فصل: تفسير الآيات (83- 94):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (83- 94):

{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)}
{وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ} الآية.
قال وهب بن منبّه: كان أيّوب رجلاً من الروم، وهو أيّوب بن أموص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم، وكانت أُمّه من ولد لوط بن هاران، وكان الله تعالى قد اصطفاه ونبّأه وبسط عليه الدنيا، وكانت له البثينة من أرض الشام كلّها سهلها وجبلها بما فيها، وكان له من أصناف المال كلّه من الابل والبقر والخيل والحمير ما لا يكون لرجل أفضل منه في العُدّة والكثرة، وكان له بها خمسمائة فدّان يتبعها خمسمائة عبد، لكلّ عبد امرأة وولد ومال، ويحمل له كلّ فدان أتان، لكلّ أتان ولد من اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وفوق ذلك، وكان الله سبحانه أعطاه أهلاً وولداً من رجال ونساء، وكان برّاً تقيّاً رحيماً بالمساكين، يكفل الأرامل والأيتام ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل، وكان شاكراً لأنعم الله سبحانه، مؤدياً لحقّ الله تعالى، قد امتنع من عدوّ الله إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى من العزّة والغفلة والسهو والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من الدنيا، وكان معه ثلاثة قد آمنوا به وصدّقوه وعرفوا فضله: رجل من أهل اليمن يقال له اليفن، ورجلان من أهل بلاده يقال لأحدهما بلدد وللآخر صافر، وكانوا كهولاً.
قال وهب: إنّ لجبرئيل عليه السلام بين يدي الله سبحانه مقاماً ليس لأحد من الملائكة في القربة والفضيلة، وإنّ جبرئيل هو الذي يتلقّى الكلام، فإذا ذكر الله عبداً بخير تلقّاه جبرئيل ثم لقّاه ميكائيل وحوله الملائكة المقرّبون حافّين من حول العرش، فإذا شاع ذلك في الملائكة المقرّبين صارت الصلاة على ذلك العبد من أهل السموات، فإذا صلّت عليه ملائكة السموات هبطت عليه بالصلاة إلى ملائكة الأرض، وكان إبليس لعنه الله لا يحجب عن شيء من السماوات، وكان يقف فيهنّ حيث ما أراد، ومن هنالك وصل إلى آدم حين أخرجه من الجنّة، فلم يزل على ذلك يصعد في السموات حتى رفع الله سبحانه عيسى ابن مريم فحجب من أربع، وكان يصعد في ثلاث، فلمّا بعث الله تعالى محمداً عليه السلام حجب من الثلاث الباقية، فهو وجنوده محجوبون من جميع السموات إلى يوم القيامة {إِلاَّ مَنِ استرق السمع فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ} [الحجر: 18].
قال: فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب وذلك حين ذكره الله سبحانه وأثنى عليه، فأدركه البغي والحسد وصعد سريعاً حتى وقف من السماء موقفاً كان يقفه فقال: يا إلهي نظرت في أمر عبدك أيوّب فوجدته أنعمت عليه فشكرك، وعافيته فحمدك، ثمّ لم تجرّبه بشدّة ولا بلاء وأنا لك زعيم، لئن ضربته بالبلاء ليكفرنّ بك ولينسينّك، فقال الله سبحانه وتعالى له: انطلق فقد سلّطتك على ماله، فانقض عدوّ الله حتى وقع إلى الأرض ثم جمع عفاريت الشياطين وعظماءهم وقال لهم: ماذا عندكم من القوّة والمعرفة؟ فإنّي قد سُلّطتُ على مال أيوب، وهي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال.
قال عفريت من الشياطين: أُعطيتُ من القوّة ما إذا شئت تحوّلت إعصاراً من النار وأحرقت كلّ شيء آتي عليه، قال له إبليس: فاتِ الإبل ورِعاها فانطلق يؤم الإبل وذلك حين وضعت رؤوسها ويثبت في مراعيها، فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار ينفخ منها أرواح السّموم، لا يدنو منها أحد إلاّ احترق، فلم يزل يحرقها ورعاها حتى أتى على آخرها، فلمّا فرغ منها تمثّل إبليس على قعود منها يراعها ثم انطلق يؤم أيوّب حتّى وجده قائماً يصلّي فقال: يا أيّوب، قال: لبيّك، قال: هل تدري ما الذي صنع ربك الذي اخترته وعبدته بإبلك ورعائها؟ قال أيوب: انّها ماله أعارنيه وهو أولى به إذا شاء نزعه، وقديماً وطّنت مالي ونفسي على الفناء.
قال إبليس: فإنّ ربّك أرسل عليها ناراً من السّماء فاحترقت ورعاؤها كلّها، فتركت الناس مبهوتين وقفاً عليها يتعجّبون منها، منهم من يقول: ما كان أيّوب يعبد شيئاً وما كان إلاّ في غرور، ومنهم من قال: لو كان إله أيّوب يقدر على أن يصنع شيئاً لمنع وليّه، ومنهم من يقول: بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت به عدوّه ويفجع به صديقه.
قال أيوب: الحمد لله حين أعطاني وحين نزع منّي، عرياناً خرجت من بطن أُمّي، وعرياناً أعود في التراب، وعرياناً أُحشر إلى الله سبحانه، ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعارك وتجزع حين قبض عاريته، الله أولى بك وبما أعطاك، ولو علم الله فيك أيّها العبد خيراً لتقبّل روحك مع تلك الأرواح فآجر لي فيك وصرت شهيداً، ولكنه علم منك شراً فاخّرك، وخلصك من البلاء كما يخلص الزوّان من القمح الخالص.
فرجع إبليس لعنه الله إلى أصحابه خاسئاً ذليلاً فقال: ماذا عندكم من القوّة فإني لم أكلّم قلبه، قال عفريت من عظمائهم: عندي من القوة اما إذا شئت صحت صوتاً لا يسمعه ذو روح إلاّ خرجت مهجة نفسه، قال له ابليس: فأتِ الغنم ورعاها فانطلق يأتي الغنم ورعاها حتى إذا توسطها صاح صوتاً جثمت أمواتاً من عند آخرها، ومات رعاؤها، ثم خرج إبليس متمثّلاً بقهرمان الرعاء حتى إذا جاء أيوب وهو قائم يصلّي، فقال له القول الأول وردّ عليه أيّوب الردّ الأول.
ثمّ إن إبليس رجع إلى أصحابه فقال لهم: ماذا عندكم من القوّة فإنّي لم أُكلّم قلب أيوّب، فقال عفريت من عظمائهم: عندي من القوّة ما إذا شئت تحوّلت ريحاً عاصفاً تنسف كلّ شيء تأتي عليه حتى لا أُبقي شيئاً، قال له إبليس: فأت الفدادين والحرث، فانطلق يؤمهم وذلك حين قرنوا الفدادين وأنسؤوا في الحرث، وأولادها رتوع، فلم يشعروا حتى هبّت ريح عاصف فنسفت كلّ شيء من ذلك حتّى كأنّه لم يكن، ثم خرج إبليس متمّثلاً بقهرمان الحرث حتى جاء أيّوب وهو قائم يصلّي فقال له مثل قوله الأوّل وردّ عليه أيوّب مثل ردّه الأوّل، فجعل إبليس يصيب ماله مالاً مالاً حتى مرَّ على آخره، كلّما انتهى إليه هلاك مال من أمواله حمد الله وأحسن عليه الثناء ورضي بالقضاء ووطّن نفسه للصبر على البلاء حتى لم يبق له مال.
