُجُوهِ والأَقْدَامْ، حَتَّى يَنْفُذَ فيهم مَا كُتِبَ لَهُمْ وعليهم من الأَحْكَامِ، وليس يكونُ خَلاَصُه دفعةً وَاحِدَةً، ولا فراغُهم في مرةٍ واحدةٍ؛ بل يَتَخَلَّصُونَ ويَفْرُغُونَ شَيْئاً بعد شيءٍ، لَكِنَّ طولَ ذلك اليومِ خمسون ألفَ سنة، فَيَفْرَغُونَ بِفَرَاغِ اليومِ، ويفرغُ اليومُ بِفَرَاغِهِم، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يطولُ مقامُه وحبْسُه إلى آخر اليومِ، ومنهم من يكونُ انفصَالُه في ذلك اليوم في مقدار يَوْمٍ من أيام الدنيا، أو في ساعةٍ من ساعاتِه، أو في أقَلَّ من ذلك، ويكون رائحاً في ظلِّ كَسْبهِ وعَرْشِ ربه، ومنهم من يُؤْمَرُ به إلى الجنةِ بغير حسابٍ ولا عذاب، كما أنَّ منهم مَنْ يُؤمَرُ به إلى النارِ في أول الأمْر من غير وقوفٍ ولا انتظار، أو بعدَ يسير من ذلك، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 18‏]‏

‏{‏فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ‏(‏6‏)‏ وَنَرَاهُ قَرِيبًا ‏(‏7‏)‏ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ‏(‏8‏)‏ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ‏(‏9‏)‏ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ‏(‏10‏)‏ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ‏(‏11‏)‏ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ‏(‏12‏)‏ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ‏(‏13‏)‏ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ ‏(‏14‏)‏ كَلَّا إِنَّهَا لَظَى ‏(‏15‏)‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوَى ‏(‏16‏)‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ‏(‏17‏)‏ وَجَمَعَ فَأَوْعَى ‏(‏18‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فاصبر صَبْراً جَمِيلاً‏}‏ أمرٌ للنبيّ صلى الله عليه وسلم بالصبرِ على أذَى قومِه، والصبرُ الجميلُ الذي لا يَلْحَقُه عَيْبٌ ولا شَكٌّ ولا قِلَّةُ رِضًى، ولا غيرُ ذلك، والأمْرُ بالصبرِ الجميلِ مُحْكَمٌ في كل حالة، أعني‏:‏ لاَ نَسْخَ فيه، وقيل‏:‏ إن الآيةَ نزلتْ قبل الأمْرِ بالقِتَالِ؛ فهي منسوخة، * ت *‏:‏ ولو قيلَ‏:‏ هذا خطابٌ لجنسِ الإنْسَانِ في شَأْنِ هَوْلِ ذلكَ اليومِ؛ مَا بَعُدَ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً‏}‏ يعني يوم القيامة، والمهْلُ‏:‏ عَكَرُ الزَّيْتِ؛ قاله ابن عباس وغيره، فَهِي لسوادِها وانكدارِ أَنوارِها، تشبهُ ذلكَ، والمهلُ أيضاً‏:‏ ما أُذِيبَ من فضَّةٍ ونحوها؛ قاله ابن مسعود وغيره، والعِهْنُ الصوفُ، وقيل‏:‏ هو الصوفُ المصْبُوغ، أيَّ لَوْنٍ كَانَ، والحميمُ في هذا الموضع‏:‏ القريبُ والوَليُّ، والمعنى‏:‏ ولا يَسْأَلُهُ نصرةً ولا منفعةً، ولا يجدُها عنده، وقال قتادة‏:‏ المعنى‏:‏ ولا يَسْأَلُهُ عن حالِه؛ لأَنَّها ظاهرةٌ قَدْ بَصُرَ كلُّ أحَدٍ حَالَةَ الجميعِ، وشُغِلَ بنفسهِ، قال الفخرُ‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُبَصَّرُونَهُمْ‏}‏ تقول‏:‏ بَصَّرَني زيدٌ كَذَا، وبَصَّرَنيِ بِكَذَا، فإذا بَنَيْتَ الفِعل للمَفْعُولِ وحَذَفْتَ الجارَّ، قلتَ‏:‏ بُصِّرْتُ زَيْداً، وهكذا معنى‏:‏ ‏{‏يُبَصَّرُونَهُمْ‏}‏ وكأَنَّه لما قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً‏}‏ قيل‏:‏ لعله لاَ يُبْصِرُه؛ فَقَال‏:‏ ‏{‏يُبَصَّرُونَهُمْ‏}‏ ولَكِنْ لاِشْتِغَالِهم بأنفسِهم لا يَتَمَكَّنُونَ من تساؤلهِم، انتهى، وقرأ ابن كثير بخلافٍ عنه‏:‏ «ولاَ يُسْئَلُ» عَلَى بِنَاءِ الفعلِ للمفعول، فالمعنى‏:‏ وَلاَ يُسْأَلُ إحْضَارَهُ؛ لأنَّ كلَّ مُجْرِمٍ له سِيمَا يُعْرَفُ بها، كما أنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ لَهُ سِيمَا خَيْرٍ، والصَّاحِبَةُ هنا‏:‏ الزوجةُ، والفصيلة هنا‏:‏ قرابَةُ الرجل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّهَا لظى‏}‏ ردُّ لما وَدُّوه، أي‏:‏ ليس الأَمْرُ كذلك، و«لَظَى» طَبَقَةٌ مِنْ طبقاتِ جهنم، والشَّوَى جلدُ الإنسانِ وقيل‏:‏ جلدُ الرأس‏.‏

‏{‏تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى‏}‏ يريدُ الكفارَ، قال ابن عباس وغيره‏:‏ تدعوهُم بأسمائهم وأسماء آبائهم، ‏{‏وَجَمَعَ‏}‏ أي جمعَ المالَ و‏{‏فأوعى‏}‏ جَعَلَه في الأوْعِية، أي‏:‏ جمعُوه من غيرِ حلٍّ ومَنَعُوه من حقوقِ اللَّهِ، وكان عبدُ اللَّهِ بن عكيم لاَ يَرْبِطُ كيسَه، ويقول‏:‏ سمعتُ اللَّهُ تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَجَمَعَ فأوعى‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 21‏]‏

‏{‏إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ‏(‏19‏)‏ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الإنسان‏}‏ عمومٌ لاسْمِ الجنسِ، لكنَّ الإشارةَ هنا إلى الكفارِ، والهَلَعُ فَزَعٌ واضْطِرَابٌ يعتري الإنسانَ عندَ المخاوفِ وعندَ المطامع‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا مَسَّهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، مُفَسِّرٌ لِلْهَلَعِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 23‏]‏

