فصل: تفسير الآيات (65- 72):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (65- 72):

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)}
{وإلى عَادٍ} يعني وأرسلنا إلى عاد فلذلك نصب {أَخَاهُمْ} وهو علاء بن عوص بن آدم ابن سام بن نوح وهو عاد الأولى {أَخَاهُمْ} في النسب لا في الدين {هُوداً} وهو هود بن عبد الله بن رياح بن الخلود بن عاد بن عوص بن آدم بن سام بن نوح وقال ابن إسحاق: هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح {قَالَ} لهم {يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} الله فتوحدونه وتعبدونه {قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} جهالة وضلالة بتركك ديننا {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين} إنّك رسول الله إلينا وأن العذاب نازل بنا {قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ} أدعوكم إلى التوبة {أَمِينٌ} قال الضحاك: أمين على الرسالة، وقال الكلبي: قد كنت فيكم قبل ذلك اليوم أميناً {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنكُمْ} يعني نفسه {لِيُنذِرَكُمْ واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} يعني أهلكهم بشركاء منهم {وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً} أي طولا وشدّة وقوّة.
قال مقاتل: طول كل رجل أثنا عشر ذراعاً، ابن عباس: تمثّل ذراعاً وقال الكلبي: كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستّين ذراعاً. أبو حمزة الثمالي سبعون ذراعاً. ابن عباس: ثمانون، وهب: كان رأس أحدهم مثل قبة عظيمة وكان عين الرجل يفرخ فيها السباع، وكذلك مناخرهم {فاذكروا آلآءَ الله} نعم الله واحدها إلْ وإلي وإلو وإلى كالآناء واحدها إنى وإني وإنو وأني {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * قالوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} وندع ما كان يعبد آباؤنا من الأصنام {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} يعني العذاب {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} قال: قد وقع وجب ونزل {عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ} أي عذاب والسين مبدأ من الزاي وغضب {أتجادلونني في أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ} وضعتموها على الأصنام [.....] يعبد ناراً {أَنْتُمْ وَآبَآؤكُمُ} قبلكم {مَّا نَزَّلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ} حجّة وبيان وبرهان فانتظروا نزول العذاب.
{إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين * فَأَنجَيْنَاهُ} يعني هوداً عند نزول العذاب.
{والذين مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} أي استأصلناهم وأهلكناهم عن آخرهم {وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} وكانت قصّة عاد وهلاكهم على ماذكره محمد بن إسحاق والسدي وغيرهما من الرواة والمفسّرين: إن عاداً كانوا ينزلون اليمن وكان مساكنهم منها بالشجرة والأحقاف، وهي رمال يقال لها رمل عالج (ودمما وبيرين) ما بين عمان إلى حضرموت، وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض فكلّها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله عزّ وجلّ وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله صنم يقال له: صنا، وصنم يقال له: صمود، وصنم يقال لها: الهبار.
فبعث الله عزّ وجلّ إليهم هوداً نبيّاً وهو من أوسطهم نسباً وأفضلهم حسباً وأمرهم أن يوحدوا الله ولا يشركوا معه إلهاً غيره، وأن يكفّوا عن ظلم الناس ولم يأمرهم فيما تذكر بغير ذلك.
فأبوا عليه وكذّبوه وقالوا: مَنْ أشد منّا قوّة، وبنوا المصانع وبطشوا بطشة الجبارين كما ذكر الله تعالى فلما فعلوا ذلك أمسك الله المطر عنهم ثلاث سنين حتّى جهدهم ذلك.
وكانت الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء أو حرب دعوا إلى الله الفرج وطلبتهم إلى الله عند البيت الحرام بمكّة مسلمهم ومشركهم فتجتمع بمكّة ناس كثير شتى مختلفة أديانهم وكلّهم معظّم لمكّة عارف بحرمتها ومكانها من الله عزّ وجلّ. وأهل مكّة يومئذ العماليق وإنّما سُمّوا العماليق لأن أباهم عمليق بن لاود بن سام بن نوح وكان سيّد العماليق إذ ذاك بمكة رجل يقال له: معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت الخبيري رجل من عاد الأكبر فلمّا قحط المطر عن عاد وجمدوا قال: جهزوا وفداً إلى أن يستسقوا لكم فبعثوا قيل بن عنز ولقيم بن هزال وعتيل بن ضد بن عاد الأكبر ومرثد بن سعد بن عقير.
وكان مسلماً يكتم إسلامه وجهلمة بن الخيبري، قال معاوية بن بكرة: ثمّ بعثوا لقمان ابن عاد بن صد بن عاد الأكبر، فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم ومعه رهط من قومه حتّى بلغ عدّة فعدّهم سبعين رجلاً فلمّا قدموا مكّة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكّة خارجاً من الحرم. فأنزلهم وأكرمهم وكانوا إخوانه وأصهاره فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان لمعاوية بن بكر، وكان مسيرهم شهراً ومقامهم شهراً، فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوّثون من البلاء الذي أصابهم أشفق ذلك عليه وقال: هلك إخواني وأصهاري وهؤلاء يقيمون عندي وهم ضيفي والله ما أدري كيف أصنع بهم إنّي لأستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا له فيظنون أنّه ضِيق منّي ببقائهم عندي، وقد هلك من ورائهم من قومهم جدباً وعطشاً، فشكى ذلك من أمرهم إلى قينيتيه الجرادتين فقالتا: اصنع شعراً نغني به لا يدرون من قاله لعلّ ذلك يحرّكهم.
فقال معاوية بن بكر:
لعل الله يسقينا غماماً ** ألا يا قيل ويحك قم فهينم

