فصل: تفسير الآيات (112- 118):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (112- 118):

{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)}
{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} نَسُوا لعظيم ما هم فيه من العذاب مدّة مكثهم في الدنيا، وهذا توبيخ من الله تعالى لمنكري البعث وإلزام للحجّة عليهم.
قرأ حمزة والكسائي: قل كم، على الأمر، لأنّ في مصاحف أهل الكوفة قل بغير ألف، ومعنى الآية: قولوا كم لبثتم، فأخرج الكلام مخرج الأمر للواحد والمراد به الجماعة إذ كان مفهوماً معناه، ويجوز أن يكون الخطاب لكلّ واحد منهم أي قل أيّها الكافر.
وقرأ الباقون: قال في الحرفين، وكذلك هما في مصاحفهم بالألف على معنى قال الله تعالى، وقرأ ابن كثير: قل كم، على الأمر، وقال: إن على الخبر وهي قراءة ظاهرة لأنّ الثانية جواب.
وقوله: {فَسْئَلِ العآدين} أي الحُسّاب عن قتادة، وقال مجاهد: هم الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصونها عليهم.
{قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ} في الدنيا {إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} قدر لبثكم فيها {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} أي لعباً وباطلاً لا لحكمة، والعبث: العمل لا لغرض، وهو نصب على الحال عن سيبويه وقطرب، مجازه: عابثين، أبو عبيد: على المصدر، بعض نحاة الكوفة: على الظرف أُي بالعبث، بعض نحاة البصرة: للعبث. {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}.
قال أمير المؤمنين علىّ بن أبي طالب رضي الله عنه: «يا أيّها الناس اتّقوا ربّكم فما خُلق امرؤ عبثاً فيلهو ولا أُهمل سُدىً فيلغو».
وأخبرني محمد بن القاسم بقراءتي عليه قال: حدَّثنا أبو بكر محمد بن محمد بن نصر قال: حدّثنا محمد بن موسى قال: حدّثنا ابن شعيب الحرّاني قال: حدّثنا يحيى بن عبد الله ابن الضحاك قال: سمعت الأوزاعي يقول: بلغني أنّ في السماء ملكاً ينادي كل يوم: ألا ليت الخلق لم يخلقوا، وياليتهم إذ خُلقوا عرفوا ما خُلقوا له وجلسوا فذكروا ما عملُوا.
فصل في ذكر وجوه الحكمة في خلق الله سبحانه الخلق:
قال المحقّقون: خلق الله سبحانه الخلق ليدلّ بذلك على وجوده وكمال علمه وقدرته، إذ لو لم يخلق لم يكن لوجوده معنى.
وأخبرني محمد بن القاسم قال: حدَّثنا محمد بن يزيد قال: حدَّثنا الحسن بن سفيان قال: حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدَّثنا ابن عُليّة عن منصور بن عبد الرَّحْمن قال: قلت للحسن البصري في قوله سبحانه {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118-119].
قال: الناس مختلفون على أديان شتّى إلاّ من رحم ربك، ومن رحم ربك غير مختلف.
فقيل له: ولذلك خلقهم؟.
قال: نعم، خلق هؤلاء لجنّته وخلق هؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته وخلق هؤلاء لعذابه.
وأخبرنا محمد بن القاسم الفقيه قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن موسى الفقيه قال: حدَّثنا أبي قال: حدَّثنا محمد بن خالد البرقي عن أبيه عن أحمد بن نصر قال: سئل جعفر بن محمد: لمَ خَلقَ الله الخلق؟
قال: لأنّ الله سبحانه كان محسناً بما لم يزل فيما لم يزل، إلى ما لم يزل فأراد سبحانه وتعالى أن يفوّض إحسانه إلى خلقه وكان غنيّاً عنهم، لم يخلقهم لجرّ منفعة، ولا لدفع مضّرة، ولكن خلقهم وأحسن إليهم وأرسل إليهم الرسل حتّى يفصلوا بين الحق والباطل، فمن أحسن كافأهُ بالجنة، ومن عصى كافأه بالنار.
