فصل: تفسير الآيات (88- 98):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (88- 98):

{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)}
{وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً} يعني اليهود والنصارى، ومن زعموا أنَّ الملائكة بنات الله، وقرأ حمزة والكسائي وُلداً بضممّالواو وجزم اللام وهي أربعة مواضع ها هنا، وحرف في سورة الزخرف، وحرف في سورة نوح، والباقون بالفتح، وهما لغتان مثل العرب والعُرب والعجم والعُجم.
قال الشاعر:
فليت فلاناً كان في بطن أُمّه ** وليت فلاناً كان ولْد حمار

مخففاً وقيس بجعل الولد بالضم جمعاً والولد بالفتح واحداً.
{لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} قال ابن عباس: منكراً، وقال قتادة ومجاهد: عظيماً، وقال الضحاك: فظيعاً وقال مقاتل: معناه لقد قلتم قولاً عظيماً، نظيره قوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} [الإسراء: 40] وإلادّ في كلام العرب أعظم الدواهي، قال رؤبة:
نطح شىّ أد رؤوس الأداد

وفيه ثلاث لغات: إدّ بالكسر وهي قراءة العامة، وأد بالفتح وهي قراءة السلمي، وآد مثل ماد وهي لغة بعض العرب {تَكَادُ السماوات} قرأ نافع والكسائي بالياء لتقديم الفعل، وقرأ الباقون بالتاء لتأنيث السماوات {يَتَفَطَّرْنَ} يتشقّقن منه وقرأ أبو عمرو ينفطرن بالنون من الانفطار وهو اختيار أبي عبد اللَّه لقوله عز وجل {إِذَا السمآء انفطرت} [الإنفطار: 1] وقوله: {السمآء مُنفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18] الباقون بالتاء من التفطّر {وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً} قال ابن عباس: وقرأ مقاتل: وقطعاً وقال عطاء: هدماً، أبو عبيد: سقوطاً {أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً} يعني لأن دعوا، ومن قرأ جعلوا وقالوا للرحمن ولداً، قال ابن عباس وأُبي بن كعب: فزعت السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلاّ الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة واستعرت جهنم وقالوا لله عزّ وجلّ ولد، ثم نفى سبحانه عن نفسه الولد فقال: {وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} يعني انه لا يفعل ذلك ولا يحتاج إليه ولا يوصف به {إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً} لا ولداً {لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} أنفاسهم وأيامهم فلا يخفى عليه شيء {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ} جائيه {يَوْمَ القيامة فَرْدا} وحيداً فريداً بعمله ليس معه شيء من الدنيا.
وأخبرنا عبد الله بن حامد، حدَّثنا محمد بن جعفر بن يزيد، حدَّثنا أحمد بن عبيد المؤدب، حدَّثنا عبد الرزاق، وحدَّثنا عبد الله، نبّأ محمد بن الحسن، نبّأ أحمد بن يوسف السلمي، نبّأ عبد الرزاق، حدَّثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدَّثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم قال: «قال الله عزّ وجلّ: كذبني عبدي وشتمني ولم يكن له ذلك، أما تكذيبه إياّي فأن يقول: لن يعيدنا كما بَدأنا، وأمّا شتمه إياي فأن يقول: اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أُولد ولم يكن لي كفؤاً أحد».
{إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً} أي حبّاً يحبّهم ويحبّبهم إلى عباده المؤمنين من أهل السماوات والأرضين.
أخبرنا عبد الخالق بن علىّ بن عبد الخالق أبو القاسم العاصي أنبأ أبو علي محمد بن أحمد بن حمزه عن الحسن الصوّاف ببغداد، قال أبو جعفر الحسن بن علي الفارسي، عن إسحاق بن بشر الكوفي، عن خالد بن يزيد عن يزيد الزيات، عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء عن عازب قال: «قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: يا علي قل: اللهم اجعل لي عندك عهداً واجعل لي في صدور المؤمنين مودّة، فأنزل الله تعالى {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}» الآية.
وأخبرنا عبد الله بن حامد، أنبأ عبدوس بن الحسين، نبّأ أبو حاتم بن أبي أويس، حدَّثني مالك بن أنس عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: أنّه قال: «إذا أحبّ الله العبد قال لجبرئيل: يا جبرئيل قد أحببت فلاناً فأحّبه، فيحبّه جبرائيل ثمَّ ينادي في أهل السماء: إنّ الله عزّ وجلّ قد أحب فلاناً فأحبّوه، فيحبّه أهل السماء ثم يضع له المحبّة في الأرض وإذا أبغض العبد، قال مالك: لا أحسبه إلاّ قال فى البغض مثل ذلك».
وأخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن يعقوب عن يحيى بن أبي طالب عن عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة في قوله: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً} قال: إي والله ودّ في قلوب أهل الإيمان، وان هرم بن حيّان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا أقبل الله عزّ وجلّ بقلوب أهل الإيمان إليه حتّى يورثه مودّتهم ورحمتهم.
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ} سهّلناه يعني القرآن {بِلِسَانِكَ} يا محمد {لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين} يعني المؤمنين {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً} قال ابن عباس: شداداً في الخصومة وقال الضحاك: جدلاً بالباطل، وقال مقاتل: خصماً، وقال الحسن: صُمّاً، وقال الربيع: صمّ آذان القلوب، وهو جمع ألدّ يقال: رجل ألدّ إذا كان من عادته مخاصمة الناس.
وقال مجاهد: الألدّ الظالم الذي لا يستقيم، وقال أبو عبيد: الألدّ الذي لا يقبل الحق ويدّعي الباطل، قال الله تعالى {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} [البقرة: 204].
أخبرنا عبد الله بن حامد، أنبأ أحمد بن محمد بن الحسين بن السوقي، نبّأ أبو الازهر نبّأ أبو أُسامة عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أبغض الرجال إلى الله تعالى الألدّ الخصم».
ثمّ خوّف أهل مكة فقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ} هل ترى، وقيل: تجد منهم من أحد {أو تسمع لهم ركزاً} وهو الصوت الخفيّ، قال ذو الرمّة:
وقد توجّس ركزاً من سنابكها ** إذ كان صاحب أرض أو به الموم

