فصل: تفسير الآيات (6- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (6- 11):

{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)}
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك} معناه وإن استجارك أحد، لأن حروف الجر لاتلي غير الفعل يقول الشاعر:
عاود هراة وإن معمورها خربا

أي وإن غرب معمورها. وقال آخر:
أتجزع إن نفس أتاها حمامها ** فهلاّ التي عن بين جنبيك تدفع

ومعنى الآية: وإن أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وقبلهم استجارك أي استعاذ بك واستأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم ليسمع كلام الله {فَأَجِرْهُ} فأعذه وأمنه {حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله} فتقيم عليه حجة الله، وتبين له دين الله عز وجل، فإن أسلم فقد نال عز الإسلام وخير الدنيا والآخرة وصار رجلاً من المسلمين، وإن أبى أن يسلم {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} دار قومه فإن قاتلك بعد ذلك فقدرت عليه فاقتله {ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} دين الله وتوحيده.
قال الحسن: وهذه الآية محكمة إلى يوم القيامة وليست بمنسوخة. قال سعيد بن جبير: جاء رجل من المشركين إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلامه أو يأتيه لحاجته، فقال علي لا لأن الله عز وجل يقول: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ} الآية.
{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ} على معنى التعجب، ومعناه جحد أي لا يكون لهم عهد، كما تقول في الكلام: هل أنت إلا واحد منّا، أي أنت، وكيف يستيقن مثلك؟ أي لايستيقن، ومنه: هل أنت إلا أصبع دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ ثم استثنى فقال: {إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام} واختلفوا فيه فقال ابن عياش: هم قريش، وقال قتادة وابن زيد: هم أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، قال الله عز وجل {فَمَا استقاموا لَكُمْ} على العهد {فاستقيموا لَهُمْ} قالوا: فلم يستقيموا ونقضوا العهد وأعانوا بني بكر على خزاعة، فضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح بأربعة أشهر يختارون من أمرهم أما أن يسلموا، واما أن يلحقوا بأي بلاد شاؤوا، فأسلموا قبل الأربعة أشهر.
قال السدي وابن إسحاق والكلبي: هم من قبائل بكر بن خزيمة وهو مدلج وبنو ضمرة وبنو الدئل، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش، وعقدهم يوم الحديبية إلى المدة التي كانت بين رسول الله وبين قريش، فلم يكن نقضها إلا قريش وبنو الدئل من بني بكر، فأمر بأتمام العهد لمن لم يكن نقض من بني بكر إلى مدته، وهذا القول أقرب إلى الصواب، لأن هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وبعد فتح مكة، فكيف يأتي شيء قد مضى.
{فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُم} وإنما هم الذين قال الله عز وجل إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً كما نقصكم قريش، ولم يظاهروا عليكم أحد كما ظاهرت من قريش بني بكر على خزاعة سلفا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} مردود على الآية الأُولى تقديره: كيف يكون لهؤلاء عهودٌ وهم إن يظهروا عليكم يظفروا فيقتلوكم {لاَ يَرْقُبُواْ} قال ابن عباس: لا يحفظوا، وقال الاخفش: كيف لايقتلونهم، وقال الضحاك: لا ينتظروا، وقال قطرب: لا يراعوا {فِيكُمْ إِلاًّ} قال ابن عباس والضحاك: قرابة، وقال يمان: رحِماً، دليله قول حسان:
لعمرك إنّ إلّك من قريش ** كإلّ السقب من رأل النعام

وقال قتادة: الإلّ: الحلف، دليله قول أوس بن حجر:
لولا بنو مالك والالّ من فيه ** ومالك فهم اللألاء والشرف

وقال السدّي وابن زيد: هو العهد، ولكنه لما اختلف اللفظان كرّر وإن كان معناهما واحداً كقول الشاعر:
وألفى قولها كذبا ومينا

وهو إحدى الروايتين عن مجاهد يدلّ عليه قول الشاعر:
وجدناهُم كاذباً إلّهم ** وذو الإلّ والعهد لا يكذب