وقال محمد بن علي الترمذي: إنَّ الله سبحانه خلق الخلق عبيداً ليعبدوه فيثيبهم على العبودية ويعاقبهم على تركها، فإن عبدوه فهم اليوم عبيد أحرار كرام، وغداً أحرار وملوك في دار السلام، وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أُبّاق سفلة لئام، وغداً أعداء في السجون بين أطباق النيران.
ومنهم من قال: خلق الله سبحانه الخلق كلّهم لأجل محمد صلى الله عليه وسلم يدللّ عليه ما حدَّثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الرومي قال: حدَّثنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد قال: حدّثنا هارون بن العباس الهاشمي قال: حدَّثنا محمد بن ياسين بن شريك قال: حدَّثنا جندل قال: حدّثنا عمرو بن أوس الأنصاري عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيّب عن ابن عباس قال: «أوحى الله سبحانه إلى عيسى عليه السلام: يا عيسى آمن بمحمد ومُر أُمّتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم، ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكن».
وسمعت محمد بن القاسم الفارسي قال: سمعت محمد بن الحسن بن بهرام الفارسي يقول: سمعت القنّاد يقول: خلق الله سبحانه الملائكة للقدرة، وخلق الاشياء للعبرة، وخلقك للمحبة له، ومن العلماء مَن لم يصرّح القول بذلك ولكنه قال: نبّه الله سبحانه في غير موضع من كتبه المنزلة أنّه خلقهم لخطر عظيم مغيّب عنهم لا يجلّيه حتى يحلّ بهم ما خلقهم له، وهذا معنى قوله سبحانه {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} الآية.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدَّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي قال: حدَّثنا داود بن رشيد، وأخبرني محمد بن القاسم قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن مريس قال: حدَّثنا الحسن بن سفيان قال: حدَّثنا هشام ابن عمار قال: حدَّثنا الوليد بن مسلم قال: حدَّثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن حنش ابن عبد الله الصنعاني عن عبد الله بن مسعود أنّه مرَّ بمصاب مبتلى فقرأ في أذنه {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} حتى ختم السورة فبرئ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماذا قرأت في أُذنه؟» فأخبره فقال: «والذي نفسي بيده لو أنَّ رجلا موقناً قرأها على جبل لزال».
ثمَّ نَزَّه نفسه سبحانه عمّا وصفه به المشركون من اتخاذ الأنداد والأولاد، ونسبه إليه الملحدون من السفه والعبث فقال عزَّ من قائل {فَتَعَالَى الله الملك الحق لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم} يعني الحسن العظيم {وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} قال أهل المعاني: فيه إضمار، مجازه: فلا برهان له به {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ} جزاؤه {عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون * وَقُل رَّبِّ اغفر وارحم وَأنتَ خَيْرُ الراحمين}.

.سورة النور:

مدنيَّةٌ، وهي خمسة آلاف وستمائة وثمانون حرفاً، وألف وثلاثمائة وست عشرة كلمة، وأربع وستّون آية.
أخبرنا أبو الحسين الخبازي قال: حدَّثنا ابن حبان قال: أخبرنا محمد بن علي الفرقدي قال: حدَّثنا إسماعيل بن عمرو قال: حدَّثنا يوسف بن عطيّة قال: حدَّثنا هارون بن كثير قال: حدَّثنا زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن قرأ سورة النور أُعطي من الأَجر عشر حسنات بعدد كلّ مؤمن فيما مضى وفيما بقي».
وأخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدَّثنا عبيد الله بن محمد بن شيبة قال: حدَّثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الكرابيسي قال: حدَّثنا سلمان بن توبة أبو داود الأنصاري قال: حدَّثنا محمد بن إبراهيم الشامي قال: حدّثنا شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة خ وعن أبيها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تنزلوا النساء الغُرف، ولا تعلّموهن الكتابة، وعلّموهن المغزل، وسورة النور».
