فصل: تفسير الآيات رقم (265- 266)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏265- 266‏]‏

‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏265‏)‏ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏266‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم ابتغاء مَرْضَاتِ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ من أساليب فصاحة القرآن أنه يأتي فيه ذكْرُ نقيضِ ما يتقدَّم ذكره؛ ليتبيَّن حال التضادِّ بعرضها على الذهْن، ولما ذكر اللَّه صدقاتِ القوم الذين لا خَلاَق لصدَقَاتهم، ونَهَى المؤْمنين عن مواقَعَة ما يشبه ذلك بوَجْهٍ مَّا، عَقَّبَ في هذه الآية بذكْرِ نفقاتِ القَوْم الذين بذَلُوا صدقاتِهِمْ على وجْهها في الشرع، فضرب لها مثلاً، وتقدير الكلام‏:‏ ومَثَلُ نفقةِ الذين ينفقون كَمَثَلِ غارِسِ جَنَّة، أو تقدِّر الإِضمار في آخر الكلام، دون إِضمار في أوله؛ كأنه قال‏:‏ كَمَثَلِ غارِسِ جَنَّةِ- وابتغاء‏:‏ معناه طلب، وهو مصدر في موضع الحالِ- وتَثْبِيتاً‏:‏ مصدر، ومَرْضَاة‏:‏ مصدر من‏:‏ رَضِيَ‏.‏

قال‏:‏ * ص *‏:‏ ‏{‏ابتغاء مَرْضَاتِ الله وَتَثْبِيتًا‏}‏ كلاهما مفعولٌ من أجله، وقاله مكِّيٌّ، وردَّه ابن عَطيَّة؛ بأن ابتغاء‏:‏ لا يكون مفعولاً من أجله، لعطف‏:‏ «وَتَثْبِتاً» عليه، ولا يصحُّ في «تثبيت» أنْ يكون مفعولاً من أجله؛ لأنَّ الإِنفاق ليس من أجل التثبيت؛ وأجيب‏:‏ بأنه يمكن أنْ يقدَّر مفعولُ التثبيت الثوابَ، أي‏:‏ وتحصيلاً لأنفسهم الثوابَ على تلك النفقة؛ فيصحّ أنْ يكون مفعولاً من أجله، ثم قال أبو حَيَّان، بعد كلام‏:‏ والمعنى أنَّهم يُثَبِّتُونَ من أنفسهم على الإِيمان، وما يرجُونه من اللَّه تعالى بهذا العمل‏.‏ انتهى‏.‏

قال قتادة وغيره‏:‏ ‏{‏وَتَثْبِيتًا‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ وتيقُّناً، أي‏:‏ أنَّ نفوسهم لها بصائرُ متأكِّدة، فهي تثبتهم على الإِنفاق في طاعة اللَّه تثبيتاً، وقال مجاهد والحَسَن‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏{‏وَتَثْبِيتًا‏}‏، أي‏:‏ أنهم يتثبَّتون، أين يَضَعُونَ صَدَقَاتِهِمْ‏.‏

قال الحَسَن‏:‏ كان الرجُلُ، إِذا هَمَّ تثبَّت؛ فإِنْ كان ذلك لِلَّه أمضاه، وإِنْ خالَطَهُ شيْء أَمْسَك‏.‏

والقولُ الأول أصوبُ؛ لأن هذا المعنى الذي ذهب إِليه مجاهدٌ، والحسنُ إِنما عبارته‏:‏ «وتَثْبِيتاً»، فإِنَّ قال محتجٌّ‏:‏ إِن هذا من المصادر الَّتِي خُرِّجَتْ على غير الصَّدْر؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 8‏]‏ ‏{‏والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17‏]‏ فالجوابُ‏:‏ أنَّ هذا لاَ يسُوغُ إلاَّ مع ذِكْر الصدرِ، والإِفصاحِ بالفعْلِ المتقدِّم للمصدر، وأمَّا إِذا لم يقع إِفصاحٌ بفعْلٍ، فليس لك أنْ تأتي بمصدر في غير معناه، ثم تقول‏:‏ أحمله على فعْلِ كذا وكذا؛ لفعلٍ لم يتقدَّم له ذكْرٌ، هذا مَهْيَعُ كلامِ العربِ فيما علمتُ‏.‏

والرَّبْوَةُ‏:‏ ما ارتفع من الأرض ارتفاعا يسيراً معه في الأغلب كثافةُ الترابِ وطِيبُهُ وتعمُّقه، وما كان كذلك، فنباتُه أحْسَنُ‏.‏

ولفظ الرَّبْوَة‏:‏ مأخوذ من‏:‏ رَبَا يَرْبُو، إِذا زاد، وآتَتْ‏:‏ معناه أعطت، والأُكُل؛ بضم الهمزة‏:‏ الثمر الَّذي يُؤْكَل، والشيء المأْكُول مِنْ كُلِّ شيء، يقال له‏:‏ أُكُل، وإِضافته إِلى الجنَّة إِضافة اختصاص؛ كَسَرْج الدَّابَّة، وبابِ الدَّارِ، وضِعْفَيْن‏:‏ معناه اثنين مِمَّا يظن بها، ويُحْزَر من مثلها‏.‏

ثم أكَّد سبحانه مدْحَ هذه الربوة؛ بأنها إِنْ لم يصبْها وابلٌ، فإِن الطَّلَّ يكفيها، وينوبُ مناب الوابِلِ؛ وذلك لكَرَمِ الأرض، والطَّلُّ‏:‏ المستدَقُّ من القَطْرِ، قاله ابن عبَّاس وغيره، وهو مشهورُ اللغة، فشبه سبحانه نُمُوَّ نفقاتِ هؤلاء المُخْلِصِينَ الذين يُرْبِي اللَّه صدقاتِهِمْ؛ كتربية الفَلُوِّ والفصيلِ؛ حسب الحديثِ بنموِّ نباتِ هذه الجنة بالرَّبْوَة الموصُوفةِ، وذلك كلُّه بخلافِ الصَّفْوان، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏‏:‏ وعد ووعيد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الاية‏:‏ حكى الطبريُّ عن ابْن زَيْد، أنَّه قرأ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 264‏]‏ الآية‏:‏ ثم قال‏:‏ ضرَبَ اللَّه في ذلك مثلاً؛ فقال‏:‏ ‏{‏أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، وهذا بيِّن، وهو مقتضى سياقِ الكلامِ، وقال ابنُ عَبَّاس‏:‏ هذا مثَلٌ ضربه اللَّه؛ كأنه قال‏:‏ أيودُّ أحدُكُم أنْ يعمل عمره بعَمَلِ أهْل الخير، فإذا فَنِيَ عمره، واقترب أجله، خَتَم ذلك بعَمَلٍ مِنْ عمل أهْل الشقاء، فَرَضِيَ ذلك عُمَرُ منه، رضي اللَّه عنه، وروى ابْنُ أبِي مُلَيْكَةَ عن عُمَر نحو‏.‏

* ع *‏:‏ فهذا نظرٌ يحمل الآية على كلِّ ما يدخل تحْتَ ألفاظها، وقال بنَحْو هذا مجاهدٌ وغيره، ونقل الثَّعْلَبِيُّ عن الحَسَن، قال‏:‏ قَلَّ واللَّهِ، من يعقلُ هذا المَثَلَ شيْخٌ كبر سنه، وضَعُف جسمه، وَكَثُرَ عياله، أَفْقَرُ ما كان إِلى جنته، وأحدُكُم أفْقَرُ ما يكُونُ إلى عمله، إِذا انقطعت الدنْيَا عنه‏.‏ انتهى، وهو حَسَنٌ جدًّا‏.‏

وقال أبو عبد اللَّه اللَّخْمِيُّ في «مختصره» لتفسير الطبريِّ‏:‏ وعن قتادة‏:‏ هذا مثلٌ، فاعقلوا عن اللَّه أمثالَهُ؛ هذا رجلٌ كَبرت سنُّه، ورَقَّ عظمه، وكَثُر عياله، ثم احترقت جنَّته، أحْوجَ ما يَكُون إِليها، يقول‏:‏ أيحبُّ أحدكم أنْ يضلَّ عنه عمله يَوْمَ القيامةِ أحْوَجَ ما يكُونُ إِلَيْه‏.‏ وعن الحَسَنِ نحوه‏.‏ انتهى‏.‏

وخصَّ الأعناب والنَّخيل بالذكْر، لشرفهما، وفَضْلهما على سائر الشَّجَر، والواو في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَصَابَهُ‏}‏ واو الحالِ؛ وكذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ‏}‏، وضعفاءُ‏:‏ جمعُ ضعيفٍ، والأعصار‏:‏ الريحُ الشديدةُ العاصفةُ التي فيها إِحراق لكلِّ ما مرَّت عليه يكونُ ذلك في شدَّة الحرِّ، ويكون في شدَّة البَرْد، وكلُّ ذلك من فيح جهنَّم‏.‏

و ‏{‏لَعَلَّكُمْ‏}‏‏:‏ تَرَجٍّ في حقِّ البَشَر، أي‏:‏ إِذا تأمَّل من بُيِّنَ له هذا البيان رُجِيَ له التفكُّر، وكان أهْلاً له، وقال ابنُ عَبَّاس‏:‏ تتفكَّرونَ في زوالِ الدنْيَا، وفنَائِها، وإِقبال الآخرةِ وبقائها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏267- 269‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏267‏)‏ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏268‏)‏ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏269‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذا خطابٌ لجميع أمَّة نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم وهذه صيغةُ أمر بالإِنفاق، واختلف المتأوِّلون، هل المرادُ بهذا الإِنفاق الزَّكَاةُ المفروضةُ، أو التطوُّع، والآية تعمُّ الوجهَيْن، لكنَّ صاحب الزكاة يتلَقَّاها على الوُجُوب، وصاحب التطوُّع يتلَقَّاها على الندْبِ، وجمهورُ المتأوِّلين قالوا‏:‏ معنى ‏{‏مِن طَيِّبَاتِ‏}‏‏:‏ من جَيِّد ومختارِ ما كسبتُمْ، وجعلوا الخبيثَ بمعنَى الرديء، وقال ابن زَيْد‏:‏ معناه‏:‏ من حلالِ ما كسبتمْ، قال‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث‏}‏، أي‏:‏ الحرام‏.‏

* ع *‏:‏ وقولُ ابن زيدٍ ليس بالقويِّ من جهة نَسَق الآيةِ، لا من معناه في نَفْسه‏.‏

و ‏{‏كَسَبْتُم‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ كانت لكُمْ فيه سعاية، ‏{‏وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض‏}‏‏:‏ النباتات، والمَعَادن، والرِّكَاز، وما ضَارع ذلك، و‏{‏تَيَمَّمُواْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ تعمدوا، وتَقْصِدوا، والتيمُّم‏:‏ القصْد، وقال الجُرْجَانِيُّ‏:‏ قال فريقٌ من الناس‏:‏ إِن الكلام تَمَّ في قوله‏:‏ ‏{‏الخبيث‏}‏، ثم ابتدأ خَبَراً آخر، فقال‏:‏ تُنْفِقُونَ منه وأنتم لا تأخذونه إِلا إِذا أغمضتم أي‏:‏ ساهَلْتُم، قال‏:‏ * ع *‏:‏ كأنَّ هذا المعنى عتابٌ للنَّفْسِ وتقريعٌ؛ وعلى هذا، فالضميرُ في ‏{‏مِنْهُ‏}‏ عائدٌ على ‏{‏الخبيث‏}‏‏.‏

قال الجُرْجَانِيُّ‏:‏ وقال فريقٌ آخر‏:‏ بل الكلامُ متَّصِلُ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏فِيهِ‏}‏؛ وعلى هذا، فالضمير في «مِنْهُ» عائدٌ على‏:‏ «مَا كَسَبْتُمْ»؛ كأنه في موضعَ نصبٍ على الحالِ، والمعنى في الآية‏:‏ فَلاَ تَفْعَلُوا مع اللَّهِ ما لا ترضَوْنه لأنفُسِكم، واعلموا أنَّ اللَّه غنيٌّ عن صدقاتكم، فمَنْ تقرب وطلب مثوبةً، فلْيفعلْ ذلك بما لَهُ قَدْرٌ‏.‏

* ت *‏:‏ وهذا يقوِّي القولَ بأنها في الزكَاةِ المفروضَةِ، و‏{‏حَمِيدٌ‏}‏‏:‏ معناه محمودٌ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذه الآيةُ وما بعدها- وإِن لم تكُنْ أمراً بالصدقة، فهي جالبةُ النفوس إلى الصدقة- بيَّن- عزَّ وجلَّ- فيها نزغاتِ الشيطانِ، ووسوستَهُ، وعداوتَهُ، وذكَّر بثوابه هو سبحانه، لا رَبَّ غيره، وذَكَّر بتفضُّله بالحكْمة، وأثنى عليها، ونبَّه أنَّ أهل العقول هم المتذكِّرون الذين يقيمُونَ بالحكْمة قدْرَ الإِنفاق في طاعةِ اللَّه، وغير ذلك، ثم ذكر سبحانه علْمَهُ بكلِّ نفقة ونَذْر، وفي ذلك وعْدٌ ووعيدٌ، ثم بيَّن الحِكَمَ في الإِعلان والإِخفاء؛ وكذلك إِلى آخر المعنى‏.‏

والوعد؛ في كلامِ العربِ، إِذا أطلق، فهو في الخير، وإِذا قُيِّد بالموعود، فقد يقيد بالخَيْر، وقد يقيَّد بالشر؛ كالبِشَارة، وهذه الآية مما قُيِّدَ الوعْدُ فيها بمكْرُوه، والفَحْشَاءُ‏:‏ كلُّ ما فَحُشَ، وفَحُشَ ذكْرُه، روى ابْنُ مسعودٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً مِن ابن آدَمَ، وَلِلْمَلِكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ، فَإِيعَادٌ بالشَّرِّ، وَتَكْذِيبٌ بِالحَقِّ، وأَمَّا لَمَّةُ المَلَكِ، فَإِيعَادٌ بِالخَيْرِ، وَتَصْدِيقٌ بِالحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ، فَلْيَعْلَمْ أنَّهُ مِنَ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ الأخرى، فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ‏"‏

ثُمَّ قرأَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشاء‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ قُلْتُ‏:‏ هذا حديثٌ صحيحٌ خرَّجه أبو عيسَى التِّرمذيُّ، وقال فيه‏:‏ حَسَنٌ غريبٌ صحيحٌ‏.‏

