فصل: تفسير الآيات (61- 72):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (61- 72):

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)}
{ذلك} يعني هذا الذي أنصر المظلوم بأنّي القادر على ما أشاء، فمن قدرته أنّه {بِأَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل وَأَنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ} بالياء بصري كوفي غير أبي بكر، الباقون: بالتاء {مِن دُونِهِ هُوَ الباطل وَأَنَّ الله هُوَ العلي} فلا شيء أعلى منه ولأنّه تعالى عن الأشباه والأشكال {الكبير} العظيم الذي كلّ شيء دونه فلا شيء أعظم منه.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} بالنبات، رفع فتصبح لأن ظاهر الآية استفهام ومعناه الخبر، مجازها: اعلم يا محمّد أن الله ينزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرّة، وإن شئت قلت: قد رأيت أنَّ الله أنزل من السماء ماءً، كقول الشاعر:
ألم تسألِ الربع القديم فينطق ** وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق

معناه: قد سألته فنطق.
{إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَإِنَّ الله لَهُوَ الغني الحميد * أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض والفلك تَجْرِي فِي البحر بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض} يعني لكيلا تسقط على الأرض {إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ} ولم تكونوا شيئاً {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء آجالكم وفناء أعماركم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} للثواب والعقاب {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ} لجحود لما ظهر من الآيات والدلالات.
{لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} مألفاً يألفونه وموضعاً يعتادونه لعبادة الله، وأصل المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد لعمل خير أو شرّ يقال: إن لفلان منسكاً أي مكاناً يغشاه ويألفه للعبادة، ومنه مناسك الحج لتردّد الناس إلى الأماكن التي تعمل فيها أعمال الحج والعمرة. وقال ابن عباس: {لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} أي عيداً. وقال مجاهد وقتادة: موضع قربان يذبحون فيه، غيرهم: أراد جميع العبادات.
{فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر} أي في أمر الذبح، نزلت في بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان ويزيد بن الخنيس قالوا لأصحاب رسول الله عليه السلام: ما لكم تأكلون ما تقتلون بأيديكم ولا تأكلون ما قتله الله؟.
{وادع إلى رَبِّكَ} دين ربّك {إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ * وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} فتعرفون حينئذ المحقّ من المبطل والاختلاف ذهاب كلّ واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر، وهذا أدب حسنٌ علّم الله سبحانه فيمن جادل على سبيل التعنّت والمراء كفعل السفهاء أن لا يجادل ولا يناظر، ويدفع بهذا القول الذي علّمه الله سبحانه لنبيّه عليه السلام.
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض إِنَّ ذلك} كلّه {فِي كِتَابٍ} يعني اللوح المحفوظ {إِنَّ ذلك} يعني علمه تعالى بجميع ذلك {عَلَى الله يَسِيرٌ * وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ} الكافرين {مِن نَّصِيرٍ} يمنعهم من عذاب الله.
{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر} بيّن ذلك في وجوههم بالكراهة والعبوس.
{يَكَادُونَ يَسْطُونَ} يقعون ويبطشون {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} وأصل السطو: القهر.
{قُلْ} يا محمد لهم {أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم} أي بشرّ لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون {النار} أي هي النار {وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ وَبِئْسَ المصير}.

.تفسير الآيات (73- 78):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)}
{ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ} معنى ضرب: جعل، كقولهم: ضرب السلطان البعث على الناس، وضرب الجزية على أهل الذمّة أي جعل ذلك عليهم، ومنه قوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة} [البقرة: 61] والمثل حالة ثابتة تشبه بالأُولى في الذكر الذي صار كالعلم، وأصله الشبه، ومعنى الآية: جعل لي المشركون الأصنام شركائي فعبدوها معي.
