فصل: تفسير الآيات (196- 206):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (196- 206):

{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)}
{إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي} يعني الذي يحفاني ويمنعني منكم الله {نَزَّلَ الكتاب وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين * والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ولا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ} يامحمد يعني الأصنام {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} وهذا كما يقول العرب: داري ينظر إلى دارك أي يقابلها.
ويقول العرب: إذا أتيت مكان كذا فنظر إليك الحمل فخذ يميناً وشمالاً أي: استقبلك.
وحدث أبو عبيدة عن الكسائي قال: الحائط ينظر إليك إذا كان قريباً منك حيث تراه. ومنه قول الشاعر:
إذا نظرت بلاد بني تميم ** بعين أو بلا بني صباح

وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا زكريا العنبري يقول: معناه: وتراهم كأنهم ينظرون إليك كقوله: {وَتَرَى الناس سكارى} [الحج: 2] أي كأنهم سكارى وإنّما أُخبر عنهم بالهاء والميم، لأنّها مصوّرة على صورة بني آدم مخبرة عنها بأفعالهم.
{خُذِ العفو} قال مجاهد: يعني العفو من أخلاق الناس وأعمالهم بغير تخميس.
قال ابن الزبير: ما أنزل الله تعالى هذه الآية إلاّ في أخلاق الناس.
وقال ابن عباس والسدي والضحاك والكلبي: يعني ماعفا لك من أموالهم وهو الفضل من العيال والكل فما أتوك به عفواً فخذه ولا تسألهم ما ذرأ ذلك.
وهذا قبل أن ينزل فريضة الصدقات. ولما نزلت آية الصدقات نسخت هذه الآية وأمر بأخذها منهم طوعاً وكرهاً {وَأْمُرْ بالعرف} أي بالمعروف. قرأ عيسى بن عمر: العُرُف ضمتين مثل الحُلُم وهما لغتان والعرف المعروف والعارفة كل خلصة حميدة فرضتها العقول وتطمئن إليها النفوس. قال الشاعر:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ** لا يذهب العرف بين الله والناس

قال عطاء: وأمر بالعرف يعني لا إله إلاّ الله {وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} أبي جهل وأصحابه نسختها آية السيف. ويقال لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبرئيل: «ما هذه؟ قال: لا أدري حتّى أسأل، ثمّ رجع فقال: يا محمد إن ربّك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك» فنظم الشاعر فقال:
مكارم الأخلاق في ثلاث ** من كملت فيه فذاك الفتى

إعطاء من يحرمه ووصل من ** يقطعه والعفو عمن عليه اعتدى

قال جعفر الصادق: أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية.
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم (....). وقالت عائشة: مكارم الأخلاق عشرة: صدق الحديث. وصدق البأس في طاعة الله. وإعطاء السائل. ومكافأة الصنيع. وصلة الرحم. وأداء الأمانة. والتذمم للصاحب. والتذمم للجار وقرى الضيف ورأسهن الحياء.
أنشدنا أبو القاسم الحسن بن محمد المذكور أنشدنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، أنشدنا ابن أبي الدنيا أنشدني أبو جعفر القرشي:
كل الأمور تزول عنك وتنقضي ** إلاّ الثناء فإنه لك باق