‏{‏إِلَّا الْمُصَلِّينَ ‏(‏22‏)‏ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ المصلين‏}‏ أي‏:‏ إلا المؤمنينَ الذين أمْرُ الآخِرَةِ عليهم أوْكَدُ مِنْ أمْرِ الدنيا، والمعنى أن هذَا المعنى فِيهم يَقِلُّ لأنهم يُجَاهِدُونَه بالتقوى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ مواظِبُون، وقد قال عليه السلام ‏"‏ أَحَبُّ العَمَلِ إلَى اللَّه مَا دَامَ عليه صاحبُه ‏"‏ * ت *‏:‏ وقد تقدم في سورةِ «قَدْ أَفْلَحَ» ما جَاءَ في الخشوعِ، قَالَ الغزاليُّ‏:‏ فَيَنْبَغِي لك أنْ تفهمَ ما تقرؤه في صلاتِك ولاَ تَغْفُلَ في قراءَتِك عن أمْرِه سبحانَه، ونهيه، وَوَعْدِه، وَوَعِيده، ومواعظِه وأخبارِ أنبيائِه، وذِكْرِ مِنَّتِه وإحْسَانِه، فلكلِّ واحدٍ حَقٌّ؛ فالرجَاءُ حق الوَعْدِ، والخَوْفُ حقُّ الوعيد، والعَزْمُ حق الأمْرِ والنّهي، والإتِّعاظُ حقُّ الموعِظَة، والشكرُ حقُّ ذكر المِنَّةِ، والاعتبارُ حق ذِكْر أخبارِ الأنبياء،، قال الغزالي‏:‏ وتكونُ هذه المعاني بِحَسَبِ دَرَجَاتِ الفَهْمِ، ويكونُ الفَهْمُ بِحَسَبِ وُفُورِ العلمِ‏.‏ وصَفَاءِ القلب، ودَرَجَاتُ ذلكَ لاَ تَنْحَصِرُ، فهذا حقُّ القراءةِ وهُوَ حَقُّ الأَذْكَارِ، والتسبيحاتِ أيضاً، ثم يُرَاعى الهيئةَ في القراءةِ، فيرتِّلُ ولا يَسْرُدُ فإن ذلك أيْسَرُ للتأمُّلِ، ويُفَرِّقُ بَيْن نَغْمَاتِه في آياتِ الرحمةِ وآياتِ العذاب، والوعد والوعيد، والتحميدِ والتعظيمِ، انتهى من «الإحياء»، ورَوَى ابن المبارك في «رقائقه» قال‏:‏ أخبرنا ابن لَهِيعَةَ عن يزيد بن أبي حَبِيبٍ أنَّ أبا الخير حدَّثَهُ قال‏:‏ سَأَلْنَا عقبةَ بنَ عامرٍ الجهنيَّ عن قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ‏}‏ أهُمُ الذين يصلُّون أبَداً‏؟‏ قال‏:‏ لا، ولكنَّه الذي إذا صلى لم يلتفتْ عن يمينهِ، ولا عن شماله، ولا خَلْفَه، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 31‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ‏(‏24‏)‏ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ‏(‏25‏)‏ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏26‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ‏(‏27‏)‏ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ‏(‏28‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ‏(‏29‏)‏ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ‏(‏30‏)‏ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والذين فِى أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ‏}‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ هذه الآيةُ في الحقُوقِ التي في المَالِ سِوَى الزكاةِ، وهي ما نَدَبَتْ إليه الشريعةُ من المواساة، وهذا هو الأصَحُّ في هذه الآية؛ لأن السورَة مكيةٌ وفَرْضُ الزكاةِ وبيانُها إنما كَان بالمدينة،، وباقي الآيةِ تَقَدَّم تفسيرُ نظيرهِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 35‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ‏(‏32‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ‏(‏33‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏34‏)‏ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والذين هُمْ لأماناتهم وَعَهْدِهِمْ راعون‏}‏ جَمَع الأمَانَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّها متنوعةٌ في الأمْوَال والأسْرَارِ، وفيما بينَ العَبْدِ وربِّه، فيما أمره به ونهاه عنه، والعَهْدُ كلُّ ما تَقَلَّدَه الإنْسَانُ من قَوْلٍ أو فعل، أو مَوَدَّةٍ، إذا كانَتْ هذه الأَشْيَاء على منهاج الشريعةِ فَهُو عَهْدٌ ينبغي رعيُه وحفظُه‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ بشهاداتهم قَائِمُونَ‏}‏ معناه في قول جماعة من المفسرين‏:‏ أنهم يَحْفَظُون ما يَشْهَدُونَ فيه، ويُتْقِنُونَه، ويقومُونَ بمعانيه؛ حتَى لاَ يكونَ لهم فيه تقصيرٌ وهَذَا هو وصفُ مَنْ يَمْتَثِلُ قولَ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عَلَى مِثْلِ الشَّمْسِ فاشهد»، وقال آخرونَ‏:‏ معناه‏:‏ الذينَ إذا كَانَتْ عندَهم شهادةٌ وَرَأوْا حَقاً يُدْرَسُ أو حُرْمَةً للَّهِ تُنْتَهَكُ؛ قامُوا للَّهِ بشهادَتِهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ‏(‏36‏)‏ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ‏}‏ الآيةُ نزلتْ بسببِ أن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يصلي عندَ الكعبةِ أحياناً ويقرأ القرآن، فكان كثيرٌ من الكفَّارِ يَقُومُونَ من مجَالِسِهم مسرعينَ إليه يستمعون قراءَتَه، ويقول بعضهم لبعض‏:‏ شاعِرٌ وكَاهِنٌ، ومفترٍ وغيرُ ذلك، و‏{‏قَبْلِكَ‏}‏ معناه فيما يليكَ، والمُهْطِعُ الذي يمشي مُسْرِعاً إلى شيء قَدْ أَقْبَلَ ببصرِهِ عليه، و‏{‏عِزِينَ‏}‏ جَمْعُ عِزَةٍ، والعِزَةُ‏:‏ الجَمْعُ اليسيرُ كأَنَّهم كَانُوا ثلاثةً ثَلاَثَةً وأَرْبَعَةً أرْبَعَةً، وفي حديثِ أَبِي هريرة قال‏:‏ «خَرَجَ النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم حَلَقٌ متفرقونَ، فقالَ‏:‏ مالي أراكم عزين»

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 44‏]‏

‏{‏أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ‏(‏38‏)‏ كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ‏(‏40‏)‏ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ‏(‏41‏)‏ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏42‏)‏ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ‏(‏43‏)‏ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَيَطْمَعُ كُلُّ امرئ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ‏}‏ نزلتْ لأَنَّ بعضَ الكفارِ قال‏:‏ إنْ كَانَتْ ثَمَّ آخرةٌ وجنةٌ فنحنُ أهْلها؛ لأَنَّ اللَّهَ تعالى لم يُنْعِمْ علينا في الدنيا بالمال والبنِين، وغيرِ ذلك؛ إلا لرضَاه عنا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ رَدُّ لقولِهم وَطَمَعِهم، أي‏:‏ ليس الأمْرُ كذلك،، ثم أخبرَ تَعَالَى عَنْ خَلْقِهِم من نطفةٍ قَذِرَةٍ، وأحالَ في العبارةِ عَلى عِلْمِ الناسِ، أي‏:‏ فمن خُلِقَ من ذلكَ فَلَيْسَ بنفسِ خَلْقِهِ يُعْطَى الجنةَ، بلْ بالإيمَانِ والأَعْمَالِ الصالحةِ، ورَوَى ابن المباركِ في «رقائقه» قال‏:‏ أخبرنا مالك بن مغول؛ قال‏:‏ سمعت أبا ربيعة يحدِّثُ عن الحسن؛ قال‏:‏ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كُلُّكُم يُحِبُّ أنْ يُدْخَلَ الجَنَّةُ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ نَعَمْ، جَعَلَنَا اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ‏:‏ فَأَقْصِرُوا مِنَ الأَمَلِ، وثَبِّتُوا آجَالَكُمْ بَيْنَ أَبْصَارِكُمْ، واسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ، قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّنَا نَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ لَيْسَ كَذَلِكَ الحَيَاءُ، ولكن الحَيَاءَ مِنَ اللَّهِ أَلاَّ تَنْسَوُا المَقَابِرَ والبلى، وَلاَ تَنْسَوُا الجَوْفَ وَمَا وعى، وَلاَ تَنْسَوُا الرَّأْسَ وَمَا حوى، وَمَنْ يَشْتَهِي كَرَامَةَ الآخِرَةِ يَدَعُ زِينَةَ الدُّنْيَا، هُنَالِكَ استحيا الْعَبْدُ مِنَ اللَّهِ، هُنَالِكَ أصَابَ وِلاَيَةَ اللَّهِ ‏"‏، انتهى، وقد روِّينَا أكْثَرَ هَذا الحدِيثِ، من طريقِ أبي عيسى الترمذي، وباقي الآيةِ تَقَدَّم تفسيرُ نظيرِه، والأَجْدَاثُ القبُورَ، والنُّصُبُ‏:‏ ما نُصِبَ للإنْسَانِ فهو يَقْصِدُه مسرعاً إليه من عَلَمٍ أو بناءٍ، وقال أبو العالية‏:‏ ‏{‏إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ إلى غَايَاتٍ يَسْتَبِقُونَ، و‏{‏يُوفِضُونَ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ يسرعونَ، و‏{‏خاشعة‏}‏‏:‏ أي‏:‏ ذليلةٌ منكسِرَة‏.‏

سورة نوح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏1‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏2‏)‏ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ‏(‏3‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ هذا العذابُ الذي تَوَعَّدُوا بهِ، الأظْهَرُ أنَّه عذابُ الدنيا، ويُحْتَمَلُ أنْ يكونَ عذابَ الآخرةِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مِّن ذُنُوبِكُمْ‏}‏ قال قوم‏:‏ «من» زائدةٌ وهذا نحوٌ كوفيٌّ، وأما الخليلُ وسيبويهِ؛ فلا يجوزُ عندَهم زِيادَةٌ «من» في المُوجَبِ، وقال قومٌ‏:‏ هي للتبعيضِ، قال * ع *‏:‏ وهَذَا القولُ عندي أبْيَنُ الأقوالِ هنا؛ وذلك أنه لَوْ قَالَ‏:‏ يَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبَكُم؛ لَعَمَّ هذَا اللفظُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الذنوبِ، ومَا تَأَخَّرَ عن إيمانِهم، والإسْلاَم إنَّما يَجُبُّ ما قبله‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ كأنّ نوحاً عليه السلام قال لهم‏:‏ وآمنوا يَبِنْ لَنَا أَنَّكُمْ ممن قُضِيَ له بالإيمان والتأخيرِ، وإنْ بَقِيتُم عَلى كُفْرِكُمْ فَسَيَبينُ أنكم ممن قُضِيَ عليه بالكفرِ والمُعَاجَلَةِ، ثم تبيَّنَ هذا المعنى ولاَح بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ‏}‏ وجَوابُ لو مقدرٌ يقتضِيه المعنى، كأنَّه قال‏:‏ فَمَا كَانَ أحْزَمَكُمْ أو أَسْرَعَكُمْ إلَى التَّوْبَةِ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 10‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ‏(‏5‏)‏ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ‏(‏6‏)‏ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ‏(‏9‏)‏ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً‏}‏ الآية، هذه المقالةُ قَالَها نوحٌ عليه السلام بَعْدَ طولِ عُمْرِهِ ويأسِه من قومه‏.‏

‏{‏واستغشوا ثِيَابَهُمْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ جَعَلُوها أغْشِيَةً على رؤوسهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏

‏{‏يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ‏(‏11‏)‏ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يُرْسِلِ السماء‏}‏ الآية، رُوِيَ أن قومَ نوحٍ كانوا قَدْ أصَابَتْهُمْ قُحُوطٌ وأزْمَةٌ فلذلك بدأهم في وَعْده بأمْرِ المطرِ، و‏{‏مُّدْرَاراً‏}‏ من الدَّرِّ، ورَوَى ابنُ عباسٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال‏:‏ ‏"‏ مَنْ لَزِمَ الاِسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرجاً، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجاً، ورَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ‏"‏؛ رواه أبو داود واللفظ له، والنسائيُّ وابن ماجه، ولفظ النسائيِّ‏:‏ «من أكْثَرَ من الاستغفار»، انتهى من «السلاح

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 15‏]‏

‏{‏مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ‏(‏13‏)‏ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ‏(‏14‏)‏ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً‏}‏ قال أبو عبيدةَ وغيره‏:‏ ‏{‏تَرْجُونَ‏}‏ معناه تَخَافُونَ، قالُوا‏:‏ والوَقَارُ بمعنى العَظَمَةِ، فكأَنَّ الكلامَ عَلى هذا التأويلِ وَعِيدٌ وتخويفٌ، وقال بعض العلماء‏:‏ تَرْجُونَ على بَابِها، وكأنه قال‏:‏ مَا لَكُمْ لاَ تَجْعَلُونَ رَجَاءَكم لِلَّهِ، و‏{‏وَقَاراً‏}‏ يكونُ على هذا التأويل منهم كأنه يقولُ‏:‏ تَؤُدَةً مِنْكُمْ وتَمَكُّناً في النظر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً‏}‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ هي إشارة إلى التدريجِ الذي للإنْسَانِ في بطنِ أمه، وقال جماعة‏:‏ هي إشارة إلى العِبْرَةِ في اختلافِ خَلْقِ ألْوَان الناسِ وخُلُقِهم، ومِلَلِهم، والأطْوَارُ‏:‏ الأحْوَالُ المختلفة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 24‏]‏

‏{‏وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ‏(‏16‏)‏ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ‏(‏17‏)‏ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ‏(‏18‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ‏(‏19‏)‏ لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا ‏(‏20‏)‏ قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏21‏)‏ وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ‏(‏22‏)‏ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ‏(‏23‏)‏ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال عبدُ اللَّه بن عمرو بن العاص وابن عباس‏:‏ إن الشَّمْسَ والقمر أقْفَاؤهما إلى الأرض، وإقبال نورهما وارتفاعُه في السماء؛ وهذا الذي يقتضيه لفظُ السِّرَاجِ‏.‏

و ‏{‏أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض‏}‏‏:‏ استعارَةٌ مِنْ حَيْثُ خُلِقَ آدم عليه السلام من الأرض‏.‏

و ‏{‏نَبَاتاً‏}‏ مصدرٌ جَاءَ على غير المصدر، التقديرُ‏:‏ فَنَبَتُّم نَبَاتاً، والإعَادَةُ فيها بالدَّفْنِ، والإخراجُ هو بالبعثِ، وظاهر الآية‏:‏ أنَّ الأرْضَ بسيطَةٌ غيرُ كُرِيَةً، واعتقادُ أحَدِ الأمْرَيْنِ غَيْرُ قَادِح في الشرْعِ بنفسِه، اللهمَّ إلاَّ أنْ يترتبَ على القولِ بالكُرِيَّةِ نَظَرٌ فاسِدٌ، وأما اعتقادُ كونِها بسيطةً، فهو ظاهِرُ كتابِ اللَّه تعالى، وهو الذي لاَ يَلْحَقُ عنه فسادٌ أَلْبَتَّةَ، واستدلَّ ابن مجاهد على صحَّة ذلك بماءِ البحر المُحِيطِ بالمَعْمُورِ فَقَال‏:‏ لَوْ كانت الأرضُ كُرِيَّةً لَمَا اسْتَقَرَّ المَاءُ عَلَيْهَا، والسُّبُلُ الطرقُ، والفجاجُ الواسعةُ، وقولُ نوحٍ‏:‏ ‏{‏واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، المعنى‏:‏ اتَّبعُوا أشْرَافَهم وغُواتَهم، و‏{‏خَسَارًا‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ خُسْرَاناً، و‏{‏كُبَّاراً‏}‏‏:‏ بناءُ مبالغةٍ نَحْوَ‏:‏ حُسَّانَ وُقُرِئ شاذًّا‏:‏ «كِبَاراً» بكسْرِ الكَافِ قال ابن الأنباري‏:‏ جَمْعُ كبير‏.‏

و ‏{‏وُدّاً‏}‏ ومَا عُطِفَ عليه أسْمَاءُ أصْنَامٍ، ورَوَى البخاريُّ وغيره عن ابن عباس‏:‏ أنَّها كانتْ أسْمَاء رجالٍ صالحينَ، من قوم نوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا؛ أوْحَى الشيطانُ إلى قومِهم أن انْصِبُوا إلى مجالسِهم التي كانُوا يَجْلِسُونَ أنْصَاباً وَسَمُّوهَا بأسمائهم، فَفَعَلُوا، فلم تُعْبَدْ حتى إذا هَلَكَ أولئك وتُنُسِّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ،، قال ابن عباس‏:‏ ثم صَارَتْ هذه الأوثانُ التي في قَوْمِ نُوحٍ في العَرَبِ بَعْد، انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً‏}‏ هو إخبارُ نُوحٍ عن الأَشْرَافِ، ثم دَعَا اللَّهَ عليهم ألاَّ يَزِيدَهم إلا ضَلالاً، وقال الحسن‏:‏ أراد بقوله‏:‏ ‏{‏وَقَدْ أَضَلُّواْ‏}‏ الأَصْنَامَ المذكورة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 28‏]‏

‏{‏مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا ‏(‏25‏)‏ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ‏(‏27‏)‏ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ‏}‏ ابتداء إخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ تعالى لمحمَّد عليه السلام و«ما» في قوله‏:‏ ‏{‏مِّمَّا‏}‏‏:‏ زائدةٌ فكأَنه قال‏:‏ مِنْ خطِيئَاتِهِم، وهي لابتداءِ الغَايَةِ، * ص *‏:‏ ‏{‏مِّمَّا خطيئاتهم‏}‏ من للسببِ، * ع *‏:‏ لابتداءِ الغايةِ و«ما» زائِدة للتَوْكيد، انتهى، ‏{‏فَأُدْخِلُواْ نَاراً‏}‏ يعني جَهَنَّمَ، وقول نوح‏:‏ ‏{‏رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً‏}‏ قال قتادة وغيره‏:‏ لم يَدْعُ نوحٌ بهذهِ الدعوةِ إلاَّ مِنْ بَعْدِ أنْ أُوحِيَ إليه ‏{‏أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاّ مَنْ قَدْ آمَنََ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 36‏]‏ و‏{‏دَيَّاراً‏}‏ أصْله‏:‏ دَيْوَارٌ من الدَّوَرانِ، أي‏:‏ من يجيءُ ويذهب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏رَّبِّ اغفر لِى ولوالدى‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لم يَكْفُرْ لنوحٍ أبٌ مَا بَيْنَه وبين آدم عليه السلام، وقرأ أُبيُّ بن كعب‏:‏ «ولأَبَوَيَّ»، وبيتُه المسجدُ؛ فيما قاله ابن عباس، وجمهورُ المفسرين، وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ بيتُه شريعتُه ودِينُه؛ استعار لها بَيْتاً كما يقال قُبَّة الإسْلاَمِ وفُسْطَاطُ الدين، وقيل‏:‏ أراد سفينتَه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات‏}‏ تعميمٌ بالدعاء لمؤمِني كلِّ أمَّةٍ، وقال بعض العلماء‏:‏ إن الذي استجابَ لنوح عليه السلامُ فأغْرَق بدعوتِه أهْلَ الأرضِ الكفارِ، لجديرٌ أن يستجيبَ له فَيَرْحَمَ بدعوتِهِ المؤْمنينَ، والتَّبَارُ‏:‏ الهَلاَك‏.‏

سورة الجن

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا ‏(‏1‏)‏ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ‏(‏2‏)‏ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن‏}‏ هؤلاءِ النفرُ من الجنِّ هم الذين صَادَفُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقرأ ببطنِ نخلةٍ في صَلاَةِ الصِّبْحِ، وقد تَقَدَّمَ قَصَصَهم في سورةِ الأحقافِ، وقولُ الجن‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَمِعْنَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيات، هو خطابٌ منهم لِقَوْمهم‏.‏