وقيل: هو اليمين والميثاق، وقال أبو مجلز ومجاهد في ساير الروايات: الإلّ هو الله عز وجل، وكان عبيد بن عميرة يقرأ جبرإلّ بالتشديد، يعني عبد الله، وفي الخبر أنّ ناساً قدموا على أبي بكر الصديق رضي الله عنه من قوم المسلمين فاستقرأهم أبو بكر كتاب مسيلمة فقرأوا، فقال أبو بكر: إن هذا الكلام لم يخرج من إلّ.
والدليل على هذا التأويل قراءة عكرمة: لايرقبون في مؤمن ايلاً، بالياء يعني بالله عز وجل مثل جبرئيل وميكائيل {وَلاَ ذِمَّةً} عهداً وجمعها ذمم، وقيل: تذمماً ممن لا عهد له {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ} يعطونكم ويرونكم بألسنتهم خلاف مافي قلوبهم مثل قول المنافقين {وتأبى قُلُوبُهُمْ} الإيمان {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} ناكثون ناقضون كافرون.
{اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً} وذلك أنّهم نقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أطعمهم أبو سفيان بن حرب، وقال مجاهد: أطعم أبو سفيان حلفاً وترك حلف محمد صلى الله عليه وسلم {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} فمنعوا الناس عن دينه وعن الدخول فيه، قال عطاء كان أبو سفيان يعطي الناقة والطعام ليصدّ الناس بذلك عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس: وذلك أن أهل الطائف أمدِّوهم بالأموال ليقوّوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعداوته.
{إِنَّهُمْ سَآءَ} بئس {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} يقول: لا تبقوا عليهم أيّها المؤمنون كما لا يبقون عليكم لو ظهروا عليكم.
{وأولئك هُمُ المعتدون} بنقض العهد {فَإِن تَابُواْ} من الشرك {وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَإِخْوَانُكُمْ} يعني فهم أخوانكم {فِي الدين} لهم ما لكم وعليهم ما عليكم {وَنُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} قال ابن عباس: حرّمت هذه الآية دماء أهل القبلة.
وقال ابن زيد: افترض الصلاة والزكاة جميعاً ولم يفرق بينهما، وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال: يرحم الله أبا بكر فكان ماأفقهه، وقال ابن مسعود: أُمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزكِّ لاصلاة له.

.تفسير الآيات (12- 18):

{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}
{وَإِن نكثوا} نقضوا يقال منه: نكث فلان قويَّ حبله إذا نقضه {أَيْمَانَهُم} عهودهم {مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} عقدهم {وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} ثلبوه وعابوه وذلك انهم قالوا: ليس دين محمد بشيء {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر} قرأ أهل الكوفة أأُمّة الكفر بهمزتين على التحقيق لأن أصلها أمّمة مثل: مثال وأمثله وعماد وأعمدة، ثم أُدغمت الميم التي هي عن أفعلة في الميم الثانية ونُقلت حركتها إلى الهمزة الساكنة التي هي فاء الفعل فصار أئمة، فإنّما كتبت الهمزة الثانية ياءً لما فيها من الكسرة وهي لغة تميم، وقرأ الباقون: أيمة بهمزة واحدة من دون الثانية طلباً للخفّة، أئمّة الكفر: رؤوس المشركين وقادتهم من أهل مكة.
قال ابن عباس: نزلت في أبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وسائر رؤساء قريش يومئذ الذين نقضوا العهد، وهم الذين همّوا بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد: هم أهل فارس الروم، وقال حذيفة بن اليمان: ما قُوتل أهل هذه الآية ولم يأت أهلها بعد {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} عهودهم، جمع يمين أي وفاء باليمين. قال قطرب: لا وفاء لهم بالعهد وأنشد:
وإن حَلَفَتْ لاينقض النّأيّ عهدَها ** فليس لمخضوب البنان يمين

الحسين وعطاء وابن عامر: لا إيمان لهم بكسر الهمزة، ولها وجهان: أحدهما لاتصديق لهم، يدل عليه تأويل عطية العوفي قال: لا دين لهم ولا ذمّة، فلا تؤمنوا بهم فاقتلوهم، حيث وجدتموهم فيكون مصدراً من الإيمان الذي هو ضد الاخافة قال الله عز وجل: {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم، وقيل: عن الكفر.
ثم قال حاضّاً المسلمين على جهاد المشركين {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ} نقضوا عهودهم {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول} محمد صلى الله عليه وسلم من مكة {وَهُم بَدَءُوكُمْ} بالقتال {أَوَّلَ مَرَّةٍ} يعني يوم بدر، وقال أكثر المفسرين: أراد بدؤوكم بقتال خزاعة حلفاء رسول الله {أَتَخْشَوْنَهُمْ} أتخافونهم فتتركون قتالهم {فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} تخافوه في ترككم قتالهم {إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله} يقتلْهم الله {بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} يذلّهم بالأسر والقهر {وَيَنْصُرْكُمْ} ويظهركم {عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ} ويبرئ قلوب {قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} بما كانوا ينالونه من الأذى والمكروه منهم. قال مجاهد والسدي: أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} كربها ووجدها بمعونة قريش نكداً عليهم.
ثم قال مستأنفاً {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ} يهديه للاسلام كما فعل بأبي سفيان، وعكرمة ابن أبي جهل وسهيل بن عمرو {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وقرأ الاعرج وعيسى وابن أبي إسحاق: ويتوب على النصب على الصرف.
قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ} أظننتم، وإنما دخل الميم لأنه من الاستفهام المعترض بين الكلام فأُدخلت فيه أم ليفرّق بينه وبين الاستفهام والمبتدأ، واختلفوا في المخاطبين بهذه الآية: قال الضحاك عن ابن عباس قال: يعني بها قوماً من المنافقين كانوا يتوسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج معه للجهاد دفاعاً وتعذيرا والنفاق في قلوبهم.
وقال سائر المفسرين: الخطاب للمؤمنين حين شقّ على بعضهم القتال وكرهوه فأنزل الله تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ} ولا تُؤمروا بالجهاد ولا تُمتحنوا ليظهر الصادق من الكاذب، والمطيع من العاصي {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين} في تقدير الله، والألف صلة {جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً} بطانة وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم، وقال قتادة وليجة: خيانة وقال الضحّاك: خديعة، وقال ابن الأنباري: الوليجة قال: خيانة، والولجاء الدخلاء، وقال الليثي: خليطاً ورِدأً.
وقال عطاء: أولياء، وقال الحسن: هي الكفر والنفاق، وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة، وأصله من الولوج ومنه سمي الكناس الذي يلج فيه الوحش تولجاً. قال الشاعر:
من زامنها الكناس تولّجاً

