فصل: تفسير الآيات (7- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (7- 18):

{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)}
يقول الله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ} أي في خبره وخبر إخوته {وَإِخْوَتِهِ} وأسماؤهم روبيل وهو أكبرهم، وشمعون، ولاوي، ويهودا، وزيالون، وأمنجر، وأُمهم ليا بنت ايان وهي ابنة خال يعقوب، وولد له من سريّتين له اسم احداهما زاد الأُخرى ملده، أربعة نفر، دان ونفتالي وجاد وآشر، ثم توفيت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين، وكان بنو يعقوب اثني عشر رجلا.
{آيَاتٌ} قرأ أهل مكة آية على الواحد، أي عظة وعبرة، وقيل: عجب، يقال: فلان آية في الحسن والعلم أي عجب، وقرأ الباقون: آيات على الجمع {لِّلسَّائِلِينَ} وذلك أن اليهود سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فأخبرهم بها كما في التوراة فعجبوا منه وقالوا: من أين لك هذا يا محمد؟ قال: «علّمنيه ربي» وقيل: معناه للسائلين ولمن لم يسأل، كقوله: {سَوَآءً لِّلسَّآلِينَ}.
{إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ} اللام فيه جواب القسم تقديره: تالله ليوسف وأخوه بنيامين {أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي جماعة والعصبة ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل: إلى الخمسة عشر، وقيل: ما بين العشرة إلى الأربعين ولا واحد لها من لفظها كالنفر والرهط {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} خطأ بيّن في إيثاره يوسف وأخاه علينا.
{اقتلوا يُوسُفَ} اختلفوا في تأويل هذا القول، فقال وهب: قاله شمعون، كعب: دان، مقاتل: روبيل {أَوِ اطرحوه أَرْضاً} أي في أرض {يَخْلُ لَكُمْ} يخلص ويصفو لكم.
{وَجْهُ أَبِيكُمْ} عن شغله بيوسف فإنه قد شغله عنّا وصرف وجهه إليه عنّا {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ} من بعد قتل يوسف {قَوْماً صَالِحِينَ} تائبين، وقال مقاتل: يصلح أمركم فيما بينكم وبين أبيكم.
{قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ} وهو روبيل، وقال السدي: هو يهودا، وهو أعظمهم وكان ابن خالة يوسف، وكان أحسنهم فيدايا نهاهم عن قتله وقال لهم: {لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ} فإن قتله عظيم.
{وَأَلْقُوهُ فِي غيابت الجب} أي في قعر الجب وظلمته حيث يغيب خبره، قتادة: في أسفله، والغيابة: كل شيء غَيَّبَ شيئاً، وأصلها من الغيبوبة، وقرأ أهل المدينة: غيابات الجب، على الجمع، والباقون: غيابة، على الواحد، والجبّ: البئر غير المطويّة، قتادة: هو بئر بيت المقدس، وقال وهب: هو بأرض الأردن، كعب: بين مدين ومصر، مقاتل: على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب.
{يَلْتَقِطْهُ} بعض السيارة يأخذه، قراءة العامة بالياء لأنه البعض وقرأ الحسن: تلتقطه بالتاء لأجل السيارة، والعرب تفعل ذلك في كل خبر كان عن مضاف إلى مؤنث يكون الخبر عن بعضه خبراً عن جميعه، كقول الشاعر:
أرى مرّ السنين أخذن مني ** كما أخذ السرار من الهلال

ولم يقل أخذت وقال الآخر:
إذا مات منهم سيد قام سيد ** فدانت له أهل القرى والكنائس

{بَعْضُ السيارة} بعض مارّي الطريق من المسافرين فيذهب به إلى ناحية أخرى فينستر خبره {إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} ما أقول لكم.
قيل للحسن: أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك بني يعقوب؟ لهذا قيل: الأب جلاب، والأخ سلاب، فعند ذلك أجمعوا على التفريق بينه وبين والده بضرب من الاحتيال، فقالوا ليعقوب {قَالُواْ ياأبانا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا} قرأ أبو جعفر بالنون، وقرأ الباقون بإشمام النون للضمّة، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لأن أصله تأمننا بنونين فأُدغمت أحدهما في الأخرى.