فلمّا رأى إبليس أنّه قد أفنى ماله ولم ينجح منه بشيء صعد سريعاً حتى وقف الموقف الذي كان يقفه فقال: إلهي إنّ أيّوب يرى أنّك ما متّعته بنفسه وولده فأنت معطيه المال، فهل أنت مسلطي على ولده فإنّها الفتنة المضلّة والمصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال ولا يقوى عليها صبرهم.
قال الله سبحانه: انطلق فقد سلّطتك على ولده، فانقضّ عدوّ الله حتى جاء بني أيّوب وهم في قصرهم فلم يزل يزلزل بهم حتى تداعى من قواعده، ثم جعل يناطح جدره بعضها ببعض ويرميهم بالخشب والجندل حتى إذا مثّل بهم كلّ مثلة رفع بهم القصر وقلبه فصاروا منكّسين، وانطلق إلى أيّوب متمثّلاً بالمعلّم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه ودماغه، فأخبره بذلك وقال: يا أيوب لو رأيت بنيك كيف عذّبوا وكيف قلبوا فكانوا منكّسين على رؤوسهم، تسيل دماؤهم ودماغهم من أُنوفهم وأشفارهم وأجوافهم، ولو رأيت كيف شقت بطونهم فتناثرت أمعاؤهم لقطع قلبك، فلم يزل يقول هذا ونحوه ويرقّقه حتى رقّ أيوب فبكى وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه، فاغتنم إبليس ذلك فصعد سريعاً بالذي كان من جزع أيّوب مسروراً به، ثمّ لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر، فاستغفر وصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته، فبدروا إبليس إلى الله سبحانه وهو أعلم، فوقف إبليس خازياً ذليلاً فقال: يا إلهي إنّما هوّن على أيّوب خطر المال والولد إنه يرى أنك ما متعته بنفسه فأنت تعيد له المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده، فأنى لك زَعم لئن ابتليته في جسدِهِ ليُنَسِينّك وليكفِرنّ بك ولجحدنّك نعمتك.
فقال الله سبحانه: انطلق فقد سلّطتُك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه ولا على عقله، وكان الله تعالى هو أعلم به، لم سلطه عليه إلاّ رحمة ليعظم له الثواب ويجعله عبرة للصابرين وذكرى للعابدين في كلّ بلاء نزل بهم ليتأسّوا به في الصبر ورّجاء الثواب.
وانقض عدو الله إبليس سريعاً فوجد أيوب ساجداً فعجّل قبل أن يرفع رأسه فأتاه من قِبل الأرض في موضع وجهه فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده فذهل وخرج به من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم وقعت فيه حكّة لا يملكها، فحكّ بأظفاره حتى سقطت كلها، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها، ثم حكها بالفخّار والحجارة الخشنة فلم يزل حكها حتى نفل لحمه وتقطع وتغير وانتن.
فأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشاً ورفضه خلق الله كلهم غير امرأته، وهي رحمة بنت إفرائيم بن يوسف بن يعقوب، وكانت تختلف إليه بما يصلحه ويلزمه، فلما رأى الثلاثة من أصحابه وهم: أليفر ويلدد وصافر ما إبتلاه الله سبحانه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه، فلما طال به البلاء انطلقوا إليه وهو في بلائه فبكتوه ولاموه وقالوا له: تب إلى الله سبحانه من الذنب الذي عوقبت به، قال: وحضر معهم فتى حديث السِن وكان قد آمن به وصدّقه فقال لهم: إنكم تكلمتم أيها الكهول وكنتم أحق بالكلام لأسنانكم، ولكن قد تركتم من القول أحسن من الذي قلتم ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم، وقد كان لا يؤت عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم، فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم وحرمة من انتهكتم، ومن الرجل الذي عِبتم واتهمتم؟ ألم تعلموا أن أيوب نبي الله وخيرته وصفوته من أهل الأرض يومكم هذا، ثم لم تعلموا أو لم يطلعكم الله على أنه قد سخط شيئاً من أمره منذ أتاه ما أتاه إلى يومكم هذا، ولا على أنه نزع منه شيئاً من الكرامة التي اكرمه بها، ولا أن أيوب غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا، وإن كان البلاء هو الذي أزري به عندكم ووضعه في أنفسكم، فقد علمتم أان الله سبحنه يبتلي النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ثم ليس بلاؤه لأولئك بدليل على سخطه عليهم، ولا هوانه لهم، ولكنها كرامة وخيرة لهم، ولو كان أيوب ليس من الله تعالى بهذه المنزلة إلاّ أنه أخٌ اجتبيتموه على وجه الصحبة لكان لا يجمل بالحليم أن يعذل أخاه عند البلاء ولا يعيّره بالمصيبة ولا يعيبه بما لا يعلم، وهو مكروب جرين، ولكنه يرحمه ويبكي معه ويستغفر له ويحزن بحزنه ويدله على مراشد أمره، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا، فالله الله أيها الكهول وقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم ويكسر قلوبكم.
ألم تعلموا أن لله عباداً أسكتتهم خشية من غير عيّ ولا بُكْم، وأنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الأولياء العالمون بالله وبأيامه، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم واقشعرّت جلودهم، وانكسرت قلوبهم، وطاشت عقولهم إعظاماً لله وإعزازاً وإجلالاً، فإذا استفاقوا من ذلك اسْتَبَقُوا إلى الله بالأعمال الزاكية، يعدون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين، وإنهم لأَنْزَاه برآء، ويعدون أنفسهم مع المقصرين المفرطين، وإنهم لأكياس أقوياء، ولكنهم لا يستكثرون لله الكثير ولا يرضون لله بالقليل، ولا يدلون عليه بالأعمال فهم مروّعون مفزَّعون خاشعون مستكينون.
فقال أيوب: إن الله سبحانه يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير فمتى ثبتت في القلب يظهرها الله على اللسان، وليست تكون الحكمة من قبل السنّ والشيبة ولا طول التجرية، ولئن جعل الله تعالى العبد حكيماً في الصبا لم يسقط منزلته عند الحكماء وهم يرون من الله سبحانه عليه نور الكرامة.
ثم أقبل أيوب على الثلاثة فقال: أتيتموني غضاباً رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم من قبل أن تضربوا، كيف بي لو قلتُ لكم تصدّقوا عنّي بأموالكم لعلّ الله أن يخلّصني، أو قرّبوا عنّي قرباناً لعلّ الله يتقبّله ويرضى عني، وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم وظننتم أنكم عوقبتم بإحسانكم فهنالك بغيتم وتعزّزتم ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربّكم ثمّ صدقتم لوجدتم لكم عيوباً سترها الله بالعافية التي ألبسكم، وقد كنت فيما خلا والرجال يوقّرونني وأنا مسموع كلامي، معروف حقّي، منصف من خصمي، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم، فإنّكم كنتم علىَّ أشدّ من مصيبتي.