قال أبو عبيدة: الركز: الصوت والحركة الذي لا يفهمه كركز الكتيبة، وأنشد بيت لبيد:
وتوجّست ركز الأنيس فراعها ** عن ظهر غيب والأنيس سقامها

.سورة طه:

وهي خمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون حرفاً، وثلاثمائة وإحدى وأربعون كلمة، ومائة وخمس وثلاثون آية.
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحيم بن إبراهيم بن محمد العدل، نبّأ عبد الله بن محمد بن عبد الرَّحْمن الرازي، قال أبو جعفر محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي وخشنام بن بشر بن العنبر قالا: قال إبراهيم بن المنذر الحرامي عن إبراهيم بن المهاجر قال: حدّثني عمر بن حفص بن ذكوان عن مولى الحرقة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ الله عزّ وجلّ قرأ طه وياسين قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فلمّا سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبى لأُمّة تقول عليها هذا، طوبى لألسن تتكلم بهذا، وطوبى لأجواف تحمل هذا.
وأخبرنا أبو عمرو الفراتي قال أبو نصر منصور بن عبد الله السرخسي عن محمد بن الفضل عن إبراهيم بن يوسف عن المسيّب عن زياد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقرأ أهل الجنة من القرآن إّلا يس وطه».
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

.تفسير الآيات (1- 8):

{طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)}
قوله عزّ وجلّ {طه} قرأ أبو عمرو بفتح الطاء وكسر الهاء، وقرأ أهل المدينة والشام بين الكسر والفتح فيهما، وقرأ الأعمش وحمزه والكسائي بكسر الهاء والطاء، وقرأ عاصم وابن كثير بالتفخيم فيهما وكلها لغات صحيحة.
أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن عمر بن حميد الأزدي عن محمد بن الجهم السمري، عن يحيى بن زياد الفرّاء عن عيسى بن الربيع عن زرّ بن حبيش قال: قرأ رجل على عبد الله بن مسعود {طه} فقال له عبد الله: {طِه} فقال له الرجل: يا أبا عبد الرَّحْمن أليس أُمر أن يطأ قدميه؟ فقال عبد الله: طِه، هكذا أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واختلفوا في تفسيره، فروى عبد الله بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هو قسم أقسم الله به وهو اسم من أسماء الله، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: هو كقولك: افعل، وقال مجاهد والحسن وعطاء والضحاك: معناه يا رجل، وقال عكرمة: هو كقولك: يا رجل بلسان الحبشة يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وقال قتادة: هو يا رجل بالسريانيّة، وقال سعيد بن جبير: يا رجل بالنبطية. وروى السدّي عن أبي مالك وعكرمة: طه، قالا: يا فلان، وقال الكلبي: هو بلغة عكّ: يا رجل، قال شاعرهم:
ان السفاهة طه في خلائقكم ** لا قدّس الله أرواح الملاعين