بسم الله الرَّحْمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 10):

{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)}
{سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} قراءة العامة بالرفع: هذه سورة لأنّ العرب لا تبتدئ بالنكرة، هذا قول الخليل، وقال الأخفش: سورة ابتداء وخبره في أنزلناها، وقرأ طلحة بن مصرف: سورةً بالنصب على معنى أنزلنا سورة، والكناية صلة زائدة، وقيل: اتّبعوا سورة أنزلناها {وَفَرَضْنَاهَا} أي أوجبنا ما فيها من الأحكام، وقرأ الحسن ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو: وفرّضناها بالتشديد أي فصّلناها وبيّنّاها، وقيل: هو من الفرض والتشديد على التكثير أي جعلناها فرائض مختلفة، وأوجبناها عليكم وعلى من بعدكم إلى قيام الساعة، وتصديق التخفيف قوله سبحانه {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن} [القصص: 85].
{وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (*) الزانية والزاني} إذا كانا حُرّين بالغين بكرين غير محصنين {فاجلدوا} فاضربوا {كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} رحمة ورقّة.
قال الأخفش: رحمة في توجّع وفيها ثلاث لغات: رأفة ساكنة الهمز وقد تخفف الهمزة، وهي قراءة العامة، ورأَفة بفتح الهمزة، ورآفة مهموزة ممدودة مثل الكتابة، وهما قراءة أهل مكة مثل الشناة والشنآة، وقيل: القصر على الاسم والمدّ بمعنى المصدر مثل صؤل صآلةً، وقبح قباحة، ولم يختلفوا في سورة الحديد أنها ساكنة لأنّ العرب لا تجمع بين أكثر من ثلاث فتحات.
واختلف العلماء في معنى الآية فقال قوم: ولا تأخذكم بهما رأفة فتعطلّوا الحدود ولا تقيموها.
روى المعمّر عن عمران قال: قلت لأبي مخلد في هذه الآية: واللّه إنا لنرحمهم أن يجلد الرجل أو تقطع يده فقال: إنّما ذاك أنّه ليس للسلطان إذا رفعوا إليه أن يدعهم رحمة لهم حتى يقيم عليهم الحدّ، وهذا قول مجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي وابن زيد وسليمان بن يسار، يدلّ عليه من الآية أنّ اللّه سبحانه وتعالى أمر بالجلد، وهو ضرب الجلد كالرأس لضرب الرأس فذكر الضرب بلفظ الجلد لئلاّ ينكأ ولا يبرح ولا تبلغ به اللحم.
وروى ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عبد الله أنَّ عبد الله بن عمر جلد جارية له فقال للجالد: اجلد ظهرها ورجليها وأسفلها وخفّفها، قلت: فأين قول الله سبحانه {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله}؟
قال: أفأقتلها؟ إنَّ الله أمرني أن أضربها وأؤدّبها ولم يأمرني أن أقتلها.
وقال الآخرون: بل معناها ولا يأخذكم بهما رأفة فتخففوا الضرب ولكن أوجعوهما ضرباً، وهو قول سعيد بن المسيّب والحسن.
قال الزهري: يجتهد في حدّ الزنا والفرية ويخفّف في حدّ الشراب.
وقال قتادة: يخفّف في حدّ الشراب والفرية ويجتهد في الزنا.
وقال حمّاد: يُحدّ القاذف والشارب وعليهما ثيابهما، وأمّا الزاني فيخلع ثيابه، وتلا هذه الآية.
{فِي دِينِ الله} أي في حكم الله نظيره قوله سبحانه: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك} [يوسف: 76].
{إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا} وليحضر حدّيهما إذا أُقيم عليهما {طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} اختلفوا في مبلغ عدد الطائفة فقال النخعي ومجاهد: أقلّه رجل واحد فما فوقه، واحتجّا بقوله: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] الآية. عطاء وعكرمة: رجلان فصاعداً، الزهري: ثلاثة فصاعداً، ابن زيد: أربعة بعدد من يقبل شهادته على الزنى، قتادة: نفر من المسلمين.