ثمّ أعرض عنهم وأقبل على ربّه مستعيناً به متضرعاً إليه فقال: ربّ لأىّ شيء خلقتني؟ ليتني إذ كرهتني لم تخلقني، يا ليتني كنت حيضة ألقتني أُمّي، أو يا ليتني عرفت الذّنب الذي أذنبتُ والعمل الذي عملتُ فصرفت وجهك الكريم عنّي، لو كنت أمتّني فألحقتني بآبائي فالموت كان أجمل لي، ألم أكن للغريب داراً وللمسكين قراراً ولليتيم وليّاً وللأرملة قيّماً؟ الهي أنا عبد ذليل، إن أحسنتُ فالمنّ لك، وإن أسأت فبيدك عقوبتي، جعلتني للبلاء غرضاً وللفتنة نصباً، وقد وقع عليَّ بلاء لو سلّطته على جبل ضَعُف عن حمله، فكيف يحمله ضعفي، إلهي تقطّعت أصابعي فإنّي لأرفع الأكلة من الطعام بيديَّ جميعاً فما تبلغان فمي إلاّ على الجهد منّي، تساقطت لهواتي ولحم رأسي، فما بين أُذنيَّ من سداد حتى أنّ إحداهما تُرى من الأُخرى، وإنّ دماغي يسيل من فمي.
تساقط شعر عيني فكأنما حُرّق بالنار وجهي، وحدقتاي هما متدلّيتان على خدّي، ورم لساني حتى ملأ فمي، فما أدخل منه طعاماً إلاّ غصّني، ورمتْ شفتاي حتّى غطّت العليا أنفي والسفلى ذقني، تقطّعت أمعائي في بطني فإنّي لأُدخله الطعام فيخرج كما دخل ما أُحسّه ولا ينفعني، ذهبت قوّة رجليَّ فكأنهما قربتا ماء أُطيق حملهما، ذهب المال فصرت أسأل بكفّي فيطعمني من كنت أعوله اللقمة الواحدة، فيمنّها عليّ ويعيّرني، هلك أولادي ولو بقي أحد منهم أعانني على بلائي ونفعني، قد ملّني أهلي وعقّني أرحامي وتنكّرت معارفي ورغب عنّي صديقي وقطعني أصحابي وجُحدتْ حقوقي ونُسيتْ صنايعي، أصرخ فلا يصرخونني وأعتذر فلا يعذرونني، ودعوت غلامي فلم يجبني وتضرّعت لأمتي فلم ترحمني وأنحل جسمي ولو أنّ ربىّ نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتّى أتكلّم بملء فمي، ثمّ كان ينبغي للعبد أن يحاجّ عن نفسه، لرجوت أن يعافيني عند ذلك ممّا بي ولكنّه ألقاني وتعالى عنّي فهو يراني ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه، لا نظر إلىّ فرحمني ولا دنا منّي ولا أدناني، فأتكلم ببراءتي وأُخاصم عن نفسي.
فلمّا قال ذلك أيّوب وأصحابه أظلّه غمام حتّى ظنّ أصحابه أنّه عذاب، ثمّ نودي منه: يا أيّوب إنّ الله يقول: ها أنا دنوت منك ولم أزل منك قريباً، فقم فأدل بعذرك وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك واشدد إزارك وقم مقام جبّار فإنّي لا ينبغي لي أن يخاصمني إلاّ جبّار مثلي ولا ينبغي أن يخاصمني إلاّ من يجعل الزمّار، في فم الأسد والسّخال في فم العنقاء واللجام في فم التنينّ، ويكتال مكيالاً من النّور ويزن مثقالاً من الرّيح ويصرّ صرّةً من الشّمس ويردّ أمس، لقد منّتك نفسك أمراً ما يبلغ بمثل قوتّك ولو كنت إذ منّتك ذلك ودعتك إليه، تذكّرت أىّ مرام رامت بك.
أردت أن تخاصمني بفيك أم أن تحاجّني بخطابك أم أردت ان تكابرني بضعفك؟ أين أنت منّي يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها؟ هل علمت بأي مقدار قدّرتها أم كنت معي تمد بأطرافها، أم تعلم ما بعد زواياها أم على أىّ شيء وضعت أكنافها؟ أبطاعتك حمل الماء الأرض، أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاءً؟ أين كنت منّي يوم رفعت السّماء سقفاً في الهواء لا بعلائق سُيّبت ولا يحملها دعم من تحتها؟ هل يبلغ من حكمتك أن تجري نورها أو تسيّر نجومها أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها؟ أين أنت منّي يوم سخّرت البحار ونبعت الأنهار؟ أقدرتك حبست أمواج البحار على حدودها أم قدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدّتها؟ أين أنت منّي يوم صببت الماء على التراب ونصبت شوامخ الجبال؟ هل لك من ذراع يطيق حملها أم هل تدري كم من مثقال فيها، أم أين الماء الذي أنزلت من السماء؟ هل تدري أُمٌّ تلده أو أبٌ يولدهُ؟ أحكمتك أحصت القطر وقَسمت الأرزاق، أم قدرتك تثير السحاب وتغشيه الماء؟ هل تدري ما أصوات الرعود أم من أىّ شيء لهب البرق؟ وهل رأيت عمق البحر، أم هل تدري ما بعد الهواء، أم هل خزنت أرواح الأموات، أم هل تدري أين خزانة الثلج، أو أين خزائن البرد، أم أين جبال البرد، أم هل تدري أين خزانة الليل بالنهار، وأين خزانة النهار بالليل، وأين طريق النور، وبأىّ لغة تتكلّم الأشجار، وأين خزانة الريح؟ وكيف تحبسه الأغلاق؟ ومن جعل العقول في الرّجال؟ ومن شق الأسماع؟ ومن ذلّت الملائكة لملكه وقهر الجبارين بجبروته وقسم أرزاق الدوابّ بحكمته؟ من قسّم للأُسد رزقها وعرّف الطير معاشها وعطفها على أفراخها؟ من أعتق الوحش من الخدمة وجعل مساكنها البريّة، لا تستأنس بالأصوات ولا تهاب المسلّطين، أم حكمتك عطفت أمهاتها عليها حتى أخرجت لها الطعام من بطونها وآثرتها بالعيش على نفوسها، أم من حكمتك تُبصّر العقاب الصيد البصر البعيد وأصبح في أماكن القتلى؟ أين أنت منّي يوم خلقت يهموت مكانه في مقطع التراب والوثبان يحملان الجبال والقرى والعمران، آذانهما كأنها شجر الصنوبر الطوال، ورؤسهما كأنها كوم الجبال، وعروق أفخاذها كأنها عمد النحاس، أنت ملأت جلودهما لحماً أم أنت ملأت رؤسهما دماغاً؟ هل لك في خلقهما من شرك أم لك بالقوة التي غلبتها يدان؟ هل تبلغ من قوّتك أن تضع يدك على رؤوسهما أو تقعد لهما على طريق فتحبسهما أو تصدّهما من قوتهما؟ أين أنت يوم خلقت للتنّين رزقه في البحر ومسكنه في السحاب؟ عيناه توقدان ناراً ومنخراه يثوران دخاناً، أُذناه مثل قوس السحاب، يثور منهما لهب كأنّه إعصار العجاج، جوفه يحترق ونفسه تلتهب وزبده جمر كأمثال الصخور، وكأنّ صريف أسنانه أصوات الصواعق، وكأنّ نظر عينيه لهب البرق، وتمرّ به الجيوش وهو متكئ لا يفزعه شيء، ليس فيه مفصل الحديد، عنده مثل الطين، والنحاس، عنده مثل الخيوط لا يفزع من النشّاب ولا يحسّ وقع الصخور على جسده، ويسير في الهواء كأنّه عصفور، ويهلك كلّ شيء يمرّ به، هل أنت آخذه بأُحبولتك أو واضع اللجام في شدقه؟ هل تحصي عمره أم هل تعرف تقّوت رزقه أم هل تدري ماذا خرّب من الأرض؟ وماذا يخرّب فيما بقي من عمره؟ أتطيق غضبه حين يغضب أم تأمره فيطيعك؟ تبارك الله وتعالى.