{لَهُ لَنَاصِحُونَ} نحوطه ونحفظه حتى نردّه إليك، مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير وذلك أن أخوة يوسف قالوا لأبيهم {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} قال أبوهم: {إِنِّي ليحزنني أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} فحينئذ قالوا {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً} إلى الصحراء {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ}.
وقرأ أبو عمرو بالنون فيهما وكذلك ابن عامر قال، هارون: فقلت لأبي عمرو: كيف تقرأ نرتع ونلعب وهم أنبياء؟ قال: لم يكونوا يومئذ أنبياء، وقرأ أهل الكوفة كلاهما بالياء أي ننعم ونأكل وننشط ونلهو، يقال: رتع فلان في ماله إذا أنعم وأنفقه في شهواته. قال القطامي:
أكفراً بعد ردّ الموت عنّي ** وبعد عطائك المائة الرتاعا

وقال ابن زيد: معناه يرعى غنمه، وينظر ويعقل فيعرف ما يعرف الرجل.
وقرأ يعقوب {نرتع} بالنون {وَيَلْعَبْ} بالياء ردّاً للعب إلى يوسف والرتوع إلى إخوته، وقرأ أهل الحجاز نرتع بكسر العين من الارتعاء، أي نتحارس ويحفظ بعضنا بعضاً {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
{قَالَ} لهم يعقوب {إِنِّي ليحزنني أَن تَذْهَبُواْ بِهِ} أي ذهابكم {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} لا تشعرون، وذلك أن يعقوب رأى في منامه أن الذئب قد شدّ على يوسف وكان يحذره، ومن ثم قال هذا فلقّنهم العلة وكانوا لا يدرون فقالوا: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} عشرة رجال {إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ} ضعفة عجزة مغبونون.
{فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ} في الكلام إضمار واختصار تقديره فأرسله معهم فلمّا ذهبوا به {وأجمعوا} وعزموا على {أَن يَجْعَلُوهُ فِي غيابت الجب وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْه} هذه الواو مقحمة زائدة تقديره أوحينا، كقوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ} [الصافات: 103104] أي ناديناه وقال امرؤ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحيّ وانتحى ** بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل

أراد انتحى.
{لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} يعني أوحينا إلى يوسف، سوف تتحقق رؤياك، ولتخبرنّ إخوتك بصنيعهم هذا وما فعلوه بك، وهم لا يشعرون بوحي الله إليه وإعلامه إياه ذلك، وهذا معنى قول مجاهد، وقيل: معناه وهم لا يشعرون أنك يوسف.
قال ابن عباس: لما دخل إخوة يوسف على يوسف فعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطنَّ وقال: أنه ليخبرني هذا الجام إنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف، يدنيه دونكم، وإنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجب ثم جئتم أباكم فقلتم: إن الذئب أكله وبعتموه بثمن خس، فذلك قوله: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}.
قال السدّي: أرسل يعقوب يوسف معهم فأخرجوه وبه عليهم من الكرامة، فلمّا برزوا إلى البرية أظهروا له العداوة وجعل أخوه يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه، فجعل لا يجد منهم رحمة، فضربوه حتى كادوا يقتلونه فجعل يصيح ويقول: يا أبتاه يا يعقوب، لو تعلم ما يصنع بابنك هؤلاء الأبناء.
فلمّا كادوا ليقتلوه قال يهودا: أليس سألنا أبانا موثقاً ألاّ تقتلوه؟ فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه فجعلوا يدلونه في البئر، فتعلق بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال: يا إخوتاه، ردّوا عليّ القميص أتوارى به في الجب، فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً تؤنسك، قال: إنّي لم أرَ شيئاً.
فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت، وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فيه فقام عليها، فلمّا ألقوه في الجب جعل يبكي فنادوه فظن أنّها رحمة أدركتهم، فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه فقام يهودا فمنعهم وقال: قد أعطيتموني موثقاً ألاّ تقتلوه، وكان يهودا يأتيه بالطعام. ويقال: إن الله تعالى أمر صخرة حتى ارتفعت من أسفل البئر فوقف يوسف عليها وهو عريان، وكان إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم حين أُلقي في النار جرّد من ثيابه وقذف في النار عرياناً فأتاه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه وكان ذلك القميص عند إبراهيم، فلمّا مات ورثه إسحاق، فلمّا مات إسحاق ورثه يعقوب، فلمّا شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذ وعلّقه في عنقه، فكان لا يفارقه، فلمّا أُلقي في البئر عرياناً جاء جبرئيل وكان عليه ذلك التعويذ أخرج القميص منه وألبسه إياه، قال ابن عباس: ثم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميص يوسف.
{وجآءوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ} ليكونوا أجرأ في الظلمة على الاعتذار وترويج ما مكروا، وقد قيل: لا تطلب الحاجة بالليل وإن الحياء في العينين، ولا يعتذر من ذنب في النهار فيتلجلج في الاعتذار فلا يقدر على إتمامه، وقيل: أخّروا المجيء إلى وقت العشاء الآخرة ليدلّسوا على أبيهم.
قال السدّي: فلمّا سمع أصواتهم فزع وقال: ما لكم يا بنىّ؟ وهل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا، قال: فما أصابكم؟ وأين يوسف؟
{قَالُواْ ياأبانآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} أي نترامى، دليله قول عبد الله: ننتضل، السدّي وابن حيان: نشتد {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذئب وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ} مصدّق {لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} لسوء ظنّك بنا وتهمتك لنا، وهذا قميصه ملطخ بالدم فذلك قوله: {وَجَآءُو على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أي بدم كذب، وقيل: بدم ذي كذب لأنه لم يكن دم يوسف وإنما كان دم شاة، وهذا كما يقال: الليلة الهلال، وقيل: معناه بدم مكذوب فيه، فوضع المصدر موضع الاسم، كما يقال: ماله عقل ولا معقول.
وقرأت عائشة: بدم كدب بالدال غير المعجمة، أي طري، فبكى يعقوب عند ذلك، وقال لبنيه: أروني قميصه فأروه، فقال: يالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا، أكل ابني ولم يخرق عليه قميصه، فحينئذ {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ} رتبت {أَمْراً فَصَبْرٌ} أي فمنّي أو فعليَّ صبر، وقيل: فصبري صبرٌ {جَمِيلٌ} وقرأ الأشهب والعقيلي: فصبراً على المصدر أي فلأصبرنّ صبراً جميلا، وهو الصبر الذي لا جزع ولا شكوى فيه.
وقيل: معناه لا أعاشركم على كآبة الوجه وحبوس الحنين، بل أكون في المعاشرة معكم جميلا كما كنت.
وروى عبد الرزاق عن الثوري عن حبيب بن ثابت أن يعقوب النبي عليه السلام كان قد سقط حاجباه على عينيه وكان يرفعهما بخرقة فقيل له: ما هذا؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله إليه: يا يعقوب أتشكوني؟ قال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي.
{والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} من الكذب، قالوا: وكان يوسف حين أُلقي في الجب ابن ثماني عشرة سنة، وقيل: سبع عشرة سنة، وقيل: كان ابن عشر، ومكث فيه ثلاثة أيام.

