فصل: تفسير الآيات (34- 38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (34- 38):

{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)}
{واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله} يعني القرآن {والحكمة} السنّة، عن قتادة، وقال مقاتل: أحكام القرآن ومواعظه {إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً}.
وقوله: {إِنَّ المسلمين والمسلمات} الآية. وذلك أنّ أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم وسلم قلن: يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر به، إنّا نخاف أن لا تقبل مِنّا طاعة، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية. وقال مقاتل: قالت أُمّ سلمة بنت أبي أمية وأنيسة بنت كعب الأنصارية للنبي صلّى الله عليه: ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه؟ نخشى أنْ لا يكون فيهنّ خير ولا لله فيهنّ حاجة، فنزلت هذه الآية.
روى عثمان بن حكم عن عبد الرحمن بن شيبة قال: سمعت أُمّ سلمة زوج النبي عليه السلام تقول: قلت للنبي عليه السلام: يا رسول الله ما لنا لا نُذكر في القرآن كما يُذكر الرجال؟
قلت: فلم يرعني ذات يوم ظهراً إلاّ بدواة على المنبر وأنا أسرح رأسي فلفقت شعري ثمّ خرجت إلى حجرة من حجر بيتي فجعلت سمعي عند الجريدة، فإذا هو يقول على المنبر: يا أيّها الناس إنَّ الله عزّ وجلّ يقول في كتابه: {إِنَّ المسلمين والمسلمات}... إلى قوله: {وَأَجْراً عَظِيماً}.
وقال مقاتل بن حيان: بلغني أنّ أسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، فدخلت على نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن؟ قلن: لا، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إنّ النساء لفي خيبة وخسار، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ومِمَّ ذلك؟ قالت: لأنّهنّ لا يُذكرن بخير كما يذكر الرجال، فأنزل الله عزّ وجلّ: {إِنَّ المسلمين والمسلمات} إلى آخر الآية.
أخبرني ابن فنجويه عن ابن شبّه عن الفراتي عن إبراهيم بن سعيد، عن عبيد الله عن شيبان، عن الأعمش، عن علي بن الأرقم، عن الأغر أبي مسلم، عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه: «مَن استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصلّيا جميعاً ركعتين كُتبا من والذاكرين الله كثيراً الذاكرات».
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، عن أحمد بن محمد بن شاذان عن جيغويه بن محمد، عن صالح بن محمد عن سليمان بن عمرو، عن حنظلة التميمي، عن الضحّاك بن مزاحم، عن ابن عبّاس قال: جاء إسرافيل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال: قلْ يا محمّد: سُبحان الله والحمدُ لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله عَدد ما علم وزنة ما علم وملء ما علم، من قالها كتبت له ستّ خصال، كتب من الذاكرين الله كثيراً، وكان أفضل ممّن ذكره الليل والنهار، وكان له غرس في الجنّة، وتحاتت عنه ذنوبه كما تتحات ورق الشجر اليابسة، ونظر الله إليه، ومن نظر الله إليه لم يعذّبه.
وقال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله تعالى قائماً وقاعداً ومضطجعاً. قال عطاء بن أبي رباح: مَن فوّض أمره إلى الله فهو داخل في قوله: {إِنَّ المسلمين والمسلمات} ومن أقرّ بأنّ الله ربّه، وأنَّ محمّداً رسوله، ولم يخالف قلبه لسانه، فهو داخل في قوله: {والمؤمنين والمؤمنات} ومن أطاع الله في الفرض والرسول في السنّة فهو داخل في قوله: {والقانتين والقانتات} ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله: {والصادقين والصادقات} ومن صلّى فلم يعرف مَن عن يمينه ويساره فهو داخل في قوله: {والخاشعين والخاشعات} ومن صبر على الطاعة وعن المعصية وعلى الرزيّة فهو داخل في قوله: {والصابرين والصابرات} ومن تصدّق في كلّ اسبوع بدرهم فهو داخل في قوله: {والمتصدقين والمتصدقات} ومن صام في كلّ شهر أيّام البيض، الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر فهو داخل في قوله: {والصائمين والصائمات} ومن حفظ فرجه عمّا لا يحلّ فهو داخل في قوله: {والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات} ومن صلّى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله: {والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.
قوله عزّ وجلّ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ} الآية. نزلت في زينب بنت جحش بن رئاب ابن النعمان بن حبرة بن مرّة بن غنم بن دودان الأسدية، وأخيها عبد الله بن جحش، وكانت زينب بنت آمنة بنت عبد المطلب عمّة النبي صلى الله عليه وسلم فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه زيد بن حارثة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى زيداً في الجاهلية من عكاظ، وكان من سبي الجاهلية فأعتقه وتبنّاه، فكان زيد عربيّاً في الجاهلية مولى في الإسلام.
فلمّا خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب رضيت، ورأت أنّه يخطبها على نفسه فلمّا علمت أنّه يخطبها على زيد أبت وأنكرت وقالت: أنا أتمّ نساء قريش وابنة عمّتك، فلم أكن لأفعل يا رسول الله ولا أرضاه لنفسي، وكذلك قال أخوها عبد الله، وكانت زينب بيضاء جميلة، وكانت فيها حدة فأنزل الله عزّ وجلّ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ} يعني عبدالله بن جحش وزينب أُخته {إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ} قرأ أهل الكوفة وأيّوب بالياء واختاره أبو عبيد قال: للحائل بين التأنيث والفعل، وكذلك روى هشام عن أهل الشام وقرأ الباقون بالتاء.