قد أمسوا لا يبينون كلاما ** فيسقي أرض عاد ان عاداً

به الشيخ الكبير ولا الغلاما ** من العطش الشديد فليس نرجو

فقد أمست نساؤهم عيامىً ** وقد كانت نسائهم بخير

ولا يخشى لعادي سهاماً ** وإن الوحش يأتيهم جهاراً

نهاركم وليلكم إلتماما ** وأنتم ههنا فيما أشتهيتم

قوم ولا لقوا التحيّة والسلاما ** فقبح وفدكم من وفد

فلما قال الشعر غنتهم به الجرادتان فلما سمع القوم قال بعضهم لبعض: إنّما بعثكم قومكم يتغوّثون بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم وقد أطلتم عليهم فادخلوا هذا الحرم واستسقوا لقومكم، وقال مرثد بن سعد بن عفير: إنكم والله ما تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيّكم وأنبتم إليه سقيتم، فأظهر إسلامة عند ذلك فقال جلهمة بن الخيبري خال معاوية حين سمع قوله وعرف أنّه اتبع دين هود عليه السلام:
أبا سعد فإنّك من قبيل ** ذوي كرم وأُمك من ثمود

فإنا لا نطيعك ما بقينا ** ولسنا فاعلين لما تريد

أتأمرنا لنترك دين رفد ** ورمل والصداء مع الصمود

ونترك دين آباء كرام ** ذوي رأي ونتبع دين هود

ثم قال لمعاوية بن بكر وأبيه بكر وكان شيخاً كبيراً: احبسا عنّا مرثداً بن سعد فلا يدخل معنا مكّة فإنّه اتبع دين هود وترك ديننا.
ثمّ خرجوا إلى مكّة يستسقون بها لعاد فلمّا ولّوا إلى مكّة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية حتّى أدركهم بها فقال: لا أدعو الله عزّ وجلّ بشيء مما خرجوا له، فلما أنتهى إليهم قام يدعو الله وهم قد اجتمعوا يدعون الله ويقول: اللهم أعطني سؤلي وحدي ولاتدخلني في شيء مما يدعونك، وكان قيل بن عنز على رأس وفد عاد، وقال وفد عاد: اللّهمّ أعطه ما سألك واجعل سؤالنا مع سؤاله، وكان قد تخلف عن وفد عاد حين دعا لقمان بن عاد وكان سيّد عاد حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام فقال: اللّهمّ إنّي جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي وسأل الله عزّ وجلّ طول العمر. فعمّر عمر سبعة أنسر. وقال: قيل بن عنز: يا إلهنا إن كان هود صادقاً فاسقنا فإنّا قد هلكنا.
وقال: اللّهمّ إنّي لم أجئ لمريض فأُداويه ولا لأسير فأُناديه، اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيه فأنشأ الله عزّ وجلّ له سحائب ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ثمّ نادى مناد من السماء: يا قيل اختر لنفسك وقومك من هذا السحاب ما شئت، فقال قيل: اخترتُ السحابة السوداء فإنّها أكبر السحب، فناداه مناد قد اخترت رماداً رمدداً، لا تبقى من عاد أحداً، لا والداً ولا ولدا، إلا جعلتهم همداً، إلا بني اللوذية المهدا.
وبنو اللوذية هم بنو لقيم بن هزال بن هزيلة بن بكر فكانوا سكان بمكّة مع أخوالهم ولم يكونوا مع عاد بأرضهم وعاد الآخر كان من نسل الذي بقوا من عاد.
ونادى الله عزّ وجلّ السحابة السوداء التي اختارها قيل: فيها من النقمة من عاد حتّى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا بها وقالوا {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] يقول الله تعالى: {بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 24-25].
وكان أول من أبصر ما فيها وعرف إنّها ريح امرأة من عاد يقال لها: مهدر، فلمّا أتت عليهم صاحت وصعقت.
فلما أفاقت قالوا: ماذا رأيت؟ قالت: رأيت ريحها فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} [الحاقة: 7] أي دائمة فلم يدع من عاد أحداً إلاّ هلك.
فاعتزل هود عليه السلام ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبها ومن ريح إلاّ ما تلين عليه الجلود وتلتذ الأنفس. وإنها لترتفع بعاد والظعن إلى ما بين السماء والأرض وتدفعهم بالحجارة.