روى حفص بن غياث عن أشعث عن أبيه قال: أتيت أبا برزة الأسلمي في حاجة وقد أخرج جارية له إلى باب الدار وقد زنت وولدت من الزنا، فألقى عليها ثوباً وأمر ابنه أن يضربها خمسين ضرباً غير مبرح، ودعا جماعة ثم قرأ {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين}.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدَّثنا أبو علي بن حنش المقري قال: حدَّثنا محمد بن أحمد ابن عثمان قال: حدَّثنا إبراهيم بن نصره قال: حدَّثنا مسدّد قال: حدَّثنا إسماعيل قال: حدَّثنا يونس بن عبيد عن حريز بن يزيد البجلي عن أبي زرعة عن عمرو بن حريز عن أبي هريرة قال: إِقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة.
وأخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون قال: حدَّثنا أبو نعيم عبد الملك بن محمد ابن عدي قال: أخبرنا العباس بن الوليد بن مزيد البيروتي قال: أخبرني محمد بن شعيب قال: أخبرني معاوية بن يحيى عن سليمان الأعمش عن شقيق بن سلمة عن حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «يا معشر الناس اتقوا الزنى فإنَّ فيه ست خصال، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، فأمّا اللاتي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر، وأمّا اللاتي في الآخرة فيوجب السخطة وسوء الحساب والخلود في النار».
وأخبرنا أبو طاهر بن خزيمة قرأه عليه في شهور سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة قال: حدَّثنا عبد الله بن محمد بن مسلم قال: حدّثنا عطية بن بقية قال: حدَّثنا أبي قال: حدّثني عبّاد بن كثير عن عمران القصير عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ أعمال أُمَتي تُعرض علىّ في كلّ جمعة مرّتين فاشتدّ غضب الله على الزناة».
وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدَّثنا إبراهيم بن يزيد الحرّاني قال: حدَّثنا المغيرة ابن سقلاب قال: حدَّثنا النضر بن عدي عن وهب بن منبه قال: مكتوب في التوراة: الزاني لا يموت حتى يفتقر، والقوّاد لا يموت حتى يعمى.
{الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} الآية.
اختلف العلماء في معنى الآية وحكمها فقال قوم: قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء كثير ليست لهم أموال ولا عشائر ولا أهلون، وبالمدينة نساء بغايا مسافحات يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة، فرغب في كسبهن ناس من فقراء المسلمين فقالوا: إنّا لو تزوّجنا منهن فعشنا معهن إلى يوم يغنينا الله سبحانه عنهن، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فنزلت هذه الآية وحُرَّم فيها نكاح الزانية صيانة للمؤمنين عن ذلك، وأخبر سبحانه وتعالى أنّ الزانية إنّما ينكحها الزاني والمشرك لأنهنّ كنّ زانيات مشركات، والآية وإن كان ظاهرها خبر فمجازها ينبغي أن يكون كذا كقوله: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] وقوله سبحانه وتعالى {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} [العنكبوت: 45] يعني ينبغي أن تكون كذلك، وهذا قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري والقاسم بن أبي برزه والشعبي وأبي حمزة الثمالي ورواية العوفي عن ابن عباس.
وقال عكرمة: نزلت في نساء بغايا متعالمات بمكة والمدينة وكنّ كثيرات ومنهن تسع صواحب رايات، لهن رايات كرايات البيطار يُعرفن بها: أُمّ مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي، وأُم عليط جارية صفوان بن أُمّية، وحنّة القبطية جارية العاص بن وائل، ومرية جارية مالك بن عميلة بن السباق، وحلالة جارية سهيل بن عمرو، وأُم سويد جارية عمرو ابن عثمان المخزومي، وسريفة جارية زمعة بن الاسود، وفرسة جارية هشام بن ربيعة بن حبيب ابن حذيفة، وقرينة جارية هلال بن أنس بن جابر بن نمر، وكانت بيوتهن تسمى المواخير في الجاهلية، لا يدخل عليهن ولا يأتيهن إلاّ زان من أهل القبلة أو مشرك من أهل الأوثان وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها ماكله، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة، واستأذن رجل من المسلمين نبي الله صلى الله عليه وسلم في نكاح أم مهزول اشترطت له ان تنفق عليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية ونهى المؤمنين عن ذلك وحرّمهُ عليهم.