والمغفرةُ‏:‏ هي السَّتْر على عبادِهِ في الدنيا والآخرة، والفَضْل‏:‏ هو الرزق في الدنيا، والتوسعةُ فيه، والنَّعِيمُ في الآخرة، وَبِكُلٍّ قدْ وعد اللَّه جلَّ وعلاَ، وروي، أنَّ في التوراة‏:‏ «عَبْدِي، أَنْفِقْ مِنْ رِزْقِي، أَبْسُطْ عَلَيْكَ فَضْلِي، فَإِنَّ يَدِي مَبْسُوطَةٌ على كُلِّ يَدٍ مَبْسُوطَةٍ»؛ وفي القُرآن مصداقه، وهو‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 39‏]‏

* ت *‏:‏ روى الطَّبرانيُّ سليمانُ بْنُ أحْمَدَ، بسنده عَنْ عبد اللَّه بنِ عمرٍو، قال‏:‏ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَنْ أَطْعَمَ أَخَاهُ حتى يُشْبِعَهُ، وسَقَاهُ مِنَ المَاءِ، حتى يَرْوِيَهُ، بَعَّدَهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ سَبْعَ خَنَادِقَ مَا بَيْنَ كُلِّ خَنْدَقَيْنِ مَسِيرَةُ مِائَةِ عَامٍ ‏"‏ انتهى‏.‏

وعن أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ- رضي اللَّه عنه- عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أَيُّمَا مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِماً ثَوْباً على عُرْيٍ، كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِماً على جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الجَنَّةِ، وأَيُّمَا مُسْلِمٍ سقى مُسْلِماً على ظَمَإٍ، سَقَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الرَّحِيقِ المَخْتُومِ ‏"‏ أخرجه أبو داود، مِنْ حديثِ أبي خالدٍ، هو الدَّالانِي، عن نُبَيْح، وقد وثَّق أبو حاتم أبا خالدٍ، وسُئِل أبو زُرْعَة عن نُبَيْح، فقال‏:‏ هو كوفيٌّ ثقة‏.‏ انتهى من «الإِلمام في أحاديثِ الأحْكَامِ»؛ لابن دقيقِ العِيدِ‏.‏

و ‏{‏واسع‏}‏‏:‏ لأنه وَسِعَ كلَّ شيء رحمةً وعلماً‏.‏

‏{‏يُؤْتِي الْحِكْمَةَ‏}‏‏:‏ أَيْ‏:‏ يعطيها لِمَنْ يَشَاء من عباده، والحكمةُ مصدرٌ من الإِحكام، وهو الإِتقان في عملٍ أو قولٍ، وكتابُ اللَّهِ حكْمَةٌ، وسُنَّةُ نبيِّه- عليه السلام- حِكْمَةٌ، وكلُّ ما ذكره المتأوِّلون فيها، فهُوَ جُزْء من الحكْمة التي هي الجنْس، قال الإِمامُ الفَخْر في شرحه لأسماء اللَّه الحسنى‏:‏ قال المحقِّقون‏:‏ العلماءُ ثلاثةٌ‏:‏ علماءُ بأحكامِ اللَّهِ فقط؛ وهم العلماءُ أصحابُ الفتوى، وعلماءُ باللَّهِ فقَطْ؛ وهم الحكماءُ، وعلماءُ بالقِسْمَيْن؛ وهُمُ الكبراءُ، فالقسْم الأول كالسِّراجِ يحرقُ نَفْسَه، ويضيءُ لغَيْره، والقسم الثَّاني حالُهم أكْمَلُ من الأوَّل؛ لأنه أَشْرَقَ قَلْبُهُ بمَعْرفة اللَّه، وسره بنُور جلالِ اللَّه، إِلاَّ أنه كالكَنْز تَحْت التُّرَابِ، لا يصلُ أَثَرُه إلى غيره، وأما القسمُ الثالثُ، فهم أشرفُ الأقسامِ، فهو كالشَّمْسِ تضيءُ العَالَمَ؛ لأنه تامٌّ، وفوْقَ التامِّ‏.‏ انتهى‏.‏

وباقي الآية تذكرةٌ بيِّنة، وإقامة لِهِمَمِ الغَفَلَةِ- و‏{‏الألباب‏}‏‏:‏ العقولُ، واحدها لُبٌّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏270- 271‏]‏

‏{‏وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏270‏)‏ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏271‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ يقال‏:‏ نَذَرَ الرَّجُلُ كَذَا، إِذا التزم فعله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ‏}‏‏.‏ قال مجاهدٌ‏:‏ معناه‏:‏ يُحْصِيه، وفي الآيةِ وعْدٌ ووعيدٌ، أي‏:‏ مَنْ كان خالص النيَّة، فهو مثابٌ، ومن أنْفَقَ رياءً أو لمعنًى آخَرَ ممَّا يكْشفه المَنُّ والأذى، ونحو ذلك، فهو ظالمٌ يذهب فعْلُه باطلاً، ولا يجد ناصراً فيه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ذهب جمهورُ المفسِّرين إِلى أنَّ هذه الآيةَ في صدَقَةِ التطوُّع، قال ابن عبَّاس‏:‏ جعل اللَّه صدَقَةَ السِّرِّ في التطوُّع تفضُلُ علانيتها، يقال‏:‏ بسبعين ضِعْفاً، وجعل صدَقَةَ الفريضَةِ علانيتَهَا أفْضَلَ من سرِّها، يقال‏:‏ بخَمْسَةٍ وعشْرين ضِعْفاً، قال‏:‏ وكذلك جميعُ الفرائضِ والنوافلِ في الأشياء كلِّها‏.‏

* ع *‏:‏ ويقوِّي ذلك قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ صَلاَةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَتِهِ فِي المَسْجِدِ إِلاَّ المَكْتُوبَة ‏"‏، وذلك أن الفرائضَ لا يدْخُلُها رياءٌ، والنوافل عُرْضَةٌ لذلك، قال الطبريُّ‏:‏ أجمعَ النَّاس على أن إِظهار الواجِبِ أفضلُ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنِعِمَّا هِيَ‏}‏‏:‏ ثناءٌ على إِبداء الصدقةِ، ثم حكم أنَّ الإِخفاء خيْرٌ من ذلك الإِبداءِ، والتقديرُ‏:‏ نِعْمَ شيءٌ إِبداؤها، فالإِبداء هو المخصوصُ بالمدْحِ؛ وخرَّج أبو داود في «سننه»، عن أبي أُمَامَةَ، قال‏:‏ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ انطلق بِرَجُلٍ إلى بَابِ الجَنَّةِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا على بَابِ الجَنَّةِ مَكْتُوبٌ‏:‏ الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالقَرْضُ الوَاحِدُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ؛ لأنَّ صاحب القرضِ لا يأتيك إِلاَّ وهو محتاجٌ، والصدقةُ ربما وُضِعَتْ في غنيٍّ ‏"‏، وخرَّجه ابن ماجة في «سننه»، قال‏:‏ حدَّثنا عُبَيْدُ اللَّه بن عبد الكريمِ، حدَّثنا هشام بْنُ خالدٍ، حدَّثنا خالدُ بن يَزِيدَ بْنِ أبي مالكٍ، عن أبيه، عن أنس بن مالك، قال‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي على بَابِ الجَنَّةِ مَكْتُوبٌ‏:‏ الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَقُلْتُ لِجِبْرِيلَ‏:‏ مَا بَالُ القَرْضِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ، وَالمُسْتَقْرِضُ لاَ يَسْتَقْرِضُ إِلاَّ مِنْ حَاجَةٍ ‏"‏ انتهى من «التذكرة»‏.‏

وقرأ ابن كثير وغيره‏:‏ «ونُكَفِّرُ»؛ بالنون، ورفع الراء، وقرأ ابن عامر‏:‏ «وَيُكَفِّرُ»، بالياء، ورفع الراء، وقرأ نافع وغيره‏:‏ «وَنُكَفِّرْ»، بالنون، والجزمِ، فأما رفْع الراء، فهو على وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون الفعْلُ خبر ابتداءٍ، تقديره‏:‏ ونحن نكفِّر، أو‏:‏ واللَّه يكفر‏.‏

والثَّاني‏:‏ القطع، والاستِئْناف، والواو لعطْفِ جملةٍ على جملةٍ، والجزمُ في الراءِ أفصحُ هذه القراءات؛ لأنها تؤذن بدُخُول التكفير في الجزاء، وكونه مشروطاً إِن وقع الإِخفاء، وأمَّا رفع الراءِ، فليس فيه هذا المعنى، و«مِنْ» في قوله‏:‏ ‏{‏مِّن سَيِّئَاتِكُمْ‏}‏ للتبعيضِ المحْضِ، لا أنها زائدةٌ؛ كما زعم قومٌ، ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏‏:‏ وعدٌ ووعيدٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏272- 273‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ‏(‏272‏)‏ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏273‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ وَرَدَتْ آثار أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مَنَعَ فُقَرَاء أهْلِ الذمَّة من الصَّدَقَة، فنزلَتِ الآية مبيحةً لهم، وذكر الطبريُّ؛ أن مَقْصِدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَنْعِ الصدَقة، إِنَّما كان ليُسْلِمُوا، ولِيَدْخُلُوا في الدِّين، فقال اللَّه سبحانه‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ‏}‏، قال‏:‏ * ع *‏:‏ وهذه الصدقةُ التي أبيحَتْ لهم حسبَمَا تضمَّنته هذه الآثار، إِنما هي صدقة التطوُّع، وأما المفروضة، فلا يجزئ دفعها لكَافِرٍ، قال ابن المُنْذِرِ‏:‏ إِجماعاً فيما عَلِمْتُ، وقول المَهْدَوِيِّ‏:‏ إباحتها هذه الآية مردودٌ، قال ابن العَرَبِيِّ، وإِذا كان المُسْلِمُ يترك أركان الإِسْلاَم من الصَّلاة، والصيام، فلا تُصْرَفُ إِلَيْه الصدقة؛ حتى يتُوبَ، وسائرُ المعاصِي تُصْرَف الصدَقَةُ إلى مرتكبيها؛ لدخولِهِمْ في اسم المسلمين‏.‏ انتهى من «الإِحكام»، ويعني بالصدقةِ المفروضةَ، والهدى الَّذي ليس على نَبيِّنا صلى الله عليه وسلم هو خَلْق الإِيمان في قلوبهم، وأما الهُدَى الذي هو الدعاءُ، فهو علَيْه صلى الله عليه وسلم، وليس بمراد في هذه الآية‏.‏

ثم أخبرَ سُبْحَانه؛ أنه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وفي الآية ردٌّ على القدريَّة وطوائفِ المعتزلةِ، ثم بيَّن تعالى؛ أنَّ النفقة المقبولَةَ ما كان ابتغاءَ وَجْهِ اللَّهِ‏.‏

وفي الآية تأويلٌ آخرُ، وهو أنها شهادة مِنَ اللَّهِ تعالى للصحابةِ؛ أنهم إِنما ينفقون ابتغاءَ وَجُه اللَّه سبحانه، فهو خَبَر منه لهم فيه تفضيلٌ، ‏{‏وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ‏}‏، أي‏:‏ في الآخرة، وهذا هو بيانُ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ‏}‏، والخير هنا‏:‏ المالُ؛ بقرينة الإِنفاق، ومتى لم يقترن بما يدلُّ على أنَّه المال، فلا يلزم أن يكون بمعنى المال، وهذا الذي قلْناه تحرُّزاً من قول عِكْرِمَةَ‏:‏ كُلَّ خَيْرٍ في كتابِ اللَّهِ، فهو المالُ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِلْفُقَرَاءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ التقديرُ‏:‏ الإِنفاق أو الصدقةُ للفقراءِ، قال مجاهد وغيره‏:‏ المرادُ بهؤلاءِ الفقراءِ فقراءُ المهاجرينَ من قريشٍ وغيرهم‏.‏

* ع *‏:‏ ثم تتناول الآيةُ كلَّ مَنْ دخل تحْتَ صفة الفَقْر غابِرَ الدَّهْر، ثم بيَّن اللَّه سبحانه من أحْوَالِ أولئك الفقراءِ المهاجِرِينَ ما يُوجِبُ الحُنُوَّ عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏الذين أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله‏}‏، والمعنى‏:‏ حُبِسُوا، ومُنِعُوا، وتأوَّل الطبريُّ في هذه الآية؛ أنهم هم حَابِسُوا أَنُفُسِهِمْ بِرِبْقَة الدِّيْن، وقصد الجهاد، وخَوْفِ العَدُوِّ، إِذ أحاط بهم الكُفْر، فصار خوف العدو عذْراً أحْصِروا به‏.‏

* ع *‏:‏ كأنَّ هذه الأعذار أحصرتْهم، فالعدُوُّ وكلُّ محيطٍ يحصر، وقوله‏:‏ ‏{‏فِي سَبِيلِ الله‏}‏ يحتملُ الجهادَ، ويحتمل الدخولَ في الإِسلام، والضَّرْبُ في الأرض‏:‏ هو التصرُّف في التجارة، وكانُوا لا يستطيعونَ ضَرْباً في الأرض؛ لكون البلادِ كلِّها كفْراً مطبقاً، وهذا في صدْر الهجْرة، وكانوا- رضي اللَّه عنهم- من الانقباض، وترْكِ المسألةِ، والتوكُّلِ على اللَّه تعالى؛ بحيث يحسبهم الجاهلُ بباطنِ أحوالهم أغنياءَ‏.‏

* ت *‏:‏ واعلم أنَّ المواساة واجبةٌ، وقد خرَّج مسلمٌ وأبو داود عن أبي سعيدٍ الخدري، قال‏:‏ ‏"‏ بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ، مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ رَجُلٌ على راحِلَةٍ، فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِيناً وَشَمَالاً، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ على مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ على مَنْ لاَ زَادَ لَهُ» ‏"‏، قَالَ‏:‏ فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ المَالِ مَا ذَكَرَ؛ حتى رُئِينَا أنَّهُ لاَ حَقَّ لأَحَدَ مِنَّا فِي فَضْلٍ انتهى‏.‏

و ‏{‏التعفف‏}‏‏:‏ تفعُّلٌ، وهو بناءُ مبالغةٍ من‏:‏ عَفَّ عن الشيْءِ، إِذا أمْسَك عنْه، وتنزَّه عن طَلَبه، وبهذا المعنى فسره قتادةُ وغيره‏.‏

