فصل: تفسير الآيات (130- 134):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (130- 134):

{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)}
{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} أي يترك دينه وشريعته.
يقال: رغب في الشيء إذا أردته ورغبت عنه إذا تركته.
وأصل الرّغبة: رفع الهمّة عن الشيء وإليه يقال: رغب فلان في فلان وإليه إذا همّت نفسه إليه، والأصل فيه الكرة فمعنى قوله تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} أي يرفع همّته عنها {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ}.
قال ابن عبّاس: حيّر نفسه.
حيّان عن الكلبي: ظلّ من جهة نفسه.
أبو روق: عجَّز رأيه عن نفسه.
يمان: حمق رأيه، ونفسه منصوب في هذه الأقاويل بنزع حرف الصّفة.
وقال الفرّاء: نصب على التفسير، والأصل: سفهت نفسه فلمّا أضاف الفعل إلى صاحبها خرجت النفس مفسَّرة ليعلم موضع السفه كما يقال: ضقت به ذرعاً معناه: ضاق ذرعي به، ويقال: ألم زيدُ رأسه ووجع بطنه.
وقال أبو عبيدة: سفه نفسه: أي أوبق نفسه وأهلكها.
هشام وابن كيسان: جهل نفسه.
وحكى المفضّل بن سلمة عن بعضهم سفه. حقّر نفسه.
والنفس على هذه الأقوال نصب لوقوع الفعل عليه وهذا كما جاء في الخبر: (من عرف نفسه فقد عرف ربّه).
وأصل السفه والسفاهة: الخفّة والجهل وضعف الرأي يقال سفه يسفه وسفه يسفه.
{وَلَقَدِ اصطفيناه} اخترناه {فِي الدنيا} وأصل الطاء فيه تاء حوّلت طاء لقرب مخرجيها ولتطوع اللسان به.
{وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} الفائزين. قال الزجّاج وقال ابن عبّاس: يعني مع آبائه الأنبياء في الجنّة بيانه قوله: خطابه عن يوسف {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} [يوسف: 101].
وقال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير تقديرها لقد إصطفيناه في الدنياّ والأخرة بأنّه لمن الصالحين نظيرها في سورة النحل. {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} أي استقم على الإسلام أو اثبت عليه لأنّه كان مُسلماً كقوله تعالى: {فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ الله} [محمد: 19] أي أثبت على علمك.
وقال ابن عبّاس: إنّما قال له ذلك حين ألُقي في النّار، وعن ابن كيسان: أخلص دينك لله بالتوحيد.
عطاء: أسلم نفسك إلى الله، وفوّض أمورك لله، وقيل: إخضع وإخشع.
{قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} {ووصى} في مصحف عبد الله: فوّصى، وقال أهل المدينة والشام: وأوصى بالألف، وكذلك هو في مصاحفهم.
قال أبو عبيد: وكذلك رأيت في مصحف عثمان، وقرأ الباقون {ووصّى} مشدداً، وهما لغتان، يُقال: أوصيته قد وصيته به إذا أمرته به مثل: أنزل ونزّل. قال الله {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق: 17]، وتصديق الأيصاء قوله: {يُوصِيكُمُ الله} [النساء: 11]، وقوله: {يُوصِينَ} [النساء: 12]، ودليل التوصية قوله: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: 8]، وقوله: {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} [يس: 50].
الكلبي ومقاتل: يعني كلمة الأحاد لا إله إلاّ الله، وقال أبو عبيدة: إن شئت رددت الكناية إلى الملّة لأنّه ذكر ملّة إبراهيم وأن شئت رددتها إلى الوصية.
وقال المفضل: بالطاعة كناية عن غير مذكور، كقوله: {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} [ص: 32]، وقال طرفة:
على مثلها الحواء إذا قال صاحبي ** ألا ليتني أفديك عنها وافتدي

