فصل: تفسير الآيات (74- 79):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (74- 79):

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ} قال الكلبي: قالوا بعد ذلك لم نقتله، وأمكروا فلم يكونوا قط أعمى قلباً ولا أشد تكذيباً لنبيّهم منهم عند ذلك قال الله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} الكلبي وأبو روق: يبست واشتدت وقال سائق البربري:
ولا ارى أثراً للذكر في جسدي ** والحبل في الجبل القاسي له أثر

أبو عبيدة: جفّت.
الواقدي: جفّت من الشّدة فلم تلن.
المؤرّخ: غلظت، وقيل: اسودّت.
قال الزجاج: تأويل القسوة ذهاب اللّين، وقال سيبويه والخشوع والخضوع.
{ذلك} أي بعد ظهور الدلالات.
{فَهِيَ} غلظها وشدتها.
{كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} أي بل أشد قسوة كقول الشاعر:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ** وصورتها أو أنت في العين أملح

أي بل، وقيل: هو بمعنى الواو والألف صلة أي وأشد قسوة. كقوله تعالى: {آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] أيّ وكفوراً.
وقرأ أبو حياة: أو أشد قساوة، وقال الكسائي: القسوة والقساوة واحد كالشقوة والشّقاوة ثمّ عذر الحجارة وفضلها على القلب القاسي فقال: {وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار} وقرأ مالك بن دينار ينفجر بالنون كقوله: {فانفجرت} [البقرة: 60]، وفي مصحف أُبي: منها الأنهار ردّ الكناية إلى الحجارة.
{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ} أي يتشقق هكذا قرأها الأعمش.
{فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ} ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله.
{مِنْ خَشْيَةِ الله} عزّ وجلّ وقلوبكم يا معاشر اليهود لا تلين ولا تخشع ولا تأتي بخير.
{وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وعيد وتهديد أي بتارك عقوبة ما تعملون بل يجازيكم به.
{أَفَتَطْمَعُونَ} أي فترجون يعني محمّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
{أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} لن يصدّقكم اليهود.
{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} طائفة منهم.
{يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله} يعني التوراة.
{ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} أي يُغيرونه أي ما فيه من الأحكام.
{مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} علموه وفهموه كما غيّروا آية الرّجم وصفه محمّد صلى الله عليه وسلم.
{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} إنهم كاذبون هذا قول مجاهد وقتادة وعكرمة ووهب والسّدي.
وقال ابن عبّاس ومقاتل: نزلت هذه الآية في السبعين المختارين؛ وذلك إنّهم لما ذهبوا مع موسى إلى الميقات وسمعوا كلام الله وما يأمره وما ينهاه رجعوا إلى قومهم فأمّا الصّادقون فأدّوا كما سمعوه وقالت طائفة منهم: سمعنا الله في آخر كلامه يقول: إنْ إستطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا فأن شئم فلا تفعلوا ولا بأس.
{وَإِذَا لَقُواْ} قرأ ابن السُّميقع لاقوا: يعني منافقي اليهود.
{الذين آمَنُواْ} بألسنتهم لا بقلوبهم أبا بكر وأصحابه من المؤمنين.
{قالوا آمَنَّا} كأيمانكم وشهدنا أنّ محمداً صادق نجده في كتابنا بنعته وصفته.
{وَإِذَا خَلاَ} رجع بعضهم إلى بعض أي كعب بن الأشرف وكعب بن أسيد ووهب بن يهودا وغيرهم من رؤساء اليهود ولامُوهم على ذلك و{قالوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} قال الكلبي: بما قضى الله عليكم في كتابكم أنّ محمّداً حق وقوله صدق، وقال القاضي الفتاح الكسائي: بما بيّنه لكم في كتابكم من العلم ببعث محمد والبشارة به.
الواقدي: بما أنزل الله في الدنيا والآخرة عليكم نظير {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض} [الأعراف: 96] أي أنزلناه.
أبو عبيدة والأخفش: بما منّ الله عليكم وأعطاكم.
{لِيُحَآجُّوكُم} ليخاصموكم ويحتجوا بقولكم عليكم يعني أصحاب محمد.
{بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} وقال بعضهم: هو أنّ الرجل من المسلمين كلما يلقي قرينه وحليفه وصديقه من اليهود فيسأله عن أمر محمّد صلى الله عليه وسلم فيقولون إنّه لحق فيقولون قد أقررتم أنه نبي حق في كتابكم ثمّ تتبعونه وهو نبيّ. فيرجعون إلى رؤسائهم فيلومونهم على ذلك.
قال السّدي: كان ناس من اليهود آمنوا ثمّ نافقوا وكان يحدثون المؤمنين بما عُذبوا به فقال لهم رؤسائهم: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم أي أنزل من العذاب ليعُيروكم به ويقولوا: نحن أكرم على الله منكم.
ابن جرير عن القاسم بن أبي برة: هذا قول يهود قريظة بعضهم لبعض حين سبّهم النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا إخوان القردة والخنازير وعبدة الطّاغوت، فقالوا: من أخبر محمّداً بهذا؟ ما خرج هذا إلاّ منكم.
{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أفليس لكم ذهن الإنسانيّة.
قال الله {أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} ما يخفون وما يبدون يعني اليهود، وقرأ ابن محيصن {ما} على الخطاب {وَمِنْهُمْ} من اليهود.
{أُمِّيُّونَ} قال ابن عبّاس وقتادة: يعني غير عارفين معاني الكتاب. يعلمونه حفظاً وقراءة بلا فهم ولا يدرون ما فيه.
وقال الكلبي: لا يحسنون قراءة الكتاب ولا كتابته ودليل هذا التأويل قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّا أُمّة أُمّية لا نكتب ولا نحاسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا».
وقال أهل المعاني: الأُمّي منسوب إلى الأمة وما عليه العامة معنى الأُمي: العامي الذي لا تمييز له، أو هو جمع أُمي منسوب إلى الأُم كأنّه باق على الحقيقة حذفت منه هاء التأنيث لأنّها زائدة وياء النسبة زائدة، ونقلت فرقاً بينها وبين ياء الأضافة.
{لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ} قرأ العامّة بتشديد الياء.
وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة والأعرج {أَمَانِيَّ} بتخفيف الياء في كلّ القرآن حذفوا إحدى اليائين استخفافاً وهي ياء الجمع مثل مفاتح ومفاتيح.
وقال أبو حاتم: كل جمع من هذا الجنس واحد مشدّد فلك فيه التّضعيف والتشديد مثل فخاتي وأماني وأغاني وغيرها واختلفوا في معنى الأمانيّ، وقال الكلبي بمعنى لا يعلمون إلاّ ما تحدّثّهم بهم علماؤهم.
أبو روق وأبو عبيدة: تلاوة وقراءة على ظهر القلب ولا يقرؤنها في الكتب، يدلّ عليه قوله تعالى: {إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] وقرآنه.
قال الشاعر:
تمنّى كتاب الله أوّل ليلة ** وآخرها لاقى حمام المقادر

