فصل: تفسير الآيات (41- 48):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (41- 48):

{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)}
{وَقَالَ} نوح لهم: {اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مجراها} قرأ أبو رجاء العطاردي: مُجرِاها ومُرسِاها بضم الميمين وكسر الراء والسين وهي قراءة عبدالله.
قال ابن عباس: مجريها حيث تجري ومرساها حيث ترسو، أي تحسر في الماء.
وقرأ محمد بن محيصن بفتح الميمين وهما مصدران، يعني أن الله تعالى بيده جريها ورسوّها أي ثبوتها، جرى يجري جرياً ومجرى، ورسا يرسو رسوّاً ومُرسى، مثل ذهب مذهباً وضرب مضرباً. قال امرؤ القيس:
تجاوزت أحراساً وأهوال معشر ** عليَّ حرامٌ لو يسرّون مقتلي

أي: قتلي.
وقرأ الباقون بضم الميمين، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، ومعناه: بسم الله إجراؤها وإرساؤها، كقوله تعالى: {أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً} [المؤمنون: 29] {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] بمعنى الإنزال والإدخال والإخراج.
{إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} قال الضحاك: كان نوح إذا أراد أن يرسو قال: بسم الله، فرست، وإذا أراد أن تجري قال: بسم الله، فجرت.
{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجبال ونادى نُوحٌ ابنه} كنعان وكان عنيداً وقيل وكان كافراً.
{وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} عنه لم يركب معه الفلك.
{يابني اركب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} فتهلك، قال له ابنه: {سآوي} سأصير وأرجع {إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي} يمنعني {مِنَ المآء} ومنه عصام القربة الذي يربط رأسها فيمنع الماء أن يسيل منها.
{قَالَ} نوح {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} عذاب الله إلاّ من رحمناه، وأنقذناه منه، ومن في محل رفع، وقيل: في محل النصب ومعناه لا معصوم اليوم من أمر الله إلاّ من رحمه الله، كقوله تعالى: {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] [القارعة: 7] و{مَّآءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] قال الشاعر:
بطيء القيام رخيم الكلام ** أمسى فؤادي به فاتنا