أي من الفلاة.
{بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} التمنية: إسماعيل وأمّه هاجر القبطية، وإسحاق وأمّه سارة، ومدين و.... سراين ونقشان، وآتون، ويشبق، وشوخ، وأمّهم جميعاً قطورا بنت يقطن الكنعانية تزوّجها إبراهيم بعد وفاة سارة.
وقوله تعالى: {وَيَعْقُوبُ} وسُمي بذلك لأنه والعيص كانا توأمين فتقدّم عيص في الخروج من بطن أمّه وخرج يعقوب على أثره فأخذ يعقبه. قاله ابن عبّاس وقد مضت القصّة.
وقيل: سُمّي يعقوب لكثرة عقبه، وعن صفوان بن سليم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بُعثت على أثر ثمانية الآف نبيّ أربعة آلاف من بني إسرائيل».
ومعنى الآية: ووصى بها أيضاً، ويعقوب: بنيه الأثني عشر وهم روفيل أكبر ولده وشمعون ولاوي وهودا وفريالون وسجر ودان ومفتالي وجاد واشرب ويوسف وابن يافين.
{يَابَنِيَّ} معناه أن يا بنيّ، وكذلك في قراءة أُبي وابن مسعود، وقال الفراء: إنّما قال ذلك لأنّ الوصية قول وكان تقديره وقال: يا بنيّ كقوله: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 9] أي وقال لهم لأنّ العبرة بالقول وقال: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ} [النساء: 11] معناه ويقول للذكر مثل حظ الأنثيين.
وقال الشاعر:
إنّي سأبدي لك فيما أُبدي ** من شجنان شجن نجد وشجن لي ببلاد الهند

أي وأقول لأنّ الابداء في المعنى كالقول باللسان.
وحكى ابن مجاهد عن بعضهم ويعقوب أيضاً نسقاً على بنيه لأنه في جملة الموصّين.
{إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين} اختار لكم الإسلام.
{فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} مؤمنون وقيل: مخلصون وقيل: مفوضون وعن الفضيل ابن عياض في قوله: {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} أي محسنون بربّكم الظن.
{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ} حضوراً.
{إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت} الآية نزلت في اليهود حين قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم ألست تعلم إنّ يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية؟ وعلى هذا القول [......] بن الخطاب لليهود.
وقال الكلبي: لمّا دخل يعقوب مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيّران فجمع ولده وخاف عليهم ذلك.
{إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي} قال عطاء: إنّ الله لم يقبض نبيّاً حتّى يخيّره بين الموت والحياة فلمّا خيّر يعقوب قال: أنظرني حتّى أسأل ولدي وأوصيهم ففعل الله ذلك به، فجمع ولده وولد ولده وقال لهم: قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي؟ أي من بعد موتي.
{قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ} الآية، وقرأ أُبي: إلهك وإله إبراهيم وإسماعيل.
وقرأ يحيى بن يعمر الجحدري: وإله أبيك على الواحد، قالوا: لأنّ إسماعيل عم يعقوب لا أبوه.
وقرأ العامّة: آبائك على الجمع وقالوا: عم الرّجل صنو أبيه.
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «هذا بقية آبائي»، وقال أيضاً: «ردّوا عليّ أبي فإني أخشى أن يفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود» يعني العبّاس.
والعرب تسمّي العمّ أباً وتسمّي الخالة أمّاً قال الله تعالى {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش} [يوسف: 100] يعني يعقوب وليّا وهي خالة يوسف.
{إلها وَاحِداً} أي نعرفه ونعبده إلهاً واحداً.
{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} {تِلْكَ أُمَّةٌ} جماعة {قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ} من الدين والعمل.
{وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ} منها.
{وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وإنّما تسألون عمّا تعملون أنتم.

.تفسير الآيات (135- 137):