فقال أيّوب: قصرت عن هذا الأمر الذي يعرض علىّ ليت الأرض انشقّت فذهبت فيها ولم أتكلّم بشيء يسخط ربّي، اجتمع علىّ البلاء إلهي فجعلتني مثل العدوّ، وقد كنت تكرمني وتعرف نصحي، وقد علمت أنّ كلّ الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك وأعظم من هذا، ما شئت عملت، لا يعجزك شيء ولا تخفى عليك خافية ولا تغيب عنك غائبة، من هذا الذي يظن أن يسرّ عنك سرّاً وأنت تعلم ما يخطر على القلوب؟ وقد علمت منك في بلائي هذا ما لم أكن أعلم، وخفت حين بلوت أمرك أكثر ممّا كنت أخاف، إنّما كنت أسمع بسطوتك سمعاً فأمّا الآن فهو نظر العين، إنّما تكلمت حين تكلمت لتعذرني، وسكتُّ حين سكتُّ لترحمني، كلمة زلّت فلن أعود، قد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني وألصقت بالتراب خدّي ودسست فيه وجهي لِصَغاري، وسكتُّ كما أسكتتني خطيئتي، فاغفر لي ما قلت فلن أعود لشيء تكرهه مني.
فقال الله سبحانه: يا أيوب فقد نفذ فيك علمي وسبقت رحمتي غضبي إذ خطئت فقد غفرت لك، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم ليكون لمن خلفك آية، ويكون عبرة لأهل البلاء وغزاءً للصابرين فاركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، فيه شفاؤك، وقرّب عن صحابتك قرباناً واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك.
فركض برجله فانفجرت له عين فدخل فيها، فاغتسل فأذهب الله عنه كلّما كان به من البلاء، ثمَّ خرج فجلس وأقبلت امرأته فقامت تلتمسه في مضجعه فلم تجده فقامت كالواله مترددة متحيّرة ثم قالت: يا عبد الله هل لك علم بالرجل المبتلى الذي كان هاهنا؟ فقال لها: وهل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: نعم ومالي لا أعرفه؟ فتبسم وقال: أنا هو فعرفته بمضحكه فاعتنقته.
قال ابن عباس: فوالذي نفس عبد الله بيده ما فارقته من عناقه حتى مرّ بهما كلّ مال لهما وولد، فذلك قوله: {وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ} {أَنِّي مَسَّنِيَ الضر}.
واختلف العلماء في وقت ندائه، والسبب الذي قال: لأجله أنّي مسّني الضرّ وفي مدّة بلائه.
فحدَّثنا الإمام أبو الحسن علىّ بن سهل الماسرخسي إملاء يوم الجمعة سنة أربع وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو طالب عمر بن الربيع بن سليمان الخشّاب بمصر قال: حدَّثنا يحيى بن أيوب العلاّف قال: حدَّثنا سعيد بن أبي مريم قال: حدَّثنا نافع بن يزيد عن عقيل عن شهاب عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أيوب نبيّ الله لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلاّ رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم: والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به، فلمّا راحا إلى أيوّب لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك، فقال أيّوب: ما أدري ما يقولان غير أنّ الله سبحانه يعلم أني كنت أمرّ بالرجلين يتنازعان فيذكران الله سبحانه وتعالى، فأرجع إلى بيتي فأكفّر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلاّ في حقّ».
قال: فكان يخرج بحاجته فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، فلمّا كان ذات يوم أبطأعليها، وأُوحي إلى أيّوب في مكانه {اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42] فاستبطأته فتلقته تنظر، وأقبل عليها وقد أذهب الله ما به من البلاء وهو أحسن ما كان، فلمّا رأته قالت: هل رأيت نبىّ الله هذا المبتلى؟ قال: إنّي أنا هو، وكان له اندران: أندر للقمح وأندر للشعير، فبعث الله سبحانه سحابتين، فلمّا كانت أحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأُخرى في أندر الشعير الوَرَق حتى فاض.
وقال الحسن: مكث أيّوب مطروحاً على كناسة في مزبلة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهراً تختلف فيه الدوابّ.
وقال وهب: لم يكن بأيّوب أكلة إنّما كان يخرج منه مثل ثدي النّساء ثم يتفقّأ.
قال الحسن: ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق ولا أحد يقرّبه غير رحمة صبرت معه، تصّدّق وتأتيه وتحمد الله إذا حمد، وأيّوب على ذلك لا يفتر من ذكر الله سبحانه والثناء عليه والصبر على ما ابتلاه، فصرخ عدوّ الله إبليس صرخة جمع فيها جنوده من أقطار الأرض جزعاً من صبر أيوّب فلمّا اجتمعوا إليه قالوا: ما جزعك؟ قال: أعياني هذا العبد الذي سألت ربّي أن يسلّطني على ماله وولده فلم أدع له مالاً، وولداً فلم يزدد بذلك إلاّ صبراً وثناءً على الله سبحانه، ثمّ سلّطت على جسده فتركته قرحة ملقاة على كناسة بني إسرائيل، لا تقربه إلاّ إمرأته، فقد افتضحت بربي فاستعنت بكم لتعينوني عليه، قالوا له: أين مكرك؟ أين عملك الذي أهلكت به من مضى؟ قال: بطل ذلك كله في أيّوب فأشيروا عليَّ، قالوا: نشير عليك، أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة؟ قال: من قبل امرأته، قالوا: فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإنّه لا يستطيع أن يعصيها وليس أحد يقرّبه غيرها، قال: أصبتم، فانطلق حتى أتى امرأته وهي تصدّق، فتمثّل لها في صورة رجل، فقال: أين بعلك يا أمة الله؟ قالت: هو ذاك يحكّ قروحه، وتتردّد الدوابّ في جسده، فلمّا سمعها طمع أن يكون كلمة جزع، فوسوس إليها فذكّرها ما كانت فيه من النعيم والمال، وذكّرها جمال أيّوب وشبابه، وما هو فيه من الضرّ، وأنّ ذلك لا ينقطع عنهم أبداً.
قال الحسن: فصرخت، فلمّا صرخت علم أن قد جزعت، فأتاها بسخلة فقال: ليذبح هذا لي أيّوب ويبرأ.
قال: فجاءت تصرخ: يا أيُوب حتى متى يعذّبك ربّك؟ ألا يرحمك؟ أين المال؟ أين الماشية؟ أين الولد؟ أين الصديق؟ إنّ لونك الحسن قد تغيّر وصار مثل الرّماد، أين جسمك الحسن الذي قد بلي وتردّد فيه الدواب؟ اذبح هذه السخلة واسترح.