لو أنني خُيّرتُ كل فضيلة ** ما اخترت غير مكارم الأخلاق

قال عبد الرحمن بن زيد: لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كيف يارب والغضب فنزل {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان}» يعني يصيبنك ويفتننك ويغرنك ويعرض لك من الشيطان {نَزْغٌ} وأصله الولوع بالفساد والشر.
يقال نزغ عرقه إذا جُنَّ وهاج، وفيه لغتان: نزغ ونغز، يقال: إياك والنزاغ والنغاز وهم المورشون.
وقال الزجاج: النزغ أدنى حركة تكون من الإنسان ومن الشيطان أدنى وسوسة، وقال سعيد ابن المسيب: شهدت عثمان وعلياً وكان بينهما نزغ من الشيطان فما أبقى واحد منهما لصاحبه شيئاً ثمّ لم يبرحا حتّى استغفر كل واحد منهما لصاحبه {فاستعذ بالله} فاستجر بالله {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الذين اتقوا} يعني المؤمنين {إِذَا مَسَّهُمْ} أصابهم {طَائِفٌ مِّنَ الشيطان} قرأ النخعي وابن كثير وأبو عمرو والأعمش وابن يزيد والجحدري وطلحة: طيف، وقرأ الباقون: طائف، وهما لغتان كالميت والمائت، ومعناهما الشيء الذي بكم بك وفرق قوم بينهما.
فقال أبو عمرو: الطائف ما يطوف حول الشيء والطيف اللمة والوسوسة الخطرة. وقال بعض المكيين: الطائف ما طاف به من وسوسة الشيطان والطيف اللحم والمس. ويجوز أن يكون الطيف مخفّفاً عن طيّف مثل هيّن وليّن. يدل عليه قراءة سعيد بن جبير: طيّف بالتثقيل.
وقال ابن عباس: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان} أي نزغ من الشيطان.
وقال الكلبي: ذنب. وقال مجاهد: هو الغضب.
{تَذَكَّرُواْ} وتفكروا وعرفوا، وقال أبو روق: ابتهلوا، وفي قراءة عبد الله بن الزبير: إذا مسهم طائف من الشيطان فأملوا.
قال سعيد بن جبير: هو الرجل يغضب الغضبة فيذكر الله فيكظم الغيظ، ليث عن مجاهد: هو الرجل هم بالذنب فيذكر الله فيدعه. وقال السدي: معناه إذا زلوا تابوا. وقال مقاتل: إن المتقي إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر وعرف أنها معصية فأبصرها ونزغ من مخالفة الله {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} ينظرون مواضع خطيئتهم بالتفكر والتدبر يمرون فيقصرون، فإنّ المتّقي مَنْ يشتهي [.......] ويبصر فيقصر، ثم ذكر الكفار فقال: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي} يعني إخوان الشيطان وهم الكفار يمدهم الشياطين في الغي حتى يطبلوا لهم ويزيدوهم في الضلالة.
وقرأ أهل المدينة: يمدونهم بضم الياء وكسر الميم وهما لغتان بمعنى واحد. وقرأ الجحدري بما دونهم على يفاعلونهم.
{ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} أي لا يشكون ولا ينزغون. وقال ابن زيد: لا يسأمون ولا يفترون.
قال ابن عباس: لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات ولا الجن ممسك عنهم.
وقرأ عيسى بن عمر: يَقصُرون بفتح الياء وضم الصاد وقصَر وأقصَر واحد {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ} يامحمد يعني المشركين {بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها} أي هلاّ أقلعتها وأنشأتها من قبل نفسك واختيارك، قاله قتادة، وقال مجاهد: لولا اقتضيتها وأخرجتها من نفسك.
وقال ابن زيد: لولا يقبلها لجئت بها من عندك.
وقال ابن عباس: لولا تلقيتها من عندك، أيضاً لولا حدثتها فأنشأتها. قال العوفي عن ابن عباس: فنسيتها وقلتها من ربّك.
وقال الضحاك: لولا أخذتها أنت فجئت بها من السماء، قال الفراء: تقول العرب: جئت الكلام وأخلقته وارتجلته وانتحلته إذا افتعلته من قبل نفسك.
قال ابن زيد: إنّما يقول العرب ذلك الكلام بتهدئة الرجل ولم يكن قبل ذلك أعده لنفسه {قُلْ} يا محمد {إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي} ثمّ قال: {هذا} يعني القرآن {بَصَآئِرُ} حجج وبيان وبرهان {مِن رَّبِّكُمْ} واحدتها بصيرة. وقال الزجاج: طرق من ربكم، والبصائر طرق الدم.
قال الجعفي:
راحوا بصائرهم على أكتافهم ** وبصيرتي يعدو بها عتد وآي

