فصل: تفسير الآيات (11- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (11- 29):

{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)}
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} أي أهلكنا، والقصم: الكسر يقال: قصمت ظهر فلان، وانقصمت سنة إذا انكسرت.
{وَأَنشَأْنَا} وأحدثنا {بَعْدَهَا} بعد إهلاك أهلها {قَوْماً آخَرِينَ * فَلَمَّآ أَحَسُّواْ} رأوا {بَأْسَنَآ} عذابنا {إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ} يسرعون هاربين، يقال منه: ركض فلان فرسه إذا كدّه بالرجل، وأصله التحريك.
{لاَ تَرْكُضُواْ وارجعوا إلى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} نُعّمتم فيه {وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} عن نبيّكم، مجاهد: لعلكم تفقهون بالمسألة، قتادة: لعلّكم تسألون من دنياكم شيئاً استهزاءً بهم، نزلت هذه الآيات في أهل حصورا وهي قرية باليمن، وكان أهلها العرب فبعث الله إليهم نبياً يدعوهم إلى الله سبحانه فكذّبوه وقتلوه، فسلّط الله عليهم بخت نصّر حتى قتلهم وسباهم ونكّل بهم، فلمّا استحرّ فيهم القتل ندموا وهربوا وانهزموا، فقالت الملائكة لهم على طريق الاستهزاء {لاَ تَرْكُضُواْ وارجعوا إلى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} إلى مساكنكم وأموالكم، فأتبعهم بخت نصّر وأخذتهم السيوف، ونادى مناد من جوّ السّماء: يالثارات الأنبياء، فلمّا رأوا ذلك أقرّوا بالذنوب حين لم ينفعهم فقالوا {ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} قولهم وهجّيراهم {حتى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً} بالسيوف كما يحصد الزرع {خَامِدِينَ} ميّتين.
{وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} عبثاً وباطلاً {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً} قال قتادة: اللهو بلغة أهل اليمن المرأة.
وقال عقبة بن أبي جسرة: شهدت الحسن بمكة وجاءه طاووس وعطاء ومجاهد فسألوه عن هذه الآية، فقال الحسن: اللهو: المرأة. وقال ابن عباس: الولد.
{لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ} من عندنا وما اتّخذنا نساءً وولداً من أهل الأرض، نزلت في الذين قالوا اتّخذ الله ولداً.
{إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ} نأتي ونرمي وننزل {بالحق} بالإيمان {عَلَى الباطل} الكفر {فَيَدْمَغُهُ} فيهلكه، وأصل الدمغ شجّ الرأس حتى يبلغ الدِماغ {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} ذاهب وهالك.
{وَلَكُمُ الويل} يا معشر الكفّار {مِمَّا تَصِفُونَ} لله بما لا تليق به من الصاحبة والولد. وقال مجاهد: ممّا تكذبون، ونظيره قوله: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139] أي تكذيبهم.
{وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض} عبداً وملكاً {وَمَنْ عِنْدَهُ} يعني الملائكة {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ}.
قال ابن عباس: لا يستنكفون، مجاهد: لا يجسرون، قتادة ومقاتل والسدّي: لا يعيون، الوالبي عن ابن عباس: لا يرجعون، ابن زيد: لا يملّون.
{يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} لا يضعفون ولا يسأمون، قد أُلهموا التسبيح كما تلهمون النَّفَس.
{أَمِ اتخذوا آلِهَةً مِّنَ الأرض} يعني الأصنام {هُمْ يُنشِرُونَ} يحيون الإموات ويخلقون الخلق.
{لَوْ كَانَ فِيهِمَآ} أي في السماء والأرض {آلِهَةٌ إِلاَّ الله} غير الله {لَفَسَدَتَا} وهلك من فيهما.
{فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ * لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} لأنه الرب {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} عما لا يعلمون لأنهم عبيده.
{أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} على ذلك، ثمَّ قال مستأنفاً {هذا} يعني القرآن {ذِكْرُ} خبر {مَن مَّعِيَ} بيان الحدود والأحكام والثواب والعقاب {وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} من الأمم السالفة وما فعل الله بهم في الدنيا وما هو فاعل بهم في الآخرة {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق فَهُمْ مُّعْرِضُونَ} عن القرآن.
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ} قرأ أكثر أهل الكوفة بالنون وكسر الحاء على التعظيم لقوله: أرسلنا، وقرأ الباقون بالياء وفتح الحاء على الفعل المجهول.
{أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون * وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً} نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله {سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} يعني الملائكة {لاَ يَسْبِقُونَهُ} لا يتقدّمونه {بالقول} ولا يتكلّمون إلاّ بما يأمرهم به.
{وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى}.
قال ابن عباس: هم أهل شهادة أن لا إله إلاّ الله، وقال مجاهد: لمن رضي الله عنه، {وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} خائفون {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ} قال قتادة: عنى بهذه الآية إبليس لعنه الله حيث ادّعى الشركة، ودعا إلى عباده نفسه وأمر بطاعته، قال: لأنه لم يقل أحد من الملائكة إنّي إله من دون الله.
{فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين} الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها.

