فصل: تفسير الآيات (15- 21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (15- 21):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)}
{يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً} أي مخفقين متزاحفين بعضكم إلى بعض والتزاحف التداني والتقارب.
قال الأعشى:
لمن الضعائن سيرهن زحيف ** عرم السفين إذا تقاذف مقذف

والزحف مصدر ولذلك لم يجمع كقولهم: قوم عدل ورضى {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} يقول: فلا تولّوهم ظهوركم فتنهزموا عنهم ولكن اثبتوا لهم {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} ظهره وقرأ الحسن ساكنة {إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ} أي متعطّفاً مستطرداً لقتال عدوّه بطلب عورة له تمكنه إصابتها فيكرّ عليه.
{أَوْ مُتَحَيِّزاً} منضمّاً صابراً {إلى فِئَةٍ} جماعة من المؤمنين يفيئون به بسهم إلى القتال {فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} واختلف العلماء في حكم قوله: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} الآية هل هو خاص في أهل بدر أم هو في المؤمنين جميعاً.
فقال أبو سعيد الخدري: إنّما كان ذلك يوم بدر خاصة لم يكن لهم أن ينحازوا ولو انحازوا إلى المشركين، ولم يكن يومئذ في الأرض مسلم غيرهم ولا للمسلمين فيه غير النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمّا بعد ذلك فإنّ المسلمين بعضهم فئة لبعض ممثّلة، قاله الحسن والضحاك وقتادة.
قال يزيد ابن أبي حبيب: أوجب الله لمن فرّ يوم بدر النار.
فقال: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} الآية. فلمّا كان يوم أُحد بعد ذلك قال: {إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ} [آل عمران: 155] ثمّ كان يوم حنين بعد ذلك بسبع سنين. فقال: {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25] {ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ} [التوبة: 27]. وقال عطاء بن أبي رباح: هذه الآية منسوخة بقوله: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ} [الأنفال: 66] الآية فليس لقوم أن يفروا من مثليهم فنسخت تلك الآية إلاّ هذه العدّة.
وقال الكلبي: من قبل اليوم مقبلاً أو مدبراً فهو شهيد ولكن سبق المقبل المدبر إلى الجنة.
وروي جرير عن منصور عن إبراهيم قال: انهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر. فقال: يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف، فقال عمر رضي الله عنه أنا فئتك.
وقال محمد بن سيرين: لمّا قُتل أبو عبيد جاء الخبر إلى عمر رضي الله عنه فقال لو أنحاز إليَّ فكنت له فئة فأنا فئة كل مسلم.
عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عمر قال: كنّا في مُصيل بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فخاض الناس خيضة فانهزمنا وكنّا نفر، قلنا نهرب في الأرض حياءً ممّا صنعنا فدخلنا البيوت. ثمّ قلنا: يا رسول الله نحن الفارون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل أنتم الكرارون وإنّا فئة المسلمين».
وقال بعضهم: بل حكمنا عام في كل من ولى عن العدو وفيهم مَنْ روى ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض أهله: «إياك والفرار من الزحف فإن هلكوا فاثبتوا فما [....] إلاّ على إرتكاب الكبائر وإلاّ الشرك بالله والفرار من الزحف لأن الله تعالى يقول: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}» الآية.
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ} الآية فقال أهل التفسير والمغازي لمّا ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً قال: «هذه مصارع القوم إن شاء الله»، فلمّا طلعوا عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك، اللّهمّ إنّي أسألك ما وعدتّني» فأتاه جبرئيل وقال: خذ حفنة من تراب فارمهم بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا التقى الجمعان لعلّي رضي الله عنه: «أعطني قبضة من حصا الوادي» فناوله من حصى عليه تراب فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم به في وجوه القوم وقال: «شاهت الوجوه».
فلم يبق مشرك إلاّ دخل في عينه وفمه ومنخريه منها شيء ثمّ ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وكانت تلك الرمية سبب الهزيمة.
وقال حكيم بن حزام: لمّا كان يوم بدر سمعنا صوتاً وقع من السماء كأنّه صوت حصاة وقعت في طست ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية فانهزمنا.