تعدّوا عداوي وأصلها ظهور الشيء وقيامه واستحكامه حتّى يبصر الانسان فيهتدي إليها وينتفع بها، ومنه قيل: ما لي في الأمر من بصيرة و{وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ} قال عبد الله بن مسعود: كنا نسلم بعضنا على بعض في الصلاة سلام على فلان وسلام على فلان فجاء القرآن: {وَإِذَا قُرِئَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ} يعني في الصلاة وقال أبو هريرة: كانوا يتكلّمون في الصلاة فأتت هذه الآية وأُمروا بالإنصات.
وقال الزهري: نزلت هذه الآية في فتى من الأنصار كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ شيئاً قرأه، فنزلت هذه الآية.
وروى داود بن أبي هند عن بشير بن جابر قال: صلّى ابن مسعود فسمع ناساً يقرأون مع الإمام فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفقهوا، أما آن لكم أن تعقلوا {وَإِذَا قُرِئَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ} كما أمركم الله.
وروى الحريري عن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: رأيت عبيد بن عمير وعطاء بن أبي رباح يتحدّثان والقارئ يقرأ فقلت: ألا تستمعان إلى الذكر وتستوحيان الموعود، قال: فنظرا إلي ثمّ أقبلا على حديثهما، قال: فأعدت الثانية فنظرا لي فقالا: إنّما ذلك في الصلاة: {وَإِذَا قُرِئَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ}.
وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة قال: نزلت هذه الآية في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة.
وقال الكلبي: وكانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حتّى يسمعون ذكر الجنّة والنار فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال قتادة: كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم في أول ما فرضت عليهم، وكان الرجل يأتي وهم فى الصلاة فيسألهم كم صليتم؟ كم بقي؟ فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
وقال ابن عباس: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة المكتومة وقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم فخلطوا عليه فنزلت هذه الآية.
وقال سعيد بن المسيب: كان المشركون يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّى فيقول بعضهم لبعض بمكّة: لا تستمعوا لهذا القرآن والغوا فيه فأنزل الله جواباً لهم {وَإِذَا قُرِئَ القرآن}.
قال سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، وعمرو بن دينار، وزيد بن أسلم، والقاسم بن يسار، وشهر بن حوشب: هذا في الخطبة أمر بالإنصات للإمام يوم الجمعة.
قال عبد الله بن المبارك: والدليل على حكم هذه الآية في الجمعة إنّك لا ترى خطيباً على المنبر يوم الجمعة يخطب، فأراد أن يقرأ في الخطبة آية من القرآن إلاّ قرأ هذه الآية قبل فواة قراءة القرآن.
قال الحسن: هذا في الصلاة المكتوبة وعند الذكر. وقال مجاهد وعطاء: وجب الإنصات في اثنين عند الرجل يقرأ القرآن وهو يصلّي وعند الإمام وهو يخطب.
وقال عمر بن عبد العزيز: الإنصات لقول كل واعظ والإنصات الإصغاء والمراعاة.
قال الشاعر:
قال الإمام عليكم أمر سيّدكم ** فلم نخالف وأنصتنا كما قالا

وقال سعيد بن جبير: هذا في الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر به الإمام.
قال الزجاج: ويجوز أن يكون معنى قوله: {فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ} اعملوا بما فيه لا تجاوزوه، لأن معنى قول القائل: سمع الله: أجاب الله دعاءك.
{واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} قال ابن عباس: يعني بالذكر القراءة في الصلاة {تَضَرُّعاً} جهراً {وَخِيفَةً} {وَدُونَ الجهر} دون رفع القول في خفض وسكوت يسمع من خلفك.
وقال أهل المعاني: واذكر ربّك اتعظ بالقرآن وآمن بآياته واذكر ربّك بالطاعة في ما يأمرك {تضرّعاً} تواضعاً وتخشّعاً {وخيفة} خوفاً من عقابه، فإذا قرأت دعوت بالله أي دون الجهر: خفاء لا جهار.
وقال مجاهد وابن جريج: أمر أن يذكروه في الصدور. ويؤمر بالتضرع فى الدعاء والاستكانة.
ويكره رفع الصوت والبداء بالدعاء وأمّا قوله: {بالغدو والآصال} فإنه يعني بالبكر والعشيات، واحد الآصال أصيل، مثل أيمان ويمين، وقال أهل اللغة: هو ما بين العصر إلى المغرب {وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين * إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ} يعني الملائكة والمراد هو عند قربهم من الفضل والرحمة لا من حيث المكان والمعاقبة.
وقال الحسين بن الفضل: قد يعبد الله غير الملائكة في المعنى من عند ربّك جاءهم التوفيق والعصمة {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} لا يتكبرون ولا يتعظمون {عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ} وينزهونه ويذكرونه ويقولون سبحان الله {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} يُصلّون.
مغيرة عن إبراهيم: إن شاء ركع وإن شاء سجد.

