فصل: تفسير الآيات (27- 31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (27- 31):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)}
{ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول} قال عطاء ابن أبي رباح: حدّثني جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكّة فأتى جبرئيل عليه السلام النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ أبا سفيان في مكان كذا وكذا.فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «إنّ أبا سفيان في مكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا» قال: فكتب رجلا من المنافقين إليه أن محمداً يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله تعالى الآية.
وقال السدي: كانوا يسمعون الشيء من النبيّ صلى الله عليه وسلم فيفشونه حتّى بلغ المشركين.
وقال الزهري والكلبي: نزلت هذه الآية في أبي لبابة واسم أبي لبابة هارون بن عبد المنذر الأنصاري من بني عوف بن مالك وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا رسول الله الصلح على ما صالح عليه إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام فأبى أن يعطيهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر وكان مناصحاً لهم، لأن عياله وماله وولده كانت عندهم فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى أنزل على حكم سعد بن معاذ فأشار أبو لبابة بيده إلى طقه أنّه الذبح فلا تفعلوا.
قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي من مكانهما حتّى عرفت أن قد خنت الله والرسول فلمّا نزلت هذه الآية شد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتّى أموت أو يتوب الله عليّ فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاماً ولا شراباً حتّى خرّ مغميّاً عليه ثمّ تاب الله عليه، فقيل له: يا أبا لبابة قد تُبت عليك.
قال: لا والله لا أحلّ نفسي حتّى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلّني فجاءه فحله بيده، ثمّ قال أبو لبابة: إن مَنْ تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب. وأن أنخلع من مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجزيك الثلث إن تصدقت».
فقال المغيرة بن شعبة: نزلت هذه الآية في قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه.
قال محمد بن إسحاق: معنى الآية لا تظهروا له من الحق ما يرضى به منكم ثمّ تُخالفونه في السر إلى غيره.
وقال ابن عباس: لا تخونوا الله بترك فرائضه، والرسول بترك سنته، وتخونوا أماناتكم.
قال السدي: إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم.
وعلى هذا التأويل يكون قوله: {ويخونوا} نصباً على جواب النهي.
والعرب تنصب جواب النهي وقالوا كما ينصب بالفاء.
وقيل: هو نصب على الصرف كقول الشاعر:
لا تنهى عن خلق وتأتي مثله ** عارٌ عليك إذا فعلت عظيم