{لَهُمُ الخيرة} أي الاختيار وقراءة العامّة {الخِيرَة} بكسر الخاء وفتح الياء، وقرأ ابن السميقع بسكون الياء وهما لغتان {مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً} فلمّا نزلت هذه الآية قالت: قد رضيت يا رسول الله، وجعلت أمرها بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك أخوها فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً، فدخل بها، وساق إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دنانير وستين درهماً وخماراً وملحفة ودرعاً وأزاراً وخمسين مُدّاً من طعام وثلاثين صاعاً من تمر.
وقال ابن زيد: نزلت هذه الآية في أُمّ كثلوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت أوّل من هاجر من النساء، فوهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: قد قبلتُ، فزوّجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها وقالا: إنّما أردنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فزوّجنا عبده فأنزل الله عزّ وجلّ: {وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ} الآية.
وذلك أنَّ زينب مكثت عند زيد حيناً، ثمّ إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتى زيداً ذات يوم لحاجة، فأبصرها قائمة في درع وخمار فأعجبته، وكأنّها وقعت في نفسه فقال: سبحان الله مقلِّب القلوب وانصرف.
فلمّا جاء زيدٌ، ذكرت ذلك له ففطن زيد، كرهت إليه في الوقت، فألقي في نفس زيد كراهتها، فأراد فراقها، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: إنّي أُريد أنْ أُفارق صاحبتي. «قال: ما لكَ؟ أرابك منها شيء؟ قال: لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلاّ خيراً، ولكنّها تتعظّم عليَّ بشرفها وتؤذيني بلسانها، فقال له النبي عليه السلام: أمسك عليك زوجك واتّقِ الله، ثمّ إنَّ زيداً طلّقها بعد ذلك، فلمّا انقضت عدّتُها، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لزيد: ما أجد أحداً أوثق في نفسي منك. أئت زينب فاخطبها عَليّ».
قال زيد: فانطلقت، فإذا هي تخمّر عجينها، فلمّا رأيتها، عظمت في صدري حتى ما أستطيع أنْ أنظر إليها حين علمت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها فولّيتها ظهري، وقلت: يا زينب أبشري فإنّ رسول الله يخطبك، ففرحت بذلك وقالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتّى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها وأُنزل القرآن {زَوَّجْنَاكَهَا} فتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها، وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها، ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللّحم حتّى امتد النهار، فذلك قوله عزّ وجلّ: {وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ} بالإسلام {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالإعتاق وهو زيد بن حارثة {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} يعني زينب بنت جحش وكانت ابنة عمّة النبي صلّى الله عليه وسلم.
{واتق الله} فيها {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ} أنْ لو فارقها تزوّجتها.
قال ابن عبّاس: حبّها. وقال قتادة: ودَّ أنّه لو طلّقها. {وَتَخْشَى الناس} قال ابن عبّاس والحسن: تستحيهم، وقيل: وتخاف لائمة الناس أنْ يقولوا أمر رجلاً بطلاق امرأته ثمّ نكحها حين طلّقها. {والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} قال عمر وابن مسعود وعائشة: ما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم آية هي أشدّ عليه من هذه الآية.
وأخبرني الحسين بن محمد الثقفي عن الفضل بن الفضل الكندي قال: أخبرني أبو العبّاس الفضل بن عقيل النيسابوري، عن محمد بن سليمان قال: أخبرني أبو معاوية عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: لو كتم النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئاً ممّا أُوحي إليه لكتم هذه الآية {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ}.
وقد روي عن زين العابدين في هذه الآية ما أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه عن طلحة بن محمد وعبد الله بن أحمد بن يعقوب قالا: قال أبو بكر بن مجاهد عن بن أبي مهران، حدّثني محمد بن يحيى أبي عمر العرني، عن سفيان بن عيينة قال: سمعناه من علي بن زيد بن جدعان يبديه ويعيده قال: سألني علي بن الحسين: ما يقول الحسن في قوله عزّ وجلّ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ}؟
فقلت يقول: لما جاء زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله إنّي أُريد أن أُطلّق زينب، فأعجبه ذلك، قال: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله} قال علي بن الحسين: ليس كذلك، كان الله عزّ وجلّ قد أعلمه أنّها ستكون من أزواجه فإنّ زيداً سيطلّقها فلمّا جاء زيد قال: إنّي أُريد أن أطلقّ زينب، فقال: أمسك عليك زوجك واتّق الله. يقول: فلِمَ قلت: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوجَكَ، وقد أعلمتك أنّها ستكون من أزواجكَ. وهذا التأويل مطابق للتلاوة وذلك أنّ الله عزّ وجلّ حكم واعلم ابداء ما أخفى، والله لا يخلف الميعاد، ثمّ لم نجده عزّ وجلّ أظهر من شأنه غير التزويج بقوله: {زَوَّجْنَاكَهَا}.
فلو كان أضمر رسول الله صلّى الله عليه محبّتها، أو أراد طلاقها، لكان لا يجوز على الله تعالى كتمانه مع وعده أنْ يظهره، فدلّ ذلك على أنّه عليه السلام إنّما عوتب على قوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} مع علمه بأنّها ستكون زوجته، وكتمانه ما أخبره الله سبحانه به حيث استحيى أن يقول لزيد: إنّ التي تحتك ستكون امرأتي والله أعلم.
