فصل: تفسير الآيات (26- 43):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (26- 43):

{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)}
{وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ} يعني صلة الرحم. وقال بعضهم: عني بذلك قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم روى السدي عن ابن الديلمي قال: قال علي بن الحسين لرجل من أهل الشام أقرأت القرآن؟ قال نعم؟ قال: أفما قرأت في بني إسرائيل {وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ} قال: انكم القرابة الذين أمر الله أن يوتى حقه؟ قال: نعم.
{والمسكين وابن السبيل} يعني مار الطريق، وقيل: الضيف {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} ولا تنفق مالك في المعصية.
وروى سلمة بن كهيل عن أبي عبيدة عن ابن الضرير أنه سأل ابن مسعود ما التبذير؟ فقال: إنفاق المال في غير حقه.
وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في الحق ما كان تبذيراً، فلو أنفق يدا في باطل كان تبذيراً به.
وقال شعيب: كنت أمشي مع أبي إسحاق في طريق الكوفة، فأتى على دار تبنى بجص وآجر فقال: هذا التبذير في قول عبد الله: إنفاق المال في غير حقه.
{إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين} أولياؤهم وأعوانهم، والعرب تقول: لكل من يلزم سنّة قوم وتابع أمرهم هو أخوهم {وَكَانَ الشيطان لِرَبِّهِ كَفُوراً} جحود النعمة.
{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} الآية نزلت في منجع وبلال وصهيب وسالم وخباب، كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم في الأحايين ما يحتاجون إليه ولا يجد لهم متسعاً، فيعرض عنهم حياءً منهم فأنزل الله عزّ وجلّ {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} يعني وإن تعرض عن هؤلاء الذين أمرتك أن تؤتيهم حقوقهم عند مسألتهم إياك مالا يجد إليه سبيلاً حياءً منهم.
{ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ} ابتغاء رزق من الله {تَرْجُوهَا} أن يأتيك {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} ليّناً وعدهم وعداً جميلاً {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً} الآية.
قال جابر بن عبد الله: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد فيما بين الصحابة أتاه صبي فقال: يا رسول الله إن أمي تستكسيك درعاً، ولم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ قميصه، فقال الصبي: من ساعة إلى ساعة يظهر يعد وقتاً آخر، فعاد إلى أمه فقالت: قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عرياناً، فأذن بلال للصلاة فأنتظروا فلم يخرج فشغل قلوب الصحابة فدخل عليه بعضهم فرآه عارياً فأنزل الله تعالى {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ}» يعني ولا تمسك يدك عن النفقة في الحق، كالمشدودة يده على عنقه فلا يقدر على مدها والإعطاء.
{وَلاَ تَبْسُطْهَا} بالعطاء {كُلَّ البسط} فتعطي جميع ما تملك {فَتَقْعُدَ مَلُوماً} يلومك سائلوك إذا لم تعطيهم {مَّحْسُوراً} منقطعاً بك لا شيء عندك تنفقه، فقال: حسرته بالمسألة إذا أكلّته ودابة حسيرة إذا كانت كالة رازحة وحسير البصر إذا كل، قال الله: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4] وقال قتادة: نادماً على ما سلف منك.
{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ} يوسع {الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} يقتر ويضيق {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} نظيرها قوله: ولو وسع {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض} [الشورى: 27] الآية {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} ضيق وإقتار {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يأدون بناتهم خشية الفاقة فنهاهم الله تعالى عن ذلك وأخبرهم أن رزقهم ورزق بناتهم على الله تعالى {إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} إختلف القراء فيه:
فقرأ أبو جعفر وابن عامر: بفتح الخاء والطاء والهمزة مقصورة.
وقرأ ابن كثير: بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة.
وقرأ الآخرون: بكسر الخاء وجزم الطاء، وكلها لغات بمعنى واحد، ويكون اسماً ومصدراً.
{وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً * وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق} وبحقها بما روى حميد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلاّ الله، فإذا قالوها عصموا في دمائهم وأموالهم إلاّ بحقها وحسابهم على الله «قيل: وما حقها؟ قال: زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس فيقتل بها».
{وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} قوة وولاية على قاتل وليه فإن لما استفاد منه فقتله وأن الله أخل الدية وإن شاء عفا عنه.
{فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل} قرأ حمزة والكسائي وخلف: تسرف بالتاء أي فلا تسرف أيها القاتل، ويجوز أن يكون الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد منه الأيمة والأُمة من بعده، ومن قرأ بالياء رجع إلى المولى.
واختلفوا في الاسراف ماهو: فقال ابن عبّاس: لا يقتل غير قاتله.
قال الحسن وابن زيد: كانت العرب في الجاهلية إذا قتل منهم قتيل، لم يرضوا أن يقتلوا قاتل صاحبهم حتّى يقتلوا أشرف من الذي قتله، فيعمد ولي المقتول إلى الشريف من قبيلة القاتل فيقتله بوليه ويترك القاتل، فنهى الله عن ذلك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أعتى الناس على الله جل ثناؤه قتل غير قاتله أو قتل بدخن الجاهلية أو قتل في حرم الله».
وقال الضحاك: كان هذا بمكة ونبي الله صلى الله عليه وسلم بها، وهو أول شيء نزل من القرآن في شأن القتل وكان المشركون من أهل مكة يقتلون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال الله: من قتلكم من المشركين فلا يحملنكم قتله إياكم على أن لا تقتلوا إلا قاتلكم، فلا يقتلوا له أباً أو أخاً أو أحداً فإن كانوا من المشركين فلا يحملنكم ذلك [.
................] على فلا تقتلوا إلا قاتلكم. وهذا قبل أن تنزل سورة براءة وقبل أن يؤمروا بقتال المشركين.
وقال سعيد بن جبير: لا يقبل [.........] على العدة.
قتادة وطارق بن حبيب وابن كيسان: لا يمثل به.
{إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} اختلفوا في هذه الكناية إلى من ترجع فقيل: ترجع على ولي المقتول، هو المنصور على القاتل فيدفع الامام إليه القاتل، فإن شاء قتل وإن شاء عفا عنه وإن شاء أخذ الدية، وهذا قول قتادة.
وقال الآخرون: {من} راجعة إلى المقتول في قوله: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً} يعنى أن المقتول منصور في الدنيا بالقصاص وفي الآخرة بالتوبة وهو قول مجاهد.
{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم} إلى قوله: {مَسْؤُولاً} عنه، وقيل معناه: كان مظلوماً {وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم}.
قرأ أهل الكوفة: القِسطاس بكسر القاف.
الباقون: بفتحه وهو الميزان مثل القرطاس، والقسطاس معناه الميزان صغيراً كان أو كبيراً.
مجاهد: هو العدل بالرومية. وقال الحسن: هو القبان.
{ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي عاقبة.
قال الحسن: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقدر رجل على حرام ثمّ يدعه ليس لديه إلا مخافة الله إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ماهو خير له من ذلك».
{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}
قال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمعه وعلمت ولم تعلمه وهذه رواية علي عن ابن عبّاس.
قال مجاهد: ولا ترم أحداً بما ليس لك به علم، وهي رواية عطية عن ابن عبّاس.
وقال ابن الحنفية: هو شهادة الزور.
قال القتيبي: لا تتبع الحدس والظنون، وكلها متقاربة، وأصل القفو البهت والقذف بالباطل. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا».
وقال النابغة:
ومثل الدمى شم العرانين ساكن ** بهن الحياء لا يشعن التقافيا