وقال عمرو بن شعيب: نزلت في مرثد الغنوي وعناق، وكان مرثد رجلا شديداً وكان يقال له دلدل وكان يأتي مكة فيحتمل ضعفه المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت عناق صديقته في الجاهلية، فلمّا أتى مكه دعته عناق إلى نفسها فقال مرثد: إنَّ الله حرَّم الزنا قالت: فأنكحني فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فسأله عنه فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وقد مضت القصة في سورة البقرة.
وقال آخرون: أراد بالنكاح ههنا الجماع ومعنى الآية الزاني لا يزني إلاّ بزانية أو مشركة والزانية لا يزني بها إلاّ زان أو مشرك، وهذا قول سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم وعبد الرَّحْمن بن زيد ورواية الوالبي عن ابن عباس، أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السُني قال: أخبرني محمد بن عمران قال: حدَّثنا سعيد بن عبد الرَّحْمن ومحمد بن عبد الله المقري قالا: حدَّثنا عبد الله بن الوليد العدني عن سفيان عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: الزاني لا ينكح إلا زانية قال: ليس هذا بالنكاح ولكنه الجماع، لا يزني بها إلاّ زان أو مشرك، فكنّى.
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدَّثنا أبو علي بن حبش قال: حدّثني الحسن بن علي بن زكريا قال: حدّثنا الحسن بن علي بن راشد قال: قال لنا يزيد بن هارون: هذا عندي إن جامعها وهو مستحل فهو مشرك، وإن جامعها وهو محرم فهو زان.
وقال بعضهم: كان هذا حكم الله في كلّ زان وزانية حتى نسختها الآية التي بعدها {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} فأحلّ نكاح كل مسلمة وكل مسلم، وهو قول سعيد بن المسيّب أخبرنيه ابن فنجويه قال: حدَّثنا ابن شيبة قال: حدَّثنا الفريابي قال: حدَّثنا قتيبة قال: حدَّثنا الليث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنّه قال: يزعمون أن تلك الآية {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} نسخت بالآية التي بعدها {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} فدخلت الزانية في أيامى المسلمين.
وقال الحسن: معناها المجلود لا ينكح إلاّ مجلودة.
{والذين يَرْمُونَ المحصنات} أي يشتمون المسلمات الحرائر العفائف فيقذفونهن بالزنى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ} على ما رموهن به {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} عدول يشهدون عليهنّ أنهم رأوهنّ يفعلن ذلك {فاجلدوهم} يعني القاذفين اضربوا كلّ واحد منهم {ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وأولئك هُمُ الفاسقون}.
ثمَّ استثنى فقال عزَّ من قائل {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} واختلف العلماء في حكم هذا الاستثناء فقال قوم: هو استثناء من قوله: {لاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} وقالوا: إذا تاب القاذف قبلت شهادته وزال عنه اسم الفسق وعادت ولايته حُد فيه أو لم يحدّ، وهذا قول الشعبي ومسروق وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير وعطاء وطاووس ومجاهد وسعيد بن المسيب وعبد الله بن عتبة والضحّاك، وهو قول أهل الحجاز وإليه ذهب الشافعي. واختلفوا في كيفيّة توبته، فقال بعضهم: هو ان يرجع عن قوله ويكذّب نفسه، وقال آخرون: هي الندم على ما سلف والاستغفار منه وترك العود فيما بقي، فإذا أُقيم عليه الحدّأو عفا المقذوف عنه سقط الحد، وذلك أن القذف حق للمقذوف كالقصاص والجنايات وبالعفو تسقط فإذا عفا عنه فلم يطالبه بالحد، أو مات المقذوف قبل مطالبته بالحد، أو لم يرفع إلى السلطان فلم يُحَدّ لأجل هذه، أو حُدّ ثم تاب أصلح العمل قبلت شهادته وعادت ولايته، يدلّ عليه ما روى ابن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيّب أنّ عمر بن الخطاب رضى الله عنه ضرب الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة وهم أبو بكرة وشبل بن معبد ونافع بن الحرث بن كلّدة فحدَّهم ثمَّ قال لهم: من أكذب نفسه أجزتُ شهادته فيما استقبل، ومن لم يفعل لم أُجز شهادته، فأكذب شبل نفسه ونافع وتابا، وأبى أبو بكرة أن يفعل فكان لا تقبل شهادته.