.تفسير الآيات (30- 50):

{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)}
{أَوَلَمْ يَرَ} قرأه العامّة بالواو، وقر ابن كثير ألم وكذلك هو في مصاحفهم. {ير} يعلم {الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا}.
قال ابن عباس والضحاك وعطاء وقتادة: يعني كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففصل الله سبحانه بينهما بالهواء.
قال كعب: خلق الله سبحانه السماوات والأرضين بعضها على بعض ثمّ خلق ريحاً توسّطتها ففتحها بها.
وقال مجاهد وأبو صالح والسدُّي: كانت السماوات مرتقة طبقة واحدة، ففتقها فجعلها سبع سماوات، وكذلك الأرضون كانت مرتقة طبقاً واحداً ففتقها فجعلها سبع أرضين.
عكرمة وعطية وابن زيد: كانت السماء رتقاً لا تمطر، والأرض رتقاً لا تنبت ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات، نظيره قوله سبحانه {والسمآء ذَاتِ الرجع * والأرض ذَاتِ الصدع} [الطارق: 1112] وأصل الرتق السدّ ومنه قيل للمرأة التي فرجها ملتحم رتقاً، وأصل الفتق الفتح، وإنّما وحّد الرتق وهو من نعت السموات والأرض لأنّه مصدر، وضع موضع الاسم مثل الزور والصوم والفطر والعدل ونحوها.
{وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} يعني أنّ كلّ شيء حىّ فإنّه خُلق من الماء، نظيره قوله سبحانه {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ} [النور: 45].
{أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا} أي في الرواسي {فِجَاجاً} طرقاً ومسالك واحدها فج ثمَّ، فسّر فقال: {سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} من أن تسقط، دليله قوله سبحانه {وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [الحج: 65] وقيل: محفوظاً من الشياطين، دليله قوله سبحانه {وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} [الحجر: 17].
{وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} فلا يتفكّرون فيها ولا يعتبرون بها يعني الكفار.
{وَهُوَ الذي خَلَقَ اليل والنهار والشمس والقمر كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يجرون ويسيرون، والفلك مدار النجوم الذي يضمّها، ومنه فلكة المغزل.
قال مجاهد: كهيئة حديدة الرّحا، الضحّاك: فلكها: مجراها وسرعة سيرها.
وقال آخرون: الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه.
وقال بعضهم: الفلك السماء الذي فيه ذلك الكوكب، وكلّ كوكب يجري في السّماء الذي قدّر فيه وهو بمعنى قول قتادة.
{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد} دوام البقاء في الدنيا {أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} أي أفهم الخالدون؟
كقول الشاعر:
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ** فقلت وأنكرت الوجوه هُمُ هُمُ

أي أهمُ؟ نزلت هذه الآية حين قالوا: نتربّص بمحمد ريب المنون.
{كُلُّ نَفْسٍ} منفوسة {ذَآئِقَةُ الموت وَنَبْلُوكُم} نختبركم {بالشر والخير فِتْنَةً} ابتلاء لننظر كيف شكركم فيما تحبّون، وكيف صبركم فيما تكرهون.
{وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ * وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ} ما يتّخذونك {إِلاَّ هُزُواً} سخرّياً ويقول بعضهم لبعض {أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} بسوء ويعيبها، قال عنترة:
لا تذكري فرسي وما أطعمته ** فيكون جلدك مثل جلد الأجرب

أي لا تعيبي مهري.
{خُلِقَ الإنسان} يعني آدم، قرأ العامّة: بضم الخاء وكسر اللام على غير تسمية الفاعل، وقرأ حميد والأعرج بفتح الخاء واللام يعني خلق الله الانسان {مِنْ عَجَلٍ} اختلفوا فيه فقال بعضهم: يعني أنّ بنيته وخلقته من العجلة وعليها طُبع، نظيره قوله: {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} [الإسراء: 11].
قال سعيد بن جبير والسدي: لمّا دخل الروح في عيني آدم نظر إلى ثمار الجنّة، فلمّا دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ}.
وقال آخرون: معناه خلق الإنسان من تعجيل في خلق الله إيّاه، وقالوا: خلقه في آخر النهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس فأسرع في خلقه قبل مغيبها.
قال مجاهد: خلق الله آدم بعد كلّ شيء آخر النهار من يوم خلق الخلق، فلمّا أحيا الروح رأسه ولم يبلغ أسفله قال: يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس.
وقال بعضهم: هذا من المقلوب مجازه: خُلق العجل من الإنسان كقول العرب: «عرضت الناقة على الحوض» يريدون: عرضت الحوض على الناقة وكقولهم: إذا طعلت الشمس الشعرى، واستوى العود على الحربا أي استوى الحربا على العود. وقال ابن مقبل:
حسرتُ كفّي عن السربالِ آخذه ** فرداً يجرّ على أيدي المفدينا