وقال الأخفش: هو عطف على ما قبله من النهي، تقديره: ولا تخونوا أماناتكم.
وقرأ مجاهد: أمانتكم واحدة. واختلفوا في هذه الآية فقال ابن عباس: هو ما يخفي عن أعين الناس من فرائض الله عزّ وجلّ والأعمال التي ائتمن الله عليها العباد يقول لا تنقضوها.
وقال ابن زيد: معنى الامانات هاهنا الدين وهؤلاء المنافقون ائتمنهم الله على دينه فخانوا، إذ أظهروا الإيمان وأسرّوا الكفر.
قال قتادة: إنّ دين الله أمانة فأدّوا إلى الله ما ائتمنكم عليه من فرائضه وحدوده. ومَنْ كانت عليه أمانة فليردّها إلى مَنْ أئتمنه عليها.
{واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ} التي عند بني قريظة {فِتْنَةٌ وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله} بطاعته وترك معصيته واجتناب خيانته {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} قال مجاهد: مخرجاً في الدنيا والآخرة.
وقال مقاتل بن حيان: مخرجاً في الدين من الشبهات. وقال عكرمة: نجاة. وقال الضحاك: بياناً. وقال مقاتل: منقذاً.
قال الكلبي: بصراً، وقال ابن إسحاق: فصلاً بين الحق والباطل، يظهر الله به حقكم ويطفئ به باطل مَنْ خالفكم.
وقال ابن زيد: فرقاً يفرق في قلوبهم بين الحق والباطل حتّى يعرفوه ويشهدوا به.
والفرقان مصدر كالرحمان والنقصان.
تقول: فرقت بين الشيء والشيء أفرق بينهما فرقاً وفروقاً وفرقاناً، {وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ} ما سلف من ذنوبكم {وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم * وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ} هذه الآية معطوفة على قوله تعالى: {واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} [الأنفال: 26]. {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ}. {وَإِذْ قَالُواْ اللهم} لأن هذه السورة مدنية.
وهذا القول والمكر كان بمكة، ولكن الله تعالى ذكرهم ذلك بالمدينة كقوله: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} [التوبة: 40] وكان هذا المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من المفسّرين أن قريشاً لمّا أسلمت الأنصار فرقوا أن تتفاقم أُمور رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاجتمع نفر من مشايخهم وكبارهم في دار الندوة ليتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت روؤسائهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبا جهل وأبا سفيان وطعمة بن عدي والنضر بن الحرث وأبو البحتري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام وبنيه ومنبّه ابنا الحجاج وأُميّة بن خلف فاعترض لهم إبليس في صورة شيخ فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال: أنا شيخ من نجد سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا من رأي ونصح، قالوا: ادخل فدخل.
فقال أبو البحتري: أمّا أنا فأرى أن تأخذوه وتحبسوه في بيته وتشدوا وثاقه وتسدوا باب البيت فتتركوه وتقدموا إليه طعامه وشرابه وتتربصوا به ريب المنون حتّى يهلك فيه كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة، وإنّما هو كأحدهم.
فصرخ إبليس الشيخ النجدي وقال: بئس الرأي رأيتم تعمدون إلى الرجل وتحبسونه فيتم أجره، وقد سمع به مَنْ حولكم، فأوشكوا أن يشبّوا فينتزعوه من أيديكم ويقاتلونكم عنه حتّى يأخذوه منكم.
قالوا: صدق الشيخ. فقال هشام بن عمرو وهو من بني عامر بن لؤي: أمّا أنا فأرى أن تحملوه على بعير فيخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم ما ضر من وقع إذا غاب عنكم واسترحم وكان أمره في غيركم. فقال إبليس بئس الرأي رأيكم تعمدون إلى رجل قد أفسد سفهاءكم فتخرجوا به إلى غيركم يفسدهم كما أفسدكم، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقه لسانه وأخذ القلوب ما يسمع من حديثه. والله لئن فعلتم، ثمّ استعرض العرب لتجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم فيخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم.
قالوا: صدق والله الشيخ.
فقال أبو جهل: لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره: إني أرى أن نأخذ واحداً من كل بطن من قريش غلاماً وسبطاً ثمّ يعطى كل رجل منهم سيفاً صارماً ثمّ يضربونه ضربة رجل واحد فإذا قتلوه تفرق دمّه في القبائل كلّها، ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلّها وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل فتؤدّي قريش ديته واسترحنا، فقال إبليس: صدق هذا الفتى وهذا أجودكم رأياً، القول ما قاله لا أرى غيره.
فتفرقوا على قول أبي جهل، وهم مجتمعون فأتى جبرئيل النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك وأمره أن لا يبيت على مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأذن الله تعالى له عند ذلك بالخروج إلى المدينة وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه فنام في مضجعه فقال: اتشح ببردي فإنّه لن يخلص إليك أمر تكرهه.
ثمّ خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخذ قبضه من تراب فأخذ الله أبصارهم عنه وجعل ينثر التراب على رؤسهم وهو يقرأ {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الأذقان فَهُم مُّقْمَحُونَ} [يس: 8] ومضى إلى الغار من ثور فدخله هو وأبو بكر وخلّف عليّا رضي الله عنه بمكّة حتّى يؤدّي عنه الودائع التي قبلها وكانت الودائع توضع عنده لصدقه وأمانته وكان المشركون يتحرسون عليّاً رضي الله عنه وهو على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسبون أنّه النبيّ، فلمّا أصبحوا ثاروا إليه فرأوا عليّاً رضي الله عنه.
وقد ردّ الله مكرهم وما ترك منهم رجلا إلاّ وضع على رأسه التراب.
فقالوا: أين صاحبك؟
قال: لا أدري فاقتصّوا أثره وأرسلوا في طلبه فلما بلغوا الجبل، فمروا بالغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت، وقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسيج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث أيام ثمّ قدم المدينة فذلك قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ}.
قال ابن عباس ومجاهد ومقسم والسدي: ليوثقوك. وقال قتادة: ليشدوك وثاقاً.
وقال عطاء. وعبد الله بن كثير: ليسجنوك. وقال أبان بن ثعلب. وأبو حاتم: ليثخنوك بالجراحات والضرب. وأنشد:
فقلت ويحك ماذا في صحيفتكم ** قالوا ألخليفة امسى مثبتاً وجعاً