وقال الكميت:
فلا أرمي البريء بغير ذنب ** ولا أقفوا الحواصين أن قفينا

وقال القتيبي: فهو مأخوذ من القفاء كأنه يقفوا الأمور ويكون في أقفائها يعقبها ويتتبعها ويتعرفها. يقال: قفوت أثره على وزن دعوت والنهي منه لا يقف، كقولك: لا تدع.
وحكى الفراء عن بعضهم: أن أصله من القيافة، وهو اتباع الأثر وإذا كان كذلك وجب أن يكون ولا تقف بضم القاف وسكون الفاء مثل: ولا تقل، قال: والعرب تقول: قفوت أثرها وقفت مثل قولهم: قاع الجمل الناقة إذا ركبها وقعا، وعاث وعاثا واعتام واعتمى واحتاج ماله واحتجا.
قال الشاعر:
ولو إني رميتك من قريب ** لعاقك من دعاء الذئب عاق

أي عانق.
{إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك} أي كل هذه الجوارح والأعضاء ما يقل تلك.
كقول الشاعر، وهو جرير:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ** والعيش بعد أولئك الأيام

ويجوز أن يكون راجع إلى أصحابها وأربابها.
{وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً} بطراً وفخراً وخيلاء، وهو تفسير المشي لا نعته فإن ذلك أخرجه على المصدر {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض} أي لن تقطعها بكعبيك حتّى تبلغ آخرها، يقال فلان أخرق الأرض من فلان إذا كان أكثر سفراً وعزة.
وقال روبة:
وقائم الأعماق خاوي المخترق