{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)}
{وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ} قال ابن عبّاس: نزلت في رؤوس يهود أهل المدينة كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهودا وأبي ياسر بن أخطب وفي نصارى أهل نجران: السيّد والعاقب وأصحابهما وذلك إنّهم خاصموا المسلمين في الدين كلّ فرقة تزعم إنّها أحقّ بدين الله من غيرها فقالت اليهود ديننا خير الأديان ونبيّناً موسى أفضل الأنبياء وكتابنا التوراة أفضل الكتب وكفرت بعيسى والأنجيل ومحمّد والقرآن.
وقالت النصارى: نبينّا عيسى أفضل الأنبياء وكتابنا الأنجيل أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان وكفرت بمحمّد والقرآن، وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين كونوا على ديننا فلا دين إلاّ ذلك دعوهم إلى دينهم إلا الحنيفية. فقال الله تعالى: قل يا محمّد {بَلْ مِلَّةَ} أي بل نتبع ملّة {إِبْرَاهِيمَ} وقرأ الأعرج: {بل ملّ} ة رفعاً على الخبر.
{حَنِيفاً} نصب على القطع. أراد بل ملّة إبراهيم الحنيف فلمّا اُسقطت الألف واللام لم تتبع النكرة المعرفة. فانقطع منه فنصب قاله نُحاة الكوفة، وقال أهل البصرة: نصب على الحال قال ابن عبّاس: الحنيف: المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، وأصلها من الحنف وهو ميل وعوج في القدم ومنه سُمّي أحنف بن قيس.
مقاتل: مُخلصاً.
كثير بن زياد قال: سألت الحسن عن الحنيفية فقال: هي حج هذا البيت.
الضحاك: إذا كان مع الحنيف المسلم فهو الحاج، وإذا لم يكن فهو المسلم.
قتادة: من الحنيفية الختان، وترك نكاح الأخت.
{وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} علم المسلمين مجرى التوحيد وطريق الأيمان. فقال: {قولوا آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا} يعني القرآن {وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ} وهو عشر صحف.
{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط} يعني أولاد يعقوب واحدهم سبط. سمّوا بذلك لأنه ولد لكل واحد منهم جماعة من النّاس وسبط الرّجل حافده، ومنه قيل للحسن والحسين عليهما السلام سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب، والشعوب من العجم.
وعن أبي سعيد الضرير: إنّ أصل السّبط في اللغة شجرة ملتفة كثيرة الأغصان فُسمّي الأسباط بها لكثرتهم. فكما إنّ الأغصان من شجرة واحدة كذلك الأسباط كانوا من يعقوب، وكان في الأسباط أنبياء، وكذلك قال: {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ} [آل عمران: 199] [المائدة: 66] وقيل: هم بنو يعقوب من صلبه صاروا كلّهم أنبياء.
{وَمَآ أُوتِيَ موسى} يعني التوراة.
{وعيسى} الانجيل. {وَمَا أُوتِيَ} أُعطي.
{النبيون مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى.
{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} فلمّا نزلت هذه الآية قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى وقال: «إنّ الله أمرني بهذا».
فلمّا سمعت اليهود بذكر عيسى أنكروا وكفروا به وكفرت النصارى وقالوا: لأنّ عيسى ليس بمنزلة سائر الأنبياء ولكنّه ابن الله فأنزل الله تعالى {فَإِنْ آمَنُواْ} يعني اليهود النصارى.
{بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ} أي بجميع ما آمنتم كإيمانكم، وقيل مثل صلة أي بما آمنتم به، وهكذا كان يقرأها ابن عبّاس ويقول: إقرؤا {فإن آمنوا بما آمنتم به} فليس لله مثل ونظيره قوله: و{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]: أي كهو. قال الشاعر:
يا عاذلي دعني من عذلكا ** مثلي لا يقبل من مثلكا

أي أنا لا أقبل منك.
{فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} قال ابن عبّاس وعطاء والأخفش: في خلاف يقال: شاقّ يشاقّ مشاقّة إذا خالف كانّ كل واحد أخذ في شقّ غير شقّ صاحبه دليله قوله: {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقي} [هود: 89] أي خلافي وأُنشد:
فكان إليها والّذي إصطاد بكرها ** شقاقاً وبعضهن أو لطم وأهجرا

وقال ابن سلمة والسّدي: في عداوة كان كلّ واحد منهما أخذ في شقّ صاحبه أي في جهده وما يشق عليه من قوله: {إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس} [النحل: 7] دليله قوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] أي عادوا الله ورسوله.
قال بشر بن أبي حازم:
وإلاّ فاعلموا انّا وأنتم ** بغاة ما حيينا في شقاق

أي في عداوة.
مقاتل وابو عبيدة: في ضلال واختلاف بيانه قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء: 35] أي اختلاف بينهما.
قال الشاعر:
إلى كم نقتل العلماء قسراً ** ونفجر بالشّقاق وبالنفاق

أي بالضلال والاختلاف.
الكسائي: هي خلع الطّاعة بيانه قوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول} [النساء: 115].
الحسن: في بعاد وفراق إلى يوم القيامة.
{فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} يا محمّد يعني اليهود والنصارى.
{وَهُوَ السميع} لأقوالهم.
{العليم} بأحوالهم وكفاهم الله تعالى أمرهم بالقتل والسبّي في بني قريظة والجلاء والنفي في بني النضير والجزية والذلّة في نصارى نجران.