* ت *‏:‏ مَدَح اللَّه سبحانه هؤُلاءِ السَّادَةَ على ما أعطاهم من غنى النفْسِ، وفي الحديثِ الصحيحِ‏:‏ ‏"‏ لَيْسَ الغنى عَنْ كَثْرَةِ المَالِ، وَإِنَّمَا الغنى غِنَى النَّفْسِ ‏"‏ وقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ اللَّهُمَّ، اجعل قُوتَ آلُ مُحَمَّدٍ كَفَافاً ‏"‏ أخرجه مسلم، وغيره، وعنْدِي أن المراد بالآلِ هنا متَّبِعُوه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي سنن ابْن مَاجَة، عن أنسٍ، قال‏:‏ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَا مِنْ غَنِيٍّ، وَلاَ فَقِيرٍ إِلاَّ وَدَّ يَوْمَ القِيَامَةِ أَنَّهُ أُوتِيَ مِنَ الدُّنْيَا قُوتاً ‏"‏، وروى مسلم والترمذيُّ عن أبي أُمَامة، قال‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يَابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ إِنْ تَبْذُلْ الفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَإِنْ تُمْسك شَرٌّ لَكَ، وَلاَ تُلاَمُ على كَفَافٍ، وابدأ بِمَنْ تَعُولُ، وَاليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السفلى ‏"‏، قال أبو عيسى، واللفظ له‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏تَعْرِفُهُم بسيماهم‏}‏‏:‏ السِّيَما؛ مقصورة‏:‏ العلامةُ، واختلف المفسِّرون في تعيينها، فقال مجاهد‏:‏ هي التخشُّع والتواضُع، وقال الربيعُ، والسُّدِّيُّ‏:‏ هي جهد الحاجة، وقَضَفُ الفقر في وجوههم، وقلَّة النعمة، وقال ابن زَيْد‏:‏ هي رِثَّة الثياب، وقال قوم، وحكاه مكِّيٌّ‏:‏ هي أثر السجود، قال‏:‏ * ع *‏:‏ وهذا حسنٌ، وذلك لأنهم كانوا متفرِّغين متوكِّلين، لا شُغْل لهم في الأغلب إِلاَّ الصَّلاة، فكان أثَرُ السُّجود علَيْهم أبداً، والإِلحافُ، والإِلحاح بمعنى، قال‏:‏ * ع *‏:‏ والآيةُ تحتملُ معنيين‏.‏

أحدهما‏:‏ نفْي السؤال جملة، وهذا هو الذي عليه الجمهورُ؛ أنهم لا يسألون البَتَّة‏.‏

والثاني‏:‏ نَفْي الإِلحاف فقَطْ، أي‏:‏ لا يظهر لهم سؤال، بل هو قليل وبإِجمال‏.‏

* ت *‏:‏ وهذا الثاني بعيدٌ من ألفاظ الآية، فتأمَّله‏.‏

* ت *‏:‏ وينبغى للفقيرِ أنْ يتعفّف في فَقْره، ويكتفي بعلْمِ ربِّه، قال الشيخُ ابن أبي جَمْرة‏:‏ وقد قال أهْلُ التوفيق‏:‏ مَنْ لَمْ يَرْضَ باليسيرِ، فهو أسير‏.‏

انتهى، وذكر عبد الملكِ بْنُ محمَّدِ بْنِ أبي القَاسِم بْن الكَرْدَبُوسِ في «الاكتفاء فِي أخبار الخُلَفَاء»، قال‏:‏ وتكلَّم علي بن أبي طالب- رضي اللَّه عنه- بتسْعِ كلماتٍ، ثلاثٌ في المناجاةِ، وثلاثٌ في الحكمة، وثلاثٌ في الآداب؛ أمَّا المناجاة، فقال‏:‏ كَفَانِي فَخْراً أَنْ تَكُونَ لِي رَبًّا، وكَفَانِي عِزًّا أَنْ أَكُونَ لَكَ عَبْداً، وَأَنْتَ كَمَا أُحِبُّ، فاجعلني كَمَا تُحِبُّ، وَأَمَّا الحِكْمَةُ، فَقَالَ‏:‏ قِيمَةُ كُلِّ امرئ مَا كَانَ يُحْسِنُهُ، وَمَا هَلَكَ امرؤ عَرَفَ قَدْرَ نَفْسِهِ، وَالمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ، وَأَمَّا الآدَابُ، فَقَالَ‏:‏ استغن عَمَّنْ شِئْتَ، فَأَنْتَ نَظِيرُهُ، وَتَفَضَّلْ على مَنْ شِئْتَ، فَأَنْتَ أَمِيرُهُ، واضرع إلى مَنْ شِئْتَ، فَأَنْتَ أَسِيرُهُ‏.‏ انتهى‏.‏

ولما كانتِ السيما تدلُّ على حال صاحبِها، ويعرف بها حاله، أقامَها اللَّه سبحانه مُقَامَ الإِخبار عن حَالِ صاحبِها، فقال‏:‏ «تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ»، وقد قال الشيخُ العارفُ باللَّهِ صاحبُ «الكَلِمِ الفارقيَّة والحِكَمِ الحقيقيَّة»‏:‏ كلُّ ما دلَّ على معنًى، فقد أخبر عنه، ولو كان صامتاً، وأشار إليه، ولو كان ساكتاً، لكنَّ حصول الفهْمِ والمعرفةِ بحَسَب اعتبار المعتَبِرِ، ونَظَر المتأمِّل المتدبِّر‏.‏ انتهى‏.‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ وفي الآية تنبيهٌ على سوء حالة من يسأل النَّاسَ إِلحافاً، وقال‏:‏ * ص *‏:‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْئَلُونَ الناس إِلْحَافاً‏}‏، إِذا نُفِيَ حُكْمٌ مِنْ محكومٍ عليه بقَيْدٍ، فالأكثر في لسانهم انصراف النفْيِ إلى ذلك القيدِ، فالمعنى على هذا‏:‏ ثبوتُ سؤالهم، ونَفْي الإِلحاح، ويجوز أنْ ينفي الحُكْم، فينتفي ذلك القَيْد، فينتفي السؤالُ والإِلحاح، وله نظائر‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ‏}‏‏:‏ وعدٌ محضٌ، أي‏:‏ يعلمه، ويحصيه؛ ليجازي عليه، ويثيب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏274- 277‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏274‏)‏ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏275‏)‏ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ‏(‏276‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏277‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يُنفِقُونَ أموالهم باليل والنهار‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال ابْنُ عَبَّاس‏:‏ نزلَتْ هذه الآية في عليِّ بن أبِي طَالِبٍ- رضي اللَّه عنه- كانَتْ لِه أربعةُ دراهِمَ، فتصدَّق بدرهمٍ لَيْلاً، وبدرهمٍ نَهَاراً، وبدرهمٍ سرًّا، وبدرهمٍ علانيةً، وقال قتادةُ‏:‏ نزلَتْ في المنْفِقِينَ في سبيل اللَّه مِنْ غَيْر تبذيرٍ ولا تقتيرٍ، قال‏:‏ * ع *‏:‏ والآية، وإنْ كانَتْ نزلَتْ في عليٍّ- رضي اللَّه عنه- فمعناها يتناولُ كُلَّ مَنْ فعل فِعْلَه، وكلَّ مشَّاءٍ بصدَقَته في الظلم إِلى مَظِنَّةِ الحاجة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يَأْكُلُونَ الربا‏}‏ ‏{‏الربا‏}‏‏:‏ هو الزيادةُ، مأخوذ من‏:‏ رَبَا يَرْبُو، إِذا نَمَا، وزاد على ما كان، وغالبه‏:‏ ما كانت العربُ تفعله من قولها للغريم‏:‏ «أَتَقْضِي، أَمْ تُرْبِي»، فكان الغريم يزيدُ في عدد المالِ، ويصبر الطالب عليه، ومن الربا البيِّن التفاضُلُ في النوع الواحِدِ؛ وكذلك أكثر البيوعِ الممنوعَة، إِنما تجد منْعها لمعنى زيادةٍ؛ إِما في عينِ مالٍ، أو في منفعةٍ لأحدهما مِنْ تأخيرٍ ونحوه، ومعنى الآية‏:‏ الذين يكْسِبُون الربا، ويفعلونه، وإِنما قصد إِلى لفظة الأكْل؛ لأنها أقوى مقاصدِ الناسِ في المَالِ، قال ابن عبَّاس وغيره‏:‏ معنَى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَ يَقُومُونَ‏}‏، أي‏:‏ من قبورِهِمْ في البَعْثِ يوم القيامة إِلاَّ كما يقومُ الَّذي يتخبَّطه الشيطانُ من المَسِّ، قالوا‏:‏ كلُّهُم يُبْعَثُ كالمَجْنُونِ؛ عقوبةً له وتمقيتاً عند جميع المَحْشَرِ؛ ويقوِّي هذا التأويلَ المجْمَع علَيْه أنَّ في قراءة عبد اللَّه بن مسعود‏:‏ «لاَ يَقُومُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا‏}‏ معناه؛ عند جميع المتأولين‏:‏ في الكفار، وأنه قول بتكذيب الشريعة، والآية كلُّها في الكفار المُرْبِينَ، نزلَتْ، ولهم قيلَ‏:‏ ‏{‏فَلَهُ مَا سَلَفَ‏}‏، ولا يقال ذلك لمؤمنٍ عاصٍ، ولكن يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيدِ هذه الآيةِ، ثم جزم اللَّه سبحانه الخَبَر في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا‏}‏، قيل‏:‏ هذا من عموم القُرآن المخصَّص، وقيل‏:‏ من مُجْمَلِهِ المبيَّن، قال جعفر بن محمَّدٍ الصَّادِقُ‏:‏ وحرم اللَّه الربَا؛ ليتقارض النَّاسُ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَهُ مَا سَلَفَ‏}‏، أي‏:‏ من الربا؛ لا تباعة علَيْه في الدنيا والآخرة، وهذا حكْمٌ مِنَ اللَّه سبحانه لِمَنْ أسلم من الكفار، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمْرُهُ إِلَى الله‏}‏ أربعُ تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أمْرُ الربا في إِمرار تحريمه وغير ذلك‏.‏

والثاني‏:‏ أمر ما سَلَف، أي‏:‏ في العفْوِ وإِسقاطِ التَّبَعَةِ فيها‏.‏

والثالث‏:‏ أنَّ الضمير عائدٌ على ذي الربا؛ بمعنى‏:‏ أمره إِلى اللَّه في أنْ يثبته على الاِنتهاء أو يعيدَهُ إِلى المعصية‏.‏

والرابع‏:‏ أنْ يعود الضميرُ على المنتهى، ولكنْ بمعنى التأنيسِ له، وبَسْط أمله في الخَيْر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عَادَ‏}‏، يعني‏:‏ إِلى فِعْلِ الربا، والقولِ؛ إِنما البيعُ الرِّبَا، والخلودُ في حق الكافر‏:‏ خلودُ تأبيدٍ حقيقيّ، وإِن لحظنا الآيةَ في مُسْلمٍ عاصٍ، فهو خلودٌ مستعارٌ على معنى المبالغة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات‏}‏، ‏{‏يَمْحَقُ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ ينقص، ويذهب؛ ومنه‏:‏ مِحَاقُ القَمَرِ، وهو انتقاصه، ‏{‏وَيُرْبِي الصدقات‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ ينميها، ويزيد ثوابها تضاعفاً، تقولُ‏:‏ رَبَتِ الصدقةُ، وأرْبَاهَا اللَّه تعالى، وربَّاهَا، وذلك هو التضعيفُ لمن يشاء؛ ومنه قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إِنَّ صَدَقَةَ أَحَدِكُمْ لَتَقَعُ فِي يَدِ اللَّهِ تعالى، فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أوْ فَصِيلَهُ؛ حتى تَجِيءَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وإِنَّ اللُّقْمَةَ لعلى قَدْرِ أُحُدٍ ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ * ع *‏:‏ وقد جعل اللَّه سبحانه هذَيْن الفعلَيْن بعَكْس ما يظنُّه الحريصُ الجَشِيعُ من بني آدم؛ إِذ يظن الربا يغنيه، وهو في الحقيقة مُمْحَقٌ، ويظن الصدَقَةَ تُفْقِرُه، وهي في الحقيقة نماءٌ في الدنيا والآخرة، وعن يزيدَ بْنِ أبي حَبِيبٍ؛ أن أبا الخَيْرِ حدَّثه؛ أنَّه سمع عقبة ابن عَامِرٍ يقولُ‏:‏ سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ كُلُّ امرئ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ؛ حتى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ ‏"‏ أوْ قَالَ‏:‏ ‏"‏ حتى يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ ‏"‏، قال يزيد‏:‏ وكان أبو الخَيْرِ لاَ يُخْطِئُهُ يَوْمٌ لاَ يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ فِيهِ، وَلَوْ كَعْكَةٍ أَوْ بَصَلَةٍ، قال الحاكم‏:‏ صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرِّجاه، يعني‏:‏ البخاريَّ ومسلماً‏.‏ انتهى من «الإلمام في أحاديث الأحكام»؛ لابن دقيقِ العيدِ‏.‏

قال الشيخُ ابن أبي جَمْرَة‏:‏ ولا يُلْهَمُ لِلصدقةِ إِلاَّ مَنْ سبقَتْ له سابقةُ خَيْر‏.‏ انتهى‏.‏

قال أبو عمر في «التمهيد»‏:‏ وروي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَا أَحْسَنَ عَبْدٌ الصَّدَقَةَ إِلاَّ أَحْسَنَ اللَّهُ الخِلاَفَةَ على بَنِيهِ، وَكَانَ فِي ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ، وحُفِظَ فِي يَوْمِ صَدَقَتِهِ مِنْ كُلِّ عَاهَةٍ وَآفَةٍ ‏"‏ انتهى‏.‏

وروى أبو داود في «سننه»، أنَّ سَعْدَ بْنَ عْبَادَةَ، قَالَ‏:‏ ‏"‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ، فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ المَاءُ، فَحَفَرَ بئْراً، وَقَالَ‏:‏ هَذِهِ لأُمِّ سَعْدٍ ‏"‏‏.‏ وروى أبو داود في «سننه»، عن أبي سعيدٍ، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ أَيُّمَا مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلَماً ثَوْباً على عُرْيٍ، كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الجَنَّةِ، وأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِماً على جُوعٍ، أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سقى مُسْلِماً على ظَمَإٍ، سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ المَخْتُومِ ‏"‏ انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ‏}‏ يقتضي الزجْرَ للكفَّارِ المستحلِّين للربا، ووصْف «الكَفَّار» ب «أثيم» إِما مبالغةٌ من حيثُ اختلف اللفظانِ، وإِما ليذهب الاشتراكُ الذي في «كَفَّار»؛ إِذ قد يقع على الزَّارِعِ الذي يستر الحَبَّ في الأرض، قاله ابنُ فُورَكَ‏.‏

