فصل: تفسير الآيات (16- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (16- 35):

{أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)}
{أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم} أخلصكم وخصصكم. {بالبنين} نظيره قوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثاً} [الإسراء: 40].
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً} يعني البنات. دليلها في النّحل {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} من الحزن والغيظ.
{أَوَمَن يُنَشَّؤُاْ} قرأها أهل الكوفة بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين على غير تسمية الفاعل. أي يُربي غيرهم {يَنْشَؤا} بفتح الياء وجزم النون وتخفيف الشين، أي ينبت ويكبر. {فِي الحلية} في الزينة، يعني النساء. قال مجاهد: رخّص للنساء في الحرير والذهب، وقرأ هذه الآية.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن الحسين الزعفراني، حدثنا يحيى بن جعفر بن أبي طالب، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب والحرير حرام على ذكور أمتي، حلّ لأُناثهم».
{وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ} للحجة من ضَعفهنَّ وسَفَههُنَّ. قال قتادة في هذه الآية: قلما تتكلم امرأة بحجّتها إلاّ تكلمت الحجة عليها، وفي مصحف عبد الله وهو في الكلام غير مبين.
وقال بعض المفسرين: عني بهذه الآية أوثانهم الّتي كانوا يعبدونها ويجلّونها ويزينونها وهي لا تتكلم ولا تنبس. قال ابن زيد: هذه تماثيلهم الّتي يضربونها من فضة وذهب، وينشؤنها في الحلية يتعبدونها. في محلّ من ثلاثة وجوه: الرفع على الإبتداء، والنصب على الإضمار، مجازه: أو من ينشاء يجعلونه ربّاً أو بنات الله، والخفض ردّاً على قوله: {مِمَّا يَخْلُقُ} وقوله: {بِمَا ضَرَبَ}..
{وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً} قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة {عِبَادُ الرحمن} بالألف والياء، وأختاره أبو عبيد قال: لأن الإسناد فيها أعلى ولأنّ الله تعالى إِنّما كذبهم في قوله: {بَنَاتٍ الله} فأخبر إنّهم عبيده وليسوا بناته، وهي قراءة ابن عباس.
أخبرنا محمد بن نعيم، أخبرنا الحسين بن أيوب، أخبرنا علي بن عبد العزيز، أخبرنا القاسم بن سلام، حدثنا هيثم عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، إنَّهُ قرأها {عِبَادُ الرحمن}.
قال سعيد: فقلت لابن عباس: إنَّ في مصحفي عبد الرّحمن. فقال: إمسحها وإكتبها {عِبَادُ الرحمن}، وتصديق هذه القراءة، قوله: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]، وقرأ الآخرون عند الرّحمن بالنون وإختاره أبو حاتم، قال: لأن هذا مدح، وإذا قلت: {عِبَادُ الرحمن} وتصديقها قوله تعالى: {إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ}.
{أَشَهِدُواْ} أَحَضِرُوا {خَلْقَهُمْ} حتّى يعرفوا إنّهم أناث، وقرأ أهل المدينة {أَشَهِدُواْ} على غير تسمية الفاعل أي أَحضروا. {خَلْقَهُمْ} حين خلقوا.
{سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} على الملائكة إنّهم بنات الله {وَيُسْأَلُونَ} عنها.
{وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ} يعني الملائكة في قول قتادة ومقاتل والكلبي، وقال مجاهد: يعني الأوثان، وإنَّما لم يعجل عقوبتنا على عبادتنا إياها لرضا منا بعبادتها.
قال الله تعالى: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} فيما يقولون {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} يكذبون.
{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ} أي من قبل هذا القرآن. {فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قالوا إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ} دين. {وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} وقراءة العامة {أُمة} بضم الألف، وهي الدين والملة، وقرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد اَمة بكسر الألف وإختلفوا في معناها، فقيل: هي الطريقة والمقصد من قولهم أممت، وقيل: هي النعمة. قال عدي بن زيد: ثمّ بعد الفلاح والملك والأمة وأريهم هناك القبور، وقيل: هما لغتان بمعنى واحد.
{وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} مستنون متبعون.
{قال} قراءة العامة على الأمر، وقرأ ابن عامر على الخبر ومثله روى حفص بن عاصم. {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ} بالألف أبو جعفر. الباقون جئتكم على الواحد. {بأهدى} بدين أَصوب. {مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فانتقمنا مِنْهُمْ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ} أي بريء، ولا يثنّى البراء ولا يجمع ولا يؤنث لأنّه مصدر وضع موضع النعت، وفي قراءة عبد الله {بريء} بالياء. {مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الذي فَطَرَنِي} خلقني، ومجاز الآية: إنّني براء من كلّ معبود إلاّ الّذي فطرني.
{فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} إلى دينهِ. {وَجَعَلَهَا} يعني هذه الكلمة والمقالة {كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} قال مجاهد وقتادة: يعني لا إله إلاَّ الله، وقال القرظي: يعني وجعل وصية إبراهيم الّتي أوصى بها بنيه باقية في نسله وذريته وهي الّتي ذكرها الله تعالى في سورة البقرة: {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} [البقرة: 132]، وقال ابن زيد: يعني قوله: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} [البقرة: 131] وقرأ {هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين} [الحج: 78].
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} من كفرهم إلى الطاعة ويتوبون {بَلْ مَتَّعْتُ هؤلاء وَآبَآءَهُمْ} في الدّنيا فلم أهلكهم ولم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم. {حتى جَآءَهُمُ الحق} القرآن، وقال الضحاك: الإسلام. {وَرَسُولٌ مُّبِينٌ} يبين لهم الأعلام والأحكام وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
{وَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق} القرآن {قَالُواْ هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ}. يعني من إحدى القريتين ولم يختلفوا في القريتين إنَّهما مكّة والطائف، وإختلفوا في الرجلين من هما. قال ابن عباس: الوليد بن المغيرة من مكّة وكان يسمى ريحانة قريش، وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي من الطائف.
وقال مجاهد: عتبة بن الربيع من مكّة وابن عبدياليل الثقفي من الطائف. قتادة: هما الوليد بن المغيرة المخزومي، وأبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي، وقال السدي: الوليد بن المغيرة وكنانة بن عبد عمرو بن عمير.
قال الله سبحانه وتعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} نبوته وكرامته فيجعلونها لمن شاءوا. {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا} فجعلنا هذا غنياً وهذا فقيراً وهذا ملكاً وهذا مملوكاً، وقرأ ابن عباس وابن يحيى {معايشهم} {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} أي ليُسخّر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل ويستخدمونهم ليكون بعضهم لبعض سبب المعاش في الدّنيا، هذا بماله وهذا باعماله؛ هذا قول السدي وابن زيد، وقال قتادة والضحاك: يعني ليملك بعضهم بعضاً فهذا عبد هذا، وقيل: يسخر بعضهم من بعض، وقيل: يتسخر بعضهم بعضاً.
{وَرَحْمَتُ رَبِّكَ} يعني الجنّة {خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} في الدنيا من الأموال {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} مجتمعين على الكفر فيصيروا كلّهم كفّاراً. هذا قول أكثر المفسرين، وقال ابن زيد: يعني: ولولا أن يكون النّاس أُمة واحدة في طلب الدّنيا وإختيارها على العقبى.
{لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ} وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد ويحيى بن وثاب {سَقُفاً} بفتح السين على الواحد ومعناه الجمع إعتباراً بقوله: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} [النحل: 26]، وقرأ الباقون بضم السين والقاف على الجمع. يقال سقف وسُقّف مثل رهن ورُهّن. قال أبو عبيد: ولا ثالث لهما، وقيل: هو جمع سقيف، وقيل: هو جمع سقوف وجمع الجمع.
{وَمَعَارِجَ} أي مصاعد ومراقي ودرجاً وسلاليم، وقرأ أبو رجاء العطاردي {ومعاريج} وهما لغتان واحدهما معراج مثل مفاتح ومفاتيح.
{عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} يعلون ويرتقون ويصعدون بها، ظهرت على السطح إذا علوته. قال النابغة الجعدي:
بلّغنا السماء مجدنا وسناؤنا ** وإِنَّا لنرجو فوق ذلك مظهرا