و ‏{‏قُرْآناً عَجَباً‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ ذَا عَجَبٍ؛ لأن العَجَبَ مصدرٌ يقعُ من سَامِعِ القرآن لبراعتِه وفصاحتِه ومُضَمَّناتِه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا‏}‏ قَالَ الجمهورُ‏:‏ معناه‏:‏ عَظَمَةُ ربنا، وروي عن أنسٍ أنه قال‏:‏ كان الرجلُ إذا قَرَأ البَقَرَةَ، وآلَ عمرانَ جَدَّ في أعيننا، أي‏:‏ عَظُم، وعن الحسن‏:‏ ‏{‏جَدُّ رَبِّنَا‏}‏ غِنَاهُ وقال مجاهد‏:‏ ذِكْرُهُ، وقال بعضهم‏:‏ جَلاَلُه، ومَنْ فَتَح الألِفَ من قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ تعالى‏}‏ اخْتَلَفُوا في تأويلِ ذلك، فقال بعضُهم‏:‏ هو عَطْفٌ على ‏{‏أَنَّهُ استمع‏}‏ فيجيءُ عَلَى هذا قولُه تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ تعالى‏}‏ مما أُمِرَ أنْ يقولَ النبيَّ إنَّه أوحي إليه، ولَيْسَ هو من كلامِ الجنِّ، وفي هذا قَلَقٌ، وقال بعضهم‏:‏ بل هو عطف على الضمير في ‏{‏بِهِ‏}‏ كأنه يقول‏:‏ فآمنا به وبأنه تعالى، وهذا القول أبْيَنَ في المعنى، لكنَّ فيه من جهةِ النحو العطفَ على الضميرِ المخفوضِ دُونَ إعَادَةِ الخَافِضِ، وذلك لاَ يَحْسن * ت *‏:‏ بلْ هُوَ حَسَنٌ؛ إذ قَدْ أتى في النظم والنَّثْرِ الصحيحِ، مُثْبَتاً، وقرأ عكرمة‏:‏ «تعالى جَدٌّ رَبُّنَا» بِفَتْحِ الجيمِ وضَمِّ الدالِ وتَنْوِينِهِ ورفْعِ الرَّبِّ، كأنه يقول‏:‏ تعَالَى عَظِيمٌ هو ربُّنا، فَ«رَبُّنَا» بدَلٌ والجَدُّ‏:‏ العَظِيمُ في اللغةِ، وقرأ أبو الدرداء‏:‏ «تعالى ذِكْرُ رَبِّنَا» ورُوي عنه‏:‏ «تعالى جَلاَلُ رَبِّنَا»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ‏(‏4‏)‏ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا‏}‏ لا خِلاَفَ أن هَذَا مِنْ قَوْلِ الجِنَّ، والسفيهُ‏:‏ المذكورُ قال جمهورٌ من المفسرينَ‏:‏ هُو إبليسُ لعنه اللَّه، وقال آخرونَ‏:‏ هو اسْمُ جنسٍ لكلِّ سفيهٍ مِنْهُمْ وَلاَ مَحَالَة أَنَّ إبليسَ صَدْرٌ في السفاهةِ، وهذا القول أحْسَنُ، والشَّطَطُ‏:‏ التَّعَدِّي وتجاوُزُ الحدّ بقولٍ أو فعل، * ص *‏:‏ ‏{‏شَطَطًا‏}‏ أبو البقاءِ‏:‏ نَعْتٌ لمصدَرٍ محذوفٍ، أي‏:‏ قَوْلاً شَطَطَا، انتهى، ثم قال أولَئِكَ النفرُ‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا ظَنَنَّا‏}‏ قبلَ إيماننا ‏{‏أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً‏}‏ في جِهَةِ الألوهيةِ وما يتعلق بذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 10‏]‏

‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ‏(‏6‏)‏ وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ‏(‏7‏)‏ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ‏(‏8‏)‏ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ‏(‏9‏)‏ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، منَ القُرَّاءِ مَنْ كَسَرَ الهمزةَ مِنْ «إنَّهُ»، ومنهمْ من فَتَحَها، والكسْرُ أوْجَهُ، والمعنى في الآيةِ‏:‏ ما كَانَتِ العربُ تفعله في أسْفَارِها من أنَّ الرَّجُلَ إذا أرادَ المَبِيتَ بِوَادٍ، صاحَ بأعلى صوتِه‏:‏ يا عزيزَ هذا الوَادِي؛ إني أعوذُ بكَ مِنَ السُّفَهَاءِ الذين في طاعتِكَ، ويعتقدُ بذلكَ أنَّ الجِنِّيَّ يحميه ويمنعَه، قال قتادة‏:‏ فكانت الجنُّ تحتقرُ بني آدمَ وتَزْدَرِيهم لِمَا تَرَى مِنْ جَهلِهِم، فكانوا يَزِيدُونَهمْ مخافةً، ويتعرضُون للتَّخَيُّلِ لهم، ويُغْوُونَهم، في إرادَتِهم، فهذا هو الرَّهَقُ الذي زادته الجنُّ بني آدم، وقال مجاهد وغيره‏:‏ بنو آدمَ همُ الذينَ زَادُوا الجنّ رَهَقاً وهي الجَرَاءَةُ والطُّغْيان وقَدْ فَسَّر قوم الرَّهَقَ بالإثْم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ‏}‏ يريدُ به بني آدم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَمَا ظَنَنتُمْ‏}‏ مخاطبةٌ لقومِهم من الجنِّ وقولهم‏:‏ ‏{‏أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً‏}‏ يحتملُ معنيين‏:‏ أحَدُهُما بَعْثُ الحَشْرِ من القبورِ، والآخرُ بَعْثُ آدَمِيٍّ رَسُولاً، وذكر المَهدوي تأويلاً ثالثاً، أنَّ المعنى‏:‏ وأنَّ الجنَّ ظَنُّوا كما ظَنَنْتُمْ أيها الإنْسُ، فهِي مخاطَبَةٌ من اللَّهِ تعالى، قال الثعلبيُّ‏:‏ وقيل‏:‏ إن قَولَه‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، ابتداء إخْبارٍ مِنَ اللَّه تعالى، ليسَ هو من كلامِ الجنِّ، انتهى، فهو وِفَاقٌ لما ذكره المهدوي، وقولهم‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا لَمَسْنَا السماء‏}‏ قال جمهورُ المتأولينَ‏:‏ معناه الْتَمَسْنَا، والشُّهُبُ كواكبُ الرجْمِ والحَرَسُ يحتملُ أن يريدَ الرَّمْيَ بالشُّهُبِ، وكرَّرَ المعْنَى بلفظٍ مختلف، ويحتملُ أن يريدَ الملائكةَ، و‏{‏مقاعد‏}‏‏:‏ جَمْع مَقْعَدِ وقَدْ تَقَدَّمَ بيانُ ذلِكَ في سورةِ الحِجْرِ، وقولهم‏:‏ ‏{‏فَمَن يَسْتَمِعِ الأن‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قَطْعٌ على أنَّ كلَّ مَنِ استمع الآنَ أحْرَقَه شهابٌ ‏[‏فليسَ هنا بَعْدُ سَمْعٌ إنَّما الإحراقُ عِنْدَ الاِستماعِ‏]‏، وهذا يقتضي أنَّ الرَّجْمَ كَانَ في الجاهليةِ، ولكنَّه لم يكنْ بمُسْتأصِلٍ، فَلَمَّا جاءَ الإسْلاَمُ، اشْتَدَّ الأَمْرُ؛ حتى لم يكُنْ فِيه وَلاَ يَسِيرُ سَمَاحَةً، و‏{‏رَّصَداً‏}‏‏:‏ نعتٌ ل«شِهَاب» ووصفَه بالمصْدَرِ، وقولهم‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، معناه‏:‏ لاَ نَدْرِي أَيُؤْمِنُ الناسُ بهذا النبيِّ فَيَرْشُدُوا، أمْ يَكْفُرُونَ بهِ فَيَنْزِلَ بهِمُ الشَّرُّ، وعبارة الثعلبي‏:‏ «وأَنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض» حينَ حُرِسَتِ السماءُ ومُنِعْنَا السَّمْعَ، ‏{‏أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً‏}‏، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 15‏]‏

‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ‏(‏11‏)‏ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا ‏(‏12‏)‏ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ‏(‏13‏)‏ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ‏(‏14‏)‏ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الصالحون‏}‏ إلى آخرِ قولهم‏:‏ ‏{‏وَمِنَّا القاسطون‏}‏ هُوَ من قولِ الجِنّ، وقولهم‏:‏ ‏{‏وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ غَيْرُ صالحين، * ص *‏:‏ ‏{‏دُونَ ذَلِكَ‏}‏ قِيل‏:‏ بمعنى غَيْرُ ذلك، وقيلَ‏:‏ دُونَ ذلكَ في الصلاحِ، ف«دون» في موضِع الصِّفَةِ لمحذوفٍ، أي‏:‏ ومنَّا قومٌ دونَ ذلك، انتهى، والطرائقُ‏:‏ السِّيَرُ المختلفَة، والقِدَدُ كذلكَ هي الأشْياء المختلفة كأنه قَدْ قُدَّ بعضُها من بعضٍ وفُصِلَ، قال ابن عباس وغيره‏:‏ ‏{‏طَرَائِقَ قِدَداً‏}‏ أهواء مختلفةً‏.‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا ظَنَنَّا‏}‏ أي‏:‏ تَيَقَّنَّا، فالظِّنّ هنا بمعنى الْعِلْمِ ‏{‏أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِى الأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، وهذا إخبارٌ منهم عَنْ حَالِهِمْ بَعْدِ إيمانِهم بما سمعوا من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، و‏{‏الهدى‏}‏ يريدونَ به القرآنَ، والبَخْسُ النَّقْصُ، والرَّهَقُ تَحْمِيلُ مَا لاَ يطاقُ، وما يَثْقُل، قال ابن عباس‏:‏ البَخْسُ نَقْصُ الحسناتِ، والرَّهَقُ الزيادةُ في السيئات‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً‏}‏ الوجْهُ فيه أنْ يكونَ مخاطَبَةً من اللَّه تعالى لنبيه محمد عليه السلام ويُؤيِّدُه ما بَعْدَه من الآياتِ، و‏{‏تَحَرَّوْاْ‏}‏ معناه‏:‏ طَلَبُوا باجتهادهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 18‏]‏

