فصل: تفسير الآيات (38- 47):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (38- 47):

{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)}
{إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا} مكي وبصري: يدفع، غيرهم: يدافع، ومعناه: إنّ الله يدفع غائلة المشركين.
{إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ} في أمانة الله {كَفُورٍ} لنعمته.
{أُذِنَ} قرأ أهل المدينة والبصرة وعاصم أُذن بضم الألف، وقرأ الباقون بفتحه أي أذن الله {لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} قرأ أهل المدينة والشام بفتح التاء يعنون المؤمنين الذين يقابلهم المشركون، وقرأ الباقون بكسر التاء يعني إنّ الذين أُذن لهم بالجهاد يقاتلون المشركين {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}.
قال المفسّرون: كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يزالون يجيئون من بين مضروب ومشجوج، فيشكونهم إلى رسول الله فيقول لهم: اصبروا فإنّي لم أُؤمر بالقتال حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فأنزل الله سبحانه هذه الآية وهي أول آية أذن الله فيها بالقتال.
وقال ابن عباس: لما أُخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيّهم، إنا لله وإنّا إليه راجعون، لنهلكنّ، فأنزل الله سبحانه {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} الآية، قال أبو بكر: فعرفت أنّه سيكون قتال.
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فكانوا يمنعون من الهجرة، فأذن الله تعالى لهم في قتال الكفّار الذين يمنعونهم من الهجرة.
{الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ} بدل من الذين الأُولى، ثمّ قال: {إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله} يعني لم يخرجوا من ديارهم إلاّ لقولهم ربّنا الله وحده، فيكون أنْ في موضع الخفض رّداً على الباء في قوله: {بِغَيْرِ حَقٍّ} ويجوز أنْ يكون في موضع نصب على وجه الاستثناء.
{وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} بالجهاد وإقامة الحدود وكفّ الظلم {لَّهُدِّمَتْ} قرأ الحجازيّون بتخفيف الدال، والباقون بالتشديد على الكسر أي تخرّبت {صَوَامِعُ} قال مجاهد والضحاك: يعني صوامع الرهبان، قتادة: صوامع الصابئين.
{وَبِيَعٌ} النصارى، ابن أبي نجيح عن مجاهد: البيع: كنائس اليهود، وبه قال ابن زيد.
{وَصَلَوَاتٌ} قال ابن عباس وقتادة والضحاك: يعني كنائس اليهود ويسمّونها صَلُوتاً. أبو العالية: هي مساجد الصابئين.
ابن أبي نجيح عن مجاهد: هي مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطريق، وعلى هذه الأقاويل تكون الصلوات صلوات أهل الإسلام تنقطع إذا دخل عليهم العدوّ، انقطعت العبادة وهُدمت المساجد كما صنع بخت نصّر.
{وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً} يعني مساجد المسلمين، وقيل: تأويلها: لهدمت صوامع وبيع في أيام شريعة عيسى، وصلوات في أيام شريعة موسى، ومساجد في أيام شريعة محمد صلّى الله عليهم أجمعين.
وقال الحسن: يدفع عن هدم مصليات أهل الذّمة بالمؤمنين، فإن قيل: لم قدّم مصليات الكافرين على مساجد المسلمين؟ قلنا: لأنها أقدم، وقيل: لقربها من الهدم، وقرب المساجد من الذكر كما أخّر السابق في قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} [فاطر: 32] لقربه من الخيرات.
{وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} أي ينصر دينه ونبيّه.
{إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر} قال قتادة: هم أصحاب محمد، عكرمة: أهل الصلوات الخمس، الحسن وأبو العالية: هذه الأُمة.
{وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور} آخر أُمور الخلق ومصيرهم إليه.
{وَإِن يُكَذِّبُوكَ} يا محمد {فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ موسى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} أمهلتهم {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} عاقبتهم {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} إنكاري بالعذاب والهلاك، يعزّي نبيّه صلى الله عليه وسلم ويخّوف مخالفيه.
{فَكَأَيِّن} وكم {مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} يعني وأهلها ظالمون، فنسب الظلم إليها لقرب الجوار.
{فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} ساقطة على سقوفها {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} متروكة مخلاّة عن أهلها {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} قال قتادة والضحّاك ومقاتل: رفيع طويل، ومنه قول عدي:
شاده مرمراً وجلّله كلساً ** فللطّير في ذراه وكور

أي رفعه.
وقال سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعكرمة: مجصّص، من الشيد وهو الجصّ، قال الراجز:
كحبّة الماء بين الطىّ والشيد