وهذا قولٌ حَسن مرضي قوي، وإن كان القول الآخر لا يقدح في حال النبيّ صلّى الله عليه، لاِنّ العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه لمأثم.
قوله: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً} أي حاجته من نكاحها {زَوَّجْنَاكَهَا} فكانت زينب تفخر على نساء النبي عليه السلام فتقول: أنا أكرمكنَّ وليّاً، وأكرمكنَّ سفيراً، زوجكن أقاربكن وزوّجني الله عزّ وجلّ.
وأخبرنا أبو بكر الجوزقي قال: أخبرنا أبو العبّاس الدغولي قال: أخبرني أبو أحمد محمد ابن عبد الوهاب ومحمد بن عبيدالله بن قهراذ جميعاً، عن جعفر بن محمّد بن عون، عن المعلى بن عرفان عن محمّد بن عبدالله بن جحش قال: تفاخرت زينب وعائشة، وقالت زينب: أنا التي نزل تزوّجي من السماء، فقالت عائشة: أنا التي نزل عذري في كتابه حين حملني ابن المعطل على الراحلة، فقالت زينب: وما قلتِ حين ركبتها؟ قالت: قلت: حسبي الله ونعم الوكيل قالت: كلمة المؤمنين.
وأنبأني عقيل بن محمد أنّ المعافى بن زكريا أخبره عن محمد بن جرير، عن ابن حَميد عن جرير عن مغيرة عن الشعبي قال: كانت زينب تقول للنبيّ عليه السلام: إنّي لأدلّ عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدلّ بهن: جدّي وجدّك واحد، وإنّي أنكحنيك الله في السماء، وإنّ السفير لجبرائيل.
قوله: {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ} الذين تبنوه {إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً} بالنكاح وطلقوهن أو ماتوا عنهن. قال الحسن: كانت العرب تظنّ أنّ حرمة المتبنى مشبّكة كاشتباك الرحم، فميّز الله تعالى بين المتبنى وبين الرحم فأراهم أنّ حلائل الأدعياء غير محرّمة عليهم لذلك قال: {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} [النساء: 23] فقيَّد {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} كائناً لا محالة، وقد قضى في زينب أنْ يتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه.
قوله: {مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله} أحل الله {لَهُ سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} أي كسنّةِ الله، نصب بنزع حرف الخافض، وقيل: فَعَلَ سُنَّةَ اللهِ، وقيل: على الإغراء، أي ابتغوا سنّة الله في الأنبياء الماضين، أي لا يؤاخذهم بما أحلّ لهم.
وقال الكلبي ومقاتل: أراد داود عليه السلام، حين جمع الله بينه وبين المرأة التي هواها، فكذلك جمع بين محمد وزينب حين هواها، وقيل: الإشارة بالسنة إلى النكاح، وإنَّه من سنّة الأنبياء وقيل: إلى كثرة الأزواج مثل قصة داود وسليمان عليهما السلام.
{وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً} ماضياً كائناً. وقال ابن عبّاس: وكان من قدره أن تلد تلك المرأة التي ابتلى بها داود ابنا مثل سليمان وتهلك من بعده.

.تفسير الآيات (39- 55):

{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)}
قوله تعالى: {الذين يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ الله} محلّ الذين خفض على النعت على الذين خلوا {وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله} لا يخشون قالة الناس ولائمتهم فيما أحلّ الله لهم وفرض عليهم {وكفى بالله حَسِيباً} حافظاً لأعمال خلقه ومحاسبتهم عليها، ثمّ نزلت في قول الناس إنّ محمّداً تزوّج امرأة ابنه {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} الذين لم يلده فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إيّاها، يعني زيداً، وإنّما كان أبا القاسم والطيب والمطهر وإبراهيم.
{ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين} أي آخرهم ختم الله به النبوّة فلا نبيّ بعده، ولو كان لمحمّد ابن لكان نبيّاً.
أخبرنا عبدالله بن حامد الوزان عن مكي بن عبدان، عن عبدالرحمن عن سفيان، عن الزهري، عن محمد بن جبير، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبيّ».
واختلف القرّاء في قوله: {خَاتَمَ النبيين} فقرأ الحسن وعاصم بفتح التاء على الاسم، أي آخر النَّبِين. كقوله: خاتمه مسك، أي آخره. وقرأ الآخرون بكسر التاء على الفاعل، أي أنّه خاتم النبيّين بالنبوّة.
{وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً * ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً}
قال ابن عبّاس: لم يفرض الله تعالى على عباده فريضة إلاّ جعل لها حدّاً معلوماً، ثمّ عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر، فإنّه لم يجعل له حدّاً يُنتهى إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلاّ مغلوباً على عقله، وأمرهم بذكره في الأحوال كلّها فقال: {فاذكروا الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103] وقال: {اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً} بالليل والنهار وفي البر والبحر والسفر والحضر والغنى والفقر والصحّة والسقم والسرّ والجهر وعلى كلّ حال. وقال مجاهد: الذكر الكثير أنْ لا تنساه أبداً.