‏{‏وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ‏(‏16‏)‏ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ‏(‏17‏)‏ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن جبير‏:‏ الضميرُ في قوله‏:‏ ‏{‏استقاموا‏}‏ عائِدٌ عَلى القاسِطينَ، والمعنى‏:‏ لوِ اسْتَقَامُوا على طريقةِ الإسْلاَمِ والحَقِّ لأَنْعَمْنَا عليهم، وهذا المعنى نحوُ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب ءَامَنُواْ واتقوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 65‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 66‏]‏ والقَاسِطُ الظَّالِم، والماء الغَدَقُ هو الماءُ الكثيرُ، و‏{‏لِّنَفْتِنَهُمْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ لنختبرَهم، قال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه‏:‏ حيْثُ يكونُ الماءُ فَثَمَّ المالُ، وحَيْثُ المالُ فَثَمَّ الفِتْنَةُ، ونَزَعَ بهذه الآية، وقال الحسن وجماعة من التابعين‏:‏ كانتِ الصحابَةُ رضي اللَّه عنهم سَامِعينَ مُطِيعينَ فَلَمَّا فُتِحْتْ كُنُوزُ كِسْرَى وقَيْصَرَ على الناس، ثَارَتِ الفِتَن، و«نُسْلكه» نُدْخلُه، و‏{‏صَعَداً‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ شَاقًّا، وقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري‏:‏ ‏{‏صعداً‏}‏ جَبَلٌ في النارِ، ‏{‏وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ‏}‏ قيل‏:‏ أرادَ البيوتَ التي للعبادةِ والصلاةِ في كلِّ ملةٍ، وقال الحسن‏:‏ أرادَ بها كلَّ موضِع يُسْجَدُ فيه؛ إذ الأَرْضُ كلها جُعِلَتْ مَسْجِداً لهذه الأمة، ورُوِيَ‏:‏ أنّ هذه الآيةَ نَزَلَتْ بسبب تَغَلُّبِ قريشٍ عَلى الكعبةِ حينئذٍ، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم المواضعُ كلُّها لِلَّهِ فَاعْبُدْه حيثُ كنتَ، قال * ع *‏:‏ والمسَاجِدُ المخصوصَةُ بَيِّنَةُ التَمَكُنِ في كونها لِلَّهِ تعالى، فيصلُحُ أنْ تُفْرَدَ للعبادةِ، وكلِّ مَا هُوَ خَالِصٌ لِلَّهِ تعالى، وأنْ لاَ يُتَحَدَّثَ بها في أمورِ الدنيا، ولا يُجْعَلُ فيها لِغَيرِ اللَّهِ نَصِيبٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 22‏]‏

‏{‏وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ‏(‏19‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ‏(‏20‏)‏ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا ‏(‏21‏)‏ قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله‏}‏ يحتملُ‏:‏ أنْ يكونَ خِطَاباً مِنَ اللَّهِ تعالى، ويحتملُ‏:‏ أنْ يَكُونَ إخباراً عَنِ الجِنِّ، وَعَبْدُ اللَّهِ هو محمد صلى الله عليه وسلم، والضميرُ في ‏{‏كَادُواْ‏}‏ يحتملُ‏:‏ أنْ يكونَ لكفارِ قريشٍ، وغيرِهم في اجتماعهم على رَدِّ أمرِهِ صلى الله عليه وسلم، وقيلَ‏:‏ الضميرُ للجِنِّ، والمعنى أنهم كادوا يَتَقَصَّفُونَ عليه؛ لاسْتِماعِ القرآن، وقال ابن جبير‏:‏ معنى الآيةِ أنَّها قَوْلُ الجِنِّ لقومِهم؛ يحكُون لَهُم، والعَبْدُ محمدٌ عليه السلام، والضميرُ في ‏{‏كَادُواْ‏}‏ لأَصْحَابهِ الذينَ يُطِيعُونَ له ويَقْتَدُونَ بهِ في الصلاةِ فَهُمْ عليه لِبَدٌ، واللِبَدُ‏:‏ الجماعاتُ شُبِّهَتْ بالشَّيءِ المُتَلبِّدِ، وقال البخاريُّ‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏لِبَداً‏}‏ أعْوَاناً، انتهى،، و‏{‏يَدْعُوهُ‏}‏ معناه‏:‏ يَعْبُدُه، وقيل‏:‏ عبدُ اللَّهِ في الآيةِ المرادُ به نوحٌ، وقرأ جمهور السبعة‏:‏ «قَالَ إِنَّمَا أَدْعُواْ رَبِّي» وقرأ حمزةُ وعاصمٌ وأبو عمرو بخلافٍ عنه‏:‏ «قُلْ» ثم أمَرَ اللَّهُ تعالى محمداً عليه السلام بالتَّبَرِّي مِنَ القُدْرَةِ، وأنَّه لاَ يَمْلِكُ لأَحَدٍ ضَرًّا ولا نفعاً، والملتَحَدُ‏:‏ المَلْجَأُ الذي يُمَال إليه، ومنه الإلْحادُ وهو الميل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ‏(‏23‏)‏ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ بَلاَغاً‏}‏ قال قتادة‏:‏ التقدير‏:‏ لا أمْلِكُ إلاَّ بَلاَغاً إلَيْكُمْ، فأمَّا الإيمانُ وَالكُفْرُ، فَلاَ أَمْلِكُهُ، وقال الحسن‏:‏ ما معناه أَنَّه اسْتِثْنَاءٌ منْقَطِع، والمعنى‏:‏ لَنْ يجيرَني مِنَ اللَّه أحَدٌ إلا بلاغاً فإنّي إنْ بَلَّغْتُ، رَحِمَنِي بذلك، أي‏:‏ بِسَبَبِ ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْصِ الله‏}‏ يريدُ‏:‏ بالكفر، بدليلِ تَأبِيدِ الخلود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 28‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ‏(‏25‏)‏ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ‏(‏26‏)‏ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ‏(‏27‏)‏ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ‏}‏ يعني عَذَابَهم الذي وُعِدُوا به، والأمدُ المُدَّةُ والغايةُ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ‏}‏ معناه فإنه يُظْهِرُه عَلَى ما شَاءَ مما هو قليلٌ من كثير، ‏[‏ثم‏]‏ يَبُثُّ تعالى حَوْلَ ذلك الملَكِ الرَّسُولِ حَفَظَةً رَصَداً لإبليسَ وحِزْبِه من الجنِ والإنْس‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال ابنُ جُبَيْرٍ‏:‏ لِيعْلَمَ محمدٌ أنَّ الملائِكَة الحَفَظَةَ الرَّصَد النازِلينَ بَيْنَ يدي جبريلَ وخَلْفَه قَدْ أبلغوا رسالاتِ رَبِّهم، وقال مجاهد‏:‏ معناه لِيَعْلَمَ مَنْ كَذَّبَ أو أشْرَكَ أنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغَتْ، وقيل‏:‏ المعنى لِيَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى رُسُلَه مُبَلِّغَةً خَارِجَةً إلى الوُجُودِ، لأَنَّ عِلْمَه بكلِّ شَيْءٍ قَدْ تَقَدَّمَ، والضميرُ في ‏{‏أَحَاطَ‏}‏ و‏{‏أحصى‏}‏ للَّه سبحانه لاَ غَيْر‏.‏