يريد حسرت السربال عن كفّي، ونحوها كثير.
وقال أبو عبيد: وكثير من أهل المعاني يقولون: العجل الطين بلغة حمير، وانشدوا:
النبع تنبت بين الصخر ضاحية ** والنخل ينبت بين الماء والعجل

أي الطين.
{سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} بالعذاب وسؤال الآيات {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} الذي تعدنا من العذاب، وقيل: القيامة، وتقديره الموعود {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
قال الله سبحانه {لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ} يمنعون {عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ} السياط {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} وفي الآية اختصار يعني لمّا أقاموا على كفرهم ولم يتوبوا.
{بَلْ تَأْتِيهِم} يعني الساعة {بَغْتَةً} فجأةً {فَتَبْهَتُهُمْ} قال ابن عباس: تفجأهم، وقال الفرّاء: تحيّرهم. {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم} يحفظكم ويحرسكم {باليل والنهار مِنَ الرحمن} إذا انزل بكم عذابه، ومعنى الآية: من أمر الرَّحْمن وعذابه.
ثم قال سبحانه {بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ} كتاب ربّهم {مُّعْرِضُونَ * أَمْ لَهُمْ} الميم صلة فيه وفي أمثاله {آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} فكيف ينصرون عابديهم.
{وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} قال ابن عباس: يمنعون، عطية عنه: يُجارون، يقول العرب: أنا لك جار وصاحب من فلان أي مجير عنه.
مجاهد: ينصرون ويحفظون، قتادة: لا يصحبون من الله بخير.
{بَلْ مَتَّعْنَا هؤلاء} الكفّار {وَآبَآءَهُمْ} في الدنيا {حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ} يعني ما ننقص من أطراف المشركين ونزيد في أطراف المؤمنين.
{أَفَهُمُ الغالبون} أم نحن {قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بالوحي} بالقرآن {وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعآء} قرأ أبو عبد الرَّحْمن السلمي بضم الياء وفتح الميم، الضم رفع بمعنى أنّه لا يفعل بهم ذلك على مذهب ما لم يبين فاعله.
وقرأ ابن عامر {تُسمع} بتاء مضمومة وكسر الميم والصُمَّ نصباً، جعل الخطاب للنبي عليه السلام، وقرأ الآخرون: {يسمع} بياء مفتوحة وفتح الميم الصمُّ رفع على أنّ الفعل لهم {إِذَا مَا يُنذَرُونَ} يخوّفون ويحذّرون.
{وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ} أصابتهم {نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ} قال ابن عباس: طرف، مقاتل وقتادة: عقوبة، ابن كيسان: قليل، ابن جريج: نصيب، من قولهم: نفح فلان لفلان إذا أعطاه قسماً وحظّاً منه، بعضهم: ضربة، من قول العرب: نفحت الدابة برجلها إذا ضربت بها. قال الشاعر:
وعمرة من سروات النساء ** تنفح بالمسك أردانها

{لَيَقُولُنَّ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * وَنَضَعُ الموازين القسط} العذاب وإنّما وحدّ القسط وهو جمع الموازين لأنّه في مذهب عدل ورضىً.
قال مجاهد: هذا مَثَل، وإنّما أراد بالميزان العدل.
{فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} لا ينقص من حسناته ولا يزاد على سيّئاته.
يروى أنّ داود عليه السلام سأل ربّه أن يريه الميزان فأراه، فلمّا رآه غشي عليه ثم أفاق، فقال: يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفّته حسنات؟ فقال: يا داود إنّي إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة.
فان قيل: كيف وجه الجمع بين هذه الآية وبين قوله سبحانه {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} [الكهف: 105]؟ فالجواب: إن المعنى فيه: لا نقوّمها ولا تستقيم على الحقّ، من ناقصه سائله لأنها باطلة.
{وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} رفع أهل المدينة المثقال بمعنى: وان وقع، وحينئذ لا خبر له ونصبها الباقون على معنى: وإن كان ذلك الشيء مثقال، ومثله في سورة لقمان {أَتَيْنَا بِهَا} أحضرناها، وقرأ مجاهد: آتينا بالمدّ أي جازينا بها.
{وكفى بِنَا حَاسِبِينَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان} يعني الكتاب الذي يفرق بين الحق والباطل وهو التوراة.
وقال ابن زيد: النصر على الأعداء، دليله قوله: {وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان} [الأنفال: 41] يعني يوم بدر، وهذا القول أشبه بظاهر الآية لدخول الواو في الضياء والذكر للمتّقين، وعلى هذا التأويل تكون الواو مقحمة زائدة كقوله سبحانه وتعالى {بِزِينَةٍ الكواكب * وَحِفْظاً} [الصافات: 6-7].
ويروى أنّ عكرمة كان يقول في هذه الآية: معناها: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء، ويقول: انقلوا هذه الواو إلى قوله سبحانه وتعالى {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ} [غافر: 7].
{الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب} أي يخافونه ولم يروه {وَهُمْ مِّنَ الساعة مُشْفِقُونَ * وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ} يعني القرآن {أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} جاحدون.