فصل: تفسير الآيات (39- 44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (39- 44):

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)}
ثمَّ ضرب لأعمال الكافرين مثلا فقال عزَّ من قائل {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} وهو الشعاع الذي تراه نصف النهار في البراري عند شدّة الحرّ كأنّه ماء فإذا قرب منه الإنسان انفشّ فلم ير شيئاً، وسمّي سراباً لأنّه ينسرب أي يجري كالماء.
{بِقِيعَةٍ} وهو جمع القاع مثل جار وجيرة، والقاع: المنبسط الواسع من الأرض وفيه يكون السراب.
{يَحْسَبُهُ الظمآن} يظنّه العطشان {مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ} يعني ما قدّر أنّه ماء فلم يجده على ما قدّر، وقيل: معناه جاء موضع السراب فاكتفى بذكر السراب عن موضعه، كذلك الكافر يحسب أنّ عمله مغنى عنه أو نافعه شيئاً فإذا أتاه الموت واحتاج إلى عمله لم يجد عمله أغنى عنه شيئاً ولا نفعه {وَوَجَدَ الله عِندَهُ} أي وجد الله بالمرصاد عند ذلك {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} جزاء عمله، {والله سَرِيعُ الحساب * أَوْ كَظُلُمَاتٍ}.
وهذا مثل آخر ضربه اللّه تعالى لأعمال الكفّار أيضاً يقول: مثل أعمالهم في خطائها وفسادها، وضلالتهم وجهالتهم وحيرتهم فيها كظلمات {فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ} وهو العميق الكثير الماء وذلك أشدّ ظلمة، ولجّة البحر: معظمه {يَغْشَاهُ} يعلوه {مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} متراكم {مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} قرأ ابن كثير برواية النبّال والفلنجي سُحاب بالرفع والتنوين، ظلمات بالجرّ على البدل من قوله أو كظلمات. روى البّزي عنه، سحاب، ظلمات بالاضافة وقرأ الآخرون: سحاب، ظلمات كلاهما بالرفع والتنوين، وتمام الكلام عند قوله: {سَحَابٌ}.
ثمَّ ابتدأ فقال: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة البحر.
قال المفسّرون: أراد بالظلمات أعمال الكافر، وبالبحر اللجّي قلبه، وبالموج ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب الرَّين والختم والطبع على قلبه.
قال أُبي بن كعب في هذه الآية: الكافر ينقلب في خمس من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة ومدخله، ظلمة ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار.
{إِذَآ أَخْرَجَ} يعني الناظر {يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} أي لم يقرب من أن يراها من شدة الظلمات.
وقال الفرّاء: كادَ صلة أي لم يرها كما تقول: ما كدت أعرفه، وقال المبرّد: يعني لم يرها إلاّ بعد الجهد كما يقول القائل: ما كدت أراك من الظلمة وقد رآه ولكن بعد يأس وشدّة، وقيل: معناه قرب من الرؤية ولم يُرَ، كما يقال: كاد العروس يكون أميراً، وكاد النعام يطير.
{وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} يعني مَن لم يهده الله فلا إيمان له.
قال مقاتل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أُميّة، كان يلتمس الدين في الجاهلية ولبس المسوح ثم كفر في الإسلام.
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد بن محمد بن إبراهيم العدل قال: حدّثنا أبو الحسين محمد بن منصور الواعظ قال: حدّثنا أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد قال: حدّثنا محمد ابن يونس الكديمي قال: حدّثنا عبيد الله بن عائشة قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُنَّ الله تعالى خلقني من نوره، وخلق أبا بكر من نوري، وخلق عمر وعائشة من نور أبي بكر، وخلق المؤمنين من أُمّتي من الرجال من نور عمر، وخلق المؤمنات من أُمّتي من النساء من نور عائشة، فمَن لم يحبّني ويحبّ أبا بكر وعمر وعائشة فما له من نور، فنزلت عليه {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ}».
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض والطير صَآفَّاتٍ} أجنحتهنّ في الهواء {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} قال المفسّرون: الصلاة لبني آدم، والتسبيح عام لغيرهم من الخلق وفيه وجوه من التأويل: أحدها: كلّ مصلّ ومسبّح قد علم الله صلاته وتسبيحه.