وخرج وفد عاد من مكّة حتّى مرّوا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليه فبينما هم عنده إذ أقبل رجل على ناقة له في ليلة مقمرة مساء ثالثة من مصاب عاد فأخبرهم الخبر. فقالوا له: فأين فارقت هود وأصحابه؟ قال: فارقتهم بساحل البحر وكأنّهم شكوا فيما حدّثهم به فقالت هذيلة بنت بكر: صدق ورب مكّة.
وذكروا أنّ مراد بن سعد ولقمان بن عاد، وقيل: بن عنز حين دعوا بمكّة قيل لهم قد أعطيتهم مناكم فاختاروا لأنفسكم إلاّ أنّه لا سبيل إلى الخلود ولابد من الموت فقال مهد: اللهم أعطني برّاً وصدقاً فأعطي ذلك. وقال لقمان: أعطني يارب عمراً، فقيل له: اختر لنفسك بقاء سبع بعراتسمر من أظب عفر في جبل وَعَر لا يمسها القطر، أو بقاء سبعة أنسر إذا مضى نسر خلف بعده نسر واختار سبعة أنسر فعمر لقمان عمر سبعة أنسر يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضة ويأخذ الذكر منها لقوته حتّى إذا مات أخذ غيره، ولم يزل يفعل ذلك حتّى على السابع، وكان كل نسر يعيش مئتي سنة وكان آخرها لبد، فلما مات لبد مات لقمان معه.
وأما قيل: فإنّه اختار أن يصيبه ما أصاب قومه فقيل له: أنّه الهلاك فقال: لا أُبالي لا حاجة لي في البقاء بعدهم فأصابه الذي أصاب عاداً من العذاب فهلك.
عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال: أوحى الله إلى الريح العقيم أن تخرج على قوم عاد فتنتقم له منهم، فخرجت بغير كيل على قدر منخر ثور حتّى رجفت الأرض ما بين المشرق والمغرب فقال الخزان يارب لن نطيقها، ولو خرجت على حالها لأهلكت ما بين مشارق الأرض ومغاربها فأوحى الله إليها أن ارجعي فاخرجي على قدر خرق الخاتم فرجعت فخرجت على قدر خرق الخاتم وهي الخلقة.
عن عاصم بن عمرو والبجلي عن أبي أُمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يبيت قوم من هذه الأُمّة على طعام وشراب ولهو فيصبحون قردةً وخنازير وليصيبنّهم خسف وقذف فيقولون: لقد خسف الليلة ببنيّ فلان وخسف الليلة بدار فلان وليرسلن عليهم الريح العقيم التي أهلكت عاداً بشربهم الخمور وأكلهم الربا وإتخاذهم القينات ولبسهم الحرير وقطعهم الأرحام».
وفي الخبر: أنّه أُرسل عليهم من الريح قدر ما تجري في خاتم، قال السدي: بعث الله إلى عاد الريح العقيم فلمّا دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال تطير بهم الريح من السماء والأرض فلمّا رأوها بادروا إلى البيوت فلمّا دخلوا البيوت دخلت عليهم وأهلكتهم فيها ثمّ أخرجتهم من البيوت، فلمّا أهلكهم الله أرسل عليهم طيراً سوداً فلقطتهم إلى البحر وألقتهم فيه ولم تخرج ريح قط إلاّ مكيال إلاّ يومئذ فإنّها عتت على الخزنة فقلبتهم فلم يعلموا كم مكيالها.
وقال أبو الطفيل عامر بن واثلة: سمعت عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه يقول لرجل من حضرموت: هل رأيت كثباً أحمر يخالطه مدرة حمراء وسدر كثير بناحية كذا وكذا من حضرموت، قال: نعم يا أمير المؤمنين، والله إنّك لتنعته نعت رجل قد رآه، وقال: ولكنّي قد حُدّثت عنه، فقال الحضرمي: وما شأنه يا أمير المؤمنين؟ قال: فيه قبر هود صلوات الله عليه.
عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن سابط أنّه قال: بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيّاً وإن قبر هود وشعيب وصالح وإسماعيل في تلك البقعة.
وفي رواية أُخرى: وكان النبيّ من الأنبياء إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون معه إلى مكّة بمن معه فيعبدون الله فيها حتّى يموتوا.