سورة المزمل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ‏(‏1‏)‏ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏2‏)‏ نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ‏(‏3‏)‏ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أَيُّهَا المزمل‏}‏ نداءٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال السهيلي‏:‏ المُزَّمِّلُ اسمٌ مشتقٌ من حالتِه التي كَانَ عليها عليه السلام حينَ الخطابِ، وكذلكَ المدَّثِّرُ، وفي خطابِه بهذَا الاسْمِ فائِدَتان‏:‏ إحداهما‏:‏ الملاطفةُ فإنَّ العربَ إذا قَصَدَتْ ملاطَفَةَ المخاطَبِ، وتَرْكَ معاتَبَتهِ سَمَّوْهُ باسم مشتقٍ من حالتِه، كقوله عليه السلام لعلي حين غَاضَبَ فاطمةَ‏:‏ قُمْ أبا تُرَابٍ، إشعاراً له أنه غَيْرُ عاتبٍ عليه، وملاطَفَةً له، والفائدة الثانية‏:‏ التنبيهُ لكلِّ مُتَزَمِّلٍ راقدٍ ليلَه؛ لينتبهَ إلى قيامِ الليل وذكرِ اللَّه فيه، لأنَّ الاسْمَ المشتق من الفعلِ، يَشْتَرِكُ فيه معَ المخاطَب كلُّ مَنْ عَمِلَ بذلك العملِ، واتَّصَفَ بتلك الصفةِ، انتهى، والتَزَمُّلُ الاِلْتِفَافُ في الثياب، قال جمهور المفسرين وهو في البخاري وغيره‏:‏ ‏"‏ إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا جَاءَه المَلَكُ في غار حراء وَحَاوَرَه بما حَاوَرَه به، رَجَعَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى خَدِيجَةَ فَقَال‏:‏ زَمِّلُوني زَمِّلُوني؛ فنزلت «يأيها المدثر» ‏"‏ و‏[‏على هذا نزلت «يأيها المزمل»‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ قال جمهور العلماءِ‏:‏ هو أمْرُ نَدْبٍ، وقيل كَانَ فَرْضاً وقْتَ نزول الآيةِ، وقال بعضُهم‏:‏ كان فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم خاصَّةً وبَقِيَ كذلك حتى تُوُفِّي، وقيل غير هذا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نِّصْفَهُ‏}‏ يحتملُ‏:‏ أن يكونَ بَدَلاً من قوله قليلاً، * ص *‏:‏ ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ استثناءٌ من الليلِ، و‏{‏نِّصْفَهُ‏}‏ قيل‏:‏ بَدَلٌ من الليل وعلى هذا يكون استثناءُ ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ منه، أي‏:‏ قم نصفَ الليل إلا قليلاً منه، والضميرُ في قوله‏:‏ ‏{‏أَوِ انقص مِنْهُ‏}‏، ‏{‏أَوْ زِدْ عَلَيْهِ‏}‏ عائدٌ على النصْفِ وقيل‏:‏ ‏{‏نِّصْفَهُ‏}‏‏:‏ بدل من قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ قَالَ أبو البَقَاءِ، وهو أشْبَهُ بظاهرِ الآيةِ، انتهى، قال * ع *‏:‏ وكَيْفَ مَا تَقَلَّبَ المعنى فإنه أمْر بقيامِ نصفِ الليلِ، أو أكْثَر شيئاً أو أقَلَّ شيئاً، فالأكْثر عند العلماء لا يُزِيدُ على الثُّلثَيْنِ، والأقَلُّ لاَ يَنْحَطُّ عَن الثلثِ، ويُقَوِّي هذا حديثُ ابنِ عَبَّاسٍ في مَبِيتهِ في بيت ميمونة؛ قال‏:‏ فلما انْتَصَفَ الليلُ أو قَبْلَه بقليلٍ أو بعده بقليل، قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال * ع *‏:‏ ويلزمُ على هذا البَدَلِ الذي ذَكَرْنَاه أن يكونَ نصفُ الليل قَدْ وَقَعَ عليه الوصفُ بقليلٍ، وقَدْ يحتملُ عندي قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ أنْ يكون استثناءً من القيام، فنجعلُ الليلَ اسْم جِنْسٍ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ أي‏:‏ إلا الليالي التي تُخِلُّ بقيامِها لعذرٍ، وَهَذَا ‏[‏النظرُ يَحْسُنُ مَعَ القولِ بالنَّدْبِ جِدًّا، قال * ص *‏:‏ وهذا ‏[‏النَّظَرُ خلافُ ظاهرِ الآية، انتهى، والضميرُ في ‏{‏مِنْهُ‏}‏ و‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ عائِدَان على‏]‏ النصف‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَرَتِّلِ‏}‏‏:‏ معناه في اللغةِ‏:‏ تَمَهَّلْ وَفَرِّقْ بَيْنَ الحروفِ، لَتَبِينَ، والمقْصِدُ أنْ يَجِدَ الفِكْرُ فُسْحَةً للنَّظَرِ وفَهْمِ المعاني، وبذلكَ يَرِقُّ القَلْبُ، ويَفِيضُ عليه النُّورُ والرحمة، قال ابن كيسان‏:‏ المُرادُ‏:‏ تَفْهَمُه تالياً له، ورُوِي في صحيح الحديث‏:‏ أن قراءةَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم كانَتْ بيِّنَةً مُتَرسِّلَةً، لو شاء أحَدُ أنْ يَعُدَّ الحروفَ لعَدَّها، قال الغزاليُّ في «الإحياء»‏:‏ واعْلَمْ أنَّ التَرْتِيلَ والتَّؤُدَةَ أقْرَبُ إلى التوقير والاحترامِ، وأشَدُّ تأثيراً في القلبِ من الهَدْرَمَةِ والاسْتِعْجَالِ، والمَقْصُودُ مِنَ القراءَةِ التفكُّرُ، والترتيلُ مُعِينٌ عَلَيْهِ، وللناس عاداتٌ مختلفة في الخَتْمِ، وأوْلَى مَا يُرْجَعُ إليه في التقديراتِ قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم وَقَدْ قَال عليه الصَّلاةُ والسلام‏:‏

‏"‏ مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ في أَقَلِّ مِن ثَلاَثٍ، لَمْ يَفْقَهْهُ ‏"‏ وذلك لأَنَّ الزيادةَ عليهَا تمنعُ الترتيلَ المطلوبَ، وقَدْ كَرِهَ جماعةٌ الختمَ في يومٍ ولَيْلَةٍ، والتفصيلُ في مقدار القراءة أنَّه إنْ كَانَ التالي من العُبَّادِ السالكينَ طريقَ العَمَلِ، فلا يَنْبَغِي له أن يَنْقُصَ من خَتْمَتَيْنِ في الأُسْبُوعِ، وإنْ كانَ من السالكينَ بأعْمَالِ القَلْبِ وضرُوب الفِكْر، أو من المشغولين بِنَشْرِ العلمِ فَلا بأسَ أنْ يَقْتَصِر في الأُسْبُوعِ على ختمةٍ، وإنْ كَانَ نَافِذَ الفِكْرِ في مَعَانِي القرآن فَقَدْ يكتفِي في الشهر بمرةٍ لحاجَتِهِ إلى كَثْرَةِ التَّرْدِيدِ والتأمُّل، انتهى، ورَوَى ابنُ المباركِ في «رقائقه»‏:‏ قال‏:‏ حدثنا إسماعيل عن أبي المتوكِّل الناجي‏:‏ ‏"‏ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ ذَاتَ لَيْلَةٍ بِآيَةٍ مِنَ القُرْآنِ يُكَرِّرُهَا على نَفْسِهِ ‏"‏، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 10‏]‏