قال أيّوب: أتاكِ عدوّ الله فنفخ فيك وأجبته؟ ويلك أرأيت ما تبكين عليه ممّا تذكرين ممّا كنا فيه من المال والولد والصحة، من أعطانيه؟ قالت: الله، قال: فكم متّعنا به؟ قالت: ثمانين سنة، قال: فمذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء؟ قالت: منذ سبع سنين وأشهر. قال: ويلك والله ما عدلت ولا أنصفت رَبك، ألا صبرتِ يكون في هذا البلاء الذي ابتلانا ربّنا به ثمانين سنة، كما كنا في الرخاء ثمانين سنة والله لئن شفاني الله لأجلدنّك مائة جلدة، أمرتِني أن أذبح لغير الله طعامك وشرابك الذي أتيت به؟ علي حرام أن أذوق شيئاً ممّا تأتينني به بعد إذ قلت لي هذا، فاغربي عنّي فلا أراك، فطردها فذهبت فلمّا نظر أيّوب إلى إمرأته قد طردها، وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خرَّ ساجداً وقال: رب مسّني الضر ثم ردّ ذلك إلى ربّه فقال: {وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين} فقيل له: إرفع رأسك فقد استجبت لك، اركض برجلك، فركض برجله فنبعت عين فاغتسل منها فلم يبق عليه من دابّةِ شيء ظاهر إلاّ سقط، فأذهب الله كلّ ألم وكلّ سقم، وعاد إليه شبابه وجماله أحسن ما كان وأفضل ما كان، ثم ضرب رجله فنبعت عين أخرى فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء إلاّ خرج، فقام صحيحاً وكُسي حلّة.
قال: فجعل يلتفت فلا يرى شيئاً ممّا كان له من أهل ومال إلاّ وقد أضعفه الله له حتى والله ذكر لنا أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جراداً من ذهب، قال: فجعل يضمّه بيده فأوحى إليه: يا أيوب ألم أغنك؟ قال: بلى ولكنّها بركتك فمن يشبع منها، قال: فخرج حتى جلس على مكان مشرف، ثمَّ إنّ امرأته قالت: أرأيت إن كان طردني، إلى من أكِله؟ أدعه يموت جوعاً وتأكله السباع لأرجعنّ إليه، فرجعت إليه فلا كناسة ترى ولا تلك الحال التي كانت، وإذا الأمور قد تغيّرت فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي، وذلك بعين أيّوب.
قال: وهابت صاحب الحلة أن تأتيه فتسأله عنه، فأرسل إليها أيّوب فدعاها فقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت وقالت: أردت ذلك المبتلى الذي كان منبوذاً على الكناسة لا أدري أضاع أم ما فعل؟.
فقال لها أيوب: ما كان منك؟ فبكت وقالت: أردت بعلي فهل رأيته؟ قال: وهل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: وهل يخفى على أحد رآه؟ ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه، ثم قالت: أما إنّه كان أشبه خلق الله بك إذ كان صحيحاً، قال: فإنّي أنا أيّوب الذي أمرتني أنّ أذبح لإبليس، وإنّي أطعتُ الله وعصيت الشيطان ودعوت الله سبحانه وتعالى فردَّ عليَّ ماترين.
وقال كعب: كان أيّوب في بلائه سبع سنين.
وقال وهب: لبث أيّوب في ذلك البلاء ثلاث سنين لم يزد يوماً واحداً، فلمّا غلب أيّوب إبليس ولم يستطع منه شيئاً اعترض امرأته في هيئة ليس كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال، على مركب ليس من مراكب الناس، له عظم وبهاء وجمال، فقال لها: أنت صاحبة أيّوب هذا الرجل المبتلى؟ قالت: نعم قال: هل تعرفينني؟ قالت: لا، قال: فأنا إله الأرض، وأنا الذي صنعت، بصاحبك ما صنعت وذلك أنّه عبد إله السّماء وتركني فأغضبني، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك كل ما كان لكما من مال وولد فإنّه عندي، ثم أراها إيّاهم فيما ترى ببطن الوادي الذي لقيها فيه.
قال وهب: وقد سمعت أنّه إنّما قال: لو أنّ صاحبك أكل طعاماً ولم يسمّ عليه لعُوفي ممّا به من البلاء، والله أعلم، وأراد إبليس لعنه الله أن يأتيه من قِبلها.
ورأيت في بعض الكتب أنّ إبليس قال لرحمة: وإن شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى أردّ عليك المال والأولاد وأُعافي زوجك، فرجعت إلى أيّوب فأخبرته بما قال لها وما أراها، قال: قد أتاكِ عدوّ الله ليفتنكِ عن دينكِ، ثمَّ أقسم إن عافاه اللّه ليضربنّها مائة جلدة.
وقال عند ذلك: مسّني الضر من طمع إبليس في سجود حرمتي له، ودعائه إياّها وإيّاي إلى الكفر، قالوا: ثمَّ الله سبحانه رحم رحمة امرأة أيّوب بصبرها معه على البلاء، وخفّف عنها، وأراد أن يبرئ يمين أيوب فأمره أن يأخذ جماعة من الشجر فيضربها بها ضربة واحدة كما قال الله سبحانه {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} [ص: 44] الآية.
وقال وهب وغيره: كانت امرأة أيوب تكسب له وتعمل للناس وتجيئه بقوته، فلمّا طال عليهما البلاء وسئمها الناس فلم يستعملها التمست له يوماً من الأيّام ما تطعمه، فما وجدت شيئاً فجزّت قرناً من رأسها فباعته برغيف فأتته به فقال لها: أين قرنك فأخبرته بذلك فحينئذ قال: مسّني الضر.
وقال قوم: إنّما قال: مسّني الضر حين قصدت الدود إلى قلبه ولسانه فخشي أن يعيى عن الذكر والفكر.
وقال عبد الله بن عبيد بن عمير: كان لأيوب أخوان فأتياه فقاما من بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من ريحه، فقال أحدهما لصاحبه: لو كان الله علم في أيّوب خيراً ما ابتلاه بما نرى: قال: فلم يسمع أيوب شيئاً كان عليه أشدّ من هذه الكلمة، وما جزع من شيء أصابه جزعه من تلك الكلمة، فعند ذلك قال: مسّني الضرّ، ثم قال: اللهمَّ إن كنت تعلم أني لم أبتْ ليلة شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدّقني فصدّق، وهما يسمعان، ثمّ قال: اللهمّ إن كنت تعلم أنّي لم أتّخذ قميصين قطّ وأنا أعلم مكاناً عار فصدقني فصدّق وهما يسمعان فخرَّ ساجداً.
وقيل معناه: مسّني الضر من شماتة الأعداء، يدلّ عليه ما روي أنّه قيل له بعدما عوفي: ما كان أشدّ عليك في بلائك؟ قال: شماتة الأعداء.
وقيل: إنّما قال ذلك حين وقعت دودة من فخذه فرفعها وردّها إلى وضعها وقال: كلي فقد جعلني الله طعامك، فعضّتهُ عضّة زاد ألمها على جميع ما قاسى من عضّ الديدان.