{فاستمعوا لَهُ} حالها وصفتها التي بيّنت وشبّهتها بها، ثم بيّن ذلك فقال عزَّ من قائل {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} قراءة العامة بالتاء، وروى زيد عن يعقوب يدعون بالياء {لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً} في صغره وقلّته لأنّها لا تقدر على ذلك {وَلَوِ اجتمعوا لَهُ} لخلقه، والذباب واحد وجمعها القليل أذبنة والكثير ذبّان، مثل غراب وأغربة وغربان {وَإِن يَسْلُبْهُمُ} يعني الأصنام، أخبر عنها بفعل ما يعقل، وقد مضت هذه المسألة، يقول: وإن يسلبهم {الذباب شَيْئاً} مما عليهم {لاَّ} يقدرون أن {يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب}.
قال ابن عباس: الطالب الذباب والمطلوب الصنم، وذلك أن الكفّار كانوا يلطّخون أصنامهم بالعسل في كلّ سنة ثم يغلقون عليها أبواب البيوت فيدخل الذبّان في الكوى فيأكل ذلك العسل وينقيها منه فإذا رأوا ذلك قالوا: أكلت آلهتنا العسل.
الضحّاك: يعني العابد والمعبود.
ابن زيد وابن كيسان: كانوا يحلّون الأصنام باليواقيت واللآلي وأنواع الجواهر ويطيّبونها بألوان الطيب، فربما يسقط واحد منها أو يأخذها طائر أو ذباب فلا تقدر الآلهة على استردادها، فالطالب على هذا التأويل الصنم والمطلوب الذباب والطائر.
{مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظّموا الله حقّ تعظيمه، ولا عرفوه حقّ معرفته ولا وصفوه حقّ صفته إذ أشركوا به مالا يمتنع من الذباب ولا ينتصف به.
{إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الله يَصْطَفِي} يختار {مِنَ الملائكة رُسُلاً} كجبرئيل وميكائيل وغيرهما {وَمِنَ الناس} أيضاً رسلاً مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم من الأنبياء صلوات الله عليهم، يقال: نزلت هذه الآية لمّا قال المشركون {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا} [القمر: 25] فأخبر أن الاختيار إليه، يختار من يشاء من خلقه.
{إِنَّ الله سَمِيعٌ} لقولهم {بَصِيرٌ} بمن يختاره لرسالته.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يعني ما كان بين أيدي ملائكته ورسله قبل أن يخلقهم.
{وَمَا خَلْفَهُمْ} ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم.
وقال الحسن: ما بين أيديهم ماعملوه، وما خلفهم ما هم عاملون ممّا لم يعملوه بعد.
{ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وافعلوا الخير لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدَّثنا محمد بن يحيى قال: وفيما قرأت على عبد الله بن نافع، وحدّثني مطرف بن عبد الله عن مالك عن نافع أنّ رجلاً من أهل مصر أخبر عبد الله بن عمر أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين ثمَّ قال: انَّ هذه السورة فضلّت بسجدتين.
وبإسناده عن مالك عن عبد الله بن دينار أنّه قال: رأيت عبد الله بن عمر سجد في الحج سجدتين.
وأخبرنا أبو بكر الجوزقي قال: أخبرنا أبو العباس الدعولي قال: حدَّثنا ابن أبي خيثمة قال: حدَّثنا أبو سلمة الخزاعي منصور بن سلمة قال: حدَّثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن صفوان بن مهران أن أبا موسى قرأ على منبر البصرة سورة الحج، فنزل فسجد فيها سجدتين.
وحدَّثنا أبو محمد المخلّدي قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم قال: حدَّثنا محمد ابن مسلم بن دارة قال: حدَّثنا محمد بن موسى بن أعين قال: قرأت على أبي عن عمرو بن الحرث عن ابن لهيعة ان شريح بن عاها حدّثه عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله في سورة الحج سجدتان؟ قال: نعم إن لم تسجدهما فلا تقرأهما.
{وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ} يعني وجاهدوا في سبيل الله أعداء الله حق جهاده، وهو استفراغ الطاقة فيه، قاله ابن عباس، وعنه أيضاً: لا تخافوا في الله لومة لائم وذلك حق الجهاد.
وقال الضحاك ومقاتل: يعني اعملوا لله بالحقّ حقّ عمله، واعبدوه حقّ عبادته.
عبد الله بن المبارك: هو مجاهدة النفس والهوى وذلك حقّ الجهاد، وهو الجهاد الأكبر على ما روي في الخبر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين رجع من بعض غزواته: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الاكبر».