وقيل: معناه ليسخروك.
وروى ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عبد المطلب بن أبي وداعة أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل تدري ما أضمر بك قومك؟ قال: «نعم يريدون أن يسخروا بي ويقتلوني أو يخرجوني» فقال: مَنْ أخبرك بهذا؟ قال: «ربّي». قال: نِعم الرب ربّك فاستوصِ ربّك خيراً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا استوصي به بل هو يستوصي بي خيراً».
وقرأ إبراهيم النخعي {وليثبتوك} من البيات {أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله} قال الحسن: فيقولون ويقول الله.
وقال الضحاك: ويصنعون ويصنع الله {والله خَيْرُ الماكرين} خير من استنقذك منهم وأهلكهم {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ} يعنى النضر بن الحرث {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} وذلك أنّه كان يختلف تاجراً إلى فارس والحيرة فيسمع سجع أهلها وذكرهم أخبار العجم وغيرهم من الأُمم، فمر باليهود والنصارى فرآهم يقرأون التوارة والإنجيل ويركعون ويسجدون، فجاء مكّة فوجد محمداً يقرأ القرآن ويصلّي. فقال النضر: قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا {إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} أخبار الأُمم الماضية وأعمارهم، قال السدي: أساجيع أهل الحيرة.
والأساطير جمع الجمع وأصلها من قوله: سطرت أي كتبت، وواحدها سطر ثمّ تجمع أسطار أو سطور ثمّ فيجمعان أساطر وأساطير. وقيل: الأساطير واحدها أُسطورة وأسطار. والجمع القليل: أسطر.

.تفسير الآيات (32- 35):

{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)}
{وَإِذْ قَالُواْ اللهم} الآية نزلت أيضاً في النضر بن الحرث بن علقمة بن كندة من بني عبد الدار.
قال ابن عباس: لمّا قصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شأن القرون الماضية، قال النضر: لو شئت لقلت مثل هذا إنْ هذا إلاّ أساطير الأوّلين في كتبهم.
فقال عثمان بن مظعون: اتق الله فإن محمداً يقول الحق. قال: فأنا أقول الحق. قال: فإن محمداً يقول: لا إله إلاّ الله. قال: فأنا أقول لا إله إلاّ الله. ولكن هذه شأن الله يعني الاصنام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} [الزخرف: 81] قال النضر: ألا تَرون أن محمداً قد صدقني فيما أقول يعني قوله: {إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ} [الزخرف: 81].
قال له المغيرة بن الوليد: والله ما صدّقك ولكنه يقول ما كان للرحمن ولد.
ففطن لذلك النضر فقال: اللّهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك.
{إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} {هُوَ} عماداً وتوكيد وصلة في الكلام، و{الحق} نصب بخبر كان {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء} كما أمطرتها على قوم لوط.
قال أبو عبيدة: ما كان من العذاب. يقال: فينا مطر ومن الرحمة مطر {أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي بنفس ما عذبت به الأُمم وفيه نزل: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1].
قال عطاء: لقد نزل في النضر بضعة عشرة آية من كتاب الله فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر.
قال سعيد بن جبير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «ثلاثة صبروا منكم من قريش المطعم بن عدي. وعقبة بن أبي معيط. والنضر بن الحرث».
وكان النضر أسير المقداد فلمّا أمر بقتله قال المقداد: أسيري يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّه كان يقول في كتاب الله ما يقول» قال المقداد: أسيري يا رسول الله، قالها ثلاث مرّات. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثالثة: «اللّهمّ اغن المقداد من فضلك». فقال المقداد: هذا الذي أردت.
{وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} اختلفوا في معنى هذه الآية فقال محمد بن إسحاق بن يسار: هذه حكاية عن المشركين، إنهم قالوها وهي متصلة بالآية الأُولى، وقيل: إن المشركين كانوا يقولون: والله إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفر ولا يعذب أُمة ونبيّها معهم، وذلك من قولهم ورسول الله بين أظهرهم، فقال الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم يذكر له جهالتهم وغرتهم واستفتاحهم على أنفسهم إذ قالوا {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} وقالوا: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} {وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} ثمّ قال ردّا عليهم {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله} وإن كنت بين أظهرهم أن كانوا يستغفرون {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام}.
وقال آخرون: هذا كلام مستأنف وهو قول الله تعالى حكاية عن نفسه ثمّ اختلفوا في وجهها وتأويلها:
فقال ابن أبزي وأبو مالك والضحاك: تأويلها: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم مقيم بين أظهرهم.
قالوا: فأنزلت هذه الآية على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بمكّة ثمّ خرج النبيّ من بين أظهرهم.
وبقيت منها بقية من المسلمين يستغفرون. فأنزل الله بعد خروجه عليه حين استغفر أُولئك بها {وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
ثمّ خرج أُولئك البقية من المسلمين من بينهم فعذبوا وأذن الله بفتح مكّة، فهو العذاب الذي وعدهم.
ابن عباس: لم يعذب أُولئك حتّى يخرج النبيّ منها والمؤمنون. قال الله: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} يعني المسلمين فلما خرجوا قال الله: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله} يعذبهم يوم بدر.
وقال بعضهم: هذا الاستغفار راجع إلى المشركين: وما كان الله ليعذب هؤلاء المشركين ما دمتَ فيهم وما داموا يستغفرون. وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت ويقولون لبيك لبيك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك بملكه لو ما ملك، ويقولون غفرانك غفرانك. هذه رواية أبي زميل عن ابن عباس.
وروى ابن معشر عن يزيد بن روحان ومحمد بن قيس قالا: قالت قريش بعضها لبعض: محمد أكرمه الله من بيننا {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء}. الآية فلمّا أمسوا ندموا على ما قالوا، فقالوا: غفرانك اللهم. فأنزل الله عزّ وجلّ {وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
وقال أبو موسى الأشعري: إنّه كان فيكم أماناً لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
وأمّا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقد مضى وأمّا الاستغفار فهو كائن إلى يوم القيامة.
وقال قتادة وابن عباس وابن يزيد معنى: {وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}: أن لو استغفروا، يقول إن القوم لو كانوا يستغفرون لما عذبوا ولكنهم لم يكونوا استغفروا ولو استغفروا فأقروا بالذنوب لكانوا مؤمنين.
وقال مجاهد وعكرمة: {وهم يستغفرون} أي يسلمون، يقول: لو أسلموا لمّا عُذّبوا.
وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس {وهم يستغفرون} أي وفيهم من سبق له من الله الدخول في الإيمان.
وروى عن ابن عباس ومجاهد والضحاك: وهم يستغفرون أي يصلّون. وقال الحسن: هذه الآية منسوخة بالآية التي تلتها: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله} إلى قوله: {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} فقاتلوا بمكّة فأصابوا فيها الجوع والخير.
وروى عبد الوهاب عن مجاهد {وهم يستغفرون} أي في أصلابهم من يستغفره.
قال: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله} أي: مايمنعهم من أن يُعذّبوا. قيل: إنّ {إِنَّ} هنا زائدة.
{وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام} {وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون} المؤمنون من حيث كانوا ومن كانوا، يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه.
{ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} والمكاء الصفير. يقال مكاءً تمكّوا مكا ومكوا. وقال عنترة:
وحليل غانية تركت مجدّلاً ** تمكوا فريصته كشدق الاعلم