مجاهد وقتادة: كذباً وباطلاً.
الفرّاء: الأماني: الأحاديث المفتعلة.
قال بعض العرب لابن دلب: أهذا شيء رويته أم تمنيته؟
وأراد بأماني الأنبياء التّي كتبها علماؤهم من قبل أنفسهم ثمّ أضافوها إلى الله عزّ وجلّ من تغيير نعت محمّد صلى الله عليه وسلم.
الحسن وأبو العالية: يعني يتمنوّن على الله الباطل والكذب مثل قولهم {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] وقولهم: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً} [البقرة: 111]، وقولهم {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18].
{وَإِنْ هُمْ} ما هم. {إِلاَّ يَظُنُّونَ} ظنّاً ووهماً لا حقيقة ويقيناً قاله قتادة والرّبيع.
وقال مجاهد:... يكذبون.
{فَوَيْلٌ} روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الويل واد في جهنّم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ إلى قعره».
سعيد بن المسيب: وادٍ في جهنّم لو سرت فيه جبال الدّنيا لماعت من شدّة حرّها.
ابن بريدة: جبل من قيح ودم.
ابن عبّاس: شدّة العذاب.
ابن كيسان: كلمة يقولها كلّ مكروب.
الزجّاج: كلمة يستغلّها كل واقع في الهلكة وأصلها العذاب والهلاك.
وقيل: هو دعاء الكفّار على أنفسهم بالويل والثّبور.
{لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} وذلك إنّ أحبار اليهود خافوا ذهاب ملكهم وزوال رئاستهم حين قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة واحتالوا في تعويق اليهود عن الإيمان به فعمدوا إلى صفته في التوّراة وكان صفته فيها حسن الوجه، حسن الشعر، أكحل العين، ربعة فغيروها وكتبوا مكانها طويل أزرق، سبط الشعر. فإذا سألهم سفلتهم عن محمّد صلى الله عليه وسلم قرأوا عليهم ما كتبوا فيجدونه مخالفاً لصفة محمّد صلى الله عليه وسلم فيكذبونه قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} من تغيير نعت محمّد.
{وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} من المأكول ولفظة الأيدي للتأكيد كقولهم مشيت برجلي ورأيت بعيني. قال الله تعالى: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38].
قال الشّاعر:
نظرت فلم تنظر بعينك منظراً