.تفسير الآيات (73- 79):

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)}
{وإلى ثَمُودَ} قرأ يحيى بن وثاب: إلى هود بالصرف والتنوين. والباقون بغير الصرف وإنّما يعني: وإلى بني ثمود، وهو ثمود بن عاد بن إرم بن سام بن نوح وهو أخو جديس وأراد ههنا القبيلة.
قال أبو عمرو بن العلا: سُمّيت ثمود لقلّة مائها والثمد الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى {أَخَاهُمْ صَالِحاً} وهو صالح بن عبيد بن أسف ابن ماسخ بن عبيد بن خادر بن ثمود {قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} حجّة ودلالة من ربّكم على صدقي {هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ} أضافها إليه على التفضيل والتخصيص كما يقال: بيت الله.
وقيل: أُضيفت إلى الله لأنّها كانت بالتكوين من غير اجتماع ذكر وأُنثى ولم يكن في صلب ولا رحم ولم يكن للخلق فيها سعي {آيَةً} نصب على الحال أي انظروا إلى هذه الناقة {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ} العشب {في أَرْضِ الله وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء} ولا تصيبوها بعقر {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ} أسكنكم وأنزلكم {فِي الأرض تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ} قرأ الحسن {وتنحتون} بفتح الحاء وهي لغة من {الجبال بُيُوتاً} وكانوا ينقبون في الجبال البيوت {فاذكروا آلآءَ الله وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرض مُفْسِدِينَ * قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ} يعني الأشراف والقادة الذين تعظّموا عن الإيمان بصالح عليه السلام {لِلَّذِينَ استضعفوا} يعني الأتباع {لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الذين استكبروا إِنَّا بالذي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} جاحدون {فَعَقَرُواْ الناقة} نحروها {وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ} يعني العذاب {إِن كُنتَ مِنَ المرسلين} أي من الصادقين {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} يعني الصيحة والزلزلة وأصلها الحركة مع الصوت. قال الله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة} [النازعات: 6].
قال الشاعر:
وظلّت جمال القوم بالقوم ترجفُ ** ولمّا رأيت الحج قد آن وقته

وقال الأخطل:
كبر كالنسر أرجف الإنسان مهدود فيه ** أما تريني حناتي الشيب من

{فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ} أي في أرضهم وبلدتهم ولذلك وحد الدار. وقيل: أراد به الديار فوحد كقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 2] ومعنى {جَاثِمِينَ} جامدين مبتلين صرعى هلكوا، وأصل الجاثمّ البارك على الركبة.
قال جرير:
مطايا القدر كالحدأ الجثوم ** عرفت المنتأى وعرفت منها