ومنه قيل: مكت اسم الدابة مكأ إذا نفخت بالريح. {وتصدية} يعني التصفيق.
قال جعفر بن ربيعة: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن قوله: {إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} فجمع كفيه ثمّ نفخ فيها صفيراً.
وقال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون. وقال مجاهد: كان نفر من بني عبد الدار يعارضون النبيّ صلى الله عليه وسلم في الطواف يستهزئون به فيدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون، يخلطون عليه صلاته وطوافه.
وقال مقاتل: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا صلّى في المسجد قام رجلان من المشركين عن يمينه فيصفران ويصفقان ورجلان كذلك عن يساره ليخلطوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاته. وهم بنو عبد الدار فقتلهم الله ببدر.
وقال السدي: المكاء الصفير على لحن طائر أبيض يكون بالحجاز يقال له: المكا.
قال الشاعر:
إذا غرّد المكاء في غير روضة ** قيل لأهل الشاء والحمرات

وقال سعيد بن جبير وابن إسحاق وابن زيد: التصدية صدهم عن بيت الله وعن دين الله، والتصدية على هذا التأويل التصديد فقلبت إحدى الدالين تاءً كما يقال تظنيت من الظن.
قال الشاعر:
تقضي البازي إذا البازي كسر

يريد: تظنيت وتفضض.
وقرأ الفضل عن عاصم: وما كان صلاتهم بالنصف إلا مكاء وتصدية بالرفع محل الخبر في الصلاة كما قال القطامي:
قفي قبل التفرق يا ضباعاً ** ولا يك موقف منك الوداعا

وسمعت مَنْ يقول: كان المكاء أذانهم والتصفيق إقامتهم {فَذُوقُواْ العذاب} يوم بدر {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}.