أخبرني ابن فنجويه عن ابن شبّه عن الفراتي، عن عمرو بن عثمان، عن أَبي، عن أبي لهيعة، عن دُراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أكثروا ذكر الله حتّى يقولوا مجنون» {وَسَبِّحُوهُ} وصلّوا له {بُكْرَةً} يعني صلاة الصبح {وَأَصِيلاً} يعني صلاة العصر عن قتادة.
وقال ابن عبّاس: يعني صلاة العصر والعشاءين. وقال مجاهد: يعني قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله، فعبّر بالتسبيح عن أخواته، فهذه كلمات يقولها الطاهر والجنب والمحدث.
قوله: {هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} بالرحمة. قال السدي: قالت بنو إسرائيل لموسى: أيصلّي ربُّنا؟ فكبر هذا الكلام على موسى فأوحى الله إليه أنْ قُل لهم: إنّي أُصلّي، وإنّ صلاتي رحمتي، وقد وسعت رحمتي كلّ شيء.
وقيل: {يصلّي} يشيع لكم الذكر الجميل في عباده. وقال الأخفش: يبارك عليكم {وَمَلاَئِكَتُهُ} بالاستغفار والدعاء {لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً}.
قال أنس بن مالك: لمّا نزلت {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} [الأحزاب: 56] الآية، قال أبو بكر: ما خصّك الله بشرف إلاّ وقد أشركتنا فيه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
{تَحِيَّتُهُمْ} أي تحية المؤمنين {يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ} أي يرون الله عزّ وجلّ {سَلاَمٌ} أي يسلّم عليهم ويسلّمهم من جميع الآفات والبليّات.
أخبرني ابن فنجويه، عن ابن حيان، عن ابن مروان عن أبي، عن إبراهيم بن عيسى، عن علي بن علي، حدّثني أبو حمزة الثمالي في قوله عزّ وجلّ: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ} قال: تسلّم عليهم الملائكة يوم القيامة وتبشِّرهم حين يخرجون من قبورهم. وقيل: هو عند الموت والكناية مردودة إلى مَلك الموت كناية عن غير مذكور.
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين، عن عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، عن إسحاق بن محمد بن الفضل الزيّات، عن محمد بن سعيد بن غالب، عن حمّاد بن خالد الخيّاط، عن عبد الله بن وافد أبو رجاء، عن محمد بن مالك، عن البراء بن عازب في قوله عزّ وجلّ: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ} قال: يوم يلقون ملك الموت لا يقبض روح مؤمن إلاّ سلّمَ عليه.
وأخبرني الحسين بن محمد عن ابن حبيش المقرئ، حدّثني عبد الملك بن أحمد بن إدريس القطان بالرقة، عن عمر بن مدرك القاص قال: أخبرني أبو الأخرص محمد بن حيان البغوي، عن حمّاد بن خالد الخيّاط، عن خلف بن خليفة، عن أبي هاشم، عن أبي الأخوص، عن ابن مسعود قال: إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربّك يُقرئك السلام.
{وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} وهو الجنّة.
قوله: {ياأيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} يستضيء به أهل الدين. قال جابر بن عبدالله: لمّا نزلت {إِنَّا فَتَحْنَا} الآيات، قال الصحابة: هنيئاً لك يا رسول الله هذه العارفة، فما لنا؟ فأنزل الله تعالى: {وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كَبِيراً * وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين وَدَعْ أَذَاهُمْ} اصبر عليهم ولا تكافئهم. نسختها آية القتال {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلاً}.
قوله: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} تجامعوهن {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} تحصونها عليهن بالأقراء والأشهر {فَمَتِّعُوهُنَّ} أي أعطوهن ما يستمتعن به. قال ابن عبّاس: هذا إذا لم يكن سمّى لها صداقاً، فإذا فرض لها صداقاً فلها نصفه، وقال قتادة: هذه الآية منسوخة بقوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وقيل: هو أمر ندب، فالمتعة مستحبّة ونصف المهر واجب {وَسَرِّحُوهُنَّ} وخلّوا سبيلهن {سَرَاحاً جَمِيلاً} بالمعروف، وفي الآية دليل على أنّ الطلاق قبل النكاح غير واقع خصَّ أو عمَّ خلافاً لأهل الكوفة.
أخبرني الحسين بن محمّد بن فنجويه، عن ابن شنبه، عن عبد الله بن أحمد بن منصور الكسائي، عن عبد السلام بن عاصم الرازي، قال: أخبرني أبو زهير، عن الأحلج، عن حبيب بن أبي ثابت قال: كنت قاعداً عند علي بن الحسين، فجاءه رجل فقال: إنّي قلت: يوم أتزوّج فلانة بنت فلان فهي طالق. قال: اذهب تزوّجها، فإنّ الله عزّ وجلّ بدأ بالنكاح قبل الطلاق، وقال: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ولم يقل إذا طلقتموهن ثمّ نكحتموهن ولم يرهُ شيئاً. والدليل عليه ما أخبرنا الحسين بن محمّد بن الحسين، عن عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال: أخبرني أبو بكر محمد بن إبراهيم المنذر النيسابوري بمكّة، عن الربيع بن سليمان، عن أيّوب بن سويد، عن ابن أبي ذيب عن عطاء، عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا طلاق قبل نكاح».
قوله: {ياأيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} مهورهن {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ} مثل صفية وجويرية ومارية {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ} من نساء عبد المطلب {وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ} من نساء بني زهرة {اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ} فمن لم تهاجر منهنّ فليس له نكاحها. وقرأ ابن مسعود: {واللاتي هَاجَرْنَ}، بواو.
