فصل: تفسير الآيات (75- 78):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (75- 78):

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)}
ثمّ ضرب الله تعالى مثلا المؤمن والكافر فقال عز من قائل: {ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} هو مثل الكافر رزقه الله مالاً فلم يقدّم خيراً ولم يعمل فيه بطاعة الله تعالى {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً} هو مثل المؤمن أعطاه الله مالاً فعمل فيه بطاعة الله وأنفقه فيما يرضي الله سراً وجهراً فأثابه الله على ذلك النعيم المقيم في الجنة {هَلْ يَسْتَوُونَ} ولم يقل يستويان لمكان {من} لأنه اسم مبهم يصلح للواحد، والاثنين، والجميع، والمؤنث، والمذكر، وكذلك قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً} ثمّ قال: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} بالجمع لأجل {ما} ومعنى الآية: هل يستوي هذا الفقر والبخل والغنى والسخاء فكذلك لا يستوي الكافر العاصي المخالف لأمر الله والمؤمن المطيع له.
روى ابن جريج عن عطاء: {عَبْداً مَّمْلُوكاً} قال: هو أبو جهل بن هشام {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
ثمّ قال: {الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} يقول الله تعالى: ليس الأمر كما يفعلون ولا القول كما يقولون، ماللأوثان عندهم من يد، ولا معروف فيحمد عليه، إنما الحمد هو الكامل لله خالصاً، لأنه هو المنعم والخالق والرازق ولكن أكثر هؤلاء الكفرة لا يعلمون أنها كذلك. ثمّ ضرب مثلاً آخر بنفسه والأصنام فقال: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ على شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ} يرسله {لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} لأنه لا يفهم ما يقال، ولا يفهم عنه.
وقال ابن مسعود: أينما توجهه لا يأت بخير، هذا مثل للصنم الذي لا يسمع ولا ينطق ولا يعقل ولا يفعل وهو كَلّ على عائده يحتاج أن يحمله ويضعه ويخدمه {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} يعني الله قادر متكلم بأمر التوحيد فليس كصنمكم، فإنه لا يأمر بالتوحيد {وَهُوَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.
قال الكلبي: يعني وهو يدلكم على صراط مستقيم، وقيل: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم هو على صراط مستقيم.
قال الكلبي: يعني وهو يدلكم على صراط مستقيم.
آخر: ومن قال: كل المسلمين المؤمن والكافر، وهي رواية عقبة عن ابن عبّاس.
وروى إبراهيم بن عكرمة بن يعلي بن منبّه عن ابن عبّاس قال: نزلت هذه الآية في عثمان ابن عفان رضي الله عنه ومولاه. وكان عثمان ينفق عليه ويكفيه المؤنة وكان مولاه يكره الإسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة ويمنعه من النفقة.
وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في هاشم بن عمرو بن الحرث بن ربيعة القرشي وكان رجلاً قليل الخير يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عطاء: الأبكم أبي بن حلف ومن يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون.
{وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض وَمَآ أَمْرُ الساعة} في قريب كونها وسرعة قيامها {إِلاَّ كَلَمْحِ البصر} كالنظر في البصر ورجع الطرف؛ لأن ذلك هو أن يقال له: كن فيكون، {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} بل هو أقرب {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} نزلت في الكفار الذين استعجلوا القيامة إستهزاء منهم.
{والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}.
قرأ الأعمش: {أُمَّهَاتِكُمْ} بكسر الألف والميم.
وقرأ حمزة والكسائي بكسر الألف وفتح الميم.
وقرأ الباقون بضم الألف وفتح الميم.
وأصل الأمهات: أمات، فزيدت الهاء للتأكيد كما زادوها في أهرقت الماء وأصله أرقت {لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} هذا كلام تام.
ثمّ ابتدأ فقال: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} لأن الله تعالى جعل لعباده السمع والأبصار والأفئدة قبل إخراجهم من بطون أمهاتهم وإنما أعطاهم العلم بعد ما أخرجهم منها {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمه.

