فصل: تفسير الآيات (45- 59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (45- 59):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)}
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} أي ما بين أيديكم من الآخرة فاعملوا لها {وَمَا خَلْفَكُمْ} من أمر الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بها. قاله ابن عباس، وقال مجاهد: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ}: ما يأتي من الذنوب، {وَمَا خَلْفَكُم}: ما مضى من الذنوب.
الحسن. {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} يعني وقائع الله فيمن كان قبلكم من الأُمم {وَمَا خَلْفَكُم} من أمر الساعة.
مقاتل: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} عذاب الأُمم الخالية، {وَمَا خَلْفَكُم}: عذابُ الآخرة.
{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، والجواب محذوف تقديره: إذا قيل لهم هذا، أعرضوا، دليله ما بعده: {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا أَنُطْعِمُ}: الرزق {مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ} يتوهمون أنّ الله تعالى لما كان قادراً على إطعامه وليس يِشاء إطعامه، فنحن أحق بذلك. نزلت في مشركي مكة حين قال لهم فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اعطونا ما زعمتم من أموالكم أنها لله، وذلك قوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً} [الأنعام: 136] فحرموهم، وقالوا: لو شاء الله أطعمكم فلا نُعطيكم شيئاً حتى ترجعوا إلى ديننا.
{إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} في اتباعكم محمداً ومخالفكتم ديننا. عن مقاتل بن حيان، وقال غيره: هو من قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم.
{وَيَقُولُونَ متى هَذَا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أنا نُبعث؟ فقال الله تعالى: {مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} وهي نفخة إسرافيل {تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} أي يختصمون ويُخاصم بعضهم بعضاً.
واختلفت القراء فيه؛ فقرأ ابن كثير وورش وأبو عبيد وأبو حاتم بفتح الخاء وتشديد الصاد ومثله روى هشام عن أهل الشام: لما أدغموا نقلوا حركة التاء إلى الخاء.
وقرأ أبو جعفر وأيوب ونافع غير ورش ساكنة الخاء مخففة الصاد، وقرأ أبو عمرو: بالإخفاء، وقرأ حمزة: ساكنة الخاء مخففة الصاد، أي يغلب بعضهم بعضاً بالخصام، وهي قراءة أُبي بن كعب، وقرأ الباقون: بكسر الخاء وتشديد الصاد. {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً}: فلا يقدرون على أنْ يوصي بعضهم بعضاً، {وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ * وَنُفِخَ فِي الصور} وهي النفخة الأخيرة: نفخة البعث، وبين النفختين أربعون سنة، {فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث} أي القبور، واحدها جدث {إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} يخرجون، ومنه قيل للولد: نسلاً؛ لأنه يخرج من بطن أُمّه، والنسلان والعسلان: الإسراع في السير.
{قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} أي منامنا قال أُبي بن كعب وابن عباس وقتادة: إنما يقولون هذا؛ لأن الله رفع عنهم العذاب فيما بين النفختين فيرقدون، وقال أهل المعاني: إنّ الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها صار ماعذبوا في القبور في جنبها كالنوم، فقالوا: {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا}؟ ثم قال: {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون}: أقرّوا حين لم ينفعهم الإقرار، وقال مجاهد: يقول الكفار: {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا}؟ ويقول المؤمنون: {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون}.
{إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، محل {مَا} نصب من وجهين:
أحدهما: مفعول ما لم يسمَّ فاعله.
والثاني: بنزع حرف الخفض، أي ب {ما}.
{إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ}، قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وشيبة بجزم الغين، واختاره أبو حاتم، وقرأ الآخرون: بضم الغين، واختاره أبو عبيد، وهما لغتان مثل السُّحْت والسُّحُت ونحوهما.
واختلف المفسرون في معنى الشغل. فأخبرنا محمد بن حمدون قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدّثنا أبو الأزهر قال: حدّثنا أسباط بن محمد عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ} قال: افتضاض الأبكار.
وأخبرني فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا أحمد بن الوليد الشطوي قال: حدّثنا محمد بن موسى قال: حدّثنا معلى بن عبد الرَّحْمن قال: حدّثنا شريك عن عاصم الأحول عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عادوا أبكاراً».