أنبأني عقيل بن محمد عن المعافى بن زكريا عن محمد بن جرير قال: أخبرني أبو كريب، عن عبد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي صالح، عن أُمّ هاني قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ثمّ أنزل الله عزّ وجلّ: {إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ}... إلى قوله: {اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ} قالت: فلم أحلّ له لأني لم أُهاجر، معه كنتُ من الطلقاء.
{وامرأة مُّؤْمِنَةً} أي وأحللنا لك امرأة مؤمنة {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} بغير مهر. وقرأ العامة إِن بكسر الألف على الجزاء والاستقبال، وقرأ الحسن بفتح الألف على المضي والوجوب، {إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا} فله ذلك {خَالِصَةً} خاصّةً لك، {مِن دُونِ المؤمنين} فليس لامرأة أنْ تهب نفسها لرجل بغير شهود ولا وليّ ولا مهر إلاّ النبيّ عليه السلام، وهذا من خصائصه في النكاح، كالتخيير والعدد في النساء، وما روي انّه أعتق صفيّة وجعل عتقها صداقها ولو تزوّجها بلفظ الهبة لم ينعقد النكاح، هذا قول سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء ومالك والشافعي وربيعة وأبي عبيد وأكثر الفقهاء.
وقال النخعي وأهل الكوفة: إذا وهبت نفسها منه وقبلها بشهود ومهر فإنَّ النكاح ينعقد والمهر يُلزَم به، فأجازوا النكاح بلفظ الهبة.
وقالوا: كان اختصاص النبي عليه السلام في ترك المهر. والدليل على ما ذهب الشافعي إليه: إنّ الله تعالى سمّى النكاح باسمين التزويج والنكاح، فلا ينعقد بغيرهما.
واختلف العلماء في التي وهبت نفسها لرسول الله، وهل كانت امرأة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم كذلك؟ فقال ابن عبّاس ومجاهد: لم يكن عند النبي صلّى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها منه، ولم يكن عنده عليه السلام امرأة إلاّ بعقد النكاح أو ملك اليمين، وإنّما قال الله تعالى {إِن وَهَبَتْ} على طريق الشرط والجزاء.
وقال الآخرون: بل كانت عنده موهوبة، واختلفوا فيها. فقال قتادة: هي ميمونة بنت الحرث. قال الشعبي: زينب بنت خزيمة أُمّ المساكين امرأة من الأنصار. قال علي بن الحسين والضحّاك ومقاتل: أُمّ شريك بنت جابر من بني أسد. قال عروة بن الزبير: خولة بنت حكيم بن الأوقص من بني سليم.
{قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} يعني أوجبنا على المؤمنين {في أَزْوَاجِهِمْ} قال مجاهد: يعني أربعاً لا يتجاوزونها.
قتادة: هو أنْ لا نكاح إلاّ بوليّ وشاهدين {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يعني الولائد والإماء {لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} في نكاحهن {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً}.
قوله: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ} أي تؤخّر {وتؤوي} وتضمّ {إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ} واختلف المفسِّرون في معنى الآية، فقال أبو رزين وابن زيد: نزلت هذه الآية حين غارت بعض أُمّهات المؤمنين على النبيّ صلى الله عليه وسلم وطلب بعضهنّ زيادة النفقة، فهجرهنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم شهراً حتى نزلت آية التخيير، وأمره الله عزّ وجلّ أنْ يخيّرهنّ بين الدنيا والآخرة، وأن يخلّي سبيلَ مَنْ اختارت الدُّنيا، ويمسك من اختارت الله ورسوله على أَنّهنّ أُمّهات المؤمنين ولا يُنكحن أبداً، وعلى أنّه يُؤوي إليه من يشاء ويرجي مِنهنّ من يشاء فيرضين به، قسم لهنّ أو لم يقسم، أو قسم لبعضهنّ ولم يقسم لبعضهنّ، أو فضّل بعضهنّ على بعض في النفقة والقسمة والعشرة أو ساوى بينهنّ، ويكون الأمر في ذلك كلّه إليه، يفعل ما يشاء، وهذا من خصائصه عليه السلام. فرضين بذلك كلّه واخترنه على هذا الشرط، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع ما جعل الله له من ذلك ساوى بينهنّ في القسم إلاّ امرأة منهنّ أراد طلاقها فرضيت بترك القسمة لها وجعل يومها لعائشة وهي سودة بنت زمعة.
وروى منصور عن أبي رزين قال: لمّا نزلت آية التخيير أشفقن أنْ يطلَّقن فقلن: يا نبيّ الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت، ودعنا على حالنا، فنزلت هذه الآية، فكان ممّن أُرجي منهن سودة وجويرية وصفيّة وميمونة وأُمّ حبيبة، فكان يقسم لهنّ ما شاء كما شاء، وكانت ممّن آوى إليه عائشة وحفصة وأُمّ سلمة وزينب رحمة الله عليهنّ، كان يقسم بينهن سواء لا يفضِّل بعضهنّ على بعض، فأرجأ خمساً وآوى أربعاً.
وقال مجاهد: يعني تعزل مَنْ تشاء منهنّ بغير طلاق، وترد إليك من تشاء منهنّ بعد عزلك إيّاها بلا تجديد مهر وعقد.