.تفسير الآيات (79- 83):

{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)}
{أَلَمْ يَرَوْاْ}. قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة ويعقوب بالتاء.
وقرأ عاصم بضمر التاء. واختاره أبو عبيد لما قبلها.
{إلى الطير مُسَخَّرَاتٍ} مذللات {فِي جَوِّ السمآء} أي في الهواء بين الأرض والسماء {مَا يُمْسِكُهُنَّ} في الهواء {إِلاَّ الله إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ} التي هي من الحجر والمدر {سَكَناً} مسكناً تسكنونه.
قال الفراء: السكن: الدار، والسكن بجزم الكاف: أهل البلد.
{وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً} يعني الخيام والقباب والأخبية والفساطيط من الأنطاع والأدم وغيرها {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} رحلكم وسفركم {وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} في بلادكم لا يثقل عليكم في الحالتين.
واختلف القرّاء في قوله: {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ}.
فقرأ الكوفيون بجزم العين، وقرأ الباقون: بفتحه. وإختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لأنه أشهر اللغتين وأفصحهما. {وَمِنْ أَصْوَافِهَا} يعني أصواف الضان وأوبار الإبل وأشعار المعز. والكنايات كلها راجعة إلى الأنعام.
{أَثَاثاً} قال ابن عبّاس: مالا، مجاهد: متاعاً.
حميد بن عبد الرحمن: أثاثاً يعني الأثاث: المال أجمع من الإبل والغنم والعبيد، والمتاع غيره هو متاع البيت من الفرش والأكسية وغيرها ولم يسمع له واحد مثل المتاع.
وقال أبو زيد: واحد الأثاث أثاثة. قال الخليل: أصله من الكثرة واجتماع بعض المتاع إلى بعض حتّى يكثر ومنه شعر الشعراء كثر وأثّ شعر فلان أي إذا كثر والتف.
قال امرؤ القيس:
أثيث كقنو النخلة المتعال

قال محمّد بن نمير الثقفي في الأثاث:
أهاجتك الظعائن يوم بأتوا ** بذي الزي الجميل من الأثاث

{وَمَتَاعاً} بلاغاً تنتفعون بها {إلى حِينٍ} يعني الموت. وقيل: إلى حين يبلى ويفنى.
{والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً} تستظلون بها من شدة الحر وهو ظلال الأشجار والسقوف والأبنية {مِّنَ الجبال أَكْنَاناً} يعني الغيران والأسراب والمواضع التي تسكنون فيها واحدها كنّ {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} قمصاً من الكتان والقطن والخز والصوف {تَقِيكُمُ} تمنعكم. {الحر}.
وقال أهل المعاني: أراد الحر والبرد فأكتفى بأحدهما عن الآخر بدلالة الكلام عليه نظيره قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا للهدى} [الليل: 12] يعني الهدي والإضلال.
{وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} يعني الدروع ولباس الحرب والمعنى: تقيكم في بأسكم السلاح أن يصل إليكم {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} يخضعون له بالطاعة ويخلصون له بالعبادة.
وروى نوفل بن أبي عقرب عن ابن عبّاس أنه قرأ: {يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون} بالفتح، يعني من الجراحات.
قال أبو عبيد: الاختيار قراءة العامّة، لأن ما أنعم الله علينا في الإسلام أكثر من إنعامه علينا في السلامة من الجراح.
وقال عطاء الخراساني في هذه الآية: إنما أنزل القرآن على قدر معرفتهم ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أَكْنَاناً} وما جعل لكم من السهول أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب جبال.
وقال: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ} وما جعل لهم من غير ذلك أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشعر. الا ترى إلى قوله: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ} [النور: 43] وما ينزل من الثلج أعظم وأكثر ولكنهم كانوا لا يعرفونه، ألا ترى إلى قوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} وما يقي من البرد أعظم وأكثر ولكنهم ظلوا أصحاب حر.
{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين * يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله}.
قال السدي: يعني محمد صلى الله عليه وسلم.
{ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} يكذبون ويجحدون نبوّته.
قال مجاهد: يعني ما عدد عليهم في هذه السورة من النعم ينكرون ذلك فيزعمون أنهم ورثوا ذلك عن آبائهم، وبمثله قال قتادة.
وقال الكلبي: وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر هذه النعم لهم فقالوا: نعم هذه كلها من الله تعالى ولكنها بشفاعة آلهتنا. وقال عون بن عبد الله: هو قول الرجل لولا فلان لكان كذا، لولا فلان ما أصبت كذا.
{وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون} الجاحدون.