والثاني: كلّ مسبّح ومصلَ منهم قد علم صلوة نفسه وتسبيحه الذي كلّفه الله، وقد علم كلّ منهم صلاة الله من تسبيحه. {والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} أي تقديرها وتدبير أُمورها وتصريف أحوالها كما يشاء {وإلى الله المصير * أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي} يسوق {سَحَاباً} إلى حيث يريد {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} أي يجمع بين قطع السحاب المتفرّقة بعضها إلى بعض، والسّحاب جمع، وإنما ذكر الكناية على اللفظ {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} متراكماً بعضه فوق بعض {فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} وسطه وهو جمع خلل، وقرأ ابن عباس والضحاك من خَللهِ.
{وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} أي البرد، ومن صلة، وقيل: معناه وينزل من السماء قدر جبال أو مثال جبال من برد إلى الأرض، فمِن الأُولى للغاية لأنّ ابتداء الإنزال من السماء، والثانية: للتبعيض لأنّ البرد بعض الجبال التي في السماء، والثالثة: لتبيين الجنس لأنّ جنس تلك الجبال جنس البرد {فَيُصِيبُ بِهِ} أي بالبرد {مَن يَشَآءُ} فيهلكه ويهلك زروعه وأمواله، {وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} أي ضوء برق السحاب {يَذْهَبُ بالأبصار} من شدّة ضوئه وبريقه، وقرأ أبو جعفر: يُذهب بضم الياء وكسر الهاء، غيره: من الذهاب.
{يُقَلِّبُ الله الليل والنهار} يصرفهما في اختلافهما ويعاقبهما {إِنَّ فِي ذلك} الذي ذكرت من هذه الاشياء {لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار} لذوي العقول.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيعي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عزَّ وجل: يؤذيني ابن آدم بسبّ الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أُقلّب الليل والنهار».

.تفسير الآيات (45- 55):

{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)}
{والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ} خالق على الاسم كوفي غير عاصم، الباقون: خَلَق كلّ دابّة على الفعل {مِّن مَّآءٍ} أي من نطفة، وقيل: إنما قال: {مِّن مَّآءٍ} لأنَّ أصل الخلق من الماء، ثم قلب بعض الماء إلى الريح فخلق منها الملائكة، وبعضه إلى النار فخلق منه الجن، وبعضه إلى الطين فخلق منه آدم.
{فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ} كالحيّات والحيتان {وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ} كالطير {وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ} قوائم كالأنعام والوحوش والسباع ولم يذكر ما يمشي على أكثر من أربع لأنّه كالذي يمشي على أربع في رأي العين.
{يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ} كما يشاء {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (*) لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (*) وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا} يعني المنافقين {ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذلك} ويدعو إلى غير حكم الله.
قال الله سبحانه وتعالى {وَمَآ أولئك بالمؤمنين} نزلت هذه الآيات في بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض فجعل اليهودي يجرّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما، وجعل المنافق يجرّه إلى كعب بن الأشرف ويقول: إنّ محمّداً يحيف علينا، فذلك قوله: {وَإِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الرسول بحكم الله {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يأتوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} مطيعين منقادين لحكمه {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارتابوا} يعني أنّهم كذلك فجاء بلفظ التوبيخ ليكون أبلغ في الذمّ، كقول جرير في المدح:
ألستم خير من ركب المطايا ** وأندى العالمين بطون راح

يعني أنتم كذلك.
{أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} أي يظلم {بَلْ أولئك هُمُ الظالمون} لأنفسهم بإعراضهم عن الحق والواضعون المحاكمة في غير موضعها.
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دعوا إِلَى الله} أي إلى كتاب الله {وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} نصب القول على خبر كان واسمه في قوله: {أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وأولئك هُمُ المفلحون * وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فأولئك هُمُ الفآئزون * وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} وذلك أنّ المنافقين كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أينما كنت نكن معك، إن أقمت أقمنا وإن خرجت خرجنا وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا، فقال الله سبحانه {قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} أي هذه طاعة بالقول واللسان دون الاعتقاد فهي معروفة منكم بالكذب أنكم تكذبون فيها، وهذا معنى قول مجاهد، وقيل: معناه طاعة معروفة أمثل وأفضل من هذا القسم الذي تحنثون فيه.
{إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} من طاعتكم ومخالفتكم.
{قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول فَإِن تَوَلَّوْاْ} عن طاعة الله ورسوله والاذعان بحكمهما {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ} أي على الرسول {مَا حُمِّلَ} كُلّف وأُمر به من تبليغ الرسالة {وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ} من طاعته ومتابعته {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ}.
سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن عقيل الورّاق في آخرين قالوا: سمعنا أبا عمرو إسماعيل بن نجيد السلمي يقول: سمعت أبا عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري يقول: من أمّر السنّة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمرّ الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة لقول الله سبحانه {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ}.
{وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين * وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} إنما أدخل اللام بجواب اليمين المضمر لأنّ الوعد قول، مجازها وقال الله سبحانه {الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات} والله ليستخلفنّهم في الأرض أي ليورثنّهم أرض الكفّار من العرب والعجم، فيجعلهم ملوكها وسائسيها وسكّانها.
{كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعني بني إسرائيل إذ أهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أرضهم وديارهم، وقرأه العامة: كما استخلف بفتح التاء واللام لقوله سبحانه {وَعَدَ الله} وقوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ}.
وروى أبو بكر عن عاصم بضم التاء وكسر اللام على مذهب ما لم يَسمَّ فاعله.
{وَلَيُمَكِّنَنَّ} وليوطّننّ {لَهُمْ دِينَهُمُ} ملّتهم التي ارتضاها لهم وأمرهم بها {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} قرأ ابن كثير وعاصم ويعقوب بالتخفيف وهو اختيار أبي حاتم، غيرهم: بالتشديد وهما لغتان. وقال بعض الأَئمة: التبديل: تغيير حال إلى حال، والإبدال: رفع شيء وجعل غيره مكانه {مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ} بهذه النعمة {بَعْدَ ذلك} وآثر يعني الكفر بالله {فأولئك هُمُ الفاسقون}.
روى الربيع عن أبي العالية في هذه الآية قال: مكث النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين خائفاً يدعو إلى الله سراً وعلانية ثم أُمر بالهجرة إلى المدينة، فمكث بها هو أصحابه خائفين يصبحون في السلاح ويمسون فيه، فقال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنّا السلاح فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تغبرّون إلاّ يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليس فيه حديده» وأنزل الله سبحانه هذه الآية فأنجز الله وعده وأظهره على جزيرة العرب، فآمنوا ثم تجبّروا وكفروا بهذه النعمة وقتلوا عثمان بن عفان، فغيّر الله سبحانه ما بهم وأدخل الخوف الذي كان رفعه عنهم.
وقال مقاتل: لمّا رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبيّة حزن أصحابه فأطعمهم اللّه نخل خيبر، ووعدهم أن يدخلوا العام المقبل مكة آمنين، وأنزل هذه الآية.
قلت: وفيها دلالة واضحة على صحّة خلافة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وإمامة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.
روى سعيد بن جهمان عن سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخلافة من بعدي ثلاثون ثم يكون مُلكاً».
قال سفينة: أمسك خلافة أبي بكر سنتين، وعمر عشراً، وعثمان ثنتي عشرة، وعليّ ستة.
وأخبرنا أبو عبد الله عبد الرَّحْمن بن إبراهيم بن محمد الطبراني بها قال: أخبرنا شافع بن محمد قال: حدّثنا ابن الوشّاء قال: حدّثنا ابن إسماعيل البغدادي قال: حدّثنا محمد بن الصباح قال: حدّثنا هشيم بن بشير عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخلافة بعدي في أُمّتي في أربع: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ».

.تفسير الآيات (56- 64):

{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)}
{وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة وَأَطِيعُواْ الرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * لاَ تَحْسَبَنَّ} يا محمد {الذين كَفَرُواْ} هذه قراءة العامة وقرأ ابن عامر وحمزة بالياء على معنى: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم {مُعْجِزِينَ} لأنّ الحسبان يتعدّى إلى مفعولين وقال الفرّاء: يجوز أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم أي لا يحسبنّ محمد الكافرين معجزين {فِي الأرض وَمَأْوَاهُمُ النار وَلَبِئْسَ المصير * ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ}.