وقال ابن عبّاس: تطلّق من تشاء منهنّ وتمسك من تشاء.
وقال الحسن: تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من نساء امّتك. قال: وكان النبي عليه السلام إذا خطب امرأة لم يكن لرجل أنْ يخطبها حتى يتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يتركها.
وقيل: وتقبل من تشاء من المؤمنات اللاّتي يهبن أنفسهن لك، فتؤويها إليك، وتترك من تشاء فلا تقبلها.
روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنّها كانت تعيّر النساء اللاّتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلّى الله عليه وقالت: أما تستحي امرأة أن تهب أو تعرض نفسها على رجل بغير صداق، فنزلت هذه الآية، قالت عائشة: فقلت لرسول الله إنَّ ربَّك ليسارع لك في هواك.
{وَمَنِ ابتغيت} أي طلبت وأردت إصابته {مِمَّنْ عَزَلْتَ} فأصبتها وجامعتها بعد العزل {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} فأباح الله تعالى له بذلك ترك القسم لهنّ حتّى إنَّه ليؤخّر من شاء منهنّ في وقت نوبتها، فلا يطأها ويطأ من شاء منهنّ في غير نوبتها، فله أن يردَّ إلى فراشه من عزلها، فلا حرج عليه فيما فعل تفضيلاً له على سائر الرّجال وتخفيفاً عنه. وقال ابن عبّاس: يقول: إنَّ مَن فات من نسائك اللاّتي عندك أجراً وخلّيت سبيلها، فقد أحللت لك، فلا يصلح لك أنْ تزداد على عدد نسائك اللاّتي عندك.
{ذَلِكَ} الذي ذكرت {أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ} أطيب لأنفسهنّ وأقلّ لحزنهنّ إذا علمن أنَّ ذلك من الله وبأمره، وأنَّ الرخصة جاءت من قِبَله {وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ} من التفضيل والايثار والتسوية {كُلُّهُنَّ والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ} من أمر النساء والميل إلى بعضهنّ {وَكَانَ الله عَلِيماً حَلِيماً}.
قوله تعالى: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ} بالتاء أهل البصرة، وغيرهم بالياء {النسآء مِن بَعْدُ} أي من بعد هؤلاء النساء التسع اللاّتي خيّرتهنّ فاخترنك لما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، قصره عليهنّ، وهذا قول ابن عبّاس وقتادة. وقال عكرمة والضحاك: لا يحلّ لك من النساء إلاّ اللاّتي أحللناها لك وهو قوله: {إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} ثمّ قال: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ} التي أحللنا لك بالصفة التي تقدّم ذكرها.
روى داود بن أبي هند عن محمّد بن أبي موسى عن زياد رجل من الأنصار قال: قلت لأُبيّ بن كعب: أرأيت لو مات نساء النبي صلّى الله عليه وسلم أكان يحلّ له أنْ يتزوّج؟ فقال: وما يمنعه من ذلك وما يُحرّم ذلك عليه؟ قلت: قوله: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ} فقال: إنّما أحلّ الله له ضرباً من النساء فقال: {ياأيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ.
..} ثمّ قال: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ}.
وقال أبو صالح: أُمر أنْ لا يتزوّج أعرابية ولا عربية ويتزوّج بعد من نساء قومه من بنات العمّ والعمّة والخال والخالة إنْ شاء ثلاثمائة. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: معناه لا يحلّ لك النساء من غير المسلمات فأمّا اليهوديّات والنصرانيّات والمشركات فحرامٌ عليك، ولا ينبغي أنْ يكنَّ من أُمّهات المؤمنين.
وقال أبو رزين:
{لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ} يعني الإماء بالنكاح. {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} قال مجاهد وأبو رزين: يعني ولا أنْ تبدّل بالمسلمات غيرهنّ من اليهود والنصارى والمشركين {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} من السبايا والإماء الكوافر.
وقال الضحّاك: يعني ولا تبدّل بأزواجك اللاّتي هنّ في حبالك أزواجاً غيرهنّ، بأن تطلّقهنّ وتنكح غيرهن، فحرّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم طلاق النساء اللّواتي كنّ عنده، إذ جعلهنّ أُمّهات المؤمنين، وحرّمهن على غيره حين اخترنه، فأمّا نكاح غيرهنّ فلم يُمنع منه، بل أُحلّ له ذلك إنْ شاء. يدلّ عليه ما أخبرناه عبدالله بن حامد الوزان، عن أحمد بن محمد بن الحسين، عن محمّد بن يحيى قال: أخبرني أبو عاصم عن جريح عن عطاء عن عائشة قالت: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلَّ له النساء.
وقال ابن زيد: كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم يعطي هذا امرأته هذا ويأخذ امرأة ذاك فقال الله: {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} يعني تُبادل بأزواجك غيرك أزواجه، بأنْ تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته إلاّ ما ملكت يمينك لا بأس أن تبادل بجاريتك ما شئت فأمّا الحرائر فلا.
