فصل: تفسير الآيات (76- 88):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (76- 88):

{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)}
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى} كان ابن عمه لأنّه قارون بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب، وموسى بن عمران بن فاهث، هذا قول أكثر المفسرين، وقال ابن إسحاق: تزوّج يصهر ابن فاهث شميت بنت تباويت بن بركيا بن يقشان بن إبراهيم فولدت له عمران بن يصهر وقارون ابن يصهر، فنكح عمران نجيب بنت سمويا بن بركيا بن رمنان بن بركيا فولدت له هارون ابن عمران وموسى بن عمران عليهم السلام، فموسى على قول ابن إسحاق: ابن اخي قارون وقارون عمه لأبيه وأُمه، قال قتادة: وكان يسمّى المنوّر لحسن صورته ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة منه، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري.
{فبغى عَلَيْهِمْ} أخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا موسى بن محمد، قال: حدّثنا الحسن بن علوية، قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى، عن المسيّب أنّ قارون كان من قوم موسى {فبغى عَلَيْهِمْ} قال: كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل وكان يبغي عليهم ويظلمهم، قال ابن عباس: كان فرعون قد ملّكه على بني إسرائيل حين كان بمصر، سعيد، عن قتادة: {بغى عَلَيْهِمْ} بكثرة ماله وولده، سفيان عنه: بالكبر والبذخ، عطاء الخراساني وشهر بن حوشب: زاد عليهم في الثياب شبراً {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ} وهي جمع المفتح، وهو الذي يفتح به الباب {لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة} أي لتثقل بهم إذا حملوها لثقلها، يقال: ناء ينوء نوْءاً إذا نهض بثقل، قال الشاعر:
تنوء بأخراها فلأيا قيامها ** وتمشي الهوينا عن قريب فتبهر

واختلفوا في مبلغ عدد العصبة في هذا الموضع، فقال مجاهد: ما بين العشرة إلى خمسة عشر، قتادة: ما بين العشرة إلى أربعين، أبو صالح: أربعون رجلا، عكرمة منهم من يقول: أربعون، ومنهم من يقول: سبعون، الضحّاك عن ابن عباس: ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل: ستون.
روى جرير، عن منصور، عن خيثمة، قال: وجدت في الإنجيل أنّ مفاتيح خزائن قارون توقر ستين بغلا غرّاء محجّلة، ما يزيد منها مفتاح على أصبع، لكل مفتاح منها كنز، مجاهد: كانت المفاتيح من جلود الإبل، ويقال: كان قارون أينما ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه، وكانت من حديد، فلمّا ثقلت عليه جعلت من خشب، فثقلت عليه فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع، وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلا.
وقال بعضهم: أراد بالمفاتيح الحرَّاس وإليه ذهب أبو صالح. وروى حصين، عن أبي زرين قال: لو كان مفتاح واحد لأهل الكوفة كان كافياً إنّما يعني كنوزه، فإن قيل: فما وجه قوله: {لَتَنُوءُ بالعصبة} وإنّما العصبة هي التي تنوء بها، قيل فيه قولان: أحدهما يميل بهم ويثقلهم حملها، والآخر قال أهل البصرة: قد يفعل العرب هذا، تقول للمرأة: إنّها لتنوء بها عجيزتها، وإنّما هي تنوء بعجيزتها كما ينوء البعير بحمله، وقال الشاعر:
فديت بنفسه نفسي ومالي ** وما آلوك إلاّ ما أطيق

والمعنى فديت بنفسي ومالي نفسه، وقال آخر:
وتركب خيلا لا هوادة بينها ** وتشقي الرماح بالضياطرة الحمر

وإنّما يشقي الضياطرة بالرماح، والخيل هاهنا: الرجال.
{إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ} من بني إسرائيل {لاَ تَفْرَحْ} لا تأشر ولا تمرح، ومنه قول الله سبحانه: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ}، وقال الشاعر:
ولست بمفراح إذا الدهر سرّني ** ولا جازع من صرفه المتحول

أراد: لست بأشر؛ لأن السرور غير مكروه ولا مذموم {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين} الأشِرين البطِرين المتكبِرين الذين لا يشكرون الله سبحانه على ما أعطاهم.
أخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا منصور بن جعفر النهاوندي، قال: حدّثنا أحمد بن يحيى النهاوندي، قال: حدّثنا أحمد بن يحيى بن الجارود، قال: حدّثنا محمد بن عمرو بن حيان عن نفته قال: حدّثنا مبشر بن عبد الله في قول الله سبحانه وتعالى: {لاَ تَفْرَحْ} قال: لا تفسد إنّ الله لا يحب الفرحين المفسدين، وقال الشاعر:
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة ** وتحمل أُخرى أفرحتك الودائع

يعني أفسدتك.