قال ابن عباس وجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته، فقال: يا رسول الله وددت لو أن الله أمرنا ونهانا في حال الاستيذان فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال مقاتل: نزلت في أسماء بنت مرثد، كان لها غلام كبير فدخل عليها في وقت كرهته فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إنّ خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها فأنزل الله سبحانه {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ} اللام لام الأمر {الذين مَلَكَتْ أيمانكم} يعني العبيد والإماء {والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ} من الأحرار {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ} في ثلاثة أوقات {مِّن قَبْلِ صلاوة الفجر وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مِّنَ الظهيرة} للقائلة {وَمِن بَعْدِ صلاوة العشآء}.
روى عبد الرَّحْمن بن عوف ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تغلبنّكم الأعراب على اسم صلواتكم فإن الله سبحانه قال: {وَمِن بَعْدِ صلاوة العشآء} وإنّما العتمة عتمة الابل، وإنّما خصّ هذه الأوقات لأنّها ساعات الغفلة والخلوة ووضع الثياب والكسوة، فذلك قوله سبحانه {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ}».
قرأ أهل الكوفة ثلاث بالنصب ردّاً على قوله: {ثَلَاثَ مَراتٍ} ورفعه الآخرون على معنى هذه ثلاث عورات {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ} يعني العبيد والخدم والأطفال {جُنَاحٌ} على الدخول بغير إذن {بَعْدَهُنَّ} أي بعد هذه الأوقات الثلاثة {طوافون} أي هم طوّافون {عَلَيْكُمْ} يدخلون ويخرجون ويذهبون ويجيؤون ويتردّدون في أحوالهم وأشغالهم بغير إذن {بَعْضُكُمْ} يطوف {على بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الأيات والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال قوم: هو منسوخ لا يعمل به اليوم.
أخبرنا أبو محمد الرومي قال: أخبرنا أبو العباس السراج قال: حدّثنا قتيبة قال: حدّثنا عبد العزيز عن عمرو عن عكرمة أنّ نفراً من أهل العراق قالوا لابن عباس: كيف ترى في هذه الآية؟ أُمرنا فيها بما أُمرنا فلا يعمل بها أحد، قول الله عزَّ وجل {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم} الآية، فقال ابن عباس: إنّ الله رفيق حليم رؤوف رحيم، يحب الستر، وكان الناس ليست لبيوتهم ستور ولا حجال، فربمّا دخل الخادم والولد والرجل على أهله، فأمرهم الله سبحانه وتعالى بالاستيذان في تلك العورات فجاءهم الله بالستور والخير فلم أر أحداً يعمل بذلك.
وقال آخرون: هي محكمة والعمل بها واجب.
روى سفيان عن موسى بن أبي عائشة قال: سألت الشعبي عن هذه الآية {لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم} قلت: أمنسوخة هي؟ قال: لا والله ما نسخت، قلت: إنّ الناس لا يعملون بها؟ قال: الله المستعان.
وروى أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال: إن ناساً تقول: نسخت، والله ما نسخت ولكنها ممّا يتهاون به الناس.
{وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ} أي من أحراركم {الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ} في جميع الأوقات في الدخول عليكم {كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعني الأحرار الكبار.
{كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ الآيات والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ * والقواعد مِنَ النسآء} يعني اللاتي قعدن عن الولد من الكبر فلا يحضن ولا يلدن، واحدتها قاعدة.
{اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً} لا يطمعن في التزوّج وأيسن من البعولة.
{فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} عند الرجال يعني جلابيبهن والقناع الذي فوق الخمار، والرداء الذي يكون فوق الثياب، يدلّ على هذا التأويل قراءة أُبىّ بن كعب: أن يضعن من ثيابهن {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} يعني من غير أن يردن بوضع الجلباب والثياب أن تُرى زينتهن، والتبرّج هو أن تظهر المرأة محاسنها ممّا ينبغي لها أن تستره.
{وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ} فيلبيسن جلابيبهنّ {خَيْرٌ لَّهُنَّ والله سَمِيعٌ عِلِيمٌ * لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} اختلف العلماء في تأويل هذه الآية وحكمها فقال ابن عباس: لمّا أنزل الله سبحانه وتعالى قوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} [النساء: 29] تحرّج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعمي والعرج وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهانا الله سبحانه عن أكل المال بالباطل، والاعمى لا يبصر موضع الطعام الطيّب، والأعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض لا يستوفي الطعام، فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وعلى هذا التأويل يكون على بمعنى في، يعني ليس عليكم في مواكله الأعمى والأعرج والمريض حرج.