وقال آخر:
هتفت بطه في القتال فلم يجب ** فخفت لعمرك أن يكون موائلا

مقاتل بن حيان معناه: طئ الأرض بقدميك، يريد في التهجّد، وقال محمد بن كعب القرظي: أقسم الله تعالى بطَوله وهدايته، وموضع القاسم قوله: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى}.
وقال جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه: طه: طهارة أهل بيت محمد صلى الله عليه وسلم ثم {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] وقيل: الطاء شجرة طوبى، والهاء هاويه. والعرب تعبّر ببعض الشيء عن كلّه فكأنّه أقسم بالجنة والنار.
وقال سعيد بن جبير: الطاء افتتاح اسمه طاهر وطيب، والهاء افتتاح اسمه هادي. وقيل: الطاء يا طامع الشفاعة للأُمة، والهاء يا هادي الخلق إلى الملّة.
وقيل: الطاء من الطهارة، والهاء: من الهداية، وكأنه تعالى يقول لنبيّه صلى اللّه عليه وسلم: يا طاهراً من الذنوب، ويا هادياً إلى علاّم الغيوب، وقيل: الطاء: طبول الغزاة، والهاء: هيبتهم في قلوب الكفار، قال الله تعالى {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} [آل عمران: 151]. وقال: وقذف في قلوبهم الرعب، وقيل: الطاء: طرب أهل الجنة، والهاء: هوان أهل النار في النار، وقيل: الطاء تسعة في حساب الجمل والهاء خمسة، أربعة عشر، ومعناها يا أيّها البدر {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} قال مجاهد:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يربطون الحبال في صدورهم في الصلاة بالليل ذلك بالفرض، وأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الكلبي: «لمّا نزل على رسول الله الوحي بمكّة اجتهد في العبادة واشتدّت عبادته فجعل يصلّي الليل كله، فكان بعد نزول هذه الآية ينام ويصلّي».
أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد الهروي عن بشر بن موسى الحميدي عن سفيان بن زياد بن علاقة قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، وقيل له: يا رسول الله أليس قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال صلى الله عليه وسلم أفلا أكون عبداً شكوراً».
وقال مقاتل: قال أبو جهل بن هشام والنصر بن الحرث للنبىّ صلى الله عليه وسلم إنّك لتسعى بترك ديننا وذلك لما رأوا من طول عبادته وشدّة اجتهاده فإننا نراه أنّه ليس لله وأنّك مبعوث إلينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل بعثت رحمة للعالمين، قالوا: بل أنت شقيّ، فأنزل الله تعالى {طه * مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} وأصل لكن أنزلناه عظة لمن يخشى.
قال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير مجازه: ما أنزلنا عليك القرآن إّلا تذكرة لمن يخشى ولئلاّ تشقى، تنزيلاً بدل من قوله تذكرةً.
وقرأ أبو الشامي: تنزيل بالرفع يعني هذا {تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأرض والسماوات العلى} يعني العالية الرفيعة وهو جمع العُليا كصغرى وصغر وكبرى وكبر {الرحمن عَلَى العرش استوى * لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى} يعني التراب الذي تحت الأرضين وهو التراب الندي، تقول العرب: شبر ندىّ وسهر نديّ وسهر مرعىّ.
قال ابن عباس: الأرض على ظهر النون والنون على بحر وإنّ طرفي النون رأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش على صخرة خضراء، وخضرة السماء منها وهي الصخرة التي ذكرها الله تعالى في القرآن في قصة لقمان {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} [لقمان: 16] الصخرة على قرن ثور، والثور على الثرى {وَمَا تَحْتَ الثرى} لا يعلمه إلاّ الله عزّ وجلّ، وذلك الثور فاتح فاهُ فإذا جعل الله عزّ وجلّ البحار بحراً واحداً سالت في جوف ذلك الثور، فإذا وقعت في جوفه يبست.
{وَإِن تَجْهَرْ بالقول} تُعلن {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى}.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا حامد أخبرنا بشر بن موسى عن عبد الله بن صالح العجلي، حدَّثنا أبو الأحوص عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} قال: وأخفى حديث نفسك نفسك.
وأخبرني عبد الله بن حامد عن أبي الطاهر محمد بن الحسن، حدَّثنا إبراهيم بن أبي طالب عن محمد بن النعمان بن مسيل، حدَّثنا يحيى بن أبي روق عن أبيه عن الضحاك عن ابن عباس قال: السرّ ما أسررت في نفسك، وأخفى أخفى من السّر، ما ستحدّث به نفسك، ما لا تعلم أنّك تحدّث به نفسك.
وروى عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير قال: السر ما تُسرّ في نفسك، وأخفى من السرّ ما لم يكن وهو كائن، قال: وأنت تعلم ما تسرّ اليوم ولا تعلم ما تسرّ غداً، والله عزّ وجلّ يعلم ما أسررت اليوم وما تسرّ غداً.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: السرّ ما أسرّ ابن آدم في نفسه، وأخفى ما خفي على ابن آدم مّما هو فاعله قبل أن يعلمه، فالله يعلم ذلك كله، فعلمه فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد، وجميع الخلائق عنده في ذلك كنفس واحدة.
وقال مجاهد: السرّ العمل الذي يسرّون من الناس، وأخفى الوسوسة، وقال زيد بن أسلم: معناه يعلم أسرار العباد، وأخفى سرّه فلا يعلم.
وقال الحسن: السرّ ما أسرّ الرجل إلى غيره، وأخفى من ذلك ما أسرّه في نفسهِ.
ثم وحّد نفسه فقال: {الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسمآء الحسنى}.