وقال قتادة وابن زيد: ذكر له أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدر ثلاث حصيات فرمى حصاة في ميمنة القوم وحصاة في ميسرة القوم وحصاة بين أظهرهم.
وقال: «شاهت الوجوه» فانهزموا.
الزهري عن سعيد بن المسيب قال: نزلت هذه الآية في قتل أُبي بن كعب الجمحي. وذلك أنّه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل وهو يفتّه فقال: يا محمد الله يُحيي هذا وهو رميم؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يحيه الله ثمّ يميتك ثمّ يدخلك النار» فلمّا كان يوم بدر أسره ثمّ فدي، فلمّا افتدي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي فرساً أعلفها كل يوم فرق ذرة لكي أقتلك عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل أنا أقتلك إن شاء الله»، فلمّا كان يوم أُحُد أقبل أُبيّ بن خلف يركض بفرسه ذلك حتّى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استاخروا»، فاستأخروا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحربة في يده فرمى بها أُبي بن خلف فكسرت الحربة ضلعاً من أضلاعه فرجع أبي إلى أصحابه ثقيلا فاحتملوه وطفقوا يقولون: لا بأس، فقال أُبي: والله لو كانت الناس لقتلهم، ألم يقل إني أقتلك إن شاء الله، فانطلق به أصحابه ينعونه حتّى مات ببعض الطريق فدفنوه ففي ذلك أنزل الله هذه الآية {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} الآية.
وروى صفوان بن عمرو عن عبد العزيز بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر دعا بقوس فأُتي بقوس طويلة فقال: «جيئوني بغيرها»، فجاءوا بقوس كبداء فرمى النبيّ صلى الله عليه وسلم الحصن فأقبل السهم يهوي حتّى قتل كنانة بن أبي الحقيق وهو على فراشه فأنزل الله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} فهذا سبب نزول الآية.
فأمّا معناها فإن الله تعالى أضاف القتل والرمي إلى نفسه لأنّه كان منه تعالى التسبيب والتسديد ومن رسوله والمؤمنين الضرب والحذف. وكذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة من الله تعالى الإنشاء والايجاد بالقدرة القديمة التامّة ومن الخلق الاكتساب بالقوى المحدثة، وفي هذا القول دليل على ثبوت مذهب أهل الحق وبطلان قول القدريّة.
وقيل: إنّما أضافها إلى نفسه لئلاّ يعجب القوم.
قال مجاهد: قال هذا: قتلت، وقال هذا: قتلت، فأنزل الله هذه الآية.
وقال الحسن: أراد فلم تُميتموهم ولكن الله أماتهم وأنتم جرحتموهم لأن إخراج الروح إليه لا إلى غيره.
قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} أي قتل يبلغ إلى المشركين بها وملأ عيونهم منها.
وقال ابن إسحاق: ولكن الله رمى أي لم يكن ذلك رميتك لولا الذي جعل الله فيها من نصرك وما ألقى في صدور عدوك منها حتّى هزمهم.
وقال أبو عبيده: تقول العرب: رمى الله لك، أي نصرك. قال الأعمش: {ولكن الله رمى} أي وفّقك وسدّد رميتك.
{وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلاء حَسَناً} أي ولينعم على المؤمنين نعمه عظيمة بالنصر والغنيمة والأجر والثواب.
وقال ابن إسحاق: ليعرف المؤمنين نعمة نصرهم وإظهارهم على عدوهم مع قلّة عددهم وكثرة عدوّهم ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا نعمه {إِنَّ الله سَمِيعٌ} لإقوالهم {عَلِيمٌ} بأفعالهم سميع بأسرارهم عليم بإضمارهم {ذلكم} يعني: ذكرت من القتل والرمي والأجل الحسن {وَأَنَّ الله} أي: وأعلموا أن الله، وفي فتح {أَنَّ} من الوجوه ما في قوله تعالى: {ذلكم فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النار} وقد بيناه هناك.