وروى ابن جريج عن عمران بن موسى قال: شهدت عمر بن عبد العزيز أجاز شهادة القاذف ومعه رجل.
وقال آخرون: هذا الاستثناء راجع إلى قوله: {وأولئك هُمُ الفاسقون} فأمّا قوله: {لاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً} فقد وصل بالأبد ولا يجوز قبولها أبداً، وهذا قول النخعي وشريح ورواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه.
روى الأشعث عن الشعبي قال: جاء خصمان إلى شريح فجاء أحدهما بشاهد قد قطع زناد يده ورجله في قطع الطريق ثم تاب وأصلح، فأجاز شريح شهادته فقال المشهود عليه: أتجيز شهادته عليَّ وهو أقطع؟ فقال شريح: كلّ صاحب حدّ إذا أُقيم عليه ثم تاب وأصلح فشهادته جائزة إلاّ القاذف، فإنّه قضاء من اللّه أن لا تقبل شهادته أبداً وإنّما توبته فيما بينه وبين الله.
{والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} أي يقذفونهنّ بالزنا.
{وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ} يشهدون على صحة ما قالوا.
{إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} قرأ أهل الكوفة أربع بالرفع على الابتداء والخبر، وقرأ الباقون بالنصب على معنى أن يشهد أربع شهادات.
{والخامسة} يعني والشهادة الخامسة، قراءة العامة بالرفع على الابتداء وخبره في أن.
وقرأ حفص بالنصب على معنى ويشهد الشهادة الخامسة.
وقرأ نافع ويعقوب وأيوب: إن وأن خفيفتين، لعنة وغضب مرفوعين، وهي رواية المفضل عن عاصم، وقرأ الباقون: بتشديد النونين وما بعدهما نصب.
{إِن كَانَ مِنَ الكاذبين (*) وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب} ويدفع عن الزوجة الحد.
{أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ} يعني الزوج {لَمِنَ الكاذبين}.
{والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصادقين} قرأ نافع: غضب الله مثل سمع الله على الفعل، الباقون على الإسم.
{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ} جواب لولا محذوف يعني لعاجلكم بالعقوبة وفضحكم ولكنه ستر عليكم ورفع عنكم الحد باللعان حكمة منه ورحمة.
فأما سبب نزول الآية، فروى عكرمة عن ابن عباس قال: لمّا نزلت {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} الآية، قال سعد بن عبادة: والله لو أتيت لكاع وقد تفخّذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أُحركّه حتى آتي بأربعة شهداء فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب، فإن قلت ما رأيت، إنّ في ظهري لثمانين جلدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيّدكم»؟ قالوا: لا تلمه فإنه رجل غيور، ما تزوج امرأة قط إلاّ بكراً ولا طلّق امرأة له فاجترأ رجل منّا أن يتزوّجها.
فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله بأبي أنت وأُمّي والله إنّي لأعرف أنّها من الله وأنّها حقّ ولكن عجبت من ذلك لما أخبرتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإنّ الله يأبى إلاّ ذاك»، فقال: صدق الله ورسوله.
قال: فلم يلبثوا إلاّ يسيراً حتى جاء ابن عم له يقال له هلال بن أُميّة من حديقة له، فرأى رجلا مع امرأته يزني بها فأمسك حتى أصبح، فلمّا أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه فقال: يا رسول الله إنّي جئت أهلي عشاء فوجدت رجلا مع أهلي، رأيت بعيني وسمعت بأُذني فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتاه به وثقل عليه جدّاً حتى عرف ذلك في وجهه.