{فتولى} أعرض صالح عنهم وقال: {عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين} وكانت قصّة صالح وثمود وعقرهم الناقة سبب هلاكهم على ما ذكره ابن إسحاق والسدي ووهب وكعب وغيرهم من أهل الكتب قالوا: إن عاداً لمّا هلكت وانتهى أمرها عمّرت أعمارهم واستخلفوا في الأرض فربوا فيها وعمّروا، حتّى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل منهم حي.
فلما رأوا ذلك اتخذوا الجبال بيوتاً فنحتوهاوجابوها وخرقوها وكانوا في سعة من معائشهم فعتوا على الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله، فبعث الله إليهم صالحاً وكانوا فيها عرباً كان صالح من أوسطهم نسباً وأفضلهم موضعاً.
فبعثه الله تعالى إليهم شابّاً فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ حتّى شمط وكبر لا يتبعه منهم إلاّ قليل مستضعفون فلمّا ألحّ عليهم صالحٌ بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التحذير والتخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقاً لقوله، قال: أي آية تريدون؟ قالوا: نُريد أن تخرج معنا إلى عيدنا هذا وكان اسم عيد يخرجون إليه بأصنامهم في يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك وندعو وإن أستجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا.
فقال لهم صالح: نعم، فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم ذلك وخرج صالح معهم ودعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء ممّا يدعو به. ثمّ قال جندع بن عمرو بن حراش وهو يومئذ سيّد ثمود: يا صالح اخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها: الكاثبة ناقة مخترجة جوفاء وبراء فالمخترجة ما شاكلت البخت من الإبل، فإن فعلت صدّقناك وآمنّا بك، فأخذ صالح عليهم مواثيقهم إن فعلت لتصدقنني ولتومنن به، قالوا: نعم.
فصلّى صالح ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ثمّ تحرّكت الهضبة فانصدعت عن ناقة عشرا وجوفاء وبراء كما سألوا لا يعلم ما بين جنبيها إلاّ الله عزّ وجلّ عظماً وهم ينظرون ثمّ نتجت ثقباً مثلها في العظم. فآمن به جندع بن عمرو ورهط من قومه، وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويُصدّقوه فنهاهم ذوءاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صمعر وكانوا من أشراف ثمود. وكان لجندع بن عمرو ابن عم يقال له شهاب بن خليفة بن مخلاة بن لبيد فأراد أن يسلم فنهاه أُولئك الرهط فأطاعهم فقال رجل من آل ثمود:
إلى دين النبيّ دعوا شهاباً ** وكانت عصبة من آل عمرو