ولما انقضى ذكْر الكافرين، عقَّب سبحانه بذكْرِ ضدِّهم؛ ليبين ما بين الحالَتَيْنِ، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين ءَامَنُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، وقد تقدَّم تفسير مثل هذه الألفاظ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏278- 281‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏278‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ‏(‏279‏)‏ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏280‏)‏ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏281‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ سبَبُ هذه الآيةِ أنه لما افتتح النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكَّة، قال في خُطْبَتِهِ اليَوْمَ الثانِيَ من الفَتْح‏:‏ ‏"‏ ألا كُلُّ رِباً فِي الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِباً أَضَعُهُ رِبَا العَبَّاسِ ‏"‏ فبدأ صلى الله عليه وسلم بعَمِّه، وأخَصِّ الناسِ به، وهذه من سنن العَدْلِ للإِمام أنْ يفيض العَدْل على نَفْسه وخاصَّته، فيستفيض في النَّاس، ثم رجع رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إِلى المدينةِ، واستعمل على مكَّة عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ، فلمَّا استنزل صلى الله عليه وسلم أهْلَ الطائِفِ بَعْد ذلك إِلى الإِسْلامِ، اشترطوا شُرُوطاً، وكان في شروطهم‏:‏ أنَّ كُلَّ رباً لهم على النَّاسِ؛ فإِنهم يأخذونه، وكُلُّ رباً علَيْهم، فهو موضُوعٌ، فيروى؛ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَّر لهم هذه، ثم ردَّها اللَّه بهذه الآية؛ كما ردَّ صُلْحَه لكُفَّار قُرَيْش في ردِّ النِّسَاءِ إِليهم عامَ الحُدَيْبِية، وذكَرَ النَّقَّاش روايةً؛ ‏"‏ أنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ فِي أَسْفَلِ الكِتَابِ لِثَقِيفٍ‏:‏ «لَكُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيهِمْ» ‏"‏، فلما جاءَتْ آجال رِبَاهُمْ، بعثوا إِلى مكَّة لِلاقتضاءِ، وكانَتْ على بني المُغِيرَةِ للمَخْزُومِيِّينَ، فقال بنو المُغِيرَةِ‏:‏ لا نُعْطِي شَيئاً؛ فإِن الربَا قد وُضِعَ، ورفعوا أمرهم إِلى عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ بمكَّة، فَكَتَب به إلى رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتِ الآية، وكتَبَ بها رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى عتَّابٍ، فعلمتْ بها ثقيفٌ، فكَفَّت‏:‏ هذا سببُ الآية على اختصارٍ ممَّا روى ابْنُ إِسحاق، وابْنُ جُرَيْجٍ، والسُّدِّيُّ وغيرهم‏.‏

فمعنى الآية‏:‏ اجعلوا بينكم وبيْنَ عذابِ اللَّهِ وقايةً بترككمْ ما بَقِيَ لكُمْ من رباً، وصَفْحِكُمْ عنه، ثم توعَّدَهُمْ تعالَى، إِن لم يذروا الربَا بحَرْبٍ منه، ومِنْ رسوله، وأمَّته، والحَرّب داعية القَتْلِ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأْذَنُواْ‏}‏ قال سِيبَوَيْهِ‏:‏ آذَنْتُ‏:‏ أعْلَمْتُ‏.‏

* ت *‏:‏ وهكذا فسره البخاريُّ، فقال‏:‏ قال أبو عبد اللَّهِ‏:‏ فَأذَنُوا، فاعلموا، وقال‏:‏ * ع *‏:‏ هي عنْدِي من الأَذَنِ، وقال ابن عَبَّاس وغيره‏:‏ معناه فاستيقنوا بحَرْبٍ‏.‏

ثم ردَّهم سبحانه مع التوبة إِلى رءوس أموالهم، وقال لهم‏:‏ لا تَظْلِمُونَ في أخذِ الزائِدِ، ولا تُظْلَمُونَ في أنْ يتمسَّك بشيء من رءوس أموالكُمْ، ويحتمل لا تَظْلِمُونَ في مَطْلٍ، لأن مَطْل الغنيِّ ظُلْمٌ؛ كما قال- عليه الصلاة والسلام- فالمعنى أنه يكون القضاءُ، مع وضْعِ الربا؛ وهكذا سنة الصُّلْح، وهذا أشبه شيء بالصُّلْح؛ ألا ترى أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أشارَ على كَعْبِ بْنِ مالِكٍ في دَيْنِ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ بِوَضْعِ الشَّطْرِ، فقال كَعْبٌ‏:‏ نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلآخَرِ‏:‏ «قُمْ، فاقضه»، فَتلقَّى العلماءُ أمره بالقَضَاء سُنَّةً في المصالَحَاتِ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ‏}‏ حكم اللَّه تعالى لأرباب الربَا برُءُوس أموالهم عنْدَ الواجدين للمال، ثم حكم في ذِي العُسْرَةِ بالنَّظَرَةِ إِلى حال اليُسْرِ، والعُسْرُ‏:‏ ضيقُ الحالِ من جهة عدمِ المالِ، والنَّظِرَةُ التأخيرُ‏.‏

* ت *‏:‏ وفي «الصحيحين» عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ‏:‏ ‏"‏ كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ‏:‏ إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِراً، فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، قَالَ‏:‏ فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ ‏"‏، وفي «صحيح مسلمٍ»‏:‏ ‏"‏ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كَرْبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ ‏"‏، وفي روايةٍ‏:‏ ‏"‏ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أنْجَاهُ اللَّهُ مِنْ كَرْبِ يَوْمِ القِيَامَةِ ‏"‏، وفي رواية‏:‏ ‏"‏ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ ‏"‏ انتهى‏.‏

والمَيْسَرَةُ‏:‏ مصدرٌ بمعنى اليُسْرِ، وارتفع‏:‏ «ذُو عُسْرَةٍ» ب «كان» التامة الَّتي هي بمعنى‏:‏ «وُجِدَ، وَحَدَثَ»، وارتفعَ قَوْلِه‏:‏ «فَنَظِرَةٌ»؛ علَى خبر ابتداءٍ مقدَّر، تقديره فالواجبُ نَظِرَةٌ‏.‏

واختلف أهْلُ العلْمِ هلْ هذا الحُكْم بالنَّظِرَةِ إِلى الميسرةِ واقفٌ على أهل الربا خاصَّة، وهو قول ابن عبَّاس، وشُرَيْح، أو هو منسحبٌ على كلِّ دَيْنٍ حلالٍ، وهو قولُ جمهور العلماء‏؟‏

* ع *‏:‏ وما قاله ابن عبَّاس إِنما يترتَّب، إِذا لم يكُنْ فقر مُدْقِعٌ، وأما مع الفقر والعُدْمِ الصريحِ، فالحُكْمُ هي النَّظِرة ضرورةً‏.‏

* ت *‏:‏ ولا يخالف ابن عبَّاس في ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏‏:‏ نَدَبَ اللَّه بهذه الألفاظ إِلى الصدَقَة على المُعْسِر، وجعل ذلك خيراً من إنظاره، قاله جمهور العلماء‏.‏

وروى سعيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، عن عمر بن الخَطَّاب؛ أنه قَالَ‏:‏ كان آخر ما نَزَلَ من القُرآن آية الربا، وقُبِضَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ولَمْ يفسِّرْها لَنَا، فدَعُوا الرِّبَا والرِّيبَةَ‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ آخر ما نزل آية الربا‏.‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ ومعنى هذا عنْدي، أنها من آخر ما نَزَلَ؛ لأن جمهور النَّاس؛ ابنُ عبَّاس، والسُّدِّيُّ، والضَّحَّاك، وابنُ جْرَيجٍ، وغيرهم، قالوا‏:‏ آخر آية نزلَتْ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله‏}‏، ورُوِيَ أَنَّ قوله‏:‏ ‏{‏واتقوا‏}‏ نزلَتْ قبل موْتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بِتِسْعِ ليالٍ، ثم لم ينزلْ بعدها شيْءٌ، ورُوِيَ بثلاثِ ليالٍ، وروي أنَّها نزلَتْ قبل موتِهِ بثَلاَثِ ساعَاتٍ، وأنَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ اجعلوها بَيْنَ آيَةِ الرِّبَا وَآيَةِ الدَّيْنِ ‏"‏، وحكى مَكِّيٌّ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ‏:‏ اجعلها على مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنَ البَقَرةِ ‏"‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، وعْظٌ لجميعِ الناسِ، وأمْرٌ يخصُّ كلَّ إِنسان‏.‏

* ت *‏:‏ حدَّثني من أثقُ به؛ أنه جَلَسَ عند شَيْخٍ من الأفاضلِ يُجَوَّدُ علَيْه القُرآن، فقرئَتْ عليه هذه الآيةُ، فبكى عندها، ثم بكى، إلى أَنْ فاضتْ نفْسُه، ومَالَ، فحَرَّكُوه، فإِذا هو مَيِّتٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ونَفَعَ بِهِ، يَا هَذَا، مَنْ صَحَا عَقْلُه مِنْ سُكْر هواه، وجَهْلِهِ، احترق بنَارِ النَّدَمِ والخَجَلِ مِنْ مهابة نَظَرِ ربِّه، وتنكَّرت صُورةُ حالِهِ في عَيْنِهِ نفوسَ الأغبياءِ الجُهَّال، غَافِلَةً عن العظمة والجَلاَل، ولاَهِيَةً عن أهْوَال المَعَاد والمَآل، مَشْغُولَةً برذائلِ الأفْعَال، وفُضُولِ القِيلِ والقَال، والاِستنباطِ والاِحْتِيَالِ؛ لاِزدياد الأمْوَال، ولا يَعْلَمُون أنَّها فِتْنَةٌ وَوَبَال، وطُولُ حِسَابٍ وبَلاَء وبَلْبَالَ، اغتنموا، يا ذوِي البَصَائر نعْمَةَ الإِمهال، واطرحوا خَوَادِع الأمانِي، وكَوَاذِب الآمال، فكأنْ قد فجأتْكُم هواجمُ الآجال‏.‏ انتهى من «الكَلِمِ الفارقيَّة، فِي الحِكَمِ الحقيقيَّة»‏.‏

و ‏{‏يَوْماً‏}‏‏:‏ نصب على المفعول، لا على الظرف، وجمهور العلماء على أنَّ هذا اليوم المحذَّر منه هو يومُ القيامةِ، والحِسَابِ والتوفيةِ، وقال قومٌ‏:‏ هو يوم المَوْت، والأول أصَحُّ، وهو يومٌ تنفطرُ لذكْره القُلُوب، وفي هذه الآيةِ نصٌّ على أنَّ الثواب والعقابَ متعلِّق بكَسْب الإِنْسَان، وهذا ردٌّ على الجبريَّة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏282‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏282‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

قال ابن عبَّاس‏:‏ هذه الآية نزلَتْ في السَّلَمِ خاصَّة، قال‏:‏ * ع *‏:‏ معناه أنَّ سَلَمَ أهْلِ المدينة كانَ سَبَبَ الآيةِ، ثم هِيَ تتناوَلُ جميعَ المدايَنَات؛ إجماعاً، ووصفُهُ الأَجَلَ ب ‏{‏مُّسَمًّى‏}‏- دليلٌ على أنَّ الجهالة لا تجوزُ، وقال جمهورُ العلماء‏:‏ الأمر بالكَتب ندْبٌ إِلى حفظ الأموال، وإِزالة الرّيب، وإِذا كان الغريمُ تقيًّا، فما يضرُّه الكَتْب، وإِن كان غير ذلك، فالكتب ثقافٌ في دَيْنِهِ وحَاجَة صاحبِ الحقِّ، قال بعضهم‏:‏ إِن أشهدتَّ، فحَزْمٌ، وإِن ائتمنت، ففي حِلٍّ وَسَعةٍ‏.‏

* ع *‏:‏ وهذا هو القول الصحيحُ، ثم علم تعالى أنه سيقع الاِئتمانُ، فقال‏:‏ إِن وقع ذلك، ‏{‏فَلْيُؤَدِّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏ الآية، فهذه وصيَّة للذِينَ علَيْهم الدُّيون‏.‏

واختلف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ‏}‏‏.‏

فقال عطاءٌ، والشَّعْبِيُّ‏:‏ واجبٌ على الكاتِبِ أنْ يكْتُبَ، إِذا لم يوجَدْ سواه، وقال السُّدِّيُّ‏:‏ هو واجبٌ مع الفَرَاغ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بالعدل‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ بالحَقِّ، ثم نهى اللَّه سبحانه الكُتَّابَ عن الإباءَة، وحكى المَهْدَوِيُّ عن الرَّبِيعِ، والضَّحَّاك؛ أنَّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْبَ‏}‏ منسوخٌ بقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ‏}‏، قال * ع *‏:‏ أما إذا أمكن الكتاب، فلَيْسَ يجبُ الكَتْب على معيَّن، بل له الاِمتناع، إِلا إِذا استأجره، وأمَّا إِذا عدم الكاتبُ، فيتوجَّه وجوبُ النَّدْب حينئِذٍ على الكَاتِبِ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الاية‏:‏ أَمَرَ اللَّه تعالى الَّذي علَيْه الحقُّ بالإِملال؛ لأنَّ الشهادة، إِنما تكونُ بحَسَب إِقراره، وإِذا كتبت الوثيقةُ، وأقر بها، فهي كإمْلاله، والبَخْسُ‏:‏ النقْصُ بنوعٍ من المخادَعَة، والمُدَافعة، وهؤلاءِ الذين أُمِرُوا بالإِملال هم المالكُون لأنفسهم، إِذا حَضَرُوا‏.‏