فقال هلال: والله يا رسول الله إني لأرى الكراهية في وجهك مما أتيتك به، والله يعلم أني صادق وما قلت إلاّ حقّاً وإنّي لأرجو أن يجعل الله فرجاً، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضربه.
قال: واجتمعت الأنصار فقالوا: ابتلينا بما قال سعد، أيُجلد هلال وتبطل شهادته؟ فإنّهم لكذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه إذ نزل عليه الوحي فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أنَّ الوحي قد نزل حتى فرغ، فأنزل الله سبحانه {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} إلى آخر الآيات.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبشر يا هلال فإنّ الله قد جعل لك فرجاً»، فقال: قد كنت أرجو بذلك من الله تعالى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرسلوا إليها»، فجاءت فلمّا اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لها، فكذّبت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يعلم أنّ أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟».
فقال هلال: يا رسول الله بأبي وأمّي لقد صدقتُ وما قلتُ إلاّ حقّاً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاعنوا بينهما»، فقيل لهلال: اشهد، فشهد أربع شهادات بالله إنّه لمن الصادقين، فقيل له عند الخامسة: يا هلال اتّق الله فإنَّ عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقال هلال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.
ثم قال للمرأة: اشهدي فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن الولد لها ولا يدعى لأب ولا يرمى ولدها، ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها، وإن جاءت به كذا وكذا فهو للذي قيل فيه».
قال: فجاءت به غلاماً كأنه حمل أورق على الشبه المكروه، وكان بعد أميراً بمصر لا يدرى من أبوه.
وأخبرنا محمد بن عبدوس قال: أخبرنا محمد بن الحسن قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: أخبرنا القاسم بن سلام قال: حدّثنا هيثم عن يونس بن عبيد عن الحسن قال: «لمّا نزلت {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} الآية، قال سعد بن عبادة: يا رسول الله أرأيت إن رأى رجل مع امرأته رجلا فقتله يقتلونه، وإن أخبر بما رأى جُلد ثمانين أفلا يضربه بالسيف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كفى بالسيف شا...، قال: أراد أن يقول شاهداً ثمَّ أمسك وقال: لولا ان يتتابع فيه الغيران والسكران، وذكر الحديث.».
وقال ابن عباس في سائر الروايات ومقاتل: لمّا نزلت {والذين يَرْمُونَ المحصنات} الآية، قرأها النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر فقام عاصم بن عدي الأنصاري فقال: جعلني الله فداك إنْ رأى رجل منّا مع إمرأته رجلا فأخبر بما رأى جُلد ثمانين وسمّاه المسلمون فاسقاً ولا تقبل شهادته أبداً، فكيف لنا بالشهداء ونحن إذا التمسنا الشهداء كان الرجل قد فرغ من حاجته ومرَّ؟ وكان لعاصم هذا ابن عم له يقال له عويمر وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس بن محصن فأتى عويمر عاصماً فقال: لقد رأيت شريك بن السحماء على بطن امرأتي خولة، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجمعة الأُخرى فقال: يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بالسؤال الذي سألت في الجمعة الماضية في أهل بيتي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك؟ قال: أخبرني عويمر ابن عمّي أنه رأى شريك ابن السحماء على بطن امرأته خولة، وكان عويمر وخولة وشريك كلّهم بني عم عاصم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم جميعاً فقال لعويمر: «اتق الله في زوجتك وخليلتك وابنة عمك فلا تقذفها بالبهتان»، فقال: يا رسول الله أُقسم بالله إني رأيت شريكاً على بطنها وإني ما قربتها منذ أربعة اشهر وانها حبلى من غيري.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة: «اتقي الله ولا تخبري إلاّ بما صنعت»، فقالت: يا رسول الله إنَّ عويمراً رجل غيور، وإنه رآني وشريكاً نطيل السَمَرَ ونتحدث فحملته الغيرة على ما قال.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لشريك: «ما تقول»؟ قال: ما تقوله المرأة، فأنزل الله سبحانه {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نودي: الصلاة جامعة، فصلّى العصر ثمَّ قال لعويمر: قم فقام فقال: أشهد بالله إنَّ خولة لزانية وإنّي لمن الصادقين، ثمَّ قال في الرابعة: أشهد بالله إنّي ما قربتها منذ أربعة أشهر وإنّي لمن الصادقين ثمَّ قال في الخامسة: لعنة الله على عويمر يعني نفسه إن كان من الكاذبين فيما قال.