وقال الكلبي والثمالي والمسيب: يعني في شُغل عن أهل النار وعما هم فيه، لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم، وقال وكيع بن الجراح: يعني في السماع، سئل يحيى بن معاذ: أي الأصوات أحسن؟ قال: مزامير أُنس في مقاصير قدس بألحان تجميل في رياض تمجيد في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وقال ابن كيسان: يعني في زيارة بعضهم بعضاً، وقيل: في ضيافة الله وقيل: في شغلهم بعشرة أشياء: ملك لا عزل معه، وشباب لا هرم معه، وصحة لا سقم معها، وعزّ لا ذل معه، وراحة لا شدة معها، ونعمة لا محنة معها، وبقاء لا فناء معه، وحياة لا موت معها، ورضا لا سخط معه، وأُنس لا وحشة معه.
وقيل: شغلهم في الجنة بسبعة أنواع من الثواب لسبعة أعضاء: فأما ثواب الرِجل فقوله: {ادخلوها بِسَلامٍ آمِنِينََ} [الحجر: 46]، وثواب اليد قوله: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً} [الطور: 23]، وثواب الفرج قوله: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22]، وثواب البطن قوله: {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً} [الطور: 19] الآية، وثواب اللسان قوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10] وثواب الأُذن قوله: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً} [الواقعة: 25- 26]، وثواب العين قوله: {وَتَلَذُّ الأعين} [الزخرف: 71].
قال طاووس: لو علم أهل الجنة عمّن شغلوا ما هنّأهم ما اشتغلوا به، وسئل بعض الحكماء عن قوله عليه السلام: «أكثر أهل الجنة البله» قال: لأنهم في شغل بالنعيم عن المنعم، ثم قال: من رضي بالجنة عن الله فهو أبله.
{فَاكِهُونَ} قرأ العامة: بالألف، وقرأ أبو جعفر فكهون وفكهين بغير ألف حيث كانا، وهما لغتان: كالحاذر والحذر والفارهِ والفرهِ، وقال الكسائي: الفاكه والفاكهة مثل شاحم ولاحم ولابن وتامر، واختلف العلماء في معناهما، فقال ابن عباس: فرحون. مجاهد والضحاك: معجبون. السدي: ناعمون.
{هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ}: حلائلهم {فِي ظِلاَلٍ} قرأ العامة بالألف وكسر الظاء على جمع {ظلّ}، وقرأ ابن مسعود وعبيد بن عمير وحمزة والكسائي وخلف: {ظلل} على جمع (ظلة).
{عَلَى الأرآئك} يعني السُرر في الحجال، واحدتها أريكة، مثل سفينة وسفن وسفائن وقيل: هي الفرش، {مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} قال ابن عباس: يسألون. قال مقاتل: يتمنون ويريدون، وقيل: معناه. من ادّعى منهم شيئاً فهو له بحكم الله عز وجل؛ لأنهم لا يدعون إلاّ ما يحسن.
{سَلاَمٌ} قرأ العامة بالرفع، أي لهم سلام، وقرأ النخعي: بالنصب على القطع والمصدر.
أخبرني الحسن بن محمّد بن عبد الله الحافظ قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا أحمد بن الفرج المقرئ قال: حدّثنا محمد بن عبد الملك أبي الشوارب قال: حدّثنا أبو عاصم عبد الله بن عبد الله العباداني قال: حدّثنا الفضل بن عيسى الرقاشي، وأخبرنا عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق المؤذن قال: حدّثني أبو بكر أحمد بن محمد بن موسى الملحمي الأصفهاني قال: حدّثنا الحسن بن أبي علي الزعفراني قال: حدّثنا ابن أبي الشوارب قال: حدّثنا أبو عاصم قال: حدّثنا الفضل الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربّ عزّ وجل قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة. فذلك قوله عز وجل {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ماداموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم».
{وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} قال ابن عباس: تفرقوا. أبو العالية: تميزوا. السدي: كونوا على حدة. قتادة: اعدلوا عن كل خير. الضحاك: إنّ لكل كافر في النار بيتاً، يدخل ذلك البيت ويردم به بالنار فيكون فيه أبد الآبدين فلا يرى ولا يُرى.