.تفسير الآيات (9- 23):

{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)}
{وَهَلْ أَتَاكَ} يا محمد {حَدِيثُ موسى} قال أهل المعاني: هو استفهام اثبات مجازه: أليس قد أتاك؟. وقال بعضهم: معناه: وقد أتاك، وقال: لم يكن قد أتاه ثم أخبره.
{إِذْ رَأَى نَاراً} ليلة الجمعة، وقال وهب بن منّبه: استأذن موسى شعيباً في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج بأهله، فولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية مثلجة وقد جاد عن الطريق، فقدح موسى النار فلم تور المقدحة، فبينا هو في مزاولة ذلك أبصر ناراً من بعيد عن يسار الطريق {فَقَالَ لأَهْلِهِ} لامرأته {امكثوا} أقيموا مكانكم {إني آنَسْتُ} أبصرتُ {نَاراً لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ} يعني شعلة من النار، والقبس: ما اقتبس من خشب أو قصب أو غير ذلك {أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى} يعني من يدلّني على الطريق {فَلَمَّآ أَتَاهَا} رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنّها نار بيضاء تتقدّم، وسمع تسبيح الملائكة، ورأى نوراً عظيما فخاف وتعّجب، فأُلقيت عليه السكينة ثمّ {نُودِيَ ياموسى * إني أَنَاْ رَبُّكَ} وإنّما كرّر الكناية لتوكيد الدلالة وإزالة الشبهة وتحقيق المعرفة، ونظيره قوله للرسول عليه السلام {وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين} [الحجر: 89].
{فاخلع نَعْلَيْكَ} وكان السبب في أمره بخلع نعليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد، قال: أخبرنا أحمد بن يحيى العبيدي قال: حدَّثنا أحمد بن نجدة قال: حدَّثنا الحمّاني قال: حدَّثنا عيسى بن يونس عن حميد بن عبد الله عن عبد الله بن الحرث العنبسي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {فاخلع نَعْلَيْكَ} قال: كانتا من جلد حمار ميّت، وفي بعض الأخبار: غير مدبوغ، وقال الحسن: ما بال خلع النعلين في الصلاة وصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نعليه؟ وإنّما أُمر موسى عليه السلام أن يخلع نعليه إنّهما كانتا من جلد حمار، وقال أبو الأحوص: أتى عبد الله أبا موسى في داره فأُقيمت الصلاة فقال لعبد الله تقدّم، فقال له عبد الله: تقدّم أنت في دارك فتقدّم فنزع نعليه، فقال له عبد الله: أبالواد المقدّس أنت؟.
وقال عكرمة ومجاهد: إنّما قال له: اخلع نعليك كي تمسّ راحة قدميك الأرض الطيّبة وينالك بركتها لأنّها قدّست مرّتين.
وقال بعضهم: أُمر بذلك لأنّ الحفوة من أمارات التواضع، وكذلك فعل السّلف حين طافوا بالبيت.
قال سعيد بن جبير: قيل له: طأ الأرض حافياً، كيما يدخل كعبه من بركة الوادي.
وقال أهل الاشارة: معناه: فرِّغ قلبك من شغل الأهل والولد.
قالوا: وكذلك هو في التعبير من رأى عليه نعلين تزوّج.
فخلعهما موسى وألقاهما من وراء الوادي {إِنَّكَ بالواد المقدس} المطهّر {طُوًى} اسم الوادي، وقال الضحاك: مستدير عميق مثل الطوى في استدارته، وقيل: اراد به إنك تطوي الوادي، وقيل: هو الليل، يقال: أتيتك طوى من الليل، وقيل: طُويَت عليه البركة طيّاً، وقرأ عكرمة: طوى بكسر الطاء وهما لغتان، وقرأ أهل الكوفة والشام: طِوَىً بالتنوين وإلاّ جرّاً لتذكيره وتحقيقه، الباقون من غير تنوين، قال: لأنّه معدول عن طاو أو مطوىّ، فلّما كان معدولاً عن وجهه كان مصروفاً عن إعرابه مثل عمر وزفر وقثم.
{وَأَنَا اخترتك} اصطفيتك، وقرأ حمزة: وإنّا اخترناك بلفظ الجمع على التعظيم {فاستمع لِمَا يوحى * إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني} ولا تعبد غيري {وَأَقِمِ الصلاة لذكري} قال مجاهد: أقم الصلاة لتذكرني فيها، وقال مقاتل: إذا تركت الصلاة ثمَّ ذكرتها فأقمها، يدلّ عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن يعقوب قال: حدَّثنا إبراهيم بن مرزوق قال: حدَّثنا سعيد بن عامر عن سعيد عن قتادة عن أنس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من نسي صلاة أو نام عنها فليصلّها إذا ذكرها، إنّ الله سبحانه يقول: {وَأَقِمِ الصلاة لذكري}».
وقيل: هو مردود على الوحي يعني فاستمع لما يوحى واستمع لذكري.
{إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} فأكاد صلة، كقول الشاعر:
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه ** فما أن يكاد قرنه يتنفس

يعني: فما يتنفس من خوفه، والفائدة في الإخفاء التخويف والتهويل، قال ابن عباس وأكثرالمفسّرين: معناه أكاد أُخفيها من نفسي، وكذلك هو في مصحف اُبي، وفي مصحف عبد الله: أكاد أُخفيها من نفسي فكيف يعلمها مخلوق؟.
وفي بعض القراءات فكيف أظهرها لكم؟ قال قطرب: فإن قيل: كيف يخفي الله من نفسه وهو خلق الإخفاء؟ قلنا: إنّ الله سبحانه كلّم العرب بكلامهم الذي يعرفونه، ألا ترى أنَّ الرجل يعذل أخاه فيقول له: أُذعت سرّي، فيقول مجيباً له معتذراً إليه: والله لقد كتمت سرّك نفسي فكيف أذعته؟ معناه عندهم: أخفيته الإخفاء كله، وقال الشاعر:
أيام تُعجبني هند وأُخبرها ** ما أكتم النّفس من حاجي وإسراري