وسمعت أبا عبد الله بن محمد بن جعفر الأبيوردي يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عبّاد البغدادي يقول: سئل أبو القاسم جنيد عن هذه الآية فقال: عرَّفه فاقة السؤال ليمنّ عليه بكرم النوال.
وسمعت استاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول: حضرت مجلساً غاصّاً بالفقهاء والأُدباء في دار سلطان فسئلت عن هذه الآية بعد إجماعهم على أنّ قول أيوب {مَسَّنِيَ الضر} شكاية وقد قال الله سبحانه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} [ص: 44] فقلت: ليس هذا شكاية وإنما هو دعاء، بيانه قوله سبحانه {فاستجبنا لَهُ} والإجابة تعقب الدعاء لا الاشتكاء، فاستحسنوه وارتضوه.
{فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ} واختلفوا في كيفية ذلك فقال قوم: إنما آتى الله سبحانه أيّوب في الدُنيا مثل أهله الذين هلكوا، فأما الذين هلكوا فإنّهم لم يُردّوا عليه، وإنّما وعد الله أيّوب أن يؤتيه إيّاهم في الآخرة.
وروى عبد الله بن إدريس عن ليث قال: أرسل مجاهد رجلاً يقال له قاسم إلى عكرمة يسأله عن هذه الآية فقال: قيل له: إنّ أهلك لك في الآخرة، فإن شئت عجّلناهم لك في الدنيا، وإن شئت كانوا لك في الآخرة، وآتيناك مثلهم في الدنيا؟ فقال: يكونون لي في الآخرة، وأُوتي مثلهم في الدنيا.
قال: فرجع إلى مجاهد فقال: أصاب، ويكون معنى الآية على هذا التأويل وآتيناه أهله في الآخرة، ومثلهم معهم في الدنيا، وأراد بالأهل الأولاد.
قال وهب: كان له سبع بنات وثلاثة بنين.
وقال ابن يسار: كان له سبع بنين وسبع بنات، وقال آخرون: بل ردّهم الله سبحانه بأعيانهم وأعطاه مثلهم معهم، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وقتادة وكعب قال: أحياهم الله وأُوتي مثلهم، وهذا القول أشبه بظاهر الآية.
وقال الحسن: آتاه الله المثل من نسل ماله الذي ردّ عليه وأهله، فأمّا الأهل والمال فإنه ردّهما عليه بأعيانهما.
{رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وذكرى لِلْعَابِدِينَ} عظة لهم {وَإِسْمَاعِيلَ} يعني ابن إبراهيم {وَإِدْرِيسَ} وهو أخنوخ {وَذَا الكفل كُلٌّ مِّنَ الصابرين} على أمر الله، واختلفوا في ذي الكفل، فأخبرني ابن فنجويه بقراءتي عليه في داري قال: حدَّثنا عمر بن الخطاب قال: حدَّثنا عبد الله الرازي عن سعد مولى طلحة عن ابن عمر قال: سمعت حديثاً للنبي صلى الله عليه وسلم لو لم أسمعه إلاّ مرة أو مرّتين لم أُحدّث به، سمعته منه أُكثر من سبع مرات، قال صلى الله عليه وسلم: «كان في بني إسرائيل رجل يقال له ذو الكفل لا ينزع عن ذنب عمله، فاتبع امرأة فأعطاها ستّين ديناراً على أن تعطيه نفسها، فلمّا قعد منها مقعد الرجل من المرأة أُرعدت وبكت فقال: ما يبكيك؟ قالت: من هذا العمل، ما عملته قطّ، قال: أكرهتك؟ قالت: لا، ولكن حملتْني عليه الحاجة، قال: اذهبي فهو لك، ثم قال: والله لا أعصي الله أبداً، فمات من ليلته فقيل مات ذو الكفل، فوجدوا على باب داره مكتوباً: إنّ الله قد غفر لذي الكفل».
وروى الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحرث أنّ نبيّاً من الأنبياء قال: من يكفل لي أن يصوم النّهار ويقوم الليل ولا يغضب؟ فقام شاب فقال: أنا، فقال: اجلس، ثم عاد فقال: من يكفل لي أن يقوم الليل ويصوم النهار ولا يغضب؟ فقام ذلك الشاب فقال: انا، فقال: اجلس، ثم عاد فقام الشاب فقال: أنا فقال: تقوم الليل وتصوم النهار ولا تغضب؟ قال: نعم.
فمات ذلك النبي فجلس ذلك الشاب مكانه يقضي بين الناس فكان لا يغضب، فجاءه الشيطان في صورة إنسان ليغضبه وهو صائم يريد أن يقيل، فضرب الباب ضرباً شديداً فقال: من هذا؟ فقال: رجل له حاجة، فأرسل معه رجلاً فرجع فقال: لا أرضى بهذا الرجل، فأرسل معه آخر، فقال: لا أرضى بهذا، فخرج إليه فأخذ بيده فانطلق معه حتى إذا كان في السوق خلاّه وذهب، فسمّي ذا الكفل.
وقال مجاهد: لما كبر اليسع عليه السلام قال: لو أنّي استخلفتُ رجلاً على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى انظر كيف يعمل، قال: فجمع الناس فقال: من يتقبّل لي بثلاث استخلفه: يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب، فقام رجل تزدريه العين فقال: أنا فردّه ذلك اليوم. وقال مثلها اليوم الآخر فسكت الناس، وقام ذلك الرجل فقال: أنا فاستخلفه قال: فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان فأعياهم فقال: دعوني وإياه فأتاه في صورة شيخ فقير حين أخذ مضجعه للقائلة وكان لا ينام بالليل والنهار إلاّ تلك النومة فدّق الباب فقال: من هذا؟ قال: شيخ فقير كبير مظلوم، فقام ففتح الباب فجعل يقصّ عليه فقال: إنّ بيني وبين قومي خصومة وإنّهم ظلموني وفعلوا، وفعلوا فجعل يطوّل عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة، قال: إذا رحت فإنّني آخذ لك بحقّك، فانطلق وراح، فكان في مجلسه فجعل ينظر هل يرى الشيخ، فلم يره فقام يتبعه، فلمّا كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه، فلمّا رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه أتاه فدّق الباب فقال: من هذا؟ قال: الشيخ المظلوم، ففتح له فقال: ألم أقل إذا قعدت فأتني قال: إنّهم أخبّ قوم، إذا عرفوا أنك قاعد قالوا: نعطيك حقّك، وإذا قمت جحدوني، قال: فانطلق فإذا رحت فأتني، ففاتته القائلة فراح فجعل ينظر ولا يراه وشقّ عليه النعاس، فقال لبعض أهله: لا تدعنّ أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام فإنّي قد شقَّ عليَّ النوم.
فلمّا كان تلك الساعة جاء فلم يأذن له الرجل فلمّا أعياه نظر فرأى كوّة في البيت فتسوّر منها فإذا هو في البيت، وإذا هو يدّق الباب من داخل فاستيقظ الرجل فقال: يا فلان ألم آمرك؟ فقال: أمّا من قبلي فلم تُؤتَ والله، فانظر من أين أُتيت؟ فقام إلى الباب فهو مغلق كما أغلقه وإذا الرجل معه في البيت فقال له: أتنام والخصوم ببابك؟ فعرفه فقال: أعدوّ الله؟ قال: نعم أعييتني في كلّ شيء ففعلت ما ترى لأغضبك فعصمك الله منّي، فسمّي ذا الكفل لأنه تكفّل بأمر فوفى به.