‏{‏إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ‏(‏7‏)‏ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ‏(‏8‏)‏ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ‏(‏9‏)‏ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً‏}‏ يعني القُرآن، واخْتُلِفَ لم سمّاه ثقيلاً، فقال جماعةٌ مِنَ المفسرينَ‏:‏ لِمَا كَانَ يَحُلُّ برسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مِنْ ثِقْلِ الجِسْمِ؛ حَتَّى إنَّه كَانَ إذا أُوحي إليه وهُو على نَاقَتِهِ؛ بَرَكَتْ بهِ وحَتَّى كَادَتْ فَخِذُه أنْ تَرُضُّ فَخِذَ زَيْدِ بن ثابت رضي اللَّه عنه، وقيل‏:‏ لثِقَلِهِ على الكفارِ والمنافقينَ بإعْجَازِه ووَعْدِه ووعيدهِ ونحو ذلك، وقال حُذَّاقُ العلماء‏:‏ معناه‏:‏ ثَقِيلُ المَعانِي من الأَمْرِ بالطاعاتِ، والتكاليفِ الشرعية من الجهاد، ومزاولةِ الأعمال الصالحاتِ دائماً، قال الحسن‏:‏ إنَّ الهَذَّ خَفِيفٌ ولَكِنَّ العَمَل ثقيل* ت *‏:‏ والصوابُ عندي أَنْ يُقَالَ‏:‏ أما ثِقَلُه باعتبارِ النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مَا كَان يَجِدُه عليه السلامُ من الثقل المَحْسُوسِ وأما ثِقَلُه باعتبارِ سائرِ الأمةِ فهو ما ذُكِرَ من ثقل المعاني، وقَدْ زَجَرَ مالكٌ سائِلاً سأله عن مسألةٍ وَقَالَ‏:‏ يا أبا عَبْدِ اللَّه؛ إنها مسألةٌ خفيفةٌ؛ فغَضِبَ مالكٌ وقال‏:‏ لَيْسَ في العِلم خَفِيفٌ أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّه تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً‏}‏ فَالْعِلْمُ كُلُّه ثقيلُ، انتهى من «المدارك» لعياضٍ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ نَاشِئَةَ اليل‏}‏ قال ابن جُبَيْرٍ وغيره‏:‏ هي لَفْظَةٌ حَبَشِيَّةٌ؛ نَشَأَ الرجلُ إذا قَامَ من الليلِ ف ‏{‏نَاشِئَةَ‏}‏ على هذا جَمْعُ ناشئ أي‏:‏ قَائِمٌ، و‏{‏أَشَدُّ وَطْأً‏}‏ معناه‏:‏ ثُبُوتاً واسْتِقْلاَلاً بالقيام، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وجماعة كابن عباس وابن الزبير وغيرهم‏:‏ «وَطَاءً» بكسر الواوِ مَمْدُوداً عَلى وَزْنِ «فِعَالِ» على معنى المُوَاطَأَةِ والموَافَقَةِ، وهو أن يواطئ قلبَه لسانهُ، والموَاطأةُ هِي الموافَقَةُ، فهذه مواطأَةٌ صحيحة؛ لخلو البَالِ من أشْغَالِ النَّهارِ، وبهذا المعنى فَسَّر اللفظَ مجاهدٌ وغيره، قال الثعلبيّ‏:‏ واخْتَارَ هذه القراءةَ أبو عبيدِ وقال جماعة‏:‏ ‏{‏نَاشِئَةَ اليل‏}‏ سَاعَاتُه كلُّها، لأَنَّها تَنْشَأ شَيْئاً بعد شيءٍ، وقيل في تفسير ‏{‏نَاشِئَةَ اليل‏}‏ غَيْرُ هذا، وقرأ أنس بن مالك «وأصْوَبُ قِيلاً» فقيل له‏:‏ إنما هو ‏{‏أَقْوَمُ‏}‏ فَقَالَ‏:‏ أقْوَمُ وأصْوَبُ وَاحِدٌ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ لَكَ فِى النهار سَبْحَاً طَوِيلاً‏}‏ أي‏:‏ تَصَرُّفاً وَتَرَدُّداً في أمُورِكَ، ومنه السِّبَاحةُ في الماء، ‏{‏وَتَبَتَّلْ‏}‏ معناه‏:‏ انْقَطِعْ إليه انْقِطَاعاً؛ هذا لفظ ابن عطاء على ما نقله الثعلبي، انتهى، وأما * ع* فقال‏:‏ معناه انْقَطِعْ مِنْ كلِّ شيءٍ إلا مِنْهُ وأفْزَعْ إليه، قال زيد بن أسلم‏:‏ التَبَتُّلُ‏:‏ رَفْضُ الدُّنْيَا، ومنه بُتِلَ الحَبْلُ، و‏{‏تَبْتِيلاً‏}‏ مَصْدر على غير الصَّدْرِ، قال أبو حيان‏:‏ وحُسْنُه كونُه فاصلةً، انتهى، قال ابن العربي في «أحكامه»‏:‏ فالتَبَتُّلُ المأمورُ بهِ في الآيةِ الاِنْقِطَاعُ إلى اللَّهِ تعالى بإخْلاَصِ العِبَادَةِ، وَهُوَ اختيارُ البخاريّ، والتَبَتُّلُ المنهي عنه في الحديثِ هُو سُلُوكُ مَسْلَكِ النصارى في تَرْكِ النِّكَاحِ والتَّرَهُّبِ في الصوامِع، انتهى، والوَكِيلُ القائم بالأمْرِ الذي تُوكَلُ إليه الأشياء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً‏}‏ منسُوخٌ بآية السيف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 14‏]‏

‏{‏وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ‏(‏11‏)‏ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا ‏(‏12‏)‏ وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏13‏)‏ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَذَرْنِى والمكذبين أُوْلِى النعمة‏}‏ الآية، وعيدٌ بيِّنٌ، والمعنى لاَ تَشْغَلْ بهِم فِكْرَك وكِلْهُمْ إليَّ، والنعمةُ‏:‏ غَضَارَةُ العَيْشِ وكِثرةُ المالِ والمشارُ إليهم كفارُ قريشٍ أصحابُ القليب بِبدرِ، و‏{‏لَدَيْنَا‏}‏ بمنزلة «عِنْدِنَا» والأَنْكَال‏:‏ جمع نَكْلٍ، وهو القَيْدُ من الحديدِ، ويُرْوَى أَنَّها قيودٌ سُودٌ مِن النار، والطَّعَامُ ذُو الغُصَّةِ شَجَرَةُ الزَّقُومِ، قَالَه مجاهد وغيره، وقال ابن عباس‏:‏ شَوْكٌ من نارِ يَعْتَرِضُ في حُلُوقِهِم وكلُّ مَطْعُومٍ هُنَالِكَ فَهُو ذُو غُصَّة، ورُوِي أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ هذهِ الآيةَ فَصَعِقَ، والرَّجَفَانُ الاهْتِزَازُ والاضْطِرَابُ مِنْ فَزَعٍ وَهَوْلٍ، و«المَهِيلُ»‏:‏ اللَّيِّنُ الرّخْوُ الذي يَذْهَبُ بالرِّيحِ، وقال البخاريّ‏:‏ ‏{‏كَثِيباً مَّهِيلاً‏}‏ رَمْلاً سَائِلاً، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 17‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا ‏(‏15‏)‏ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ‏(‏16‏)‏ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، خطابٌ للعالم لكِنِ المواجَهُونَ قريشٌ، و‏{‏شاهدا عَلَيْكُمْ‏}‏ نَحْوُ قولهِ‏:‏ ‏{‏وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏ والوَبِيلُ‏:‏ الشَّدِيدُ الرَّدَى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ تَتَّقُونَ‏}‏ معناه‏:‏ كَيْفَ تَجْعَلُونَ وِقَايةً لأنفسِكم، و‏{‏يَوْماً‏}‏ مفعولٌ ب ‏{‏تَتَّقُونَ‏}‏، وقِيلَ‏:‏ هو مفعولٌ ب ‏{‏كَفَرْتُمْ‏}‏ ويكونُ ‏{‏كَفَرْتُمْ‏}‏ بمعنى‏:‏ جَحَدْتم، ف ‏{‏تَتَّقُونَ‏}‏ على هذا منَ التقوى، أي‏:‏ تتقونَ عذابَ اللَّهِ، ويجوزُ أن يكونَ ‏{‏يَوْماً‏}‏ ظرفاً والمعنى‏:‏ تتقونَ عِقَابَ اللَّه يوماً، وعبارةُ الثعلبي‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ‏}‏ أي كيف تَتَحَصَّنُونَ من عذابِ يَوْمٍ يَشِيبُ فيه الطفلُ لهولِه إنْ كفرتُم، ثم ذَكَرَ نحو ما تقدم، انتهى، وحَكَى * ص *‏:‏، عن بعضِ الناسِ جَوازَ أنْ يكونَ ‏{‏يَوْماً‏}‏ ظرفَاً أي‏:‏ فكيفَ لَكُمْ بالتقوَى في يومِ القيامَةِ إنْ كفرتم في الدنيا، * ت *‏:‏ وهَذَا هُوَ مُرَادُ * ع *، قَالَ أبو حيان‏:‏ و‏{‏شِيباً‏}‏ مفعولٌ ثانٍ ل ‏{‏يَجْعَلُ‏}‏ وهُو جَمْع أشْيَب، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ‏(‏18‏)‏ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ‏}‏ أي ذاتُ انْفِطارٍ، والانفطارُ التَّصَدُّعُ والانْشِقَاقُ، والضميرُ في ‏{‏بِهِ‏}‏ قال منذر وغيره‏:‏ عائِدُ على اليومِ؛ وكذا قَال * ص *‏:‏ إن ضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ يعودُ على اليومِ والباء سببيةٌ أو ظرفيةٌ، انتهى،، وفي صحيح مسلم مِنْ رواية عبدِ اللَّه بن عمرو‏:‏ وذَكَرَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ بَعْثُ النَّارِ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إلَى النَّارِ وَوَاحِدٌ إلَى الجَنَّةِ، قَالَ‏:‏ فَذَلِكَ يَوْمَ يَجْعَلُ الوِلْدَانَ شِيباً، وذلك ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 42‏]‏ ‏"‏ الحديث، انتهى، وقيل‏:‏ عائدٌ على اللَّه، أي مُنْفَطِرٌ بأمْرِه وقُدْرَتهِ، والضميرُ في قوله‏:‏ ‏{‏وَعْدُهُ‏}‏ الظاهر أنَّه يعود على اللَّه تعالى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، الإشَارَةُ ب«هذه» تحتملُ‏:‏ إلى ما ذُكِرَ من الأَنْكَالِ والجحيمِ، والأَخْذِ الوبيل، وتحتملُ‏:‏ أنْ تَكُونَ إلى السورةِ بجُمْلَتِها، وتحتملُ‏:‏ أنْ تَكُونَ إلى آياتِ القرآن بجُمْلَتِها‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَمَن شَاءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً‏}‏ لَيْسَ معناه إبَاحَةُ الأمْرِ وضِدِّه، بل الكلامُ يتضمَّنُ الوَعْدَ والوعيدَ، والسبيلُ هنا سبيلُ الخيرِ والطاعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، المعنى أنَّ اللَّهَ تعالى يعلمُ أنَّكَ تَقُومُ أنْتَ وغيرك من أُمَّتِك قياماً مختلفاً مَرَّةً يكْثُرُ ومرَّةً يَقلّ، ومرة أدْنَى من الثلثين، ومرة أدنى من النصفِ، ومرة أدْنَى من الثلث، وذلك لِعَدَمِ تَحْصِيل البَشَرِ لِمَقَادِيرِ الزمان، مع عُذْرِ النَّوْمِ، وتقديرُ الزمان حقيقةٌ إنما هو للَّهِ تعالى، وأما البشَرُ فلا يُحْصِي ذلك، فتابَ اللَّه عليهمْ، أي‏:‏ رَجَعَ بهم من الثِّقَلِ إلى الخِفَّةِ وأمرهم بقراءةِ ما تيسَّر، ونحوَ هذَا تُعْطِي عِبَارةُ الفراء، ومنذر فإنهما قالا‏:‏ تُحْصُوه تَحْفَظُوه، وهذا التأويلُ هو على قراءة الخفضِ عَطْفاً على الثلثين وهي قراءة أبي عمرٍو ونافعٍ وابن عامر، وأمَّا مَنْ قَرأَ‏:‏ «ونصفَه وثلثَه» بالنَّصْبِ عَطْفاً على أدْنَى وهي قراءة باقي السبعةِ، فالمعنى عندَهم أنَّ اللَّه تعالى قَدْ عَلِمَ أنهم يَقْدِرُونَ الزمانَ على نحو مَا أَمَرَ بهِ تعالى، في قوله‏:‏ ‏{‏نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 3-4‏]‏ فلم يبقَ إلا قوله‏:‏ ‏{‏أَن لَّن تُحْصُوهُ‏}‏ فمعناه لَنْ يُطِيقُوا قيامَه لِكَثْرَتِهِ وشدتهِ، فَخَفَّفَ اللَّهُ عنهم فَضْلاً منه؛ لا لِعِلَّةِ جهلهم بالتقدير وإحصاء الأوقاتِ، ونَحوَ هذا تُعْطي عبارةُ الحسن وابن جبير؛ فإنهما قالا‏:‏ تحصُوه‏:‏ تُطِيقُوه، وعبارةُ الثعلبيِّ‏:‏ ومَنْ قَرَأَ بالنَّصْبِ؛ فالمعنى‏:‏ وتَقُومُ نصْفَه وثلثَه، قال الفراء‏:‏ وهو الأشْبَه بالصَّوَابِ؛ لأنه قَالَ أَقَلَّ مِنَ الثلثينِ، ثم ذكر تفسيرَ القلةِ لا تَفْسِيرَ أَقَلِّ مِنَ القلةِ، انتهى، ولو عَبَّر الفَرَّاءُ بالأَرْجَحِ، لكانَ أحْسَنَ أدَباً، وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ‏:‏ لاَ إله ِإِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدير، الحَمْدُ للَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَلاَ إله إلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ ‏"‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ اللَّهُمَّ، اغفر لي، أوْ دَعَا، استجيب لَهُ، فإنْ تَوَضَّأَ، ثمَّ صلى قُبِلَتْ صَلاَتُهُ ‏"‏، رواه الجماعة إلا مسلماً، وَتَعَارَّ بتشديدِ الرَّاءِ مَعْنَاه‏:‏ اسْتَيْقَظَ، انتهى من «السلاح»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان‏}‏ قال الثعلبيُّ أي‏:‏ مَا خَفَّ وَسَهُلَ بغير مِقْدَارٍ مِنَ القِرَاءَةِ، والمُدَّةِ، وقيل‏:‏ المعنى فَصَلُّوا ما تيسَّر فَعَبَّر بالقراءةِ عنها‏.‏ * ت *‏:‏ وهذا هو الأصَحُّ عند ابن العربي، انتهى، قال * ع *‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان‏}‏ هو أمْرُ نَدْبٍ في قولِ الجمهور، وقال جماعة‏:‏ هو فَرْضٌ لاَ بُدَّ منه ولو خَمْسِينَ آيةً، وقال الحسنُ وابن سيرين‏:‏ قيامُ الليل فَرْضٌ وَلَوْ قَدْرُ حَلْبِ شَاةٍ، إلا أنَّ الحسنَ قال‏:‏ مَنْ قَرأَ مِائَة آيةٍ لَمْ يُحَاجَّهُ القرآن؛ واسْتَحْسَنَ هذا جماعةٌ من العلماء؛ قال بعضهم‏:‏ والركعتانِ بَعْدَ العشاءِ مَعَ الوِتْرِ دَاخِلَتَانِ في امتثالِ هذا الأَمْرِ؛ ومن زَادَ زَادَهُ اللَّه ثواباً، * ت *‏:‏ ينبغي للعاقِل المبَادَرَةُ إلى تَحْصِيلِ الخَيْرَاتِ قَبْلَ هُجُومِ صَوْلَةِ المَمَاتِ، قَالَ البَاجِيُّ في «سنن الصالحين» له‏:‏ قَالَتْ بنت الربيعِ بْنِ خُثَيْمٍ لأبيها‏:‏ يا أبَتِ ما لِي أَرَى النَّاسَ يَنَامُونَ وأنْتَ لاَ تَنَامُ، قال‏:‏ إنَّ أَبَاكِ يَخَافُ البَيَاتَ، قال الباجيُّ رحمه اللَّه تعالى‏:‏ ولي في هذا المعنى‏:‏ ‏[‏من الرجز‏]‏