ثمَّ أمره بالقعود وقال لخولة: قومي فقامت فقالت: أشهد بالله ما أنا بزانية وإنّ عويمراً لمن الكاذبين، ثمَّ قالت في الثانية: أشهد بالله إنه ما رأى شريكاً على بطني وإنه لمن الكاذبين، ثمَّ قالت في الثالثة: أشهد بالله إني حبلى منه وإنّه لمن الكاذبين، ثمَّ قالت في الرابعة: أشهد بالله إنه ما رآني قط على فاحشة وإنه لمن الكاذبين، ثمَّ قالت في الخامسة: غضب الله على خولة تعني نفسها إن كان من الصادقين، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال: «لولا هذه الأيمان لكان لي في أمرهما رأيٌ، ثمَّ قال: تحيّنوا بها الولادة فإن جاءت بأُصيهب أُثيبج يضرب إلى السواد فهو لشريك بن السحماء، وإن جاءت بأورق جعد حمش حدلج الساقين فهو لغير الذي رميت به».
قال ابن عباس: فجاءت بأشبه خلق الله بشريك.
ذكر حكم الآية إذا قذف الرجل زوجته بالزنا لزمه الحدّ وله التخلّص منه بإقامة البيّنة على زناها أو باللعان، فإن أقام البيّنة حقّق الزنا ولزمها الحدّ، وان التعن حقّق عليها الزنا ولها التخلص منه باللعان، فإن التعنت وإلاّ لزمها الحدّ، وللزوج ان يلتعن سواء كان متمكّنا من البيّنة أو غير متمكّن منها، ويصح اللعان من كلّ زوج مكلّف حراً كان أو عبداً، مسلماً كان أو كافرا، فكلُّ مَن صحّت يمينه صحَّ قذفه ولعانه.
وقال أهل العراق: اللعان بين كلّ حرّين بالغين ولا يصحّ اللعان إلاّ عند الحاكم أو خليفته، فإذا لاعن بينهما غلّظ عليهما بأربعة أشياء عدد الألفاظ، والمكان، والوقت، وجمع الناس.
فأمّا اللفظ فأربع شهادات والخامسة ذكر اللعنة للرجل وذكر الغضب للمرأة، وقد مضت كيفية ذلك، وأمّا المكان فإنه يقصد أشرف البقاع بالبلدان إن كان بمكة فعند الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وإن كان ببيت المقدس ففي مسجدها، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان تعظيمه، إن كانا يهوديين بالكنيسة وإن كانا نصرانيين فبالبيعة، وإن كانا مجوسيين ففي بيت النار، وإن كانا لا دين لهما مثل الوثنيين فإنه يلاعن بينهما في مجلس حكمه.
وأما الوقت، فإنّه بعد صلاة العصر. وأمّا العدد، فيحتاج أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعداً، فاللفظ وجمع الناس مشروطان، والمكان والزمان مستحبّان، فإذا تلاعنا تعلّق باللعان أربعة أحكام: سقوط الحدّ، ونفي الولد، وزوال الفراش، ووقوع التحريم المؤبّد، وكلّ هذا يتعلّق بلعان الزوج، فأمّا لعان المرأة فإنه يسقط به الحدّ فقط، فإن أكذب الرجل نفسه فإنه يعود ما عليه ولا عود ماله في الحدّ والنسب عليه فيعودان. وأما التحريم والفراش فإنهما له فلا يعودان، وفرقة اللعان هي فسخ لأنه جاء بفعل من قبل المرأة.
وقال أبو حنيفة وسفيان: اللعان تطليقة بائنة لأنه من قبل الرجل بدءاً، والله أعلم.