{مُوهِنُ} مضعف {كَيْدِ الكافرين} قرأ الحجازي والشامي والبصري: موهّن بالتشديد والتنوين {كيد} نصباً وقرأ أكثر أهل الكوفة {موهن} بالتخفيف والتنوين {كيد} نصباً واختاره أبو عبيد وأبو حاتم.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن محيصن والأعمش وحفص: موهن كيد، مخفّفة مضافة بالجر فمن نوّن معناه: وهن، ومَنْ خفّف وأضاف قصر الخفّة كقوله: {مُرْسِلُواْ الناقة} [القمر: 27] و{كَاشِفُواْ العذاب} [الدخان: 15] ووهن وأوهن لغتان صحيحتان فصيحتان {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} وذلك أنّ أبا جهل قال يوم بدر: اللّهمّ أينا كان أفجر وأقطع للرحم وأتانا بما لا نعرف فانصرنا عليه، فاستجاب الله دعاءه وجاء بالفتح وضربه ابنا عفراء: عوف ومسعود، وأجهز عليه عبد الله بن مسعود.
وقال السدي والكلبي: كان المشركون حين خرجوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكّة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: اللّهمّ انصرنا على الحزبين وأهدى القبتين وأكرم الجندين وأفضل الدينين فأنزل الله هذه الآية. وقال عكرمة: قال المشركون اللّهمّ لا نعرف ما جاء به محمد فأفتح بيننا وبينه بالحق فأنزل الله تعالى {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} أي أن تستقضوا فقد جاءكم القضاء.
وقال أُبي بن كعب وعطاء الخراساني: هذا خطاب أصحاب رسول الله قال الله للمسلمين: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} أي تستنصروا الله وتسألوه الفتح فقد جاءكم الفتح أي بالنصرة.
وقال حبّاب بن الارت: شكونا إلى رسول الله عليه السلام فقلنا: لا تستنصر لنا، فاحمر وجهه وقال: «كان الرجل قبلكم يؤخذ ويحفر له في الأرض، ثمّ يجاء بالمنشار فيقطع بنصفين ما يصرفه عن دينه شيء، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه عن دينه، ولُيتِمنَّ الله هذا الأمر حتّى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ولا يخشى إلاّ الله عزّ وجلّ والذئب على غنمه ولكنكم تعجلون».
ثمّ قال للكفّار {وَإِن تَنتَهُواْ} عن الكفر بالله وقتال نبيّه صلى الله عليه وسلم {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ} لقتاله وحربه {نَعُدْ} بمثل الواقعة التي أوقعت لكم يوم بدر.
وقيل: وإن تعودوا إلى هذا القول وقتال محمد صلى الله عليه وسلم {وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين} قرأ أهل المدينة والشام: {وَأَنَّ الله} بفتح الألف، والمعنى: ولأن الله، وقيل: هو عطف على قوله: {وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين}.
وقرأ الباقون بالكسر على الاستئناف، واختلفوا فيه وقراءة أبي حاتم {لأن} في قراءة عبد الله: والله مع المؤمنين.
{ياأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ} ولا تدبروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} أمره وليّه.
قال ابن عباس: وأنتم تسمعون القرآن ومواعظه {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا} يعني المنافقين والمشركين الذين سمعوا كتاب الله بآذانهم فقالوا سمعنا {وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} يعني لا يتّعظون بالقرآن ولا ينتفعون بسماعهم وكأنهم لم يسمعوا الحقيقة.

.تفسير الآيات (22- 26):

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)}
{إِنَّ شَرَّ الدواب} يعني أن شرّ الدواب على وجه الأرض من خلق الله {عِندَ الله} فقال الأخفش: كل محتاج إلى غذا فهو دابة.
{الصم البكم} عن الحق كأنّهم لا يسمعون ولا ينطقون.
قال ابن زيد: هم صم القلوب وبكمها وعميها. وقرأ {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46].