.سورة الأنفال:

مدنيّة، وهي خمسة آلاف ومائتان وأربعة وتسعون حرفاً، وألف ومائتان وإحدى وثلاثون كلمة.
زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أُمامة عن أُبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له وشاهد يوم القيامة أنّه برئ من النفاق وأُعطي من الأجر بعدد كل منافق ومنافقة في دار الدنيا عشر حسنات ومُحي عنه عشر سيّئات ورُفع له عشر درجات وكان العرش وحملته يصلّون عليه أيام حياتهِ في الدنيا».
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 4):

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} الآية قال ابن عباس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: «مَنْ أتى مكان كذا وكذا فله من الفضل كذا، ومَنْ قتل قتيلاً فله كذا، ومَنْ أسر أسيراً فله كذا»، فلمّا التقوا سارع إليه الشبّان والفتيان وأقام الشيوخ ووجوه الناس عند الرايات، فلمّا فتح الله على المسلمين جاءوا يطلبون ما جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال لهم الأشياخ: كنّا ردءاً لكم ولو انهزمتم فلا تستأثروا علينا، ولا تذهبوا بالغنائم دوننا.
وقام أبو اليسر بن عمرو الأنصاري أخو بني سلمة فقال: يا رسول الله إنّك وعدت مَن قتل قتيلاً فله كذا ومَنْ أسر أسيراً فله كذا وإنّا قد قتلنا سبعين وأسرنا سبعين، فقام سعد بن معاذ فقال: والله ما منعنا أن نطلب ما طلب هؤلاء زهادةً في الآخرة ولا جبن عن العدو لكن كرهنا أن يعرّي مصافك فيعطف عليه خيل من خيل المشركين فيصيبوك، فأعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ عاد أبو اليسر بمثل مقالته وقام سعد بمثل كلامه وقال: يا رسول الله إنّ الناس كثير وإن الغنيمة دون ذلك وإن تعطِ هؤلاء التي ذكرت لا يبقَ لأصحابك كثير شيء فنزلت {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} الآية. فقسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم بالسويّة.
وروى مكحول عن أبي أُمامة الباهلي قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا معاشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في الفعل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسّمه بين المسلمين عن سواء على السواء وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله صلاح ذات البين.
وقال سعد بن أبي وقاص: نزلت في هذه الآية ذلك أنّه لمّا كان يوم بدر وقتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص بن أميّة وأخذت سيفه وكان يُسمّى ذا الكثيفة فأعجبني فجئت به النبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف فقال ليس هذا لي ولا لك اذهب فاطرحه في القبض فطرحته ورجعت وبي ما لا يعلمه إلاّ الله عزّ وجلّ من قتل أخي وأخذ بيدي قلت: عسى أن يعطي من لم يُبل بلائي فما جاوزت إلاّ قليلاً حتّى جاءني الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أنزل الله عزّ وجلّ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} فخفت أن يكون قد نزل فيّ شيء، فلما انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا سعد إنّك سألتني السيف وليس لي وإنّه قد صار ليّ فاذهب فخذه فهو لك».
وقال أبو أُميّة مالك بن ربيعة: أُصبت سيف ابن زيد يوم بدر وكان السيف يُدعى المرزبان فلمّا نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يردّوا ما في أيديهم من النفل فأقبلت به وألقيته في النفل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئاً يسأله فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إيّاه.
وقال ابن جريج: نزلت في المهاجرين والأنصار ممن شهد بدراً فاختلفوا فكانوا أثلاثاً فنزلت هذه الآية وملّكها الله رسوله يقسّمها كما أراه الله.
عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس [قال:] كانت المغانم لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء وما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به فمن حبس منه إبرة أو ملكاً فهو غلول فسألوا رسول الله أن يعطيهم منها فأنزل الله عزّ وجلّ يسألونك يا محمد عن الأنفال أي حكم الأنفال وعلمها وقسمها. وقيل: معناه يسألونك من الأنفال {عَنِ} بمعنى من.
وقيل: من صلة أي يسألونك الأنفال. وهكذا قرأ ابن مسعود بحذف {عَنِ} وهو قول الضحاك وعكرمة.
والأنفال الغنائم واحدها نفل. قال لبيد:
إن تقوى ربّنا خير نفل ** وبإذن الله ريثي والعجل