وقال سعيد بن جبير والضحاك ومقسم: كان العرجان والعميان يتنزّهون عن مؤاكلة الأصحّاء لانّ الناس يتقزّزون منهم ويكرهون مؤاكلتهم، وكان أهل المدينة لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا أعرج ولا مريض تقزّزاً فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية ترخيصاً للمرضى والزمنى في الأكل من بيوت من سمّى الله سبحانه في هذه الآية وذلك أن قوماً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا لم يكن عندهم ما يطعمونهم ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم وأُمهاتهم أي بعض من سمّى الله في هذه الآية، فكان أهل الزمانة: يتحرجون من أن يطعموا ذلك الطعام لأنّه أطعمهم غير مالكيه ويقولون: إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وروى عبد الرزاق عن معمّر قال: سألت الزهري عن هذه الآية فقال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله أنّ المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا زمناهم وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون: قد أحللناكم أن تأكلوا ممّا في بيوتنا، فكانوا يتحرّجون من ذلك ويقولون: لا ندخلها وهم غُيّب فأُنزلت هذه رخصة لهم.
وقال الحسن وابن زيد: يعني ليس على الأعمى حرج {وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} في التخلّف عن الجهاد في سبيل الله، قالا: وههنا تمام الكلام.
وقوله: {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ} الآية. كلام منقطع عمّا قبله.
قال ابن عباس: تحرّج قوم عن الأكل من هذه البيوت لمّا نزل قوله سبحانه {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} [النساء: 29] وقالوا: لا يحلّ لأحد مّنا أن يأكل عند أحد، فأنزل الله سبحانه هذه الآية {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ}.
قال ابن عباس: عنى بذلك وكيل الرجل وقيّمه في ضيعته وماشيته، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته.
وقال الضحّاك: يعني من بيوت عبيدكم ومماليككم.
مجاهد وقتادة: من بيوت أنفسكم ممّا اخترتم وملكتم، وقرأ سعيد بن جبير: مُلّكتم بالتشديد.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الحرث بن عمرو، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً وخلّف ملك بن زيد على أهله فلمّا رجع وجده مجهوداً فسأله عن حاله فقال: تحرّجت أن آكل من طعامك بغير إذنك، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والتحرّج من طعامه من غير استيذان بهذه الآية.
{أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً}.
قال قوم: نزلت في حيّ من كنانة يقال لهم بنو ليث بن عمرو، كانوا يتحرّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده، فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى المساء الرواح والشول جفل والأحوال منتظمة تحرجاً من أن يأكل وحده، فإذا أمسى ولم يجد أحداً أكل فأنزل الله سبحانه هذه الآية وهذا قول قتادة والضحاك وابن جريج، ورواية الوالبي عن ابن عباس.
وروى عطاء الخراساني عنه قال: كان الغنىّ يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه فيقول: والله إنّى لأحتج أن آكل معك أي أتحرّج وأنا غنىّ وأنت فقير، فنزلت هذه الآية.
وقال عكرمة وأبو صالح: نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلاّ مع ضيفهم فرخّص لهم في أن يأكلوا حيث شاؤوا جميعاً مجتمعين، أو أشتاتاً متفرقين.
{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} أي ليسلّم بعضكم على بعض كقوله سبحانه {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29].
عن الحسن وابن زيد حدّثنا ابن حبيب لفظاً في شهور سنة ثمان وثمانين وثلاث مائة قال: حدّثنا أبو حاتم محمد بن حيان البستي قال: حدّثنا محمد بن صالح الطبري قال: حدّثنا الفضل بن سهل الأعرج قال: حدّثنا محمد بن جعفر المدائني قال: حدّثنا ورقاء عن الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السلام اسم من أسماء الله تعالى فأفشوه بينكم، فإنّ الرجل المسلم إذا مرَّ بالقوم فسلّم عليهم فردّوا عليه كان له عليهم فضل درجة بذكره إيّاهم بالسلام، فإن لم يردّوا عليه ردّ عليه من هو خير منهم وأطيب».