أي مصعداً.
{وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً} من فضة {وَسُرُراً} من فضة {عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً} أي ولجعلنا لهم مع ذلك {وَزُخْرُفاً} وهو الذهب نظير بيت مزخرف، ويجوز أن يكون معناه من فضة وزخرف فلما نزع الخافض نصب.
{وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا} شدده عاصم وحمزة على معنى {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا} [الزخرف: 35]، وخففه الآخرون على معنى. {ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا} [آل عمران: 14] فتكون لغة الواصلة {والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} للمؤمنين.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، أخبرنا أحمد بن شاذان، أخبرنا جيغويه بن محمد، حدثنا صالح بن محمد، حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبان، عن سليمان بن القيس العامري، عن كعب. قال: إنّي لأجد في بعض الكتب: لولا أن يحزن عبدي المؤمن لكللت رأس الكافر بأكاليل فلا يصدع ولا ينبض منه عرق يوجع.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه، حدثنا عبد الله بن محمد بن شنبه، حدثنا الفربابي، حدثنا إبراهيم بن العلاء الزيدي، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ثعلبة بن مسلم، عن مسلم بن أبي المجرد، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنّه كان يقول: لو أنّ رجلاً هرب من رزقه لإتبعه حتّى يدركه، كما إنّ الموت يدرك من هرب منه له أجل هو بالغه، أو أثر هو واطئة ورزق هو آكله وحرف هو قائله فاتقوا الله وإجملوا في الطلب، فلا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بمعصية الله تعالى، فإنّ الله لا ينال ما عنده إلاّ بطاعته، ولن يُدرك ما عنده بمعصيته. فأتقوا الله وإجملوا في الطلب.