أي مفتوناً.
{وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ} فصار {مِنَ المغرقين * وَقِيلَ} بعدما تناهى أمر الطوفان {ياأرض ابلعي} أي اشربي {مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي} امسكي {وَغِيضَ المآء} فذهب ونقص ومصدره الغيض والغيوض.
{وَقُضِيَ الأمر} أي وفرغ من العذاب {واستوت} يعني السفينة استقرّت ورست وحلّت {عَلَى الجودي} وهو جبل بالجزيرة بقرب الموصل، قال مجاهد: تشامخت الجبال وتطاولت لئلاّ ينالها الماء فعلا الماء فوقها خمسة عشر ذراعاً وتواضع الجودي وتطامن لأمر ربّه فلم يغرق، فأرسيت السفينة عليه.
{وَقِيلَ بُعْداً} هلاكاً {لِّلْقَوْمِ الظالمين} الكافرين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في أوّل يوم من رجب وفي بعض الأخبار: لعشر مضت من رجب ركب نوح في السفينة فصام هو ومن معه وجرت بهم السفينة ستة أشهر، ومرّت بالبيت فطاف به سبعاً وقد رفعه الله من الغرق، وأرسيت السفينة على الجودي يوم عاشوراء، فصام نوح وأمر جميع من معه من الوحوش والدواب فصاموا شكراً لله عزّ وجلّ».
{وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي} وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي {وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق} أي الصدق {وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} أي تحكم على قوم بالنجاة وعلى قوم بالهلاك.
{قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} وقرأ أهل الكوفة عَمِلَ بكسر الميم وفتح اللام، غير بنصب الراء على الفعل ومعناه: إنه عمل الشرك والكفر، وقرأ الباقون عَملٌ بفتح الميم وضمّ اللام وتنوين غير بالرفع ومعناه: إنّ سؤالك إياي أن أنجيه عملٌ غيرُ صالح.
{فَلاَ تَسْئَلْنِ} يا نوح {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} بما لا تعلم وقرأ ابن كثير بتشديد النون وفتحه، وقرأ أهل المدينة والشام بتشديد النون وكسره.
{إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} واختلفوا في هذا الابن فقال بعضهم: إنه لم يكن ابن نوح، ثم اختلفوا فيه، فقال بعضهم: كان ولد خبث من غيره، ولم يعلم بذلك نوح، فقال الله تعالى: إنه ليس من أهلك أي من ولدك، وهو قول مجاهد والحسن، وقال قتادة: سألت الحسن عنه فقال: والله ما كان بابنه، وقرأ {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10] فقال: إن الله حكى عنه إنه قال: إن ابني من أهلي، وقال: ونادى نوح ابنه وأنت تقول: لم يكن ابنه، وإن أهل الكتابين لا يختلفون في انه كان ابنه. فقال الحسن: ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب، إنهم يكذبون.
وقال ابن جريج: ناداه وهو يحسب أنه ابنه، وكان ولدَ على فراشه، وقال عبيد بن عمير، نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قضى أن الولد للفراش من أجل ابن نوح، وقال بعضهم: إنه كان ابن امرأته واستدلّوا بقول نوح: إن ابني من أهلي ولم يقل: منّي، وهو قول أبي جعفر الباقر.
وقال الآخرون: كان ابنه ومن فصيلته، ومعنى قوله: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم، وقالوا: ما بغت امرأته ولا امرأة لوط وإنما كانت خيانتهما في الدين لا في الفراش، وذلك أن هذه كانت تخبر الناس أنه مجنون، وهذه كانت تدلّ على الأضياف، وهو قول ابن عباس وعكرمة والضحاك وسعيد بن جبير وميمون بن مهران.
قال أبو معاوية البجلي: قال رجل لسعيد بن جبير: قال نوح إن ابني من أهلي، أكان ابن نوح؟ فسبّح طويلا، وقال: لا إله إلاّ الله يحدث الله محمداً صلى الله عليه وسلم انه ابنه وتقول ليس ابنه، كان ابنه ولكنه كان مخالفاً في النية والعمل والدين، فمن ثم قال تعالى: انه ليس من أهلك، وهذا القول أولى بالصواب وأليق بظاهر الكتاب.
فقال نوح عليه السلام عند ذلك {رَبِّ إني أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وترحمني أَكُن مِّنَ الخاسرين * قِيلَ يانوح اهبط} انزل من السفينة إلى الأرض {بِسَلاَمٍ} بأمن وسلامة {مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} وهم الذين كانوا معه في السفينة.
وقال أكثر المفسّرين: معناه وعلى قرون تجيء من ذريّة من معك من الذين آمنوا معك من ولدك، وهم المؤمنون وأهل السعادة من ذريته {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} في الدنيا {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهم الكافرون وأهل الشقاوة. وقال محمد بن كعب القرضي: داخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وكذلك داخل في ذلك العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة.
قال الضحاك: زعم أُناس إن من غرق من الولدان مع آبائهمن وإنّما ليس كذلك وإنّما الولدان بمنزلة الطير، وسائر من أغرق الله يعود لابنه ولكن حضرت آجالهم فماتوا لآجالهم والمذكورين من الرجال والنساء ممّن كان الغرق عقوبة من الله لهم في الدنيا ثم مصيرهم إلى النار.