وحدّثنا أبو القاسم قال: أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن العباس البغوي قال: حدّثنا أبو محمد عبد الملك بن محمد بن عبد الوهاب البغوي قال: حدّثنا يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني ابن سمعان أن سعيد المقبري أخبره عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «إذا وقف أحدكم على المجلس فليسلّم، فإن بدا له أن يقعد فليقعد، وإذا قام فليسلّم، فإنّ الأُولى ليست بأحقّ من الآخرة».
وقال بعضهم: معناه: فإذا دخلتم بيوت أنفسكم فسلّموا على أهلكم وعيالكم، وهو قول جابر بن عبد الله طاووس والزهري وقتادة والضحاك وعمرو بن دينار، ورواية عطاء الخراساني عن ابن عباس، قال: فإن لم يكن في البيت أحد فليقل: السلام علينا من ربّنا وعلى عباد الله الصالحين، السلام على أهل البيت ورحمة الله.
حدّثنا ابن حبيب لفظاً قال: حدّثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن موسى بن كعب العدل إملاءً قال: حدّثنا أبو نصر اليسع بن زيد بن سهل الرسّي بمكة سنة اثنتين وثمانين ومائتين قال: حدّثنا سفيان بن عيينة عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا قال لي لشيء كسرته: لِمَ كسرته؟ وكنت واقفاً على رأسه أصبّ على يديه الماء فرفع رأسه فقال «ألا أُعلّمك ثلاث خصال تنتفع بها؟ قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله بلى، قال: من لقيت من أُمّتي فسلّم عليه يَطُلْ عمرك، وإذا دخلت فسلّم عليهم يكثر خير بيتك، وصلّ صلاة الضُحى فإنّها صلاة الأَبرار».
وقال بعضهم: يعني فإذا دخلتم المساجد فسلّموا على مَن فيها.
أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن مهل الصنعاني قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس في قوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} الآية.
قال: إذا دخلت المسجد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
{تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله} نصب على المصدر أي تحيّون أنفسكم بها تحيّةً، وقيل: على الحال بمعنى تفعلونه تحيّة من عند الله {مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ} أي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم {على أَمْرٍ جَامِعٍ} يجمعهم من حرب أو صلاة في جمعة أوجماعة أو تشاور في أمر نزل {لَّمْ يَذْهَبُواْ} لم يتفرّقوا عنه ولم ينصرفوا عمّا اجتمعوا له من الأمر {حتى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ} يا محمد {أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ}.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن خلف قال: حدّثنا إسحاق بن محمد قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال: حدّثنا علي عن أبي حمزة الثمالي في هذه الآية قال: هو يوم الجمعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يقضي الحاجة، والرجل به العلّة لم يخرج من المسجد حتى يقوم بحيال رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يراه، فيعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه إنّما قام ليستأذن، فيأذن لمن شاء منهم.
{فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} أمرهم {فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} في الانصراف {واستغفر لَهُمُ الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ * لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً}.
قال ابن عباس: يقول: احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه، فإنّ دعاءه موجب ليس كدعاء غيره.
وقال مجاهد وقتادة: لا تدعوه كما يدعو بعضكم بعضا: يا محمد، ولكن فخّموهُ وشرّفوه وقولوا: يا نبيّ الله، يا رسول الله، في لين وتواضع.
{قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ} أي يخرجون، ومنه: تسلّل القطا {مِنكُمْ} أيُّها المنصرفون عن نبيّكم بغير إذنه {لِوَاذاً} أي يستتر بعضكم ببعض ويروغ في خفّة فيذهب، واللواذ مصدر لاوذ بفلان يلاوذ ملاوذة ولواذاً، ولو كان مصدرا للذُتُ لقال: لياذاً مثل القيام والصيام.
وقيل: إنّ هذا في حفر الخندق، كان المنافقون ينصرفون بغير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لواذاً مختفين.
{فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي أمره وعن صلة، وقيل: معناه يعرضون عن أمره وينصرفون عنه بغير إذنه {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي قتل عن ابن عباس، عطاء: الزلازل والأَهوال، جعفر بن محمد: سلطان جائر يسلّط عليهم، الحسن: بلية تظهر ما في قلوبهم من النفاق {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وجيع عاجل في الدنيا. {ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} عبيداً وملِكاً ومُلكاً وخلقاً ودلالةً على وجوده وتوحيده وكمال قدرته وحكمته.
{قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ}.