ثم ذكر تعالى ثلاثةَ أنواعٍ تقَعُ نوازلُهُمْ في كلِّ زمانٍ، فقال‏:‏ «فَإن كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحقُّ سَفِيهاً»، والسفيهُ‏:‏ الهَلْهَل الرأي في المالِ، الذي لا يحسنُ الأخذ لنَفْسِهِ ولا الإِعطاء منْها؛ مشبَّه بالثوْبِ السَّفِيهِ، وهو الخفيفُ النَّسْجِ، والسَّفَهُ‏:‏ الخِفَّة، وهذه الصفة في الشريعةِ لا تخلُو من حجر أبٍ، أو وصيٍّ وذلك هو وليُّه، ثم قال‏:‏ ‏{‏أَوْ ضَعِيفًا‏}‏، والضعيفُ‏:‏ هو المدخُولُ في عَقْلِهِ، وهذا أيضاً قد يكونُ وليُّه أَباً أو وصيًّا، والذي لا يستطيعُ أن يُمِلَّ هو الصغيرُ، ووليُّه وصيُّه أو أبوه، والغائبُ عن موضعِ الإشهاد لمرضٍ أو لغيرِ ذلك مِنَ الأعذار، ووليُّه وكيلُهُ، وأمَّا الأخْرَسُ، فيسوغُ أنْ يكون من الضعفاء، والأولى أنه ممَّن لا يستطيعُ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بالعدل‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ بالحَقِّ، وقَصْدِ الصواب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستشهدوا شَهِيدَيْنِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ الاستشهادُ‏:‏ طلبُ الشهادةِ، وعبَّر ببناءِ مبالغة في «شَهِيدَيْنِ»؛ دلالةً على مَنْ قد شهد، وتكرَّر ذلك منه؛ فكأنه إِشارة إِلى العدالة، قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه»‏:‏ والصحيحُ أنَّ الأمر بالاستشهادِ محمولٌ على الندب‏.‏

اه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن رِّجَالِكُمْ‏}‏‏:‏ نصٌّ في رفضِ الكفارِ، والصِّبْيَانِ، والنِّساء، وأما العبيدُ، فاللفظ يتناولهم‏.‏

واختلف العلماء فيهم، وقولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وأبي حنيفةَ، وجمهورِ العلماءِ‏:‏ أنَّ شهادتهم لا تجوزُ، وغلبوا نقْضَ الرِّقِّ‏.‏

واسم كان الضميرُ الذي في قوله‏:‏ ‏{‏يَكُونَا‏}‏، والمعنى؛ في قول الجمهور‏:‏ فإِن لم يكن المستشْهَدُ رجلَيْنِ، وقال قومٌ‏:‏ بلْ المعنى‏:‏ فإِن لم يوجَدْ رجلانِ‏.‏

ولا يجوز استشهاد المَرْأَتَيْنِ إِلا مع عَدَم الرجال، قال‏:‏ * ع *‏:‏ وهذا قول ضعيفٌ؛ ولفظ الآية لا يعطيه، بل الظاهرُ منه قولُ الجمهور‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَرَجُلٌ وامرأتان‏}‏، أي‏:‏ فليشهدْ أو فليكُنْ رجُلٌ وامرأتان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء‏}‏‏:‏ رفعٌ في موضع الصفةِ؛ لقوله‏:‏ ‏{‏فَرَجُلٌ وامرأتان‏}‏، وهذا الخطابُ لجميعِ الناسِ، لكن المتلبِّس بهذه القصَّة هم الحُكَّام، وهذا كثيرٌ في كتاب اللَّه يعمُّ الخطابُ فيما يتلبَّس به البعْض‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏مِمَّن تَرْضَوْنَ‏}‏‏:‏ دليلٌ على أنَّ في الشهود من لا يرضى؛ فيجيء من ذلك، أنَّ الناس ليسوا بمحمولِينَ عَلَى العَدَالة؛ حتى تَثْبُتَ لهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ «أنْ» مفعولٌ من أجله، والشهادةُ لم تقع؛ لأَنْ تَضِلَّ إحْدَاهما، وإِنما وقع إِشهاد امرأتين؛ لأنّ تُذَكِّر إِحداهما، إِنْ ضلَّت الأخرى، قال سيبوَيْهِ، وهذا كما تقول‏:‏ أعْدَدتُّ هذه الخَشَبَةَ؛ أنْ يميلَ الحَائِطُ، فأدعمه‏.‏

* ع *‏:‏ ولما كانتِ النفوسُ مستشرفةً إِلى معرفة أسباب الحوادِثِ، قدم في هذه العبارة ذكْرَ سبب الأمر المقْصُود إلى أنْ يخبر به، وهذا مِنْ أبْرَعِ الفَصَاحَةِ؛ إِذ لو قال لكَ رجُلٌ‏:‏ أعْدَدْتُّ هذه الخشبةَ؛ أنْ أدعم بها هذا الحائطَ، لقال السامعُ‏:‏ ولِمَ تدعم حائطاً قائماً، فيجب ذكر السبب، فيقال‏:‏ إِذا مَالَ، فجاء في كلامِهِمْ تقديمُ السَّبَبِ أخْصَرَ من هذه المحاورة، قال أبو عبيد‏:‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏تَضِلَّ‏}‏ تنسى‏.‏

* ع *‏:‏ والضَّلال عن الشهادة‏:‏ إِنما هو نسيانُ جزءٍ منها، وذكْرُ جزء، ويبقَى المرء بَيْن ذلك حيرانَ ضَالاًّ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال قتادة وغيره‏:‏ معنى الآيةِ‏:‏ إِذا دُعُوا أنْ يشهدوا، وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ الآيةُ جمعت أمرَيْن‏:‏ لا تأب إِذا دُعِيتَ إلى تحصيل الشهادةِ، ولا إِذا دُعِيتَ إِلى أدائها وقاله ابن عباس، وقال مجاهد‏:‏ معنى الآيةِ لا تأبَ، إِذا دُعِيتَ إِلى أداء شهادة قد حصَلَتْ عندك، وأسند النَّقَّاشُ إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّه فسر الآية بهذا‏.‏

* ت *‏:‏ وهذا هو الحقيقة في الآيةِ، وأما تسمية الشيْءِ بِما يَئُولُ إِليه، فمجازٌ، والشاهد حقيقةً من حصَلَتْ له الشهادة، قال مجاهد‏:‏ فأما إِذا دُعِيتَ أوَّلاً، فإِن شئْت؛ فاذهب، وإِن شئت، فلا تذهب»، وقاله جماعة، قال‏:‏ * ع *‏:‏ والآية كما قال الحَسَنُ جمعتْ أمرَيْنِ، والمسلمون مندوبون إِلى معونة إِخوانهم، فإِذا كانت الفُسْحَة لكَثْرة الشهودِ والأَمْنِ مِنْ تعطُّل الحق، فالمدعُّو مندوبٌ، وإِن خِيفَ تَلَفُ الحقِّ بتأخُّر الشاهد، وجب عليه القيام بها؛ سِيَمَا إِن كانت محصَّلةً، ودُعِيَ لأدائها، فهذه آكَدُ؛ لأنها قِلاَدَةٌ في العُنُق وأمانةٌ تقتضي الأداء‏.‏

* م *‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْبَ الشهداء‏}‏، قال أبو البقاءِ‏:‏ مفعولُ «يأب» محذوفٌ، أي‏:‏ ولا يأب الشهداءُ إِقامةَ الشهادةِ أو تحمُّل الشهادةِ، «وإِذا»‏:‏ ظرفٌ ل «يَأْبَ»، ويحتمل أنْ يكون ظرفاً للمفعول المحذوفِ‏.‏ اه‏.‏

وَ ‏{‏تَسْئَمُواْ‏}‏‏:‏ معناه تَملُّوا، وقدَّم الصغير؛ اهتماما به، و‏{‏أَقْسَطُ‏}‏‏:‏ معناه أعدلُ، و‏{‏أَقْوَمُ‏}‏، أي‏:‏ أشدُّ إقامةً، وقيل‏:‏ أقْوَمُ، من‏:‏ قَامَ؛ بمعنى‏:‏ اعتدل، و‏{‏أدنى‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ أقربُ، و‏{‏تَرْتَابُواْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ تَشُكُّوا‏.‏

قال ابنُ هِشَامٍ‏:‏ ‏{‏إِلَى أَجَلِهِ‏}‏‏:‏ لا يصحُّ تعلُّقه ب «تَكْتُبُوهُ»؛ لاِقتضائه استمرار الكتابة إِلى أجل الدَّيْن، وإِنما هو حالٌ، أي‏:‏ مستقِرًّا في الذِّمَّة إِلى أجله‏.‏ اه من «المُغْنِي»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ لما علمَ اللَّه سبحانه مشَقَّة الكتْب عليهم، نصَّ على ترك ذلك، ورَفْعِ الجُنَاح فيه، في كلِّ مبايعة بنَقْد، وذلك في الأغلَبِ، إِنما هو في قليلٍ كالطَّعام ونحوه، لا في كثير؛ كالأملاك ونحوها، وقال السُّدِّيُّ، والضَّحَّاك‏:‏ هذا فيما كان يداً بيدٍ، تأخذ وتُعْطي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تُدِيرُونَهَا‏}‏‏:‏ يقتضي التقابُضَ والبينونَةَ في المقبوضِ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ‏}‏، اختلف، هَلْ ذلك على الوجوب، أوْ على النذب‏؟‏ والوجوبُ في ذلك قَلِقٌ؛ أمَّا في الدقائق، فصعب شاقٌّ، وأما ما كَثُر، فربَّما يقصد التاجر الاِستِئْلافَ بتَرْك الإِشهاد إِلى غير ذلك من المصالِحِ، فلا يُشْهِد، ويدخل ذلك كله في الائتمان، ويبقَى الأمر في الإِشهاد نَدْباً؛ لما فيه من المصلحة في الأغلب، وحكى المهدويُّ عن قومٍ؛ أنهم قالوا‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ‏}‏ منسوخٌ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَمِنَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏ الآية‏:‏ وذكره مكِّيٌّ عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ‏.‏

واختلف النَّاس في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ‏}‏، أي‏:‏ كاختلافهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏، هل الفعلُ مسند إِلى الفاعل، فأصله‏:‏ «وَلاَ يُضَارُ كَاتِبٌ ولاَ شَهِيدٌ»؛ بكسر الراء، وقيل‏:‏ مسندٌ إِلى المفعول الذي لم يسمَّ فعله، فأصله‏:‏ «وَلاَ يُضَارَرُ»؛ بفتحها‏.‏

* ع *‏:‏ ووجوه المضارَّة لا تنحصرُ، وفكُّ الفعْلِ هي لغةُ الحجازِ، والإِدغامُ لغة تَمِيمٍ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ‏}‏؛ أيْ‏:‏ وإِنْ تفعلوا المضارَّة، وقوله‏:‏ ‏{‏بِكُمْ‏}‏، أي‏:‏ حَالٌّ بِكُمْ‏.‏

وباقي الآية موعظةٌ وتهديدٌ، واللَّه المستعانُ لا ربَّ غيره، وقيل‏:‏ معنى الآية الوعْدُ؛ لأنَّ من اتقى عُلِّمَ الخَيْرَ وأُلْهِمَهُ‏.‏

* ت *‏:‏ وفي «العتبية» مِنْ سماع ابن القَاسِمِ، قال‏:‏ سَمِعْتُ مالكاً يقولُ‏:‏ سَمِعْتُ أنَّه يقالُ‏:‏ ما زَهِدَ عَبْدٌ، واتقى اللَّهَ إِلا أنْطَقَهُ اللَّهُ بالحكْمَة‏.‏ اه‏.‏

والمراد بهذا العلْمِ العلْمُ النافعُ الَّذي يُورِثُ الخشيةَ؛ قال أبو عُمَرَ بنُ عبْدِ البَرِّ‏:‏ رُوِّينَا عنْ مَسْروقٍ، قال‏:‏ «كفى بالمَرْءِ عَلْماً أنْ يخشَى اللَّهَ، وكفى بالمَرْءِ جهلاً أنْ يُعْجَب بعلْمه»، أبو عمر‏:‏ إِنما أعرفه بعَمَلِهِ‏.‏ اه من كتاب «فضل العلْمِ»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏283- 285‏]‏

‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏283‏)‏ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏284‏)‏ آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏(‏285‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ لما ذكر اللَّه تعالى الندْبَ إِلى الإِشهاد، والكتْبِ؛ لمصلحة حفظ الأموال والأديان عقَّب ذلك بذكْر حال الأعذار المانعة من الكتب، وجعل بدلها الرهْنَ، ونصَّ على السفر؛ إِذ هو الغالب من الأعذار، ويدخل في ذلك بالمعنى كلُّ عذر‏.‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ رَهَنَ الشَّيْءَ؛ في كلام العرب معناه‏:‏ دَامَ، واستمر، قيل‏:‏ ولما كان الرهنُ بمعنى الثبوتِ، والدوامِ، فمِنْ ثَمَّ بطَل الرهْنُ؛ عند الفقهاء‏:‏ إِذا خرج مِنْ يد المرتَهِن إِلى يد الراهِنِ؛ لأنه فَارَقَ ما جُعِلَ له‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّقْبُوضَةٌ‏}‏‏:‏ هي بينونةُ المرتَهَنِ بالرَّهْن‏.‏

وأجمع الناس على صحَّة قَبْض المرتَهَن؛ وكذلك على قبض وكيله؛ فيما علمتُ‏.‏

واختلفوا في قَبْض عدلٍ يوضَعُ الرهْنُ على يدَيْه‏.‏

فقال مالك، وجميعُ أصحابه، وجمهور العلماء‏:‏ قَبْض العَدْل قبضٌ‏.‏

وقال الحَكَم بن عُتَيْبَةَ، وغيره‏:‏ ليس بقَبْض‏.‏

وقولُ الجمهورِ أصحُّ؛ من جهة المعنى في الرهن‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا‏}‏‏:‏ شرطٌ ربَطَ به وصيَّةَ الذي علَيْه الحقُّ بالأداء‏.‏

قال ابن العربيِّ في «أحكامه»‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ إن أسقط الكَتْبَ، والإِشهادَ، والرَّهْنَ، وعوَّل على أمانة المعامَلِ، فليؤدِّ الأمانةَ، وليتَّقِ اللَّه ربَّه؛ وهذا يبيِّن أنَّ الإِشهاد ليس بواجبٍ؛ إِذ لو كان واجباً، لما جاز إِسقاطه، ثم قال‏:‏ وجملة الأمر أنَّ الإِشهاد حزْم، والاِئتمانَ ثقةٌ باللَّه تعالى من الدائنِ، ومروءةٌ من المِدْيَان، ثم ذكر الحديثَ الصحيحَ في قصَّة الرَّجُل من بني إِسرائيل الذي استسْلَفَ ألْفَ دينارٍ، وكيف تَعَامَلاَ على الائتمان، ثم قال ابنُ العربيِّ‏:‏ وقد رُوِيَ عن أبي سعيد الخدريِّ؛ أنه قرأ هذه الآية، فقال‏:‏ هذا نسخ لكلِّ ما تقدَّم، يعني‏:‏ من الأمر بالكَتْب، والإِشهاد، والرهن‏.‏ اه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَلْيُؤَدِّ‏}‏‏:‏ أمر بمعنى الوجوبِ، وقوله‏:‏ ‏{‏أمانته‏}‏‏:‏ مصْدَرٌ سُمِّيَ به الشيْء الذي في الذمَّة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ نهي فيه تهديدٌ ووعيدٌ، وخص تعالى ذكْر القَلْب؛ إذ الكَتْم من أفعاله، وإِذ هو البُضْعَةُ التي بصلاحها يصْلُحُ الجَسَدُ كُلُّه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏ توعُّدٌ، وإِنْ كَانَ لفظُها يعمُّ الوعيدَ والوَعْدَ‏.‏

