فصل: تفسير الآيات (28- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (28- 34):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً} يعني غيّروا نعمة الله عليهم في تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله منهم وفيهم فكفروا به وكذبوه فيصيروا نعمة الله عليهم كفراً {وَأَحَلُّواْ} وأنزلوا {قَوْمَهُمْ} ممن تابعهم على كفرهم {دَارَ البوار} الهلاك ثم ترجم عن دار البوار ما هي. فقال: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} يدخلونها {وَبِئْسَ القرار} المستقر.
عامر بن واثلة سمعت علي بن أبي طالب ح يقول في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ} الآية قال: هم كفار قريش الذين نحروا يوم بدر.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هما الأفجران من قريش بني أُمية، فأما بنو أُمية فمتعوا إلى حين، وأما بنو مخزوم فأُهلكوا يوم بدر.
ابن عباس: هم متنصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه.
{وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ} قرأ الكوفيون بضم الياء على معنى ليضلوا الناس عن سبيله، وقرأ الباقون بفتح الياء على اللزوم {قُلْ تَمَتَّعُواْ} عيشوا متاع الدنيا.
{فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} وهذا وعيد.
قوله: {قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة}. قال الفراء: جزم: يقيموا بتأويل الجزاء ومعناه الأمر.
{وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً} إلى قوله: {وَلاَ خِلاَلٌ} مخالة فيقال خلت فلاناً فأنا أخاله مخالة وخلال وخلّة.
قال امرؤ القيس:
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى ** وخلت بمقليّ الخلال ولا قالي

{الله الذي خَلَقَ السماوات} إلى قوله: {الشمس والقمر دَآئِبَينَ}.
قال ابن عباس: دوؤبهما في طاعة الله.
{وَسَخَّرَ لَكُمُ اليل والنهار} متعاقبان في الضياء والظلمة والنقصان والزيادة {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} يعني وآتاكم من كل شيء سألتموه شيئاً فحذف الشيء الثاني اكتفاءً بدلالة الكلام على التبعيض كقوله: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] يعني وأُوتيت من كل شيء في زمانها شيئاً وقيل هو التكثير نحو قولك: فلان يعلم كل شيء وأتاه كل الناس، وأنت تعني بعضهم نظيره قوله: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44].
وقال بعض المفسرين: معناه وآتاه من كل ما سألتموه وما لم تسألوه، وهذه قراءة العامة بالإضافة [.........].
وقرأ الحسن والضحاك وسلام: من كل، بالتنوين على النفي يعني من كل مالم تسألوه فيكون ما يجد.
قال الضحاك: أعطاكم أشياء ما طلبتموها ولا سألتموها، صدق الله لكم من شيء أعطاناه الله ما سألناه إياه ولا خطرنا ببال.
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} لا تطيقوا ذكرها ولا القيام بشكرها لا بالجنان ولا باللسان ولا بالبيان {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ} لشاكر غير من أنعم عليه واضع الشكر في غير موضعه {كَفَّارٌ} جحود لنعم الله، وقيل ظلمه لنفسه بمعصيته كفار لربه في نعمته، وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع.

.تفسير الآيات (35- 41):

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)}
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً} يعني الحرم مأموناً فيه {واجنبني وَبَنِيَّ}.
{أَن نَّعْبُدَ الأصنام} ويقال جنبته أجنبه جنباً وأجنبته إجناباً بمعنى وأجنبّك وجنّبته تجنيباً.
قال الشاعر: وهو أُمية بن الأشكر الليثي:
وتنفض مهده شفقاً عليه ** وتجنّبه قلا يصعي الصّعابا

والأصنام جمع صنم وهو التمثال المصور.
قال الشاعر:
وهنانة كالزون يجلي ضمه ** تضحك عن أشنب عذب ملثمه