.تفسير الآيات (36- 50):

{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)}
{وَمَن يَعْشُ} يعرض {عَن ذِكْرِ الرحمن} فلم يخف عقابه ولم يرج ثوابه.
وقال الضحاك: يمض قدماً. القرظي: يولّ ظهره على ذكر الرّحمن وهو القرآن. أبو عبيدة والأخفش: أي تظلم عينه، الخليل بن أحمد: أصل العشو النظر ببصر ضعيف، وأنشد في معناه:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ** تجد خير نار عندها خير موقد

وروى نوفل بن أبي عقرب عن ابن عباس إنَّه قرأ {وَمَن يَعْشُ} بفتح الشين ومعناه: (من يعم). يقال منه: عشي يعشي عشياً إذا عمي، ورجل أعشى وامرأة عشواء، ومنه قول الأعشى:
رأت رجلا غائب الوافدين ** مختلف الخلق أعشى ضريرا

{نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} أي نظمه إليه ونسلّطه عليه {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} فلا يفارقه. {وَإِنَّهُمْ} يعني الشياطين {لَيَصُدُّونَهُمْ} يعني الكافرين. {عَنِ السبيل وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * حتى إِذَا جَآءَنَا} قرأ أهل العراق وابن محيص على الواحد يعنون الكافر، واختاره أبو عبيد وقرأ الآخرون {جَآءَنَا} على التشبيه يعنون الكافر وقرينه.
{قَالَ} الكافر للشيطان. {ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين} أي المشرق والمغرب، فقلب إسم أحدهما على الآخر، كما قال الشاعر:
أخذنا بآفاق السّماء عليكم ** لنا قمراها والنجوم الطوالع

يعني الشمس والقمر، ويقال للغداة والعشي: العصرات، قال حميد بن ثور:
ولن يلبث العصران يوم وليلة ** إذا طلبا أن يدركا ما تيمما