وأصله الزيادة يقال: نفلتك وأنفلتك أي: زدتّك.
واختلفوا في معناها:
فقال أكثر المفسّرين: معنى الآية يسألونك عن غنائم بدر لمن هي.
وقال عليّ بن صالح بن حيي: هي أنفال السرايا.
وقال عطاء: فَأْنشد من المشركين إلى المسلمين بغير قبال من عبد أو أمة أو سلاح فهو للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع به ما يشاء.
وقال ابن عباس: هي ما يسقط من المتاع بعدما يقسم من الغنائم فهي نفل لله ولرسوله.
وقال مجاهد: هي الخمس وذلك أنّ المهاجرين سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس وقالوا: لِمَ يرفع منّا هذا الخمس، لِمَ يخرج منّا فقال الله تعالى: {قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول} يقسّمانها كما شاءا أو ينفلان فيها ما شاءا أو يرضخان منها ما شاءا.
واختلفوا في هذه الآية أهي محكمة أم منسوخة:
فقال مجاهد وعكرمة والسدي: هي منسوخة نسخها قوله: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآية [الأنفال: 41].
وكانت الغنائم يومئذ للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّة فنسخها الله بالخمس.
وقال عبد الرحمن بن أيد: هي ثابتة وليست منسوخة وإنّما معنى ذلك قل الأنفال لله وهي لا شك لله مع الدنيا بما فيها والآخرة وللرسول يضعها في مواضعها التي أمره الله بوضعها فيها ثمّ أنزل حكم الغنائم بعد أربعين آية فإنّ لله خُمسه ولكم أربعة أخماس.
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «هذا الخمس مردود على فقرائكم»، وكذلك يقول في تنفيل الأيام بعض القوم واقتفائه إياه ليلاً، وعلى هذه يفرق بين الأنفال والغنائم بقوله تعالى: {فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} وذلك حين اختلفوا في الغنيمة أمرهم بالطاعة والجماعة ونهاهم عن المفارقة والمخالفة.
قال قتادة وابن جريج: كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ينفل الرجل من المؤمنين سلب الرجل من الكفّار إذا قتله وكان ينفل على قدر عنائه وبلائه حتّى إذا كان يوم بدر ملأ الناس أيديهم غنائم، فقال أهل الضعف: ذهب أهل القوّة بالغنائم فنزلت {قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} ليرد أهل القوّة على أهل الضعف فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد بعضهم على بعض فأمرهم الله بالطاعة فيها فقال: {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} واختلفوا في تأنيث ذات البين فقال أهل البصرة أضاف ذات البين وجعله ذات لأن بعض الأشياء يوضع عليه اسم المؤنث وبعضها يُذكر نحو الدار والحائط أنّث الدار وذكّر الحائط.
وقال أهل الكوفة: إنّما أراد بقوله: {ذَاتَ بِيْنِكُمْ} الحال التي للبين فكذلك ذات العشاء يريد الساعة التي فيها العشاء.
قالوا: ولم يضعوا مذكّراً لمؤنّث ولا مؤنّثاً لمذكّر إلاّ لمعنى به وقوله: {إِنَّمَا المؤمنون} الآية يقول الله تعالى ليس المؤمنون من الذي يخالف الله ورسوله إنما المؤمنون الصادقون في إيمانهم {الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فرقّت به قلوبهم وهكذا هو في مصحف عبد الله.