فهمَّ بأن يجيب ولو أجابا ** عزيز ثمود كلّهم جميعاً

وما عدلوا بصاحبهم ذوءاباً ** لأصبح صالح فينا عزيزاً

تولّوا بعد رشدهم ذئاباً ** ولكن الغواة من آل حجر

فلما خرجت الناقة قال صالح عليه السلام: {هذه نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: 155]، فمكثت الناقة ومعها سقيها في أرض ثمود ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترد الماء سبتاً فإذا كان يومها وضعت رأسها في بئر من الحجر يقال لها بئر الناقة فما ترفعها حتّى تشرب كلّ ما فيها لا تدع قطرةً ماء فيها ثم ترفع رأسها فتفسح يعني تفجج لهم فيحتلبون ما شاؤوا من لبن فيشربون ويدخرون حتّى يملأوا أوانيهم كلهم ثمّ تصدر من غير الفج الذي وردت لا تقدر على أن تصدر من حيث وردت لضيقه عنها فلا يرجع منه ثمّ ترفع رأسها.
قال أبو موسى الأشعري: أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة فوجدته ستين ذراعاً، حتّى إذا كان الغد كان يومهم فيشربون ما شاؤوا من الماء ويدخرون ماشاؤوا ليوم الناقة، فهم من ذلك في سعة ودعة وكانت الناقة تصيف إذا كان الحر بظهر الوادي فتهرب منها أغنامهم وأبقارهم وإبلهم فتهبط إلى بطن الوادي في حرّه وجدبه.
والمواشي تنفر منها إذا رأتها تشتو في بطن الوادي إذا كان الشتاء، فتهرب مواشيهم إلى ظهر الوادي في البرد والجدب. فأضرّ ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار وكانت مراتعها في ما يزعمون الجناب وحسمى، كل ذلك ترعى مع واد الحجر.
فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربّهم وحملهم ذلك على عقر الناقة فأجمعوا على عقرها.
وكانت امرأة من ثمود يقال لها عنيزة بنت غنم بن مجلز تكنّى أُم غنم وهي من بني عبيد ابن المهل، وكانت امرأة ذوءاب بن عمر، وكانت عجوزاً مسنّة وكانت ذات بنات حسان، وكانت ذات مال من إبل وبقر وغنم، وامرأة أُخرى يقال لها: صدوف بنت المحيا بن زهير ابن المحيا سيد بني عبيد وصاحب أوثانهم في الزمن الأول، وكان الوادي يقال له: وادي المحيا الأكبر جد المحيا الأصغر أبي صدوف، وكانت صدوف من أحسن الناس وكانت غنية ذات مال من إبل وغنم وبقر وكانتا من أشد الناس عداوة لصالح عليه السلام وأعظمهم به كفراً، وكانتا تحبان أن يعقرا الناقة مع كفرهما به لما أضرت به من مواشيهما وكانت صدوف عند ابن خال لها يقال له: صنتم بن هراوة بن سعد بن الغطريف من بني هليل فأسلم وحسن إسلامه، وكانت صدوف قد فوّضت إليه مالها فأنفقه على مَنْ أسلم له من أصحاب صالح حتّى رق المال فاطلعت على ذلك من إسلام صدوف وحاسبته على ذلك. فأظهر لها دينه فدعاها إلى الله وإلى الإسلام فأبت عليه وأخذت بنيها وبناتها منه فغيبتهم في عبيد بطنها الذي هي منه وكان صنتم زوجها من بني هليل، وكان ابن خالها فقال لها: ردي عليَّ ولدي، فقالت: حتّى أُنافرك إلى بني صنعان بن عبيد أو إلى بني جندع بن عبيد، فقال لها صنيم: بل أنافرك إلى بني مرداس بن عبيد. وذلك أن بني مرداس كانوا مسلمين.
فقالت: لا أُنافرك إلاّ إلى مَنْ دعوتك إليه. فقالت بنو مرداس: والله لتعطينه ولده كارهة أو طائعة فلما رأت ذلك أعطته إياهم.
ثم إنّ صدوف وعنيزة تحيّلا في عقر الناقة للشقاء الذي نزل بهم فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له الحبّاب لعقر الناقة وعرضت نفسها إن هو فعل ذلك فأبى عليها فدعت ابن عم لها يقال له: مصدح بن مهرج بن المحيا وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة، وكانت من أحسن الناس وجهاً وأكثرهم مالاً فأجابها إلى ذلك، ودعت عنيزة بنت غنم قدار ابن سالف بن جندع رجلا من أهل قرح وذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعه» واسم أُمّه قدير. وكان رجلا أحمراً أزرقاً قصيراً يزعمون أنّه كان لزنية من رجل يقال له: صبيان ولم يكن لسالف الذي يدعى السر، ولكنه قد ولد على فراش سالف فقالت: أعطيك أيَّ بناتي شئت على أن تعقر الناقة، وكان قدار عزيزاً منيعاً في قومه فانطلق قدار بن سالف هو ومصدع بن مهرج فاستنفرا غواة من ثمود فاتبعهما سبعة نفر، وكانوا تسعة رهط أحدهم هويل بن مسطح خال عزير من أهل حجر ودعيت بن غنم بن ذاغر ذؤاب بن مهرج بن مصدع وخمسة لم يذكر لنا أسماءهم فاجمعوا على عقر الناقة.
وقال السدي وغيره: أوحى الله تعالى إلى صالح عليه السلام أن قومك سيعقرون ناقتك، فقال لهم ذلك.
فقالوا: ماكنّا لنفعل ذلك. فقال صالح: إنّه يولد في قومكم غلام يعقرها فيكون هلاككم على يديه، فقالوا: لا يولد لنا ابن في هذا الشهر إلاّ قتلناه.