وقال أبو موسى الأشعري: إنَّ ذا الكفل لم يكن نبيّاً ولكن كان عبداً صالحا تكفّل بعمل رجل صالح عند موته وكان يصلّي لله سبحانه وتعالى كل يوم مائة صلاة، فأحسن الله عزّ وجلّ عليه الثناء.
وقيل: كان رجلاً تكفّل بشأن رجل وقع في بلاء فأنجاه الله على يديه.
وقيل: ذو الكفل إلياس، وقيل: هو زكريّا، والله أعلم.
{وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ الصالحين * وَذَا النون} واذكر صاحب النون وهو يونس بن متّى {إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً} اختلفوا في معنى الآية ووجهها فقال الضحّاك: ذهب مغاضباً لقومه، وهي رواية العوفي وغيره عن ابن عباس قال: كان يونس وقومه يسكنون فلسطين، فغزاهم ملك فسبي منهم تسعة أسباط ونصف سبط وبقي سبطان ونصف، فأوحى الله تعالى إلى شعياً النبي أن سر إلى حزقيا الملك وقل له حتى يوجّه نبياً قويّاً أميناً فإنّي أُلقي في قلوب أُولئك حتى يرسلوا معه بني إسرائيل، فقال له الملك: فمن ترى؟ وكان في مملكته خمسة من الأنبياء، فقال: يونس، فإنّه قوي أمين، فدعا الملك يونس وأمره أن يخرج، فقال يونس: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا، قال: فهل سمّاني لك؟ قال: لا، قال: فها هنا غيري أنبياء أقوياء أُمناء، فالحّوا عليه فخرج مغاضباً للنبىّ وللملك ولقومه، فأتى بحر الروم فإذا سفينة مشحونة فركبها فلمّا تلججت السفينة تكفأت حتى كادوا أن يغرقوا فقال الملاّحون، ها هنا رجل عاص أو عبد آبق، ومن رسمنا أن نقترع في مثل هذا فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر. ولئن يغرق واحد خير من أن تغرق السفينة بما فيها، فاقترعوا ثلاث مرّات فوقعت القرعة في كلّها على يونس.
فقام يونس فقال: أنا الرجل العاصي والعبد الآبق، وألقى نفسه في الماء فجاء حوت فابتلعه، ثمَّ جاء حوت آخر أكبر منه فابتلع هذا الحوت، وأوحى الله إلى الحوت: لا تؤذ منه شعرة فإنّي جعلت بطنك سجنه، ولم أجعله طعاماً لك.
وقال الآخرون: بل ذهب عن قومه مغاضباً لرّبه إذ كشف عنهم العذاب بعدما وعدهموه، وذلك أنّه كره أن يكون بين قوم قد جرّبوا عليه الخلف فيما وعدهم، واستحيا منهم، ولم يعلم السبب الذي به دفع عنهم العذاب والهلاك، فخرج مغاضباً وقال: والله لا أرجع إليهم كذّاباً أبداً، وإنّي وعدتهم العذاب في يوم فلم يأتِ.
وفي بعض الأخبار: إنّ قومه كان من عادتهم أن يقتلوا من جرّبوا عليه الكذب، فلمّا لم يأتهم العذاب للميعاد الذي وعدهم خشي أن يقتلوه، فغضب وقال: كيف أرجع إلى قومي وقد أخلفتهم الوعد؟ ولم يعلم سبب صرف العذاب عنهم، وكيفية القصّة، وذلك أنّه كان خرج من بين أظهرهم، وقد ذكرتْ القصة بالشرح في سورة يونس.
قال القتيبي: المغاضبة مفاعلة، وأكثر المفاعلة من اثنين كالمناظرة والمخاصمة والمجادلةُ وربّما تكون من واحد كقولك: سافرت وعاقبت الرجل وطارقت النعل وشاركت الأمر ونحوها، وهي ها هنا من هذا الباب، فمعنى قوله: مغاضباً أي غضبان أنفاً، والعرب تسمّي الغضب أنفاً، والأنف غضباً لقرب أحدهما من الآخر، وكان يونس وعد قومه أن يأتيهم العذاب لأجل، فلمّا فات الأجل ولم يعذّبوا غضب وأنف أن يعود إليهم فيكذّبوه، فمضى كالنادّ الآبق إلى السفينة، وكان من طول ما عاين وقاسى من بلاء قومه يشتهي أن ينزل الله بهم بأسه.
وقال الحسن: إنّما غاضب ربّه من أجل أنّه أمر بالمصير إلى قومه لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه، فسأل ربّه أن يُنظره ليتأهّب للشخوص إليهم، فقيل له: إنّ الأمر أسرع من ذلك ولم يُنظر حتى سأل أن ينظر إلى أن يأخذ نعلاً يلبسها، فقيل له نحو القول الأول، وكان رجلاً في خلقه ضيق، فقال: أعجلني ربي أن آخذ نعلا؟ فذهب مغاضباً.
وقال وهب بن منّبه اليماني: إنّ يونس بن متّى كان عبداً صالحاً، وكان في خلقه ضيق، فلمّا حملت عليه أثقال النبوّة تفسّخ تحتها تفسّخ الربع تحت الحمل الثقيل، فقذفها من يده وخرج هارباً منها، فلذلك أخرجه الله سبحانه من أُولي العزم، فقال لنبيّه محمد عليه السلام: {فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل} [الأحقاف: 35] وقال: {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت} [القلم: 48] أي لا تلق أمري كما ألقاه.
{فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} أن لن نقضي عليه العقوبة، قاله مجاهد وقتادة والضحّاك والكلبي، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، تقول العرب: قدّر الله الشيء بقدره تقديراً وقدره يقدره قدراً، ومنه قوله: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} [الواقعة: 60] وقوله: {والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 3] في قراءة من خفّفهما، ودليل هذا التأويل قراءة عمر بن عبد العزيز والزّهري {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} بضم النون وتشديد الدال من التقدير، وقرأ عبيد بن عمير وقتادة: فظنّ أن لن يُقدّر عليه بالتشديد على المجهول، وقرأ يعقوب يُقدَر بالتخفيف على المجهول. وقال الشاعر في القدر بمعنى التقدير:
فليست عشيّات الحمى برواجع ** لنا أبداً ما أورق السلم النضر

ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى ** تباركت ما تقدر نفع ولك الشكر

وقال عطاء وكثير من العلماء: معناه فظنّ أن لن نضيّق عليه الحبس من قوله سبحانه {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ} [الرعد: 26] أي يضيّق.
وقال سبحانه وتعالى {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزقُهُ} [الطلاق: 7]، وقال ابن زيد: هو استفهام معناه: أفظنّ أن لن نقدر عليه؟.
وروى عوف عن الحسن أنّه قال: معناه: فظنّ أنّه يعجز ربّه فلا يقدر عليه.
قال: وبلغني أن يونس لمّا أذنب انطلق مغاضباً لربّه واستزلّه الشيطان حتّى ظنّ أن لن يقدر عليه.