أي المقطع {وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً} أي لن تساويها بطولك ولا تطاولك وأخبر أن صاحبه لاينال به شيئاً [...] عنه غيره {كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً}.
قرأ الحسن ويحيى بن يعمر وابن عمر وأهل الكوفة: سيئة على الاضافة، بمعنى كل هذا الذي ذكرنا من قوله: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ}.
كان سيئة أي سيء بما ذكرنا ووعدنا عليك عند ربك مكروها، قالوا: لأن فيما ذكره الله من قوله: {وقضى رَبُّكَ} إلى هذا الموضع أموراً مأمورات بها ومنهيات عنها، واختار أبو عبيد هذه القراءة لما ذكرنا من المعنى، ولأن في قراءة أُبي حجة لها، وهي ماروى أبو عبيد عن حجاج عن هارون في قراءة أُبي بن كعب {كان سيئاته} قال: فهذه تكون باضافة سيئة منونّة منصوبة، بمعنى كل ذلك الذي ذكرنا ووعدنا من قوله: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} إلى هذا الموضع كان سيئة لا حسنة في فجعلوا (كلا) محيطاً بالمنهي عنه دون غيره.
فإن قيل: هلا جعلت مكروهاً خبر ثان، قلنا: في الكلام تقديم وتأخير تقديره: كل ذلك كان مكروهاً سيئة، وقيل هو فعل [...] كالبدل لا على الصفة، مجازة: كل ذلك كان سيئة وكان مكروهاً.
وقال أهل الكوفة: رجع إلى المعنى، لأن السيئة الذنب وهو غير حقيقي {ذَلِكَ} الذي ذكرنا ووعدنا {مِمَّآ أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة} إلى قوله: {مَّدْحُوراً} مطروداً مبعداً من كل نصير والمراد به غيره.
قال الكلبي: الثمان عشرة آية كانت في ألواح موسى وهي عشر آيات في التوراة.
{أَفَأَصْفَاكُمْ} اختاركم واختصكم {رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثاً} بنات {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} يخاطب مشركي العرب حيث قالوا: الملائكة بنات الله.
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} قرأه العامّة: بالتشديد على التكثير.
وقرأ الحسن: صرفنا بالتخفيف.
{فِي هذا القرآن} يعني العبر والحكم والأمثال والأحكام والحجج والأعلام.
سمعت أبا القاسم الحسين يقول: بحضره الإمام أبي الطيب لقوله تعالى: {صَرَّفْنَا} معنيان أحدهما: لم يجعله نوعاً واحداً، بل وعداً ووعيداً وأمراً ونهياً ومحكماً ومتشابهاً وناسخاً ومنسوخاً وأخباراً وأمثالاً، مثل تصريف الرياح من صبا ودبور وجنوب وشمال، وتصريف الأفعال من الماضي إلى المستقبل ومن الفاعل إلى المفعول ونحوها.
والثاني: لم ينزله مرة واحدة بل نجوماً مثل قوله: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} ومعناه أكثرنا صرف جبرئيل اليك.
{لِيَذَّكَّرُواْ}. قرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي {لِيَذَّكَّرُواْ} مخففاً.
وقرأ الباقون: بالتشديد وإختيار أبو عبيد أي ليتذكروا {وَمَا يَزِيدُهُمْ} أي التصريف والتذكير {إِلاَّ نُفُوراً} ذهاباً وتباعداً عن الحق {قُلْ} يا محمّد لهؤلاء المشركين {لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ}.
قرأ ابن كثير وحفص: يقولون بالياء. الباقون: بالتاء.
{إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ} لطلبوا يعني الآلهة القربة {إلى ذِي العرش سَبِيلاً} فالتمست الزلفة عنده.
قال قتادة: يقول لو كان الأمر كما يقولون إذا لعرفوا الله فضله ومقربته عليهم، فامضوا ما يقربهم إليه.
وقال الآخرون: إذا لطلبوا مع الله منازعة وقتالاً، كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض، ثم نزه نفسه، فقال: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ}.
الأعمش وحمزة والكسائي، وإختاره أبو عبيد عنهم بالتاء {عُلُوّاً كَبِيراً} ولم يقل تعالياً كقوله: {وجعل إليه سبيلاً}.