قال: فولد لهم تسعة في ذلك الشهر. فدعوا أبناءهم ثمّ ولد العاشر فأبى أن يذبح أبنه وكان لم يولد له قبل ذلك ابن وكان ابن العاشر أزرق أحمر فنبت نباتاً سريعاً، وكان إذا مرّ بالتسعة فرأوه قالوا: لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا، فغضب التسعة على صالح، لأنّه كان سبب قتلهم أبنائهم فتقاسموا بالله لنبيتنّه وأهله قالوا: نخرج فنري الناس أنا قد خرجنا إلى سفرنا فنأتي الغار فنكون فيه حتّى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه ثمّ رجعنا إلى الغار فكنّا فيه ثمّ رجعنا فقلنا مهلك أهله وإنّا لصادقون يصدّقوننا يعلمون إنّا قد خرجنا إلى سفرنا، وكان صالح صلى الله عليه وسلم لا ينام معهم في القرية. وكان في مسجد يقال له مسجد صالح فيه يبيت الليل. فإذا أصبح أتاهم فوعظهم ويذكرهم، وإذا أمسى خرج إلى المسجد فبات فيه فانطلقوا فلمّا دخلوا الغار وأرادوا أن يخرجوا من الجبل سقط عليهم الغار فقتلهم فانطلق رجل ممّن قد اطلع على ذلك منهم فإذا هم رطخ فرجعوا وجعلوا يصيحون في القرية أي عباد الله أما رضي صالح بأن أمرهم بقتل أولادهم حتّى قتلهم فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة.
وقال ابن إسحاق: إنّما كان تقاسم التسعة على قتل صالح صلى الله عليه وسلم بعد عقرهم الناقة وإنذار صالح إياهم بالعذاب. ذلك أن التسعة الذين عقروا الناقة قالوا: هلّم فلنقتل صالحاً وإن كان صادقاً عجّلنا قتله، وإن كان كاذباً قد ألحقناه بناقته فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله فدفعتهم الملائكة بالحجارة فلمّا أبطأوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم مشتدخين قد رُضخوا بالحجارة فقالوا لصالح: أنت قتلتهم، ثمّ همّوا به فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح.
وقالوا لهم: والله لا تقتلونه أبداً وقد وعدكم أنّ العذاب نازل بكم في ثلاث فإن كان صادقاً لم تزيدوا ربّكم إلاّ غضباً وإن كان كاذباً فأنتم من وراء ما تريدون فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك.
قال السدي وغيره: فكان شر مولود يعني قدار وكان يشبَّ في اليوم شباب غيره في الجمعة. ويشبّ في الشهر شباب غيره في السنة فلمّا كبر جلس مع أُناس يصيبون من الشراب فأرادوا ما يمزجون به شرابهم وكان ذلك اليوم شرب الناقة فوجدوا الماء قد شربته الناقة. فاشتد ذلك عليهم وقالوا في شأن الناقة وشدّتها عليهم ونحن ما نصنع باللبن لو كنّا نأخذ من هذا الماء الذي تشربه هذه الناقة نسقيه أنعامنا وحروثنا كان خيراً لنا، فقال ابن العاشر هل لكم في أن أعقرها لكم؟
قالوا: نعم.
وقال كعب: كان سبب عقرهم الناقة أنّ امرأة يقال لها ملكا كانت قد ملكت ثمود فلمّا أقبل الناس على صالح وصارت الرئاسة إليه حسدته فقالت لامرأة يقال لها قطام وكانت معشوقة قدّار بن سالف ولامرأة أُخرى يقال لها قبال كانت معشوقة مصدح بن وعد ويقال ابن مهرج، وكان قدار ومصدع يجتمعان كل ليلة معهما ويشربون الخمر فقالت لهما ملكا: إن أتاكم الليلة قدار ومصدع فلا تطيعاهما وقولا لهما: إن الملكة حزينة لأجل الناقة ولأجل صالح فنحن لا نطيعكما حتّى تعقرا الناقة فإن عقرتماها أطعناكما، فلمّا أتياهما قالتا لهما هذه المقالة فقالا: يكون من وراء عقرهما.
وقال ابن إسحاق وغيره: فانطلق قدار ومصدع وأصحابهما السبعة فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وقد كمن لها قدار في أصل حفرة على طريقها، وكمن لها مصدع في طريق آخر فمرّت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت أم غنم وعنيزة وأمرت ابنتها وكانت من أحسن الناس فاستقرّت لقدار ثمّ دمرته فشد على الناقة بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة فحدر سقبها ثمّ طعن في لبّتها فنحرها.
وخرج أهل البلدة واقتسموا لحمها وطبخوه فلمّا رأى سقبها ذلك انطلق حتّى أتى جبلا منيعاً يقال له صور، وقيل: اسمه قارة، وأتى صالح فقال له: أدرك الناقة قد عُقرت فأقبل وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه يانبي الله إنّما عقرها فلان وفلان ولا ذنب لنا. فقال صالح عليه السلام: أنظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى أن يُرفع عنكم العذاب. فخرجوا يطلبونه فلمّا رأوه على الجبل ذهبوا ليأخذوه فأوحى الله عزّ وجلّ إلى الجبل فتطاول في السماء حتّى لا تناله الطير.
وجاءَ صالح عليه السلام فلمّا رآه الفصيل بكى حتّى سالت دموعه ثمّ استقبل صالحاً فرغا رغوة ثم رغا أُخرى ثم رغا أُخرى.
فقال صالح عليه السلام: لكل رغاة أجل يومكم تمتّعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب.