قال: وكان له سلف وعبادة فأبى الله أن يدعه للشيطان فقذفه في بطن الحوت، فمكث في بطن الحوت أربعين من بين يوم وليلة، وقيل: سبعة أيام، وقيل: ثلاثة، وأمسك الله نفسه فلم يقتله هناك، فتاب إلى ربّه في بطن الحوت وراجع نفسه فقال: {أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} فاستخرجه الله من بطن الحوت برحمته.
قال عوف: وبلغني أنّه قال: وبنيت لك مسجداً في مكان لم يبنه أحد قبلي. والتأويلات المتقدمة أولى بالأنبياء وأبعد من الخطأ.
{فنادى فِي الظلمات} أي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، قاله أكثر المفسّرين، وقال سالم بن أبي الجعد: ظلمة جوف الحوت، ثم ظلمة جوف الحوت الآخر الذي ابتلعه في ظلمة البحر.
{أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} قال محمد بن قيس: قال يونس: {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} حين عصيتك، وما صنعت من شيء فلم أعبد غيرك.
وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لمّا أراد الله سبحانه حبس يونس في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحماً ولا تكسر له عظماً، فأخذه ثمّ هوى به إلى مسكنه في البحر، فلمّا انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسّاً فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله سبحانه إليه وهو في بطن الحوت: إنّ هذا تسبيح دوابّ البحر، قال: فسبّح وهو في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا إنّا لنسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة قال: ذاك عبدي يونس عصاني، فحبسته في بطن الحوت، قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كلّ يوم وليلة عمل صالح؟ قال: نعم، فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال الله سبحانه {وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات: 145]».
وروى أبو هلال محمد بن سليمان عن شهر بن حوشب عن ابن عباس قال: أتى جبرئيل يونس عليهما السلام فقال له: انطلق إلى السفينة، فركبها فاحتبست السفينة فساهموا فسهم، فجاء الحوت يبصبص بذنبه فنودي الحوت: إنّا لم نجعل يونس لك رزقاً، إنّا جعلناك له حرزاً ومسجداً، فالتقمه الحوت فانطلق به من ذلك المكان حتى مرّ به على الإبلّة، ثمَّ مرَّ به على دجلة ثم انطلق حتى ألقاه في نينوى، فكان ابن عباس يقول: إنّما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت، ودليل هذا القول أنَّ الله تعالى ذكر قصة يونس في سورة والصافّات ثم عقّبها بقوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147].
وقال الآخرون: بل كانت قصّة الحوت بعد دعائه قومه وتبليغهم رسالة ربّه كما قد بيّنا ذكره.
{فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين} من كربهم إذا استغاثوا بنا ودعونا.
وروى علي بن زيد عن سعيد بن المسيّب قال: سمعت سعد بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اسم الله الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متّى» قال: فقلت: يا رسول الله هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: «هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامّة إذا دعوا بها، ألم تسمع قول الله تعالى {فنادى فِي الظلمات} إلى قوله: {وكذلك نُنجِي المؤمنين}» وهو شرط الله لمن دعاه بها.
واختلفت القراءة في قوله (ننج) فقرأه العامة بنونين الثانية منهما ساكنة من الإنجاء على معنى نحن ننجي، فإن قيل: لم كتبت في المصاحف بنون واحدة؟ قيل: لأنّ النون الثانية لمّا سكنت وكان الساكن غير ظاهر على اللسان حذفت، كما فعلوا ذلك بإلاّ فحذفوا النون من لجعلها أو كاشفة إذا كانت مدغمةً في اللام، وقرأ ابن عامر وعاصم برواية ابن بكر {نُنجِي المؤمنين} بنون واحدة وتشديد الجيم وتسكين الياء، واختلف النحاة في هذه القراءة فمنهم من صوّبها وقال: فيه اضمار معناه: نجي المؤمنين كما يقال: ضرب زيداً بمعنى ضرب الضرب زيداً. قال الشاعر:
ولو ولدت قفيرة جرو كلب ** لسُبَّ بذلك الجرو الكلابا

أراد لسبّه بذلك الجرو ولسبّ الكلابا.
قالوا: وإنّما سكّن الياء في نجّي كما سكّنوها في بقر فقالوا بقره ونحوها وإنّما اتبع أهل هذه القراءة المصحف لأنّها مكتوبة بنون واحدة.
وقال القتيبي: من قرأ بنون واحدة والتشديد فإنّه أراد ننجي من التنجية إلاّ أنّه أدغم وحذف نوناً على طلب الخفّة.
وقال النحويون: وهو رديء لبعد مخرج النون من الجيم، وممن جوّز هذه القراءة أبو عبيد، وأما أبو حاتم السجستاني فإنه لحّنها ونسب قارئها إلى الجهل وقال: هذا لحن لايجوز في اللغة، ولا يحتج بمثل ذلك البيت على كتاب الله سبحانه وتعالى إلاّ أن يقول: وكذلك نُجي المؤمنين، ولو قرئ كذلك لكان صواباً، والله أعلم.
{وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى} دعا {رَبَّهُ} فقال: {رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً} وحيداً لا {وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين * فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى} ولد لي ولا عقب وارزقني وارثاً، ثمّ ردّ الأمر إلى الله سبحانه فقال: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} بأن جعلناها ولوداً بعد ما كانت عقيماً، قاله أكثر المفسّرين، وقال بعضهم: كانت سيئة الخلق فأصلحها له بأن رزقها حسن الخلق.
{إِنَّهُمْ} يعني الأنبياء الذين سمّاهم في هذه السورة.
{كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} خوفاً وطمعاً رغباً في رحمة الله ورهباً من عذاب الله، وقرأ الأعمش، رُغباً ورُهباً بضم الراء وجزم الغين والهاء وهما لغتان مثل السقم والسُقم والثَكل والثُكل والنَحل والنُحل والعَدم والعُدم.
{وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} خاضعين متواضعين.
{والتي أَحْصَنَتْ} حفظت ومنعت {فَرْجَهَا} ممّا حرم الله سبحانه وهي مريم بنت عمران {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} أي أمرنا جبرئيل حتى نفخ في جيب درعها وأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها، وأضاف الروح إليه على معنى الملك والتشريف لمريم وعيسى بتخصيصها بالإضافة إليه.
{وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} أي دلالة على كمال قدرتنا وحكمتنا، حمل امرأة بلا مماسّة ذكر، وكون ولد من غير أب، وإنّما قال: {آية} ولم يقل آيتين لأن معنى الكلام وجعلنا شأنهما وأمرهما آية للعالمين.
{إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ} ملّتكم {أُمَّةً وَاحِدَةً} ملّة واحدة وهي الإسلام فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان، وأصل الأُمّة الجماعة التي هي على مقصد واحد فجعلت بالشريعة أُمة واحدة لاجتماع أهلها بها على مقصد واحد، ونصب أمّة على القطع، وقرأ ابن أبي إسحاق أُمّةٌ بالرفع على التكرير.
{وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون * وتقطعوا أَمْرَهُمْ} أي اختلفوا في الدين صاروا فيه فرقاً وأحزاباً، ثم قال: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} فنجزيهم بأعمالهم.
{فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} لا نبطل عمله ولا نجحده بل يُشكر ويثاب عليه {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} لعمله حافظون.