وقال إبراهيم التيمي في قصصه: من يأمن من البلاء بعد خليل الله إبراهيم عليه السلام حين يقول: {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس} يعني ضل بهن كثير من الناس عن طريق الهدى حتى عبدوهن وهذا من المغلوب. نظيره قوله: {الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175] أي يخوفكم بأوليائه.
{فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} على ديني وملتي {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
قال السدي: معناه ومن عصاني فتاب.
مقاتل بن حيان: ومن عصاني فيما دون الشرك.
روى عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم عليه السلام {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
وقول عيسى عليه السلام {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] الآية، فرفع يداه ثم قال: «اللهم أُمتي اللهم أُمتي وبكى، فقال الله: يا جبرئيل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسأله ما بك، فأتى جبرئيل فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، فقال الله: يا جبرئيل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أُمتك ولا يسؤك».
{رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي} إنما أدخل: من للتبعيض ومجاز الآية أسكنت من ذريتي ولداً {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} وهو مكة {عِندَ بَيْتِكَ المحرم}.
قتادة: المحرم من المسجد محرم الله فيه، والاستخفاف بحقه، فإن قيل ما وجه قول إبراهيم عند بيتك وإنما بنى إبراهيم البيت بعد ذلك بمدة، وقيل معناه عند بيتك المحرم الذي كان قبل أن يرفعه من الأرض حتى رفعته في أيام الطوفان.
وقيل عند بيتك المحرم الذي قد مضى في علملك أنه يحدث في هذا البلد.
وكانت قصة الآية على ما ذكره سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إنّ أول من سعى بالصفا والمروة هاجر أُم إسماعيل، وإنّ أول ما أحدثت جّر الذيول لهي وذلك أنها لما فرت من ساره فأرخت من ذيلها ليعفى أثرها فجاء بها إبراهيم ومعها ابنها إسماعيل حتى انتهى بهما إلى موضع البيت فوضعهما ثم رجع فأثبتته فقالت: إلى من تكلنا، فجعل لا يرد عليها شيئاً، فقالت: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا، فرجعت ومضى إبراهيم حتى إذا كان على ثنية كداء أقبل على الوادي.
فقال: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} الآية.
قال: ومع الإنسانة شنّة فيها ماء فنفذ الماء فعطشت فانقطع لبنها فعطش الصبي، فنظرت إلى الجبال أدنى من الأرض فصعدت الصفا فتسمّعت هل تسمع صوتاً أو ترى أنيساً فلم تسمع شيئاً فانحدرت فلمانزلت على الوادي سعت وما تريد السعي كالإنسان المجهود الذي يسعى وما يريد بذلك السعي، فنظرت أيُّ الجبال أدنى من الأرض فصعدت المروة فتسمّعت هل تسمع صوتاً أو ترى أنيساً، فسمعت صوتاً، فقالت: كالإنسان الذي يكذب سمعه: صه حتى استيقنت، فقالت: قد أسمعتني صوتك فأغثني فقد هلكت وهلك من معي، فإذا هو الملك فجاء بها حتى انتهى بها إلى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عيناً فعجلت الإنسانة فجعلت تفرغ في شنتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أُم إسماعيل لولا أنها عجلت لكانت زمزم عيناً معيناً»، وقال لها الملك: لا تخافي الضمأ على أهل هذا البلد فإنما هي عين لشرب ضيفان الله وقال: إن أبا هذا الغلام سيجيء فيبنيان لله بيتاً هذا موضعه.
قال: ومرت رفقة من جرهم تريد الشام فرأوا الطير على الجبل وقال: إن هذا الطير لعائف على ماء فأشرفوا فاذا هم بالإنسانة فأتوا هاجر وقالوا إن شئت كنا معك وآنسناكِ والماء ماؤك فأذنت لهم فنزلوا معها وكانوا هناك حتى شبّ إسماعيل وماتت هاجر فتزوج إسماعيل امرأة من جرهم فاستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل، وذكر الحديث في صفة مقام إبراهيم وقد مضت هذه القصة في سورة آل عمران.
{رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تَهْوِي} تفزع وقيل تشتاق {ا إِلَيْهِمْ} وهذا دعاء منه عليه السلام لهم بأن يرزقهم حجّ بيته الحرام.
قال سعيد بن جبير: ويقال أفئدة الناس تهوى إليهم لحجت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال أفئدة من الناس منهم المسلمون.
وقال مجاهد: لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند ولكنه أفئدة من الناس {وارزقهم مِّنَ الثمرات} ما رزقت سكّان القرى ذوات المياه {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} من جميع أُمورنا.
وقال ابن عباس ومقاتل من الوجد إسماعيل وأمه حيث أسكنها بواد غير ذي زرع {وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأرض وَلاَ فِي السمآء}.
قال بعضهم: هذه صلة فولد إبراهيم عليه السلام.
وقال الآخرون: قال الله عزّ وجلّ وما يخفى على الله وهو قول الله عزّ وجلّ {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي} أعطاني {عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء}.
قرأ ابن عباس: ولد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة.
وقال سعيد بن جبير: بشر إبراهيم بإسحاق بعد اثنتي عشرة ومائة سنة.
{رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذُرِّيَتِي} أيضاً واجعلهم مقيمي الصلاة {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ}.
قال المفسرون: أي عبادتي. نظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدعاء مخ العبادة» ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر: 60] فسمى الدعاء عبادة.
{رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ} إن آمنا وتابا، وقد أخبر الله عن عذر خليله في استغفاره لأبيه في سورة التوبة.
{وَلِلْمُؤْمِنِينَ} كلهم.
قال ابن عباس: من أمة محمّد {يَوْمَ يَقُومُ الحساب} أي يبدو ويظهر. قال أهل المعاني: أراد يوم يقوم الناس للحساب فاكتفى بذكر الحساب عن ذكر الناس إذ كان مفهوماً.