وقال أبو مالك: نزلت هذه الآية في الكاتب الّذي يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان قرأ البقرة وآل عمران، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يملي: غفوراً رحيماً، فيكتب: عليماً حكيماً، فيقول له النبيّ صلى الله عليه وسلم «اكتب كيف شئت» ويملي عليه: عليماً حكيماً، فيكتب: سميعاً بصيراً، فيقول النبيّ صلى الله عليه وسلم «اكتب كيف شئت» قال: فارتدّ ذلك الرّجل عن الإسلام ولحق بالمشركين. قال: أما يعلمكم محمّد صلى الله عليه وسلم أن كنت لأكتب ما شئت أنا، فمات ذلك الرّجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ الأرض لا تقبله».
قال: فأخبرني أبو طلحة: إنّه أتى الأرض الّتي بات فيها فوجده منبوذاً، فقال أبو طلحة: ما شأن هذا؟ قالوا: دفنّاه مراراً فلم تقبله الأرض.

.تفسير الآيات (80- 84):

{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}
{وَقَالُواْ} يعني اليهود.
{لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} قدراً مقدّراً ثمّ يزول عنّا العذاب وينقطع، واختلفوا في هذه الأيّام ما هي.
وقال ابن عبّاس ومجاهد: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود يقولون: مدّة الدّنيا سبعة آلاف سنة وإنّما نعذّب بكل ألف سنة يوماً واحداً ثمّ ينقطع العذاب بعد سبعة أيّام، فأنزل الله تعالى هذه الآية».
قتادة وعطاء: يعنون أربعين يوماً التي عبد أباؤهم فيها العجل وهي مدّة غيبة موسى عليه السلام عنهم.
الحسن وأبو العالية: قالت اليهود: إنّ ربّنا عتب علينا في أمرنا أقسم ليعذّبنا أربعين ليلة ثمّ يدخلنا الجنّة فلن تمسّنا النار إلاّ أربعين يوماً تحلّة القسم فقال الله تعالى تكذيباً لهم: قل يا محمّد {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ} ألف الاستفهام دخلت على ألف الوصل.
{عِندَ الله عَهْداً} موثقاً ألاّ يعذّبكم إلاّ هذه المدّة.
{فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ} وعده، وقال ابن مسعود: بالتوّعد يدلّ عليه قوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} [مريم: 87] يعني قال: لا إله إلاّ الله مخلصاً {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} قال: {بلى} بل (وبلى) حرفا استدراك ولهما معنيان لنفي الخبر الماضي واثبات الخبر المستقبل، قال الكسائي: الفرق بين (بلى ونعم)، إنّ بلى: أقرار بعد جحود، ونعم: جواب استفهام بغير جحد، فإذا قال: ألست فعلت كذا، فيقول: بلى، وإذا قال: ألم تفعل كذا؟
فيقول: بلى، وإذا قال: أفعلت كذا؟ فيقول: نعم.
قال الله تعالى {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ بلى} [الملك: 8-9] وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] وقال في غير الجحود {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ} [الأعراف: 44] قالوا {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا الأولون} [الصافات: 16-17] قل نعم وإنّما قال هاهنا بلى للجحود الّذي قبله وهو قوله: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً}
{مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} يعني الشرك.
{وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته} قرأ أهل المدينة خطيّاته بالجمع، وقرأ الباقون خطيته على الواحدة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم والاحاطة الاحفاف بالشيء من جميع نواحيه واختلفوا في معناها هاهنا.
وقال ابن عبّاس والضحاك وعطاء وأبو العالية والربيع وابن زيد: هي الشرك يموت الرجل عليه فجعلوا الخطيئة الشّرك.
قال بعضهم: هي الذّنوب الكثيرة الموجبة لأهلها النّار.
أبو رزين عن الربيع بن خيثم في قوله تعالى: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته} قال: هو الّذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب ومثله قال عكرمة وقال مقاتل: أصرّ عليها.
مجاهد: هي الذّنوب تحيط بالقلب كلّما عمل ذنباً إرتفعت حتّى تغشى القلب وهو الرّين.
وعن سلام بن مسكين أنّه سأل رجل الحسن عن هذه الآية؟
فقال السّائل: يا سبحان الله إلاّ أراك ذا لحية وما تدري ما محاطة الخطيئة! انظر في المصحف فكل آية نهى الله عزّ وجلّ عنها وأخبرك إنّه من عمل بها أدخله النّار فهي الخطئية المحيطة.
الكلبي: أو بقته ذنوبه دليله قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66]: أي تهلكوا جميعاً.
وعن ابن عبّاس: أحيطت بما له من حسنة فأحبطته.
{فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وهذا من العام المخصوص بصور منها إلاّ من تاب بعد أن حمل على ظاهره {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ} في التّوراة. قال ابن عبّاس: الميثاق: العهد الجديد.
{لاَ تَعْبُدُونَ} بالياء قرأه ابن كثير وحميد وحمزة والكسائي.
الباقون: بالتّاء وهو إختيار أبي عبيد وأبو حاتم.
قال ابو عمرو: ألا تراه يقول: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} فذلك المخاطبة على التّاء.
قال الكسائي: إنّما ارتفع لا يعبدون لأنّ معناه أخذنا ميثاق بني إسرائيل أن لا تعبدوا إلاّ الله فلمّا ألقى أن رفع الفعل ومثله قوله: {لاَ تَسْفِكُونَ}، نظير قوله عزّ وجلّ {أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ} [الزمر: 64]: يريد أن أعبد فلمّا حذفت النّاصبة عاد الفعل إلى المضارعة.
وقال طرفة:
ألا أيّهذا الزاجري احضر الوغى ** وأنْ أشهدَ اللّذاتِ هل أنت مخلدي