.تفسير الآيات (84- 93):

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)}
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} يعني رسولها {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} في الاعتذار {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} يسترضون، يعني لا يكلّفون أن يرضوا ربهم لأن الآخرة ليست بدار تكليف، ولا يتركون للرجوع إلى دار الدنيا فيتوبون {وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ} كفروا {العذاب فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} يؤخّرون {وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ} يوم القيامة {شُرَكَآءَهُمْ} أوثانهم {قَالُواْ رَبَّنَا هؤلاءآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ} أرباباً ونعبدهم {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول} أي قالوا لهم، يقال: ألقيت إليك كذا، يعني: قلت لك {إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} في تسميتنا آلهة ما دعوناكم إلى عبادتنا ولا علمنا بعبادتكم إيانا {وَأَلْقَوْاْ} يعني المشركين {إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم} استسلموا وانقادوا لحكمه فيهم ولم تغن عنهم آلهتهم شيئاً {وَضَلَّ} زال [........] {عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من إنها تشفع لهم.
{الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب}.
روى عبد الله بن مرة عن مسروق قال: قال عبد الله: {زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب}، قال: عقارب لها أنياب أمثال النخل الطوال، ابن عبّاس ومقاتل: يعني خمسة أنهار من صفر مذاب كالنار يسيل من تحت العرش، يعذبون بها ثلث على مقدار الليل وثلثان على مقدار النهار.
سعيد بن جبير: حيّات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال تلسع إحداهن اللسعة يجد صاحبها حمّتها أربعين خريفاً.
وقيل: إنهم يخرجون من حر النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة الزمهرير إلى النار.
ويقال: هو أنهم يحملون أثقال أتباعهم. كما قال الله تعالى {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13].
ويقال: إنه يضاعف لهم العذاب.
{بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} في الدنيا من الكفر وصد الناس عن الإيمان {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} يعني عليها، وإنما قال: {مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} لأنه كان يبعث إلى الأُمم أنبياءها منها {وَجِئْنَا بِكَ} يا محمّد {شَهِيداً على هؤلاءآء} الذين بُعثت إليهم {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} يحتاج إليه من الأمر والنهي، والحلال والحرام، والحدود والأحكام {وَهُدًى وَرَحْمَةً وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ}، {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل} يعني بالإنصاف {والإحسان} إلى الناس، الوالبي عن ابن عبّاس: العدل: التوحيد، والإحسان أداء الفرائض.
[وقيل:] العدل: شهادة أن لا إله إلاّ الله، والاحسان: الاخلاص فيه.
عطاء عنه: العدل: مصطلح الأنداد، والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، مقاتل: العدل: التوحيد، والإحسان: العفو عن الناس، وقيل: العدل في الأفعال والإحسان في الأقوال. كقوله: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة: 83].
{وَإِيتَآءِ ذِي القربى} صلة الرحم {وينهى عَنِ الفحشاء} القبيح من الأقوال والأفعال.
وقال ابن عبّاس: الزنا.
{والمنكر} ما لا يُعرف في شريعة ولا سنّة {والبغي} الفسق والظلم.
وقال ابن عيينة: والعدل في مستوى السر والعلانية.
والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته. والفحشاء أن تكون علانيته أحسن من سريرته.
{يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تتعظون.
قتادة: إن الله تعالى أمر عباده بمكارم الأخلاق ومعاليها، ونهاهم عن سفاسف الأخلاق ومذاقها.
وقال ابن مسعود: وأجمع آية في القرآن هذه الآية.