وروى البَزَّارُ في «مسنده»، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ مشى إلى غَرِيمِهِ بِحَقِّهِ، صَلَّتْ عَلَيْهِ دَوَابُّ الأَرْضِ، وَنُونُ المَاءِ، ونَبَتَتْ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ شَجَرَةٌ، تُغْرَسُ فِي الجَنَّةِ، وَذَنْبُهُ يُغْفَرُ ‏"‏ اه من «الكوكب الدري»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ المعنى‏:‏ جميعُ ما في السمواتِ، وما في الأرض مِلْكٌ له سُبْحَانَهُ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏مَا فِي أَنفُسِكُمْ‏}‏ يقتضي قوَّةُ اللفظ أنَّه ما تقرَّر في النفْسِ، واستصحبت الفكْرةَ فيه، وأما الخواطر التي لا يُمْكِنُ دفْعُها، فليسَتْ في النفْسِ، إِلا على تجوُّز‏.‏

واختلف في معنى هذه الآية‏.‏

فقال عِكْرِمَةُ وغيره‏:‏ هي في معنى الشهادةِ التي نُهِيَ عن كتمها، فلفظ الآية؛ على هذا التأويل‏:‏ العمومُ، ومعناه الخصوصُ؛ وكذا نقل الثعلبيُّ‏.‏

وقال ابن عبَّاس‏:‏ وأبو هريرة، وجماعةٌ من الصَّحابة والتابعين‏:‏ إِن هذه الآية، لَمَّا نزلَتْ، شَقَّ ذلك على الصَّحابة، وقالوا‏:‏ هَلَكْنَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ حُوسِبْنَا بِخَوَاطِرِ نُفُوسِنَا، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لكِنَّهُ قَالَ لَهُمْ‏:‏ ‏"‏ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا، كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ‏:‏ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، بَلْ قُولُوا‏:‏ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا فَقَالُوهَا‏:‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏؛ ونَسَخ بِهَذِهِ تِلْكَ ‏"‏ هذا معنى الحديثِ الصحيحِ، وله طرقٌ من جهاتٍ، واختلفتْ عباراته، وتعاضَدَتْ عبارةُ هؤلاء القائلين بلفظة النَّسْخِ في هذه النازلةِ‏.‏

وقال ابن عبَّاس‏:‏ لما شقَّ ذلك علَيْهم، فأنزل اللَّه تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، فنسختِ الوسوسةُ، وثَبَتَ القوْلُ، والفعْلُ‏.‏

وقال آخرون‏:‏ هذه الآيةُ محكمةٌ غير منْسُوخةٍ، واللَّه محاسِبٌ خلقه على ما عملوه، وأضمروه، وأرادوه، ويَغْفِرُ للمؤمنين، ويأخذ به أهل الكفر والنفاق؛ ورجَّح الطبريُّ أنَّ الآية محكَمَةٌ غير منْسُوخة‏.‏

* ع *‏:‏ وهذا هو الصوابُ، وإِنَّما هي مخصَّصة، وذلك أنَّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ بما هو في وُسْعكم، وتحْتَ كَسْبِكُم، وذلك استصحابُ المعتقد، والفِكْر فيه، فلما كان اللفظ ممَّا يمكنُ أنْ تدخل فيه الخواطرُ، أشفَقَ الصحابةُ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم فبيَّن اللَّه تعالى لهم ما أراد بالآيةِ الأولى، وخصَّصَها، ونصَّ على حُكْمِهِ؛ أنه لا يكلِّف نفْساً إِلا وسْعَهَا، والخواطرُ ليْسَتْ هي، ولا دفعُهَا في الوُسْع، بل هي أمر غالبٌ، وليست مما يُكْسَبُ، ولا يُكْتَسَبُ، وكان في هذا البيان فَرَحُهُمْ، وكَشْفُ كربهم، وتأتي الآية محكمةً لا نَسْخَ فيها، وممَّا يدفع أمر النَّسْخ؛ أن الآية خَبَرٌ، والأخبار يدخُلُها النَّسْخُ، فإن ذهب ذاهبٌ إِلى تقرير النَّسْخِ، فإِنما يترتَّب له في الحُكْم الذي لَحِقَ الصحابة، حِينَ فزعوا من الآية، وذلك أن قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لهم‏:‏ «قولُوا سَمِعْنَا وأطعنا»، يجيء منْه‏:‏ الأمر بأن يبنُوا على هذا، ويلتزموه، وينتظروا لُطْفَ اللَّه في الغُفْران، فإِذا قرّر هذا الحكم، فصحيحٌ وقوعُ النَّسْخ فيه، وتشبه الآية حينئذٍ قوله تعالَى‏:‏ ‏{‏إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 65‏]‏، فهذا لفظه الخَبَرُ، ولكنَّ معناه‏:‏ التزموا هذا، وابنوا عليه، واصبروا بحَسَبِهِ، ثم نسخ ذلك بَعْد ذلك، فهذه الآية في البقرة أشبهُ شَيْء بها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ‏}‏، يعني‏:‏ من العصاةِ، وتعلَّق قومٌ بهذه الآية ممَّن قال بجوازِ تكْليفِ ما لا يُطَاقُ، وقالوا‏:‏ إِن اللَّه قد كلَّفهم أمْرَ الخواطرِ، وذلك مما لا يِطَاق، قال‏:‏ * ع *‏:‏ وهذا غير بيِّن، وإِنما كان أمر الخواطر تأويلاً أوَّله أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولم يثبتْ تكليفاً إِلا على الوَجْه الذي ذكَرْناه من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم، إِنَّهُ على ذلك، قال الشيخ الوليُّ العارفُ باللَّه ابن أبي جَمْرَةَ‏:‏ والخواطرُ عندهم ستَّةٌ يعني عند العلماءِ العارفينَ باللَّه‏:‏ أولُها الهَمَّة، ثم اللَّمَّة، ثم الخَطْرة؛ وهذه الثلاثُ عندهم غَيرْ مُؤاخذٍ بها، ثم نِيَّة، ثمَّ إرادَةٌ، ثم عَزِيمَةٌ، وهذه الثلاثُ مؤَاخذ بها‏.‏

اه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏آمَنَ الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ سببُ هذه الآية أنَّه لما نزلَتْ‏:‏ ‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ‏}‏، وأشفق منها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم تقرَّر الأمر على أنْ قالوا‏:‏ «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا»، ورجعوا إِلى التضرُّع والاِستكانةِ، مدَحَهم اللَّه تعالى، وأثنى عليهم في هذه الآيةِ، وقدَّم ذلك بين يدَيْ رِفْقِهِ بهم، فجمع لهم تعالَى التشْريفِ بالمَدْحِ، والثناءِ، ورفع المشقَّة في أمر الخواطرِ، وهذه ثمرة الطَّاعَة والانقطاعِ إِلى اللَّه تعالى، لا كما قالتْ بنو إِسرائيل‏:‏ ‏{‏سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 93‏]‏؛ فأعقبهم ضدَّ ذلك، وهذه ثمرة العصيان، أعاذنا اللَّه من نِقَمِهِ‏.‏

و ‏{‏آمَنَ‏}‏ معناه‏:‏ صدَّق، والرسولُ‏:‏ محمَّد صلى الله عليه وسلم، و‏{‏مَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ‏}‏‏:‏ القُرآن، وسائرُ ما أوحى اللَّه إِلَيْه من جملة ذلك، وكُلُّ لفظة تصلح للإِحاطة، وهي كذلك هُنَا، والإِيمانُ باللَّه‏:‏ هو التصديقُ به، أي‏:‏ بوجودِهِ وصفاتِهِ، ورفْضُ كلِّ معبود سواه، والإِيمان بملائكته‏:‏ هو اعتقادُهم أنهم عبادُ لِلَّهِ مكْرَمُون، لا يعصُون اللَّه ما أمرهم، ويَفْعَلُون ما يُؤْمَرون، والإِيمان بكتبه‏:‏ هو التصديقُ بكلِّ ما أَنْزَلَ سبحانه على أنبيائه‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لاَ نُفَرِّقُ‏}‏؛ بالنون‏.‏ والمعنى‏:‏ يقولون‏:‏ لا نفرِّق‏.‏

ومعنى هذه الآية‏:‏ أن المؤمنين ليسوا كاليَهُودِ والنصارى؛ في أنَّهم يؤمنون ببَعْضٍ، ويكفرون ببعض‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏}‏‏:‏ مدح يقتضي الحضَّ على هذه المقالة، وأنْ يكون المؤمنُ يمتثلُها غَابِرَ الدَّهْر، والطاعةُ‏:‏ قبولُ الأوامرِ، و‏{‏غُفْرَانَكَ‏}‏‏:‏ مصدرٌ، والعاملُ فيه فَعْلٌ، تقديره‏:‏ نَطْلُبُ أوْ نَسْأَلُ غُفْرَانَكَ‏.‏

* ت *‏:‏ وزاد أبو حَيَّان، قال‏:‏ وجوَّز بعضُهم الرفْعَ فيه، على أنْ يكون مبتدأً، أيْ‏:‏ غفرانُكَ بُغْيَتُنَا‏.‏ اه‏.‏

‏{‏وَإِلَيْكَ المصير‏}‏‏:‏ إِقرار بالبعثِ، والوقوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ سبحانه، وروي أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لما أنزلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ، قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَجَّلَ الثَّنَاءَ عَلَيْكَ، وعلى أُمَّتِكَ، فَسَلْ تُعْطَهْ، فَسَأَلَ إلى آخِرِ السُّورَةِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏286‏]‏

‏{‏لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏286‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ خبرُ جزمٍ نصَّ على أنَّه لا يكلِّف اللَّه العبادَ مِنْ وقْتِ نزولِ الآيةِ عبادةً مِنْ أَعمالِ القَلْب والجوارحِ إِلاَّ وهِيَ في وُسْعِ المكلَّف، وفي مقتضى إِدراكه وبنيته، وبهذا انكشفت الكُرْبَةُ عن المسلِمِينَ في تأوُّلهم أمْر الخواطِرِ، وهذا المعنَى الذي ذكَرْناه في هذه الآية يَجْرِي مع معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏والحج‏:‏ 78‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله مَا استطعتم‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏، قال العراقيُّ‏:‏ ‏{‏وُسْعَهَا‏}‏، أي‏:‏ طاقتها‏.‏ اه‏.‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ واختلف النَّاسُ في جوازِ تكليفِ ما لا يُطَاقُ في الأحكامِ الَّتي هي في الدُّنْيا بعد اتفاقهم على أنَّه ليس واقعًا الآنَ في الشَّرْعِ، وأنَّ هذه الآية آذَنَتْ بعدمه، واختلف القائلُونَ بجوازِهِ، هل وَقَعَ في رسالةِ سَيِّدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم أمْ لاَ‏؟‏

فقالَتْ فرقة‏:‏ وقَعَ في نازلةِ أبِي لَهَبٍ؛ لأنه حَكَم علَيْه بتَبِّ اليدَيْنِ، وصَلْيِ النَّارِ؛ وذلك مُؤْذِنٌ أنه لا يؤْمِنُ، وتكليفُ الشرْعِ له الإِيمان راتب، فكأنه كُلِّف أنْ يؤمِنَ، وأنْ يكون في إيمانه أنَّه لا يؤمن؛ لأنه إِذا آمَن، فلا محالة أنْ يُدَيَّنَ بسورة‏:‏ ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ‏}‏‏.‏

وقالتْ فرقةٌ‏:‏ لم يقَعْ قطُّ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيصلى نَاراً‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 3‏]‏ إِنما معناه‏:‏ إِن وافى على كفره‏.‏

* ع *‏:‏ وما لا يطاقُ على أقسامٍ‏:‏

منه المُحَالُ عقْلاً؛ كالجمْعِ بين الضِّدَّيْن، ومنْه المُحَالُ عادَةً؛ كرفع إِنسانٍ جبلاً، ومنْه ما لا يطاقُ مِنْ حيث هو مُهْلِكٌ؛ كالاِحتراقِ بالنارِ، ونحوه، ومنه ما لا يطاقُ لِلاِشتغالِ بغَيْره، وهذا إِنما يقال فيه مَا لاَ يطاقُ على تجوُّزٍ كثيرٍ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهَا مَا كَسَبَتْ‏}‏، يريدُ‏:‏ من الحسناتِ، ‏{‏وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت‏}‏، يريد‏:‏ من السِّيِّئاتِ؛ قاله جماعة المفسِّرين؛ لا خلاف في ذلك، والخواطُر ونحوها ليس من كَسْب الإنسان، وجاءت العَبَارةُ في الحَسَنَاتِ ب «لَهَا»؛ من حيثُ هي مما يفرح الإِنسان بكسبه، ويسر المرء بها، فتضاف إِلى ملكه، وجاءَتْ في السيئة ب «عَلَيْهَا»؛ من حيث هي أوزارٌ، وأثقال، ومتحَملاَتٌ صعْبَةٌ؛ وهذا كما تقول‏:‏ لي مالٌ، وعليَّ دَيْنٌ، وكرَّر فعْلَ الكَسْب، فخالف بين التصريفَيْن حسنًا لنمط الكلامِ؛ كما قال‏:‏ ‏{‏فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 17‏]‏ هذا وجه‏.‏

* ع *‏:‏ والذي يظهر لِي في هذا أنَّ الحسناتِ ممَّا يكسب دُونَ تكلُّف؛ إِذ كاسبُها على جادَّة أمر اللَّه، ورسْمِ شرعه، والسيِّئَاتُ تُكْتَسَبُ؛ ببناءِ المبالغة؛ إِذ كاسبها يتكلَّف في أمرها خَرْقَ حجابِ نَهْيِ اللَّه تعالى، ويتخطَّاه إِلَيْها، فيحسن في الآية مجيءُ التصريفَيْن لهذا المعنى‏.‏