.تفسير الآيات (19- 22):

{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)}
{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} أي رفقة مارة من قبل مدين يريدون مصر، فأخطأوا الطريق فانطلقوا يمشون على غير الطريق حتى نزلوا قريباً من الجب، وكان الجب في قفرة بعيداً من العمران، إنما هو للرعاة والمجتازة، وكان ماؤه مالحاً فعذب حين أُلقي فيه يوسف، فلما نزلوا أرسلوا رجلا من أهل مدين يقال له مالك بن ذعر ليطلب لهم الماء فذلك قوله: {فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} الوارد: الذي يتقدم الرفقة إلى الماء فيُهيّئ الأرشية والدلاء، فوصل إلى البئر {فأدلى} فيها {دَلْوَهُ} أي أرسلها يقال: أدليت الدلو في الماء إذا أرسلتها فيها، ودلَوتها دلواً إذا أخرجتها منها، فتعلّق يوسف عليه السلام بالحبل، فلمّا خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون من الغلمان.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أُعطي يوسف شطر الحسن والنصف الآخر لسائر الناس»، قال كعب الأحبار: كان يوسف حسن الوجه جعد الشعر، ضخم العينين، مستوي الخلق، أبيض اللون، غليظ الساقين والساعدين والعضدين، خميص البطن، صغير السرة، وكان إذا ابتسم رأيت النور في ضواحكه، وإذا تكلم رأيت في كلامه شعاع النور، ينبهر بين ثناياه ولا يستطيع أحد وصفه، وكان حسنه كضوء النهار عند الليل، وكان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه الله وصوره ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية، ويقال: إنه ورث ذلك الجمال من جدّته سارة وكانت قد أُعطيت سدس الحسن.
فلمّا رآه مالك بن ذعر {قَالَ يابشرى هذا غُلاَمٌ} واختلفت القراء في قوله: يا بشري، فقرأ أهل الكوفة بسكون الياء، وقالوا: نادى مالك في رجلا من أصحابه، اسمه بشري، فقال: يا بشر، كما يقول: يا زيد، وهذا في محل رفع على النداء المفرد، وهذا قول السدّي.
وقرأ الباقون: يا بشرايَ بالألف وفتح الياء على الإضافة وقالوا: بشّر المستقي أصحابه بأنه أصاب عبداً.
{وَأَسَرُّوهُ} واخفوه {بِضَاعَةً} نصب على الحال، قال مالك بن ذعر أصحابه من التجار الذين معه وقالوا لهم: هو بضاعة استبضعناها بعض أهل الماء إلى مصر خيفة أن يطلبوا منهم فيه الشركة إنْ علموا بثمنه، عطية عن ابن عباس: يعني بذلك إخوة يوسف، أسرّوا شأن يوسف أن يكون أخاهم وقالوا: هو عبد لنا أبق منّا.
قال الله تعالى {والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} فأتى يهودا يوسف بالطعام فلم يجده في البئر فأخبر أخوته بذلك فطلبوه، فإذا هم مالك وأصحابه نزول، فأتوهم فإذا هم بيوسف فقالوا: هذا عبد أبق منّا، وقال وهب: كان يهودا مستنداً من بعيد ينظر ما يطرأ على يوسف، فلمّا أخرجوه رآه فأخبر الآخرين، فأتوا مالكاً وقالوا: هذا عبدنا، وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته، فقال مالك: أنا اشتريه منكم، فباعوه منه فذلك قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ} أي باعوه، قال ابن مفرغ الحميري:
وشريتُ بُرداً ليتني ** من بعد بُرد كنتُ هامه

أي بعت برداً وهو غلامه.
{بِثَمَنٍ بَخْسٍ} ناقص وهو مصدر وضع موضع الاسم، قال قتادة: ظلم، الضحاك ومقاتل والسدي: حرام، لأن ثمن الحر حرام، عكرمة والشعبي: قليل، ابن حيان: زيف {دَرَاهِمَ} بدل من الثمن {مَعْدُودَةٍ} وذكر العدد عبارة عن القلة، أي باعوه بدراهم معدودة قليلة غير موزونة، ناقصة غير وافية، وقال قوم: إنما قال معدودة لأنهم كانوا في ذلك الزمان لا يزنون ما كان وزنه أقل من أربعين درهماً، إنما كان يعدونها عدّاً، فإذا بلغ أوقية وزنوه، لأن أقل أوزانهم وأصغرها يومئذ كان أوقية، والأوقية أربعون درهماً.