وقال امرؤ القيس:
وتيماء لم يترك بها جذع نخلة ** ولا أجماً إلاّ مشيداً بجندل

أي مبنيّاً بالشيد والجندل.
وروى أبو روق عن الضحاك أنّ هذه البئر كانت بحضرموت في بلدة يقال لها حاصورا وذلك أنَّ أربعة آلاف نفر ممّن آمن بصالح ونجوا من العذاب أتوا حضرموت ومعهم صالح، فلمّا حضروه مات صالح، فسمّي حضرموت لأن صالحاً لمّا حضره مات، فبنوا حاصورا وقعدوا على هذه البئر وأمّروا عليهم رجلاً يقال له بلهنس بن جلاس بن سويد، وجعلوا وزيره سنحاريب بن سواده، فأقاموا دهراً وتناسلوا حتى نموا وكثروا، ثم أنَّهم عبدوا الأصنام فكفروا فأرسل الله إليهم نبيّاً يقال له حنظلة بن صفوان كان حمالاً فيهم فقتلوه في السوق، فأهلكهم الله وعطّلت بئرهم وخرّبت قصورهم.
{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض} يعني كفّار مكة فينظروا إلى مصارع المكذّبين من الأُمم الخالية.
{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ} يعلمون بها {أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} فيتفكروا ويعتبروا.
{فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} تأكيد، كقوله سبحانه {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وقوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} [آل عمران: 167].
قال ابن عباس ومقاتل: لمّا نزل {وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى فَهُوَ فِي الآخرة أعمى} [الإسراء: 72] جاء ابن أم مكتوم النبي صلى الله عليه وسلم باكياً فقال: يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} نزلت في النضر بن الحرث.
{وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} فأنجز ذلك يوم بدر.
{وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} بالياء مكي كوفي غير عاصم، غيرهم: بالتاء.
وقال ابن عباس: هي من الأيام التي خلق الله سبحانه فيها السموات والأرض.
مجاهد وعكرمة: من أيام الآخرة.
ابن زيد: في قوله: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} قال: هذه أيام الآخرة. وفي قوله: {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] قال: هو يوم القيامة.
وقال أهل المعاني: معنى الآية: وإنّ يوماً عند ربّك من أيام العذاب الذي استعجلوه في الثقل والاستطالة والشدّة كألف سنة ممّا تعدون فكيف تستعجلوه؟ وهذا كما يقال: أيام الهموم طوال وأيام السرور قصار.

.تفسير الآيات (48- 60):

{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)}
{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المصير * قُلْ ياأيها الناس إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * والذين سَعَوْاْ في آيَاتِنَا} أي عملوا في إبطال آياتنا {مُعَاجِزِينَ} أي مغالبين مشاقّين قال ابن عباس، الأخفش: متأنّفين، قتادة: ظنّوا أنّهم يعجزون الله فلا يقدر عليهم ولن يعجزوه.
وقرأ ابن كثير وأبو عمر: معجّزين بالتشديد أي مثبّطين الناس عن الإيمان، ومثله في سورة سبأ.
{أولئك أَصْحَابُ الجحيم * وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى}.
قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسّرين: لمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولّي قومه عنه وشقّ عليه ما رأى من مباعدتهم عمّا جاءهم به من الله سبحانه تمنّى في نفسه أن يأتيه من الله تعالى ما يقارب بينه وبين قومه، وذلك لحرصه على إيمانهم، فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش كثير أهله، فأحبّ يومئذ ألاّ يأتيه من الله تعالى شيء فينفروا عنه، وتمنى ذلك فأنزل الله سبحانه سورة {والنجم إِذَا هوى} [النجم: 1] فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى * وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى} [النجم: 19-20] ألقى الشيطان على لسانه لمّا كان يحدث به نفسه ويتمناه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهنّ لترتجى.
فلما سمعت قريش ذلك فرحوا، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته فقرأ السورة كلّها وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده، وسجد جميع من في المسجد من المشركين، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلاّ سجد إلاّ الوليد بن المغيرة وأبو أُحيحة سعيد بن العاص فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها لأنّهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود، وتفرّقت قريش وقد سرّهم ما سمعوا وقالوا: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، وقالوا: قد عرفنا أنّ الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإذا جعل لها محمد نصيباً فنحن معه، فلمّا أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، وقلت ما لم يقل لك، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك حزناً شديداً وخاف من الله خوفاً كبيراً فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغهم سجود قريش، وقيل: قد أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم وقالوا: هم أحبُّ إلينا فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان، فلمّا نزلت هذه الآية قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله، فغيّر ذلك وجاء بغيره، وكان ذانك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله عليه السلام قد وقعا في فم كلّ مشرك فازدادوا شرّاً إلى ما كانوا عليه وشدة على من أسلم.
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ} وهو الذي يأتيه جبرئيل بالوحي عياناً وشفاهاً {وَلاَ نَبِيٍّ} وهو الذي تكون نبوّته إلهاماً أو مناماً {إِلاَّ إِذَا تمنى} أي أحبَّ شيئاً واشتهاه وحدّث به نفسه ما لم يؤمر به.
{أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} أي مراده ووجد إليه سبيلاً، وقال أكثر المفسرين: يعني بقوله: تمنى أي تلا وقرأ كتاب الله سبحانه {القي الشيطان في أُمنيّته} أي قراءته، وتلاوته، نظيره قوله سبحانه {لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] يعني قراءة يقرأ عليهم.
وقال الشاعر في عثمان رضي الله عنه حين قتل:
تمنّى كتاب الله أوّل ليلة ** وآخره لاقى حمام المقادر