.تفسير الآيات (49- 60):

{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)}
{تِلْكَ} الذي ذكرت {مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهَآ إِلَيْكَ} يا محمد {وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا} من قبل إخباري إياك {فاصبر} على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته وما تلقى من أذى الكفار كما صبر نوح {إِنَّ العاقبة} آخر الأمر بالسعادة والظفر والمغفرة {لِلْمُتَّقِينَ} كما كان لمؤمني قوم نوح وسائر الأمم.
{وإلى عَادٍ} أي فأرسلنا إلى عاد {أَخَاهُمْ هُوداً} في النسب لا في الدين {قَالَ ياقوم اعبدوا الله} وحّدوا الله وأكثروا العبادة في القرآن بمعنى التوحيد {مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} ما أنتم في إشراككم معه الأوثان إلاّ كاذبون.
{ياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} على تبليغ الرسالة ولا أبتغي جعلا {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الذي فطرني} والفطرة ابتداء الخلقة {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} وذلك أن الأمم قالت للرسل: ما تريدون إلاّ أن تأخذوا أموالنا فقالت الرسل لهم هذا.
{وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ} أي آمنوا به يغفر لكم، والإستغفار هنا بمعنى الإيمان {ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} من عبادتكم غيره وسالف ذنوبكم، وقال الفرّاء: معناه وتوبوا إليه لأن التوبة استغفار والاستغفار توبة.
{يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} متتابعاً، وقال مقاتل بن حيان وخزيمة بن كيسان: غزيراً كثيراً.
{وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ} شدّة مع شدّتكم، وذلك أن الله حبس عنهم القطر في سنين وأعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين فقال لهم هود: إن آمنتم أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد.
{وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ} ولا تدبروا مشركين {قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} بيان وبرهان على ما تقول فنقر ونسلّم لك {وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} أي بقولك، والعرب تضع الباء موضع عن، وعن موضع الباء.
{وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} بمصدّقين {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء} يعني لست تتعاطى ما تتعاطاه من مخالفتنا وسبّ آلهتنا إلاّ أن بعض آلهتنا اعتراك وأصابك بسوء، بل جنون، وهذيان، هو الذي يحملك على ما تقول وتفعل، ولا نقول فيك إلاّ هذا ولا نحمل أمرك إلاّ على هذا، فقال لهم هود: {إني أُشْهِدُ الله} على نفسي {واشهدوا أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ} يعني الأوثان {فَكِيدُونِي جَمِيعاً} فاحتالوا جميعاً في ضرّي ومكري أنتم وأوثانكم {ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ}.
قال الضحاك: يحييها ويميتها، قال الفرّاء: مالكها والقادر عليها، قال القتيبي: يقهرها لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته، قال ابن جرير: إنما خصّ الناصية لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنساناً بالذلة والخضوع فيقولون: ما ناصية فلان إلاّ بيد فلان أي إنه مطيع له يصرفه كيف شاء، وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا اطلاقه والمنّ عليه جزوا ناصيته ليغتروا بذلك فخراً عليه، فخاطبهم بما يعرفون في كلامهم.
{إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يقول: إنّ ربي على طريق الحق يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بمعصيته ولا يظلم أحداً غيّاً ولا يقبل إلاّ الإسلام، والقول فيه إضمار أنيّ: إنّ ربي يدلّ أو يحثّ أو يحملكم على صراط مستقيم.
{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} أي قل يا محمد: فقد أبلغتكم {مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} يوحّدونه ويعبدونه {وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً} بتولّيكم وإعراضكم وإنما تضرون أنفسكم، وقيل: معناها لا تقدرون له على خير إن أراد أن يضلكم، وقرأ عبدالله: ولا يضره هلاككم إذا أهلككم ولا تنقصونه شيئاً، لأنه سواء عنده كنتم أو لم تكونوا.
{إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} أي لكل شيء حافظ، على بمعنى اللام، فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء.
{وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} عذابنا {نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ} وكانوا أربعة آلاف {بِرَحْمَةٍ} بنعمة {مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} وقيل: الريح، قيل: أراد بالعذاب الغليظ عذاب القيامة أي كما نجّيناهم في الدنيا من العذاب كذلك نجّيناهم في الآخرة من العذاب.
{وَتِلْكَ عَادٌ} رده إلى القبيلة {جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ} يعني هوداً وحده لأنه لم يُرسل إليهم من الرسل سوى هود، ونظيره قوله تعالى: {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} [المؤمنون: 51] يعني النبي صلى الله عليه وسلم وإنه لم يكن في عصره رسول سواه، وإنما جمع هاهنا لأن من كذّب رسولا واحداً فقد كذّب جميع الرسل.
{واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} متكبّر لا يقبل الحق ولا يذعن له، قال أبو عبيد: العنيد والعنود والعاند والمعاند: المعارض لك بالخلاف، ومنه قيل للعرق الذي يفجر دماً فلا يرقى: عاند قال الراجز:
إنّي كبيرٌ لا أطيقُ العندا... {وَأُتْبِعُواْ} ألحقوا وأردفوا {فِي هذه الدنيا لَعْنَةً} يعني بعداً وعذاباً وهلاكاً {وَيَوْمَ القيامة} أي وفي يوم القيامة أيضاً كذلك لعنوا في الدنيا والآخرة {ألا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ} أي بربهم، كما يقال: شكرته وشكرت له، وكفرته وكفرت به ونصحته ونصحت له، قيل بمعنى: كفروا نعمة ربهم.
{أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} البُعد بعدان: أحدهما البُعد ضد القرب، يقال: بعد يبعد بُعداً، والآخر بمعنى الهلاك ويقال منه: بَعد يَبعد بَعداً وبُعْداً.