وقال ابن عباس وعكرمة: هم بنو عبد الدار بن قصي كانوا يقولون نحن صُمٌّ بُكم عُمّي عن مخاطبة محمد لا نسمعه ولا نجيبه، فكانوا جميعاً بأُحد، وكانوا أصحاب اللواء ولم يسلم منهم إلاّ رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة {الذين لاَ يَعْقِلُونَ} أمر الله {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً} صدقاً وإسلاماً {لأَسْمَعَهُمْ} لرزقهم الفهم والعلم بالقرآن {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ} عن القرآن {وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} عن الإيمان بالقرآن لعلم الله فيهم وحكمه عليهم بالكفر {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} اختلفوا في قوله: {لما يُحييكم}:
فقال السدي: هو الإيمان يحييهم بعد موتهم أي كفرهم. وقال مجاهد: للحق. وقال قتادة هو هذا القرآن فيه الحياة والفقه والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة.
وقال ابن إسحاق: لما يحييكم يعني الحرب والجهاد التي أعزكم الله بها بعد الذل. وقوّاكم بها بعد الضعف ومنعكم بها عن عدوكم بعد القهر منهم لكم.
وقال القتيبي: لمّا يحييكم: لما يُتقيكم، يعني الشهادة. وقرأ قوله: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] فاللام في قوله: {لما} بمعنى إلى ومعنى الاستجابة في هذه الآية الطاعة يدلُّ عليه ما روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أُبي بن كعب وهو قائم يصلّي فصاح له فقال: «تعال إلي»، فعجل أُبي في صلاته ثمّ جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما منعك يا أُبي أن تُجيبني إذا دعوتك؟ أليس الله يقول يا ايُّها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يُحييكم».
قال: لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلاّ أجبتك وإن كنت مصلياً.
قال: «تحب أن أُعلمّك سورة لم تنزل في التوارة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها»؟
قال أُبي: نعم يا رسول الله.
قال: «لا تخرج من باب المسجد حتّى تعلمها» والنبيّ صلى الله عليه وسلم يمشي يريد أن يخرج من المسجد فلما بلغ الباب ليخرج قال له أُبي: يا رسول الله، فوقف فقال: «نعم كيف تقرأ في صلاتك» فقرأ أُبي أُمّ القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ما أُنزلت في التوارة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها وإنّها لهي السبع المثاني التي أتاني الله عزّ وجلّ».
{وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} قال سعيد بن جبير: معناه يحول بين الكافر أن يؤمن وبين المؤمن أن يكفر.
ابن عباس: بين الكافر وبين طاعته ويحول بين المؤمن وبين معصيته.
وقال مجاهد: يحول بين المرء وقلبه فلا يعقل ولا يدري ما يفعل، وروى خصيف عنه قال: يحول بين قلب الكافر وبين أن يعمل خيراً.
وقال السدي: يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلاّ بإذنه.
وقال قتادة: معنى ذلك أنّه قريب من قلبه ولا يخفى عليه شيء أظهره أو أسره. وهي كقوله عزّ وجلّ {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16].
وقيل: هو أن القوم لما دعوا إلى القتال في الحال الصعبة جاءت ظنونهم واختلجت صدروهم فقيل فيهم {قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} [آل عمران: 167] وأعلموا أن الله يحول بين المرء وبين ما في قلبه فيبدّل الخوف أمناً والجُبن جُرأة.
وقيل: يحول بينه وبين مراده، لأن الأجل حال دون الأمل. والتقدير منع من التدبير.
وقرأ الحسن: بين المرء، وبتشديد الراء من غير همزة.
وقرأ الزهري: بضم الميم والهمزة وهي لغات صحيحة.
و {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ويجزيكم بأعمالكم.
قال أنس بن مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك، قلنا: يا رسول الله أمنّا بك فهل تخاف علينا؟
قال: «إن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبه كيف شاء إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه».
والإصبع في اللغة الأثر الحسن، فمعنى قوله: بين إصبعين: بين أثرين من أثار الربوبية وفيها الإزاغة والإقامة.
قال الشاعر:
صلاة وتسبيح والخطأ نائل ** وذو رحم تناله منك إصبع

أي أثر حسن.
وقال آخر:
مَنْ يجعل الله عليه اصبعاً ** في الشر أو في الخير يلقه معاً

فالإصبع أيضاً في اللغة الإصبع.
فمعنى الحديث بين مملكتين من ممالكه، وبين الإزاغة والإقامة والتوفيق والخذلان.