قَدْ أَفْلَحَ القَانِتُ في جُنْحِ الدجى *** يَتْلُو الْكِتَابَ العَرَبِيَّ النَّيِّرَا

‏[‏فَقَائِماً وَرَاكِعاً وَسَاجِدا *** مُبْتَهِلاً مُسْتَعْبِراً مُسْتَغْفِرَا‏]‏

لَهُ حَنِينٌ وَشَهِيقٌ وَبُكَا *** يَبُلُّ مِنْ أَدْمُعِهِ تُرْبَ الثرى

إنَّا لَسَفْرٌ نَبْتَغِي نَيْلَ الهدى *** فَفِي السرى بُغْيَتُنَا لاَ في الْكَرَا

مَنْ يَنْصَبِ اللَّيْلَ يَنَلْ رَاحَتَهُ *** عِنْد الصَّبَاحِ يَحْمَدُ القَوْمُ السرى

انتهى، والضربُ في الأرضِ هو السَّفَرُ للتجارةِ ابتغاءَ فضلِ اللَّهِ سبحانه، فذكرَ اللَّه سبحانه أعْذَارَ بني آدمَ التي هي حائلةٌ بينَهم وبيْنَ قيامِ الليل، ثم كرَّر سبحانَه الأَمْرَ بقراءةِ ما تَيَسَّر منه تأكِيداً، والصلاةُ والزكاة هنا هما المفروضَتَانِ، فمن قال‏:‏ إن القِيَامَ من الليلِ غَيْرُ واجبٍ؛ قال‏:‏ معنى الآية خُذُوا من هذا النَّفْلِ بما تَيَسَّر وحَافِظُوا على فَرَائِضِكم، ومَنْ قال‏:‏ إن شَيْئاً من القيامِ واجبٌ؛ قال‏:‏ قَدْ قَرَنَه اللَّهُ بالفرائِضِ؛ لأنه فَرْضٌ وإقْراضُ اللَّه تعالى هو إسْلاَفُ العملِ الصالحِ عنده، وقرأ جمهورُ الناس «هو خيراً» على أن يكونَ «هو» فَصْلاً، قال بعضُ العلماءِ‏:‏ الاستِغفارُ بَعْدَ الصلاة مُسْتَنْبَطٌ من هذه الآيةِ، ومن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اليل مَا يَهْجَعُونَ * وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 17-18‏]‏ قال * ع *‏:‏ وَعَهَدْتُ أبي رحمه اللَّه يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ إثْرَ كل مكتُوبةٍ ثَلاَثَاً بِعَقِبِ السلام، ويأثر في ذلك حديثاً، فكان هذا الاستغفارُ من التقصيرِ وتَقَلُّبِ الفِكْرِ أثْنَاء الصلاة، وكان السلفُ الصالحُ يُصَلُّونَ إلى طلوع الفجر؛ ثم يجلسُون للاسْتِغْفَارِ‏.‏ * ت *‏:‏ وما ذكره * ع *‏:‏ رحمه اللَّه عَنْ أبيه رَوَاهُ مسلم وأبو داودَ والترمذي والنسائي وابنُ ماجَه عن ثوبان قال‏:‏ ‏"‏ كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا انصرف مِنْ صَلاَتِهِ، استغفر ثَلاَثاً وقَالَ‏:‏ «اللَّهُمَّ، أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ تَبَارَكْتَ يَا ذَا الجَلاَلِ والاكرام ‏"‏، قال الوليدُ‏:‏ فقلتُ للأوزاعيِّ‏:‏ كَيْفَ الاسْتِغْفَارُ‏؟‏ قال‏:‏ تَقُولُ‏:‏ أسْتَغْفِرُ اللَّهَ، أسْتَغْفِرُ اللَّهَ، أسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وفي روايةٍ لمسلم من حديثِ عائشةَ‏:‏ ‏"‏ يَا ذَا الجَلاَلِ والإكْرَامِ ‏"‏، انتهى من «سلاح المؤمن»‏.‏