.تفسير الآيات (42- 52):

{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)}
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون}. قال ميمون بن مهران: فهذا وعيد للظالم وتعزية المظلوم {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ} يمهلهم ويؤخر عذابهم.
وقرأه العامة: بالتاء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله}، وقرأ الحسن والسّلمي: بالنون.
{لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} أي لاتغمض من هول ماترى في ذلك اليوم قاله الفراء.
{مُهْطِعِينَ} قال قتادة: مسرعين. سعيد بن جبير عنه: منطلقين.
عابد بن الأوزاعي وسعيد بن جبير: الإهطاع سيلان كعدو الذئب.
مجاهد: مديمي النظر.
الضحاك: شدّة النظر من غير أن يطرف، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، الكلبي: ناظرين. مقاتل: مقبلين إلى النار.
ابن زيد: المهطع الذي لا يرفع رأسه، وأصل الإهطاع في كلام العرب البدار والإسراع، يقال: أهطع البعير في سيره واستهطع إذا أسرع.
قال الشاعر:
وبمهطع سرح كأنَّ زمامَهُ ** في رأسِ جذع من أراك مشذبِ

وقال آخر:
بمستهطع رسل كأن جديلَهُ ** بقدوم رعن من صوام ممنع

وقال آخر:
تعبدني نمرُ بن سعد وقد أرى ** ونمر بن سعد لي معيع ومهطعُ

{مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} رافعيها.
قال القتيبي: المقنع الذي يرفع رأسه ويقبل ببصره على ما بين يديه، ومنه الإقناع في الصلاة.
قال الحسن: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد وأصل الإقناع في كلام العرب رفع الرأس.
قال الشماخ:
يباكرن العضاه بمقنعات ** نواجذهن كالجدا الوقيع

يعني برؤوس مرفوعات إليها ليتناولها.
قال الراجز:
أنغض نحوي رأسه وأقنعا ** كأنما أبصر شيئاً أطمعا

{لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} لا يرجع إليهم أبصارهم من شدة النظر فهي شاخصة {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} قال ابن عباس: خالية من كل خير.
مجاهد ومرة بن شرحبيل وابن زيد: منخرقة خربة ليس فيها خير ولا عقل، كقولك في البيت الذي ليس فيه شيء: إنما هو هواء. هذه رواية العوفي عن ابن عباس.
سعيد بن جبير: تمور في أجوافهم ليس لها مكان يستقر فيه.
قتادة: انتزعت حتى صارت في حناجرهم لا تخرج من فواههم ولا تعود إلى أمكنتها.
الأخفش: جوفاء لا عقول لها.
والعرب تسمي كلّ أجوف نخباً وهواء، ومنه أهواء وهو الخط الذي بين الأرض والسماء.
قال زهير يصف ناقه:
كان الرجل منها فوق صعل ** من الظلمان جؤجؤه هواء