وقال ابن إسحاق: أتبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة وفيهم مصدع ابن مهرج وأخوه داب بن مهرج فرمى مصدع بسهم فانتظم قلبه ثمّ جر برجله وأنزله وألقوا لحمه مع لحم أُمّه. فقال لهم صالح: انتهكتم حرمة الله تعالى فأبشروا بعذاب الله ونقمته، فقالوا له وهم يهزأون به: ومتى ذلك يا صالح وما آية ذلك؟ وكان يسمّون الأيام فيهم الأحد الأوّل والأثنين أُميون والثلاثاء دبار والأربعاء جبار والخميس مؤنس والجمعة غروبة والسبت شيار. وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء فقال لهم صالح عليه السلام حين قالوا ذلك: تصبحون غداء يوم مؤنس ووجوهكم مصفرّة، ثمّ تصبحون يوم غروبة ووجوهكم محمرّة ثمّ تصبحون يوم شيّار ووجوهكم مسودّة، ثمّ يصبحكم العذاب يوم الأوّل، فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرّة كأنّما طليت بالخلوق صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وإناثهم، فأيقنوا العذاب وعرفوا أن صالحاً قد صدقهم فطلبوه ليقتلوه، وخرج صالح هارباً حتّى لجأ إلى بطن من ثمود، يقال له: بنو غنم، فنزل على سيّدهم رجل منهم يقال له: نفيل ويكنّى أبا هدب وهو مشرك فغيّبه فلم يقدروا عليه، وقعدوا على أصحاب صالح يعذّبونهم ليدلّوهم عليه.
فقال رجل من أصحاب صالح يقال له مبدع بن هرم: يا نبي الله إنّهم ليعذبونا لندلهم عليك أفندلهم؟ قال: نعم، فدلّهم عليه ميدع فأتوا أبا هدب وكلّموه في ذلك، فقال: نعم عندي صالح وليس لكم إليه سبيل فأعرضوا عنه وتركوه وشغلهم عنه ما أنزل الله عزّ وجلّ فيهم من عذابه فجعل بعضهم يخبّر بعضاً بما يرون في وجوههم فلما أصبحوا صاحوا بأجمعهم: ألا قد مضى يوم من الأجل، فلمّا أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوههم محمرّة كأنّما خُضّبت بالدماء فصاحوا وضجّوا وبكوا وعرفوا آية العذاب، فلمّا أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب. فلما كان اليوم الثالث إذا وجوههم مسودّة كأنّما طُليت بالنار فصاحوا جميعاً ألا قد حضركم العذاب.
فلمّا كان ليلة الأحد خرج صالح عليه السلام من بين أظهرهم ومَنْ أسلم معه إلى الشام فنزلوا رملة فلسطين فلمّا أصبح القوم تكفّنوا وتحنّطوا وكان حنوطهم الصبر والمقر وكانت أكفانهم الإنطاع ثمّ ألقوا أنفسهم بالأرض فجعلوا يقلّبون به أبصارهم فينظرون إلى السماء مرّة وإلى الأرض مّرة لا يدرون من أين يأتيهم العذاب.
فلمّا اشتد الضحى يوم الأحد أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كلّ صاعقة وصوت كل شيء له صوت في الأرض فتقطّعت قلوبهم في صدورهم فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلاّ هلك كما قال الله تعالى: {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} إلاّ جارية منهم مقعدة يقال لها: ذريعة بنت سلق وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه السلام فأطلق الله عزّ وجلّ لها رجلها بعدما عاينت العذاب أجمع، فخرجت كأسرع ما يُرى شيء قط حتّى أتت قزح وهي وادي القرى فأخبرتهم بما عاينت من العذاب وما أصاب ثمود ثمّ أستسقت من الماء فسُقيت فلمّا شربت ماتت.
وروى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال: لمّا أُمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه: «لا يدخلن أحدّكم القرية ولا تشربوا من مائهم ولا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلاّ أن تكونوا باكين خائفين فإن لم تكونوا فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم».
ثمّ قال: «أمّا بعد فلا تسألوا رسولكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآية فبعث الله عزّ وجلّ لهم الناقة فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج فتشرب ماءهم يوماً فيردها وراءهم مرتقى الفصيل حين ارتقى في الغار فعتوا عن أمر ربّهم وعقروها فأهلك الله مَنْ تحت أديم السماء منهم إلاّ رجلاً واحداً كان في حرم الله».
قيل: من هو؟ قال: «أبو رغال».
فلمّا خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن ههنا ودُفن معه غصن من ذهب وأراهم قبر أبي رغال فول القوم فابتدروه بأسيافهم وبحثوا عليه فاستخرجوا ذلك الغصن، ثمّ قبع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه وأسرع السير حتّى جاز الوادي.
قال أهل العلم: توفي صالح عليه السلام بمكّة وهو ابن ثمان وخمسين سنة فلبث في قومه عشرين سنة.
عن الضحاك بن مزاحم قال: قال رسول الله عليه السلام: «يا عليّ أتدري مَنْ أشقى الأوّلين؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم.قال: «عاقر الناقة».قال: «أتدري مَنْ أشقى الآخرين؟» قال: الله ورسوله أعلم.قال: «قاتلك».