.تفسير الآيات (44- 52):

{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)}
{تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ} قرأ الحسن: وأبو عمرو ويعقوب وحمزة والكسائي وحفص: بالتاء، غيرهم: يسبح بالياء وإختاره أبو عبيد [.......] وهو التأنيث ومعنى التسبيح التنزيه والطاعة والالتزام بالربوبية وكونها دالة على وجوده وتوحيده.
{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}.
قال ابن عبّاس: وإن من شيء حي.
وقال الحسن والضحاك: يعني كل شيء فيه الروح.
قال قتادة: يعني الحيوانات والنباتات [..........].
قال عكرمة: الشجرة تسبح والإسطوانة لا تسبح.
قال أبو الخطاب: كنا مع يزيد الرقاشي ومعه الحسن في فقدموا الخوان فقال يزيد الرقاشي يا أبا سعيد يسبح هذا الخوان؟ فقال كان يسبح مرة وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما سبحت عصا إلا ترك التسبيح».
وقال إبراهيم: الطعام يسبح.
وروى موسى بن عبيدة عن زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه؟ إن نوحاً قال لابنه: يابني آمرك أن تقول: سبحان الله وبحمده فإنها صلاة الخلق وتسبيحهم وبها يرزق الخلق».
قال الله {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}.
قال وهب: إن [..........] إلا وقد كان يسبح لله ثلثمائة سنة.
وروى عبد الله بن [..........] عن المقداد بن معد يكرب قال: إن التراب يسبح مالم يبتل فإذا ابتل ترك التسبيح، وإن الجوزة لتسبح مالم ترفع من موضعها، فإذا رفعت ترك التسبيح، وإن الورق يسبح مادام على الشجرة، فإذا سقط ترك التسبيح وإن الماء ليسبح مادام ماءاً فإذا تغير ترك التسبيح، وإن الثوب يسبح مادام جديداً فإذا وسخ ترك التسبيح، وإن الوحش إذا صاحت سبحت فإذا سكتت تركت التسبيح، وإن الثوب الخلق لينادى في أول النهار: اللهُمَّ إغفر لمن [......].
وروى أبو عتبة عن ثابت البنائي عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ كفاً من حصى فسبحن في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى سمعنا التسبيح، ثمّ صبّهن في يد أبي بكر حتّى سمعنا التسبيح ثمّ صبهن في عمر حتّى سمعنا التسبيح، ثمّ صبّهن في يد عثمان حتّى سمعنا التسبيح، ثم صبّهن في أيدينا فما سبحت في أيدينا.
وعن جعفر بن محمّد عن أبيه قال: «مرض النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه جبرئيل بطبق فيها رمان وعنب فتناول النبي صلى الله عليه وسلم فسبح، ثمّ دخل الحسن والحسين فتناولا فسبح العنب والرمان، ثمّ دخل عليّ فتناول منه فسبح أيضاً، ثمّ دخل رجل من أصحابه فتناول فلم يسبح، فقال جبرئيل: إنما يأكل هذا نبي أو وصي أو ولد نبي».
{ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} يعني لا تعلمون تسبيح ماعدا من تسبيح بلغاتكم وألسنتكم {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً * وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن} يا محمّد على المشركين {جَعَلْنَا بَيْنَكَ} بينهم حجاباً يحجب قلوبهم عن فهمه والانتفاع به.
قتادة: هو حجاب مستور، والمستور يعني الساتر كقوله: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} [مريم: 61] الآية مفعول بمعنى فاعل.
وقيل: معناه مستوراً عن أعين الناس فلا يرونه. وفسّره بعض المفسرين: بالكتاب عن الأعين الظاهرة فلا يرونه ولا يخلصون إلى أدلته.
عطاء عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] جاءت امرأة أبي لهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله لو تنحيت عنها لئلا تسمعك ما يؤذيك، فإنها امرأة بذيئة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه سيحال بيني وبينها» فلم تره فقالت لأبي بكر: يا أبا بكر هجاني صاحبك قال: والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله. فقالت: وإنك لمصدقه فاندفعت راجعة. قال أبو بكر: يارسول الله أما رأتك؟ قال: «لا مازال ملك بيني وبينها يسترني حتى ذهبت».
وروى الكلبي عن رجل من أهل الشام عن كعب في هذه الآية قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستتر من المشركين بثلاث آيات: الآية التي في الكهف {جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} [الكهف: 57] والآية التي في النحل {أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ...} إلى قوله: {هُمُ الغافلون} [النحل: 108]. والآية التي في الجاثية {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ...} [الجاثية: 23] إلى قوله: {غِشَاوَةً} فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأهن يستتر من المشركين.
قال كعب: فحدثت بهن رجلاً من أهل الشام فمكث فيهم ما شاء الله أن يمكث ثمّ قرأ بهنّ فخرج هارباً وخرجوا في طلبه حتّى كانوا يكونون على طريقه ولا يبصرونه.
قال الكلبي: حدثت به رجلاً بالري فأُسر بالديلم فمكث فيهم ماشاء الله أن يمكث ثمّ قرأهنّ وخرج هارباً وخرجوا في طلبه حتّى جعل ثيابهم لتلتمس ثيابه فما يبصرونه.
{وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ} يقول: وإذا قلت: لا إله إلاّ الله في القرآن وحده وأنت تتلوه {وَلَّوْاْ على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} كارهين له معرضين عنها.
حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عبّاس في قوله: {وَلَّوْاْ على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} قال: هم الشياطين والنفور جمع نافر مثل قاعد وقعود وجالس وجلوس، وجائز أن يكون مصدراً أُخرج على غير لفظه إذا كان قوله: {وَلَّوْاْ} بمعنى نفروا، فيكون معناه نفوراً.
{نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} لن يقرأ القرآن {وَإِذْ هُمْ نجوى} متناجون في أمرك، بعضهم يقول: هو مجنون، وبعضهم يقول: هو كاهن، وبعضهم: ساحر، وبعضهم: شاعر {إِذْ يَقُولُ الظالمون} بمعنى الوليد بن المغيرة وأصحابه حين رجع إليه كفار مكة من أمر محمّد وشاوروه فقال: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} مطبوباً، وقيل: مخدوعاً، وقال أبو عبيدة: مسحوراً يعني رجلاً له سحر يأكل ويشرب مثلكم والسحر الرئة يقول العرب للجبان: قد سحره ولكل من أكل وشرب من آدمي وغيره مسحور ومسحر.
قال الشاعر امرئ القيس:
أرانا موضعين لأمر غيب ** ونسحر بالطعام وبالشراب