وقال آخر:
وبصرة الأزد منا والعراق لنا ** والموصلان ومنا المصر والحرم

أراد الموصل والجزيرة، ويقال للكوفة والبصرة: البصرتان، ولأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: العمران، وللسبطين: الحسنان، وقال بعضهم: أراد بالمشرقين، مشرق الصيف ومشرق الشتاء. كقوله تعالى: {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} [الرحمن: 17]. {فَبِئْسَ القرين} قال أبو سعيد الخدري: إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشيطان فلا يفارقه حتّى يصير إلى النّار.
{وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم} في الآخرة {إِذ ظَّلَمْتُمْ} أشركتم في الدّنيا {أَنَّكُمْ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ} يعني لن ينفعكم إشراككم في العذاب لأنّ لكلّ واحد نصيبه الأوفر منه فلا يخفف عنكم العذاب لأجل قرنائكم.
وقال مقاتل: لن ينفعكم الإعتذار والندم اليوم لأنّكم أنتم وقرناؤكم مشتركون اليوم في العذاب كما كنتم مشتركين في الكفر.
{أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِي العمي وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} يعني الكافرين الّذين حقّت عليهم كلمة العذاب فلا يؤمنون.
{فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} فنميتك قبل أن نعذبهم. {فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ} فنعذبهم في حياتك.
{فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ} قال أكثر المفسرين: أراد به المشركين من أهل مكّة فإنتقم منهم يوم بدر، وقال الحسن وقتادة: عني به أهل الإسلام من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد كان بعد نبي الرحمة نقمة شديدة فأكرم الله نبيه وذهب به، ولم يُره في أمته إلاّ الّذي تقر عينه، وأبقى النقمة بعده، وليس من نبي إلاَّ أُرى في أُمته العقوبة، وذكر لنا إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أُري ما يصيب أمته بعده فما رُئيَ ضاحكاً منبسطاً حتّى قبضه الله تعالى.
{فاستمسك بالذي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ} يعني القرآن. {لَذِكْرٌ لَّكَ} لَشرفٌ لك {وَلِقَوْمِكَ} من قريش، نظيره قوله: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10] أي شرفكم. {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} عن حقّه وأداء شكره.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري، حدثنا أبو علي بن حبش المقري، حدثنا أبو بكر ابن محمد بن أحمد بن إبراهيم الجوهري، حدثنا عمي، حدثنا سيف بن عمر الكوفي، عن وائل أبي بكر، عن الزهيري، عن عبد الله وعطيه بن الحسن، عن أبي أيوب، عن علي، عن الضحاك، عن ابن عباس. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل بمكّة، ويعدهم الظهور، فإذا قالوا لمن الملك بعدك، أمسك، فلم يخبرهم بشيء، لأنّه لم يؤمر في ذلك بشيء حتّى نزل {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ}. فكان بعد ذلك إذا سُئل، فقال: لقريش، فلا يجيبونه، وقبلته الأنصار على ذلك.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري، حدثنا نصر بن منصور بن جعفر النهاوندي، حدثنا أحمد بن يحيى بن الجاورد، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الوليد، عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر، إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال هذا الامر في قريش ما بقي من النّاس إثنان».
أخبرنا عبيد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد الناهد، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج، حدثنا الحسن بن ناصح ومحمد بن يحيى، قالا: حدثنا نعيم بن عماد، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن محمد بن حسن بن مطعم، عن معاوية، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يزال هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلاَّ كُبّ على وجهه ما أقاموا الدّين».
أخبرنا عبيد الله بن محمد الزاهد، أخبرنا أبو العباس السراج، حدثنا إبراهيم بن عبد الرحيم، حدثنا هوذه بن خليفة، حدثنا عوف، عن زياد بن محراق، عن أبي كنانة، عن أبي موسى، قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم على باب البيت وفيه نفرٌ من قريش، فأخذ بعضادي الباب، ثمّ قال: «هل في البيت إلاَّ قريشي؟» قالوا: لا يارسول الله. إلاّ ابن إخت لنا، قال: «ابن إخت القوم منهم» ثم قال: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما داموا إذا حكموا فعدلوا، واسترحموا فرحموا، وعاهدوا فوفوا، فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً».
أخبرنا عبيد الله الزاهد، حدثنا أبي العباس السراج، حدثنا إبراهيم بن عبد الرحيم، حدثني موسى بن داود وخالد بن خداش، قالا: حدثنا بُُكير بن عبد العزيز، عن يسار بن سلامة، عن أبي بردة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأُمراء من قريش، لي عليهم حقّ ولهم عليكم حقّ ما فعلوا ثلاثاً: ما حكموا فعدلوا، وإسترحموا فرحموا، وعاهدوا فوفوا».
زاد خالد: «فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه، قال: سمعت أبي يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: في قول الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} قال: قول الرجل: حدثني أبي، عن جدي.
{وَسْئَلْ} يا محمد. {مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ}.
اختلف العلماء في هؤلاء المسؤولين. فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي وعطاء بن أبي رياح والحسن والمقاتلان: هم المؤمنون أهل الكتابين، وقالوا: هي في قراءة عبد الله وأبي {وأسئل الّذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا}، وقال ابن جبير وابن زيد: هم الأنبياء الّذين جمعوا له ليلة أُسري به ببيت المقدس.
أخبرنا ابن فنجويه حدثنا موسى بن محمد، حدثنا الحسن بن علوية، حدثنا إسماعيل بن عيسى، حدثنا المسيب، قال: قال: أبو جعفر الدمشقي: سمعت الزهري يقول: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم صلى خلفه تلك الليلة كلّ نبي كان أُرسل فقيل للنبي عليه السلام: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ}.
أخبرنا الحسين بن محمد الدينوري، حدثنا أبو الفتح محمد بن الحسين بن محمد بن الحسين الأزدي الموصلي، حدثنا عبد الله بن محمد بن غزوان البغدادي. حدثنا علي بن جابر، حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله ومحمد بن إسماعيل، قالا: حدثنا محمد بن فضل، عن محمد ابن سوقة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم: «أتاني ملك فقال: يامحمد {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} على ما بعثوا، قال: قلت: على ما بعثوا، قال: على ولايتك وولاية علي بن أبي طالب».
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ العالمين * فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ} وبها يستهزؤن ويكذبون.
{وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} قرينتها وصاحبتها الّتي كانت قبلها. {وَأَخَذْنَاهُم بالعذاب} بالسنين والطوفان والجراد والقُمّل والضفادع والدم. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا} لما عاينوا العذاب. {ياأيه الساحر} يا أيّها العالم الكامل الحاذق، وإنَّما قالوا هذا توقيراً وتعظيماً منهم، لأنّ السحر كان عندهم علماً عظيماً وصفة ممدوحه، وقيل: معناه يا أيّها الّذي غلبنا بسحره، كقول العرب: خاصمته فخصمته، ونحوها.
ويحتمل إنّهم أرادوا به الساحر على الحقيقة عيّباً منهم إياه، فلم يناقشهم موسى عليه السلام في مخاطبتهم إياه بذلك رجاء أن يؤمنوا.
{ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} أي بما أخبرتنا عن عهده إِليكَ إِنَّا إن آمنا كُشف عنا، فاسأله يكشف عنا. {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} مؤمنون.
{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} ينقضون عهدهم ويصرّون على كفرهم ويتمارون في غيهم.