وقال حبان:
ألا أبلغ أبا سفيان عنّى ** فأنت مجوف نخب هواء

{وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} وهو يوم القيامة {فَيَقُولُ} عطف على يوم يأتيهم وليس بجواب فلذلك وقع {الذين ظلموا} أشركوا {رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ} أمهلنا {إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} وهو الدنيا يعني أرجعنا إليها {نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل} فيجابون {أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ} حلفتم {مِّن قَبْلُ} في دار الدنيا {مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} فيها أي لا يبعثون، وهو قوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38]، {وَسَكَنتُمْ} في الدنيا {فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ} بالكفر والمعصية قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال * وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} أي جزاء مكرهم {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ}.
قرأه العامة: بالنون.
وقرأ عمر وعلي وأبن مسعود: وأُبيّ: وإن كاد مكرهم ما يزال.
{لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال}. قرأه العامة: بكسر اللام الأول وفتح الثانية.
وقرأ ابن جريج والكسائي: بفتح الميم الأُولى وضم الثانية بمعنى قراءة العامة الزجاج في قوله: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال}، أي ما كان مكرهم لتزول.
أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمر الإسلام وثبوته كثبوت الجبال الراسخة؛ لأن الله وعده إظهار دينه على الأديان كلّها، وقيل معناه: كان مكرهم.
قال الحسن: إن كان مكرهم لأوهن وأضعف من أن يزول منه الجبال، وقال خمس مواضع في القرآن {إن} بمعنى ما قوله: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ}، وقوله: {لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 17] وقوله: {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} [الزخرف: 81] {فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف: 26] وقوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} [يونس: 94] ومن فتح اللام الأُولى فعلى استعظام مكرهم.
قال ابن جرير: الاختيار القراءة الأُولى؛ لأنها لو كانت قالت لم يكن ثابتة وكان مكرهم ما ذكره علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره قالوا: نمرود الجبار الذي حاج إبراهيم في ربه قال: إن كان ما يقوله إبراهيم حقاً فلا انتهي حتى أعلم ما في السماء، فعمد إلى أربعة أفراخ من النسور وعلفها اللحم وربّاها حتى شبت واستعلجت ثم قعد في تابوت وجعل معه رجلا آخر، وجعل له باباً من أعلى وباباً من أسفل وربط التابوت بأرجل النسور وعلق اللحم فوق التابوت على عصا ثم خلى النسور فطرن وصعدن طمعاً في اللحم حتى بعدن في الهواء.
قال نمرود لصاحبه افتح الباب الأول وانظر في السماء هل ترى منه شيئاً ففتح ونظر، فقال: إن السماء كهيئتها ثم قال: افتح الباب الأسفل وانظر إلى الأرض كيف تراها ففعل ذلك فقال أرى الأرض مثل اللجة البيضاء، والجبال مثل الدخان، وطارت النسور وارتفعت حتى حالت بينها وبين التابوت فقال لصاحبه افتح البابين ففتح الأعلى فإذا السماء كهيئتها وفتح الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة، ونودي: أيها الطاغية أين تريد.
قال عكرمة: كان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب فرمى عليهم فعاد إليه السهم متلطخاً بدم. فقال: كفيت نفسك إله السماء.
واختلفوا في ذلك السهم من أي شيء تلطخ.
قال عكرمة: سمكة فدت نفسها لله من بحر في الهواء معلق.
وقال بعضهم: من طائر من الطيور أصابه السهم.
قالوا: ثم أمر نمرود صاحبه أن يضرب العصا وأن ينكس اللحم ففعل ذلك فهبطت النسور بالتابوت فسمعت الجبال حفيف التابوت في النسور ففزعت وظنت أن قد حدث بها حدث في السماء أو أن القيامة قد قامت فذلك قوله: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال}.
{فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} بالنصر لاؤليائه وهلاك أعدائه وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره: ولا يحسبن الله مخلف رسله وعده؛ لأن الخلف يقع بالوعد.
يقول الشاعر:
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه ** وسائر باد إلى الشمس أجمع