فكيف يخبرها ما يكتم عن نفسه؟ فمجاز الآية على هذا.
وقرأ الحسن وسعيد بن جبير: أَخفيها بفتح الألف أي أُظهرها وأُبرزها يقال: خفيت الشيء إذا أظهرته، وأخفيته إذا سترته، قال امرؤ القيس:
خفاهنّ من إنفاقِهنّ كأنّما ** خفاهنّ ودق من سحاب مركّب

أي اخرجهن.
{لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} أي تعمل من خير وشرّ {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ} يصرفنّك {عَنْهَا} يعني عن الإيمان بالساعة {مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا واتبع هَوَاهُ} مراده {فتردى} فتهلك.
{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى * قَالَ هِيَ عَصَايَ} وكانت لها شعبتان وفي أسفلها سنان واسمها نبعة في قول مقاتل {أَتَوَكَّأُ} اعتمد {عَلَيْهَا} إذا مشيت وإذا أعييت وعند الوثبة والطفرة. {وَأَهُشُّ} وأخبط {بِهَا} الشجر ليتناثر ورقها فتأكل غنمي، وقرأ عكرمة {وأهسُّ} بالسين يعني وازجر بها الغنم، وذلك أن العرب تقول: هس هس، وقال النضر بن شمّيل: سألت الخليل عن قراءة عكرمة فقال: العرب تعاقب بين الشين والسين في كثير من الكلام، كقولهم: شمّت العاطس وسمّته، وشن عليه الدرع وسن، والروشم والروسم للختم.
{وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ} حوائج ومنافع، واحدتها مأرَبة ومَأرُبة بفتح الراء وضمّها {أخرى} ولم يقل أُخَر لرؤوس الآي.
قال ابن عباس: كان موسى عليه السلام يحمل عليها زاده وسقاءه، فجعلت تماشيه وتحدّثه، وكان يضرب بها الأرض فيخرج ما يأكل يومه، ويركزها فيخرج الماء فإذا رفعها ذهب الماء، وكان يردّ بها غنمه، وتقيه الهوام بإذن الله، وإذا ظهر له عدّو حاربت وناضلت عنه، وإذا أراد إلاسقاء من البئر أدلاها فطالت على طول البئر وصارت شعبتاها كالدلو حتى يستقي، وكان يظهر على شعبتيها كالشمعتين بالليل تضيء له ويهتدي بها، وإذا اشتهى ثمرة من الثمار ركزها في الأرض فتغصّنت غصن تلك الشجرة وأورقت ورقها وأثمرت ثمرها، فهذه المآرب.
قال الله سبحانه {أَلْقِهَا ياموسى * فَأَلْقَاهَا} من يده {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} تمشي مسرعة على بطنها.
قال ابن عباس: صارت حيّة صفراء لها عرف كعرف الفرس، وجعلت تتورّم حتى صارت ثعباناً، وهو أكبر ما يكون من الحيّات، فلذلك قال في موضع {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} [النمل: 10] وهو أصغر الحيّات، وفي موضع ثعبان وهو أعظمها، فالجانّ عبارة عن ابتداء حالها، والثعبان إخبار عن انتهاء حالها، وقيل: أراد أنّها في عظم الثعبان وسرعة الجانّ، فأمّا الحيّة فإنها تجمع الصغر والكبر والذكر والأُنثى.
قال فرقد السخي: كان ما بين جنبيها أربعين ذراعاً فلما ظهر في موسى من الخوف ونفار الطبع لمّا رأى من الاعجوبة {قَالَ} الله تعالى له {خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا} أي إلى سيرتها وهيئتها {الأولى} نردّها عصاً كما كانت {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} يعني إبطك.
وقال الكلبي: أسفل من الإبط، وقال مجاهد: تحت عضدك، وقال مقاتل: يعني مع جناحك وهو عضده {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} برص ولا داء {آيَةً أخرى} سوى العصا، فأخرج يده من مدرعة له مضرّبة بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس يغشي البصر {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى} وكان من حقّه الكبر وإنّما قال: الكبرى وفاقاً لرؤس الآي، وقيل: فيه اضمار معناه {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا} الآية الكبرى دليله قول ابن عباس: كانت يد موسى أكبر آياته.