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الاصفهاني، عن أحمد بن محمد بن يحيى العبيدي، عن أحمد بن نجدة، عن الحماني، عن عبد السلام بن حرب، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: بادلني امرأتك وأُبادلك بامرأتي، تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي، فأنزل الله عزّ وجلّ: {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} قال: فدخل عيينة بن حصين على النبي صلّى الله عليه وعنده عائشة فدخل بغير إذن، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه: «يا عيينة فأين الاستئذان؟» قال: يا رسول الله ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت، ثمّ قال: مَنْ هذه الحميراء إلى جنبك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه عائشة أُمّ المؤمنين». قال عيينة: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق، قال رسول الله صلّى الله عليه: «إنَّ الله عزّ وجلّ قد حرّم ذلك»، فلمّا خرج، قالت عائشة: مَنْ هذا يا رسول الله؟ قال: «هذا أحمق مطاع وإنّهُ على ما ترين لسيّد قومه».
قال ابن عبّاس في قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} يعني أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب، وفيه دليل على جواز النظر إلى من يريد أن يتزوّج بها، قد جاءت الأخبار بإجازة ذلك.
أخبرنا عبدالله بن حامد، عن محمد بن جعفر المطيري، عن عبد الرحمن بن محمد بن منصور، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان عن عاصم الأحول، عن بكير بن عبد الله المزني أنَّ المغيرة بن شعبة أراد أنْ يتزوّج بامرأة، فقال النبيّ عليه السلام: «فانظر إليها فإنّه أجدر أن يودم بينكما».
وأخبرنا عبد الله بن حامد، عن محمد بن جعفر، عن علي بن حرب قال: أخبرني أبو معاوية، عن الحجّاج بن أرطأة، عن سهل بن محمد بن أبي خيثمة، عن عمّه سليمان بن أبي خيثمة قال: رأيت محمد بن سلمة يطارد نبيتة بنت الضحّاك على إجار من أياجير المدينة قلت: أتفعل هذا؟ قال: نعم، إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إذا ألقى الله في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أنْ ينظر إليها».
وأخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد عن بشر بن موسى، عن الحميدي عن سفيان، عن يزيد ابن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة أنّ رجلاً أراد أن يتزوّج امرأة من الأنصار، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «أُنظر إليها فإنَّ في أعين نساء الأنصار شيئاً». قال الحميدي: يعني الصّغَر. {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً} حفيظاً.
قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي...} قال أكثر المفسِّرين: نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب. قال أنس بن مالك: أنا أعلم الناس بآية الحجاب، ولقد سألني عنها أُبيّ بن كعب لمّا بنى رسول الله صلّى الله عليه بزينب بنت جحش أولم عليها بتمر وسويق وذبح شاة، وبعثت إليه أُمّي أُمّ سليم بحيس في تور من حجارة، فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أنْ أدعو أصحابه إلى الطعام، فدعوتهم فجعل القوم يجيئون ويأكلون ويخرجون، ثمّ يجيء القوم فيأكلون ويخرجون.
فقلت: يا نبيّ الله قد دعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه، فقال: ارفعوا طعامكم فرفعوا وخرج القوم، وبقي ثلاثة نفر يتحدّثون في البيت، فأطالوا المكث، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمت معه لكي يخرجوا، فمشى رسول الله صلّى الله عليه منطلقاً نحو حجرة عائشة فقال: «السلام عليكم أهل البيت».
، فقالوا: وعليك السلام يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟
ثمّ رجع فأتى حجر نسائه فسلّم عليهنّ، فدعون له ربّه، ورجع إلى بيت زينب، فإذا الثلاثة جلوس يتحدّثون في البيت، وكان النبيّ عليه السلام شديد الحياء، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ولّى عن بيته خرجوا، فرجع رسول الله عليه السلام إلى بيته وضرب بيني وبينه ستراً، ونزلت هذه الآية.
وقال قتادة ومقاتل: كان هذا في بيت أُمّ سلمة، دخلت عليه جماعة في بيتها أكلوا، ثمّ أطالوا الحديث، فتأذّى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحيى منهم أن يأمرهم بالخروج، والله لا يستحيي من الحقّ، فأنزل الله عزّ وجلّ: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} إلاّ أنْ تُدعوا {إلى طَعَامٍ} فيؤذن لكم فتأكلوه {غَيْرَ نَاظِرِينَ} منظرين {إِنَاهُ} إدراكه ووقت نضجه، وفيه لغتان أنىً وإنىً بكسر الألف وفتحها، مثل أَلّى وإِلّى ومَعاً ومِعاً، والجمع إناء، مثل آلاء وامعاء، والفعل منه أنى يأنى إنىً بكسر الألف مقصور، وآناء بفتح الألف ممدود. قال الحطيئة:
وأنيت العشا إلى سهيل ** أو الشعرى فطال بي الأنا

وقال الشيباني:
تمخضت المنون له بيوم ** أَنى ولكل حاملة تمام

وفيه لغة أُخرى: آن يأين أيناً. قال ابن عبّاس: نزلت في ناس من المؤمنين كان يتحيّنون طعام رسول الله صلّى الله عليه، فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك، ثمّ يأكلون ولا يخرجون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأذّى بهم، فنزلت هذه الآية. و{غَيْرَ} نصب على الحال {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُم} أكلتم الطعام {فانتشروا} فتفرّقوا واخرجوا من منزله {وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} طالبين الأنس بحديث، ومحله خفض مردود على قوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ} ولا غير {مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبي فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق} أي لا يترك تأديبكم وحملكم على الحقّ ولا يمنعه ذلك منه.
حدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب لفظاً قال: أخبرني أبو موسى عمران بن موسى بن الحصين قال: أخبرني أبو عوانة يعقوب بن إسحاق قال: أخبرني أبو عمرو عثمان بن خرزاد الأنطاكي، عن عمرو بن مرزوق، عن جويرية بن أسماء قال: قرئ بين يدي إسماعيل ابن أبي حكيم هذه الآية فقال: هذا أدب أدّبَ الله به الثقلاء.
وسمعت الحسن بن محمد بن الحسن يقول: سمعت محمد بن عبدالله بن محمد يقول: سمعت الغلابي يقول: سمعت ابن عائشة يقول: حسبك في الثقلاء أنّ الله تعالى لم يحتملهم وقال: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا}.
قوله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} أخبرنا عبد الله بن حامد، عن محمّد بن يعقوب، عن محمد بن سنان الفزار، عن سهيل بن حاتم، عن ابن عون، عن عمرو بن سعيد، عن أنس بن مالك قال: كنت مع النبي صلّى الله عليه وكان يمرّ على نسائه، فأتى امرأة عرس بها حديثاً فإذا عندهم قوم، فانطلق النبي صلّى الله عليه أيضاً فاحتبس فقضى حاجته، ثمّ جاء وقد ذهبوا، فدخل وأرخى بينه وبيني ستراً قال: فحدّثت أبا طلحة فقال: إن كان كما تقول لينزلنّ شيء في هذا، فنزلت آية الحجاب.
وأنبأني عبدالله بن حامد الوزان أنّ الحسين بن يعقوب حدّثه عن يحيى بن أبي طالب عن عبد الوهاب عن حميد عن أنس قال: قال عمر: يا رسول الله، تدخل عليك البرّ والفاجر، فلو أمرت أُمّهات المؤمنين بالحجاب. فنزلت آية الحجاب.
وأخبرنا محمد بن عبدالله بن حمدون، عن أحمد بن محمد الشرقي، عن محمد بن يحيى عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبي، عن صالح بن شهاب، عن عروة بن الزبير: أنّ عائشة قالت: كان عمر بن الخطّاب يقول لرسول الله صلّى الله عليه: احجب نساءك، فلم يفعل، وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يخرجن ليلاً إلى ليل قبل المناصع وهو صعيد أقبح، فخرجت سودة بنت زمعة، وكانت امرأة طويلة فرآها عمر وهو في المجلس فقال: قد عرفتكِ يا سودة حرصاً على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله الحجاب.
وأخبرنا عبدالله بن حامد إجازة، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين بن علي بن عفان قال: أخبرني أبو أُسامة، عن مخالد بن سعيد، عن عامر قال: مرَّ عمر على نساء النبي صلّى الله عليه وهو مع النساء في المسجد فقال لهنّ: احتجبن، فإنَّ لكنَّ على النساء فضلاً، كما انّ لزوجكنَّ على الرجال الفضل، فلم يلبثوا إلاّ يسيراً حتى أنزل الله آية الحجاب.
وروى عطاء بن أبي السائب عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: أمر عمر بن الخطاب نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالحجاب فقالت زينب: يابن الخطّاب إنّك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} {ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}.
وقيل في سبب نزول الحجاب ما أخبرنا أحمد بن محمد أنّ المعافى حدّثه عن محمّد بن جرير قال: حدّثني يعقوب بن إبراهيم، عن هشام، عن ليث، عن مجاهد: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد عائشة وكانت معهم، فكره النبي ذلك، فنزلت آية الحجاب.
أخبرنا أبو عبدالله محمد بن أحمد بن علي المزكى قال: أخبرني أبو العبّاس أحمد بن محمد بن الحسين الماسرخسي، عن شيبان بن فروخ الابلي، عن جرير بن حازم، عن ثابت البنائي، عن أنس بن مالك قال: كنت أدخل على رسول الله صلّى الله عليه بغير إذن، فجئت يوماً لأدخل فقال: مكانك يا بني، قد حدث بعدك أنْ لا يدخل علينا إلاّ بإذن.
قوله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ} يعني وما ينبغي وما يصلح لكم {أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً} نزلت في رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: لئن قبض رسول الله صلّى الله عليه لأنكحنّ عائشة بنت أبي بكر.
أنبأني عقيل بن محمد، عن المعافى بن زكريا، عن محمد بن جرير، عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب، عن داود عن عامر أنّ النبي صلّى الله عليه مات وقد ملك قتيلة بنت الأشعث بن قيس ولم يجامعها، فتزوّجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك، فشقّ على أبي بكر مشقّة شديدة، فقال له عمر: يا خليفة رسول الله إنّها ليست من نسائه، إنّها لم يخيّرها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم يحجبها، وقد برّأها منه بالردّة التي ارتدّت مع قومها قال: فاطمأنَّ أبو بكر وسكن.
وروى معمر عن الزهري: أنَّ العالية بنت طيبان التي طلّقها النبيّ صلّى الله عليه تزوّجت رجلاً وولدت له، وذلك قبل أنْ يحرّم على الناس أزواج النبي عليه السلام.
{إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في آبَآئِهِنَّ}.
قال ابن عبّاس: لمّا نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أيضاً نكلّمهنّ من وراء حجاب؟ فأنزل الله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في آبَآئِهِنَّ}.
{وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} في ترك الاحتجاب من هؤلاء وأن يروهن. وقال مجاهد: لا جناح عليهن في وضع جلابيبهن عندهم.
{واتقين الله إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً}.