{وابتغ فِيمَآ آتَاكَ الله الدار الآخرة وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا} قال مجاهد وابن زيد: لا تترك أن تعمل في دنياك لآخرتك حتى تنجو من عذاب الله، وهي رواية علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وقال علي رضي الله عنه: لا تنس صحتك وقوتك وشبابك ونشاطك وغناك أن تطلب به الآخرة، وقال الحسن: ولا تنس أن تطلب فيها كفايتك وغناك مما أحل الله لك منها.
وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا حامد بن محمد، قال: حدّثنا أحمد بن علي الحران، قال: حدّثنا سعيد بن سلمة، قال: حدّثنا خلف بن خليفة، عن منصور بن زادان في قوله: {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا} قال: قوتك وقوة أهلك. وقيل: هو الكفن لأنّه حظه من الدنيا عند خروجه منها.
{وَأَحْسِن} إلى الناس {كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ} ولا تطلب {الفساد فِي الأرض إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين * قَالَ} قارون {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ} على فضل علم {عندي} علمنيه الله، ورآني لذلك أهلا، ففضلني بهذا المال عليكم لفضلي عليكم بالعلم وغيره، وقيل: هو علم الكيمياء، قال سعيد بن المسيب: كان موسى عليه السلام يعلم الكيمياء، فعلّم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم، وعلّم كالب بن نوفيا ثلثه، وعلم قارون ثلثه، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه، وفي خبر آخر أنّ الله سبحانه وتعالى علّم موسى علم الكيمياء، فعلّم موسى أُخته، فعلّمت أخته قارون، فكان ذلك سبب أقواله، وقيل: على علم عندي بالتصرف في التجارات والزراعات وسائر أنواع المكاسب والمطالب، وقيل: في سبب جمعه تلك الأموال، ما أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين بن عبد الله قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد قال: حدّثنا محمد بن موسى الحلواني قال: حدّثنا خزيمة بن أحمد، قال: حدّثنا أحمد بن أبي الجواري، قال: سمعت أبا سلمان الداراني يقول: يبدي إبليس قارون وكان قارون قد أقام في جبل أربعين سنة يتعبد حتى إذا غلب بني إسرائيل في العبادة بعث إليه إبليس شياطينه، فلم يقدروا عليه، فتبدى هو له وجعل يتعبد، وجعل قارون وجعل إبليس يقهره بالعبادة ويفوقه، فخضع له قارون، فقال له إبليس: يا قارون قد رضينا بهذا الذي نحن فيه، لا تشهد لبني إسرائيل جماعة، ولا تعود مريضاً، ولا تشهد جنازة، قال: فحذره من الجبل إلى البيعة، فكانوا يؤتون بالطعام، فقال إبليس: يا قارون قد رضينا الآن أن يكون هكذا كلا على بني إسرائيل، فقال له قارون: فأي شيء الرأي عندك؟ قال: نكسب يوم الجمعة ونتعبد بقية الجمعة، قال: فكسبوا يوم الجمعة وتعبدوا بقية الجمعة.
فقال: إبليس لقارون: قد رضينا أن يكون هكذي. فقال له قارون: فأي شيء الرأي عندك، قال: نكسب يوماً ونتعبد يوماً ونتصدق ونعطي، قال: فلمّا كسبوا يوماً وتعبدوا يوماً خنس إبليس وتركه، ففتحت على قارون الدنيا، فبلغ ماله، ما أخبرنا ابن فنجويه، قال: أخبرنا موسى، قال: حدّثنا الحسن ابن علويه، قال: حدّثنا إسماعيل بن موسى، عن المسيب بن شريك {مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ} قال: أوعيته وكانت أربعمائة ألف ألف في أربعين جراباً.
قال الله سبحانه: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون} الكافرة {مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون} قال قتادة: يدخلون النار بغير حساب، مجاهد: يعني: إنّ الملائكة لا تسأل عنهم لأنّهم يعرفونهم بسيمائهم، الحسن: لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ليعلم ذلك من قبلهم فأن سئلوا سؤال تقريع وتوبيخ.
{فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} قال جابر بن عبد الله: في القرمز، النخعي والحسن: في ثياب حمراء، مجاهد: على براذين بيض عليها سروج الأُرجوان، عليهم المعصفرات، قتادة: على أربعة ألف دابة عليهم وعلى دوابهم الأُرجوان، ابن زيد: في سبعين ألفاً عليهم المعصفرات، قال: وكان ذلك أول يوم رؤيتْ المعصفرات فيما كان يذكر لنا، مقاتل: على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب عليه الأُرجوان ومعه أربعة آلاف فارس وعلى دوابهم الأُرجوان، ومعه ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحليّ والثياب الحمر على البغال الشهب.
{قَالَ الذين يُرِيدُونَ الحياة الدنيا ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} من المال {وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ} ولا يلقن ويوفق لهذه الكلمة {إِلاَّ الصابرون} على طاعة الله وعن زينة الدنيا.
{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} قال العلماء بأخبار القدماء: كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون، وأقرأهم للتوراة وأجملهم وأغناهم ولكنه نافق كما نافق السامري فبغى على قومه، واختلف في معنى هذا البغي، فقال ابن عباس: كان فرعون قد ملك قارون على بني إسرائيل حين كان بمصر، وعن المسيب بن شريك: أنه كان عاملاً على بني إسرائيل وكان يظلمهم، وقيل: زاد عليهم في الثياب شبرا، وقيل: بغى عليهم بالكبر، وقيل: بكثرة ماله، وكان أغنى أهل زمانه وأثراهم. واختلف في مبلغ عدة العصبة في هذا الموضع فقال مجاهد: ما بين العشرة إلى خمسة عشر، وقال قتادة: ما بين العشرة إلى أربعين، وقال عكرمة: منهم من يقول أربعون ومنهم من يقول سبعون، وقال الضحاك: ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل: هم ستون.
وروي عن خثيمة قال: وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلاً غراء محجلة ما يزيد منها مفتاح على إصبع لكل مفتاح منها كنز، ويقال: كان أينما يذهب تحمل معه وكانت من حديد، فلمّا ثقلت عليه جعلها من خشب فثقلت عليه فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع، فكانت تحمل معه على أربعين بغلا، وكان أول طغيانه أنه تكبر واستطال على الناس بكثرة الأموال فكان يخرج في زينته ويختال كما قال تعالى {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ}.
قال مجاهد: خرج على براذين بيض عليها سروج الأرجوان وعليهم المعصفرات.
وقال عبد الرحمن: خرج في سبعين ألفا عليهم المعصفرات، وقال مقاتل: على بغلة شهباء عليها سرج من الذهب عليها الأرجوان ومعه أربعة آلاف فارس عليهم وعلى دوابهم الأرجوان ومعه ثلاثة آلاف جارية بيض عليهن الحلي والثياب الحمر على البغال الشهب، فتمنى أهل الجهالة مثل الذي أوتيه كما حكى الله فوعظهم أهل العلم بالله أن اتقوا الله فإن ثواب الله {خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً}.
قال: ثم إن الله أوحى إلى نبيه موسى أن يأمر قومه أن يعلقوا في أرديتهم خيوطا أربعة في كل طرف خيطاً أخضر لونه لون السماء، فدعا موسى بني إسرائيل وقال لهم: إن الله تعالى يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطاً خضراً كَلَون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها، وإنه تعالى ينزل من السماء كلامه عليكم، فاستكبر قارون وقال: إنما تفعل هذه الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا من غيرهم.
ولما قطع موسى عليه السلام ببني إسرائيل البحر جعل الحبورة وهي رئاسة المذبح وبيت القربان لهارون فكان بنو إسرائيل يأتون بهديتهم ويدفعونه إلى هارون فيضعه على المذبح فتنزل نار من السماء فتأكله، فوجد قارون في نفسه من ذلك وأتى موسى وقال: يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست في شيء من ذلك، وأنا أقرأ للتوراة منكما لا صبر لي على هذا، فقال موسى: والله ما أنا جعلتها في هارون بل الله تعالى جعلها له فقال قارون: والله لا أصدقك في ذلك حتى تريني بيانه، قال: فجمع موسى عليه السلام رؤساء بني إسرائيل وقال: هاتوا عصيكم، فجاءوا بها فحزمها وألقاها في قبته التي كان يعبد الله تعالى فيها وجعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا، فأصبحت عصا هارون عليه السلام قد اهتز لها ورقٌ أخضر، وكانت من ورق شجر اللوز، فقال موسى: يا قارون ترى هذا؟ فقال قارون: والله ما هذا أعجب مما تصنع من السحر.