.تفسير الآيات (61- 68):

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)}
{وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ} ابتدأ خلقكم {مِّنَ الأرض} وذلك أن آدم خلق من الأرض وهم منه {واستعمركم فِيهَا} وجعلكم عمّارها وسكانها، قال ابن عباس: أعاشكم فيها، الضحّاك: أطال أعماركم، مجاهد: أعمركم من العمر أي جعلها داركم وسكنكم، قتادة: أسكنكم فيها.
{فاستغفروه ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ} ممّن رجاه {مُّجِيبٌ} لمن دعاه.
{قَالُواْ} يعني قوم ثمود {ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا} القول أي كنا نرجو أن تكون فينا سيّداً، وقيل: كنا نرجو أن تعود إلى ديننا {أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} من الآلهة.
{وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} موقع في الريبة وموجب إليها، يقال: أربته إرابة إذا فعلت به فعلا يوجب لديه الريبة، قال الهذلي:
كنت إذا أتيته من غيبِ ** يشم عطفي ويبز ثوبى

كأنما أربته بريب... {قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} نبوة وحكمة {فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله} لا يمنعني من عذاب الله {إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} قال ابن عباس: غير خسارة في خسارتكم، الفرّاء: تضليل، قال الحسين بن الفضيل: لم يكن صالح في خسارة حين قال، علمت علم العرب، فما تزيدونني غير تخسير، وإنما المعنى ما تزيدونني، كما يقولون: ما أسبق إياكم إلى الخسارة، وهو قول العرب: فسقته وفجرته إذا نسبته إلى الفسق والفجور، وكذلك خسرته: نسبته إلى الخسران.
{وياقوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً} نصب على الحال والقطع {فَذَرُوهَا} أي دعوها تأكل في أرض الله من العشب والنبات فليس عليكم رزقها ولا مؤنتها.
{وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء} ولا تصيبوها بعقر ونحر {فَيَأْخُذَكُمْ} إن قتلتموها {عَذَابٌ قَرِيبٌ} من عقرها {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ} لهم صالح {تَمَتَّعُواْ} حتى يحين عذابه {فِي دَارِكُمْ} منازلكم {ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} تمهلون {ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} غير كذب وقيل: غير مكذوب فيه.
{فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ} نعمة وعصمة {مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} عذابه وهوانه.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوي العزيز * وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} يعني صيحة جبريل {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} صرعى، هلكى {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ} يقيموا ويكونوا {فِيهَآ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ}.