.تفسير الآيات (60- 83):

{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)}
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابني ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان} أي لا تطيعوه في معصية الله. {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ} أي أغوى بالدعاء إلى المعصية {جِبِلاًّ كَثِيراً} قرأ علي رضي الله عنه {جبلاً} بالباء مخففاً، وقرأ أهل المدينة وعاصم وأيوب وأبو عبيد وأبو حاتم بكسر الجيم والباء، وتشديد اللام، وقرأ يعقوب بضم الجيم والباء، وتشديد اللام، وبه قرأ الحسن وعبيد بن عمير وعيسى بن عمر والأشهب، وقرأ ابن عامر وأبو عمرو بضم الجيم وجزم الباء مخففاً، وقرأ الباقون: بضم الجيم والباء وتخفيف اللام، وكلها لغات.
معناه: الخلق والأُمة، وإنما اختار أبو عبيد وأبو حاتم ضم الجيم والباء والتشديد؛ لقوله تعالى: {والجبلة الأولين} [الشعراء: 184].
{أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ * هذه جَهَنَّمُ التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} تحذرون، {اصلوها}: ادخلوها {اليوم بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ} فلا يتكلمون. قال قتادة: جرى بينهم خصومات وكلام فكان هذا آخرها.
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا أبو عامر حامد بن سعدان قال: حدّثنا أحمد بن صالح قال: حدّثنا عبد الله بن وهب قال: حدّثني عمرو بن الحرث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله، فجحد وخاصم، فيقال له: هؤلاء جيرانك يشهدون. فيقول: كذبوا. فيُقال: أهلك وعشيرتك. فيقول: كذبوا. فيُقال: احلفوا، فيحلفون. ثم يصمتهم الله عز وجل ويشهد عليهم ألسنتهم ثم يدخلهم النار».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا الفربابي قال: حدّثنا هشام بن عمار قال: حدّثنا إسماعيل بن عياش قال: حدّثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن عقبة بن عامر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرِجْل الشمال».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا القطيعي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدّثنا أُبي قال: حدّثنا يزيد قال: أخبرنا الحريري أبو مسعود عن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجيئون يوم القيامة على أفواههم الفدام وإنّ أول ما يتكلم من الآدميين فخذه وكفه».
{وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ فاستبقوا الصراط}: فتبادروا إلى الطريق، {فأنى يُبْصِرُونَ} وقد طمسنا أعينهم؟ قال ابن عباس ومقاتل وعطاء وقتادة: يعني ولو نشاء لتركناهم عمياً يترددون، فكيف يُبصرون الطريق حينئذ؟
{وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ على مَكَانَتِهِمْ}، أي أقعدناهم في منازلهم قردة وخنازير، والمسخ تحويل الصورة، {فَمَا استطاعوا مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ} إلى ما كانوا عليه، وقيل: لا يستطيعون الذهاب ولا الرجوع.
{وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ}، قرأ الأعمش وعاصم وحمزة بالتشديد. غيرهم بفتح النون وضم الكاف مخففاً. أي يرده إلى أرذل العمر شبه حال الصبي الذي هو أول الخلق، وقيل: يصيّره بعد القوة إلى الضعف، وبعد الزيادة إلى النقصان، وبعد الحدة والطراوة إلى البلى والخلوقة، فكأنه نكس حاله.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش المقرئ قال: حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال: حدّثنا محمد بن حميد قال: حدّثنا مهران بن أبي عمر عن سفيان: {وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخلق} قال: إذا بلغ ثمانين سنة تغيّر جسمه. {أَفَلاَ يَعْقِلُونَ * وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ} لأنه يُورث الشبهة.
أخبرني ابن فنجوية قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال: حدّثنا حامد بن شعيب عن شريح بن يونس قال: حدّثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي عيينة عن أبيه عن الحكم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بقول العباس بن مرداس: «أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة». قالوا: يا رسول الله إنما قال: بين عيينة والأقرع. فأعادها وقال: «بين الأقرع وعيينة». فقام إليه أبو بكر رضي الله عنه فقبل رأسه وقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ}.