أي: نغذي ونعلل.
{انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} شبّهوا ذلك الأشباه.
فقالوا: شاعر وساحر وكاهن ومجنون {فَضَلُّواْ} فجالوا وجاروا {فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} مخرجاً ولا يهتدون إلى طريق الحق.
{وقالوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً} بعد الموت {وَرُفَاتاً}.
قال ابن عبّاس: غباراً.
قال مجاهد: تراباً، والرفات ما تكسر وبلا من كل شيء، كالفتات والحطام والرضاض.
{أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} في الشدة والقوة {أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} يعني خلقاً مما يكبر عندكم عن قبول الحياة وبعثكم وعملكم على [.........] احياؤه فإنه يجيئه، وقيل: ما يليه من بعد ورائهم الموت، وقيل: السموات والأرض، وقيل: أراد به البعث وقيل الموت.
وقال أكثر المفسرين: ليست في نفس بني آدم أكبر من الموت، يقول: لو كنتم الموت لأُميتنكم ولأبعثنكم.
سفيان عن مجاهد وعكرمة في قوله: {أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} قالا: الموت.
وروى المعمر عن مجاهد قال: السماء والأرض والجبال يقول كونوا ماشئتم فإن الله يميتكم ثمّ يبعثكم {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا} خلقاً جديداً بعد الموت {قُلِ الذي فَطَرَكُمْ} خلقكم {أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} أي يحركون رؤوسهم متعجبين ومستهزئين يقال: نغضت سنه إذا حركت وأقلعت من أصله.
قال الراجز:
أبغض نحوى رأسه وأقنعا

وقال آخر:
لما رأسني الغضت لي الرأسا

وقال الحجاج: أمسك بقضباً لابني مستهدجا.
{وَيَقُولُونَ متى هُوَ قُلْ عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً} يعني هو قريب لأن عسى من الله واجب نظيره قوله: {لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب: 63]، و{لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} [الشورى: 17].
{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} من قبوركم إلى موقف يوم القيامة {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ}. قال ابن عباس: بأمره.
قتادة: بمعرفته وطاعته، ويحمدونه وهو مستحق للحمد.
{وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ} في الدنيا في قبوركم {إِلاَّ قَلِيلاً} زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس على أهل لا إله إلاّ الله وحشة في قبرهم ولا حشرهم، كأني بأهل لا إله إلاّ الله وهم ينفضون التراب عن رؤسهم ويقولون: {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} [فاطر: 34] الآية».