{هُوَ اجتباكم} اختاركم لدينه {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} ضيق فلا يبتلي المؤمن بشيء من الذنوب إلاّ جعل له منه مخرجاً بعضها بالتوبة وبعضها بالقصاص وبعضها برد المظالم وبعضها بأنواع الكفّارات، فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد سبيلاً إلى الخلاص من العقاب فيه، ولا ذنب يذنبه المؤمن إلاّ وله منه في دين الإسلام مخرج، وهذا معنى رواية علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه حين سأله عبد الملك بن مروان عن هذه الآية فقال: جعل الله الكفارات مخرجاً من ذلك، سمعت ابن عباس يقول ذلك.
وقال بعضهم: معناه وما جعل عليكم في الدين من ضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر والأضحى ووقت الحج إذا التبست عليكم وشكّ الناس فيها، ولكنّه وسّع ذلك عليكم حتى تتيقّنوا محلها {مِّلَّةَ} أبيكم أي كملّة {أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} نصب بنزع حرف الصفة، عن الفرّاء، غيره: نصب على الاغراء أي الزموا واتّبعوا ملّة أبيكم إبراهيم، وإنّما أمركم باتباع ملّة إبراهيم لأنّها داخلة في ملّة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأمّا وجه قوله سبحانه {ملّة أبيكم} وليس جميعهم يرجع إلى ولادة إبراهيم فإنّ معناه: إنّ حرمة إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد، كما قال سبحانه {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّما أنا لكم مثل الوالد»، وهذا معنى قول الحسن البصري رحمه الله.
{هُوَ} يعني الله سبحانه وتعالى {سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ} يعني من قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة {وَفِي هذا} الكتاب هذا قول أكثر المفسرين.
وقال ابن زيد: هو راجع إلى إبراهيم عليه السلام يعني أنّ إبراهيم سمّاكم المسلمين من قبل أي من قبل هذا الوقت في أيام إبراهيم {وَفِى هذا} الوقت، قال: وهو قول إبراهيم: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 128] والقول الأول أولى بالصواب.
{لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ} أن قد بلّغكم {وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} أن رسلهم قد بلّغتهم {فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واعتصموا بالله} وثقوا بالله وتوكّلوا عليه.
وقال الحسن: تمسّكوا بدين الله الذي لطف به لعباده.
{هُوَ مَوْلاَكُمْ} وليّكم وناصركم ومتولي أمركم {فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير}.

.سورة المؤمنون:

مكيّة، وهي أربعة آلاف وثمانمائة وحرفان، وألف وثمانمائة وأربعون كلمة، ومائة وثماني عشرة آية.
أخبرنا أبو الحسن الخبازي قال: حدَّثنا ابن حبش قال: حدّثني أبو العباس محمد بن موسى الدقاق الرازي قال: حدَّثنا عبد الله بن روح المدائني قال: وحدَّثنا طفران قال: حدَّثنا ابن أبي داود قال: حدَّثنا محمد بن عاصم قال: حدَّثنا نسابة بن سوار الفزاري قال: حدَّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد عن عطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أُبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن قرأ سورة المؤمنين بشّرته الملائكة بالرَّوح والريحان وما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت».
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

.تفسير الآيات (1- 11):

{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)}
{قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} قد حرف تأكيد، وقال المحققون: معنى قد تقريب بالماضي من الحال، فدلَّ على أنّ فلاحهم قد حصل وهم عليه في الحال، وهذا أبلغ في الصفة من تجريد ذكر الفلاح، والفلاح: النجاح والبقاء.
أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن المفسّر بقراءته عليَّ في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو عمرو المعتزّ بن محمد بن الفضل القاضي قال: حدَّثنا أحمد بن الحسين الفريابي قال: حدَّثنا عبد الرحيم بن حبيب البغدادي عن إسحاق بن تجيح الملطي عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمّا خلق الله سبحانه جنّة عدن خلق فيها ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثمَّ قال لها: تكلّمي، قالت: قد أفلح المؤمنون- ثلاثاً- ثمَّ قالت: أنا حرام على كلّ بخيل ومرائي».