قال الشاعر:
حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن ** للغدر خائنة مغل الإصبع

{واتقوا فِتْنَةً} أي اختبار وبلاء يصيبكم.
وقال ابن زيد: الفتنة الضلالة {لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} واختلفوا في وجه قوله: {لاَّ تُصِيبَنَّ} من الاعراب.
فقال أهل البصرة: قوله: {لا تصيبن} ليس بجواب ولكنّه نهي بعد أمره، ولو كان جواباً ما دخلت النون.
وقال أهل الكوفة: أمرهم ثمّ نهاهم وفيه تأويل الجزاء فإن كان نهياً كقوله: {اأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} [النمل: 18]. أمرهم ثمّ نهاهم، وفيه تأويل الجزاء وتقديره: واتقوا الله إن لم تنتهوا أصابتكم.
وقال الكسائي: وقعت النون في الجر بمكان التحذير، فلو قلت: قم لا أغضب عليك لم يكن فيه النون لأنّه جزاء محض.
وقال الفراء: هو جزاء فيه طرف من النهي كما تقول: أنزل عن الدابة لا يطرحك. ولا يطرحنك فهذا جزاء من الأمر بلفظ النهي. ومعناه: إن تنزل عنه لا يطرحنّك.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة. وقال: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب.
وقال الحسن: نزلت في عليّ وعمار وطلحة والزبير قال الزبير بن العوّام: يوم الجمل لقد قرأنا هذه الآية زماناً وما أرنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها.
واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة. فحلفنا حتّى أصابتنا خاصّة. قال السدي: هذه الآية نزلت في أهل بدر خاصّة فأصابتهم يوم الجمل فأقبلوا.
وقال عبد الله بن مسعود ما منكم من أحد إلاّ هو مشتمل على الفتنة إنّ الله يقول: {أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28] فإيّكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلاّت الفتن.
حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون من ناس من أصحابي إساءة يغفرها الله لهم بصحبتهم إياي يستنّ بهم فيها ناس يعذبهم فيدخلهم الله بها النار».
يحيى بن عبد الله عن أبيه عن أبي هريره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتّى تأتي فتنة عمياء مظلمة المضطجع فيها خير من الجالس والجالس فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي».
فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إن أدركتني وأنا مضطجع قال: «فامش».
قال: أفرأيت إن أدركتني وأنا أمشي. قال «ارقد» قال: أفرأيت إن أدركتني وأنا راقد فأجلس. قال: أفرأيت إن أدركتني وأنا جالس.
قال: «فقل هكذا بيدك، وضم يديه إلى جسده، حتّى تكون عند الله المظلوم ولا تكون عند الله الظالم».
عن زيد بن أبي زياد عن زيد بن الأصم عن حذيفة قال: أتتكم فتن كقطع الليل المظلم يهلك فيها كل شجاع بطل وكل راكب موضع وكل خطيب مشفع {واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} في العدد {مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض} أرض مكّة في عنفوان الإسلام {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ} يُذهب بكم {الناس} كفّار مكّة، وقال وهب: فارس والروم {فَآوَاكُمْ} إلى المدينة {وَأَيَّدَكُم} يوم بدر أيدكم بالانتصار وأُمدّكم بالملائكة {وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات} يعني الغنائم أجالها لكم ولم يجلها لأحد قبلكم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
قال قتادة: كان هذا الحي من العرب أذلّ الناس ذلاًّ وأشقاهم عيشاً وأجوعهم بطناً وأغراهم جلوداً وآمنهم ضلالا، من عاش منهم عاش شقياً ومن مات منهم ردى في النار مكعوبين على رأس الحجرين الأشدين فارس والروم.
يؤكلون ولا يأكلون وما في بلادهم شيء عليه يحسدون، والله ما نعلم قبيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا شر منزلاً منهم حتّى جاء الله عزّ وجلّ بالاسلام فمكن في البلاد ووسع به في الرزق وجعلكم به ملوكاً على رقاب الناس.
وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم منعم يجب الشكر له وأجمل الشكر في مزيد من الله تعالى.