شهر بن حوشب عن ابن عبّاس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء بيته بمكة جالساً إذ مرَّ به عثمان بن مظعون فكسر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله: «ألا تجلس» قال: بلى، فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبله فبينما هو يحدّثه إذ شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره إلى السماء فنظر ساعة فأخذ يضع بصره حتّى وقع على يمينه في الأرض فتحرّف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره فأخذ ينغض رأسه كأنّه يستفهم شيئاً يقال له، ثمّ شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره إلى السماء كما شخص أول مرة فأتبعه بصره حتّى توارى في السماء فأقبل إلى عثمان كحالته الأولى، فقال: يا محمّد فيما كنت أُجالسك ما رأيتك تفعل فعلتك لغداة؟ قال: «وما رأيتني فعلت»؟ قال: رأيتك تشخص بصرك إلى السماء ثمّ وضعته على يمينك فتحرّفت إليه وتركتني، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفهم شيئاً يقال لك. فقال: «أو فطنت إلى ذلك»؟ قال: نعم، قال: «أتاني رسول الله جبرائيل آنفاً وأنت جالس» قال: نعم: فماذا قال: لك؟ قال: «قال: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} إلى آخره».
قال عثمان: فذلك الحين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمداً صلى الله عليه وسلم.
وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ على الوليد بن المغيرة {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل} إلى آخر الآية، قال له: يابن أخ أعد، فأعاد عليه. فقال: إن له والله لحلاوة وإن عليه لطلاوة فإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما هو بقول بشر، ثمّ لم يسلم، فأنزل الله فيه: {وأعطى قَلِيلاً وأكدى} [النجم: 34].
{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} تشديدها ويحنثوا فيها، والتوكيد لغة أهل الحجاز، أمّا أهل نجد فإنهم يقولون: أُكّدت تأكيداً {وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} بالوفاء {إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية وإن كان حكمها عاماً.
فقال بعضهم: نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم الله بالوفاء بها.
وقال مجاهد وقتادة: نزلت في حِلف أهل الجاهلية.
ثمّ ضرب جلّ ثناؤه مثلاً لنقض العهد، فقال عز من قائل: {وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ} أي من بعد إبرامه وإحكامه، وكان بعض أهل اللغة يقول: القوة ما غزل على طاقة واحدة ولم يثن.
الكلبي ومقاتل: هي امرأة خرقاء حمقاء من قريش يقال لها: ريطة بنت عمرو بن سعد بن كعب بن زيد مناة بن تميم كانت اتخذت مغزلاً بقدر ذراع وصنارة مثل الإصبع وفتل عظمة على قدرها وكانت تغزل من الصوف والشعر والوبر وتأمر جواريها بذلك فكنّ يغزلنّ من الغداة إلى نصف النهار، فإذا إنتصف النهار أمرت جواريها بنقض جميع ما غزلن فهذا كان دأبها.
وقوله: {أَنكَاثاً} يعني أنقاضاً واحدتها نكثة، وهو كل ما نقض بعد الفتل غزلاً كان أو حبالاً {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} أي دخلاً وخيانة وخديعة.
قال أبو عبيدة: كل أمر لم يكن صحيحاً فهو دخل.
{أَن تَكُونَ} أي لأن تكون {أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى} أكثر وأجلّ {مِنْ أُمَّةٍ}.
قال مجاهد: ذلك أنهم كانوا يحالفون الحلف فيجدون أكبر منهم وأعز ويستيقنوه فيحلف هؤلاء ويحالفون الأكثر فنهاهم الله تعالى عن ذلك {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ} يختبركم بأمره إياكم بالوفاء بالعهد {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} في الدنيا {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} على ملّة واحدة، {ولكن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ} بخذلانه إياهم عدلا منه فيهم {وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} بتوفيقه إياهم فضلاً منه {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.