يريد أن أحضر، فلمّا نزع (أنْ) رفعه.
وقرأ أُبي بن كعب: لا تعبدوا جزماً على النهي أي وقلنا لهم لا تعبدوا الاّ الله {وبالوالدين إِحْسَاناً} ووصّيناهم بالوالدين إحسانا برّاً بهما وعطفاً عليهما.
وانّما قال بالوالدين واحدهما والدة؛ لأنّ المذكّر والمؤنّث إذا اقتربا غلب المذكّر لخفّته وقوتّه.
{وَذِي القربى} أي وبذي القرابة، والقربى مصدر على وزن فعلى كالحسنى والشّعرى.
قال طرفة:
وقربت بالقربى وجدك له يني ** فتحايك امر للنكيثة أشهد

{واليتامى} جمع يتيم مثل ندامى ونديم وهو الطفل الذي لا أبَّ له.
{والمساكين} يعني الفقراء.
{وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} اختلفت القراءة فيه فقرأ زيد بن ثابت وأبو العالية وعاصم وأبو عمرو {حُسْنا} بضم الحَاء وجزم السّين وهو اختيار أبي حاتم دليله قوله عزّ وجلّ: {بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: 8] وقوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً} [النمل: 11].
وقرأ ابن مسعود وخلف حَسنا بفتح الحاء والسّين وهو اختيار أبي عبيد وقوله: إنّما إخترناها لأنها نعت بمعنى قولاً حسناً.
وقرأ ابن عمر: حُسُنا بضم الحاء والسّين والتنوين مثل الرّعب والنّصب والسّحت والسُحق ونحوها.
وقرأ عاصم والجحدري: احساناً بالألف.
وقرأ أبي بن كعب وطلحة بن مصرف: حسنى وقرنت بالقربى بالتأنيث مرسلة.
قال الثعلبي: سمعت القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر بن عبدوس يقول: مجازه كلمة حسنى ومعناه قولوا للنّاس صدقاً وحقّاً في شأن محمّد صلى الله عليه وسلم فمن سألكم عنه فأصدقوه وبينوا له صفته ولا تكتموا أمره ولا تغيروا نعته هذا قول ابن عبّاس وابن جبير وابن جريج ومقاتل دليله قوله: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} [طه: 86] أي صدقاً.
وقال محمّد بن الحنفية: هذه الآية تشمل البرّ والفاجر.
وقال سفيان الثّوري: ائمروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر.
{وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أي أعرضتم عن العهد والميثاق {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ} نصب على الإستثناء.
{وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} وذلك أن قوماً منهم آمنوا.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ} لا تريقون {دِمَآءَكُمْ} وقرأ طلحة بن مصرف تسفكون بضم الفاء وهما لغتان مثل يعرشون ويعكفون.
وقرأ أبو مجلز: تسفكون بالتشديد على التكثير.
وقال ابن عبّاس وقتادة: معناه لا يسفك بعضكم دم بعض بغير حق وإنّما قال: {دماءكم} لمعنيين: أحدهما إن كلّ قوم إجتمعوا على دين واحد فهم كنفس واحدة.
والآخر: هو أنّ الرجل إذا قتل غيره كأنّما قتل نفسه لأنّه يقاد ويقتصّ منه {وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ} أي لا يخرج بعضكم بعضاً من داره ولا تسبوا من جاوركم فتلجئوهم إلى الخروج بسوء جواركم.
{ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} بهذا العهد إنّه حقّ.
{وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} اليوم على ذلك يا معشر اليهود.