واختلف العلماء في مبلغ عدد الدراهم التي باعوه بها، فقال ابن سعود وابن عباس وابن قتادة والسدّي: عشرون درهماً، فاقتسموها درهمين درهمين، مجاهد: اثنان وعشرون درهماً، عكرمة: أربعون درهماً.
{وَكَانُواْ} يعني أخوة يوسف {فِيهِ} في يوسف {مِنَ الزاهدين} لم يعلموا كرامته على الله ولا منزلته عنده.
ثم انطلق مالك بن ذعر وأصحابه بيوسف وتبعهم إخوته يقولون لهم: استوثقوا منه لا يأبق، فذهبوا حتى قدموا به مصر، فاشتراه قطفير، قاله ابن عباس، وقيل: اطفير بن روجيت وهو العزيز وكان على خزائن مصر.
وكان الملك يومئذ بمصر ونواحيها الريان بن الوليد بن ثروان بن ارامة بن فاون بن عمرو ابن عملاق بن لاود بن سام بن نوح، وقيل: إن هذا الملك لم يمت حتى آمن واتبع يوسف على دينه ثم مات يوسف بعد حيّ، فملك بعده قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن اليبلواس بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوي بن سام بن نوح وكان كافراً فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى أن يقبل.
قال ابن عباس: لما دخلوا مصر تلقى قطفير مالك بن ذعر فابتاع يوسف منه بعشرين ديناراً وزوج نعل وثوبين أبيضين، وقال ابن منبه: قدمت السيّارة بيوسف مصر فعرضوه للبيع فترافع الناس في ثمنه وتزايد حتى بلغ ثمنه وزنه مسكاً وورقاً فابتاعه قطفير بن مالك بهذا الثمن فذلك قوله تعالى: {وَقَالَ الذي اشتراه مِن مِّصْرَ}.
فإن قيل: كيف أثبت الشرى في قوله وشروه واشتراه ولم ينعقد عليه؟ والجواب: إن الشراء هو المماثلة فلمّا ماثله بمال من عنده جاز أن يقال: اشتراه، على التوسع، كقوله تعالى: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ} [التوبة: 111] الآية، فلمّا مرّ قطفير وأتى به منزله قال لامرأته واسمها راحيل بنت رعابيل، قاله محمد بن إسحاق بن يسار.
قال الثعلبي: وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن منبه، قال: حدثنا أبو حامد المستملي، حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: اسم امرأة العزيز التي ضمّت يوسف زليخا بنت موسى.
{أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} منزله ومقامه، قتادة وابن جريج: منزلته {عسى أَن يَنفَعَنَآ} فيكفينا إذا بلغ وفهم الأُمور وبعض ما نحن نستقبله من أُمورنا.
{أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} أي نتبنّاه، قال ابن إسحاق: كان قطفير لا يأتي النساء، وكانت امرأته راحيلحسناء ناعمة طاعمة في ملك ودنيا.
قال الثعلبي: أخبرنا أبو بكر الجوزقي، أخبرنا أبو العباس الدغولي، حدثنا علي بن الحسن الهلالي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا زهير عن أبي إسحاق عن أبي عبيد عن عبد الله قال: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرّس في يوسف فقال: أكرمي مثواه، والمرأة التي أتت موسى فقالت لأبيها: يا أبت استأجره، وأبو بكر حين استخلف عمر.
{وكذلك} أي وكما أنقذ يوسف من أيدي إخوته وقد هموا بقتله فأخرجناه من الجُبّ بعد أن ألقي فيه، فصيرناه إلى الكرامة والمنزلة الرفيعة عند عزيز مصر {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض} يعني أرض مصر، فجعلناه على خزائنها، قال أهل الكتاب: لما تمّت ليوسف عليه السلام ثلاثون سنة، استوزره فرعون.
{وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} أي ولكي نعلّمه من عبارة الرؤيا، مكنّا له في الأرض {والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ} اختلفوا في هذه الكناية، فقال قوم: هي راجعة إلى الله عزّ وجلّ، وتقدير الكلام: لا يغلب الله شيء، بل هو الغالب على أمره يفعل ما يشاء، ويعلم ما يريد، وقال آخرون: راجعة إلى يوسف، ومعنى الآية: والله مستول على أمر يوسف يسوسه ويحوطه ويدبّر أمره، ولا يكله إلى غيره.
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ما الله صانع بيوسف، وما إليه يوسف من أمره صائر، وهم الذين زهدوا فيه وباعوه بثمن بخس وفعلوا به ما فعلوا.
قالت الحكماء في هذه: والله غالب على أمره حيث أمر يعقوب يوسف عليهما السلام أن لا يقصّ رؤياه على إخوته فغلب أمر الله حين قصّ، ثم أراد يعقوب أن لا يكيدوا فغلب أمره حتى كادوا، ثم أراد أخوة يوسف قتله فغلب أمره حتى لم يقتلوه، ثم أرادوا أن يلقوه في الجب ليلتقطه بعض السيارة فيندرس اسمه، فغلب أمره حتى لم يندرس اسمه وصار مذكوراً مشهوراً.
ثم باعوه ليكون مملوكاً فغلب أمره حتى صار ملكاً والعبيد بين يديه، ثم أرادوا أن يخلوا لهم وجه أبيهم، فغلب أمره حتى ضاق عليهم قلب أبيهم، ثم تدبّروا أن يكونوا من بعده قوماً صالحين تائبين، فغلب أمره حتى نسوا الذنب وأصروا حتى أقروا بين يدي يوسف في آخر الأمر بعد أربعين سنة، وقالوا: وإن كنا خاطئين، وقالوا لأبيهم: إنا كنا خاطئين.
ثم أرادوا أن يغرّوا باسم القميص والدم والبكاء، فغلب أمره حتى لم يخدع، وقال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} ثم احتالوا أن تذهب محبته من قبل أبيه، فغلب أمره حتى ازدادت المحبة والشوق في قلبه، ثم تدبّر يوسف أن يتخلص من السجن بذكر الساقي، فغلب أمره حتى نسي الساقي في ذكره، ولبث في السجن بضع سنين، ثم احتالت امرأة العزيز أن تترك المراودة عن نفسها حتى قالت {مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا} الآية، فغلب أمره حتى شهد الشاهد من أهلها.
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي منتهى شبابه وشدّة قوته، قال مجاهد: ثلاثاً وثلاثين سنة، الضحاك: عشرين سنة، وروى ابن عباس أنه ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة، وقيل: إلى أربعين، وقيل: إلى ستين، والأشُدّ: جمع شد، مثل قدّ، أقُدّ، وشرّ وأشُرّ، وضر وأضرّ، قال حميد:
وقد أتى لو تعبت العواذل ** بعد الاشل أربع كوامل

قال الشاعر:
هل غير أن كثر الأشل وأهلكت ** حرب الملوك أكاثر الأموال

{آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} قال مجاهد: العقل والفهم والعلم قبل النبوة، وقال أهل المعاني: يعني إصابة في القول، وعلماً بتأويل الرؤيا وموارد الأُمور ومصادرها.
{وكذلك نَجْزِي المحسنين} قال ابن عباس: المؤمنين، وعنه أيضاً: المهتدين، وقال الصدوق عن الضحاك: يعني الصابرين على النوائب كما صبر يوسف، وقال محمد بن كعب: هذا وإن كان مخرج ظاهره على كل محسن، فإن المراد به محمد نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: كما فعلت بيوسف بعدما لقي من إخوته ما لقي وقاسى من البلاء ما قاسى فمكّنته في الأرض، ووطّأت له في البلاد، وآتيته الحكم والعلم فكذلك أفعل بك، أنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة، وأُمكّن لك في الأرض، وأزيدك الحكم والعلم؛ لأن ذلك جزائي لأهل الإحسان في أمري ونهيي.