وقال المهدويُّ وغيره‏:‏ معنى الآيةِ‏:‏ لاَ يُؤَاخَذُ أحدٌ بذَنْبِ أحدٍ؛ قال‏:‏ * ع *‏:‏ وهذا صحيحٌ في نفسه، لكن من غير هذه الآية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ قُولُوا، واختلف الناسُ في معنى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏، فذهب كثير من العلماء إلى أَنَّ هذا الدعاءَ في النسيانِ الغالبِ، والخَطَإ غَيْر المقصودِ، وهو الصحيحُ عندي، قال قتادةُ في تفسير الآيةِ‏:‏ بلغَنِي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ إنَّ اللَّهِ تعالى تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَنْ نِسْيَانِهَا وَخَطَئِهَا ‏"‏، وقال السُّدِّيُّ‏:‏ لما نزلَتْ هذه الآية، فقالوها، قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ، يَا مُحَمَّدُ»، قال‏:‏ * ع *‏:‏ فظاهر قولَيْهما ما صحَّحته؛ وذلك أن المؤمنين، لما كُشِفَ عنهم ما خافوه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُحَاسِبْكُم بِهِ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 284‏]‏، أمروا بالدعاء في ذلك النوْعِ الذي لَيْسَ من طاقة الإِنسان دفْعُهُ، وذلك في النسيانِ، والخطأ، والإِصر الثقيلِ، وما لا يطاقُ على أتمِّ أنواعه، وهذه الآية على هذا القولِ تقضِي بجوازِ تكليفِ ما لا يطاقُ؛ ولذلك أمر المؤمنون بالدعاءِ في ألاَّ يقع هذا الجائزُ الصَّعْبُ‏.‏ ومذهب أبي الحَسَنِ الأشعريِّ وجماعةٍ من المتكلِّمين؛ أنَّ تكليف ما لا يطاق جائزٌ عقلاً، ولا يخرم ذلك شيئاً من عقائِد الشَّرْع‏.‏

وذهب الطبريُّ وغيره إِلى أنَّ تكليفَ ما لا يطاقُ غيْر جائزٍ، وأنَّ النسيان في الآية بمعنى التَّرْك أيْ‏:‏ إِن تركنا شيئاً من طاعتك، والخَطَأ هو المقصودُ من العَصْيَان، والإِصْر هي العباداتُ الثقيلةُ؛ كتكاليف بني إِسرائيل، وما لا طاقة للمرءِ به هو عندهم على تجوُّز؛ كما تقولُ‏:‏ لا طاقة لي على خصومة فُلاَنٍ، أو‏:‏ لا طاقَةَ لَنَا به؛ من حيث هو مهلكٌ؛ كعذاب جهنَّم وغيره، ثُمَّ قال تعالى فيما أمر المؤمنين بقوله‏:‏ ‏{‏واعف عَنَّا‏}‏، أي‏:‏ فيما واقعناه، ‏{‏واغفر لَنَا‏}‏، أيْ‏:‏ استر علينا ما عَلِمْتَ منا ‏{‏وارحمنا‏}‏، أيْ‏:‏ تَفضَّلْ مبتدئاً برَحْمَةٍ منك لَنَا، فهذه مناحٍ من الدعاء متباينةٌ، و‏{‏أَنتَ مولانا‏}‏‏:‏ مدحٌ في ضمنه تقرُّب إِلَيْه، وشُكْر على نعمه، ومولى‏:‏ هو من وَلِيَ، وفي الحديث‏:‏ أنَّ جبريلَ- عليه السلام- قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قُلْ‏:‏ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا» فقالَهَا، فَقَالَ جِبْرِيلُ‏:‏ قَدْ فَعَلَ، قَالَ‏:‏ قُلْ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُهَا فَيَقُولُ جِبْرِيلُ‏:‏ قَدْ فَعَلَ إلى آخِرِ السُّورةِ»‏.‏

وتظاهرتْ بهذا المعنى أحاديثُ، وروى أبو مسعودٍ عُقْبَةُ بن عمرٍو عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ قَرَأَ الآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ، كَفَتَاهُ ‏"‏ يَعْنِي مِنْ قِيَامِ الليلِ، قال صاحب «سلاح المؤمن»‏:‏ هذا الحديثُ رواه الجماعةُ، يعني‏:‏ الستةَ، ومعنى‏:‏ «كَفَتَاهُ» أجزتَاهُ عنْ قيامِ الليل، وقيل‏:‏ كَفَتَاهُ مِنْ كلِّ شيطانٍ، فلا يقربه ليلَتَهُ، وقيل‏:‏ كفتاه ما يكُونُ مِنَ الآفاتِ تلك الليلةَ، وقيل‏:‏ معناه حَسْبُهُ بهما فضلاً وأجراً، ويحتمل الجميع، واللَّه أعلم‏.‏ اه من «سلاح المؤمن»‏.‏

وقال عليٌّ- رضي اللَّه عنه-‏:‏ «ما أظنُّ أَحَداً عَقَلَ، وأدْرَكَ الإِسْلاَمَ يَنَامُ، حتى يَقْرَأَهُمَا» وفي الحديثِ؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ‏:‏ ‏"‏ أُوتِيتُ هَؤُلاَءِ الآياتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ، مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ العَرْشِ لَمْ يُؤْتَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي ‏"‏

كمل تفسير سورة البقرة، والحمد للَّه‏.‏

سورة آل عمران

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ‏(‏2‏)‏ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ‏(‏3‏)‏ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قولُه جَلَّتْ قدرته‏:‏ ‏{‏الم الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم‏}‏ الأبْرَعُ في نَظْمِ الآيةِ أنّ يكون‏:‏ ‏{‏الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم‏}‏ كلاماً مبتدأً جزماً؛ جملةً رادةً على نصارَى نَجْرَانَ الذين وفَدُوا علَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَحَاجُّوهُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وقالوا‏:‏ إِنَّهُ اللَّهُ على مَا هُوَ معلومٌ في السِّيَرِ، فنزل فيهم صَدْر هذه السورةِ إِلى نيِّفٍ وثمانينَ آيةً منْها، إلى أنْ دعَاهُمْ صلى الله عليه وسلم إلى الابتهال‏.‏

وقد تقدَّم تفسيرُ قوله‏:‏ ‏{‏الحي القيوم‏}‏ في آية الكرسيِّ، والآيةُ هناك إِخبارٌ لجميعِ الناسِ، وكُرِّرتْ هنا إخباراً بحجج هؤلاءِ النصارى، ويردُّ عليهم؛ إِذ هذه الصفاتُ لا يمكنهم ادعاؤها لعيسى عليه السلام؛ لأنهم إِذ يقولُون‏:‏ إِنه صُلِبَ، فذلك مَوْتٌ في معتقَدِهِمْ، وإِذْ من البيِّن أنَّه ليس بقَيُّومٍ‏.‏

وقراءة الجمهور «القَيُّوم»، وقرئ خارجَ السَّبْعِ‏:‏ «القَيَّامُ»؛ و«القَيِّمُ»، وهذا كلُّه مِنْ‏:‏ قَامَ بالأَمْرِ يقُومُ به، إِذا اضطلع بحفْظِهِ، وبجميعِ ما يحتاجُ إِلَيْهِ في وُجُودِهِ، فاللَّه تعالى القَيَّامُ على كلِّ شيءٍ ممَّا ينبغِي له، أوْ فِيهِ، أوْ عليه‏.‏

* ت *‏:‏ وقد تقدَّم ما نقلْناه في هذا الاِسم الشريفِ؛ أنه اسمُ اللَّهِ الأعظمُ، قال النوويُّ‏:‏ ورُوِّينَا في كتابِ التِّرمذيِّ؛ عن أَنَسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنَّهُ كَانَ إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ، قَالَ‏:‏ ‏"‏ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، بِرَحْمَتِكَ أسْتَغِيثُ ‏"‏، قَالَ الحاكمُ‏:‏ هذا حديثٌ صحيحُ الإِسناد‏.‏ اه‏.‏

قال صاحب «سلاح المؤمن»‏:‏ وعنْ عليٍّ رضي اللَّه عنه، قَالَ‏:‏ «لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، قَاتَلْتُ شَيْئاً مِنْ قِتَالٍ، ثمَّ جئْتُ إلى رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم أَنْظُرُ مَا صَنَعَ فَجِئْتُ، فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ ‏"‏، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى القِتَالِ، ثُمَّ جِئْتُ، فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ؛ لاَ يَزِيدُ على ذَلِكَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إلَى الْقِتَالِ، ثُمَّ جِئْتُ، فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ ذَلِكَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ» رواه النِّسائِيُّ، والحاكمُ في «المستدرك»، واللفظ للنسائِيِّ‏.‏

وعن أسماء بنتِ يَزيد رضي اللَّه عنها؛ أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ اسم اللَّهِ الأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ‏:‏ ‏{‏وإلهكم إله واحد لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم‏}‏، وَفَاتِحَةِ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ ‏{‏الم * الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم‏}‏ ‏"‏ رواه أبو داود، واللفظ له، والترمذيُّ، وابن ماجة، وقال التِّرْمِذِيُّ‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏

وعن أبي أُمَامَة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ‏:‏ ‏"‏ اسم اللَّهِ الأَعْظَمُ فِي ثَلاَثِ سُوَرٍ‏:‏ فِي سُورَةِ البَقَرَةِ، وآل عِمْرَانَ، وَطَه ‏"‏، قال القاسِمُ‏:‏ فالتمستها أنَّهُ الحَيُّ القَيُّومُ‏.‏

انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بالحق‏}‏‏:‏ يحتملُ معنيَيْنِ‏:‏

أحدهما‏:‏ أنْ يكون المعنى‏:‏ ضُمِّنَ الحقائقَ؛ في خبره، وأمره، ونهيه، ومواعظه‏.‏

والثانِي‏:‏ أنْ يكون المعنى‏:‏ أنه نَزَّلَ الكتابَ باستحقاق أنْ يُنَزَّل؛ لما فيه من المصلحةِ الشاملة، وليس ذلك على أنه واجبٌ على اللَّه تعالى أنْ يفعله‏.‏

* ت *‏:‏ أي‏:‏ إِذْ لا يجبُ عَلَى اللَّه سبحانه فعْلٌ؛

قال * ع *‏:‏ فالباءِ، في هذا المعنى‏:‏ على حدِّ قوله‏:‏ ‏{‏سبحانك مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ معنى‏:‏ ‏{‏بالحق‏}‏‏:‏ أيْ‏:‏ مِمَّا اختلف فيه أهْلُ الكتابِ، واضطرب فيه هؤلاءِ النصارَى الوافِدُونَ‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهذا داخلٌ في المعنى الأول‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مُصَدِّقاً‏}‏‏:‏ حالٌ مؤكِّدة؛ لأنه لا يمكن أنْ يكون غير مصدِّقٍ، لما بين يديه من كتب اللَّه سُبْحانه، ‏{‏وما بَيْن يديه‏}‏‏:‏ هي التوراةُ والإِنجيلُ وسائرُ كُتُبِ اللَّه التي تُلُقِّيَتْ من شرعنا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏‏:‏ يعني‏:‏ من قبل القرآن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هُدىً لِّلنَّاسِ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ دُعَاءٌ، والنَّاسُ‏:‏ بنو إِسرائيل في هذا الموضعِ، وإِن كان المراد أنهما هُدىً في ذاتهما، مَدْعُوٌّ إليه فرعَوْنُ وغَيْرُه، فالناسُ عامٌّ في كل مَنْ شاء حينئذٍ أنْ يستبصر، و‏{‏الفرقان‏}‏‏:‏ القرآن؛ لأنه فَرَقَ بيْنَ الحقِّ والباطلِ، ثم توعَّد سبحانه الكفَّارَ عموماً بالعذابِ الشديدِ، والإشارةُ بهذا الوعيدِ إلى نصارى نَجْرَانَ، و‏{‏عَزِيزٌ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ غالبٌ، والنقمة والاِنتقام‏:‏ معاقبةُ المذْنِبِ بمبالغةٍ في ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 7‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏5‏)‏ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏6‏)‏ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السماء‏}‏‏:‏ هذه الآية خَبَرٌ عن علْمِ اللَّه تعالى بالأشياء، على التفصيل، وهذه صفةٌ لَمْ تكُنْ لعيسى، ولا لأحدٍ من المخلوقين، ثم أخبر سبحانه عن تَصْويره للبَشَرِ في أرحامِ الأمَّهاتِ، وهذا أمر لا ينكرُهُ عاقلٌ، ولا ينكر أنَّ عيسى وسائر البَشَر لا يقْدِرُونَ عليه، ولا ينكر أنَّ عيسى من المصوَّرِينَ؛ كغيره من سائرِ البَشَر، فهذه الآية تعظيمٌ للَّه جلَّتْ قُدْرته في ضِمْنِها الرَّدُّ على نصارى نَجْران، وفي قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ‏}‏‏:‏ وعيدٌ، وشرح النبيُّ صلى الله عليه وسلم كيفيَّة التصْويرِ في الحديثِ الَّذي رواه ابنُ مَسْعُودٍ وغيره؛ ‏"‏ أنَّ النُّطْفَةَ، إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ، مَكَثَتْ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ تَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إلَيْهَا مَلَكاً، فَيَقُولُ‏:‏ يَا رَبِّ، أَذَكَرْ أَمْ أنثى‏؟‏ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ ‏"‏ الحديث بطوله على اختلاف ألفاظه، وفي مسندِ ابن «سِنْجَر» حديثٌ؛ ‏"‏ أنَّ اللَّهَ سُبْحَانه يَخْلُقُ عِظَامَ الجَنِينِ وَغَضَارِيفَهُ مِنْ مَنِيِّ الرَّجُلِ، وَلَحْمَهُ وَشَحْمَهُ وَسَائِرَ ذَلِكَ مِنْ مَنِيِّ المَرْأَةِ ‏"‏، وَصَوَّرَ‏:‏ بناءُ مبالغةٍ من صَارَ يَصُورُ، إِذا أمال وثنى إلى حالٍ مَّا، فلما كان التصويرُ إمالةً إلى حال، وإِثباتاً فيها، جاء بناؤه على المُبَالغة، والكتابُ في هذه الآية‏:‏ القرآن، بإِجماع، والمُحْكَمَاتُ‏:‏ المفصَّلات المبيَّنات الثابتَاتُ الأحكامِ، والمُتَشَابِهَاتُ‏:‏ هي التي تحتاجُ إِلى نظر وتأويلٍ، ويظهر فيها ببَادِي النَّظَرِ‏:‏ إِما تَعَارُضٌ مع أخرى، وإما مع العَقْل إِلى غير ذلك من أنواع التشابه، فهذا الشَّبَه الذي من أجله تُوصَفُ بمتشابهات، إِنما هو بينها وبيْنَ المعانِي الفاسدة الَّتي يظنُّها أهْلُ الزيغِ، ومَنْ لم يُنْعِمِ النظَرَ، وهذا نحوُ الحديث الصحيح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ ‏"‏، أي‏:‏ يكون الشيء حراماً في نفسه، فَيُشْبِهُ عند من لَمْ يُنْعِمِ النظر شيئاً حلالاً؛ وكذلك الآية‏:‏ يكونُ لها في نفسها معنًى صحيحٌ، فيشبه عنْد مَنْ لم ينعمِ النظر، أو عند الزائغِ معنًى آخر فاسداً، فربَّما أراد الاِعتراضَ به على كتاب اللَّه، هذا عندي معنَى الإِحكام والتشابُهِ في هذه الآية‏.‏