فذهب قارون مغاضباً واعتزل موسى بأتباعه وجعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما، وهو يؤذيه في كل وقت ولا يزيد كل يوم إلا كبراً ومخالفة ومعاداة لموسى عليه السلام حتى بنى داراً وجعل بابها من الذهب وضرب على جدرانها صفائح الذهب، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضاحكونه.
قال ابن عباس: ثم إن الله سبحانه وتعالى أنزل الزكاة على موسى عليه السلام فلمّا أوجب الله سبحانه الزكاة عليهم أبى قارون فصالحه عن كل ألف دينار على دينار، وعن كل ألف درهم على درهم، وعن كل ألف شاة على شاة، وعن كل ألف شيء شيئاً، ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده كثيرا فلم تسمح بذلك نفسه فجمع بني إسرائيل وقال لهم: يا بني إسرائيل إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا له: أنت كبيرنا وسيدنا فمرنا بما شئت، فقال: آمركم أن يجيئوا بفلانة البغي فنجعل لها جعلاً على أن تقذفه بنفسها فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فاسترحنا منه، فأتوا بها فجعل لها قارون ألف درهم وقيل: ألف دينار، وقيل: طستا من ذهب، وقيل: حكمها، وقال لها: إني أُموّلك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غداً إذا حضر بنو إسرائيل، فلمّا أن كان الغد جمع قارون بني إسرائيل، ثم أتى موسى فقال له: إن بني إسرائيل قد اجتمعوا ينتظرون خروجك لتأمرهم وتنهاهم وتبين لهم أعلام دينهم وأحكام شريعتهم فخرج إليهم موسى وهم في براح من الأرض فقام فيهم خطيباً ووعظهم فكان فيما قال: يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ومن افترى جلدناه ثمانين، ومن زنا وليست له امرأة جلدناه مائة، ومن زنا وله امرأة رجمناه حتى يموت، فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قال قارون: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة قال: أنا، قال: نعم، قال: ادعوها فإن قالت فهو كما قالت، فلمّا أن جاءت قال لها موسى: يا فلانة إنما أنا فعلت لك ما يقول هؤلاء، وعظم عليها وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى إلا صدقت، فلمّا ناشدها تداركها الله بالتوفيق وقالت في نفسها: لئن أحدث اليوم توبة أفضل من أن أوذي رسول الله، قالت: لا كذبوا، ولكن جعل لي قارون جعلاً على أن أقذفك بنفسي، فلمّا تكلمت بهذا الكلام سقط في يده قارون ونكس رأسه وسكت الملأ وعرف أنه وقع في مهلكة وخرّ موسى ساجداً يبكي ويقول: اللهم إن كنت رسولك، فاغضب لي، فأوحى الله سبحانه إليه: مُر الأرض بما شئت، فإنها مطيعة لك، فقال موسى: يا بني إسرائيل إنّ الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليثبت مكانه، ومن كان معي فليعتزل، فاعتزل قارون ولم يبق معه إلاّ رجلان، ثم قال موسى: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الركَب، ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الأوساط، ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الأعناق، وقارون وأصحابه في كل ذلك لا يلتفت إليه لشدّة غضبه عليه.
ثم قال: يا أرض خذيهم، فانطبقت عليهم الإرض، وأوحى الله تعالى إلى موسى: يا موسى ماأفظك. استغاثوا بك سبعين مرة فلم ترحمهم ولم تغثهم، أما وعزتي لو إياي دعوا لوجدوني قريباً مجيباً.
قال قتادة: وذكر لنا أنّه يخسف به كلّ يوم قامة وأنّه يتخلخل فيها لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة، قالوا: وأصبحت بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم أنّ موسى إنّما دعا على قارون ليستبد بداره وكنوزه وأمواله، فدعا اللهَ موسى حتى يخسف بداره وأمواله الأرض.
وأوحى الله سبحانه إلى موسى: إنّي لا أعبّد الأرض لأحد بعدك أبداً، فذلك قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض}، {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله وَمَا كَانَ مِنَ المنتصرين} الممتنعين {وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بالأمس} العرب تعبّر بأضحى وأمسى وأصبح عن الصيرورة والفعل، فتقول: أصبح فلان عاملا وأمسى حزيناً وأضحى معدماً، إذا صاروا بهذه الأحوال وليس ثَمَّ من الصبح والمساء والضحى شيء.
{يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله} اختلف العلماء في هذه اللفظة، فقال مجاهد: معناه: ألم تعلم؟ قتادة: ألم تر؟، الفرّاء: هي كلمة تقرير كقول الرجل: أما ترى إلى صنع الله وإحسانه؟ وذكر أنّه أخبره من سمع أعرابية تقول لزوجها: أين ابنك؟ فقال: ويكأنّه وراء البيت، يعني أما ترينه وراء البيت؟ ابن عباس والحسن: هي كلمة ابتداء وتحقيق، تقديره إنّ الله {يَبْسُطُ الرِّزْقَ} المؤرّخ: هو تعجّب، قطرب: إنّما هو ويلك فأسقط منه اللام، قال عنترة:
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ** قول الفوارس ويك عنتر أقدم

وقيل: هو تنبيه بمنزلة ألا وأما. قال بعض الشعراء:
ويكأن من يكن له نشب ** يحبب ومن يفتقر يعشْ عيش ضرّ

وقال القتيبى: معناه رحمة بلغة حمير، وقال سيبويه: سألت الخليل عنه، فقال: وي كلمة تنبيه منفصلة من كأن فكأنْ في معنى الطب والعلم.
{يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} يقتَّر {لولا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} قرأ يعقوب وبعض أهل الشام والكوفة بفتح الخاء والسين، وقراءة العامة بضم الخاء وكسر السين، {وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون * تِلْكَ الدار الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض} تكبراً وتجبراً فيها، {وَلاَ فَسَاداً} عملا بالمعاصي عن ابن جريج ومقاتل وعكرمة ومسلم البطين: الفساد: أخذ المال بغير حق، الكلبي: الدعاء إلى غير عبادة الله.
{والعاقبة} المحمودة {لِلْمُتَّقِينَ} قال قتادة: الجنة {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُواْ السيئات إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن} أي أنزله عن أكثر المفسرين، وقال عطاء بن أبي رباح: فرض عليك العمل بالقرآن {لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ} قال الضحاك ومجاهد: إلى مكة، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، قال ابن قتيبة: معاد الرجل: بلده لأنّه ينصرف ثم يعود إلى بلده.
قال مقاتل: خرج النبي عليه السلام من الغار ليلا ثم هاجر من وجهه إلى المدينة، فسار في غير الطريق مخافة الطلب، فلمّا أمن ورجع إلى الطريق نزل الجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة، فاشتاق إليها وذكر مولده ومولد آبائه، فأتاه جبريل عليهما السلام، فقال: أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ قال: «نعم»، قال: فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ} إلى مكة ظاهراً عليها.
قال مقاتل: قال الضحاك: قال ابن عباس: إنّما نزلت بالجحفة ليس بمكة ولا المدينة، وروي جابر عن أبي جعفر، قال: انطلقت أنا وأبي إلى أبي سعيد الخدري، فسأله عن هذه الآية: {لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ}، قال: إلى الموت. وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال الحسن والزهري وعكرمة: إلى يوم القيامة، وقال أبو مالك وأبو صالح: إلى الجنة.
أخبرنا عبد الخالق بن علي، قال: أخبرنا أبو بكر بن حبيب، قال: حدّثنا يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا عمار بن كثير، قال: أخبرنا فضيلة، عن ليث، عن مجاهد في قوله: {لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ} قال: إلى الجنة.
{قُل ربي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بالهدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} قال بعض أهل المعاني: في الكلام تقديم وتأخير تقديره: إنّ الذي فرض عليك القرآن وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب لرادك إلى معاد.
{فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ * وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ الله بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} وهذا حين دعا إلى دين آبائه {وادع إلى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين * وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ لاَ إله إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَه} يعني إلاّ هو، عن مجاهد، الصادق: دينه، أبو العالية: إلاّ ما أريد به وجهه.
أخبرنا ابن شاذان، قال: أخبرنا جيعويه، قال: حدّثنا صالح بن محمد، عن جرير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن شهر بن حوشب، عن عبادة بن الصامت، قال: يُجاء بالدنيا يوم القيامة، فيقال: ميزوا ما كان لله منها، قال: فيماز ما كان لله منها، ثم يؤمر بسائرها فيلقى في النار.
وبه عن صالح، عن سليمان بن عمرو، عن سالم الأفطس، عن الحسن وسعيد بن جبير، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنّ رجلا سأله، فلم يعطه شيئاً، فقال: أسألك بوجه الله، فقال له علي: كذبت، ليس بوجه الله سألتني، إنّما وجه الله الحق، ألا ترى قوله سبحانه وتعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَه} يعني الحق؟ ولكن سألتني بوجهك الخالق كلّ شيء هالك إلاّ الله والجنة والنار والعرش. ابن كيسان: إلاّ ملكه. {لَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.