فوليجة الرجل من يختصه بدخلة منها دون الناس يقال: هو وليجتي وهم وليجتي للواحد وللجميع. وأنشد أبان بن تغلب:
فبئس الوليجة للهاربين ** والمعتدين وأهل الريب

{والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قراءة العامة بالتاء متعلق بالله بقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ} وروى الحسن عن أبي عمرو بالياء ومثله روى عن يعقوب أيضاً.
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} قال ابن عباس: لمّا أُسر أبي يوم بدر أقبل عليه المسلمون فعيّروه بكفره بالله عز وجل وقطيعة الرحم وأغلظ عليٌّ له القول، فقال العباس: إنكم تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا، قال له علي: ألكم محاسن؟ قال: نعم، إنا لنعمر المسجد ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك: العاني، فأنزل الله تعالى رادّاً على العباس {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} يقول: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا، قرأت العامة بفتح الياء وضم الميم من عمر يعمر، وقرأ ابن السميقع يُعمر بضم الياء وكسر الميم أي يعينوا على العمارة، أو يجعلوه عامراً، ويريد: إن المساجد إنما تعمر بعبادة الله وحده، فمن كان بالله كافراً فليس من شأنه أن يعمرها، وقال الحسن: ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام.
واختلف القراء في قوله: {مساجد الله} قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وابن أبي رباح وحميد بن كثير وأبو عمرو: مسجد الله بغير ألف أرادوا المسجد الحرام، واختاره أبو حاتم لقوله تعالى: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام}، وقرأ الباقون {مساجد} بالألف على الجمع، واختاره أبو عبيد لأنّه أعم القراءتين.
قال الحسن: فإنّما قال: {مساجد الله} لأنّه قبلة المساجد كلها وأمامها، وقال أبو حاتم أنّ عمران بن جدير قال لعكرمة: إنما يُقرأ: مساجد الله وإنّما هو مسجد واحد؟ فقال عكرمة: إن الصفا والمروة من شعائر الله، وقال الضحاك ومجاهد: حدّث العرب بالواحد إلى الجمع والجمع إلى الواحد، ألاترى الرجل على البرذون يقول ركبت البراذين؟ ويقال للرجل: إنّه لكثير الدر والذمار، وتقول العرب: عليه أخلاق نعل واسمال ثوب.
وأنشدني أبو الجراح العقيلي:
جاء الشتاء وقميصي أخلاق ** وشرذم يضحك مني التواق

يعني: خَلِق.
وقوله: {شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} أراد وهم شاهدون، فلمّا طرحت (وهم) نصبت، وقال الحسن: يقولون: نحن كفار نشهد عليهم بكفرهم، وقال السدّي: شهادتهم على أنفسهم بالكفر هي أن النصراني يُسأل: ما أنت فيقول: نصراني، واليهودي فيقول: يهودي والصابئي، فيقول: صابئي ويقال للمشرك: ما دينك؟ فيقول: مشرك.
وقال حمزة عن الضحاك عن ابن عباس: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم لأصنامهم وإقرارهم بأنّها مخلوقة، وذلك أنّ كبار قريش نصبوا أصنامهم خارجاً من بيت الله الحرام عند القواعد، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون: لا نطوف وعلينا ثياب قد عملنا فيها بالمعاصي، وكانوا يصفقون ويصفرون ويقولون: إن تغفر اللهم تغفره جمّا، وأي عبد لك لا ألمّا [....] سجدوا لأصنامهم فلم يزيدوا بذلك من الله إلاّ بعداً، فأنزل الله عز وجل هذه الآية {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ}.
ثم قال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله} قرأ العامة بالألف، وقرأ الجحدري: مسجد الله أراد المسجد الحرام {مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله} لأنّ عسى من الله واجب {فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين} روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان فإن الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر}».