وقرأطلحة بن مصرف: قد أُفلح المؤمنون على المجهول، أي أُبقوا في الثواب.
{الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} اختلف المفسّرون في معنى الخشوع، فقال ابن عباس: مخبتون أذلاّء، الحسن وقتادة: خائفون.
مقاتل: متواضعون على الخشوع في القلب، وأن تلين للمرء المسلم كنفك ولا تلتفت.
مجاهد: هو غضّ البصر وخفض الجناح وكان الرجل من العلماء إذا قام إلى الصلاة هاب الرَّحْمن أن يمدّ بصره إلى شيء أو أن يحدّث نفسه بشيء من شأن الدنيا.
عمرو بن دينار: ليس الخشوع الركوع والسجود ولكنّه السكون وحسن الهيئة في الصلاة.
ابن سيرين وغيره: هو أن لا ترفع بصرك عن موضع سجودك.
قالوا: وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء وينظرون يميناً ويساراً حتى نزلت هذه الآية، فجعلوا بعد ذلك وجوههم حيث يسجدون، وما رؤي بعد ذلك أحد منهم ينظر ألاّ إلى الأرض.
ربيع: هو أن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً.
أخبرنا أبو عمرو الفراتي قال: أخبرنا أبو موسى قال: حدَّثنا السراج قال: حدَّثنا محمد بن الصباح قال: أخبرنا إسحاق بن سليمان قال: حدَّثنا إبراهيم الخوزي عن عطاء بن أبي رباح قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انَّ العبد إذا قام إلى الصلاة فإنّه بين عينيّ الرَّحْمن عزّ وجلّ فإذا التفت قال له الربّ: إلى من تلتفت؟ إلى من هو خير لك منّي؟ ابن آدم أقبل إليَّ فأنا خيرٌ ممّن تلتفت إليه».
عطاء: هو أن لا تعبث بشيء من جسدك في الصلاة، وأبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال: «لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه».
وأخبرنا محمد بن أحمد بن عقيل القطان قال: أخبرنا صاحب بن أحمد بن ترحم بن سفيان قال: حدَّثنا أبو عبد الرَّحْمن بن نبيت المروزي عبدان قال: حدَّثنا عبد الله بن المبارك عن معمّر أنه سمع الزهري يحدّث عن أبي الاحوص عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإنّ الرحمة تواجهه فلا يحرّكن الحصى».
ويقال: نظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصى ويقول: اللهم زوّجني من الحور العين، فقال: بئس الخاطب أنت تخطب وأنت تعبث.
خليد بن دعلج عن قتادة: هو وضع اليمين على الشمال في الصلاة.
بعضهم: هو جمع الهمّة لها وإلاعراض عمّا سواها.
أبو بكر الواسطي: هو الصلاة لله سبحانه على الخلوص من غير عوض.
سمعت ابن الإمام يقول: سمعت ابن مقسم يقول: سمعت أبا الفضل جعفر بن أحمد الصيدلي يقول: سمعت ابن أبي الورد يقول: يحتاج المصلي إلى أربع خلال حتى يكون خاشعاً: إعظام المقام، وإخلاص المقال، واليقين التمام، وجمع الهمّة.
{والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} قال الحسن: عن المعاصي، ابن عباس: الحلف الكاذب، مقاتل: الشتم والأذى، غيرهم: ما لا يحمل من القول والفعل، وقيل: اللغو الفعل الذي لا فائدة فيه.
{والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ} الواجبة {فَاعِلُونَ} مؤدّون، وهي فصيحة وقد جاءت في كلام العرب قال أُميّة بن أبي الصلت:
المطعمون الطعام في السنة ** الأزمة والفاعلون للزكوات

{والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ} أي من أزواجهم، على بمعنى من {أَوْ مَا} في محل الخفض يعني أو من ما {مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} على إتيان نسائهم وإمائهم.
{فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك} أي التمس وطلب سوى زوجته وملك يمينه {فأولئك هُمُ العادون} من الحلال إلى الحرام، فمن زنى فهو عاد.
{والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ} التي ائتمنوا عليها {وَعَهْدِهِمْ} وعقودهم التي عاقدوا الناس عليها {رَاعُونَ} حافظون وافون.
وقرأ ابن كثير: لأمانتهم على الواحد لقوله: {وعهدهم}. الباقون: بالجمع لقوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} [النساء: 58].
{والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} يداومون على فعلها ويراعون أوقاتها، فأمر بالمحافظة عليها كما أمر بالخشوع فيها لذلك كرّر ذكر الصلاة.
{أولئك} أهل هذه الصفة {هُمُ الوارثون} يوم القيامة منازل أهل الجنة من الجنة.
وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما منكم من أحد إلاّ وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله تعالى: {أولئك هُمُ الوارثون}».
وقال مجاهد: لكل واحد منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، فأمّا المؤمن فيبنى منزله الذي له في الجنة، ويهدم منزله الذي هو في النار، وأما الكافر فيهدم منزله الذي في الجنة، ويبنى منزله الذي في النار.
وقال بعضهم: معنى الوراثة هو أنّه يؤول أمرهم إلى الجنة وينالونها كما يؤول أمر الميراث إلى الوارث.
{الذين يَرِثُونَ الفردوس} أي البستان ذا الكرم، قال مجاهد: هي بالرومية، عكرمة: هي الجنة بلسان الحبش، السدّي: هي البساتين عليها الحيطان بلسان الروم.
وفي الحديث: إن حارثة بن سراقة قُتل يوم بدر فقالت أُمّه: يا رسول الله إن كان ابني من أهل الجنة لم أبك عليه، وإن كان من أهل النار بالغت في البكاء، فقال: «يا أُمّ حارثة إنّها جنان وإنّ ابنك قد أصاب الفردوس الأعلى من الجنة».
أخبرني أبو الحسن عبد الرَّحْمن بن إبراهيم بن محمد الطبراني بها قال: حدَّثنا أبو عبد الله محمد بن يونس بن إبراهيم بن النضر المقري قال: حدَّثنا العباس بن الفضل المقري قال: حدَّثنا أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم قال: حدَّثنا يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي قال: حدّثني عبد الله بن لهيعة الحضرمي قال: حدَّثنا عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله سبحانه {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} يعني قد سعد المصدّقون بتوحيد الله سبحانه، ثم نعتهم ووصف أعمالهم فقال عزَّ من قائل {الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} يعني متواضعين لا يعرف من على يمينه ولا من على يساره، ولا يلتفت من الخشوع لله {والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} يعني الباطل والكذب {والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} يعني الأموال كقوله سبحانه في الأعلى {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} [الأعلى: 14] يعني من ماله {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} يعني عن الفواحش، ثم قال: {إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يعني ولائدهم {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} لا يُلامون على جماع أزواجهم وولائدهم {فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك} فمن طلب الفواحش بعد الأزواج والولائد ما لم يحلّ {فأولئك هُمُ العادون} يعني المعتدين في دينهم {والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ} يعني ما ائتمنوا عليه فيما بينهم وبين الناس {وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} يعني حافظين يؤدّون الأمانة ويوفون بالعهود {والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} يعني يحافظون عليها في مواقيتها، ثمَّ أخبر بثوابهم فقال: {أولئك هُمُ الوارثون} ثمَّ بين مايرثون فقال: {الذين يَرِثُونَ الفردوس} يعني الجنة بلسان الرومية {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لا يموتون فيها.
أخبرنا محمد بن عقيل القطان قال: أخبرنا حاجب بن أحمد بن سفيان قال: حدَّثنا محمد بن حماد البيوردي قال: حدَّثنا عبد الرزاق قال: أخبرني يونس بن سليم قال أملى علىّ صاحب ايلة عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرَّحْمن بن عبد القاري قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يُسمع عند وجهه كدوىّ النحل، فمكثنا ساعة فاستقبل ورفع يديه فقال: «اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تُهنّا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، ارض عنّا، ثمَّ قال: لقد أُنزل علينا عشر آيات من أقامهن دخل الجنّة، ثمَّ قرأ {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} عشر آيات».