وأخبرنا الحسين بن محمد الحديثي قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا يوسف بن عبد الله بن هامان قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت: «كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً».
فقال أبو بكر: يا نبي الله، إنما قال الشاعر:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً

فقال أبو بكر أو عمر: أشهد أنك رسول الله، يقول الله عز وجل: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ}.
أخبرني الحسين قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق المسيبي قال: حدّثنا حامد بن شعيب قال: حدّثنا شريح بن يونس قال: حدّثنا أبو سفيان عن معمر عن قتادة: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر} قال: بلغني أنّ عائشة سُئلت هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ فقالت: كان الشعر أبغض الحديث إليه، قالت: ولم يتمثل بشيء من الشعر إلاّ ببيت أخي بني قيس طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنتَ جاهلاً ** ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

فجعل يقول: من لم تزود بالأخبار، فقال أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إني لستُ بشاعر، وما ينبغي لي».
{إِنْ هُوَ} يعني القرآن {إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِّيُنذِرَ} بالتاء وهي قراءة أهل المدينة والشام والبصرة إلاّ أبا عمرو، والباقون بالياء؛ قال: التاء للنبي صلى الله عليه وسلم والياء للقرآن. {مَن كَانَ حَيّاً} أي عاقلاً مؤمناً في علم الله؛ لأن الكافر والجاهل ميّت الفؤاد، {وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين * أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ} يعني عملناه من غير واسطة ولا وكالة ولا شركة، {أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}: ضابطون وقاهرون.
{وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ}: سخرناها {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} قرأ العامة بفتح الراء أي مركوبهم، كما يُقال: ناقة حلوب، أي محلوب، وقرأ الأعمش والحسن: بضم الراء على المصدر.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا ابن هامان قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن عروة قال: في مصحف عائشة: {ركوبتهم}، والركوب والركوبة واحد مثل: الحمول والحمولة. {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} لحمانها.
{وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} من أصوافها ولحومها وغير ذلك من المنافع. {وَمَشَارِبُ} يعني ألبانها {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ * واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} أي لتمنعهم من عذاب الله، ولا يكون ذلك قط.
{لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ} في النار؛ لأنهم مع أوثانهم في النار فلا يدفع بعضهم عن بعض النار.
{فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} يعني تكذيبهم وأذاهم وجفاهم. تم الكلام ها هنا ثم استأنف فقال: {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ * أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ} جدل بالباطل {مُّبِينٌ}.
واختلفوا في هذا الإنسان من هو؟ فقال ابن عباس: هو عبد الله بن أُبيّ، وقال سعيد بن جبير: هو العاص بن وائل السهمي، وقال الحسن: هو أُمّية بن خلف، وقال قتادة: أُبي بن خلف الجمحي؛ وذلك أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائل قد بلي فقال: يا محمد أترى الله يُحيي هذا بعدما قد رمّ؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «نعم، ويبعثك ويدخلك النار» فأنزل الله هذه الآية: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} بدء أمره، {قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ} بالية، وإنما لم يقل رميمة؛ لأنه معدول من فاعله وكل ما كان معدولاً عن وجهه ووزنه كان مصروفاً عن إعرابه كقوله: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم: 28] أسقط الهاء؛ لأنها مصروفة عن باغية.
{قُلْ يُحْيِيهَا الذيانشأهآ}: خلقها {أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الذي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً}، وإنما لم يقل الخضر، والشجر جمع الشجرة لأنه ردّه إلى اللفظ.
قال ابن عباس: هما شجرتان يُقال لإحداهما مرخ، والأُخرى العفار. فمن أراد منهم النار قطع منها غصنين مثل السواكين، وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار أُنثى فتخرج منهما النار بإذن الله عز وجل.
يقول العرب: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار، وقال الحكماء: كل شجر فيه نار إلاّ العناب. {فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ} النار فذلك زادهم.
{أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ} قرأ العامة بالألف، وقرأ يعقوب {بقدر} على الفعل {على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم}، ثم قال: {بلى وَهُوَ الخلاق العليم * إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً} أي وجود شيء، {أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.