وسمعت أبا القاسم الحبيب يقول: سمعت أبا الحسن علي بن مهدي الطبري يقول: ليس هذا التمنّي من القرآن والوحي في شيء وإنّما هو أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صفرت يده من المال ورأى ما بأصحابه من سوء الحال تمنّى الدنيا بقلبه وسوسة من الشيطان.
وقال الحسن: أراد بالغرانيق العلى الملائكة يعني أنَّ الشفاعة ترتجى منهم لا من الأصنام، وهذا قول ليس بالقوي ولا بالمرضىّ لقوله: {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان} أي يبطله ويذهبه {ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ} فيثبتها {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
فإن قيل: فما وجه جواز الغلط في التلاوة على النبي صلى الله عليه وسلم فعنه جوابان: أحدهما: أنّه على سبيل السهو والنسيان وسبق اللسان فلا يلبث أن ينبّهه الله سبحانه ويعصمه.
والثاني: أنَّ ذلك إنّما قاله الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء قراءته وأوهم أنّه من القرآن وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يتلوه، قال الله سبحانه {لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} فيشكّون في ذلك.
{والقاسية قُلُوبُهُمْ} فلا تلين لأمر الله {وَإِنَّ الظالمين} الكافرين {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم} من المؤمنين {أَنَّهُ} يعني أنّ الذي أحكم الله سبحانه من آيات القرآن {الحق مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين آمنوا إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} أي ممّا ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ابن جريج: من القرآن، غيره: من الدين وهو الصراط المستقيم.
{حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} قال عكرمة والضحّاك: عذاب يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة.
وقال الآخرون: هو يوم بدر وهو الصواب لأنّ الساعة هي القيامة، ولا وجه لأنْ يقال: حتى تأتيهم القيامة وإنّما سمّي يوم بدر عقيماً لأنّهم لم يُنظَروا فيه إلى الليل، بل قتلوا قبل المساء قاله ابن جريج، غيره: لأنّه لم يكن فيه رأفة ولا رحمة، وقيل: لأنّه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه.
{الملك يَوْمَئِذٍ} يعني يوم القيامة {للَّهِ} وحده من غير منازع، ولا مدّع، والملك هو اتّساع المقدور لمن له تدبير الأُمور، والله سبحانه وتعالى هو الذي يملك الأُمور كلّها، وكلّ ملك سواه فهو مملّك بحكمه وإذنه.
{يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} ثم بيّن حكمه فقال عزَّ من قائل {فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي جَنَّاتِ النعيم * والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا فأولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله} أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله سبحانه وطلب رضاه {ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ} وهم كذلك {لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً} في الجنة {وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين} وقيل: هو قوله سبحانه {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].
روى ابن وهب عن عبد الرَّحْمن بن الحجاج بن سلامان بن عامر قال: كان فضالة بن دوس أميراً على الأرباع، فخرج بجنازتي رجلين: أحدهما قتيل والآخر متوفّى، فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حفرته فقال: أراكم أيّها الناس تميلون مع القتيل وتفضلّونه على أخيه المتوفّى فوالذي نفسي بيده ما أُبالي من أىّ حفرتها بعثت، إقرؤوا قول الله سبحانه {والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين}.
{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ * ذلك وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ الله إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} نزلت في قوم من المشركين لقوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرّم، فكره المسلمون قتال المشركين وسألوهم أن يكفّوا عن القتال من أجل الأشهر الحرم فأبى المشركون وقاتلوهم فذلك بغيهم عليه، وثبت المسلمون لهم فنُصروا عليهم، فأنزل الله سبحانه هذه الآيات، والعقاب الأول بمعنى الجزاء.