.تفسير الآيات (138- 141):

{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)}
{صِبْغَةَ الله} قال أبو العالية: دين الله.
مجاهد: الإسلام.
ابن عبّاس: هي إنّ النّصارى كانوا إذا ولد لأحدهم ولد، وأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم يُقال له: المعبودي وصبغوه به؛ ليطهّروه بذلك مكان الختان، وإذا فعلوا ذلك به قالوا: الآن صار نصرانياً حقاً. فأخبر الله تعالى: إنّ دينه الإسلام لا ما يفعل النصارى.
ابن كيسان: صبغة الله: وجهة الله يعني القبلة. قال: ويُقال: حُجة الله التي احتج بها على عباده.
أبو عبيدة والزجاج: خلقة الله من صبغت الثوب إذا غيّرت لونه وخلّقته. فيكون المعنى: إنّ الله أبتدأ الخلقة على الإسلام، دليلهُ قول مقاتل في هذه الآية {فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا} [الروم: 30]. أي دين الله.
ويوضحه ما روى همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مولود إلاّ وهو على هذه الفطرة. فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه، كما تولد البهيمة (بهيمة جمعاء) فهل تجدون فيها من جدعاً حتّى تكون الأم تجدعونها». قالوا: يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير؟
قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين».
أبو عبيدة: سنّة الله، وقيل: هو الختان لأنّه يصبغ صاحبه بالدم، وفي الخبر: الختان سنّة للرجال مكرمة للنساء، وهي نصب على الاغراء تقديره: اتبعوا وألزموا صبغة الله.
وقال الأخفش: هي بدل من قوله: {مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ}.
{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً} ديناً.
{وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} مطيعون.
{قُلْ} يا محمّد لليهود والنصارى: {أَتُحَآجُّونَنَا} أتجادلوننا وتخاصمونا، وقرأ الأعمش.
والحسن وابن محيصن: بنون واحدة مشدّدة.
وقرأ الباقون: بنونين خفيفتين إتباعاً للخط.
{فِي اللَّهِ} في دين الله وذلك بأن قالوا: يا محمّد إنّ الأنبياء كانوا منّا وعلى ديننا.
{وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} مقاتل والكلبي: لنّا ديننا ولكم دينكم.
{وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} موحدون، وهذه الآية منسوخة بآية السّيف.
فصل في معنى الإخلاص:
سُئل الحسن عن الاخلاص ما هو؟
فقال: سألت حُذيفة عن الإخلاص ما هو؟
فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإخلاص ما هو؟ قال: «سألت ربّ العزة عن الإخلاص ما هو؟» قال: «سرٌ من أسراري استودعته قلب من أحببت من عبادي».
وعن أبي أدريس الخولائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ لكلّ حق حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتّى لا يحبّ أن يحمد على شيء من عمل الله».
وقال سعيد بن جبير: الاخلاص أن يخلص العبد دينه وعمله لله ولا يشرك به في دينه ولا يرائي بعمله أحداً.
محمّد بن عبد ربّه قال: سمعت الفضيل يقول: ترك العمل من أجل النّاس رياءً والعمل من أجل النّاس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما.
وقال يحيى بن معاذ: الإخلاص تميّز العمل من العيوب كتميّز اللبن من بين الفرث والدم. أبو الحسن البوشجي: هو ما لا يكتبه الملكان ولا يفسده الشيطان ولا يطّلع عليه الإنسان.
رؤيم: هو ارتفاع رؤيتك من الظّل. وقيل: ما يرى به الحق ويقصد به الصدق. وقيل: ما لا يشوبه الآفات ولا تتبعه رخص التأويلات.
وقيل: ما استتر من الخلائق واستصفى من العلائق.
حذيفة (الاخلاص): هو أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن.
أبو يعقوب المكفوف: أن يكتم حسناته كما يكتم سيئاته.
سهل بن عبد الله: ألاّ يُرائي.
عن أحمد بن أبي الجماري قال: سمعت أبا سليمان يقول: للمُرائي ثلاث علامات يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في النّاس، ويزيد في العمل إذا أُثني عليه.
{أَمْ تَقُولُونَ} قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف وحفص: بالتاء واختاره أبو عبيد، وقرأ الباقون بالياء، واختاره أبو حاتم. فمن قرأ بالتاء فاللمخاطبة التي قبلها {قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ} والتي بعدها {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله} ومن قرأ بالياء فهو أخبار عن اليهود والنّصارى.
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نصارى} قال الله: {قُلْ} يا محمّد. {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ} بدينهم.
{أَمِ الله} وقد أخبرني الله إنّه لم يكن يهوديّاً ولا نصرانيّاً ولكن كان حنيفاً مسلماً.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ} أخفى.
{شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله} وهو علمهم إنّ إبراهيم وبنيّه كانوا مسلمين، وأن محمّداً صلى الله عليه وسلم حق ورسول.
{وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ} الآية.