قال * ع *‏:‏ وأحسنُ ما قيل في هذه الآية قولُ محمَّدِ بنِ جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيرِ؛ أن المُحْكَمَاتِ هي الَّتِي فيهن حُجَّةُ الربِّ، وعصمةُ العبادِ، ودفْعُ الخصومِ والباطل، ليس لها تصريفٌ ولا تحريفٌ عمَّا وضعْنَ عليه، والمُتَشَابِهَاتُ‏:‏ لها تصريفٌ وتحريفٌ، وتأويلٌ ابتلى اللَّه فيهنَّ العباد، قال ابن الحاجِبِ في «منتهَى الوُصُولِ»‏:‏ مسألةٌ في القرآن محكمٌ ومتشابهٌ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْهُ آيات محكمات هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ متشابهات‏}‏، فالمُحُكَمُ‏:‏ المتَّضِح المعنى، قال الرهوني‏:‏ يعني نَصًّا كان أو ظَاهِراً، والمُتَشَابَهُ‏:‏ مقابله إمَّا للاشتراك؛ مثل‏:‏

‏{‏ثلاثة قُرُوءٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، أو للإجمالِ؛ مثلُ‏:‏ ‏{‏الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 237‏]‏ وما ظاهره التِّشبيهُ؛ مثلُ‏:‏ ‏{‏مِن رُّوحِي‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 72‏]‏، و‏{‏أَيْدِينَا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 71‏]‏، و‏{‏بِيَدَيَّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏ و‏{‏بِيَمِينِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 67‏]‏، و‏{‏يَسْتَهْزِئُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 15‏]‏، و‏{‏مَكْرَ الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 54‏]‏ ونحوه، والظاهرُ‏:‏ الوقْفُ على‏:‏ ‏{‏والراسخون فِي العلم‏}‏؛ لأن الخطاب بما لا يُفْهَمُ بعيدٌ‏.‏ انتهى‏.‏

قال الرهونيُّ‏:‏ وسمِّي ما ذكر «مُتَشَابِهاً»؛ لاشتباهه على السامِعِ، قال الرهونيُّ‏:‏ والحقُّ الوقْفُ على‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله‏}‏‏.‏ وهو المرويُّ عن جماعة؛ منهم‏:‏ ابنُ عبَّاسٍ، وابنُ عمر، وابنْ مسعودٍ، ومالكٌ، وغيرهم، وفي مُصْحَفِ أُبِيٍّ‏:‏ «وما يعلم تأويلَهُ إلاَّ اللَّه ويقول الراسخونَ ‏[‏في العلْمِ‏]‏ آمنا بِه»‏.‏ اه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُنَّ أُمُّ الكتاب‏}‏، أي‏:‏ معظم الكتاب، وعُمْدة ما فيه‏:‏ إذ المُحْكَم في آياتِ اللَّه كثيرٌ قد فُصِّلَ، ولم يفرَّطْ في شيء منه، قال يَحْيَى بْنُ يَعْمَر‏:‏ كما يقال لمكَّة أمُّ القرى‏.‏

قال * ع *‏:‏ وكما يقالُ‏:‏ أمُّ الرَّأْس لمجتمع الشؤونِ، فجميع المحكَمِ هو أم الكتابِ، ومعنى الآية الإِنْحَاءُ على أهل الزيْغِ، والمذمَّةُ لهم، والإِشارة بذلك أولاً إلى نصارى نَجْرَانَ، وإلى اليهودِ الذين كانوا معاصِرِينَ لمحمَّد صلى الله عليه وسلم، فإِنهم كانوا يعترضُون معانِيَ القُرآن، ثم يعم بعد ذلك كلِّ زائغ، فذكر تعالى؛ أنه نزَّل الكتابَ على نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم؛ إِفضالاً منه، ونعمةً؛ وأنَّ مُحْكَمَه وبَيِّنَهُ الَّذي لا اعتراض فيه هو معظمه، والغالِبُ فيه؛ وأنَّ متشابهه الذي يحتملُ التَّأْوِيلَ، ويحتاجُ إِلى التفهُّم هو أقلُّه، ثم إِن أهل الزيغ يتركُونَ المحكَمَ الذي فيه غُنْيَتهم، ويتبعونَ المتشَابِه؛ ابتغاء الفِتْنَةِ، وأنْ يفسدوا ذاتَ البَيْن، ويردوا النَّاس إِلى زيغهم‏.‏

* م *‏:‏ قال أبو البقاءِ‏:‏ ‏{‏وَأُخَرُ‏}‏‏:‏ معطوفٌ على ‏{‏آيات‏}‏، و‏{‏متشابهات‏}‏‏:‏ نعت ل ‏{‏أُخَرُ‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ‏}‏‏:‏ يعمُّ كل طائفةٍ من كافرٍ وزنديقٍ وجاهلٍ صاحب بدعةٍ، والزيغُ‏:‏ المَيْلُ، و‏{‏ابتغاء‏}‏‏:‏ نصبٌ على المفعولِ من أجله، ومعناه‏:‏ طلبُ الفِتْنَة، قال الربيع‏:‏ الفِتْنَة هنا الشرْكُ، وقال مجاهدٌ‏:‏ الفتْنَةُ‏:‏ الشبهاتُ، واللَّبْسُ على المؤمنين، ثم قال‏:‏ وابتغاء تأويلِهِ، والتأويل هو مَرَدُّ الكلامِ، وَمَرْجِعُهُ، والشيء الذي يقفُ علَيْه من المعانِي، وهو من‏:‏ آلَ يَئولُ، إذا رجع، فالمعنى‏:‏ وطَلَبَ تأويلِهِ على مَنَازِعِهِمُ الفاسدَةِ، هذا في ما له تأويلٌ حسنٌ، وإن كان ممَّا لا يتأوَّل، بل يوقَفُ فيه، كالكلامِ في معنَى الرُّوح ونحوه، فنَفْسُ طلب تأويله هو اتباع ما تشابه، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله‏}‏، أي‏:‏ وما يعلم تأويله على الكَمَال إلا اللَّه سبحانه‏.‏

واختلف في قوله‏:‏ ‏{‏والراسخون فِي العلم‏}‏، فرأَتْ فرقةٌ أنَّ رفْعَ الراسخين هو بالعطْفِ على اسْمِ اللَّهِ ‏(‏عَزَّ وجلَّ‏)‏؛ وأنه مع علمهم بالمتشابه يقولونَ‏:‏ ‏{‏آمَنَّا بِهِ‏}‏، وقالتْ طائفةٌ أخرى‏:‏ والراسخُونَ‏:‏ رفْع بالابتداء، وهو مقطوعٌ من الكلامِ الأول، وخبره «يَقُولُونَ»، والمنفَردُ بعلْم المتشابه هو اللَّه وحده‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهذه المسألة إذا تُؤُمِّلَتْ، قَرُبَ الخلافُ فيها من الاِتفاقِ، وذلك أنَّ اللَّه تعالى قسَّم آي الكتابِ قسْمَيْن محكمًا ومتشابهًا، فالمُحْكَم هو المتَّضِحُ المعنى لكلِّ من يفهم كلامَ العَرَب، لا يحتَاجُ فيه إِلى نظر، ولا يتعلَّق به شيء يلبِّس، ويستوي في علمه الراسخُ وغيره، والمتشابه على نوعَيْن، منه‏:‏ ما لا يُعْلَمُ البتَّةَ؛ كأمر الرُّوح، وآمادِ المغيَّبات التي قد أعْلَمَ اللَّه بوقوعها إلى سائر ذلك، ومنه‏:‏ ما يُحْمَلُ على وجوه في اللغة، ومَنَاحٍ في كلامِ العربِ، فَيُتَأوَّلُ، ويُعْلَم تأويله، ولا يسمَّى أحدٌ راسِخاً إلاَّ أنْ يعلم من هذا النوع كثيراً؛ بحَسَب ما قُدِّر له، فمَنْ قال‏:‏ إن الراسخين يعلمون تأويلَ المتشابِهِ، فمراده النوْعُ الثاني الَّذي ذكرناه، ومَنْ قال‏:‏ إن الراسخين لا يعلَمُونَ تأويله، فمراده النوع الأول؛ كأمر الرُّوح، ووقْتِ الساعةِ، لكنَّ تخصيصه المتشابه بهذا النوعِ غيرُ صحيحٍ، بل هو نوعانِ؛ كما ذكرنا، والضمير في ‏{‏تأويله‏}‏ عائدٌ على جميع متشابه القرآن، وهما نوعانِ؛ كما ذكرنا، والرُّسُوخُ‏:‏ الثبوتُ في الشيءِ، وسئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي العِلْمِ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ هُوَ مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ، واستقام قَلْبُهُ ‏"‏، قُلْتُ‏:‏ ومن «جامعِ العَتَبِيَّةِ»، وسُئِل مالكٌ عن تفسيرِ الراسِخِينَ في العلْمِ، فقال‏:‏ العالِمُونَ العاملُونَ بما علموا، المتَّبِعُونَ له، قال ابنُ رُشْدٍ‏:‏ قولُ مالِكٍ هذا هو معنى ما رُوِيَ من أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ‏:‏ مَنِ الراسِخُ في العِلْمِ‏؟‏ فقالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ، وصَدَقَ لِسَانُهُ، واستقام بِهِ قَلْبُهُ، وعَفَّ بَطْنُهُ، فَذَلِكَ الرَّاسِخُ فِي العِلْمِ ‏"‏؛ قال ابنُ رُشْدٍ‏:‏ ويشهد لصحَّة هذا قولُ اللَّهِ ‏(‏عز وجل‏)‏‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏؛ لأنه كَلاَمٌ يدُلُّ عَلى أنَّ مَنْ لَمْ يَخْشَ اللَّه، فَلَيْسَ بعالمٍ‏.‏ انتهى‏.‏

قلت‏:‏ وقد جاء في فضْلِ العلْمِ آثارٌ كثيرةٌ، فمن أحسنها‏:‏ ما رواه أبو عُمَرَ بْنُ عبدِ البَرِّ بسنده، عن معاذِ بنِ جَبلٍ، قال‏:‏ قَالَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ تَعَلَّمُوا العِلْمَ؛ فَإِنَّ تَعْلِيمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، والبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لاَ يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لأَهْلِهِ قُرْبَةٌ؛ لأَنَّهُ مَعَالِمُ الحَلاَلِ وَالْحَرَامِ، وَمَنَارُ سُبُلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وهو الأنيسُ فِي الوَحْشَةِ، والصَّاحِبُ فِي الغُرْبَةِ، وَالمُحْدِّثُ فِي الخَلْوَةِ، والدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالسِّلاَحُ عَلَى الأَعْدَاءِ، وَالزِّيْنُ عِنْدَ الأَخِلاَّءِ، وَيَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَاماً فَيَجْعَلُهُمْ فِي الخَيْرِ قَادَةً وَأَئِمَّةً تُقْتَصُّ آثَارُهُمْ، ويقتدى بِفِعَالِهِمْ، وينتهى إلى رَأْيِهِمْ، وَتَرْغَبُ المَلاَئِكَةُ فِي خُلَّتِهِمْ، وَبِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، وَحِيتَانُ البَحْرِ وهَوَامُّهُ، وَسِبَاعُ البَرِّ وأَنْعَامُهُ؛ لأنَّ العِلْمَ حَيَاةُ القُلُوبِ مِنَ الجَهْلِ، وَمَصَابِيحُ الأَبْصَارِ مِنَ الظُّلَمِ، يَبْلُغُ العَبْدُ بَالعِلْمِ مَنَازِلَ الأَخْيَارَ، وَالدَّرَجَاتِ العلى فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، الفِكْرُ فِيهِ يَعْدِلُ الصِّيَامَ، وَمُدَارَسَتُهُ تَعْدِلُ القِيَامَ، بِهِ تُوصَلُ الأَرْحَامُ، وَبِهِ يُعْرَفُ الحَلاَلُ مِنَ الحَرَامِ، هُوَ إِمَامُ العَمَلِ، وَالعَمَلُ تَابِعُهُ، يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءُ، وَيُحْرَمُهُ الأَشْقِيَاءُ ‏"‏

، قال أبو عمر‏:‏ هكذا حدَّثنيه عُبَيْدُ بْنُ محمَّدٍ مرفوعاً بالإِسناد الَّذِي روَيْناه به عنه، وهو حديثٌ حسنٌ جِدًّا، ولكن ليس له إِسناد قويٌّ، وَرَوَيْنَاهُ من طرقٍ شتى موقوفًا على معاذ‏.‏ انتهى من كتاب «فَضْل العِلْمِ»، قال الشيخُ العارِفُ أبو القاسِمِ عبْدُ الرحمنِ بْنُ يُوسُفَ اللجائي ‏(‏رحمه اللَّه‏)‏، ومن علامة نورِ العلْمِ، إذا حلَّ بالقلب‏:‏ المعرفةُ والمراقبةُ والحياءُ والتوبةُ والوَرَعُ والزُّهْد والتوكُّل والصَّبْر والرضى والأنس والمجاهَدَةُ والصَّمْت والخَوْف والرجاءُ والقَنَاعةُ وذِكْرُ المَوْتِ‏.‏ اه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا‏}‏‏:‏ فيه ضميرٌ عائدٌ على كتاب اللَّه مُحْكَمِهِ ومتشَابِهِهِ، والتقديرُ‏:‏ كلُّه من عنْدِ ربِّنا‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب‏}‏، أي‏:‏ ما يقول هذا، ويؤمن ويقفُ حيثُ وُقِّفَ، ويدع اتباع المتشابهِ إلاَّ ذُو لُبٍّ، وهو العقْلُ و«أُولُو»‏:‏ جمع‏:‏ «ذُو»‏.‏