وقال السدي: هو الرجل يريد أن يهتم بمعصية فينزع عنه {وَإِذَا تُلِيَتْ} قُرئت {عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} وقال ابن عباس: تصديقاً، وقال الضحاك: يقيناً. وقال الربيع بن أنس: خشية. وقال عمير بن حبيب وكانت له صحبة: إن للإيمان زيادة ونقصان، قيل: فما زيادته؟
قال: إذا ذكرنا الله وجدناه فذلك زيادته وإذا سهونا وقصّرنا وغفلنا فذلك نقصان.
وقال عدي بن عدي: كُتب إلى عمر بن عبد العزيز أن للإيمان سنناً وفرائض وشرائع فمن استكملها استكمل الإيمان، ومَنْ لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، قال عمر بن عبد العزيز: فإن أعش فسأُبينها لكم، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص.
{وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي يفوّضون إليه أُمورهم ويتّقون به فلا يرجون غيره ولا يخافون سواه والتوكل الفعل من الوكول {الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً} أي حقّوا حقاً يعني يقيناً صدقاً. وقال ابن عباس: يقول برأوا من الكفر. وقال مقاتل: حقّاً لا شك في إيمانهم كشك المنافقين.
وقال قتادة: استحقّوا الإيمان بحق فأحقّه الله لهم. وقال ابن عباس: مَنْ لم يكن منافقاً فهو مؤمن حقّاً.
أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الله الرازي، قال: أخبرنا عليّ بن محمد بن عمير قال: إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا هشام بن عبيد الله قال: حدّثنا عبيد الله هشام بن حاتم عن عمرو بن درّ عن إبراهيم قال: إذا قيل لأحدكم أمؤمن أنت حقّاً، فليقل: إنّي مؤمن حقّاً فإن كان صادقاً فإنّ الله لا يعذّب على الصدق ولكن يثيب عليه.
فإن كان كاذباً فما فيه من الكفر أشد عليه من قوله له: إنّي مؤمن حقّاً. وقال ابن أبي نجيح: سأل رجل الحسن فقال: أمؤمن أنت؟
فقال: الإيمان إيمانان فإنّ كنتَ تسأل عن الإيمان بالله وملائكته وكُتبه ورُسله واليوم الآخر والجنّة والنار والبعث والحساب فأنا بها مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله تعالى: {عِندَ رَبِّهِمْ} فوالله ما أدري أمنهم أنا أم لا.
وقال علقمة: كنّا في سفر فلقينا قوماً فقلنا: من القوم؟ فقالوا: نحن المؤمنون حقّاً، فلم ندرِ ما نجيبهم حتّى لقينا عبد الله بن مسعود فأخبرناه بما قالوا فقال: فما رددتم عليهم؟ قلنا: لم نرد عليهم شيئاً.
قال: أفلا قلتم أَمِنْ أهل الجنّة أنتم؟ إن المؤمنين من أهل الجنّة.
وقال سفيان الثوري: مَنْ زعم أنّه مؤمن حقّاً أمن عند الله ثمّ وجد أنّه في الجنّة بعد إيمانه بنصف الآية دون النصف، ووقف بعضهم على قوله: {أولائك هُمُ المؤمنون}.
وقال: تم الكلام هاهنا.
ثمّ قال: حقّاً له درجات فجعل قوله حقّاً تأكيداً لقوله: {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} وقال مجاهد: أعمال رفيعة. وقال عطاء: يعني درجات الجنّة يرقونها بأعمالهم.
هشام بن عروة: يعني ما أعدّ لهم في الجنّة من لذيذ المأكل والمشارب وهني العيش. وقال ابن محيريز: لهم درجات سبعون درجة كلّ درجة لحافر الفرس الجواد المغير سبعين عاماً {وَمَغْفِرَةٌ} لذنوبهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي حسن وعظيم وهو الجنّة.