وقال القتيبي: هو من المقدم الذي يوضحه التأخير والمؤخر الذي يوضحه التقديم، وهو قولك يخلف وعده رسله، ومخلف رسله وعده؛ لأنه الخلف يقع بالوعد كما يقع بالرسل.
{إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} وروى عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية قال: البدل عرض كالفضة نبضاً نقية لم يسل فيها دم ولم يعمل عليها خطيئه.
وقال علي رضي الله عنه في هذه الآية: الأرض من فضة والسماء من ذهب.
وروى سهل بن سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد».
فقال سعيد بن جبير ونجد ومحمد بن كعب القرظي: تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه.
روى خيثمة عن ابن مسعود قال: تبدل الأرض ناراً يصير الأرض كلها يوم القيامة ناراً والجنة من ورائها ترى كواعبها وأكوابها وتلجم الناس العرق ولم يبلغوا الحساب بعد.
قال كعب: يصير السماوات جناناً ويصير مكان البحر ناراً وتبدل الأرض غيرها.
ابن عباس: الأرض هي تلك الأرض وإنما تبدل كلها وجبالها وأنهارها.
ثم أنشد:
فما الناس بالناس الذين عهدتهم ** ولا بالدار الدار التي كنت أعرف

وتصديق قول ابن عباس، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تبدل الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي لا ترى فيهاً عوجاً وأمتا ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في الثانية في مثل مواضعهم من الأُولى من كان في بطنها كان في بطنها وما كان على ظهرها كان على ظهرها».
وقيل: تبدل الأرض غير الأرض بأرض بيضاء كالفظة.
الشعبي عن مسروق «عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى: {تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} أين يكون الناس يومئذ قال: على الصراط».
وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي أسماء عن ثوبان قال: «سأل نفر من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟
قال: هم في الظلمة دون الحشر»
.
وروى حيكم بن ثوبان الكلابي عن أبي أيوب الأنصاري قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم خبر من اليهود فقال: أرأيت إذ يقول الله عزّ وجلّ في كتابه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} فأين الخلق عند ذلك؟ فقال: أضياف الله فلم يعجزهم ما لديه».
{وَبَرَزُواْ} ظهروا وخرجوا من قبورهم {للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} الغلاب الذي يفعل ما يشاء وقهر العباد بالموت {وَتَرَى المجرمين} المشركين {يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ} مشدودين بعضهم ببعض، وقيل مقرنين بالشياطين. بيانه قوله: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [الصافات: 22] وهم الشياطين، فقال ابن زيد: مقرّنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم في الأصفاد بالقيود والأغلال، واحدها صفد والصفاد أيضاً القيد وجمعه صفد يقال: صفدته صفداً وأصفاداً التكثر، قلت: صفدته تصفيداً.
قال عمرو بن كلثوم:
فأتوا بالنهاب وبالسبايا ** وأبناء الملوك مصفدينا

{سَرَابِيلُهُم} قمصهم واحدها سربال والفعل منه تسربلت وسربلت غيري {مِّن قَطِرَانٍ} وهو الذي تهنأ به الإبل ويقال له الخضخاض.
قال الحسن وقرأ عيسى بن عمر: {قَطرَانٍ} بفتح القاف وتسكين الطاء، وفيه لغة ثالثة قِطران بكسر القاف وجزم الطاء، ومنه قول أبي النجم:
جون كأن العرق المنتوحا ** لبسه القطران والمسوحا

وقرأ عكرمة: برواية زيد: قطران على كلمتين منونتين {قَطِرَانٍ} والقطر النحاس الصفر المذاب. قال الله {آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} [الكهف: 96] والآن الذي انتهى خبره قال الله تعالى {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44] {وتغشى وُجُوهَهُمُ النار} إلى قوله: {هذا} أي هذا القرآن {بَلاَغٌ} تبليغ وعظة {لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وليعلموا} حجج الله التي أقامها فيه {أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} لا شريك له {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب}.